منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث0%

منع تدوين الحديث مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 586

منع تدوين الحديث

مؤلف: السيد علي الشهرستاني
الناشر: دار الغدير
تصنيف:

الصفحات: 586
المشاهدات: 102857
تحميل: 7799

توضيحات:

منع تدوين الحديث
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 586 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 102857 / تحميل: 7799
الحجم الحجم الحجم
منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

بشر يتكلّم في الرضا والغضب؟!

قال: فأمسكتُ، فذكرت ذلك لرسول الله! فقال:اكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج منه إلاّ حقّ. وأشار بيده إلى فمه(١) .

فإنّ ما نصّت عليه هذه الرواية هو أنّ (قريش) كانت هي الناهية عن التدوين، بحجّة أنّ النبيّ قد يقول غير الصواب عند الغضب والعياذ بالله.

وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، قال: قلت يا رسول الله! أكتب كلّ ما أسمع منك؟

قال:نعم .

قلت: في الرضا والغضب؟ قال:نعم، فإنّي لا أقول في ذلك كلّه إلاّ الحقّ (٢) .

ونفس هذه الفكرة كانت رائجة وشائعة وظلّت سارية المفعول حتّى في عصر الأئمّة، فكان البعض يتصوّر أنّ الإمام قد ينقل أو يقول في الغضب ما يخالف ما ينقله في حالة الرضا، وكأنّهم كانوا يظنّون أنّ الأئمّة كسائر الفقهاء وأصحاب الفتيا والاجتهاد الذين تتبدّل آراؤهم وفق الظروف واختلاف اطّلاعهم على الأدلّة.

لكنّ أئمّة أهل البيت كانوا يجيبون ويقولون كما أجاب رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله؛ وذلك ما لم يجرؤ أحد من أئمّة المسلمين ادّعاؤه، دون أئمّة أهل البيت الذين كانوا على ثقة عالية جدّاً - واصلة إلى مرحلة اليقين - بصحّة مرويّاتهم وأحكامهم، فكانوا يأمرون أصحابهم بالتدوين؛ لأنّهم لا يقولون إلاّ الحقّ.

فعن حمزة بن عبد المطلّب، عن عبد الله الجعفيّ، قال دخلت على الرضا عليه السلام ومعه صحيفة أو قرطاس فيه عن جعفر(أنّ الدنيا مثّلت لصاحب هذا الأمر في مثل فلقة الجوزة) فقال:يا حمزة! ذا والله حقّ فانقلوه إلى أديم (٣) .

____________________

(١) مسند أحمد ٢: ١٦٢، ح ٦٥١٠، سنن الدارمي ١: ١٣٦، ح ٤٨٤، سنن أبي داود ٣: ٣١٨، ح ٣٦٤٦، المستدرك على الصحيحين ١: ١٨٧، ح ٣٥٩، والنص منه.

(٢) عوالي اللئالي ١: ٦٨، ح ١٢٠.

(٣) بصائر الدرجات: ٤٢٨، باب في قدرة الأئمّة، ح ٢، الاختصاص للمفيد: ٢١٧، ومثله نقل عن حمزة بن

=

٤٨١

ويعضد هذا الذي قلناه ورود الروايات المتضافرة عن أئمّة أهل البيت، ومفادها جميعاً أنّهم لا يقولون إلاّ الحقّ، ولا يفتون برأي ولا اجتهاد.

فعن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال:لو أنّا حدّثنا برأينا ضللنا كما ضلّ مَن كان قبلنا، ولكنّا حدّثنا ببيّنة من ربّنا بيّنها لنبّيه فبيَّنَها لنا (١) .

وعن داود بن أبي يزيد الأحول، عن أبي عبد الله ‏عليه السلام قال: سمعته يقول:إنّا لو كنّا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين، ولكنّها آثار من رسول الله!، أصلُ علمٍ نتوارثه كابراً عن كابر، نكنزها كما يكنز الناس ذهبهم وفضّتهم (٢) .

وعن قتيبة قال: سأل رجلٌ أبا عبد الله عن مسألة، فأجابه فيها، فقال الرجل: أرأيتَ إن كان كذا وكذا ما يكون القول فيها؟

فقال‏ عليه السلام:مَهْ! ما أجبتُكَ فيه من شي فهو عن رسول الله! لسنا من (أرأيت) في شيء (٣) .

وهذا التواصل في التدوين والثقة المطلقة بأنّ المنقولات هي عين ما قاله رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله، لا نجدُه عند أيّ مدرسة إسلاميّة غير مدرسة أهل البيت، التي هي أساس التدوين وأساس بناء مدرسة التعبّد المحض. وبعد هذا، للمنصف أن يختار ما شاء من مرويّات بعد اتّضاح الحال.

وبعد هذا يحقّ لي أن أنقل كلام الدكتور مصطفى الأعظميّ عن الشيعة، بقوله: (... أمّا الشيعة والموجود منهم حاليّاً في العالم الإسلاميّ أكثرهم من الاثني عشريّة، وهم يذهبون إلى الأخذ بالسنّة النبويّة، لكنَّ الاختلاف بيننا وبينهم في طريق إثبات السنّة لا نفسها)(٤) .

____________________

=

عبد الله الجعفري عن أبي الحسن عليه السلام انظر بصائر الدرجات: ٤٢٨، ح ٤.

(١) بصائر الدرجات: ٣١٩، باب في الأئمة عندهم أصول العلم، ح ٢.

(٢) بصائر الدرجات: ٢٩٩، ح ٣.

(٣) الكافي ١: ٥٨، ح ٢١ باب البدع والرأي والمقاييس.

(٤) دراسات في الحديث النبويّ: ٢٥.

٤٨٢

مع الأُصول الأربعمائة

اعتاد شيعة آل البيت - وكما قلنا - كتابة أقوال أئمّتهم في كتب، حتّى عُدُّوا بعملهم هذا من أوائل المدوّنين في الفقه الإسلاميّ، قال الأستاذ مصطفى عبد الرزاق عند ذكره مَن دوَّن الفقه:... وعلى كلّ حال فإنّ ذلك لا يخلو من دلالة على أنّ النزوع إلى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة؛ لأنّ اعتقادهم العصمة في أئمّتهم، أو ما يشبه العصمة كان حريّاً أن يسوقهم إلى الحثّ على تدوين أقضيتهم، وفتاواهم(١) .

والأمر كما قاله الأستاذ وخصوصاً على عهد الإمامين الباقر والصادق، أي بعد انتهاء الحكم الأمويّ وابتداء الحكم العبّاسيّ الذي روّج أو ادّعى سياسة الانفتاح في أوّليّات سنينه، وبتعبير آخر: في فترة الشيخوخة الأمويّة والطفولة العبّاسيّة.

فالإمامان قد استفادوا من هذه الفرصة خصوصاً لمّا رأوا إقبال قبائل بني أسد، ومخارق، وطيّ، وسليم، وغطفان، وغفار، والأزد، وخزاعة، وخثعم، ومخزوم، وبني ضبّة، وبني الحارث، وبني عبد المطّلب عليهم و إرسال فلذّات أكبادها إليهم للتعليم(٢) .

وقد عدّ المزّيّ في ترجمة الإمام الصادق من تهذيب الكمال: سفيان بن عيينة ومالك بن أنس وسفيان الثوري والنعمان بن ثابت - أبا حنيفة - وسليمان بن بلال، وشعبة بن الحجّاج وعبد الله بن ميمون القداح، وعبد الملك بن عبد العزيز بن

____________________

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ٣: ٤٩٧ عن تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلاميّ: ٢٥٢.

(٢) انظر جعفر بن محمّد، سيّد الأهل.

٤٨٣

جريج، وآخرين(١) ممّن أخذوا عن الصادق.

ونقل عن أبي العبّاس بن عقدة بسنده إلى الحسن بن زياد قوله: سمعت أبا حنيفة وقد سئل عن أفقه مَن رأيت؟ فقال: ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمّد، لمّا أقدمه المنصور الحيرة، بعث إلَيَّ فقال: يا أبا حنيفة! إنّ الناس قد فتنوا بجعفر فهيّئ له من مسائلك الصعاب قال: فهيّأت له أربعين مسألة...، فدخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه، فلمّا بَصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخل لأبي جعفر فسلّمت، وأذِن لي...(٢) الخبر.

وقال الشيخ محمّد أبو زهرة في مقدّمة كتابه الإمام الصادق - الذي ألّفه بعد كتب سبعة أُلّفت عن أئمّة المسلمين، وهم أبو حنيفة، ومالك، والشافعيّ، وابن حنبل، وابن تيميّة، وابن حزم، وزيد - قال: أمّا بعد، فإنّنا قد اعتزمنا بعون الله وتوفيقه أن نكتب في الإمام الصادق، وقد كتبنا عن سبعة من الأئمّة الكرام، وما أخّرنا الكتابة عنه [ أي الإمام الصادق ] لأنّه دُونَ أحدهم، بل إنّ له فضل السبق على أكثرهم، وله على الأكابر منهم فضلٌ خاصّ، فقد كان أبو حنيفة يروي عنه ويراه أعلم الناس باختلاف الناس(٣) ، وأوسع الفقهاء إحاطة، وكان الإمام مالك يختلف إليه دارساً راوياً، ومَن كان له فضل الأستاذيّة على أبي حنيفة ومالك فحسب ذلك فضلاً، ولا يمكن أن يؤخّر عن نقص، ولا يقدّم غيره عليه عن فضل، وهو فوق هذا حفيد زين العابدين الذي كان سيّد أهل المدينة في عصره، فضلاً وشرفاً وديناً وعلماً، وقد تتلمذ له ابن شهاب الزهريّ وكثيرون من التابعين، وهو ابن محمّد الباقر الذي بقر العلم ووصل إلى لبابه، فهو ممّن جمع الله تعالى له الشرف الذاتيّ، والشرف الإضافيّ بكريم النسب، والقرابة

____________________

(١) انظر تهذيب الكمال ٥: ٧٥.

(٢) تهذيب الكمال ٥: ٧٩ ولتفصيل هذا الخبر راجع (وضوء النبيّ: ٣٤٩ - ٣٥٢).

(٣) وللشيخ أبي زهرة في كتابه تاريخ المذاهب الإسلاميّة: ٦٩٣ تعليقة على مطارحة أبي حنيفة مع الصادق فراجع.

٤٨٤

الهاشميّة، والعزّة المحمّديّة...(١) .

وفي حلية الأولياء: لقد أخذ عن الصادق جماعة من التابعين، منهم يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وأيّوب السختيانيّ، وأبو عمرو بن العلاء، ويزيد بن عبد الله بن الهاد، وشعبة بن الحجّاج، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة وغيرهم(٢) .

وقد علمت ممّا تقدّم أنّ هذا العِلم الضخم والأحاديث المتلقّاة من أئمّة أهل البيت قد دوّنت من قِبل أصحابهم في صحف، وكان سهم الإمامين الصادق والباقر هو الأكبر، وقد أُطلق على هذه المجاميع تارة اسم (نسخة) وأُخرى (كتاب) وثالثاً (أصل) ورابعاً (رسالة) وغيرها.

روى السيّد رضي الدين عليّ بن طاووس في مهج الدعوات، بإسناده عن أبي الوضّاح محمّد بن عبد الله بن زيد النهشليّ، عن أبيه أنّه قال: كان جماعة من أصحاب أبي الحسن (الكاظم) من أهل بيعته وشيعته يحضرون مجلسه ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس لطاف وأميال، فإذا نطق أبو الحسن بكلمة أو أفتى في نازلة، أثبت القوم ما سمعوه منه في ذلك(٣) .

وقال الشيخ البهائيّ في مشرق الشمسين: قد بلغنا عن مشايخنا (قدس سرّهم) أنّه كان من دأب أصحاب الأصول أنّهم إذا سمعوا عن أحد من الأئمّة حديثاً بادروا إلى إثباته في أُصولهم؛ لئلاّ يعرض لهم نسيان لبعضه أو كلّه بتمادي الأيّام(٤) .

وقال المحقّق الداماد في الراشحة التاسعة والعشرين من رواشحه: قد كان من دأب أصحاب الأصول أنّهم إذا سمعوا من أحدهم: حديثاً بادروا إلى ضبطه في أُصولهم من غير تأخير(٥) .

____________________

(١) الإمام الصادق: ٢ - ٣.

(٢) حلية الأولياء ٣: ١٩٨ - ١٩٩، الرقم ٢٤٢.

(٣) مهج الدعوات: ٢١٩ - ٢٢٠، وعنه في مستدرك الوسائل ١٧: ٢٩٢، ح ٢١٣٨٢ وفيه خاصة بدل أصحاب.

(٤) حبل المتين: ٢٧٤.

(٥) الرواشح السماويّة: ٩٨.

٤٨٥

قال الأستاذ عبد الحليم الجنديّ:

كان أوّل المستفيدين بالتدوين الباكر أُولئك الذين يلوذون بالأئمّة من أهل البيت فيتعلّمون شفاهاً أو تحريراً، أي من فم لفم أو بالكتابة، فما تناقلته كتب الشيعة من الحديث، هو التراث النبويّ في صميمه... في حين لم يجمع أهل السنّة هذا التراث إلاّ بعد أن انكبّ عليه علماؤهم قرناً ونصف قرن، حتّى حصلوا ما دوّنوه في المدوّنات الأولى، ثمّ ظلّوا قروناً أُخرى، يجوبون الفيافي والقفار في كلّ الأمصار... إلى أن يقول: و إذا لاحظنا أنّ من الرواة من قيل إنّه روى عشرات الآلاف من الحديث عن الإمام، تجلّت كفاية التراث الموثوق به عند الشيعة لحاجات الأمّة.

وإذا لاحظنا توثيق الشافعيّ ومالك وأبي حنيفة ويحيى بن معين وأبي حاتم والذهبيّ للإمام الصادق - وهم واضعوا شروط المحدّثين وقواعد قبول الرواية وصحّة السند - فمن الحقّ التقرير بأنّ حسبنا أن نقتصر على التفتيش عن رواة السنّة عن الإمام الصادق.

والشيعة يكفيهم أن يصلوا بالحديث إلى الإمام، لا يطلبون إسناداً قبل الإمام جعفر، بل لا يطلبون إسناداً قبل الأئمّة عموماً؛ لأنّ الإمام بين أن يكون يروي عن الإمام الذي أوصى له، وبين أن يكون قرأ الحديث في كتب آبائه، إلى ذلك، فإنّ ما يقوله سنّةٌ عندهم، فهو ممحَّصٌ من كلّ وجه، فليست روايته للحديث مجرّد شهادة به، بل هي إعلان لصحّته.

وإذا كان ما رواه الصادق، رواية الباقر، ورواية السجّاد عن الحسين عن الحسن أو عن عليّ عن النبيّ، فهذا يصحّح الحديث على كلّ منهج، فالثلاثة الأخيرون من الصحابة المقدّمين، يروون عن صاحب الرسالة، إذ يروي الحسن والحسين عن عليّ عنه ‏صلّى الله عليه وآله.

ولا مرية كان منهج عليّ ومن تابعه في التدوين خيراً كبيراً للمسلمين، منع المساوئ المنسوبة إلى بعض الروايات، وأقفل الباب دون افتراء الزنادقة والوضّاعين، فالسبق في التدوين فضيلة الشيعة، ولمّا أجمع العلماء بعد زمان طويل على الالتجاء

٤٨٦

إليه كانوا يسلّمون بهذه الفضيلة بالإجماع لعليّ وبنيه، والسنّة شارحة للكتاب العزيز، وهو مكتوب بإملاء صاحب الرسالة فهي كمثله حقيقة بالكتابة.

إنّما كان المحدّثون من أهل السنّة في القرون الأولى مضطرّين لسماع لفظ الحديث من الأشياخ، أو عرضه عليهم، لأنّ السنن لم تكن مدّونة فكانت الرحلة إلى أقطار العالم لتلقّي الحديث على العلماء، وسيلتهم الأكيدة(١) .

وقال الشيخ المفيد في الإرشاد: إنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عن الصادق من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف رجل(٢) .

قال الشيخ الطبرسيّ في إعلام الورى: ولم ينقل عن أحد من سائر العلوم ما نقل عنه، فإنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات فكانوا أربعة آلاف رجل(٣) .

وقال في القسم الأول: وروى عن الصادق من أهل العلم أربعة آلاف إنسان، وصنّف من جواباته في المسائل أربعمائة كتاب هي معروفة بكتب الأصول رواها أصحابه وأصحاب أبيه من قبله، وأصحاب ابنه موسى الكاظم(٤) .

وقال الشيخ محمّد بن عليّ الفتّال: وقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف(٥) .

قال ابن شهرآشوب في المناقب: نقل عن الصادق من العلوم ما لا ينقل عن أحد، وقد جمع أصحاب الحديث أسماء الثقات على اختلافهم في الآراء فكانوا أربعة آلاف(٦) .

وقال المحقّق الحلّيّ في المعتبر: فإنّه انتشر عنه من العلوم الجمّة ما بهر به العقول،

____________________

(١) الإمام جعفر الصادق لعبد الحليم الجنديّ: ٢٠٣ - ٢٠٤.

(٢) الإرشاد ٢: ١٧٩ وعنه في المناقب لابن شهرآشوب ٣: ٢٣٧.

(٣) إعلام الورى ١: ٥٣٥، الباب ٥: الفصل ٤.

(٤) إعلام الورى ٢: ٢٠٠، الفصل ٣ من القسم الأول.

(٥) روضة الواعظين: ٢٠٧.

(٦) المناقب ٣: ٢٣٧.

٤٨٧

حتى غلا فيه جماعة وأخرجوه إلى حد الإلوهية، وروى عنه جماعة من الرجال ما يقارب أربعة آلاف رجل...، وكتب من أجوبة مسائله أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف سمُّوها أُصولاً(١) .

وقال الشهيد في الذكرى: إنّ أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصادق كتب من أجوبة مسائله أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف، ودوَّن من رجاله المعروفين أربعة آلاف رجل من أهل العراق والشام والحجاز وخراسان(٢) .

وقال الشيخ حسين والد العلاّمة البهائيّ: ودوَّن العامّة والخاصّة ممّن تبرّز بعلمه من العلماء والفقهاء أربعة آلاف.

وقال أيضاً: قد كتب من أجوبة مسائل الإمام الصادق فقط، أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف، تسمّى الأصول في أنواع العلوم(٣) .

وقال المحقّق الداماد في الراشحة التاسعة والعشرين: والمشهور أنّ الأصول الأربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف من رجال أبي عبد الله الصادق، بل وفي مجالس السماع والرواية عنه، ورجاله من العامة والخاصة زهاء أربعة آلاف رجل، وكتبهم ومصنّفاتهم كثيرة إلاّ أنّ ما استقرّ الأمر على اعتبارها والتعويل عليها وتسميتها بالأصول هذه الأربعمائة(٤) .

وقال الشهيد الثاني في شرح الدراية: استقرّ أمر المتقدّمين على أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف سمّوها أُصولاً، فكان اعتمادهم عليها، ثمّ تداعت الحال إلى ذهاب معظم تلك الأصول، وألحقها جماعة في كتب خاصّة، تقريباً على المتناوِل، وأحسن ما جمع منها (الكافي) و (التهذيب) و (الاستبصار) و (مَن لا يحضره الفقيه).

وقد جاءت أسماء بعض أصحاب هذه المدوّنات في كتاب الرجال لعبد الله بن

____________________

(١) المعتبر ١: ٢٦ باب في حجية فتوى الأئمّة.

(٢) الذكرى: ٦.

(٣) وصول الأخيار إلى أُصول الأخبار: ٦٠، وعنه في الذريعة ٢: ١٢٩.

(٤) الرواشح السماويّة: ٩٨.

٤٨٨

جبلة الكنانيّ المتوفّى سنة ٢١٩ هـ و (مشيخة) الحسن بن محبوب المتوفّى سنة ٢٢٤ هـ)، و(الرجال) للحسن بن فضّال المتوفّى ٢٢٤ هـ، و (الرجال) لولده عليّ بن الحسن، و(الرجال) لمحمّد بن خالد البرقيّ، و (الرجال) لولده أحمد بن محمّد بن خالد الذي توفّي سنة ٢٧٤ هـ، و (الرجال) لأحمد العقيقيّ المتوفّى ٢٨٠ هـ، وغيرهم.

قال الشيخ الطوسيّ في مقدّمة الفهرست (... و إنّي لا أضمن الاستيفاء؛ لأنّ تصانيف أصحابنا وأُصولهم تكاد لا تنضبط لكثرة انتشار أصحابنا في البلدان)(٢) .

ونقل السيّد الأمين في أعيان الشيعة عن الحافظ أحمد بن عقدة الزيديّ الكوفيّ أنّه أفرد كتاباً فيمن روى عنه، جمع فيه أربعة آلاف رجل وذكر مصنّفاتهم، ولم يذكر جميع من روى عنه.

فهذه المزايا هي التي دعت الشيعة أن تهتمّ بأُصولها قراءة ورواية وحفظاً وتصحيحاً؛ لأنّ فقهها وحديثها قد استقي منها.

الشيعة واستقاؤها من الأُصول

قال محمّد بن عليّ بن بابويه في مقدّمة كتاب (مَن لا يحضره الفقيه):

(... ولم أقصد فيه قصد المصنّفين إلى إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به، وأحكم بصحّته، وأعتقد أنّه حجّة فيما بيني وبين ربّي عزّ وجلّ.

وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة، عليها المعوّل، وإليها المرجع، مثل: كتاب حريز بن عبد الله السجستانيّ، وكتاب عبيد الله بن عليّ الحلبيّ، وكتب عليّ بن مهزيار الأهوازيّ، وكتب الحسين بن سعيد، ونوادر أحمد بن محمّد بن عيسى، وكتاب نوادر الحكمة لمحمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري، وكتاب الرحمة لسعد بن عبد الله، وجامع شيخنا محمّد بن الحسن بن الوليد، ونوادر محمّد بن أبي عمير، وكتاب المحاسن لأحمد بن أبي عبد الله البرقيّ، ورسالة أبي إليّ، وغيرها من الأصول والمصنّفات، التي طُرقي إليها معروفة في فهرست الكتب التي رويتها عن

٤٨٩

مشايخي وأسلافي وبالغت في ذلك جهدي، مستعيناً بالله ومتوكّلاً عليه، ومستغفراً من التقصير(١) .

وقال المحقّق الحلّيّ في المعتبر:

روى عن الصادق‏ عليه السلام من الرجال ما يقارب أربعة آلاف رجل، وبرز بتعليمه من الفقهاء الأفاضل جمّ غفير، كزرارة بن أعين وأخويه: - بكير، وحمران وجميل بن درّاج، ومحمّد بن مسلم، وبريد بن معاوية، والهشامين، وأبي بصير، وعبيد الله، ومحمّد وعمران الحلبيَّين، وعبد الله بن سنان، وأبي الصباح الكنانيّ، وغيرهم من أعيان الفضلاء، حتّى كُتب من أجوبة مسائله أربعمائة مصنَّف سمّوها أُصولاً.

ثمّ قال: كان من تلامذة الجواد عليه السلام فضلاء، كالحسين بن سعيد وأخيه الحسن، و [ أحمد بن ] محمّد بن أبي نصر البزنطيّ،

وأحمد بن محمّد بن خالد البرقيّ، وشاذان بن الفضل القمّيّ، وأيّوب بن نوح بن درّاج، وأحمد بن محمّد بن عيسى، وغيرهم ممّن يطول تعدادهم، وكتبهم الآن منقولة بين الأصحاب، دالّة على العلم الغزير(٢) .

ثمّ قال: اجتزأت بإيراد كلام من اشتهر علمه وفضله، وعُرف تقدّمه في نقل الأخبار، وصحّة الاختيار، وجودة الاعتبار.

واقتصرت من كتب هؤلاء الأفاضل على ما بان فيه اجتهادهم وعرف به اهتمامهم، وعليه اعتمادهم، فممّن اخترت نقله: الحسن بن محبوب، و [ أحمد بن ] محمّد بن أبي نصر البزنطي، والحسين بن سعيد، والفضل بن شاذان، ويونس بن عبد الرحمان، ومن المتأخّرين: أبو جعفر محمّد بن عليّ بن بابويه، ومحمّد بن يعقوب الكلينيّ...(٣) .

قال ابن إدريس الحلّيّ في مستطرفات السرائر، باب الزيادات، فيما انتزعه واستطرفه من كتب المشيخة المصنّفين والرواة المحصّلين... - إلى أن يقول -:

ومن ذلك: ما استطرفناه من كتاب نوادر أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطيّ،

____________________

(١) مَن لا يحضره‏ا لفقيه ١: ٢ - ٤.

(٢) المعتبر ١: ٢٦ - ٢٧، وانظر خاتمة الوسائل ٣٠: ١٠٩.

(٣) المعتبر ١: ٣٣.

٤٩٠

صاحب الرضا عليه السلام.

ومن ذلك: ما أورده أبان بن تغلب، صاحب الباقر والصادق‏ عليهما السلام في كتابه.

ومن ذلك: ما استطرفناه من كتاب جميل بن درّاج.

ومن ذلك: ما استطرفناه من كتاب السياريّ، واسمه أبو عبد الله، صاحب موسى الرضا عليه السلام.

ومن ذلك: ما استطرفناه من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم مولانا علي بن محمّد الهاديّ‏عليه السلام والأجوبة عن ذلك.

ومن ذلك: ما استطرفناه، من كتاب المشيخة، تصنيف الحسن بن محبوب؛ السرّاد؛ صاحب الرضا عليه السلام. وهو ثقة عند أصحابنا، جليل القدر، كثير الرواية، أحدُ الأركان الأربعة في عصره.

ومن ذلك: ما استطرفناه، من كتاب نوادر المصنّف، تصنيف محمّد بن علي بن محبوب. وكان هذا الكتاب بخطّ شيخنا أبي جعفر الطوسيّ، فنقلت هذه الأحاديث من خطّه.

ومن ذلك: ما استطرفناه، من كتاب (مَن لا يحضره الفقيه)، لابن بابويه.

ومن ذلك: ما استطرفناه، من كتاب (قُرب الإسْناد) تصنيف محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميريّ.

وما استطرفناه، من كتاب جعفر بن محمّد بن سنان؛ الدهقان.

ومن ذلك: ما استطرفناه، من كتاب (تهذيب الأحكام).

ومن ذلك: ما استطرفناه، من كتاب عبد الله بن بكير بن أعين.

ومن ذلك: ما استطرفناه، من رواية أبي القاسم ابن قولويه.

وممّا استطرفناه، من كتاب (أنْس العالم)، تصنيف الصفوانيّ.

وممّا استطرفناه، من كتاب (المحاسن)، تصنيف أحمد بن أبي عبد الله البرقيّ.

٤٩١

ومن ذلك: ما استطرفناه من كتاب (العيون والمحاسن) تصنيف المُفيد.

انتهى(١) .

قال الشيخ البهائيّ في (الوجيزة):

(جميع أحاديثنا - إلاّ ما ندر - ينتهي إلى أئمّتنا الاثني عشر عليهم السلام، وهم ينتهون فيها إلى النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله، فإنّ علومهم مقتبسة من قلب المشكاة، وما تضمّنته كتب الخاصّة من الأحاديث المرويّة من أئمّتهم، تزيد على ما في الصحاح الستّة للعامّة بكثير، كما يظهر لمن تتبّع كتب الفريقين.

وقد روى راوٍ واحد - وهو أبان بن تغلب - عن إمام واحدٍ - أعني الصادق - ثلاثين ألف حديث.

وقد كان جَمَعَ قدماء محدّثينا ما وصل إليهم من كلام أئمّتنا: في أربعمائة كتاب تُسمّى (الأصول).

ثمّ تصدّى جماعة من المتأخّرين شكر الله سعيهم لجمع تلك الكتب وترتيبها، تقليلاً للانتشار، وتسهيلاً على طالبي تلك الأخبار، فألّفوا كتباً مضبوطة، مهذّبة مشتملة على الأسانيد المتّصلة بأصحاب العصمة عليهم السلام كالكافي، ومن لا يحضره الفقيه، والتهذيب، والاستبصار، ومدينة العلم، والخصال، والأمالي، وعيون الأخبار، وغيرها(٢) .

وقد صرّح الشيخ حسن في المنتقى والمعالم بأنّ أحاديث الكتب الأربعة وأمثالها محفوفة بالقرائن، وأنّها منقولة من الأصول والكتب المجمع عليها بغير تغيير(٣) .

وقال الكفعميّ في الجنّة الواقية:

(هذا كتاب محتوٍ على عوذ، ودعوات، وتسابيح، وزيارات،... مأخوذة من كتب معتمد على صحّتها مأمون بالتمسّك بوثقى عروتها(٤) .

وقد شهد عليّ بن إبراهيم القمّيّ بثبوت أحاديث تفسيره وأنّها مرويّة عن الثقات

____________________

(١) السرائر ٣: ٦٦٣ - ٥٤٨، وقد طبع مستقلاً باسم (مستطرفات السرائر).

(٢) الوجيزة: ٦ - ٧ وعنه في خاتمة الوسائل ٣٠: ٢٠٠ وله كلام في مشرق الشمسين: ٢٦٩ - ٢٧٠ فراجع.

(٣) منتقى الجمان ١: ٢٧.

(٤) الجنّة الواقية: ٣ - ٤.

٤٩٢

عن الأئمّة(١) .

وذكر السيّد رضي الدين ابن طاووس في كتبه ما يدلّ على أنّ أكثر الكتب المذكورة وغيرها من أمثالها من أُصول أصحاب الأئمّة كانت عنده ونقل منها شيئاً كثيراً(٢) ، وكذا الشهيد في الذكرى والكفعميّ في المصباح قد صرّحا بأنّ كثيراً من أُصول القدماء وكتبهم كانت موجودة، عندهم(٣) .

حتّى وصل الأمر بالشيخ الحرّ العامليّ أن يقول في الفائدة الرابعة من خاتمة كتابه (وسائل الشيعة) وهو بصدد عدّ مصادر الكتاب:... وغير ذلك، وأمّا ما نقلوا منه ولم يصرّحوا باسمه، فكثير جدّاً، مذكور في كتب الرجال، يزيد على ستّة آلاف وستمائة كتاب على ما ضبطناه(٤) .

وعلى كلّ حال فقد نبغ جماعة من تلامذة الأئمّة، وخصوصاً في زمن الصادِقَين، في شتّى العلوم ودوّنوا ما تلقّوه عنهم في كتب، وقد أشار علماء الرجال والتراجم إلى مصنّفاتهم كابن النديم والكشّيّ والنجاشيّ وغيرهم.

فألّف هشام بن الحكم كتاباً في الألفاظ، والردّ على الزنادقة، وفي التوحيد، والإمامة والجبر والقدر، والردّ على الثنويّة، والردّ على أرسطوطاليس وغيره من فلاسفة اليونان، ورسائل كثيرة في الفقه والأصول.

وألّف زرارة بن أعين كتاباً في الاستطاعة والجبر وغيرها.

ومحمّد بن عمر في التوحيد والإمامة والفقه.

ويعقوب بن إسحاق السكِّيت في إصلاح المنطق وكتاب في الألفاظ والأضداد، والألفاظ المشتركة بين معان متعدّدة.

وألّف محمّد بن النعمان البجليّ - مؤمن الطاق - كتباً في الإمامة والمعرفة، و إثبات

____________________

(١) تفسير القمّيّ ١: ٤، كما في خاتمة الوسائل ٣٠: ٢٠٢.

(٢) انظر خاتمة الوسائل ٣٠: ٢١٣.

(٣) انظر خاتمة الوسائل ٣٠: ٢١٣ أيضاً.

(٤) وسائل الشيعة ٣٠: ١٦٥ الخاتمة.

٤٩٣

الوصيّة، والأوامر والنواهي، والمناظرات وغيرها.

هذا، إلى غيرهم من مؤلفي الأصحاب، وغيرها من المؤلفات، فإنّ مؤلّفات هؤلاء تعدّ بالمئات إن لم نقل بالألوف، وقد أخذ المحمّدون الثلاثة - الكلينيّ والصدوق والطوسيّ - كتبهم الأربعة منها، وإن كان لكلّ واحد من الأخيرين كتب أُخرى في التفسير والتاريخ والحديث و...

وقد كان جلّ الرواة عن الأئمّة في غاية العدالة والوثاقة، وموضع احترام جميع المسلمين بشتّى طوائفهم، حتّى أنَّ أصحاب الصحاح الستّة خرَّجوا لكثير منهم في كتبهم، ونصّ الرجاليّون أو بعضهم على وثاقتهم ومكانتهم العلميّة، مع قولهم (فيه تشيّع شنيع) و (صدوق ولكنّ مذهبه مذهب الشيعة) أو (شيعيّ المذهب) أو ما يشاكلها من العبارات(١) .

أصحاب الكتب الأربعة وأخذهم عن الأُصول الأربعمائة

وأمّا جامعو تلك الروايات ومدوّنوها فهم أيضاً من الجلالة بمكان فقد ذكرَ محمَّد بن يعقوب الكليني - صاحبَ الكافي - غالب أصحاب التراجم كابن ماكولا(٢) ، وابن الأثير(٣) ، والصفديّ(٤) ، وابن حجر(٥) ، وغيرهم من المحدثين واللغويين كالفيروزآبادي(٦) والزبيدي(٧) و... في كتبهم.

وأكَّد الأستاذ ثامر العميديّ عدم وجود جرح واحد من الأعلام في الكلينيّ بقوله:

لم أقف على عالم من علماء الرجال من أهل السنّة قد مسّ الكلينيّ بجرح قطّ لا

____________________

(١) وقد ذكر السيّد عبد الحسين شرف الدين في المراجعات أسماء أكثر من مائة منهم، فراجع.

(٢) الإكمال ٤: ٥٧٥.

(٣) الكامل ٧: ١٥٠.

(٤) الوافي بالوفيّات ٥: ٢٢٦.

(٥) لسان الميزان ٥: ٢٦٥، ت ١١٠٧.

(٦) القاموس المحيط ٤: ٣٦٣.

(٧) تاج العروس ٩: ٣٢٢.

٤٩٤

مُفَسّراً ولا غير مُفَسّرٍ؛ أقول: لم يتعرّض أحدهم إليه بسوء قطّ، مع ما عرفت عنهم - مع الأسف - من تجريح رجال الشيعة لمجرّد تشيّعهم، وهذه حقيقة لا ينكرها أحد من الباحثين، وهذا يدلّ على اتّفاقهم على أنّ لثقة الإسلام الكلينيّ مكانة بين علماء الإسلام لا يمسّها أحد بسوء إلاّ كذب وافتضح أمره بين العلماء(١) .

بل عدّه ابن الأثير من مجدّدي الإماميّة على رأس المائة الثالثة(٢) .

أمّا محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّيّ - صاحب كتاب مَن لا يحضره الفقيه - فهو صاحب التصانيف الكثيرة، يضرب بحفظه المثل(٣) ، وهو من أُسرة علميّة جليلة القدر في الفضل، قال ابن أبي طيّ عن بيتهم: بيت العلم والجلالة(٤) ، كان أبوه من كبار علماء الشيعة ومصنّفيهم(٥) . جليل القدر، حافظ للأحاديث بصير بالرجال، ناقد للأخبار، لم ير في القمّيّين مثله في حفظه وكثرة علمه له نحو من ثلاثمائة مصنّف(٦) ، وهو الذي أمات فتنة الحسين بن منصور الحلاّج بقم(٧) ، سمع منه شيوخ الطائفة وهو حَدَث السن(٨) ، وروى عنه جمع منهم الشيخ المفيد.

والشيخ المفيد هو تلميذ الصدوق وأُستاذ الطوسيّ، (لقِّب بابن المعلِّم، صاحب التصانيف البديعة، وهي مائتا مصنَّف)(٩) ، (إليه انتهت رئاسة متكلّمي الشيعة، مقدّم في صناعة الكلام على مذهب أصحابه، دقيق الفطنة، ماضي الخاطر)(١٠) ، (وكان لابن المعلِّم مجلس نظر بداره بدرب رياح يحضره كافّة العلماء)(١١) ، (ويناظر أهل كلّ

____________________

(١) دفاع عن الكافي ١: ٣٨.

(٢) جامع الأصول ١٢: ٢٢٠.

(٣) سير أعلام النبلاء ١٦: ٣٠٣.

(٤) لسان الميزان ٢: ٢.

(٥) سير أعلام النبلاء ١٦: ٣٠٤، ت ٢١٢.

(٦) الفهرست، للطوسيّ: ٢٣٧، ت ٧١٠.

(٧) انظر مقدّمة المقنع والهداية: ٢٢.

(٨) رجال النجاشيّ: ٣٨٩.

(٩) لسان الميزان ٥: ٣٦٨.

(١٠) الفهرست لابن النديم: ٢٥٢.

(١١) المنتظم ٨: ١١.

٤٩٥

عقيدة مع الجلالة والعظمة في الدولة البويهيّة)(١) .

(كان صاحب فنون وبحوث وكلام، واعتزال، وأدب، ذكره ابن أبي طيّ في - تاريخ الإماميّة - فأطنب وأسهب، وقال: كان أوحد [ دهره ] في جميع فنون العلم: الأصلين، والفقه، والأخبار، ومعرفة الرجال، والتفسير، والنحو، والشعر، وكان قويّ النفس، كثير البرّ، عظيم الخشوع، كثير الصلاة والصوم، يلبس الخشن من الثياب...)(٢) .

أمّا الشيخ محمّد بن الحسن الطوسيّ فهو شيخ الطائفة في زمانه صاحب التصانيف، له كتابين عُدَّا من الكتب الأربعة عند الشيعة الإماميّة.

١ - تهذيب الأحكام.

٢ - الاستبصار فيما اختلف من الأخبار.

(أخذ الكلام وأُصول القوم عن الشيخ المفيد رأس الإماميّة، ولزمه وبرع، وعمل التفسير، وأملى أحاديث ونوادر في مجلّدين، عامّتها عن شيخه المفيد)(٣) .

وعدّ السبكيّ(٤) والسيوطيّ(٥) والكاتب الچلبيّ في كشف الظنون(٦) الشيخ الطوسيّ من الشافعيّة وكأنّ الأمر قد التبس عليهم من خلال عرضه لأقوال أهل السنّة والجماعة في الفقه والتفسير.

قال الشيخ محمّد أبو زهرة - في كتابه الإمام الصادق - عن الشيخ الطوسيّ: كان عالماً على المنهاجين الإماميّ والسنّيّ.

وقال الأستاذ عبد الحليم الجنديّ: الطوسيّ حجّة في المذهب الإماميّ وفي مذاهب أهل السنّة(٧) .

____________________

(١) مرآة الجنان لليافعيّ ٣: ٢٨، وشذرات الذهب ٢: ٢٠٠.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٧: ٣٤٤.

(٣) سير أعلام النبلاء ١٨: ٣٣٤.

(٤) طبقات الشافعيّة ٤: ١٢٦.

(٥) طبقات المفسّرين: ٩٣.

(٦) كشف الظنون ١: ٤٥٢.

(٧) الإمام جعفر الصادق: ٢٥٨.

٤٩٦

كان هذا مجمل الحديث عن حياة أصحاب الكتب الأربعة، وتراهم ينقلون مرويّاتهم عن الأصول الأربعمائة، وأصحاب الأصول الأربعمائة قد دوّنوا أُصولهم عن أئمّة أهل البيت، والأئمّة نقلوا الأخبار عن كتاب عليّ وكتاب عليّ هو إملاء رسول الله وخط عليّ.

إذاً نهج التدوين والتحديث مترابط عند الشيعة لا خدشة فيه، وهذا ما يؤكّد أصالته.

وممّا يجب الإشارة إليه هو:

أنّ الأصول الأربعمائة لم تكن جامعة لكلّ ما تحدّث به الأئمّة في الفقه وغيره من المواضيع المختلفة، بل بقي قسم منها في صدور الحفّاظ من الرواة لأحاديث أهل البيت، كما أنّ الكتب الأربعة التي ألّفها المحمّدون الثلاثة لم تستوعب جميع الأحاديث التي رواها أصحاب الأئمّة، ولم يدوّنوا منها إلاّ ما صحّ عندهم من أحاديث الأصول وغيرها. ولم يثبت أنّهم توصّلوا إلى جميع الأصول الأربعمائة.

قال السيّد الأمين في أعيانه: إنّ الأصول الأربعمائة قد بقي بعضها إلى العصور المتأخّرة في خزائن الكتب عند علماء الشيعة: كالحرّ العامليّ والمجلسيّ ومير لوحي المعاصر للمجلسي والميرزا حسين النوريّ وغيرهم، وتلف أكثرها ولكنّ مضامينها محفوظة في مجاميع كتب الحديث؛ لأنّ علماءنا من أوائل المائة الرابعة إلى النصف الأوّل من القرن الخامس قد أخذوا كتبهم منها ومن غيرها ممّا جمع فيها(١) .

وأنقل هنا كلام الأستاذ عبد الحليم في كتابه الإمام جعفر الصادق، وهو في معرض كلامه عن التدوين:

... لكنّ عليّاً دوّن وخلّف في شيعته طريقة التدوين، فلقد كان على ثقة من طريقته،

____________________

(١) قال الشيخ النوري في المستدرك ١: ٣٢، وكان عند ميرلوحي المعاصر للمجلسي الساكن معه في أصبهان - كتب نفيسة جليلة ككتاب الرجعة للفضل بن شاذان، والفرج الكبير في الغيبة لأبي عبد الله محمد بن هبة الله بن جعفر الوراق الطرابلسي، وكتاب الغيبة للحسن بن حمزة المرعشي، وغيرها، ولم يطلع عليها المجلسي رحمه الله مع كثرة احتياجه إليها، فإنّ لعدم العثور أسباباً كثيرة سوى الفحص، منها: ضنّة صاحب الكتاب كما في المورد المذكور و....

٤٩٧

وهو الذي يقول فيه الرسول)عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ ولن يفترقا حتّى يردا عَلَيَّ الحوض (إلى أن يقول:

وبالتدوين الفقهيّ استقرّ المذهب في صدور الحفظة والنقلة، ممّن يملي إلى بنيه، فبنيهم، وبخاصّة زين العابدين، وزيد والباقر والصادق، ثمّ عملت مجالس الإمام الصادق في نشره كمثل عمل التدوين في استقراره، وأدرك الأئمّة الذين تتلمذوا له وتلاميذهم أُموراً ترفع مجلس الصادق فوق المجالس، سواء مجالس أهل السنّة أو أهل البيت، ثمّ عدّوا أشياءً في ذلك(١) .

وكان الأستاذ قد قال قبل ذلك: إنّ التلمذة للإِمام الصادق قد سربلت بالمجد فقهَ المذاهب الأربعة لأهل السنّة، أ مّا الإمام الصادق فمجدُهُ لا يقبل الزيادة ولا النقصان؛ فالإمام مبلِّغ للناس كافَّة علم جدِّه عليه الصلاة والسلام، والإمامة مرتبةٌ، وتلمذة أئمّة السنّة له تشوُّقٌ منهم لمقاربة صاحب المرتبة(٢) .

وقال في مكان آخر: إنّما كان مالك يجد ريح الرسول في مجلس ابن بنته، ويحسّ، أو يكاد يلمس، شيئاً مادّيّاً يتسلسل من الجدّ لحفيده، أو أشياء غير مادّيّة تملك اللبّ والعقل، فالرؤية متعة والسماع نعمة، والجوار - مجرد الجوار - تأديب وتربيب، وفي كلّ أُولئك طرائق قاصدة إلى الجنّة. وصاحب المجلس طهر كلّه، لا يتحدّث عن جدّه إلاّ على الطهارة...(٣) .

وفي مكان آخر قال: في هذا المجلس تتلمذ للإمام جعفر وروى عنه - كما يقول أرباب الإحصاءات - أربعة آلاف من الرواة وكتب عنه أربعمائة كاتب كلّهم يقول: قال جعفر بن محمّد.

فأيّ مجلس كان ذلك المجلس! تتراءى فيه أشياء من رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله، بعضها مادّيّ يجري في أصلاب رجل بعد رجل، وبعضه معنويّ يتراءى في معانيه وفحوى

____________________

(١) الإمام جعفر الصادق لعبد الحليم الجنديّ: ١٨٦.

(٢) الإمام جعفر الصادق: ١٦٣.

(٣) الإمام جعفر الصادق: ١٦٠.

٤٩٨

مقولاته، لكلّ هؤلاء.

ليس بالمجلس لجاجة ولا حجاج عقيم، يقول للتلاميذ:مَن عرف شيئاً قلّ كلامه فيه، وإنّما سمّي البليغ بليغاً لأنّه يبلغ حاجته بأدنى سعيه. (١)

وبهذا أختم الحديث عن مكانة المجاميع الحديثيّة عند الشيعة الإماميّة ونظراتهم لها، فهم لا ينظرون إلى الكتب الأربعة أنّها منزلة أو كالمنزلة من عند الله سبحانه، أو أنّ مَن روى عنه الكلينيّ أو الطوسيّ أو الصدوق فقد جاوز القنطرة، ولا يرون كلّ ما فيها صحيحاً، فمرويّات الكتب الأربعة كغيرها تخضع لأصول الجرح والتعديل والنقد والاستدلال، ولم تُحَطْ بهالة التضخيم كما أُحيطت بذلك الصحاح عند العامّة.

فالحديث إذا لم يكن جامعاً للشرائط المعتبرة لا قيمة له، وإن ذكره مشايخ المحدّثين كالكلينيّ أو الطوسيّ، بل يلزم أن يقترن بما يؤكّد صدروه عن المعصوم بقرائن حاليّة أو مقاليّة ممّا يوجب الوثوق به، كوجوده في كثير من الأصول الأربعمائة أو على أقلّ تقدير في أصل أو أصلين منها، بأسانيد متعدّدة معتبرة، أو وجوده في أحد الكتب المعروضة على الأئمّة ككتاب عبيد الله الحلبيّ الذي عرضه على الإمام الصادق فقال فيه: ليس لهؤلاء مثله(٢) .

وكتابَي يونس بن عبد الرحمان والفضل بن شاذان اللذين عُرِضا على الإمام الحسن العسكريّ(٣) .

أو وجوده في الأصول المعتمدة عند السلف المعاصرين للأئمّة ككتاب الصلاة لحريز بن عبد الله، وكتب ابن سعيد وعليّ بن مهزيار وغيرها، حتّى و إن كانت من كتب غير الإماميّة ككتاب جعفر بن غياث القاضي، وكتب الحسين بن عبد الله السعديّ، وكتاب القبلة لعليّ بن الحسن الطاطريّ(٤) .

____________________

(١) الإمام جعفر الصادق: ١٦٠.

(٢) رجال ابن داود: ١٢٥، ت ٩٢٢.

(٣) ذكرنا تخريجه قبل قليل عن الحدائق الناضرة وانظر الكليني والكافي: ٤٤٢.

(٤) انظر الفائدة الرابعة من خاتمة المستدرك للمحدّث النوريّ ٣: ٤٨٢.

٤٩٩

٥٠٠