منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث0%

منع تدوين الحديث مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 586

منع تدوين الحديث

مؤلف: السيد علي الشهرستاني
الناشر: دار الغدير
تصنيف:

الصفحات: 586
المشاهدات: 102904
تحميل: 7799

توضيحات:

منع تدوين الحديث
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 586 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 102904 / تحميل: 7799
الحجم الحجم الحجم
منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

السبب السادس

ما ذهب إليه بعض المستشرقين

قال المستشرق الألمانيّ شبرنجر: (إنّ الفاروق عمر لم يهدف إلى تعليم العرب البدو فحسب، بل تمنّى أن يحافظ على شجاعتهم وإيمانهم الدينيّ القويّ؛ ليجعلهم حكّاماً للعالم. والكتابة واتّساع المعرفة لا تتناسب مع الهدف الذي سعى من أجله)(١) .

ومن هذا النصّ نفهم أنّ (شبرنجر) يريد استغلال منع عمر التدوين ليوحي بأنّ انتشار الإسلام كان على أساس القوّة المفرّغة من المعرفة، وأنّ الكتابة واتّساع المعرفة في نظره لا تناسب الشجاعة البدويّة، وروحيّة عمر الحربيّة!

والحقّ أنّ هذا الكلام فيه ما فيه من أضاليل المستشرقين، ومن ادّعاءاتهم التي يطلقونها في الهواء خلواً من أيّ برهان أو دليل.

وهذا المستشرق الآخر (ج، شاخت) يدّعي أن ليس بين الأحاديث المرويّة عند المسلمين حديث فقهيّ صحيح، بل إنّها وضعت بعدئذٍ في إطار المصالح المذهبيّة!(٢) .

و يمضي (جولد تيسهر) أبعد من هذا، فيدّعي في صدور روايات التدوين (أنّ جميعها موضوعة، وأنّ الكتب المؤلَّفة الجامعة للحديث المنسوبة إلى العصر الأوّل

____________________

(١) تدوين السنّة الشريفة: ٥٣٠، عن دلائل التوثيق المبكّر: ٢٣٠ - ٢٣١.

(٢) انظر دراسات في الحديث النبويّ وتاريخ تدوينه للدكتور الأعظميّ (ي) وكتاب (شاخت): The origins of Muhammadanjurispradenee

٦١

مفتعلة)(١) ، وغيرها الكثير من الآراء الفارغة.

وقد ذهب بعض كتّاب المسلمين كإسماعيل بن أدهم في رسالته المطبوعة سنة ١٣٥٣هـ إلى أنَّ الأحاديث الصحاح (ليست ثابتة الأُصول والدعائم، بل هي مشكوك فيها ويغلب عليها صفة الوضع)(٢) .

ومَن أراد التفصيل في آراء المستشرقين الموهومة وأجوبتها، فليراجع كتاب الدكتور محمّد مصطفى الأعظميّ (دراسات في الحديث النبويّ) و (الحديث والمحدّثون) لمحمد أبي زهو، وغيرهما من الكتب الرادَّة لأقوالهم ومفترياتهم. ونحن نرى أنّ الإعراض عن إجابة مثل هذه الافتراءات الواهية التي لا يعضدها دليل أولى بالمقام.

* * *

____________________

(١) من بحوثه: Muhammedanische Studiee باللغة الألمانيّة - نشر عام ١٨٩٠م.

(٢) انظر دراسات في الحديث النبويّ ١: ٢٧ عن السنّة ومكانتها للسباعيّ: ٢١٣، وذهب محمد عبده - كما نقل أبو ريّة عنه - والدكتور توفيق صدقي، والسيد رشيد رضا، وغيرهم، إلى الاكتفاء بالقرآن عن السنّة. (دراسات في الحديث النبويّ: ٢٦).

٦٢

السبب السابع

ما ذهب إليه غالب كتّاب الشيعة

ويتلخّص ذلك: في أنّ النهي جاء للحدّ من نشر فضائل أهل البيت، وتخوّفاً من اشتهار أحاديث الرسول في فضل عليّ وأبنائه(١) ، وما دلّ على إمامتهم(٢) . وقد اشتدّ هذا الأمر على عهد معاوية، الذي كان يأمر الناس بلعن الإمام عليّ في خطب الجمعة على منابر المسلمين(٣) .

واستنتج هذا السبب من واقع الأُمّة بعد رسول الله، وهيكليّة نظام الخلافة السياسيّ والاجتماعيّ، وأنّ العمل الثقافيّ ليس بأجنبيّ عن العمل السياسيّ، وحيث إنّ الخليفة لا يرتضي إعطاء أهل البيت مكاناً في النظام الجديد، بل سعى ليسلب منهم كلّ ما يتّكئون عليه، فلا يبعد إذاً أن تكون قرارات عمر بن الخطّاب الأخيرة في منع التدوين قد شرّعت لهذا الغرض.

وقد وُثِّقَت هذه الرؤية بما نقله الخطيب البغداديّ عن عبد الرحمان بن الأسود عن أبيه، قال: جاء علقمة بكتاب من مكّة أو اليمن، صحيفة فيها أحاديث في أهل البيت بيت النبيّ، فاستأذنّا على عبد الله [ ابن مسعود ]، فدخلنا عليه، قال: فدفعنا إليه

____________________

(١) دراسات في الحديث والمحدِّثين: ٢٢، تاريخ الفقه الجعفريّ: ١٣٤.

(٢) تدوين السنّة الشريفة: ٤١٥، ٤٢١، ٤٧٠، ٥٣٤، ٥٥٧، الشيعة الإماميّة ونشأة العلوم، للدكتور علاء القزوينيّ: ١٢٣ - ١٢٤.

(٣) معالم المدرستين ٢: ٥٧، الصحيح في سيرة النبيّ، للسيد جعفر مرتضى ١: ١٧٧، وانظر خبر لعن معاوية لعلي ٣ في شرح النهج ٢٠: ١٧، جواهر المطالب لابن الدمشقي ١٤٠١.

٦٣

الصحيفة، قال: فدعا الجارية، ثمّ دعا بطست فيها ماء، فقلنا له: يا أبا عبد الرحمان انظر فيها؛ فإنّ فيها أحاديث حساناً.

قال: فجعل يميثها فيه، و يقول:( نحن نقصّ عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن ) (١) ، القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها ما سواه(٢) .

ثمّ استنتج الذاهبون إلى هذا السبب، انحراف ابن مسعود عن مسار أهل البيت؛ فقالوا: إنّه انحرف عن عليّ(٣) أو: إنّه لم يُعِر [ الموضوع ] اهتماماً وأباد الصحيفة محاولاً أن يُوهِم أنّ القرآن يغني عمّا فيها(٤) . وبذلك اعتبر محو أدلّة الإمامة هو الهدف الأساس في المنع، ولم يكن هناك سبب صحيح آخر(٥) .

ويمكن أن يؤخذ على هذا الرأي ما يلي:

الأوّل: المُشاهَد في المصادر وجود نصوص عن ابن مسعود، تؤكّد أنّه كان من دعاة التحديث والتدوين، ومن أجل موقفه هذا دُعي إلى المدينة أيّام الخليفة عمر بن الخطّاب، وسجن حتّى آخر عهد عمر، وإليك بعض النصوص المؤكّدة على أنّه كان من دعاة التحديث والتدوين، منها:

روى عمرو بن ميمون، قال: ما أخطاني ابن مسعود عشيّة خميس إلاّ أتيتُهُ فيه...(٦) .

وعن عبد الله بن الزبير قال: قلت لوالدي: ما لي لا أسمعك تحدّث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله كما أسمع ابن مسعود وفلاناً وفلاناً...(٧) .

____________________

(١) يوسف: ٣.

(٢) تقييد العلم: ٥٤.

(٣) دراسات في الكافي والصحيح: ١٩، أو دراسات في الحديث والمحدّثين: ٢٢.

(٤) تدوين السنّة الشريفة: ٤١٣.

(٥) انظر تدوين السنّة الشريفة: ٤٢١، ٤٧٠ مثلاً.

(٦) سنن الدارمي ١: ٩٥، باب من خاف الفتيا، ح ٢٧٠، سنن ابن ماجة ١: ١٠، باب التوقّي في الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، ح ٢٣، مسند أحمد ١: ٤٥٢، ح ٤٣٢١، التمييز، للإمام مسلم القشيريّ: ١٧٤.

(٧) سنن ابن ماجة ١: ١٤، باب التغليظ في تعمد الكذب على رسول الله، ح ٣٦، مصنف بن أبي شيبة ٥: ٢٩٥، باب في تعمّد الكذب على النبي صلّى الله عليه وآله، ح ٢٦٢٤٢، مسند أحمد ١: ١٦٥، ح ١٤١٣، وانظر صحيح البخاري ١: ٥٢، باب إثم مَن كذب على النبي صلّى الله عليه وآله، ح ١٠٧.

٦٤

وعن أبي قلابة قال: قال ابن مسعود: عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضُهُ ذهابُ أهله فإنّ أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه، وستجدون أقواماً يزعمون أنّهم يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم(١) .

وجاء عن معن، قال: (أخرج عبد الرحمان بن عبد الله بن مسعود كتاب، وحلف له إنّه خطّ أبيه بيده)(٢) .

وفي جزء القراءة من صحيح البخاريّ(٣) إشارة إلى وجود نسخة عنده أو كتب عنها. وحكي عن أصحابه أنّهم كانوا يرحلون لطلب العلم وتدوينه.

وعن الشعبيّ: ما علمت أنّ أحداً من الناس كان أطلب للعلم في أُفق من الآفاق من مسروق، وكان أصحاب عبد الله الذين يقرئون الناس ويعلّمونهم السنّة: علقمة، ومسروق و...(٤) .

وجاء عن ابن عيّاش، قال: سمعت المغيرة يقول: (لم يكن يصدق على علِيّ في الحديث عنه، إلاّ من أصحاب عبد الله بن مسعود)(٥) ، كأمثال علقمة من الذين عرفوا بحبّ عليّ.

وقد جاء في تاريخ الفَسَويّ: أنّ حفيد ابن مسعود أحضر إلى (معن) كتاباً بخطّ أبيه عبد الرحمان بن عبد الله بن مسعود كان يشتمل على الأحاديث وفقه ابن مسعود(٦) .

وروى الطبرانيّ، عن عامر بن عبد الله بن مسعود: أنّه كتب بعض الأحاديث النبويّة

____________________

(١) تذكرة الحفّاظ ١: ١٦، مجمع الزوائد ١: ١٢٦، الجامع لمعمر بن راشد ١١: ٢٥٢، باب العلم، ح ٢٠٤٦٥، اعتقاد أهل السنّة ١: ٨٧، ح ١٠٨.

(٢) جامع بيان العلم ١: ٧٢ وانظر مصنف ابن أبي شيبة ٥: ٣١٣، باب مَن رخص في كتاب العلم، ح ٢٦٤٢٩.

(٣) كما في الدراسات للدكتور الأعظميّ: ١٢٧، عنه.

(٤) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البرّ ١: ٩٤، تهذيب الكمال ٢٧: ٤٥٤، سير أعلام النبلاء ٤: ٦٥.

(٥) صحيح مسلم ١: ١٣، باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها، ح ٧، المدخل إلى السنن الكبرى ١: ١٣٢، ح ٨٢.

(٦) تاريخ الفسويّ ٣: ٢١٥ كما في الدراسات: ١٥٤.

٦٥

وفقه ابن مسعود وأرسل ذلك إلى يحيى بن أبي كثير(١) .

فلو أضفت هذه النصوص إلى ما قيل عن ابن مسعود وكونه من الصحابة الستّة الأوائل المسارعين للإسلام، وأنّ رسول الله قال له: (إنَّك لَغلام معلّم)(٢) و (مَن أحبّ أنْ يسمع القرآن غضّاً فليسمعه من ابن أُمّ عبد)(٣) ، وأنَّ عمر بن الخطّاب قد أرسله إلى الكوفة لتعليمهم أُمور الدين، لعلمتَ أنّها تدلّ على امتلاك ابن مسعود الرؤية الواضحة والثقافة الإسلاميّة، فهو يصرّ على إقراء الناس القراءةَ التي سمعها من رسول الله صلّى الله عليه وآله، حتّى كسر ضلعه من قبل الخليفة عثمان بن عفّان(٤) . فمَن كان هذا حاله لزم التوقّف فيما نُقل عنه واجتناب البتّ فيما قيل من ذهابه إلى منع التحديث والتدوين، ودراسة ذلك برويّة وحذر.

الثاني: لم نجد ذيل خبر علقمة - الذي ذكره الخطيب - في غريب الحديث لابن سلام، إذ ليس فيه أنّ الأحاديث كانت في أهل البيت، بيت النبيّ(٥) ، مضافاً إلى أنّ المنقول هنا يخالف ما نُقل عن ابن مسعود وكونه من الاثني عشر الذين أنكروا على أبي بكر أمر الخلافة، وقوله: (يا معشر قريش! قد عَلِمتم وعَلِم خياركم أنّ أهل بيت نبيّكم أقرب إلى رسول الله منكم. و إن كنتم إنّما تدّعون هذا الأمر بقرابة رسول الله، وتقولون إنّ السابقة لن، فأهل بيت نبيّكم أقرب إلى رسول الله منكم، وأقدم سابقة... ولا ترتدّوا على أعقابكم، فتنقلبوا خاسرين)(٦) .

وقد اشتهر عنه أنّه نقل فضائل الخمسة أصحاب الكساء، وخصوصاً الحسن

____________________

(١) المعجم الكبير للطبرانيّ ٥: ١٠: ٥٦، ح ٩٩٤٢.

(٢) الإصابة ٤: ٢٣٤، ت ٤٩٥٧، فتح الباري ١: ٢٥٢، الاستيعاب لابن عبد البر ٣: ٩٨٨، ح ١٦٥٩، حلية الأولياء ١: ١٢٥، سير أعلام النبلاء ١: ٤٦٥، أُسد الغابة ٣: ٢٥٥، المنتظم، ٥: ٣٠.

(٣) الاستيعاب ٣: ٩٩، ١٦٥٩، وفي ٢: ٣١٩ من المطبوع بهامش الإصابة.

(٤) شرح النهج ٣: ٤٣، عن الواقدي.

(٥) غريب الحديث لابن سلّام ٤: ٤٨، وفيه (أتى عبد الله بصحيفة فيها حديث فدعا بماء فجعل يمحوها بيده)، حجّيّة السنّة: ٣٩٦.

(٦) الخصال: ٤٦٤، أبواب الاثني عشر.

٦٦

والحسين(١) .

وفي الإصابة وغيره، عن أبي موسى قال: قَدِمتُ أنا وأخي من اليمن، وما نرى ابن مسعود إلاّ أنّه رجلٌ من أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله؛ لما نرى من دخوله ودخول أُمّه على النبيّ صلّى الله عليه وآله(٢) .

وروى عن الرسول صلّى الله عليه وآله: (أنّ الخلفاء بعده اثنا عشر خليفة بعدد نقباء بني إسرائيل)(٣) .

وروى الخزّاز في (كفاية الأثر) مسنداً إلى ابن مسعود، أنّه قال: (سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول:الأئمّة بعدي اثنا عشر، تسعة من صُلب الحسين، والتاسع مَهْدِيّهم )(٤) .

وروى أحمد بإسناده عن مسروق، قال: (كنّا مع عبد الله بن مسعود جلوساً في المسجد يُقرئنا، فأتاه رجل فقال: يا ابن مسعود؛ هل حدّثكم نبيّكم كم يكون من بعده خليفة؟ قال: نعم، كعدّة نقباء بني إسرائيل)(٥) .

وفي البداية والنهاية عنه: (إنّ رسول الله قال: يكون بعدي من الخلفاء عدّة أصحاب موسى)(٦) .

وقد أخرج الحاكم بسنده عن ابن مسعود رضى الله عنه، قال: (أتينا رسول الله صلّى الله عليه وآله فخرج إلينا مستبشراً يُعرَف السرور في وجهه، فما سألناه عن شيء إلاّ أخبرنا به، ولا سَكَتْنا إلاّ ابتدأنا، حتّى مرّت فتية من بني هاشم فيهم الحسن والحسين، فلمّا رآهم التزمهم وانهملت عيناه، فقلنا: يا رسول الله! ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه.

____________________

(١) انظر مسند أبي يعلي ٩: ٢٥، ح ٥٣٦٨، ومجمع الزوائد ٩: ١٧٩، وكامل الزيارات: ١١٢، الباب ١٤ ح ٥.

(٢) صحيح البخاري ٣: ١٣٧٣، باب مناقب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ٢، ح ٣٥٥٢، و ٤: ١٥٩٣، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن، ح ٤١٢٣، صحيح مسلم ٤: ١٩١١، باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه رضي الله عنه، ح ٢٤٦٠، سنن الترمذي ٥: ٦٧٢، باب مناقب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ح ٣٨٠٦، الإصابة ٤: ٢٣٥، ت ٤٩٥٧، لعبد الله بن مسعود.

(٣) الخصال ٤٦٨، باب الخلفاء والأئمّة بعد النبيّ، الأحاديث ٦ - ١١، تنقيح المقال ٢: ٢١٥ الطبعة القديمة.

(٤) كفاية الأثر: ٢٣.

(٥) مسند أحمد ١: ٤٠٦، ح ٣٨٥٩، فتح الباري ١٣: ٢١٢.

(٦) البداية والنهاية ٦: ٢٤٨، باب الإخبار عن الأئمة الاثني عشر الذين كلّهم من قريش.

٦٧

فقال: إنّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإنّه سيلقى أهل بيتي من بعدي تطريداً وتشريداً في البلاد حتّى ترتفع رايات سود من المشرق فيسألون الحقّ فلا يُعْطونَه، ثمّ يُسألونه فلا يُعطونه، فيقاتلون فيُنصرون...)(١) .

وقد روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله كما في الحاكم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال:(إنّ فاطمة أحصنت فرجها، فحرّم الله ذريّتها على النار) (٢) . و(النظر إلى وجه عليّ عبادة) (٣) .

كما روى قوله صلّى الله عليه وآله لعليّ لمّا برز لقتال ابن عبد ودّ:(برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه) (٤) .

وقوله صلّى الله عليه وآله:(من زعم أنّه آمَنَ بي وبما جئت به وهو يُبغض عليّ، فهو كاذب ليس بمؤمن) (٥) .

وروى: (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله دفع لعليّ لواء المهاجرين يوم أحد)(٦) .

وغيرها من الأحاديث المادحة لعليّ وفاطمة والحسن والحسين.

كقوله: (ما كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول الله إلاّ ببغضهم عليّ بن أبي طالب)(٧) .

و:(قُسِّمَت الحكمة عشرة أجزاء فأُعطيَ عليّ تسعة أجزاء، والناس جزءاً واحداً، وعليّ أعلم بالواحد منهم) (٨) .

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين في الحديث للحاكم النيسابوريّ ٤: ٥١١، ح ٨٤٣٤، وهو عند الطبراني في المعجم الأوسط ٦: ٣٠، ح ٥٩٦٦، وانظر الرحلة في طلب الحديث ١: ١٤٦، ح ٥٦ و ٥٥.

(٢) المستدرك على الصحيحين في الحديث للحاكم النيسابوريّ ٣: ١٦٥، ح ٤٧٢٦، ومسند البزّار (٥: ٢٢٣) ٤ - ٩، ح ١٨٢٩، تاريخ بغداد ٣: ٢٦٦، ت ١٣١٣.

(٣) المستدرك على الصحيحين في الحديث للحاكم النيسابوري ٣: ١٥٢، ح ٤٦٨٢، المعجم الكبير ١٠: ٧٦، ح ١٠٠٠٦، الفردوس بمأثور الخطاب ٤: ٢٩٤، ح ٦٧٦٥، عن معاذ بن جبل، حلية الأولياء ٥: ٥٨.

(٤) ينابيع المودة ١: ٢٨١، الباب ٢٣، تأويل الآيات ٢: ٤٥١.

(٥) مناقب الخوارزميّ: ٣٥، تاريخ دمشق ٤٢: ٢٨٠.

(٦) تاريخ الطبري ٢: ٦٦، غزوة أحد، البداية والنهاية ٤: ٢٠، مقتل حمزة، الثقات لابن حبان ١: ٢٢٤، مجمع الزوائد ٦: ١١٤، باب منه في وقعة أحد، الإرشاد للمفيد ١: ٨٠.

(٧) الدرّ المنثور ٧: ٥٠٤، سبل الهدى والرشاد ١١: ٢٩٠، الباب العاشر، روح المعاني ٢٦: ٧٨.

(٨) حلية الأولياء ١: ٦٥، الفردوس بمأثور الخطاب ٣: ٢٧، ح ٤٦٦٦، البداية والنهاية ٧: ٣٦٠، فيض

=

٦٨

وفي آخر: إنّ القرآن اُنزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلاّ له ظهر وبطن وإنّ عليّ بن أبي طالب عنده علم الظاهر والباطن(١) .

وقال: (قرأتُ على رسول الله سبعين سورة، وختمت القرآن على خير الناس عليّ بن أبي طالب)(٢) . وروى الأعمش عن أبي عمرو الشيبانيّ، عن أبي موسى قال: والله لقد رأيت عبد الله وما أراه إلاّ عبد آل محمّد(٣) .

ومن المشهور عن ابن مسعود أنّه كان يذهب إلى وجوب الصلاة على محمّد وعلى آله في التشهّد، فجاء في (الشفاء) للقاضي عياض، عن ابن مسعود، عن النبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه قال:(مَن صلّى صلاةً ولم يصلّ فيها عَلَيَّ وعلى أهل بيتي لم تقبل منه) (٤) . وغيرها الكثير ممّا لا نريد الإطالة فيه، وما ذكرناه يكفي لمَن نظر.

هذا وقد عُرف عنه أنّه خالف عثمان في أكثر من موقف وقضيّة، وكان يُحدّث بما سمعه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، رغم السياسات الضاغطة عليه، فلو صحّت هذه الأقوال عنه، فهل يطمئن القلب بعد هذا إلى ما حكاه الخطيب عن علقمة فيه؟

و إذا قبلنا ما حكاه الخطيب فيه، فماذا نفعل بما روي عنه من أنّه شهد الصلاة على فاطمة سيّدة النساء ودفنها؟

ألم تكن هذه خصوصيّة امتاز بها خلصاء الشيعة وأصفياء مُحبّي عليّ؟

ولو كان من مُحبّي أهل البيت فكيف يمحو الأحاديث التي (هي في أهل البيت، بيت النبيّ)؟

روى الصدوق في خصاله وأماليه مسنداً عن عليّ، أنّه قال:(خُلقت الأرض لسبعة

____________________

=

القدير ٣: ٤٦، فتح الملك العلي: ٦٩، تاريخ دمشق ٤٢: ٣٨٤.

(١) حلية الأولياء ١: ٦٥، وعنه في الإتقان ٢: ٤٩٣، ح ٦٣٧٠، تاريخ دمشق ٤٢: ٤٠٠، ينابيع المودّة: ٤٤٨ باب (٦٥)، الاجتهاد في الشريعة الإسلاميّة للوافي المهدي: ١٣٥.

(٢) المعجم الكبير ٩: ٧٦، ح ٨٤٤٦، المعجم الأوسط ٥: ١٠١، ح ٤٧٩٢، المسترشد للطبري: ٢٧٨، تاريخ دمشق ٤٢: ٤٠١، سبل الهدى والرشاد ١١: ٤٠٣ عن الطبراني.

(٣) سير أعلام النبلاء ١: ٤٦٨، المعرفة والتاريخ للفسوي ٢: ٥٤١ - ٥٤٢، تاريخ دمشق ٣٣: ٨٤ - ١٥١.

(٤) انظر أضواء على السنّة المحمّديّة: ٨٦ عن الشفاء.

٦٩

بهم يرزقون، و يُمْطَرون، وبهم يُنصرون ، وعدّ منهم عبد الله بن مسعود. قال:وهم الذين شهدوا الصلاة على فاطمة عليها السلام) (١) ، بل إنّه بعد ذلك شهد الصلاة على أبي ذرّ وغسله، وتكفينه، ودفنه.

إنّ كلّ ما نُقل في شأنه هو امتياز له؛ إذ صحّ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، أنّه قال في وفاة أبي ذرّ:(تشهده عصابة من المؤمنين) (٢) وفي رواية الكشيّ:(رجال من أُمّتي صالحون) (٣) .

وفي هذه الجمل إشارة واضحة إلى جلالة قدره. قال السيّد المرتضى في كتابه الشافي: (لا خلاف بين الأمّة في طهارة ابن مسعود وفضله و إيمانه ومدح رسول الله صلّى الله عليه وآله، وثنائه عليه، وأنّه مات على الحالة المحمودة منه)(٤) .

فمن المحتمل بعد هذا أن يكون نهي ابن مسعود - على فرض صحّة صدوره عنه - قد جاء لما في تلك الأحاديث من قصص، لقول الراوي: (فجعل يمحوها بيده، ويقول:( نحن نقصّ عليك أحسن القصص ) )(٥) .

وجاء في خبر آخر ما يؤيّد ذلك: (أنّ رجلاً من أهل الشام جاء إلى عبد الله بن مسعود ومعه صحيفة فيها كلام من كلام أبي الدرداء وقصص من قصصه، فقال: (يا أبا عبد الرحمان، ألا تنظر في هذه الصحيفة من كلام أخيك أبي الدرداء)؟! فأخذ الصحيفة، فجعل يقرأ فيها وينظر، حتّى أتى منزله، فقال: (يا جارية، ائتيني بالإجانة مملوءة ماءً)، فجاءت به، فجعل يدلكه، و يقول:( الر * تلكَ آياتُ الكتابِ المُبين

____________________

(١) الخصال: ٣٦١، باب السبعة، روضة الواعظين: ٢٨٠، تنقيح المقال ٢: ٢١٥، وممّا يجب التنبيه عليه هنا هو وجود دراسة مفصّلة لنا عن ابن مسعود، أثبتنا فيها أنّ فقهه قريب من فقه أهل البيت؛ وهذا يضعّف ما نقله الخطيب عنه، وقاله بعض الأعلام.

(٢) المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ٣: ٣٨٨، ح ٥٤٧٠، مجمع الزوائد ٩: ٣٣١، باب ما جاء في أبي ذر، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، ورواه البزار باختصار. الاستيعاب لابن عبد البر ١: ٢٥٤، باب جندب، الطبقات الكبرى ٤: ٢٣٣ - ٢٣٤، ترجمة أبو ذر الغفاري.

(٣) اختيار معرفة الرجال ١: ٢٨٣، باب في إخوة زرارة، ح ١١٧، الدرجات الرفيعة - ٢٥٢، باب عمار بن ياسر وأخباره.

(٤) انظر تنقيح المقال ٢: ٢١٥، والكنى والألقاب ١: ٢١٧ عن كتاب الشافي.

(٥) تقييد العلم: ٥٤.

٧٠

* إنّا أنزَلْناهُ قُرآناً عَرَبيّاً لعلّكم تَعْقِلُون * نَحنُ نَقُصُّ عَلَيكَ أحسَنَ القَصَص ) أقصصاً أحسنَ من قصص الله تريدون! أو حديثاً أحسنَ من حديث الله تريدون)!(١) .

إنّ خبر ابن مسعود يحتمل فيه:

أ - أن يكون المحو لأجل ما في الأحاديث من فضائل لأهل البيت، بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله، كما ذهب إليه الأعلام في السبب السابع.

ب - أن يكون لأجل ما فيها من القصص، لما عرف عن أبي الدرداء، وكعب الأحبار، من تسامحهم في سرد قصص الأمم الماضية المتعلّقه بالعقيدة الإسلاميّة وغير ذلك... ولتعليل ابن مسعود:( نحن نقصّ عليك أحسن القصص ) . وقد عَدَّ الباحثون القصص والوعظ من الأسباب الاثني عشر أو الستّة عشر الداعية إلى الوضع في الحديث(٢) ، أو أمور أخرى.

فيحتمل أن يكون ابن مسعود قد وقف على قصص كهذه في أهل البيت، ممّا لا يرتضيه، فجعل يُميثها كما في الخبر.

وعليه، فإنّ حصر التعليل بالأوّل، واعتباره السبب الأساسيّ في ذلك، فيه من المسامحة ما لا خفاء فيه.

هذا، ولابُدّ من الإشارة إلى قول مَن خَدَش في ابن مسعود من أنّه استقلّ بالرأي كبعض الصحابة، فهذا ممّا لا يستبعد، إذ إنّه كان مرجعاً للناس، وأنّ ما أفتى به قد يكون عن خبر صحّ عنده، أو إعمال رأي واستنباط. ونلاحظ هذا الموقف عند بعض التابعين، أو تابعي التابعين كذلك، مثل: إفتاءات أبي حنيفة، وسفيان الثوريّ، والحسن البصريّ، وغيرهم.

فإنَّ مواقف هؤلاء واستقلالهم بالرأي لا يعني مجاراتهم للدولة. فما ذهبوا إليه يوافق السلطان تارة، ويماثل ما أُصِّل عندهم من أُصول تارة أُخرى.

____________________

١٧٠) تقييد العلم: ٥٤.

١٧١) انظر السنّة قبل التدوين: ٢١٠ للدكتور محمد عجاج الخطيب، والحديث والمحدثون لأبي زهو: ٢٦٥.

٧١

إنَّ ما ذهبوا إليه إذَنْ لم يكن تأثّراً بهم أو موالاة لهم. وقد بسطنا هذا القول سابقاً في كتابنا (وضوء النبيّ).

نعم، إنّ هؤلاء لم يكونوا: كمقداد، وعمّار، وأبي ذرّ، وحذيفة، من الصحابة أو التابعين، المعتقدين بفقه (عليّ) ونهجه، وإنّ ذلك هو سنّة رسول الله لا غير، بل كانوا يعتقدون بأُصول ويذهبون إلى مبانٍ دعت إلى الاختلاف في أقوالهم.

هذا على فرض التنزّل، لكنّ الواقع هو إنّنا إذا قيّمنا الجانب الفقهي لابن مسعود بموضوعية لا يسعنا أن نرمي به في قائمة القائلين بالرأي؛ ومن ذلك أنّ نفراً راجعوه في مسألة من مسائل الشرع أكثر من مرة، وكان يجيبهم بأنّه لم يحط بها علماً، ولولا أنّ وجوب الإفتاء صار في حقه عينياً - لعدم وجود غيره - لما أفتى، فاقرأ ما رواه أحمد حيث قال: إنّ ابن مسعود أتي في امرأة تزوّجها رجل لم يُسم لها صداقاً فمات قبل أن يدخل بها قال: فاختلفوا إلى ابن مسعود شهراً أو قريباً من ذلك فقالوا: لا بد أن تقول فيه، قال: فإنّي أقضي لها مثل صدقة امرأة من نسائها لا وكس ولا شطط، ولها الميراث وعليها العدّة، فإن يكن صواباً فمن الله عزّ وجلّ و إن يكن خطأ فمنّي ومن الشيطان، والله عزّ وجلّ ورسوله بريئان، فقام رهط من أشجع فيهم الجراح وأبو سنان، فقالوا: نشهد أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قضى في امرأة منّا يقال لها بروع بنت واشق بمثل الذي قضيت، ففرح ابن مسعود بذلك فرحاً شديداً حين وافق قوله قضاء رسول الله صلّى الله عليه وآله(١) .

وعليه، فإنّ ابن مسعود لم يكن خلّط ووالى القوم أو مال معهم، وقال بقولهم خلافاً لما نقل عن ابن شاذان(٢) .

وقد نقلت كتب الصحاح والسنن عن عليّ أنّه قال لمن سأله عن ابن مسعود:(علم

____________________

(١) مسند أحمد ١: ٤٤٧، ح ٤٢٧٦، وانظر السنن الكبرى للبيهقي في سننه الكبرى ٧: ٢٤٦، ح ١٤١٩٥، وسنن النسائي (المجتبى) ٦: ١٢١، باب إباحة التزويج بغير صداق، ح ٣٣٥٤، وسننه الكبرى ٣: ٣١٦، ح ٥٥١٥.

(٢) انظر معجم رجال الحديث ١١: ٣٤٤ - ٣٤٥، ت ٧١٧٢ عبد الله بن مسعود.

٧٢

الكتاب والسنّة، ثمّ انتهى، وكفى بذلك علماً) (١) . أو قوله:قرأ القرآن، وأحَلَّ حلاله وحَرّمَ حرامه، فقيه في الدين، عالمٌ بالسنّة (٢) .

نعم، إنّ فضائل ابن مسعود في الكتب الأخرى أكثر ممّا عند الشيعة، والكلّ يشهد بجلالة قدره، وعظيم منزلته.

فما نقله الخطيب البغداديّ، وما استدلّ به السادة الأعلام فيما سبق، لا يكون إذَن دليلاً لما ذهبوا إليه؛ إذ إنّ جملة (أحاديث في أهل البيت، بيت النبيّ) صلّى الله عليه وآله، ليس فيها تصريح بأنّ الأحاديث كانت في فضائل أهل البيت، بل يحتمل أن تكون الأحاديث في ذمّ أهل البيت أو الغلوّ فيهم، والأخير يتطابق مع ما نقلناه عن سيرة ابن مسعود وما رواه من فضائل فيهم. هذا أوّلاً.

وثانياً: إنّ ما قاله المدّعي من (أنّ المنع من التدوين جاء لمحو الفضائل وأدلّة الإمامة) لا يتطابق والنهي العامّ الصادر عن الشيخين؛ إذ الدليل أخصّ من المدّعى، إذ إنّ الشيخين نَهَيا نهياً عامّاً، فمنع الأوّل من التحديث ودعا إلى الاقتصار على القرآن، وذلك بعد أن أحرق أحاديثه الخمسمائة، وطلب الثاني ممّن عنده الأحاديث أن يأتوه بها: (ليرى أعدلها وأقومها).

فلو كانا يريدان محو الفضائل وأدلّة الإمامة فقط، وكان هدفهما هذا لا غير؛ لأمكن الأوّل حذف ما لا يرضيه من المرويات الخمسمائة التي في الفضائل والخلافة وإبقاء الروايات الأخرى. وكذلك كان يمكن عمر، حينما أُتي بالمدوّنات إليه، أن يمحوها و يجعل ما بقي في كتاب، ثمّ يأمرهم بأخذ الفرائض منه، أ مّا أحاديث: التفسير، والأخلاق، والفضائل، والوعظ، والإرشاد، وما شابه ذلك، فكان يحيله على من

____________________

(١) مصنّف ابن أبي شيبة ٦: ٣٨٥، باب ما ذكر في عبد الله بن مسعود، ح ٣٢٢٣٨، حلية الأولياء ١: ١٢٩، الطبقات الكبرى ٢: ٣٤٦، المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ٣: ٣٦٠، ح ٥٣٩٢، الأحاديث المختارة ٢: ١٢٣، ح ٤٩٤، صفوة الصفوة ١: ٤٠١، ترجمة عبد الله بن مسعود، سير أعلام النبلاء ١: ٤٩٢.

(٢) المستدرك على الصحيحين للحاكم ٣: ٣٥٧، ح ٥٣٨٠، سير أعلام النبلاء ١: ٤٩٢، مفتاح الجنّة للسيوطي ١: ٧٠.

٧٣

يتصدّون للوعظ والإرشاد، ومن يثق به الخليفة، وكان بذلك قد عُمّي الأمر على المسلمين وخفي عليهم، والتبس الحقّ بالباطل.

ثمّ إنّ تعليل منع التدوين بطمس الفضائل، يلزم منه القول بأنّ عمر كان لا يجرؤ أن يمنع من التحديث بفضائل عليّ وأهل البيت خصوصاً، فالتجأ إلى أُسلوب المنع العامّ تخلّصاً من تبعات المنع من التحديث بالفضائل حسب.

إلاّ أنّ المتتبّع لسيرة عمر يعلم أنّ الخليفة كان شديداً غليظاً، لا يهاب أحداً. وثبت في التاريخ هجومه على المتحصّنين في بيت فاطمة من الذين لم يرتضوا مبايعة الخليفة أبي بكر، وفيهم: عليّ، والعبّاس، والفضل بن العبّاس، والزبير، وخالد بن سعيد، والمقداد، وسلمان، وأبو ذرّ، وعمّار، والبراء بن عازب، وأُبي بن كعب(١) ، وسعد بن أبي وقّاص، وطلحة بن عبيد الله... فأقبل عمر بقبس من نار على أن يُضرم عليهم النار، فلقيتهم فاطمة فقالت:يا ابن الخطّاب! أجئت لتُحرق دارنا؟!

قال: نعم، أو تدخلوا في ما دَخَلتْ فيه الأُمّة(٢) .

وفي كنز العمّال: (إنّ عمر قال لفاطمة: وما أحد أحبّ إلينا بعد أبيك منك، وأيم الله ما ذلك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك أن آمُرَ بهم أن يحرق عليهم الباب)(٣) .

وفي رواية الإمامة والسياسة: (إنّ عمر جاء فناداهم وهم في دار عليّ فأبوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب وقال: والذي نفس عمر بيده لتخرجُنَّ أو لأحرقنّها على مَن فيها، فقيل له: يا أبا حفص! إنّ فيها فاطمة، فقال: وإن)(٤) .

وفي أنساب الأشراف: (إنّ أبا بكر أرسل إلى عليّ يريد البيعة، فلم يبايع، فجاء عمر ومعه فتيلة، فتلقّته فاطمة على الباب، فقالت فاطمة:يا ابن الخطّاب أتراك مُحرقاً عَلَيّ بابي؟!

____________________

(١) انظر تاريخ اليعقوبيّ ٢: ١٢٤.

(٢) العقد الفريد ٥: ١٣، أبو الفداء ١: ١٥٦، أنساب الأشراف ١: ٢٧٨ وفي طبعة ٥٨٦.

(٣) كنز العمّال ٥: ٦٥١، شرح النهج ٢: ٤٥.

(٤) الإمامة والسياسة ١: ٣٠.

٧٤

قال: نعم، وذلك أقوى فيما جاء به أبوك)(١) .

هذه وغيرها من النصوص الدالّة على غلظة عمر، وشدّته في طرح آرائه؛ لتدلّ على أنّ مَن كانت هذه سيرته فإنّه يُستبعد أن يكون قد نهى عن تدوين جميع الأحاديث من أجل محو الفضائل وأدلّة الإمامة فقط.

لو كان عمر بن الخطّاب يريد ذلك لما هاب أحد، ولما تخوّف من تشكيك الصحابة، ولما توقّف فيما يصير إليه، ولقال في تحديد الخطوط الحمراء في التدوين كما قال في المتعة: (كانتا على عهد رسول الله أنا أحرمهما وأعاقب عليهما) بكل جرأة.

وعليه فإنّ مسألة الخلافة والتعدّي على الزهراء، وسلبها فدكاً وجلب عليّ بن أبي طالب لمبايعة أبي بكر قسراً، وغيرها شيء، والمنع من التدوين لغرضٍ ما شيء آخر.

وثالثاً: فقد ثبت في التاريخ أنّ الشيخين قد رويا في فضائل عليّ بن أبي طالب وأهل بيت الرسول صلّى الله عليه وآله الكثير. وقد عقد محبّ الدين الطبريّ باباً بعنوان: (ذكر ما رواه أبو بكر في فضائل عليّ):... ومنه حديث النظر إليه عبادة، وحديث استواء كفّه وكفّ النبيّ، وحديث أنّه خيّم عليه وعلى بنيه خيمة، وحديث أنّه من النبيّ صلّى الله عليه وآله بمنزلة النبيّ من ربّه، وحديث لا يجوز أحد الصراط إلاّ بجواز يكتبه عليّ، وقوله: (مَن سرّه أن ينظر إلى أقرب الناس قرابة)، وإحالته على عليّ لمّا سُئل عن وصف رسول الله صلّى الله عليه وآله(٢) .

وجاء في المستدرك على الصحيحين أنّ عمر بن الخطّاب قال: (لقد أُعطي عليّ بن أبي طالب ثلاث خصال، لئن تكون لي خصلة منها أحبّ إليّ من أن أُعطى حُمْر النَّعَم، قيل: وما هنّ يا أمير المؤمنين؟

قال: تزوّجه فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله، وسكناه المسجد مع رسول الله صلّى الله عليه وآله يحلّ له فيه ما يحلّ له، والراية يوم خيبر). قال الحاكم: هذا الحديث صحيح الإسناد(٣) .

____________________

(١) أنساب الأشراف ١: ٥٨٦. كما في عبد الله بن سبأ ١: ١٣٣.

(٢) الرياض النضرة ٣: ٢٣٢.

(٣) المستدرك على الصحيحين للحاكم ٣: ١٣٥، ح ٤٦٣٢ بسنده عن أبي هريرة عن عمر وانظر مصنّف

=

٧٥

وثبت أنّ عمر بن الخطّاب كان يسأل عليّ، ويأخذ عنه الأحكام أيّام خلافته، جاء في المناقب للخوارزميّ: (جاء رجلان إلى عمر فقالا له: ما ترى في طلاق الأمَة؟ فقام إلى حَلْقة فيها رجل أصلع، فقال له: ما ترى في طلاق الأمَة؟ فقال: اثنتان بيده، فالتفت عمر إليهم، فقال: اثنتان، فقال له أحدهم: جئناك وأنت الخليفة، فسألناك عن طلاق الأمَة، فجئت إلى رجل فسألته، فو الله ما كلّمك، فقال له عمر: و يلك أتدري مَن هذا؟ هذا عليّ بن أبي طالب، إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول:لو أنّ السماوات والأرض وُضعت في كفّة ميزان، وَوُزِن إيمان عليّ لرجح إيمان عليّ على السماوات والأرض )(١) .

وروي عنه: (عليّ أقضانا)(٢) ، و (لولا عليّ لهلك عمر)(٣) ، و (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن)(٤) .

وفي تاريخ دمشق، أنّ عمر روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:(إنّما عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنَّه لا نبيّ بعدي) (٥) .

كما روى قولَه صلّى الله عليه وآله:(أنت أوّل الناس إسلاماً، وأوّل الناس إيماناً) (٦) .

وجاء في البخاريّ، باب مناقب عليّ، عن عمر، أنّه قال: (توفّي رسول الله وهو عنه

____________________

=

ابن أبي شيبة ٦: ٣٦٩، ح ٣٢٠٩٩ بسنده عن ابن عمر عن عمر.

(١) المناقب للخوارزميّ، الفصل الثالث عشر: ٧٧، تاريخ دمشق ٤٢: ٣٤، ابن المغازليّ في مناقب عليّ: ٢٨٩ رقم ٣٣٠، الرياض النضرة ٢: ١٦٧، وانظر الفردوس بمأثور الخطاب ٣: ٣٦٣، ح ٧٢٩٤، وعنه في كنز العمّال ١١: ٦١٦، ح ٣٢٩٩٢.

(٢) المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ٣: ٣٤٥، ح ٥٣٢٨، مسند أحمد ٥: ١١٣، ح ٢١١٢٣، مصنف ابن أبي شيبة ٦: ١٣٨، ح ٣٠١٢٩، مجموع الفتاوى لابن تيمية ١٦: ٤٨٢، الاستيعاب المطبوع بهامش الإصابة ٣: ٣٨.

(٣) فيض القدير ٤: ٣٥٧، الاستيعاب ٣: ١١٠٣، فتح الملك العلي: ٧١، تأويل مختلف الحديث ١: ١٦٢.

(٤) الغدير ٦: ١٠٦، عن نور الأبصار للشبلنجي: ٧٩، الرياض النظرة ٤٣: ١٦٦، شرح النهج ١: ١٨، وبتفاوت يسير في المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ١: ٦٢٨، ح ١٦٨٣، وسبل السلام ٢: ٢٠٦.

(٥) تاريخ بغداد ٧: ٤٦٣، ت ٤٠٢٣، تاريخ دمشق ٤٢: ١٦٦ - ١٦٧.

(٦) كنز العمّال ١٣: ١٢٤، ح ٣٦٣٩٥ عن ابن النجار، قادتنا كيف نعرفهم ٤١٢ - ٤١٣، عن أسنى المطالب، الباب السادس: ٢٩، رقم ٢١ وغيره.

٧٦

راضٍ)(١) .

كما عقد محبّ الدين الطبريّ باباً (في ذكر ما رواه عمر في علي): (منه: حديث الراية يوم خيبر، وحديث في عليّ ثلاث خصال لوددت أنّ لي واحدة منهنَّ، وحديث أنّه منّي بمنزلة هارون من موسى، وحديث رجحان إيمانه على السماوات والأرضين، وحديث مَن كنت مولاه فعليّ مولاه، وقوله: ما أحببت الإمارة إلاّ يومئذٍ لمّا قال النبي صلّى الله عليه وآله لعليّ لأبعثنه إلى كذا وكذا، وقوله: أصبحت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة، وقوله: عليّ مولى مَنِ النبيّ صلّى الله عليه وآله مولاه، وقوله في عليّ: إنّه مولاي، و إحالته في المسألة عليه غير مرّة في القضاء، وقوله: أقضانا عليّ، ورجوعه إلى قوله في مسائل كثيرة)(٢) .

كانت هذه نبذة يسيرة ممّا ورد عن الشيخين في فضائل عليّ بن أبي طالب.

وقد ثبت أنّ الصحابة كانوا ينقلون فضائل عليّ في عهدهم، ولم يختصّ نقلهم بأيّام الرسول.

روى الحاكم بإسناده عن عقاب بن ثعلبة، حدّثني أبو أيّوب الأنصاريّ في خلافة عمر بن الخطّاب، قال أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله عليّ بن أبي طالب بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين(٣) .

فلو صحّ التعليل وانحصر في كون الشيخين منعا تدوين الحديث من أجل محو فضائل أهل البيت، أو ما يدلّ على إمامتهم، وصحّ ما قيل بأنّ نقل الفضائل (كانت تضرّ السلطة الحاكمة وتنافي سياستها القائمة)، لما صحّ قول أبي أيّوب، ولما وصلت إلينا الأحاديث الكثيرة المبثوثة في كتب الصحاح والسنن، الدالة على إمامتهم كقوله صلّى الله عليه وآله:(عليّ مع القرآن، والقرآن مع عليّ) (٤) ، و(إنّي مخلِّف فيكم الثقلين، كتاب الله

____________________

(١) صحيح البخاري ٣: ١٣٥٧، باب مناقب علي، فتح الباري ٧: ٧٢.

(٢) الرياض النضرة ٣: ٢٩٥.

(٣) المستدرك على الصحيحين في الحديث للحاكم النيسابوريّ ٣: ١٥٠.

(٤) الجامع الصغير للسيوطيّ ٢: ١٧٧/ ٥٥٩٤، المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ٣: ١٣٤، ح ٤٦٢٨، المعجم الصغير ٢: ٢٨، ح ٧٢٠، فيض القدير ٤: ٣٥٦.

٧٧

وعترتي أهل بيتي) (١) ، و(مثل أهل بيتي كسفينة نوح مَن ركبها نج، ومَن تخلَّف عنها هوى وغرق) (٢) ، و(مَن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه) (٣) وقول عمر: (ما أحببت الإمارة إلاّ يومئذ قال لعليّ...)(٤) وغيرها الكثير.

لكنّ الإنصاف يقتضي أن نقول بأنّ أبا بكر وعمر وإن حدّثا بفضائل آل البيت وما يدل على إمامتهم، لكنّهم كانوا على غاية الحذر من التوضيحات والمناقشات التي تبيّن موضوع استخلاف الإمام عليّ، أو التي تكشف عن وجود صحابة مؤيّدين للتعبّد المحض ومخالفين للرأي والاجتهاد، فهم وإن لم يضيّقوا الخناق في مجال نقل الفضائل لوحدها، لكنّهم لم يعجبهم أن ينتشر بين الناس ما يمسّ بخلافتهم، ولذلك نرى أبا بكر يحاول صرف المسلمين عن الكلام في أمر الخلافة، وعن بيان ما ورد في أحقّيّة أمير المؤمنين عليه السلام؛ لأنّ فَسْر وبيان وكشف أبعاد الأحاديث الدالّة على الخلافة والإمامة العلوية، هو الذي يخيف السلطات لا مجرّد النقل. ولذلك نهى أبو بكر عن هذا النوع من الكشف والبيان؛ قال الشيخ عبد الرحمان بن يحيى المعلمي اليماني: إن كان لمرسلة ابن أبي مليكة أصل فكونه عقب الوفاة النبوية يشعر بأنّه يتعلّق بأمر الخلافة، كأنّ الناس عقب البيعة بقوا يختلفون، يقول أحدهم أبو بكر أهلها؛ لأنّ النبي صلّى الله عليه وآله قال: كيت وكيت، فيقول آخر: وفلان قد قال النبي صلّى الله عليه وآله: كيت وكيت، فأحب

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين للحاكم ٣: ١٦٠. بلفظ: إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي، مسند أحمد ٣: ١٧، ح ١١١٤٧، مجمع الزوائد ٩: ١٦٣، سنن الدارمي ٢: ٥٢٤، ح ٣٣١٦، المعجم الأوسط ٤: ٣٣، ح ٣٥٤٢.

(٢) الجامع الصغير ٢: ٥٣٣، ٨١٦٢، مستدرك الحاكم ٢: ٣٧٣، ح ٣٣١٢، ٣: ١٦٣، ح ٤٧٢٠، المعجم الأوسط ٤: ١٠، ح ٣٤٧٨، ٥: ٣٥٥، ح ٥٥٣٦، فضائل الصحابة لابن حنبل ٢: ٧٨٥، ح ١٤٠١.

(٣) المستدرك علي الصحيحين للحاكم النيسابوري ٣: ١١٨، ١١٩، ١٢٦، ١٤٣، ٤١٩، ٦١٣، سنن الترمذي ٥: ٦٣٣، ح ٣٧١٢، مجمع الزوائد ٩: ١٠٣ - ١٠٩، باب قوله صلّى الله عليه وآله مَن كنت مولاه فعلي مولاه، السنن الكبرى للبيهقي ٥: ١٣١، ح ٨٤٦٨ - ٨٤٧٢، سنن ابن ماجة ١: ٤٥، ح ١٢١، وغيرها من المصادر.

(٤) صحيح مسلم ٤: ١٨٧١، ح ٢٤٠٥، السنن الكبرى للنسائي ٥: ١١٠، ح ٨٤٠٥، ٥: ١٧٩، ح ٨٦٠٣، كتاب السنن ٢: ٢١٥، ح ٢٤٧٤، فتح الباري ٧: ٩٤، فضائل الصحابة لابن حنبل ٢: ٦٥٩، ح ١١٢٢.

٧٨

أبو بكر صرفهم عن الخوض في ذلك(١) .

ونرى أنّ عمر كان يكثر من التعريض والتهديد لعبد الله بن عبّاس، الذي كان يدافع وبإخلاص عن خلافة عليّ عليه السلام، فبعد أن ناقشه ابن عبّاس عن موضوع الخلافة وأحقّيّة الإمام عليّ عليه السلام بها، قال له عمر: أمّا أنت يا ابن عبّاس فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك عندي، قال: وما هو؟...

قال: بلغني أنّك لا تزال تقول: أُخِذَ هذا الأمر منّا حسداً وظلماً.

بعدها دافع ابن عبّاس عن أحقّيّة رأيه ولم يتنازل لعمر. فقال له عندما ذهب: إنّي على ما كان منك لراعٍ حقّك...(٢) .

وفي احتجاج آخر لابن عبّاس على عمر، انزعج عمر من ابن عبّاس، قال ابن عباس: فأعرض [ أي عمر ] عنّي وأسرع، ورجعتُ عنه(٣) .

وفي نصّ آخر يتّضح أكثر فأكثر منع عمر من بيان الخلافة وأحقّيّة أهل البيت بها، حيث إنّه بعد أن أفحمه ابن عبّاس في احتجاجه، قال له عمر: امسِكْ عَلَيَّ واكتم، فإن سمعتها من غيرك لم أنم بين لابَتَيْها(٤) . وفي نسخة (لم تنم) وعلى كليهما، ففيهما وضوح تخوّف عمر من أن يسمع هذا الحديث من شخص ثالث، إذ ذلك يعني تأليب الناس ضدّ الحكومة، وهدم قواعد مشروعيّة حكم نهج الاجتهاد والرأي.

فمن هذا التشديد، ومن تحديثهم هم؛ نفهم أنّ في الأمر التفاتة سياسية ذكيّة منهم، وهي التحديث بالفضائل والاستماع لبعضها من جهة، لكي لا تتّضح معالم سياستهم بشكل واضح، والمنع من تجاوز الحدود المرسومة للتحديث والُمحَدَّث به من جهة أُخرى؛ وبذلك يتّضح أنّ التعتيم على فضائل أهل البيت لم يكن هو السبب الأوّل والأخير في قضيّة منع التدوين والتحديث، ولا ننكر أن يكون له مدخليّة في المنع –

____________________

(١) الأنوار الكاشفة: ٥٤.

(٢) تاريخ الطبري ٢: ٥٧٧ - ٥٧٨، شرح النهج ١٢: ٥٢ - ٥٥.

(٣) شرح النهج ١٢: ٤٦.

(٤) نظم درر السمطين: ١٣٣.

٧٩

خصوصاً منع ما هو مفسّر ويمس أصل الخلافة - بنحو العلَّة الجزئيّة التي تنضوي تحت إطار منع أشمل لمقصود أوسع وأعم وأشمل.

فتلخّص إذاً:

إنّ ما نقله الخطيب البغداديّ المتوفى سنة ٤٦٣ في(تقييد العلم) لا يمكن أن يكون دليلاً تامّاً على الرأي المتقدّم، إذ قد عرفت أنّ لفظة (أهل البيت) لم ترِد في رواية القاسم بن سلام المتوفى ٢٢٤، مضافاً للإشكالات المتوجّهة عليه، وعليه فالمنع لم ينحصر بهذا التعليل فقط، حتّى يجعل السبب الأساسيّ فيه.

ابن مسعود وروايات المنع

الروايات الواردة في المنع عن ابن مسعود في تقييد العلم لم تنحصر بما رووه عن صحيفة علقمة، بل هناك مجموعة أُخرى، تبلغ بمجموعها سبع روايات، وهي:

١ -... عن ابن فضيل، عن حصين بن عبد الرحمان بن مرّة، قال: بينما نحن عند عبد الله إذ جاء ابن قرّة بكتاب، قال: (وجدته بالشام، فأعجبني فجئتك به)، قال: فنظر فيه عبد الله، ثمّ قال: (إنّما هلك مَن كان قبلكم باتّباعهم الكتب، وتركهم كتابهم) قال: ثمّ دعا بطست فيه ماء فماثه فيه ثمّ محاه(١) .

٢ -... عن عبد الرحمان بن الأسود، عن أبيه قال: أصبت أنا وعلقمة صحيفة فانطلقنا بها إلى عبد الله، فجلسنا بالباب، وقد زالت الشمس أو كادت تزول، فاستيقظ فأرسل جارية، فقال) انظري مَن بالباب) فرجعت إليه، فقالت: علقمة والأسود، فقال: ائذني لهم، فدخلنا، قال، كأنّكم قد أطلتم الجلوس في الباب؟ قالا: أجل، قال: فما منعكما أن تستأذنا، قال: خشينا أن تكون نائماً. قال: ما أحبّ أن تظنّوا بي هذا، إنّ هذه ساعة كنّا نقيسها بصلاة الليل، قلنا: هذه صحيفة فيها حديث عجيب، فقال: هاتها. يا جارية! هاتي الطست، اسكُبي فيه ماءً فجعل يمحوها بيده و يقول:( نحن نَقُصُّ عليك

____________________

(١) تقييد العلم: ٥٣. ومثله بالمعنى في سنن الدارميّ ١: ١٣٤، ح ٤٧٧.

٨٠