اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)

اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)0%

اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام
ISBN: 964- 5688-25-6
الصفحات: 202

اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: ISBN: 964- 5688-25-6
الصفحات: 202
المشاهدات: 60571
تحميل: 7121

توضيحات:

اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 202 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60571 / تحميل: 7121
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)

اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
ISBN: 964- 5688-25-6
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قال الفضل: فخفت من الله عزّ وجلّ إن جئت به إليه، ثم فكرت في النقمة، فقلت له: أفعل. فقال: ائتني بسوطَين وحصارَين(١) وجلاّدين.

قال: فأتيته بذلك ومضيت إلى منزل أبي إبراهيم موسى بن جعفرعليه‌السلام فأتيت إلى خربة فيها كوخ(٢) من جرائد النخل فإذا أنا بغلام أسود.

فقلت له: استأذن لي على مولاك يرحمك الله. فقال لي: لج(٣) ليس له حاجب ولا بوّاب. فولجت إليه، فإذا أنا بغلام أسود بيده مقص يأخذ اللحم من جبينه وعرنين أنفه من كثرة سجوده.

فقلت له: السلام عليك يا ابن رسول الله، أجب الرشيد.

فقال:ما للرشيد ومالي؟ أما تشغله نعمته عنّي؟ ثم قام مسرعاً، وهو يقول: لولا أني سمعت في خبر عن جدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّ طاعة السلطان للتقية واجبة (٤) إذن ما جئت .

ــــــــــــ

(١) آلة العصر والكبس.

(٢) بيت من قصب.

(٣) ولج البيت دخل فيه.

(٤) روى الصدوق في أماليه: ٢٧٧ / ح ٢ بإسناده عن أنس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(طاعة السلطان واجبة، ومن ترك طاعة السلطان فقد ترك طاعة الله، ودخل في نهيه،إن الله عَزَّ وجَلَّ يقول: ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) ) . البقرة (٢): ١٩٥).

١٠١

فقلت له: استعد للعقوبة يا أبا إبراهيم رحمك الله ، فقالعليه‌السلام :أليس معي من يملك الدنيا والآخرة، ولن يقدر اليوم على سوء لي إن شاء الله .

قال الفضل بن الربيع: فرأيته وقد أدار يده يلوح بها على رأسه ثلاث مرات.

فدخلت على الرشيد، فإذا هو كأنه امرأة ثكلى قائم حيران فلمّا رآني قال لي: يا فضل. فقلت: لبيك. فقال: جئتني بابن عمّي؟ قلت: نعم. قال: لا تكون أزعجته؟ فقلت: لا. قال: لا تكون أعلمته أني عليه غضبان؟ فإني قد هيّجت على نفسي ما لم أرده، أئذن له بالدخول. فأذنت له.

فلمّا رآه وثب إليه قائماً وعانقه وقال له: مرحباً بابن عمي وأخي ووارث نعمتي ، ثم أجلسه على مِخَدّة وقال له: ما الذي قطعك عن زيارتنا؟ فقالعليه‌السلام :سعة ملكك وحبّك للدنيا .

فقال: ائتوني بحقة الغالية(١) فأتي بها فغلفه بيده، ثم أمر أن يحمل بين يديه خلع وبدرتان دنانير.

قال الفضل: فتبعتهعليه‌السلام فقلت له: ما الذي قلت حتى كُفيت أمر الرشيد ؟

فقال:دعاء جدي علي بن أبي طالب عليه‌السلام كان إذا دعا به، ما برز إلى عسكر إلاّ هزمه ولا إلى فارس إلاّ قهره، وهو دعاء كفاية البلاء .

قلت: وما هو ؟

قال:قل: اللهم بك أساور، وبك أُحاول (وبك أحاور )، وبك أصول، وبك انتصر، وبك أموت، وبك أحيا، أسلمت نفسي إليك، وفوّضت أمري إليك، لا حول ولا قوّة إلاّ

ــــــــــــ

(١) الغالية: جمعها غوال: اخلاط من الطيب وتغلّى: تطيّب بالغالية.

١٠٢

بالله العلي العظيم. اللهم انك خلقتني ورزقتني وسترتني، وعن العباد بلطف ما خوّلتني أغنيتني، وإذا هويت رددتني، وإذا عثرت قوّمتني، وإذا مرضت شفيتني، وإذا دعوت أجبتني يا سيدي ارض عني فقد أرضيتني )(١) .

٢ ـ يصوّر لنا عبد الله المأمون بن الرشيد ذلك المستوى من الفهم الذي يمتلكه الرشيد إزاء الإمام. والذي اعترف به من خلال الإكرام والإجلال الذي قام به الرشيد للإمام الكاظمعليه‌السلام والذي يستبطن مدى الحقد والبغض، ويكشف هذا المشهد ثقل الإمام الشعبي الذي دفع بالرشيد إلى أن يفتعل هذا المشهد من أجل إضلال الجماهير.

قال المأمون: لقد حججت معه (الرشيد) سنة فلما صار إلى المدينة تقدم إلى حجابه وقال: لا يدخلنّ عليّ رجل من أهل المدينة ومكة من أبناء المهاجرين والأنصار وبني هاشم وسائر بطون قريش إلاّ نسب نفسه، فكان الرجل إذا أراد أن يدخل عليه يقول: أنا فلان بن فلان حتى ينتهي إلى جدّه من هاشم أو قريش وغيرهما فيدخل ويصله الرشيد بخمسة آلاف وما دونها إلى مئتي دينار على قدر شرفه وهجرة آبائه.

فبينما أنا ذات يوم واقف إذ دخل الفضل بن الربيع فقال: يا أمير المؤمنين على الباب رجل زعم أنه موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام فأقبل علينا ونحن قيام على رأسه والأمين والمؤتمن وسائر القوّاد، وقال احفظوا على أنفسكم.

ثم قال : لآذنه ائذن له ولا ينزل إلاّ على بساطي، فأنا كذلك إذ دخل شيخ قد أنهكته العبادة كأنه شن بال قد كلم السجود وجهه وأنفه، فلما رأى الرشيد رمى بنفسه عن حمار كان يركبه فصاح الرشيد: لا والله إلاّ على بساطي فمنعه الحجّاب من الترجّل، ونظرنا إليه بأجمعنا بالإجلال والإعظام، فما زال يسير على حماره حتى سار إلى البساط والحجّاب والقوّاد محدقون به.

ــــــــــــ

(١) عيون أخبار الرضا: ١ / ٧٦، ح ٥ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨ / ٢١٥، ح١٦.

١٠٣

فنزل وقام إليه الرشيد واستقبله إلى آخر البساط وقبّل وجهه ورأسه وأخذ بيده حتى جرّه في صدر المجلس وأجلسه معه وجعل يحدّثه ويقبل عليه ويسأله عن أحواله.

ولمّا قام الرشيد لقيامه وودّعه، ثم أقبل عليّ وعلى الأمين والمؤتمن، وقال: يا عبد الله ويا محمد ويا إبراهيم: سيروا بين يدي عمّكم وسيدّكم وخذوا بركابه وسوّوا عليه ثيابه(١) .

٣ ـ قال المأمون: فلمّا خلا المجلس قلت: يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي عظمته وأجللته، وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته، وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له ؟ !

قال: هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده.

فقلت: يا أمير المؤمنين أوليست هذه الصفات كلّها لك وفيك ؟ !

فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق.

والله يا بنيّ إنه لأحقّ بمقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مني ومن الخلق جميعاً، والله

ــــــــــــ

(١) عيون أخبار الرضا: ١ / ٨٨، ح ١ ، بحار الأنوار: ٤٨ / ١٢٩، ح ٤ ، وحلية الأبرار: ٢ / ١٦٩ ، ومدينة المعاجز: ٤٤٩ ح٧٤ ، ومستدرك الوسائل: ٢ / ٥٢. إثبات الهداة: ٥ / ٥١١، ح٢٩.

١٠٤

لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك فإن الملك عقيم(١) .

ونلاحظ أن هذا التصريح من الرشيد والاعتراف بحقانية إمامة الكاظمعليه‌السلام كان أمراً سرياً.

٤ ـ قال المأمون: فلما أراد الرشيد الرحيل من المدينة إلى مكة أمر بصرّة فيها مئتا دينار، ثم أقبل على الفضل بن الربيع فقال له: اذهب بهذه إلى موسى بن جعفرعليه‌السلام وقل له: يقول لك أمير المؤمنين نحن في ضيق وسيأتيك برّنا بعد هذا الوقت.

فقمت في صدره فقلت: يا أمير المؤمنين تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وسائر قريش، وبني هاشم، ومن لا يعرف حسبه ونسبه خمسة الآف دينار إلى ما دونها وتعطي موسى بن جعفر ـ وقد أعطيته مئتي دينار ـ أخسّ عطية أعطيتها أحداً من الناس ؟ !

فقال: اسكت لا أمّ لك، فإني لو أعطيت هذا ما ضمنته له، ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غداً بمئة ألف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وأعينهم(٢) .

الطائفة الثانية:

نختار في هذه الطائفة ما يصوّر لنا أساليب الرشيد مع الإمام والتي يبتغي من ورائها إحراج الإمام مرّة والاستهانة به مرّة أُخرى لعله يعجزه أمام الناس ويثبت لهم فشله وعدم جدارته.

ــــــــــــ

(١) عيون أخبار الرضا: ١ / ٨٨ / ح١١ ، وبحار الأنوار: ٤٨ / ١٢٩ / ح ٤ ، ومدينة المعاجز: ٤٩٩ / ح٧٤ ، وحلية الأبرار: ٢ / ٢٦٩ ، وإثبات الهداة: ٥ / ٥١١ / ح٢٩ ، ومستدرك الوسائل: ٢ / ٥٢، ح٥.

(٢) عيون أخبار الرضا: ١/٨٨ ح ١١، البحار: ٤٨/١٢٩ ح ٤.

١٠٥

ولنرى موقف الإمامعليه‌السلام إزاء هذه الإحراجات والاستهانات وكيف تخلّص منها منتصراً.

١ ـ من أساليب الرشيد مع الإمامعليه‌السلام التي كان يهدف منها تخويف الإمامعليه‌السلام واستضعافه ، هو اتهامه بأعمال سياسية محظورة بنظر الخلافة، مثل جبابة الخراج.

وعن هذا الاتهام يحدّثنا الإمام موسىعليه‌السلام نفسه حيث يقول:(لمّا أدخلت على الرشيد سلّمت عليه فردّ عليّ السلام ثم قال: يا موسى بن جعفر خليفتين يُجبى إليهما الخراج ؟! فقلت: يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تبوء بإثمي وإثمك، وتقبل الباطل من أعدائنا علينا، فقد علمت أنه قد كُذب علينا منذ قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما عِلمُ ذلك عندك، فإن رأيت بقرابتك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تأذن لي أحدثك بحديث أخبرني به أبي، عن آبائه، عن جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! فقال: قد أذنت لك فقلت: أخبرني أبي عن آبائه عن جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال: إنّ الرحم إذا مسّت الرحم تحرّكت واضطربت) . ثم سأله الرشيد عن أفضلية أهل البيت (أولاد علي) على بني العباس فأجابه الإمامعليه‌السلام عن الأدلة على هذا التفضيل بعد أن أخذ منه الأمان. ثم أطلق سراحه)(١) .

وإليك نصّ ما دار بين الإمامعليه‌السلام وبين الرشيد كما رواه الصدوق:

قال الرشيد للإمامعليه‌السلام :

(أريد أن أسألك عن أشياء تتلجلج في صدري منذ حين، لم أسأل عنها أحداً فإن أنت أجبتني عنها خلّيت عنك، ولم أقبل قول أحد فيك، وقد بلغني أنّك لم تكذب قطّ فاصدقني عمّا أسألك ممّا في قلبي.

فقلت: ما كان علمه عندي فإنّي مُخبرك به إن أنت آمنتني؟ قال: لك الأمان إن صدقتني وتركت التقيّة التي تعرفون بها معشر بني فاطمة.

فقلت : ليسأل أمير المؤمنين عمّا شاء؟ قال: أخبرني لم فضّلتم علينا ونحن وأنتم من شجرة واحدة وبنو عبد المطلب ونحن وأنتم واحد، أنّا بنو العبّاس وأنتم ولد أبي طالب، وهما عمّا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقرابتهما منه سواء ؟

فقلت: نحن أقرب.

قال: وكيف ذلك ؟

ــــــــــــ

(١) عيون أخبار الرضا: ١ / ٨١، ح٩ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨ / ١٢٥.

١٠٦

قلت: لأن عبد الله وأبا طالب لأب وأمّ وأبوكم العبّاس ليس هو من أم عبد الله، ولا من أمّ أبي طالب .

قال: فلم ادّعيتم أنّكم ورثتم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ والعمّ يحجب ابن العمّ ، وقبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد توفي أبو طالب قبله، والعبّاس عمه حيّ؟

فقلت له: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني من هذه المسألة ويسألني عن كلّ باب سواه يريده .

فقال: لا أو تجيب.

فقلت: فآمنّي؟

قال: قد آمنتك قبل الكلام.

فقلت: إنّ في قول علي بن أبي طالبعليه‌السلام إذن ليس مع ولد الصّلب ذكراً كان أو أنثى لأحد سهم إلاّ للأبوين والزوج والزوجة، ولم يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث، ولم ينطق به الكتاب، إلاّ أنّ تيماً وعدياً وبني أمية قالوا: العم والد رأياً منهم بلا حقيقة، ولا أثر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ومن قال بقول عليعليه‌السلام من العلماء قضاياهم خلاف قضايا هؤلاء، هذا نوح بن درّاج يقول في هذه المسألة بقول عليعليه‌السلام وقد حكم به، وقد ولاّه أمير المؤمنين المصرين الكوفة والبصرة، وقد قضى به فأنهي إلى أمير المؤمنين فأمر بإحضاره وإحضار من يقول بخلاف قوله منهم سفيان الثوري، وإبراهيم المدني والفضيل بن عيّاض فشهدوا أنه قول عليعليه‌السلام في هذه المسألة فقال لهم ـ فيما أبلغني بعض العلماء من أهل الحجاز ـ: فلم لا تفتون به وقد قضى به نوح بن درّاج؟ فقالوا جسر نوح وجبنا وقد أمضى أمير المؤمنين قضّيته بقول قدماء العامة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: علي أقضاكم، وكذلك قال عمر بن الخطاب : علي أقضانا، وهو اسم جامع لأن جميع ما مدح به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه من القراءة والفرائض والعلم داخل في القضاء.

قال: زدني يا موسى.

قلت: المجالس بالأمانات وخاصّة مجلسك؟

فقال: لا بأس عليك.

فقلت: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يورّث من لم يُهاجر، ولا أثبت له ولاية حتّى يهاجر.

فقال: ما حجّتك فيه؟

١٠٧

قلت: قول الله تبارك وتعالى: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ) (١) وإنّ عمّي العبّاس لم يُهاجر.

فقال لي: أسألك يا موسى هل أفتيت بذلك أحداً من أعدائنا؟ أم أخبرت أحداً من الفقهاء في هذه المسألة بشيء ؟

فقلت: اللهم لا، وما سألني عنها إلاّ أمير المؤمنين.

ثم قال: لم جوّزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقولون لكم: يا بني رسول الله، وأنتم بنو علي وإنما يُنسب المرء إلى أبيه وفاطمة إنما هي وعاء، والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جدّكم من قبل أمكم؟

فقلت: يا أمير المؤمنين لو أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نُشر فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه؟

فقال: سبحان الله ولم لا أجيبه ؟ ! بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك.

فقلت: لكنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يخطب إلي ولا أزوجه.

فقال: ولم ؟

فقلت: لأنه ولدني ولم يلدك.

فقال: أحسنت يا موسى.

ثم قال: كيف قلتم إنا ذريّة النبي، والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعقب؟ وإنما العقب للذكر لا للأنثى، وأنتم ولد الابنة، ولا يكون لها عقب؟

فقلت: أسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه إلاّ ما أعفيتني عن هذه المسألة.

ــــــــــــ

(١) الأنفال (٨): ٧٢.

١٠٨

فقال: لا أوتخبرني بحجّتكم فيه يا ولد علي، وأنت يا موسى يعسوبهم ، وإمام زمانهم، كذا أُنهي إليَّ، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه، حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب الله، فأنتم تدّعون معشر ولد علي أنّه لا يسقط عنكم منه شيء (ألف ولا واو) إلاّ وتأويله عندكم، واحتججتم بقوله عَزَّ وجَلَّ : ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) (١) وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم.

فقلت: تأذن لي في الجواب؟

قال: هات.

فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى ... ) (٢) من أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟.

فقال: ليس لعيسى أب.

فقلت: إنما ألحقناه بذراري الأنبياءعليهم‌السلام من طريق مريمعليها‌السلام ، وكذلك ألحقنا بذراري النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل أمّنا فاطمةعليها‌السلام . أزيدك يا أمير المؤمنين ؟

قال: هات.

قلت: قول الله عَزَّ وجَلَّ : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ

ــــــــــــ

(١) الانعام (٦): ٣٨.

(٢) الأنعام (٦): ٨٤ ـ ٨٥.

١٠٩

أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (١) ولم يدّع أحد أنّه أدخل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت الكساء عند مباهلة النصارى إلاّ علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ، فكان تأويل قوله عَزَّ وجَلَّ أبناءنا: الحسن والحسين، ونساءنا: فاطمة، وأنفسنا: علي بن أبي طالب.

إنّ العلماء قد أجمعوا على أنّ جبرئيل قال يوم أُحد: يا محمد ، إنّ هذه لهي المواساة من علي قال: لأنّه منّي وأنا منه ، فقال جبرئيل: وأنا منكما يا رسول الله ، ثمّ قال: (لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي)، فكان كما مدح الله عَزَّ وجَلَّ به خليلهعليه‌السلام إذ يقول:( فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ) (٢) إنا معشر بني عمك نفتخر بقول جبرئيل أنّه منّا.

فقال: أحسنت يا موسى ارفع إلينا حوائجك.

فقلت له: أوّل حاجة أن تأذن لابن عمك أن يرجع إلى حرم جدّهعليه‌السلام وإلى عياله.

فقال: ننظر إن شاء الله) (٣) .

٢ ـ اتّهام الإمام بانحرافات فكرية لكسر هيبة الإمامعليه‌السلام وتبرير اضطهاده.

قال هارون للإمام الكاظمعليه‌السلام : (بقي مسألة تخبرني بها ولا تضجر.

فقال له الإمامعليه‌السلام :سل . فقال: خبّروني أنكم تقولون أن جميع المسلمين عبيدنا، وجوارينا، وأنّكم تقولون: من يكون لنا عليه حق ولا يوصله إلينا فليس بمسلم.

ــــــــــــ

(١) آل عمران (٣): ٦١.

(٢) الأنبياء (٢١): ٦٠.

(٣) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام : ١ / ٨١.

١١٠

فقال له موسىعليه‌السلام :كذب الذين زعموا أننا نقول ذلك، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يصح البيع والشراء عليهم ونحن نشتري عبيداً وجواري ونقعد معهم ونأكل معهم ونشتري المملوك ونقول له: يا بنيّ، وللجارية: يا بنتي ونقعدهم يأكلون معنا تقرّباً إلى الله سبحانه فلو أنهم عبيدنا وجوارينا ما صح البيع والشراء ... )(١) .

٣ ـ هناك محاولة أخرى لإحراج الإمامعليه‌السلام والاستهانة به وكانت في مجلس هارون الرشيد حينما حضره حكيم هندي، ويبدو أن الرشيد قد قصد حضور هذا الحكيم الهندي مع الإمام وخطط لإدانة الإمام عمليّاً. كما يبدو ذلك من خلال تعليقة الرشيد بعد استسلام الحكيم الهندي لعلم الإمامعليه‌السلام .

(حضر مجلس الرشيد هنديّ حكيم، فدخل الإمام الكاظمعليه‌السلام فرفع الرشيد مقامه، فحسده الهندي وقال: اغتنيت بعلمك عن غيرك، فكنت كما قال تعالى: ( ككَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ) (٢) .

فقالعليه‌السلام :أخبرني، الصور الصدفية إذا تكاملت فيها الحرارة الكلية، وتواترت عليها الحركات الطبيعية، واستحكمت فيها القوى العنصرية، صارت اخصاصاً عقلية، أم أشباحاً وهميّة ؟

فبهت الهندي وقبّل رأس الإمامعليه‌السلام وقال: كلّمتني بكلام لاهوت، من جسم ناسوت.

فقال الرشيد: كلما أردنا أن نضع أهل هذا البيت أبى الله إلاّ أن يرفعه.

فقالعليه‌السلام :( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ

ــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٨ / ١٤٦.

(٢) العلق (٩٦): ٦ ـ ٧.

١١١

الْكَافِرُونَ ) )(١)(٢) .

٤ ـ يُبرز لنا هذا المشهد إحدى محاولات الاغتيال التي كان قد أعدّها الرشيد للإمام موسىعليه‌السلام وفشلها بالتسديد الإلهي.

لمّا همّ هارون الرشيد بقتل الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام دعا الفضل بن الربيع وقال له: قد وقعت لي إليك حاجة أسألك أن تقضيها ولك مئة ألف درهم.

قال: فخرّ الفضل عند ذلك ساجداً وقال، أمرٌ أم مسألة؟ قال: بل مسألة.

ثم قال: أمرت بأن تحمل إلى دارك في هذه الساعة مئة ألف درهم، وأسألك أن تصير إلى دار موسى بن جعفر وتأتيني برأسه.

قال الفضل : فذهبت إلى ذلك البيت فرأيت فيه موسى بن جعفر وهو قائم يصلي ، فجلست حتى قضى صلاته ، وأقبلعليه‌السلام إلي وتبسّم وقال :(عرفت لماذا حضرت ، أمهلني حتى أصلي ركعتين) .

قال: فأمهلته فقام وتوضأ فأسبغ الوضوء، وصلّى ركعتين وأتمّ الصلاة بحسن ركوعها وسجودها، وقرأ خلف صلاته بهذا الحرز فاندرس وساخ في مكانه، فلا أدري أأرض ابتلعته؟ أم السماء اختطفته؟

فذهبت إلى هارون وقصصت عليه القصة. قال: فبكى هارون، ثم قال: قد أجاره الله مني(٣) .

ــــــــــــ

(١) الصف: (٦١): ٨.

(٢) عوالم العلوم: الإمام موسى بن جعفر: ١/٣١٤ ، عن الصراط المستقيم: ٢/١٩٤.

(٣) بحار الأنوار: ٩٤ / ٣٣٢ عن مهج الدعوات: ٣٠ ـ ٣٣، وعوالم العلوم (الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام ): ٢٨٤.

١١٢

الفصل الثّاني: موقف الإمام الكاظمعليه‌السلام من حكم الرشيد

لقد استعرضنا أساليب الرشيد وسياسته الظالمة مع الإمامعليه‌السلام ، والآن نريد الحديث عن موقف الإمامعليه‌السلام قبال هذه السياسة.

الإمامعليه‌السلام وسياسة الرشيد

إنّ سيرة الإمامعليه‌السلام ومواقفه من الرشيد لم تكن استسلامية بل كان الإمامعليه‌السلام صلباً في مواقفه يتحدّى بها الرشيد، وان كان في بعضها شيء من المرونة في بعض الأحيان وذلك لمعرفة الإمامعليه‌السلام به وبنواياه فكان يراعي في مواقفه المصالح العليا.

ونختار بعض المشاهد التي تعبّر عن حقيقة موقف الإمامعليه‌السلام من حكومة الرشيد.

المشهد الأوّل: عن محمد بن طلحة الأنصاري قال: كان مما قال هارون لأبي الحسنعليه‌السلام حين أُدخل عليه: (ما هذه الدار؟ فقالعليه‌السلام :هذه دار الفاسقين، قال الله تعالى: ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ) (١) . فقال له هارون: فدار من هي؟ قالعليه‌السلام :هي لشيعتنا فترة ولغيرهم فتنة . قال: فما بال صاحب الدار لا يأخذها؟ فقال:أخذت منه عامرة ولا يأخذها إلا معمورة . قال: فأين شيعتك ؟ فقرأ أبو الحسنعليه‌السلام :( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ) (٢) . قال: فقال له: فنحن كفار؟ قالعليه‌السلام :لا ، ولكن كما قال الله: ( الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) (٣) . فغضب عند ذلك وغلظ عليه إذ قد لقيه أبو الحسنعليه‌السلام بمثل هذه المقالة، وما رهبه وهذا خلاف قول من زعم أنه هرب منه من الخوف(٤) .

المشهد الثاني:عن الإمام الكاظم عليه‌السلام قال: (قال لي هارون: أتقولون أن الخمس لكم؟

قلت:نعم . قال: إنه لكثير. قال:قلت: إنّ الذي أعطاناه علم أنه لنا غير كثير )(٥) .

ــــــــــــ

(١) الأعراف (٧): ١٤٦.

(٢) البينة (٩٨): ١.

(٣) إبراهيم (١٤): ٢٨.

(٤) تفسير العياشي: ٢/٢٩ الأذيلة وعنه في بحار الأنوار: ٤٨/١٣٨، ح ١٣ والاختصاص: ٢٥٦، بحار الأنوار: ٤٨ / ١٥٦.

(٥) بحار الأنوار: ٤٨ / ١٥٨ عن كتاب الاستدارك.

١١٣

المشهد الثالث:إنّ هارون الرشيد كان يقول لموسى بن جعفر عليه‌السلام : (حُدّ فدكاً حتى أردّها إليك، فيأبى حتى ألحّ عليه.

فقالعليه‌السلام :لا آخذها إلاّ بحدودها. قال: وما حدودها؟ قالعليه‌السلام :إن حددتها لم تردّها . قال: بحق جدّك إلاّ فعلت. قالعليه‌السلام :أمّا الحد الأول فعدن . فتغير وجه الرشيد وقال: إيهاً. قالعليه‌السلام :والحد الثاني سمرقند . فأربدّ وجهه. قالعليه‌السلام :والحدّ الثالث أفريقية . فأسودّ وجهه وقال: هيه قالعليه‌السلام :والرابع سيف البحر مما يلي الجزر وأرمينيه . قال الرشيد: فلم يبق لنا شيء، فتحوّل إلى مجلسي! قال موسىعليه‌السلام :قد أعلمتك أنني أن حددتها لم تردّها . فعند ذلك عزم على قتله)(١) .

المشهد الرابع: ولمّا دخل هارون الرشيد المدينة توجّه لزيارة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه الناس فتقدم الرشيد إلى قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال: السلام عليك يا رسول الله يا ابن عمّ، مفتخراً بذلك على غيره فتقدم أبو الحسنعليه‌السلام فقال:(السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبه) فتغير وجه الرشيد وتبيّن الغيظ فيه)(٢) .

الإمامعليه‌السلام والجماعة الصالحة

بعد أن عرفنا موقف الإمام موسىعليه‌السلام من الرشيد، بقي أن نعرف نشاطه ولا سيّما فيما يخصّ الجماعة الصالحة حيث كان الإمامعليه‌السلام قد قطع أشواطاً في منهجه التربوي في مراحل سابقة، فلابد أن يواصل بناءه في هذه المرحلة، لتعميق ما أسس له سابقاً، ولتوجيه الطاقات باتجاه الأهداف الكبرى التي كان يسعى لها الأئمةعليهم‌السلام من تأصيل الامتداد الشيعي فيوسط الأُمة، وامتلاكه القدرة على مواجهة التحدّيات والوقوف أمام عمليات الإبادة التي بدأ الخلفاء بالتخطيط لها كلما شعروا بتوسيع دائرة أتباع الأئمةعليهم‌السلام وقد لاحظنا هارون يصرّح بأنه لو أعطى الإمام عطاءه اللائق به لم يأمن أن يشهر الإمام ضدّه مائة ألف سيف لإزالة ملكه.

ونطالع نشاط الإمامعليه‌السلام في عدة مجالات:

المجال السياسي:

قام الإمام موسىعليه‌السلام بعدة خطوات تربوية مع شيعته في هذا المجال.

ــــــــــــ

(١) تاريخ بغداد: ١٣ / ٣١ وعنه في تذكرة الخواص: ٣١٣ وفي مناقب آل أبي طالب: ٤/٣٤٦ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨/١٤٤.

(٢) كامل الزيارات: ١٨ ب ٣ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨/١٣٦، وفي مناقب آل أبي طالب: ٤/٣٤٥.

١١٤

الخطوة الأولى: تأكيد الانتماء السياسي لخطّ أهل البيت:

إنّ خطّ أهل البيتعليهم‌السلام ومنهجهم هو خط الرفض للظلم والظالمين، ولقد تشددعليه‌السلام على محبيه وشيعته وحرّم عليهم الانفتاح أو التعاون مع السلطات العباسية الظالمة، وأخذ يعمّق في نفوسهم النزاهة والدقة في رفض الظلم، ليمتلكوا وعياً سياسياً يحصّنهم من الانجراف مع التيار الحاكم أو الاستجابة لمخططات الاحتواء بشكل وآخر.

إنّ موقفهعليه‌السلام مع صفوان الجمّال يكشف دقّة المنهج التربوي عند الإمام مع شيعته في هذه المرحلة وتصعيد الإمامعليه‌السلام لمستوى المواجهة مع الجهاز الحاكم من جهة وحرصه على تفتيت دعائم الحكم القائم حيث أخذ الرشيد يحصي على أهل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم أنفاسهم ويخطط لإبادتهم.

دخل صفوان بن مهران الأسدي على الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام فقال له:

(يا صفوان، كل شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً) . قال: جعلت فداك، أي شيء هو؟ قالعليه‌السلام :إكراؤك جمالك من هذا الرجل ، يعني هارون الرشيد! قال: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً، ولا للصيد، ولا للهو ، ولكن لهذا الطريق ـ يعني طريق مكة ـ ولا أتولاّه بنفسي ولكن أبعث معه غلماني. قالعليه‌السلام :يا صفوان أيقع كراك عليهم؟ قال: نعم جعلت فداك. قالعليه‌السلام :أتحب بقاءهم حتى يخرج كراك؟ قال: نعم. قالعليه‌السلام :من أحب بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم فهو وارد للنار . وقام صفوان في الوقت فباع جماله وأعرض عن مهنته فبلغ ذلك هارون فأرسل خلفه، فلما مثل عنده قال له ـ وهو يتميّز من الغيظ ـ: يا صفوان! بلغني أنك بعت جمالك، قال: نعم قال: ولم؟ قال: أنا شيخ كبير ، وإنّ الغلمان لا يفون بالأعمال. قال: هيهات هيهات !! إني لأعلم من أشار عليك بهذا، أشار عليك موسى بن جعفر. قال: مالي ولموسى بن جعفر. قال: دع عنك هذا، فوالله لولا حسن صحبتك لقتلتك)(١) .

الخطوة الثانية: التأكيد على مبدأ التقية:

ومن الخطوات التي خطاها الإمام موسىعليه‌السلام مع شيعته هو التشديد على أهمية الالتزام بالتقية كقيمة تحصينية، تحافظ على الوجود الشيعي وتقيه من الضربات الخارجية.

ــــــــــــ

(١) رجال النجاشي: ١٩٨ برقم ٥٢٥، وكان من موالي بني أسد بالكوفة. والخبر من اختيار معرفة الرجال: ٤٤٠ ح ٨٢٨.

١١٥

روى معمّر بن خلاد قال: سألت أبا الحسن موسىعليه‌السلام عن القيام للولاة، فقالعليه‌السلام :قال أبو جعفر عليه‌السلام : التقية ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له (١) .

وحدّث درست بن أبي منصور، قال: كنت عند أبي الحسن موسىعليه‌السلام وعنده الكميت بن زيد، فقال له الإمامعليه‌السلام :أنت الذي تقول:

فالآن صرت إلى أمية =والأمور إلى مصائر

فقال الكميت: قد قلت ذلك ، والله ما رجعت عن إيماني، وإني لكم لموال ولعدوكم لقال، ولكن قد قلته على التقية فقالعليه‌السلام :(إن التقية لتجوز على شرب الخمر) (٢) .

الخطوة الثالثة: النفوذ في الجهاز الحاكم

ونشط الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام عن طريق أصحابه، بالنفوذ والاندساس في مواقع السلطة، فقد تصدّر أصحاب الإمامعليه‌السلام مواقع سياسية مهمّة في الحكومة العبّاسية ، وكان الإمامعليه‌السلام يُثني ويثمن عمل هؤلاء ، لكن كان يشترط التعاون وقضاء حوائج المؤمنين وإلا فإنه ينتفي غرض المهمة.

وإليك قائمة بأسماء أصحاب الإمامعليه‌السلام الذين شغلوا مواقع مهمّة في السلطة العبّاسية، وكانوا من أعاظم العلماء وأجلاّئهم منهم:

١ ـ علي بن يقطين: نشأ يقطين بالكوفة وكان يبيع الأبزار وكان يقول بالإمامة، وقد اتّصل بأبي العباس السفاح والمنصور والمهدي، ولمّا انتقل يقطين إلى دار الحق قام ولده علي مقامه فاتّصل اتصالاً وثيقاً بالعبّاسيين، وتولّى المناصب المهمّة في الدولة وكان عوناً للمؤمنين، وقام بتزويج عدد منهم وكان يعيل قسماً كبيراً منهم.

ــــــــــــ

(١) الوسائل: ١٦/٢٠٤ رقم ح ٢١٣٥٩ باب ٢٤ كتاب الأمر والنهي.

(٢) اختيار معرفة الرجال: ١/٤٦٥، ح ٣٦٤.

١١٦

فقد حدّث سليمان كاتبه فقال: أحصيت لعلي من يحجّ عنه في عام واحد مئة وخمسين رجلاً أقلّ من أعطاه منهم سبعمئة درهم وأكثر من أعطاه عشرة آلاف درهم وزوّج ثلاثة أو أربعة من أولاد الإمام الكاظمعليه‌السلام وانفق أموالاً ضخمة في وجوه البرّ والإحسان. وتقلّد أعلى منصب في أيام المهدي ومن بعده عيّنه هارون وزيراً له(١) وكان على اتّصال سرّي ودائم مع الإمامعليه‌السلام .

٢ ـ حفص بن غياث الكوفي ، ولي القضاء ببغداد الشرقية من قبل هارون ثم تولّى قضاء الكوفة وتوفي سنة (١٩٤ هـ)(٢) .

٣ ـ عبد الله بن سنان بن طريف، كان خازناً للمنصور والمهدي والهادي والرشيد(٣) .

٤ ـ الفضل بن سليمان الكاتب البغدادي، كان يكتب للمنصور والمهدي(٤) .

٥ ـ محمد بن إسماعيل بن بزيع من صلحاء الطائفة ومن عيونها وأحد

ــــــــــــ

(١) اختيار معرفة الرجال: ٤٣٠ ح ٨٠٥ و ٤٣٣ ح ٨١٥ و ٤٣٤، ح ٨١٩ و ٨٢٠ و ٤٣٧، ح ٨٢٤، والفهرست لابن النديم: ٣٢٨.

(٢) رجال النجاشي: ١٣٤ برقم ٣٤٦ وفي الكشي: ٣٩٠ ح ٧٣٢ قال: هو عامّي وفي تنقيح المقال: ١ / ٣٥٥.

(٣) اختيار معرفة الرجال: ٤١١ ح ٧٧١ و في النجاشي: ٢١٤ برقم ٥٥٨ من موالي بني العباس، وجامع الرواة: ١ / ٤٨٧.

(٤) النجاشي: ٣٠٦ رقم ٨٣٧.

١١٧

رواة حديث الإمام موسىعليه‌السلام كان، مولى للمنصور وأحد وزراء الدولة العبّاسية(١) .

٦ ـ الحسن بن راشد مولى بني العبّاس: كان وزيراً للمهدي وموسى الهادي وهارون الرشيد(٢) .

لقد كان هؤلاء بعض أصحاب الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام ورواة حديثه.

ومن هنا نستطيع أن نقدّر مدى حنكة الإمامعليه‌السلام وتخطيطه للمحافظة على المواقع المهمة لأبناء الجماعة الصالحة في جهاز السلطة من إقرار فضلاء صحابته على قبولهم ولاية الحاكم الجائر فإنّهم أعلم بهذا الخط وشؤونه من عامة المؤمنين.

المجال التربوي:

إنّ وصايا الإمام الكاظمعليه‌السلام وتوجيهاته لشيعته تلاحظ حاجة الواقع الموجود لإكمال بناء هذه الجماعة الصالحة باتّجاه الأهداف النهائية التي رسمها أهل البيتعليهم‌السلام لها.

ومن هنا نجد الإمامعليه‌السلام يتابع شيعته ويشرف على تكامل بناء هذه الجماعة وأفرادها فيقوم بتطبيق ما يدعو إليه عملياً لتشكل خطواته نموذجاً ومناراً يهتدي به أبناء مدرسته. ولهذا المجال يمكن أن نستشهد بعدّة أمثلة:

المثال الأول: (موقفهعليه‌السلام من علي بن يقطين عندما أراد أحد المؤمنين أن يدخل على علي بن يقطين ولم يأذن له لنلاحظ تعبير الإمام (بأخيك) ليؤكد أن وجودك يا علي في هذا المنصب هو لخدمة هؤلاء لا لشيء ، ومن هنا أذن له الإمام بالبقاء ، بل أمره بالبقاء عندما أراد أن يعتزل من هذا الموقع. عن محمد بن علي الصوفي قال: استأذن إبراهيم الجمّال (رضي الله عنه) على أبي الحسن علي بن يقطين الوزير فحجبه.

فحجّ علي بن يقطين في تلك السنة فاستأذن بالمدينة على مولانا موسى بن جعفرعليه‌السلام فحجبه. فرآه ثاني يومه فقال علي بن يقطين: يا سيدي ما ذنبي؟ فقالعليه‌السلام :حجبتك لأنك حجبت أخاك إبراهيم الجمّال وقد أبى الله أن يشكر سعيك أو يغفر لك إبراهيم الجمّال .

فقلت: سيدي ومولاي من لي بإبراهيم الجمّال في هذا الوقت وأنا بالمدينة وهو بالكوفة؟

فقالعليه‌السلام :إذا كان الليل فامض إلى البقيع وحدك من غير أن يعلم بك أحد من أصحابك وغلمانك واركب نجيباً هناك مسرّجاً .

ــــــــــــ

(١) اختيار معرفة الرجال: ٥٦٤ ح ١٠٦٥ وفي رجال النجاشي: ٣٣٠ برقم ٨٩٣.

(٢) انظر ترجمته في فهرست أعلام الكشي: ٢٦ في أخبار عديدة. وفي النجاشي: ٣٨ برقم ٧٦ وفى منهج المقال: ٩٨.

١١٨

قال: فوافى البقيع وركب النجيب ولم يلبث أن أناخه على باب إبراهيم الجمّال بالكوفة.

فقرع الباب وقال: أنا علي بن يقطين

فقال إبراهيم الجمّال من داخل الدار: وما يعمل علي بن يقطين الوزير ببابي؟!

فقال علي بن يقطين: يا هذا إنّ أمري عظيم وآلى عليه أن يأذن له، فلمّا دخل قال: يا إبراهيم إنّ المولىعليه‌السلام أبى أن يقبلني أو تغفر لي، فقال: يغفر الله لك.

فآلى علي بن يقطين على إبراهيم الجمّال أن يطأ خدّه فامتنع إبراهيم من ذلك فآلى عليه ثانياً ففعل.

فلم يزل إبراهيم يطأ خده وعلي بن يقطين يقول: اللّهم أشهد، ثم انصرف وركب النجيب، وأناخه في ليلته بباب المولى موسى بن جعفرعليه‌السلام بالمدينة فأذن له ودخل عليه فقبله)(١) .

المثال الثاني: حرص الإمام موسىعليه‌السلام على قضاء حوائج المؤمنين واهتم بها وهو في أحلك الظروف وأشدّها قساوة، فقد حثّ الشيعة على التمسك بهذا المبدأ الأخلاقي، بل أمر بعض الخواص بالبقاء في جهاز السلطة الظالمة لأجل قضاء حوائج المؤمنين.

من هنا ندرك مستوى اهتمامه ومدى سعيه لتحقيق هذا المبدأ في فكر وسلوك أبناء الجماعة الصالحة.

عن محمد بن سالم قال: (لمّا حمل سيدي موسى بن جعفرعليه‌السلام إلى هارون جاء إليه هشام بن إبراهيم العباسي، فقال له: يا سيدي قد كُتب لي صك إلى الفضل بن يونس تسأله أن يروح أمري.

قال: فركب إليه أبو الحسنعليه‌السلام فدخل عليه حاجبه فقال: يا سيدي! أبو الحسن موسى بالباب فقال: فإن كنت صادقاً فأنت حرّ ولك كذا وكذا!

فخرج الفضل بن يونس حافياً يعدو حتى خرج إليه: فوقع على قدميه يُقبّلهما ثم سأله أن يدخل، فدخل فقال له:اقض حاجة هشام بن إبراهيم )، فقضاها(٢) .

ــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٨ / ٨٥ ، ح ١٠٥ عن عيون المعجزات: ٩٠.

(٢) اختيار معرفة الرجال: ٥٠٠ ح ٩٥٧ وكان الفضل من الشيعة فطلبتهم السلطة فاختفى وكتب كتاباً على مذهب الراوندية العبّاسية بإثبات الإمامة للعباس فدسّه إلى السلطان فآمنه واستعمله. بحار الأنوار: ٤٨ / ١٠٩.

١١٩

المثال الثالث: تسديد الإمامعليه‌السلام لمهمة علي بن يقطين ودعمه له:

روي عن علي بن يقطين: (أنه كتب إلى موسى بن جعفرعليه‌السلام : اُختلف في المسح على الرجلين، فإن رأيت أن تكتب ما يكون عملي عليه فعلت. فكتب أبو الحسنعليه‌السلام :(الذي آمرك به أن تتمضمض ثلاثاً وتستنشق ثلاثاً، وتغسل وجهك ثلاثاً، وتخلّل شعر لحيتك ثلاثاً، وتغسل يديك ثلاثاً، وتمسح ظاهر أذنيك وباطنها وتغسل رجليك ثلاثاً، ولا تخالف ذلك إلى غيره) ، فامتثل أمره وعمل عليه.

فقال الرشيد: أحبّ أن أستبرئ أمر علي بن يقطين، فإنهم يقولون إنه رافضي، والرافضة يخففون في الوضوء. فناطه بشيء من الشغل في الدار، حتى دخل وقت الصلاة، ووقف الرشيد وراء حائط الحجرة بحيث يرى علي بن يقطين ولا يراه هو، وقد بعث إليه بالماء للوضوء فتوضّأ كما أمره موسىعليه‌السلام .

فقام الرشيد وقال: كذب من زعم أنك رافضي.

فورد على علي بن يقطين كتاب موسى بن جعفرعليه‌السلام توضأ من الآن كما أمر الله:اغسل وجهك مرّة فريضة، والأخرى إسباغاً، فاغسل يديك من المرفقين كذلك، وامسح مقدّم رأسك، وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك، فقد زال ما يخاف عليك )(١) .

وعن ابن سنان (أنّ الرشيد حمل في بعض الأيام إلى علي بن يقطين ثياباً أكرمه بها وكان في جملتها دراعة خز سوداء من لباس الملوك مثقلة بالذهب.

فأنفذ علي بن يقطين جل تلك الثياب إلى أبي الحسن موسى ابن جعفرعليه‌السلام وأنفذ في جملتها تلك الدراعة، وأضاف إليها مالاً كان أعدّه له على رسم له فيما يحمله إليه من خمس ماله. فلمّا وصل ذلك إلى أبي الحسن قبل المال والثياب، وردّ الدراعة على يد الرسول إلى علي بن يقطين وكتب إليه:أن احتفظ بها، ولا تخرجها عن يدك ، فسيكون لك بها شأن، تحتاج إليها معه ، فارتاب علي بن يقطين بردّها عليه، ولم يدر ما سبب ذلك، فاحتفظ بالدراعة فلمّا كان بعد أيّام تغيّر علي بن يقطين على غلام كان يختص به فصرفه عن خدمته، وكان الغلام يعرف ميل علي بن يقطين إلى أبي الحسنعليه‌السلام ويقف على ما يحمله إليه في كل وقت من مال وثياب وألطاف وغير ذلك.

ــــــــــــ

(١) الإرشاد: ٢/٢٢٧ ـ ٢٢٩ وعنه في إعلام الورى: ٢/٢١، ٢٢ وكشف الغمة: ٣/١٥ ـ ١٧ وفي الخرائج والجرائح: ١/٣٣٥ ح ٢٦ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨/١٣٦ ح ١١.

١٢٠