اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)

اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)0%

اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام
ISBN: 964- 5688-25-6
الصفحات: 202

اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: ISBN: 964- 5688-25-6
الصفحات: 202
المشاهدات: 60565
تحميل: 7121

توضيحات:

اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 202 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60565 / تحميل: 7121
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)

اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
ISBN: 964- 5688-25-6
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

له ينزل عند دار العباس بن محمد في مشرعة القصب ليتولى غسله، وسأله السندي أن يأذن له في تكفينه فأبى وقالعليه‌السلام :إنّا أهل بيت مهور نسائنا وحجّ صرورتنا وأكفان موتانا من طاهر أموالنا، وعندي كفني (١) .

وأُحضر له السندي مولاه، وثقل حال الإمامعليه‌السلام ، وأشرف على النهاية المحتومة، فأخذ يعاني آلام الموت فاستدعى المسيب بن زهرة فقال له:إني على ما عرّفتك من الرحيل إلى الله عزّ وجلّ فإذا دعوت بشربة من ماء فشربتها ورأيتني قد انتفخت، واصفرّ لوني واحمرّ واخضرّ وتلوّن ألواناً فاخبر الطاغية بوفاتي .

قال المسيب: فلم أزل أراقب وعده حتى دعاعليه‌السلام بشربة فشربها ثم استدعاني، فقال لي:

يا مسيب ، إنّ هذا الرجس السندي بن شاهك سيزعم أنه يتولى غسلي ودفني. وهيهات هيهات أن يكون ذلك أبداً .

فإذا حملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فالحدوني بها، ولا ترفعوا قبري فوق أربعة أصابع مفرّجات، ولا تأخذوا من تربتي شيئاً لتتبركوا به فإنّ كل تربة لنا محرمة إلاّ تربة جدّي الحسين بن علي فإنّ الله عز وجل جعلها شفاءً لشيعتنا وأوليائنا.

قال المسيب: ثم رأيت شخصاً أشبه الأشخاص به جالساً إلى جانبه، وكان عهدي بسيدي الرضاعليه‌السلام وهو غلام، فأردت أن أسأله، فصاح بي سيدي موسى، وقال:أليس قد نهيتك ؟

ثمّ إنّ ذلك الشخص قد غاب عني، فجئت إلى الإمام وإذا به جثّة هامدة قد فارق الحياة فأنهيت الخبر إلى الرشيد بوفاته).

ــــــــــــ

(١) مقاتل الطالبيين: ٣٣٣ وعنه في الغيبة للطوسي: ٢٦ ـ ٣١ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨/٢٣٤ ح ٣٨.

١٤١

لقد لحق الإمام بالرفيق الأعلى وفاضت نفسه الزكية إلى بارئها فاظلمَّت الدنيا لفقده وأشرقت الآخرة بقدومه، وقد خسر الإسلام والمسلمون ألمع شخصية كانت تذبّ عن كيان الإسلام، وتنافح عن كلمة التوحيد وتطالب بحقوق المسلمين وتشجب كل اعتداء غادر عليهم.

فسلام عليك يا بن رسول الله ،يوم ولدت ، ويوم استشهدت ، ويوم تبعث حياً.

والمشهور أن وفاة الإمامعليه‌السلام كانت سنة (١٨٣ هـ) لخمس بقين من شهر رجب(١) وقيل : سنة (١٨٦ هـ)(٢) . وكانت وفاته في يوم الجمعة وعمره الشريف كان يوم استشهاده خمساً وخمسين سنة(٣) أو أربعاً وخمسين سنة(٤) .

التّحقيق في قتل الإمامعليه‌السلام

بعد قتل الإمامعليه‌السلام حاول هارون أن يتخلّى عن مسؤولية قتله للإمام وأشاع بين الناس بأن الإمام قد مات حتف أنفه ، وأنّ هارون وأجهزته لا علاقة لهما بالحادث وذلك ضمن خطوتين:

الخطوة الأولى:

قام السندي بن شاهك بالخطوة الأولى من مسلسل التخلي ليمهّد الأجواء لسيده هارون في أن يتخلّى فيما بعد بنفسه عن مسؤولية هذه الجريمة. يحدثنا عمر بن واقد عن تحرك السندي وكيفية تنصّله عن الحادث، قال: أرسل إليَّ السندي بن شاهك في بعض الليل وأنا ببغداد يستحضرني، فخشيت أن يكون ذلك لسوء يريده بي، فأوصيت عيالي بما احتجت إليه، وقلت: إنّا لله وإنا إليه راجعون، ثم ركبت إليه. فلما رآني مقبلاً، قال: يا أبا حفص لعلّنا أرعبناك وأفزعناك ؟ قلت: نعم قال: فليس هناك إلاّ خير. قلت: فرسول تبعثه إلى منزلي يخبرهم خبري. فقال نعم.

ــــــــــــ

(١) عمدة الطالب: ٨٥، والطبري: ١٠/٧٠ والكامل في التاريخ: ٦/٥٤ وتاريخ بغداد: ٣/٣٢ وتاريخ أبي الفداء: ٢/١٧، ووفيات الأعيان: ٢/١٧٣ وميزان الاعتدال: ٣/٢٠٩ وتهذيب التهذيب: ١٠/٣٤٠.

(٢) مروج الذهب: ٣ / ٣٥٥.

(٣) الفصول المهمة: ٢٥٥.

(٤) المناقب: ٤ / ٣٤٩.

١٤٢

ثم قال: يا أبا حفص أتدري لم أرسلت إليك ؟ فقلت: لا. فقال: أتعرف موسى بن جعفر ؟ فقلت: إي والله، إني لأعرفه، وبيني وبينه صداقة منذ دهر. فقال: من هاهنا ببغداد يعرفه ممن يُقبل قوله ؟ فسميت ، وجاء بهم كما جاء بي ، فقال: هل تعرفون قوماً يعرفون موسى بن جعفر؟ فسموا له قوماً، فجاء بهم ، فأصبحنا ونحن في الدار نيفاً وخمسين رجلاً ممن يعرفون موسى بن جعفرعليه‌السلام قد صحبه. قال: ثم قام فدخل وصلينا، فاخرج كاتبه طوماراً، فكتب أسماءنا ومنازلنا وأعمالنا وحِلالنا، ثم دخل إليه السندي.

قال: فخرج السندي فضرب يده إليَّ فقال: قم يا أبا حفص فنهضت ونهض أصحابنا ودخلنا.

فقال لي: يا أبا حفص اكشف الثوب عن وجه موسى بن جعفر فكشفته فرأيته ميتاً، فبكيت واسترجعت.

ثم قال للقوم: انظروا إليه فدنا واحد بعد واحد فنظروا إليه.

ثم قال: تشهدون كلّكم أنّ هذا موسى بن جعفر بن محمد ؟ فقلنا: نعم ، نشهد أنه موسى بن جعفر بن محمد. ثم قال: يا غلام ، اطرح على عورته منديلاً واكشفه، قال: ففعل.

فقال: أترون به أثراً تنكرونه ؟ فقلنا: لا، ما نرى شيئاً ولا نراه إلاّ ميتاً.

ثم سجّل شهادتهم وانصرفوا(١) .

الخطوة الثّانية:

وفي الخطوة الثانية قام هارون بنفسه ليعلن أمام حشد من وجوه الشيعة بأنه بريء من جريمة قتل الإمام. عن محمد بن صدفة العنبري، قال: لمّا توفي أبو إبراهيم موسى بن جعفرعليه‌السلام جمع هارون الرشيد شيوخ الطالبيّة وبنى العباس وسائر أهل المملكة والحكّام واحضر أبا إبراهيم موسى بن جعفرعليه‌السلام فقال: هذا موسى بن جعفر قد مات حتف أنفه، وما كان بيني وبينه ما استغفر الله منه في أمره ـ يعني في قتله ـ فانظروا إليه.

فدخل عليه سبعون رجلاً من شيعته، فنظروا إلى موسى بن جعفر وليس به أثر جراحة ولا خنق، وكان في رجله أثر الحناء(٢) .

ــــــــــــ

(١) كمال الدين: ٣٧ ، وعيون أخبار الرضا: ١ / ٩٧ ح٣ ، عنهما في بحار الأنوار: ٤٨/٢٢٥ ح ٣٧.

(٢) كمال الدين: ٣٩، وعيون الأخبار: ١ / ١٠٥ ح ٨ ، وعنهما في بحار الأنوار: ٤٨/٢٢٨ ح ٣١.

١٤٣

وضع الإمام على الجسر

وحسب الأوامر المعدّة سلفاً من قبل هارون كما تدل عليها القرائن، لأجل أن يتنصل عن قتله للإمام، ليس أمام الشيعة فحسب وإنما أمام الأمة الإسلامية كلّها، وأن تكون طريقة التخلّي من مسؤولية الحادث بأن يستبطن أن المقتول ما هو إلاّ رجل عادي لا وزن له، فعلام هذا التضخيم والتهويل والتشكيك بموته ؟

فتخطّى السندي بن شاهك بالأسلوب التالي: حيث وضع الإمام على جسر الرصافة وهو ميت ينظر إليه القريب والبعيد وتتفرّج عليه المارّة قد أحاطت بجثمانه المقدّس شرطة الطاغية القاتل وكشفت وجهه للناس قاصدين بذلك انتهاك حرمتهعليه‌السلام والحط من كرامته والتشهير به.

وقد أمر السندي جلاوزته أن ينادوا على جثمان الإمام بذلك النداء المؤلم الذي تذهب النفوس لهوله أسى وحسرة: (هذا إمام الرافضة فاعرفوه) هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت فانظروا إليه ميتاً.

متى قالت الشيعة إنّ الإمام موسى لا يموت ؟ نعم، قالت الواقفية بذلك والشيعة منهم براء ، وهارون وجلاوزته أعلم من غيرهم بهذه الحقيقة. لكنه وسيلة من وسائل التشهير وإلصاق التهم بالشيعة بسبب أن الواقفية تذهب إلى أن الإمام موسى حي لم يمت وأنه رفع إلى السماء كما رفع المسيح عيسى بن مريم .

بهذا الأسلوب حاولت الأجهزة الحاكمة أن تنسب هذا الرأي للشيعة ظلماً، وتبرر الإهانة والإذلال وقد لُحق النداء المذكور بهذا المقطع: ألا من أراد أن يرى الخبيث بن الخبيث موسى بن جعفر فليخرج(١) . وقد حاول هارون بهذا الأسلوب ـ بالإضافة إلى احتقار الشيعة وإذلالهم ـ الوقوف على العناصر الفعّالة منهم والتعرف على مدى نشاطها وحماسها، عن طريق هذا الاستفزاز الصارخ والاعتداء على كرامة الإمامعليه‌السلام أمامها كأسلوب ماكر للتخلّص من خطرهم ليساقوا بعد ذلك للسجون والقبور. يقول الشيخ باقر القرشي: وأكبر الظن أنّ الشيعة قد عرفت هذا القصد، فلذا لم تقم بأيّ عمل إيجابي ضده(٢) .

ــــــــــــ

(١) كمال الدين: ٣٨ ، عيون الأخبار: ١ / ٩٩ / ح٥ ، وعنهما في بحار الأنوار: ٤٨ / ٢٢٧ ح٢٩ والفصول المهمة: ٥٤.

(٢) حياة الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : ٢ / ٥٢٣.

١٤٤

مبادرة سليمان

كان سليمان بن أبي جعفر المنصور رجلاً محنّكاً وذا عقل متزن. وقد رأى أنّ الأعمال التي قام بها هارون ما هي إلاّ لطخة سوداء في جبين العباسيين; فإنّ هارون لم يكتف باغتيال الإمام ودسّ السمّ إليه بل ارتكب جملة من الأعمال الوحشية التي تدل على أنه لا عهد له بالشرف والنبل والمعروف والإنسانية من هنا بادر سليمان ـ حين سمع نبأ إخراج جنازة الإمام إلى الجسر والنداء الفظيع على جثمانه الطاهر ـ وحاول أن يتلافى الموقف بالتي هي أحسن.

إنّ قصر سليمان كان مطلاًّ على نهر دجلة وحين سمع النداء والضوضاء ورأى بغداد قد اضطربت، قال لولده وغلمانه: ما هذا ؟ قالوا: السندي بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر، وأخبروه بذلك النداء الفظيع.

فصاح بولده قائلاً: انزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم فإن مانعوكم فاضربوهم، وخرقوا ما عليهم من سواد ـ وهو لباس الشرطة والجيش ـ. وانطلق أبناء سليمان وغلمانه إلى الشرطة فأخذوا جثمان الإمام منهم، ولم تبد الشرطة معهم أية معارضة، فسليمان عم الخليفة وأهم شخصية لامعة في الأسرة العبّاسية وأمره مطاع عند الجميع ، وحمل الغلمان نعش الإمامعليه‌السلام فجاءوا به إلى سليمان فأمر في الوقت أن ينادى في شوارع بغداد: ألا من أراد أن يحضر جنازة الطيب بن الطيب موسى بن جعفر فليحضر(١) .

وأكبر الظن أن سليمان خاف من انتفاضة شعبية أو تمرّد عسكري لأن الشيعة لم تكن قلة في ذلك العصر فقد اعتنق التشيع خلق كثير من رجال الدولة وقادة الجيش وكبار الموظفين والكتّاب لذا تدارك سليمان الموقف وقام بهذه المهمّة وأنقذ حكومة هارون من الاضطراب والثورة(٢) .

وخرج الناس على اختلاف طبقاتهم لتشييع جثمان الإمام وخرجت الشيعة فعبّرت عن حزنها وأساها بعد هذا التشييع الكبير.

تجهيز الإمامعليه‌السلام

وقام سليمان بتجهيز الإمام فغسّله ، وكفّنه ، ولفّه بحبرة قد كتب عليها القرآن الكريم بأسره كلّفته ألفين وخمسمئة دينار(٣) .

ــــــــــــ

(١) كمال الدين: ٣٨ ، عيون الأخبار: ١ / ٩٩ / ح ٥ ، وعنهما في بحار الأنوار: ٤٨ / ٢٢٧ / ح٢٩.

(٢) حياة الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : ٢ / ٥٢٦.

(٣) كمال الدين: ٣٨ عيون الأخبار ١: ٩٩ ح٥.

١٤٥

وقال المسيب بن زهرة: والله لقد رأيت القوم بعيني وهم يظنون أنهم يغسلونه فلا تصل أيديهم إليه ، ويظنون أنهم يحنّطونه ويكفّنونه وأراهم أنهم لا يصنعون شيئاً، ورأيت ذلك الشخص الذي حضر وفاته ـ وهو الإمام الرضاعليه‌السلام ـ هو الذي يتولّى غسله وتحنيطه وتكفينه، وهو يظهر المعاونة لهم، وهم لا يعرفونه فلما فرغ من أمره التفت إليَّ فقالعليه‌السلام :(يا مسيّب مهما شككت في شيء فلا تشكنّ فيّ، فإني إمامك ومولاك وحجة الله عليك بعد أبي. يا مسيب مثلي مثل يوسف الصديق ومثلهم مثل إخوته حين دخلوا عليه وهم له منكرون) (١) وبعد انتهاء الغسل حُمل الإمام إلى مرقده.

تشييع الإمامعليه‌السلام ودفنه

وبعد الغسل هرعت جماهير بغداد إلى تشييع الإمام فكان يوماً مشهوداً لم تر مثله في أيّامها فقد خرج البر والفاجر لتشييع جثمان الإمامعليه‌السلام والفوز بحمل جثمانه، وسارت المواكب وهي تجوب شوارع بغداد وتردد أهازيج الحزن واللوعة، متّجهة نحو باب التبن يتقدمهم سليمان حافياً حاسراً متسلّباً(٢) مشقوق الجيب إلى مقابر قريش، وحفر له قبر فيها وأنزله سليمان بن أبي جعفر.

وبعد الفراغ من الدفن أقبلت الناس تعزّيه بالمصاب الأليم(٣) .

ــــــــــــ

(١) عيون الأخبار: ١ / ١٠٠ ح٦. وعنه في بحار الأنوار: ٤٨ / ٢٢٢ ح٢٩.

(٢) أي متسلّباً من الملابس الرسمية الفاخرة لابساً لباس الحداد، كما في اللغة.

(٣) كمال الدين: ٣٨ ، عيون الأخبار: ١ / ٩٩ / ح٥ ، وعنهما في وبحار الأنوار: ٤٨ / ٢٢٧ ح ٢٩.)

١٤٦

الفصل الرابع: تراث الإمام الكاظمعليه‌السلام

لقد ورث الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام مدرسة أبيه الصادقعليه‌السلام وحظيت منه بالتوجيه والرعاية الشاملة لتلامذته وأصحابه بالرغم من قساوة الظروف وتغيّرها خلال ثلاثة عقود ونصف من العمل العلمي الدؤوب وتربية مستمرة للنابهين من صحابته وطلاّب المعرفة من أتباعه وشيعته. وقد أثرت عن الإمام الكاظمعليه‌السلام عدة مجموعات روائية مثل: مسائل علي بن جعفر والأشعثيات ، وتصدّى المعنيون بتراث أهل البيتعليهم‌السلام بجمع التراث المأثور عن أهل البيتعليهم‌السلام وتنظيمه وتبويبه من مختلف المصادر وتسميته بالمسند. وهذا عمل يشكر عليه عامله لأنه يوفر للباحثين الفرصة الكافية للغور في هذا التراث ودراسته دراسة معمّقة بالأرقام.

وفيما يخصّ الإمام موسىعليه‌السلام نلاحظ آخر ما جمع من كلامه وما يرتبط به من نصوص قد بلغ ثلاث مجلّدات يناهز مجموعها الألف صفحة مبوّبة حسب تبويب الموسوعات الحديثية مع فارق أو أكثر. فالمقدمة تشتمل على مجموعة من النصوص التي تخص نشأة الإمام وحياته وسيرته. ثم يقسّم تراثه الحديثي إلى أبواب العقائد والأخلاق والأحكام والسيرة والتاريخ والرجال.

وفيما يخصّ مسند الإمام الكاظمعليه‌السلام إذا مررنا عليه مروراً عابراً وسريعاً أيضاً كفى ذلك لنقف على عظمة الدور الفكري والعطاء العلمي الذي قدّمه هذا الإمام العظيم إلى الأمة الإسلامية بشكل عام والى الجماعة الصالحة وطلاّب المعرفة المؤمنين بخط أهل البيتعليهم‌السلام بشكل خاص، لا سيَّما إذا لاحظنا قساوة الظروف السياسية والاجتماعية التي مرّ بها الإمام موسىعليه‌السلام وأصحابه وشيعته خلال ثلاثة عقود ونصف تقريباً.

لقد ترجم هذا المسند (٦٣٨) شخصاً من رواة الإمام الكاظمعليه‌السلام وهو رقم كبير جداً بالنسبة للمدة الزمنية التي عرفناها والظروف التي وقفنا عليها. وقد اشتمل الفهرس على عدد نصوص كل باب من أبواب المعرفة. وتتراوح هذه النصوص بين نصوص مأثورة بواسطة الإمام الكاظمعليه‌السلام عن آبائه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي تكشف عن مدى اهتمامه بسيرة وحديث جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين نصوص لا يسندها إلى أحد مما يمكن أن نعتبرها من تراثه الخاص كما نلاحظ ذلك في الرسالة الكبيرة التي أثرت عنه حول العقل ولعلها الرسالة الوحيدة الجامعة لما يخصّ العقل من شؤون في الكتاب والسنة وهي لوحدها تراث جامع وأثر خالد يتضمّن المنهج المعرفي القرآني والحديثي لأهل البيتعليهم‌السلام كما سوف نراها بنصّها الكامل في ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

١٤٧

والجزء الأول من هذا المسند قد اشتمل على الأبواب التالية: العقل والعلم (في ١٠ أبواب) ، التوحيد (في ١٤ باباً) ، تاريخ الأنبياء والأئمة (في ١٤ باباً) ، والنبوة والإمامة (في ٢٢ باباً) والتعريف بالصحابة (في ٤١ باباً) ، والتعريف برواة الإمام الكاظم (في ٦٣٨ باباً) ، وأبواب الإيمان والكفر (في ٤٢ باباً) ، والأخلاق والعِشرة (في ١٥٢ باباً).

كما تضمن الجزء الثاني: كتاب القرآن بأبوابه الـ (٥١ باباً) ، وكتاب الدعاء (في ٥١ باباً) ، والاحتجاجات (في ٨ أبواب) ومعظم كتب الفقه ، فكتاب الطهارة (في٧٣ باباً) ، وكتاب الصلاة (في٤١ باباً) ، وكتاب الصوم (في ٢٥ باباً) ، وكتاب الزكاة (في ٢٨ باباً) ، وكتاب المعيشة (في ٥٩ باباً) ، وكتاب السفر (في ٨ أبواب) ، وكتاب الحج (في ٦٨ باباً) ، وكتاب الزيارة (في ٧ أبواب) ، وكتاب الجهاد (في ٥ أبواب) ، وكتاب النكاح (في ٤٠ باباً) ، وكتاب الطلاق (في ٣٠ باباً).

وتضمن الجزء الثالث من المسند: كتاب الأولاد (في ١٢ باباً) ، وكتاب التجمّل والزينة (في ٤٣ باباً) ، وكتاب الرواتب (في ١٢ باباً) ، وكتاب الأطعمة (في ٦٨ باباً) ، وكتاب الأشربة (في ١٣ باباً) ، وكتاب العتق (في ١٢ باباً) ، وكتاب الأيمان والنذور (في ٩ أبواب) ، وكتاب الحدود (في ١٨ باباً) ، وكتاب الدّيات (في ١٦ باباً) ، وكتاب الوصية (في ١٥ باباً) ، وكتاب الإرث (في ١١ باباً) ، وكتاب الجنائز (في ٢٩ باباً) ، وكتاب الحشر والمعاد والآداب والسنن.

إنّ هذا التنوع في أبواب المعرفة التي أثرت عنه لدليل آخر على الجانب الموسوعي في هذا التراث بالإضافة إلى وضوح التكامل في المسيرة العلمية التي بدأها أهل البيتعليهم‌السلام وسهروا على إرساء قواعدها وإشادة أصولها ومعالمها والتخطيط لإثمارها والحرص على إنجاز دورها التغييري في المجتمع الإسلامي عامة وفي الجماعة الصالحة بشكل خاص.

١٤٨

وإليك بعض النصوص المختارة من هذا التراث العظيم في الأبواب التالية:

أصول العلم ومراتب المعرفة:

١ ـ قال الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام :(وجدت علم الناس في أربع، أولها: أن تعرف ربك، والثانية: أن تعرف ما صنع بك، والثالثة: أن تعرف ما أراد منك، والرابعة: أن تعرف ما يخرجك من دينك) (١) .

٢ ـ وقالعليه‌السلام :(أولى العلم بك ما لا يصلح لك العمل إلاّ به وأوجب العمل عليك ما أنت مسئول عن العمل به، وألزم العلم لك ما دلّك على صلاح قلبك; وأظهر لك فساده، وأحمد العلم عاقبة ما زاد في علمك العاجل، فلا تشتغلنّ بعلم ما لا يضرّك جهله، ولا تغفلنّ عن علم ما يزيد في جهلك تركه) (٢) .

٣ ـ وقالعليه‌السلام : (فقيه واحد ينقذ يتيماً من أيتامنا المنقطعين عنّا وعن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشد على إبليس من ألف عابد ...) (٣) .

مصادر المعرفة ومنهجها:

١ ـ عن سماعة، عن أبي الحسن موسىعليه‌السلام ، قال: قلت له: أكلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ أو تقولون فيه؟ قال:(بل كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) .

٢ ـ عن سماعة، عن العبد الصالح قال: سألته فقلت: إنّ أناساً من أصحابنا قد لقوا أباك وجدّك وسمعوا منهما الحديث فربما كان شيء يبتلي به بعض

ــــــــــــ

(١) كشف الغمة: ٢/٢٥٥.

(٢) بحار الأنوار: ٧٥ / ٣٣٦.

(٣) الاحتجاج: ١ / ٨.

(٤) الكافي: ١ / ٦٢.

١٤٩

أصحابنا وليس في ذلك عندهم شيء يفتيه وعندهم ما يشبهه، يسعهم أن يأخذوا بالقياس ؟ فقال:(لا ، إنما هلك من كان قبلكم بالقياس) ، فقلت له: لم لا يقبل ذلك ؟ فقال:(لأنه ليس من شيء إلاّ وجاء في الكتاب والسنة) (١) .

٣ ـ عن موسى بن بكر ، قال: قال أبو الحسنعليه‌السلام :(من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة الأرض وملائكة السماء) (٢) .

٤ ـ عن عثمان بن عيسى، قال: سألت أبا الحسن موسىعليه‌السلام عن القياس فقال:(ما لكم والقياس إنّ الله لا يسأل كيف أحلّ وكيف حرّم) (٣) .

٥ ـ عن يونس بن عبد الرحمن، قال: قلت لأبي الحسن الأوّلعليه‌السلام : بما أوحد الله ؟ فقال:(يا يونس لا تكوننّ مبتدعاً، من نظر برأيه هلك، ومن ترك أهل بيت نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضلّ، ومن ترك كتاب الله وقول نبيّه كفر) (٤) .

٦ ـ إنّ من غرر أحاديث الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام في مجال العقل كمصدر معرفي أساس هو وصيّته الثمينة لهشام بن الحكم والتي سُمّيت برسالة العقل عند الإمامعليه‌السلام ، وإليك نصّ الرسالة:

قالعليه‌السلام :(إنّ الله تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه فقال: ( ... فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ) (٥) .

ــــــــــــ

(١) الاختصاص: ٢٨١.

(٢) المحاسن: ١ / ٢٠٥ ، وبحار الأنوار: ٢ / ١٢٢.

(٣) المحاسن: ١/٢١٤.

(٤) أصول الكافي: ١ / ٥٦.

(٥) الزمر (٣٩): ١٧ ـ ١٨.

١٥٠

يا هشام بن الحكم إنّ الله عزّوجلّ أكمل للناس الحجج بالعقول وأفضى إليهم بالبيان ودلّهم على ربوبيته بالأدلاّء، فقال: ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ... ) إلى قوله : ( ... لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (١) .

يا هشام قد جعل الله عزّ وجلّ ذلك دليلاً على معرفته بأنّ لهم مدبّراً فقال:( وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (٢) . وقال:( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (٣) وقال:( وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (٤) .

يا هشام ثمّ وعظ أهل العقل ورغّبهم في الآخرة فقال: ( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) (٥) . وقال:( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) (٦) .

يا هشام ثمّ خوَّف الذين لا يعقلون عذابه فقال عَزَّ وجَلَّ: ( ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) (٧) .

يا هشام ثمّ بيّن أن العقل مع العلم فقال:( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) (٨) .

يا هشام ثمّ ذمّ الذين لا يعقلون فقال: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ

ــــــــــــ

(١) البقرة (٢): ١٦٣ ـ ١٦٤.

(٢) النحل (١٦): ١٢.

(٣) الزخرف (٤٣): ١ ـ ٣.

(٤) الروم (٣٠): ٢٤.

(٥) الأنعام (٦): ٣٢.

(٦) القصص (٢٨): ٦٠.

(٧) الصافات (٣٧): ١٣٧ ـ ١٣٨.

(٨) العنكبوت (٢٩): ٤٣.

١٥١

مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ) (١) . وقال:( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ) (٢) . وقال:( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) (٣) .

ثمّ ذم الكثرة فقال:( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) (٤) وقال:( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) (٥) . (وأكثرهم لا يشعرون)(٦) .

يا هشام ثمّ مدح القلة فقال:( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (٧) وقال:( وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ) (٨) وقال:( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ) (٩) .

يا هشام ثمّ ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر وحلاّهم بأحسن الحلية، فقال:( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) (١٠) .

يا هشام إنّ الله يقول:( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ) (١١) يعني العقل. وقال:( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ) (١٢) قال: الفهم والعقلَ.

يا هشام إنّ لقمان، قال لابنه: (تواضع للحق تكن أعقلَ الناس ). يا بنيّ إنّ الدنيا بحرٌ عميقٌ قد غرق فيه عالم كثير فلتكن سفينتك فيها تقوى الله وحشوها الإيمان وشراعها التوكل وقيمتها العقل. ودليلها العلم وسكّانها الصبر.

ــــــــــــ

(١) البقرة (٢): ١٧٠.

(٢) الأنفال (٨): ٢٢.

(٣) لقمان (٣١): ٢٥.

(٤) الأنعام (٦): ١١٦.

(٥) الأنعام (٦): ٣٧.

(٦) مضمون مأخوذ من آى القرآن.

(٧) سبأ (٣٤): ١٣.

(٨) ص (٣٨): ٢٤.

(٩) هود (١١): ٤٠.

(١٠) البقرة (٢): ٢٦٩.

(١١) ق (٥٠): ٣٧.

(١٢) لقمان (٣١): ١١.

١٥٢

يا هشام لكل شيء دليل ودليل العاقل التفكر ودليل التفكر الصمت ولكل شيء مطيّة ومطيّة العاقل التواضع وكفى بك جهلاً ، أن تركب ما نُهيت عنهُ .

يا هشام لو كان في يدك جوزة وقال الناس (في يدك) لؤلؤة ما كان ينفعك وأنت تعلم أنها جوزة ولو كان في يدك لؤلؤة وقال الناس: إنها جوزة ما ضرّك وأنت تعلم أنها لؤلؤة.

يا هشام ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلاّ ليعقلوا عن الله، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة لله. وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً وأعقلهم أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.

يا هشام ما من عبد إلاّ وملك آخذ بناصيته، فلا يتواضع إلاّ رفعه الله ولا يتعاظم إلاّ وضعه الله .

يا هشام إنّ لله على الناس حجتين حجة ظاهرة وحجة باطنة ، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة وأمّا الباطنة فالعقول. يا هشام إنّ العاقل، الذي لا يشغل الحلال شكره ولا يغلب الحرام صبره.

يا هشام من سلّط ثلاثاً على ثلاث فكأنّما أعانَ هواه على هدم عقله: من أظلم نور فكره بطول أمله، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه، فكأنما أعان هواه على هدم عقله. ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه. يا هشام كيف يزكو عند الله عملك وأنت قد شغلت عقلك عن أمر ربك وأطعت هواك على غلبة عقلك. يا هشام الصبر على الوحدة علامة قوّة العقل، فمن عقل عن الله تبارك وتعالى اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها. ورغب فيما عند ربه وكان الله آنسه في الوحشة وصاحبه في الوحدة. وغناه في العيلة ومعزه في غير عشيرة(١) . يا هشام نصب الخلق لطاعة الله(٢) . ولا نجاة إلاّ بالطاعة. والطاعة بالعلم والعلم بالتعلم. والتعلم بالعقل يعتقد (٣) ولا علم إلاّ من عالم رباني ومعرفة العالم بالعقل.

يا هشام قليل العمل من العاقل مقبول مضاعف. وكثير العمل من أهلِ الهوى والجهل مردود.

يا هشام إنّ العاقل رضي بالدّون من الدنيا مع الحكمة. ولم يرض بالدّون من الحكمة مع الدنيا، فلذلك ربحت تجارتهم.يا هشام إن كان يغنيك ما يكفيك فأدنى ما في الدنيا يكفيك. وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس شيء من الدنيا يغنيك. يا هشام إنّ العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب. وترك الدنيا من الفضل وترك الذنوب من الفرض. يا هشام إنّ العقلاء زهدوا في الدنيا

ــــــــــــ

(١) العَيلة: الفاقة.

(٢) نصب ـ من باب ضرب على صيغة المجهول ـ بمعنى وضع أو من باب التفعيل من نصب الأمير فلاناً ولاّه منصباً.

(٣) اعتقد الشيء: نقيض حله.

١٥٣

ورغبوا في الآخرة لأنهم علموا أنّ الدنيا طالبة ومطلوبة والآخرة طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتّى يستوفي منها رزقه. ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته.

يا هشام من أراد الغنى بلا مال وراحة القلب من الحسد والسلامة في الدين فليتضرّع إلى الله في مسألته بأن يُكمل عقله، فمن عقل قنع بما يكفيه ومن قنع بما يكفيه استغنى ومن لم يقنع بما يكفيه لم يُدرك الغنى أبداً.

يا هشام إنّ الله جَلَّ وعَزَّ حكى عن قوم صالحين، أنهم قالوا: ( رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) (١) حين علموا أنّ القلوب تزيغ وتعود إلى عماها ورداها أنّه لم يخف الله من لم يعقل عن الله ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يُبصرها ويجد حقيقتها في قلبه. ولا يكون أحدٌ كذلك إلاّ من كان قوله لفعله مصدِّقاً، وسرّه لعلانيته موافقاً، لأنّ الله لم يدلّ على الباطن الخفي من العقل إلاّ بظاهر منه وناطق عنه.

يا هشام كان أمير المؤمنينعليه‌السلام ، يقول: ما من شيء عبد الله به أفضل من العقل وما تمّ عقل امرئ حتى يكون فيه خصال شتّى، الكفر والشر منه مأمونان(٢) . والرشد والخير منه مأمولان (٣) . وفضل ماله مبذول. وفضل قوله مكفوف. نصيبه من الدنيا القوت. ولا يشبع من العلم دهره. الذلّ أحب إليه مع الله من العزّ مع غيره. والتّواضع أحبّ إليه من الشرف. يستكثر قليل المعروف من غيره ويستقل كثير المعروف من نفسه. ويرى الناس كلهم خيراً منه وأنه شرّهم في نفسه وهو تمام الأمر (٤) .

يا هشام من صدق لسانه زكى عمله. ومن حسنت نيته زيد في رزقه. ومن حسن برّه بإخوانه وأهله مدّ في عمره.

يا هشام لا تمنحوا الجهّال الحكمة فتظلموها(٥) ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.

يا هشام كما تركوا لكم الحكمة فاتركوا لهم الدنيا.

ــــــــــــ

(١) آل عمران (٣): ٧.

(٢) الكفر في الاعتقاد والشر في القول والعمل والكل ينشأ من الجهل.

(٣) الرشد في الاعتقاد والخير في القول والكل ناشئ من العقل.

(٤) أي ملاك الأمر وتمامه في أن يكون الإنسان كاملاً تام العقل هو كونه متصفاً بمجموعة هذه الخصال.

(٥) لا تمنحوا الجهال أي لا تعطوهم ولا تعلموهم. والمنحة: العطاء.

١٥٤

يا هشام لا دين لمن لا مروّة له. ولا مُرُوّة لمن لا عقل له. وأنّ أعظم الناس قدراً الذي لا يرى الدنيا لنفسه خطراً(١) ، أما إنّ أبدانكم ليس لها ثمن إلاّ الجنة، فلا تبيعوها بغيرها...(٢) .

يا هشام إن أمير المؤمنينعليه‌السلام كان يقول: (لا يجلس في صدر المجلس إلاّ رجل فيه ثلاث خصال: يجيب إذا سئل وينطق إذا عجز القوم عن الكلام، ويشير بالرأي الذي فيه صلاح أهله، فمن لم يكن فيه شيء منهنّ فجلس فهو أحمق).

وقال الحسن بن عليعليهما‌السلام : (إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها) قيل: يا ابن رسول الله ومن أهلها؟ قال: (الذين قصّ الله في كتابه وذكرهم، فقال: ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ) (٣) . قال: هم أولوا العقول).

وقال علي بن الحسينعليهما‌السلام : ( مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح وأدب العلماء زيادة في العقل، وطاعة ولاة العدل تمام العز واستثمار المال(٤) تمام المروة. وإرشاد المستشير قضاء لحق النعمة. وكف الأذى من كمال العقل وفيه راحة البدن عاجلاً وآجلاً).

يا هشام إن العاقل لا يحدّث من يخاف تكذيبه ولا يسأل من يخاف منعه ولا يعد مالا يقدر عليه ولا يرجو ما يعنّف برجائه(٥) ولا يتقدم على ما يخاف العجز عنه.

وكان أمير المؤمنينعليه‌السلام يوصي أصحابه يقول: ( أوصيكم بالخشية من الله في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والاكتساب في الفقر والغنى، وأن تصلوا من قطعكم، وتعفوا عمّن ظلمكم، وتعطفوا على من حرمكم وليكن نظركم عبراً. وصمتكم فكراً. وقولكم ذكراً وطبيعتكم السخاء، فإنه لا يدخل الجنة بخيل ولا يدخل النار سخي) .

ــــــــــــ

(١) معادلاً وموازياً في الخطر أي القدر والرفعة.

(٢) ههنا كلام نقله صاحب الوافي عن أستاذه (رحمهما الله) قال: وذلك لأن الأبدان في التناقص يوماً فيوماً لتوجه النفس منها إلى عالم آخر فإن كانت النفس سعيدة كانت غاية سعيه في هذه الدنيا وانقطاع حياته البدنيّة إلى الله سبحانه وإلى نعيم الجنة لكونه على منهج الهداية والاستقامة فكأنه باع بدنه بثمن الجنة معاملة مع الله تعالى ولهذا خلقه الله عزّ وجلّ وإن كانت شقيّة كانت غاية سعيه وانقطاع أجله وعمره إلى مقارنة الشيطان وعذاب النيران لكونه على طريق الضلالة فكأنه باع بدنه بثمن الشهوات الفانية واللذات الحيوانية التي ستصير نيراناً محرقة مؤلمة وهي اليوم كامنة مستورة عن حواسّ أهل الدنيا وستبرز يوم القيامة ( وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى ) معاملة مع الشيطان وخسر هنالك المبطلون.

(٣) الزمر (٣٩): ١٢.

(٤) أى استنماؤه بالكسب والتجارة.

(٥) التعنيف: اللؤم والتوبيخ والتقريع. والمراد أن العاقل لا يرجو فوق ما يستحقه وما لم يستعدّه.

١٥٥

يا هشام رحم الله من استحيا من الله حق الحياء، فحفظ الرأس وما حوى(١) والبطن وما وعى، وذكر الموت والبلى، وعلم أنّ الجنة محفوفة بالمكاره(٢) . والنار محفوفة بالشهوات.

يا هشام من كف نفسه عن أعراض الناس أقاله الله عثرته يوم القيامة. ومن كف غضبه عن الناس كفّ الله عنه غضبه يوم القيامة.

يا هشام إن العاقل لا يكذب وإن كان فيه هواه.

يا هشام وجد في ذؤابة(٣) سيف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أن أعتى الناس على الله من ضرب غير ضاربه وقتل غير قاتله. ومن تولّى غير مواليه فهو كافر بما أنزل الله على نبيّه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن أحدث حدثاً(٤) ، أو آوى محدثاً لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً.

يا هشام أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله بعد المعرفة به الصلاة، وبرّ الوالدين، وترك الحسد والعجب والفخر.

ــــــــــــ

(١) (وما حوى) أي ما حواه الرأس من الأوهام والأفكار بأن يحفظها ولا يبديها ويمكن أن يكون المراد ما حواه الرأس من العين والأذن وسائر المشاعر بأن يحفظها عمّا يحرم عليه. (وما وعى) أي ما جمعه من الطعام والشراب بأن لا يكون من حرام. (والبلى) ـ بالكسر ـ: الاندراس والاضمحلال.

(٢) هذا الكلام مشهور معروف بين الفريقين متواتر منقول عن النبي وأهل بيته صلوات الله عليهم. والمحفوفة: المحيطة. والمكاره: جمع مكرهة ـ بفتح الراء وضمّها ـ : ما يكرهه الإنسان ويشق عليه. والمراد أن الجنة محفوفة بما يكره النفس من الأقوال والأفعال فتعمل بها، فمن عمل بها دخل الجنة، والنار محفوفة بلذات النفس وشهواتها، فمن أعطى نفسه لذّتها وشهوتها دخل النار.

(٣) الذؤابة من كل شيء: أعلاه. ومن السيف: علاقته. ومن السوط: طرفه. ومن الشعر: ناصيته. وعتا يعتو عتواً، وعتى يعتى عتياً بمعنى واحد أي استكبر وتجاوز الحدّ، والعتو: الطغيان والتجاوز عن الحدود والتجبّر.

(٤) الحدث: الأمر الحادث الذي ليس بمعتاد ولا معروف في السنّة.

١٥٦

يا هشام أصلح أيّامك الذي هو أمامك، فانظر أي يوم هو وأعدّ له الجواب، فانك موقوف ومسؤول. وخذ موعظتك من الدهر وأهله، فإن الدهر طويلة قصيرة فاعمل كأنك ترى ثواب عملك لتكون أطمع في ذلك. واعقل عن الله وانظر في تصرف الدّهر وأحواله، فإن ما هو آت من الدنيا، كما ولّى منها، فاعتبر بها.

وقال علي بن الحسين عليهما‌السلام : ( إن جميع ما طلعت عليه الشمس في مشارق الأرض ومغاربها بحرها وبرّها وسهلها وجبلها عند وليّ من أولياء الله وأهل المعرفة بحق الله كفيء الظلال ـ ثم قال عليه‌السلام : أَوَلا حرّ يدع (هذه) اللمّاظة لأهلها (١) ـ يعني الدنيا ـ فليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة فلا تبيعوها بغيرها، فإنّه من رضي من الله بالدنيا فقد رضي بالخسيس ).

يا هشام إن كل الناس يبصر النجوم ولكن لا يهتدي بها إلاّ من يعرف مجاريها ومنازلها. وكذلك أنتم تدرسون الحكمة ولكن لا يهتدي بها منكم إلاّ من عمل بها.

يا هشام إن المسيح عليه‌السلام قال للحواريين: ( يا عبيد السوء يهولكم طول النّخلة ) (٢) وتذكرون شوكها ومؤونة مراقيها وتنسون طيب ثمرها ومرافقها (٣) . كذلك تذكرون مؤونة عمل الآخرة فيطول عليكم أمده (٤) وتنسون ما تفضون إليه من نعيمها ونورها وثمرها. يا عبيد السوء نقّوا القمح وطيّبوه وأدقّوا طحنه تجدوا طعمه ويهنئكم أكله، كذلك فأخلصوا الإيمان وأكملوه تجدوا حلاوته وينفعكم غبّه (٥) .

ــــــــــــ

(١) اللمّاظة ـ بالضم ـ: بقية الطعام في الفم. وأيضاً بقية الشيء القليل. والمراد بها هنا الدنيا.

(٢) يهولكم أي يفزعكم وعظم عليكم.

(٣) مؤونة المراقي: شدة الارتقاء، والمرافق: المنافع وهي جمع مرفق ـ بالفتح ـ: ما انتفع به.

(٤) الأمد: الغاية ومنتهى الشيء، يقال: طال عليهم الأمد أي الأجل. والنور ـ بالفتح ـ: الزهرة.

(٥) الغبّ ـ بالكسر ـ: العاقبة، وأيضا بمعنى البعد.

١٥٧

بحقّ أقول لكم: لو وجدتم سراجاً يتوقد بالقطران(١) في ليلة مظلمة لاستضأتم به ولم يمنعكم منه ريح نتنه. كذلك ينبغي لكم أن تأخذوا الحكمة ممن وجدتموها معه ولا يمنعكم منه سوء رغبته فيها.

يا عبيد الدنيا بحق أقول لكم: لا تدركون شرف الآخرة إلاّ بترك ما تحبون، فلا تنظروا بالتوبة غداً، فإن دون غد يوماً وليلةً وقضاء الله فيهما(٢) يغدوا ويروح.

بحقّ أقول لكم: إن من ليس عليه دين من الناس أروح وأقل همّاً ممّن عليه الدين وان أحسن القضاء، وكذلك من لم يعمل الخطيئة أروح هماً ممن عمل الخطيئة وإن أخلص التوبة وأناب. وإن صغار الذنوب ومحقراتها من مكائد إبليس ، يحقّرها لكم ويصغّرها في أعينكم فتجتمع وتكثر فتحيط بكم.

بحقّ أقول لكم: إن الناس في الحكمة رجلان: فرجلٌ أتقنها بقوله وصدّقها بفعله. ورجل أتقنها بقوله وضيّعها بسوء فعله، فشتان بينهما، فطوبى للعلماء بالفعل وويل للعلماء بالقول.

يا عبيد السوء اتّخذوا مساجد ربّكم سجوناً لأجسادكم وجباهكم. واجعلوا قلوبكم بيوتاً للتقوى ولا تجعلوا قلوبكم مأوىً للشهوات إن أجزعكم عند البلاء لأشدكم حبّاً للدنيا. وإن أصبركم على البلاء لأزهدكم في الدنيا. يا عبيد السوء لا تكونوا شبيهاً بالحداء الخاطفة (٣) ولا بالثعالب الخادعة ولا بالذئاب

ــــــــــــ

(١) القطران ـ بفتح القاف وسكون الطاء وكسرها أو بكسر القاف وسكون الطاء ـ: سيّال دهني شبيه النفط، يتخذ بعض الأشجار كالصنوبر والأرز فيهنأ به الإبل الجربى ويسرع فيه إشعال النار. وقوله: (نتنه) أي خبت رائحته.

(٢) كناية عن الموت فإنه يأتي في الغداة والرواح.

(٣) الحداء ـ بالكسر ـ: جمع حدأة ـ كعنبه ـ: طائر من الجوارح وهو نوع من الغراب يخطف الأشياء والخاطفة من خطف الشيء يخطف كعلم يعلم ـ: استلبه بسرعة والغادرة: الخائنة والعاتي: الجبّار.

١٥٨

الغادرة ولا بالأُسُد العاتية كما تفعل بالفرائس(١) كذلك تفعلون بالناس، فريقاً تخطفون وفريقاً تخدعون وفريقاً تغدرون بهم.

بحق أقول لكم: لا يغني عن الجسد أن يكون ظاهره صحيحاً وباطنه فاسداً. كذلك لا تغني أجسادكم التي قد أعجبتكم وقد فسدت قلوبكم. وما يغني عنكم أن تنقّوا جلودكم وقلوبكم دنسة. لا تكونوا كالمنخل(٢) يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة. كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغلّ في صدوركم.

يا عبيد الدنيا إنما مثلكم مثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه يا بني إسرائيل زاحموا العلماء في مجالسهم ولو جثوّاً على الركب(٣) ، فإن الله يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر (٤) .

يا هشام مكتوب في الإنجيل (طوبى للمتراحمين، أولئك المرحمون يوم القيامة طوبى للمصلحين بين الناس، أولئك هم المقربون يوم القيامة، طوبى للمطهّرة قلوبهم، أولئك هم المتقون يوم القيامة، طوبى للمتواضعين في الدنيا، أولئك يرتقون منابر الملك يوم القيامة).

يا هشام قلّة المنطق حكم عظيم، فعليكم بالصمت، فانّه دعة حسنة وقلّة وزر وخفّة من الذنوب. فحصنوا باب الحلم، فإن بابه الصبر، وأنّ الله عَزَّ وجَلَّ يبغض الضحّاك من غير

ــــــــــــ

(١) الفريسة: ما يفترسه الأسد ونحوه.

(٢) المنخل ـ بضم الميم والخاء أو بفتح الخاء ـ: ما ينخل به. والنخالة ـ بالضم ـ: ما بقي في المنخل من القشر ونحوه.

(٣) جثا يجثو وجثى يجثي: جلس على ركبتيه أو قام على أطراف الأصابع. وفي بعض النسخ (حبواً) أيپ زحفاً على الركب من حبا يحبو وحبى يحبي: إذا مشى على أربع.

(٤) الوابل: المطر الشديد الضخم القطر.

١٥٩

عجب والمشّاء إلى غير أرب (١) ويجب على الوالي أن يكون كالراعي لا يغفل عن رعيته ولا يتكبر عليهم. فاستحيوا من الله في سرائركم، كما تستحيون من الناس في علانيتكم. واعلموا أن الكلمة من الحكمة ضالّة المؤمن، فعليكم بالعلم قبل أن يرفع ورفعه غيبة عالمكم بين أظهركم.

يا هشام تعلم من العلم ما جهلت. وعلّم الجاهل ممّا علّمت. عظّم العالم لعلمه ودع منازعته. وصغّر الجاهل لجهله ولا تطرده ولكن قرّبه وعلّمه.

يا هشام إن كل نعمة عجزت عن شكرها بمنزلة سيئة تؤاخذ بها. وقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: ( إن لله عباداً كسرت قلوبهم خشيته فأسكتتهم عن المنطق وإنهم لفصحاء عقلاء، يستبقون إلى الله بالأعمال الزكيّة، لا يستكثرون له الكثير ولا يرضون لهم من أنفسهم بالقليل، يرون في أنفسهم أنهم أشرار وأنهم لأكياس وأبرار)(٢) .

يا هشام الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنّة والبذاء من الجفاء(٣) والجفاء في النار.

يا هشام المتكلّمون ثلاثة: فرابح وسالم وشاجب (٤) ، فأما الرابح فالذاكر لله وأمّا السالم فالساكت، وأمّا الشاجب فالذي يخوض في الباطل، إن الله حرّم الجنة على كلّ فاحش بذيء قليل الحياء لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه. وكان أبو ذرّ ـ رضي الله عنه ـ يقول: (يا مبتغي العلم أن هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شر، فاختم على فيك كما تختم على ذهبك وورقك).

ــــــــــــ

(١) المشاء: الكثير المشي. وأيضا النمام والمراد ههنا الأول. والأرب ـ بفتحتين ـ: الحاجة. وفي بعض النسخ (إلى غير أدب).

(٢) الأكياس: جمع كيّس ـ كسيّد ـ الفطن، الظريف، الحسن الفهم والأدب.

(٣) البذاء: الفحش. والبذى ـ على فعيل ـ: السفيه والذي أفحش في منطقه.

(٤) الشاجب: الهذّاء المكثار أي كثير الهذيان وكثير الكلام. وأيضاً الهالك وهو الأنسب.

١٦٠