اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)

اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)27%

اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام
ISBN: 964- 5688-25-6
الصفحات: 202

اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 202 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 63296 / تحميل: 7880
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)

اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
ISBN: ٩٦٤- ٥٦٨٨-٢٥-٦
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

نور عبرته بشهوات نفسه فكأنّما أعان هواه على هدم عقله، ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه) .

٣ ـ(رحم الله من استحيا من الله حقّ الحيا، فحفظ الرأس وما حوى والبطن وما وعى وذكر الموت والبِلى وعلم أن الجنة محفوفة بالمكاره والنار محفوفة بالشهوات) .

٤ ـ(من رضي من الله بالدنيا فقد رضي بالخسيس) .

٥ ـ(من لم يعمل بالخطيئة أروح هماً ممّن عمل الخطيئة، وإن أخلص التوبة وأناب) .

٦ ـ(إنّ صغار الذنوب ومحقراتها من مكائد إبليس يحقّرها لكم ويصغّرها في أعينكم فتجتمع وتكثر وتحيط بكم) .

٧ ـ(إنّ الله حرّم الجنة على كلّ فاحش بذيء قليل الحياء لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه) (١) .

وللإمام الكاظمعليه‌السلام معالجة شاملة وأساسية ذات أسس قرآنية وتاريخية عريقة سوف تجدها بالتفصيل في وصيّته القيّمة لهشام في فصل تراثهعليه‌السلام .

الاتّجاه الثالث: الإمام الكاظم والتحدّيات الداخلية

وهنا ندرس بعض مواقف الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام من جملة من التحدّيات الداخلية التي كان لها تأثير سلبي مباشر على المذهب، ومنها تحدّيات السلطة لمرجعية الإمام العلمية.

الموقف الأول: إنّ موقف الإمام الكاظمعليه‌السلام من أخيه عبد الله (الأفطح) لم يكن موقفاً عدائياً سافراً رغم أنه ادّعى الإمامة لنفسه(٢) بعد أبيه. وهذا

ــــــــــــ

(١) تجد هذه النماذج وغيرها في فصل تراثه عليه‌السلام .

(٢) بصائر الدرجات: ٢٥١، ح ٤، وأصول الكافي: ١/٣٥١، ح ٧، واختيار معرفة الرجال: ٢٨٢ ح ٥٠٢، والإرشاد: ٢/٢٢١.

٦١

الادعاء الخطير يؤثر على الوجود الشيعي ومستقبله، فلم يكرّسعليه‌السلام كامل جهده وطاقاته لحلّ هذه المشكلة، ولم يسلك مساراً يضغط به من الخارج على الخصم، ولم يفرض على الصف الشيعي أن ينقسم إلى فريقين إلى أنصار وخصوم.

كما أنهعليه‌السلام لم يدخل الحرب النفسية ولا الكلامية وإنما عالج هذا الشرخ الجديد بأسلوب هادئ، وكفيل بعلاج هذه الأزمة. ويتضح ذلك مما يلي:

أوّلا: ترك للشيعة وعلمائها الحرية في أن تكتشف بنفسها كفاءة هذا المدّعي وعلميّته أو تكتشف غيرها من الطاقات فيما إذا كان يمتلكها، عن طريق الفحص المباشر، أو المقارنة بينه وبين الإمام موسىعليه‌السلام كما حدث مع مؤمن الطاق وهشام بن سالم الذين تقدم ذكرهما.

ثانياً: أبقى الإمامعليه‌السلام علاقته مع أخيه ودّية ولم يجعل من المشكلة سبباً للمقاطعة بدليل أنه دعاه للحضور في منزله كما تذكره الرواية التي سنذكرها بعد قليل.

ثالثاً: استخدم الإمامعليه‌السلام أسلوب المعجزة التي تميّزه عن عبد الله باعتبارهعليه‌السلام إماماً مفترض الطاعة فقامعليه‌السلام بإثبات ذلك أمام جمع من خواصّ الشيعة. فقد قال المفضّل بن عمر: لمّا قضى الصادقعليه‌السلام كانت وصيّته في الإمامة إلى موسى فادّعى أخوه عبد الله الإمامة وكان أكبر ولد جعفر في وقته ذلك هو المعروف بالأفطح فأمر موسىعليه‌السلام بجمع حطب كثير فيوسط داره فأرسل إلى أخيه عبد الله يسأله أن يصير إليه فلمّا صار عنده ومع موسىعليه‌السلام جماعة من وجوه الإمامية وجلس إليه أخوه عبد الله ، أمر موسىعليه‌السلام أن يجعل النار في ذلك الحطب كله فأحترق كله ولا يعلم الناس السبب فيه، حتى

٦٢

صار الحطب كله جمراً ثم قام موسىعليه‌السلام بثيابه في وسط النار وأقبل يحدّث الناس ساعة، ثم قام فنفض ثوبه ورجع إلى المجلس، فقال لأخيه عبد الله:(إن كنت تزعم أنك الإمام بعد أبيك فاجلس في ذلك المجلس) ، فقالوا: رأينا عبد الله قد تغير لونه، فقام يجرّ رداءه حتى خرج من دار موسىعليه‌السلام (١) .

والجدير بالذكر أن الطائفة التي اتبعته قد رجع أكثرهم بعد ذلك إلى القول بإمامة أخيه (موسى الكاظم) لمّا تبيّنوا ضعف دعواه وقوّة رأي أبي الحسن (موسى الكاظم) ودلالة حقه، وبراهين إمامته(٢) .

الموقف الثاني: موقف الإمام موسىعليه‌السلام من العناصر التي تصدّت للمرجعية العلمية والدينية، وأصبحت فيما بعد مرجعاً عاماً يُدعم من قبل السلطان ويحظى برعايته، ليجعل منهم أدوات طيّعة تبرّر له سلوكه وخلافته.

وانطلاقاً من ضرورة الحفاظ على الصيغ الأصيلة ، ومخافة أن تتعرض الشريعة للتحريف بسبب الاتّجاهات والمناهج التي وجدت في مدرسة الخلفاء.

تصدّى الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام لتلك المناهج والاتّجاهات وحاول أن يسلبها الصيغة الشرعية الزائفة التي كان يتمتع بها أصحابها حينما جعلوا في مواقع الفتيا في الدولة.

قال يونس بن عبد الرحمن: قلت: لأبي الحسن الأول (وهو الإمام الكاظم): بِمَ أُوحد الله ؟

فقالعليه‌السلام :(يا يونس لا تكونن مبتدعاً، من نظر برأيه هلك، ومن ترك أهل بيت نبيّه ضلّ، ومن ترك كتاب الله وقول نبيّه كفر) (٣) .

ــــــــــــ

(١) الخرائج والجرائح: ١/٣٠٨، ح ٢ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨ / ٦٧ و٤٧ / ٢٥١.

(٢) الإرشاد: ٢ / ٢١٠ ـ ٢١١.

(٣) أصول الكافي: ١ / ٥٦ ـ ٥٨.

٦٣

وقال الإمام الكاظم في موضع آخر:(مالكم والقياس؟! إنمّا هلك من هلك من قبلكم بالقياس) (١) .

ولم يقتصر الإمامعليه‌السلام على إدانة هذا الاتّجاه فحسب وإنما حاول أن يعرّف مواقع الخطأ والانحراف بشكل تفصيلي.

فعن محمد الرافعي أنه قال: كان لي ابن عم يقال له (الحسن بن عبد الله) وكان زاهداً وكان من أعبد أهل زمانه، وكان يلقاه السلطان، وربّما استقبله بالكلام الصعب يعظه ويأمر بالمعروف، وكان السلطان يحتمل له ذلك لصلاحه.

فلم يزل على هذه الحالة، حتى كان يوماً دخل أبو الحسن موسىعليه‌السلام المسجد فرآه فأدناه إليه، ثم قال له: (يا أبا علي، ما أحبّ إليَّ ما أنت فيه وأسرّني بك، إلاّ أنه ليست لك معرفة، فاذهب فاطلب المعرفة .

قال: جعلت فداك وما المعرفة؟

قال:اذهب وتفقّه واطلب الحديث .

قال: عمن ؟

قال:عن مالك بن أنس وعن فقهاء أهل المدينة، ثم اعرض الحديث علي ّ.

قال: فذهب فتكلّم معهم، ثم جاءه فقرأه عليه فأسقطه كلّه)(٢) .

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١/٥٧، ح ١٦ وعنه في وسائل الشيعة: ٢٧/٤٢ ح ١٥.

(٢) بصائر الدرجات: ٢٥٤، و ط: ٢/٢٧٤، ح٦، وأصول الكافي: ١/٣٥٢، ح ٨ باسم محمد الواقفي، والإرشاد: ٢/٢٢٣ باسم الرافعي وعنه في إعلام الورى: ٢/١٨، ١٩، وكشف الغمة: ٣/١٣، ١٤، والخرائج والجرائح: ٢/٦٥٠ ح٢، وفي بحار الأنوار: ٤٨/٥٢، ح ٤٨ عن البصائر والإرشاد والإعلام والخرائج.

٦٤

الاتّجاه الرابع: الإمام الكاظمعليه‌السلام وتركيز القيادة الشرعية السياسيّة

ركّز الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام على مسألة القيادة والولاية الشرعية المتمثّلة بالإمام المعصوم والموقف من القيادة السياسية المنحرفة، وتعريف الخواص بالإمامة والقيادة الحقة عبر أساليب تربويّة.

وفي هذا الاتجاه قام الإمامعليه‌السلام تعميقاً لهذا المعنى ـ بعدة نشاطات:

النشاط الأوّل: في المجال الفكري

فقد عمق الإمامعليه‌السلام الأسس والثوابت العقائدية والفكرية التي أسس لها الأئمةعليهم‌السلام من قبله، والتي تشكّل تحصينات وقائية تطرد بدورها الفكر المضاد والدخيل الذي تعتمده الخلافة العباسية في نظرية الحكم والتي تحاول به الخلط بين ما هو أصيل ودخيل بهدف تضليل الأمة بعد ما رفعت شعار الدعوة إلى الرضا من آل محمّد.

لذا أعطى الإمامعليه‌السلام مقياساً واضحاً تميّز به الأمة وتطبقه على كل من يدّعي القيادة والخلافة الشرعية.

فعن أبي بصير عن أبي الحسن الماضيعليه‌السلام قال: دخلت عليه فقلت له: جعلت فداك بم يعرف الإمام؟ فقال:(بخصال: أمّا أوّلهن فشيء تقدم من أبيه فيه، وعرّفه الناس، ونصّبه لهم علماً، حتى يكون حجّة عليهم؛ لأن رسول الله نصّب علياً عليه‌السلام علماً وعرّفه الناس، وكذلك الأئمة يعرّفونهم الناس وينصبونهم لهم حتى يعرفوه، ويسأل فيجيب، ويسكت عنه فيبتدي، ويخبر الناس بما في غد، ويكلّم الناس بكلّ لسان) (١) .

ــــــــــــ

(١) قرب الإسناد: ٢٦٥ ح ١٢٦٣، وأصول الكافي: ١/٢٨٥ ح ٧، والإرشاد: ٢/٢٢٤، ودلائل الإمامة: ١٦٩ وعن الإرشاد في إعلام الورى: ٢/٢٢، وفي بحار الأنوار: ٤٨/٤٧ ح ٣٣ عن قرب الإسناد والإرشاد والإعلام والخرائج.

٦٥

وجاء عن أبي خالد الزبّالي أنه قال: (نزل أبو الحسنعليه‌السلام (موسى الكاظم) منزلنا في يوم شديد البرد في سنة مجدبة، ونحن لا نقدر على عود نستوقد به فقال:يا أبا خالد ائتنا بحطب نستوقد به .

قلت: والله ما أعرف في هذا الموضع عوداً واحداً.

فقال:كلاّ يا أبا خالد! ترى هذا الفجّ؟ خذ فيه فإنك تلقى أعرابياً معه حملان حطباً فاشترهما منه ولا تماسكه .

قال: فركبت حماري وانطلقت نحو الفجّ الذي وصف لي فإذا أعرابي معه حملان حطباً فاشتريتهما منه وأتيته بهما، فاستوقدوا منه يومهم ذلك. وأتيته بطرف ما عندنا فطعم منه.

ثم قال:يا أبا خالد! انظر خفاف الغلمان ونعالهم فأصلحها حتى نقدم عليك في شهر كذا وكذا .

قال أبو خالد: فكتبت تاريخ ذلك اليوم فركبت حماري في اليوم الموعود حتى جئت إلى لزق ميل(١) ونزلت فيه فإذا أنا براكب مقبل نحو القطار فقصدت إليه فإذا يهتف بي ويقول:يا أبا خالد! قلت: لبيك جعلت فداك. قال:أتراك وفيناك بما وعدناك؟ ثم قال:يا أبا خالد! ما فعلت بالقبتين اللتين كنا نزلنا فيهما؟ فقلت: جعلت فداك قد هيأتهما لك. وانطلقت معه حتى نزل في القبتين اللتين كان نزل فيهما.

ــــــــــــ

(١) اللزق بالكسر: اللصق يقال (هو بلزقي) أي بجنبي.

٦٦

ثم قال:ما حال خفاف الغلمان ونعالهم؟ قلت: قد أصلحناها فأتيته بهما. فقالعليه‌السلام :يا أبا خالد سلني حاجتك؟ فقلت: جعلت فداك أخبرك بماكنت فيه. كنت زيدي المذهب حتى قدمت عليّ وسألتني الحطب، وذكرت مجيئك في يوم كذا، فعلمت أنك الإمام الذي فرض الله طاعته. فقالعليه‌السلام :يا أبا خالد من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية وحوسب بما عمل في الإسلام )(١) .

النشاط الثاني: في المجال العملي

كان الإمامعليه‌السلام يحاسب شيعته وأتباعه المتعاطفين مع الحكّام والولاة ولا يسمح لهم بالانخراط في دائرة الظالمين وأعوان الظالمين إلاّ في موارد خاصة كان هو الذي يأمر بها ويشرف على سيرها وتصرّفاتها.

قال زياد بن أبي سلمة دخلت على أبي الحسن موسىعليه‌السلام فقال لي:يا زياد، إنك لتعمل عمل السلطان ؟ قال: قلت أجل: قال لي:ولم؟! قلت: أنا رجل لي مروّة وعليّ عيال وليس وراء ظهري شيء. فقال لي:يا زياد لان أسقط من على حالق (المكان الشاهق)فأقطّع قطعة قطعة، أحب إليّ من أن أتولّى لأحد منهم عملا أو أطأ بساط رجل منهم، إلاّ ، لماذا ؟ قلت: لا أدري جعلت فداك. قال:إلاّ لتفريج كربة عن مؤمن، أو فكّ أسره، أو قضاء دينه.

ــــــــــــ

(١) مناقب آل أبي طالب: ٤/٣١٩ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨ / ٧٧.

٦٧

يا زياد! إنّ أهون ما يصنع الله بمن تولّى لهم عملاً أن يضرب عليه سرادقاً من نار إلى أن يفرغ من حساب الخلائق. يا زياد! فان وليت شيئاً من أعمالهم، فأحسن إلى إخوانك، فواحدة بواحدة والله من وراء ذلك. يا زياد! أيّما رجل منكم تولى لأحد منهم عملاً، ثم ساوى بينكم وبينهم، فقولوا له: أنت منتحل كذاب. يا زياد! إذا ذكرت مقدرتك على الناس فاذكر مقدرة الله عليك غداً ونفاذ ما أتيت إليهم عنهم، وبقاء ما أتيت إليهم عليك) (١) .

ويأتي إخبار الإمام الكاظمعليه‌السلام بأمور مستقبليّة ـ مثل إخباره بموت المنصور قبل تحقّقه وهو في أوج قدرته ـ دليلاً عمليّاً وحسيّاً آخر على مبدأ إمامته، فضلاً عن ما يفرزه هذا الإخبار بالمستقبل من آمال بانفراج الأزمة التي كانت تتمثّل في عتوّ المنصور وجبروته.

الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام يخبر بموت المنصور

وأراد أبو جعفر المنصور الذهاب إلى مكة ـ وذلك قبيل وفاته ـ فأخبر الإمامعليه‌السلام بعض خواص الشيعة بموته قبل أن يصل إليها. وفعلاً مات قبل الوصول إليها كما أخبر به الإمامعليه‌السلام .

قال علي بن أبي حمزة: سمعت أبا الحسن موسىعليه‌السلام يقول: (لا والله لا يرى أبو جعفر بيت الله أبداً . فقدمت الكوفة فأخبرت أصحابنا، فلم نلبث أن خرج فلمّا بلغ الكوفة قال لي أصحابنا في ذلك فقلت: لا والله لا يرى بيت الله أبداً. فلما صار إلى البستان اجتمعوا أيضاً إليَّ فقالوا: بقي بعد هذا شيء ؟ قلت: لا والله لا يرى بيت الله أبداً.

ــــــــــــ

(١) الكافي: ٥ / ١٠٩ ـ ١١٠ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨ / ١٧٢.

٦٨

فلما نزل بئر ميمون أتيت أبا الحسنعليه‌السلام فوجدته في المحراب قد سجد فأطال السجود ثم رفع رأسه إليَّ فقال:اخرج فانظر ما يقول الناس . فخرجت فسمعت الواعية على أبي جعفر فأخبرته. قال:الله أكبر ! ما كان ليرى بيت الله أبداً )(١) .

وهكذا انتهت حياة المنصور العبّاسي واستولى على الحكم من بعده ابنه المهدي وذلك في سنة (١٥٨ هـ) ، وبذلك بدأ عهد سياسي جديد له ملامحه وخصائصه. وسوف نرى مواقف الإمام الكاظمعليه‌السلام الرساليّة في هذا العهد الجديد.

الفصل الثّالث: الإمام الكاظمعليه‌السلام وحكومة المهدي العبّاسي

ملامح عهد المهديّ العباسيّ

ويمكن أن نوجز ملامح حكومته وعهده فيمايلي:

أولا: لم يطرأ على سياسية الخليفة العبّاسي المهدي أيّ تغيير يعول عليه، فقد التزم بالنهج العبّاسي كخط ثابت واستوحى منه ما يجب أن يعمله من تفصيلات قد تستحدث أثناء سلطته، وسار على ما سار عليه الخلفاء العبّاسيون من قبله، نعم طرأ بعض التغيير لصالح العلويين بعد ذلك التضييق الشديد من المنصور على العلويين فكانت مصلحة الحكم تقتضي شيئاً من المرونة، الأمر الذي دعا الإمامعليه‌السلام أن يستغل هذه المرونة التي اتّخذها المهدي العبّاسي لصالح أتباعه وتوسعة نشاطه ومحاور تحرّكه.

ثانياً: إنّ المرونة التي طرأت على سياسة المهدي العبّاسي مع العلويين كانت في بداية حكمه وتمثلت فيما أصدره من عفو عام عن جميع المسجونين وفي ردّ جميع الأموال المنقولة وغير المنقولة والتي كان قد صادرها أبوه ظلماً وعدواناً إلى أهلها، فردّ على الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام ما صادره أبوه من أموال الإمام الصادقعليه‌السلام .

ــــــــــــ

(١) قرب الإسناد: ٢٦٤ ح ١٢٥٩ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨ / ٤٥.

٦٩

ثالثاً: بعد أن نشط الإمامعليه‌السلام وذاع صيته خلال حكم المهدي استخدم المهدي سياسة التشدد على الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام ، فلقد استدعاه إلى بغداد وحبسه فيها ثم ردّه إلى المدينة(١) .

وكان ذلك في أواخر حكم المهدي تقريباً. كما خطط في هذه المرّة لقتل الإمام عن طريق حميد بن قحطبة، حيث دعا المهدي حميد بن قحطبة نصف الليل وقال: إنّ إخلاص أبيك وأخيك فينا أظهر من الشمس، وحالك عندي موقوف. فقال: أفديك بالمال والنفس، فقال : هذا لسائر الناس. قال: أفديك بالروح والمال والأهل والولد، فلم يجبه المهدي. فقال أفديك بالمال والنفس والأهل والولد والدين فقال: لله درّك. فعاهده المهديّ على ذلك وأمره بقتل الإمام الكاظمعليه‌السلام في السُحرة(٢) بغتة، فنام فرأى في منامه علياً يشير إليه ويقرأ:( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ) (٣) . فانتبه مذعوراً، ونهى حميداً عمّا أمره، وأكرم الإمام الكاظمعليه‌السلام ووصله(٤) .

رابعاً: شجّع المهدي الوضّاعين في زمنه فقام هؤلاء بدور إعلامي تضليلي فأحاطوا السلاطين بهالة من التقديس وأبرزوهم في المجتمع

ــــــــــــ

(١) قرب الإسناد: ١٤٠ ، البحار: ٤٨ / ٢٢٨ ح ٣٢ وأخرجه المالكي في الفصول المهمة: ٢١٦ والشبلنجي في نور الأبصار: ١٦٥.

(٢) السُحرة بالضم: السحر.

(٣) محمد (٤٧): ٢٢.

(٤) المناقب: ٤ / ٣٢٥ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨ / ١٣٩ ح١٥ ، تاريخ بغداد: ١٣ / ٣٠ ، وعنه في تذكرة الخواص: ٣١٣ ووفيات الأعيان: ٥ / ٣٠٨.

٧٠

على أنهم يمثلون إرادة الله في الأرض وأن الخطأ لا يمسّهم فمثل غياث بن إبراهيم الذي عرف هوى المهدي في الحَمام وعشقه لها فحدّثه عن أبي هريرة أنه قال: لا سبق إلاّ في حافر أو نصل ـ وزاد فيه ـ أو جناح. فأمر له المهدي عوض افتعاله للحديث بعشرة آلاف درهم، ولمّا ولّى عنه قال لجلسائه: أشهد أنه كذب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قال رسول الله ذلك ولكنه أراد أن يتقرب إليَّ(١) .

وأسرف المهدي في صرف الأموال الضخمة من أجل انتقاص العلويين والحطّ من شأنهم فتحرّك الشعراء والمنتفعون وأخذوا يلفّقون الأكاذيب في هجاء العلويين ومن جملة هؤلاء الزنديق مروان بن أبي حفصة الذي دخل على المهدي ذات يوم وأنشده قائلاً:

يا ابن الذي ورث النبي محمداً

دون الأقارب من ذوى الأرحام

الوحي بين بني البنات وبينكم

قطع الخصام فلات حين خصام

ما للنساء مع الرجال فريضة

نزلت بذلك سورة الأنعام

أنى يكون وليس ذاك بكائن

لبني البنات وراثة الأعمام

فأجازه المهدي على ذلك بسبعين ألف درهم تشجيعاً له ولغيره على انتقاص أهل البيتعليهم‌السلام .

ولمّا سمع الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام بقصيدة مروان تأثّر أشدّ التأثّر، وفي الليل سمع هاتفاً يتلو عليه أبياتاً تجيب على أبيات بشار وهي:

ــــــــــــ

(١) تاريخ بغداد: ٢ / ١٩٣.

٧١

أنى يكون ولا يكون ولم يكن

للمشركين دعائم الإسلام

لبني البنات نصيبهم من جدهم

والعم متروك بغير سهام

ما للطليق وللتراث وإنما

سجد الطليق مخافة الصمصام

وبقي ابن نثلة واقفاً متلدداً

فيه ويمنعه ذوو الأرحام

إنّ ابن فاطمة المنوّه باسمه

حاز التراث سوى بني الأعمام(١)

خامساً: لقد شاع اللهو وانتشر المجون وسادت الميوعة والتحلّل في حكم المهدي العباسي. وبلغ المهدي حسن صوت إبراهيم الموصلي وجودة غنائه فقرّبه إليه وأعلى من شأنه(٢) .

ولقد استغرق المهدي في المجون واللهو وظن الناس به الظنون واتهموه بشتى التهم والى ذلك أشار بشار بن برد في هجائه إياه.

خليفة يزني بعمّاته

يلعب بالدف وبالصولجان

أبدلنا الله به غيره

ودسّ موسى في حر الخيزران(٣)

سادساً: إنّ جميع ما أخذه المنصور من أبناء الأمة ظلماً وعدواناً وجمعه في خزانته وبخل عن بذله لإعمار البلاد وإصلاح حال الأمة قد بذله المهدي على شهواته حتى أسرف في ذلك بالرغم من كل ما شاهد من البؤس والفقر التي كانت حاضرة أمام الناظرين أيّام حكومته.

وقد روي من بذخه وإسرافه ما بذله لزواج ابنه هارون من زبيدة حتى قال معتز عن بدلة ليلة الزفاف: بأن هذا شيء لم يسبق إليه أكاسرة الفرس ولا قياصرة الروم ولا ملوك الغرب(٤) .

ــــــــــــ

(١) الاحتجاج للطبرسي: ٢/١٦٧، ١٦٨.

(٢) الأغاني: ٥ / ٥.

(٣) شذرات الذهب: ١ / ٣٦٥.

(٤) راجع حياة الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام : ١ / ٤٣٩ ـ ٤٤٠.

٧٢

سابعاً: إن السفّاح والمنصور لم يسمحا لنسائهما بالتدخل في شؤون الدولة ولكن المهدي لمّا استولى على الحكم بدأ سلطان المرأة ينفذ إلى البلاط فزوجته الخيزران أصبحت ذات نفوذ قوي على القصر تقرب من تشاء وتبعّد من تشاء. ومن هذا العصر أخذ نفوذ المرأة يزداد ويقوى في بلاط الحكّام العباسيين حتى بلغ نهايته في أواسط العهد العباسي واستمر حتى نهاية حكمهم(١) .

ثامناً: إن انشغال المهدي باللهو من جانب وحاجته إلى الأموال من جانب آخر شجّع عمّاله على نهب الأموال وسلب ثروات الأمة حتى انتشرت الرشوة عند الموظّفين وتشدّد ولاته في أخذ الخراج. بل عمد المهدي نفسه إلى الاجحاف بالناس فأمر بجباية أسواق بغداد وجعل الأجرة عليها(٢) .

هذه هي بعض الظواهر التي جاء بها عصر المهدي لتضيف كاهلاً آخر للتركة التاريخية المؤلمة التي خلفها بنو العباس والأمويون من قبلهم على الأمة.

وقد نشط الإمام الكاظمعليه‌السلام مستغلاً هذه الفرصة المحدودة فكان برنامجه يتوزّع على خطين:

١ ـ خط التحرك العام في دائرة الأمة والانفتاح عليها بهدف إصلاحها ضمن صيغ وأساليب سياسية وتربوية من شأنها إعادة الأمة إلى وعيها الإسلامي وقيمها الرسالية .

٢ ـ خط بناء الجماعة الصالحة وتأصيل الامتداد الشيعي فتوجّه خلال هذهِ الفترة القصيرة بكل قوة نحو هذا الخط حتى جاء دور الرشيد فضيّق على الإمامعليه‌السلام وسجنه ثم قام بتصفية نشاطه وحياتهعليه‌السلام .

ــــــــــــ

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام : ١ / ٤٤١.

(٢) تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٣٩٩.

٧٣

النشاط العام للإمام الكاظمعليه‌السلام

كان الغالب على حياة الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام عدم الانفتاح على الأُمة في حركته العامة.

وجاءت هذه المحدودية في الانفتاح على الأُمة بسبب تشدّد الخلفاء العباسيين ومراقبة أجهزتهم التجسسية له التي كانت تشك في أيّ حركة تصدر منهعليه‌السلام .

ومع ذلك فقد تنوّعت نشاطات الإمام في مجالات شتّى يمكن أن نشير إليها فيما يلي:

١ ـ المجال السياسي:

قام الإمامعليه‌السلام بتوضيح موقفه تجاه الخلفاء والخلافة للأمة، وان كلفه الموقف ثمناً قد يؤدّي بحياته.

لقد كان هذا التحرك من الإمامعليه‌السلام لئلا يتسرّب الفهم الخاطئ للنفوس ويكون تقريراً منه للوضع الحاكم أو يُتخذ سكوته ذريعة لتبرير المواقف الانهزامية.

من هنا نجد للإمامعليه‌السلام المواقف التالية:

الموقف الأول: لقد ذكرنا بأن المهدي العباسي عند تسلّمه زمام الحكم من أبيه المنصور أبدى سياسة مرنة مع العلويين أراد بها كسبهم وحاول أن ينسب من خلالها المظالم العبّاسية إلى العهد البائد، ويوحي من جانب قوة الخلافة وشرعيتها وعدالتها عندما أعلن إعادة حقوق العلويين لهم وأصدر عفواً عاماً للمسجونين، وأرجع أموال الإمام الصادقعليه‌السلام إلى الإمام الكاظمعليه‌السلام .

من هنا وجد الإمامعليه‌السلام فرصته الذهبية لاستغلال هذه البادرة فبادر بمطالبة المهدي بإرجاع فدك باعتبارها تحمل قيمة سياسية ورمزاً للصراع التأريخي بين خط السقيفة وخط أهل البيتعليهم‌السلام .

٧٤

فدخل على المهدي فرآه مشغولاً بردّ المظالم فقال له الإمامعليه‌السلام : (ما بال مظلمتنا لا ترد ؟! فقال المهدي: وما ذاك يا أبا الحسن ؟ قال: إنّ الله تبارك وتعالى لمّا فتح على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدك وما والاها لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فأنزل الله على نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) (١) فلم يدر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هم ؟ فراجع في ذلك جبرئيل وراجع جبرئيلعليه‌السلام ربّه فأوحى الله إليه : أنْ ادفع فدك إلى فاطمةعليها‌السلام .

فدعاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لها: يا فاطمة ، إنّ الله أمرني أن أدفع إليك فدك، فقالت: قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك. فلم يزل وكلاؤها فيها في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا ولّى أبو بكر أخرج عنها وكلاءها فأتته فسألته أن يردّها عليها فقال لها: ائتيني بأسود أو أحمر يشهد بذلك، فجاءت بأمير المؤمنينعليه‌السلام وأم أيمن فشهدا لها، فكتب لها بترك التعرّض فخرجت والكتاب معها. فلقيها عمر فقال: ما هذا معك يا بنت محمد؟ قالت: كتاب كتبه لي ابن أبي قحافة، قال: أرينيه فأبت، فانتزعه من يدها ونظر فيه ثم تفل فيه ومحاه وخرقه، فقال لها: هذا لم يوجف عليه أبوك بخيل ولا ركاب فضعي الجبال في رقابنا.

فقال له المهدي: حدّها لي.

فقالعليه‌السلام :حدّ منها جبل أحد، وحد منها عريش مصر، وحد منها سيف البحر، وحدّ منها دومة الجندل .

فقال المهدي: كل هذه حدود فدك ؟ !

فقال له الإمامعليه‌السلام :نعم يا أمير المؤمنين هذا كلّه، إنّ هذا كله ممّا لم يوجف أهله على رسول الله بخيل ولا ركاب .

ــــــــــــ

(١) الإسراء (١٧): ٢٦.

٧٥

فتغيّر المهدي وبدا الغضب على وجهه حيث أعلن له الإمامعليه‌السلام أنّ جميع أقاليم العالم الإسلامي قد أخذت منهم، فانطلق قائلاً: هذا كثير وأنظر فيه)(١) .

الموقف الثاني: في هذه المرحلة كان الإمامعليه‌السلام حريصاً على تماسك الوجود الشيعي في وسط المجتمع الإسلامي ووحدة صفه، لأن الظروف الصعبة، تشكّل فرصة لنفوذ النفوس الضعيفة والحاقدة بقصد التخريب.

وظاهرة القرابة والمحسوبية كانت أهم الركائز التي اعتمد عليها بناء الحكم العبّاسي، وكانت هي الحاكمة فوق كل المقاييس.

لذا نجد موقف الإمامعليه‌السلام من خطورة هذه الظاهرة كان حاسماً، إذ نراه يعلن عن مقاطعة عمّه محمّد بن عبد الله الأرقط أمام الناس تطهيراً للوجود الشيعي من أيّ عنصر مضر مهما كان نسبه قريباً من الإمامعليه‌السلام ، فلم يسمح له بالتسلق وصولا للمواقع أو استغلالاً لها.

فعن عمر بن يزيد قال: كنت عند أبي الحسنعليه‌السلام فذكر محمد بن عبد الله الأرقط فقال: (إني حلفت أن لا يظلّني وإيّاه سقف بيت . فقلت في نفسي: هذا يأمر بالبرّ والصلة ويقول هذا لعمّه !

قال: فنظر إليَّ فقال:هذا من البر والصلة، إنّه متى يأتيني ويدخل عليّ فيقول

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١ / ٥٤٣ ح٢ ، بحار الأنوار: ٤٨ / ١٥٦. ونقل السبط في تذكرة الخواص: ٣١٤ عن ربيع الأبرار للزمخشري: أن ذلك لم يكن من المهدي بل من هارون كان يقول لموسى الكاظم: خذ فدكاً، وهو يمتنع ويقول: إنّ حددتها لم تردها؟ ، فلمّا ألحّ عليه قال: ما أخذها إلاّ بحدودها ، قال: وما حدودها؟ فقال... فعند ذلك استلفى أمره وعزم على قتله.

٧٦

يصدّقه الناس وإذا لم يدخل عليّ، لم يقبل قوله إذا قال )(١) .

وزاد في رواية إبراهيم بن المفضّل بن قيس:(فإذا علم الناس أن لا أُكلّمه لم يقبلوا منه وأمسك عن ذكرى فكان خيراً له) (٢) .

الموقف الثالث: هو موقف الإمام الكاظمعليه‌السلام من ثورة الحسين بن علي ابن الحسن ـ صاحب ثورة فخ ـ بن الحسن المثنى بن الحسن المجتبىعليه‌السلام .

إن الإمام الكاظمعليه‌السلام بالرغم من امتداد شيعة أبيه في أرجاء العالم الإسلامي لم يعمل في هذه المرحلة بصيغة المواجهة المسلّحة طيلة أيام حياته، حتى أعلن عن موقفه هذا من حكومة المهدي عندما حبسه المهدي ورأى الإمام علياًعليه‌السلام في عالم الرؤيا وقصّ رؤياه على الإمامعليه‌السلام وقرر إطلاق سراحه، قال له: أفتؤمنني أن تخرج عليّ أو على أحد من ولدي؟ فقال الإمامعليه‌السلام :(والله لا فعلت ذلك ولا هو من شأني) (٣) .

وهذا الموقف للإمامعليه‌السلام بقي كما هو مع حكومة موسى الهادي لأسباب موضوعية سبقت الإشارة إلى بعضها إلاّ أن الإمامعليه‌السلام مارس دور الإسناد والتأييد لثورة الحسين ـ صاحب فخ ـ من أجل تحريك ضمير الأُمة والإرادة الإسلامية ضد التنازل المطلق عن شخصيتها وكرامتها للحكام المنحرفين.

ولمّا عزم الحسين على الثورة قال له الإمامعليه‌السلام :(إنّك مقتول فأحدّ الضراب فإنّ القوم فسّاق يظهرون إيماناً ويضمرون نفاقاً وشركاً فإنّا لله وإنّا إليه راجعون

ــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٨ / ١٦٠ عن بصائر الدرجات: ٦٤ ب ١٠ ح ٥.

(٢) بحار الأنوار: ٤٨ / ١٥٩ عن قرب الاسناد: ٢٣٢ ح ١١٧٤.

(٣) تاريخ بغداد، وعنه في تذكرة الخواص: ٣١١ ومطالب السؤول لابن طلحة الشافعي: ٨٣ وعن الجنابذي في كشف الغمة: ٣/٢ ـ ٣ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨/١٤٨ ح ٢٢.

٧٧

وعند الله أحتسبكم من عُصبة) (١) .

ولمّا سمع الإمام الكاظم بمقتل الحسين رضي الله عنه بكاه وأبّنه بهذه الكلمات:(إنّا لله وإنا إليه راجعون ، مضى والله مسلماً صالحاً، صوّاماً قوّاماً، آمراً بالمعروف ، ناهياً عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله) (٢) .

٢ ـ المجال الأخلاقي والتربوي:

لقد أشاع الحكّام العبّاسيون أخلاقاً وممارسات جاهلية أصابت القيم والأخلاق الإسلامية بالاهتزاز وعرّضت المثل العليا للضياع.

وهذا المخطط كان يستهدف المسخ الحضاري للأمة الإسلامية ولم يكن حالة عقوبة أفرزتها نزوة الخليفة فقط وإنما هي ذات رصيد تأريخي وجزء من تخطيط جاهلي هادف لتغيير معالم الحضارة والأمة الإسلامية التي ربّاها القرآن العظيم والرسول الكريم.

من هنا واجه الإمامعليه‌السلام هذا المخطط بأسلوب أخلاقي يتناسب مع أهداف الرسالة يذكّر الأُمة بأخلاقية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعيد لها صوراً من مكارم أخلاقه.

هنا نشير إلى نماذج من نشاطه:

النموذج الأول: عن حماد بن عثمان قال: بينا موسى بن عيسى في داره التي تشرّف على المسعى، إذ رأى أبا الحسن موسىعليه‌السلام مقبلاً من المروة على بغلة فأمر ابن هيّاج ـ رجل من همدان منقطعاً إليه ـ أن يتعلّق بلجامه ويدّعي البغلة، فأتاه فتعلّق باللجام وادعّى البغلة، فثنى أبو الحسنعليه‌السلام رجله فنزل عنها

ــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٨ / ١٦٥ عن مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني.

(٢) أصول الكافي: ١/٣٦٦ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨ / ١٦١، ح ٦.

٧٨

وقال لغلمانه: خُذوا سرجها وادفعوها إليه، فقال والسرج أيضاً لي، فقال له أبو الحسنعليه‌السلام :(كذبت عندنا البيّنة بأنه سرج محمد بن علي، وأمّا البغلة فانا اشتريتها منذ قريب وأنت أعلم وما قلت) (١) .

النموذج الثاني: خرج عبد الصمد بن علي ومعه جماعة فبصر بأبي الحسنعليه‌السلام مقبلاً راكباً بغلاً، فقال لمن معه: مكانكم حتى أضحككم من موسى بن جعفر، فلما دنا منه قال له: ما هذه الدابّة التي لا تدرك عليها الثأر، ولا تصلح عند النزال؟ فقال له أبو الحسنعليه‌السلام :(تطأطأت عن سموّ الخيل وتجاوزت قموء العير، وخير الأمور أوسطها) . فافحم عبد الصمد فما أحار جواباً(٢) .

النموذج الثالث: عن الحسن بن محمد: أن رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسنعليه‌السلام فكان يسبّه إذا رآه ويشتم علياًعليه‌السلام . وقد لاحظنا حسن تعامل الإمام معه وكيف أدّى ذلك إلى صلاح رؤيته وتعامله مع الإمامعليه‌السلام (٣) .

٣ ـ المجال العلمي

١ ـ قال أبو يوسف للمهدي ـ وعنده موسى بن جعفرعليه‌السلام ـ: (تأذن لي أن أسأله عن مسائل ليس عنده فيها شيء؟ فقال له: نعم. فقال لموسى بن جعفرعليه‌السلام أسألك ؟ قال:نعم .

قال: ما تقول في التظليل للمحرم؟ قال:لا يصلح . قال: فيضرب الخباء في الأرض ويدخل البيت؟ قال:نعم .

ــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٨ / ١٤٨، ح ٢٣ عن فروع الكافي: ٨/ ٨٦.

(٢) بحار الأنوار: ٤٨ / ١٥٤ / ح٢٦ عن فروع الكافي: ٦/٥٤٠.

(٣) راجع الفصل الثالث من الباب الأوّل، مبحث حلمه عليه‌السلام ص ٣٤ من هذا الكتاب.

٧٩

قال: فما الفرق بين هذين؟ قال أبو الحسنعليه‌السلام :ما تقول في الطامث أتقضي الصلاة؟ قال: لا. قال:فتقضي الصوم ؟ قال: نعم ، قال:ولم؟ قال: هكذا جاء. قال أبو الحسنعليه‌السلام :وهكذا جاء هذا . فقال المهدي لأبي يوسف: ما أراك صنعت شيئاً ؟! قال: رماني بحجر دامغ)(١) .

٢ ـ وكان أحمد بن حنبل يروي عن الإمام موسى بن جعفر عن أبيه حتى يسنده إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم يقول: وهذا إسناد لو قرئ على مجنون أفاق)(٢) .

٣ ـ وحجّ المهدي فصار في قبر (قصر)(٣) العبادي ضجّ الناس من العطش فأمر أن يحفر بئر فلمّا بدا قريباً من القرار هبّت عليهم ريح من البئر فوقعت الدلاء ومنعت من العمل فخرجت الفعلة خوفاً على أنفسهم.

فأعطى علي بن يقطين لرجلين عطاءً كثيراً ليحفرا فنزلا فأبطأ ثم خرجا مرعوبين قد ذهبت ألوانهما فسألهما عن الخبر. فقالا: إنا رأينا آثاراً وأثاثاً ورأينا رجالاً ونساءً فكلما أومأنا إلى شيء منهم صار هباءً، فصار المهدي يسأل عن ذلك ولا يعلمون.

فقال موسى بن جعفرعليه‌السلام :(هؤلاء أصحاب الأحقاف غضب الله عليهم

ــــــــــــ

(١) عيون أخبار الرضا: ١ / ٧٨ وعنه في بحار الأنوار: ٨١ / ١٠٨. ونقله في المناقب: ٤/٣٣٨ عن الفقيه، وليس فيه لا في الحيض ولا في التظليل! وفي الكنى والألقاب: ١/١٨٨ عن الكليني. ونقل نحوه المفيد في الإرشاد: ٢/٢٣٥ عن محمّد بن الحسن الشيباني بمحضر الرشيد، ورواهما في الاحتجاج: ٢ / ١٦٨.

(٢) المناقب: ٤ / ٣٤١.

(٣) قبر العبادي: منزل في طريق مكة من القادسية إلى الغُديب: وفي الاحتجاج: (قصر العبادي): ٢ / ٣٣٣.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

١٨١

وأنّ أيام الخلاف والاقتتال قد انتهت، فها هو المأمون يستعدّ لإرجاع الحقّ إلى أصحابه، وها هو صاحب الحقّ قد أقبل، وستغدو الأيام رخيّةً سهلةً، لكنّهم كانوا واهمين، فالإمامعليه‌السلام يعرف حقّ المعرفة أنّ المأمون غير جادٍّ في عرضه، وأنّه يتظاهر بالرّغبة في التّنازل عن الحكم لأمر في نفسه، وإذا تجاوزنا المأمون إلى بطانته وأجهزته حوله، لرأينا أنّهم أحرص على الملك والجاه والدنيا، لذا فقد رفض الإمام عرض المأمون، فما كان من المأمون إلاّ أن عرض عليه ولاية العهد بعده، والعرض الجديد لم يكن حبّاً بالإمام، وميلاً إلى الحقّ، بل هو تغطية لمآرب أخرى، فالمأمون يرمي من ورائه للحصول على شرعيّةٍ لحكمه، كما يرمي إلى إسكات الثّائرين عليه، ومرّةً ثانيةً يرفض الإمام عرضه، فيلحّ المأمون ويهدّد، ويمعن في تهديداته حتى التلويح بالقتل، بل التصريح به، ويروى أنّ المأمون قال للإمام حين رأى امتناعه عن القبول بما يعرضه عليه: إنّك تتلقّاني أبداً بما أكرهه، وقد أمنت سطوتي، فبا لله أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلاّ أجبرتك على ذلك، فإن فعلت وإلاّ ضربت عنقك.

١٨٢

١٨٣

كان الإمامعليه‌السلام يتوقّع كلّ هذا، كان يعرفه حين دخل مسجد جدّه الرسول في المدينة يودّعه، ويقول وهو يبكي: إنّي أخرج من جوار جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأموت في غربةٍ. كان يدرك ذلك وهو في طريقه من المدينة إلى خراسان مغلوباً على أمره.

وأخيراً فلم يجد أمام إلحاح المأمون وتشدّده بدّاً من القبول، إنّما بشروط لا مناص منها، فقال للمأمون: أنا أقبل ذلك على أن لا أولّي أحداً، ولا أعزل أحداً، ولا أنقض رسماً ولا سنّةً، وأكون في الأمر من بعيدٍ مشيراً.

رضي المأمون، وتمّت البيعة للإمام بولاية العهد، بحضور الوزراء والقادة والأعيان، وحشدٍ كبير من الناس. ووزّع المأمون الأموال والهدايا عليهم، وتزاحم الشعراء على تقديم مدائحهم.

وبهذه المناسبة ضرب المأمون الدراهم وطبع عليها اسم الرضاعليه‌السلام . وصار الخطباء يفتتحون خطبهم بالدعاء للمأمون والرضاعليه‌السلام .

١٨٤

وفي خراسان عقد الإمام مجالس المناظرة مع العلماء والأطبّاء وغيرهم، فكان علمه وسعة اطّلاعه مبعثاً لعجبهم، وكان المأمون يحضر بعض هذه المجالس، ولا يستطيع أن يخفي غيظه وحسده لمكانة الإمام، رغم ادّعائه تشجيع العلوم والأبحاث، وكان الإمام حين يرى منه ذلك، يختصر أحاديثه ويوجزها ما أمكنه، خاصّةً وأنّه أدرك أنّ الموكلين بأموره وقضاء حوائجه كانوا في الحقيقة عيوناً للمأمون عليه، فكانعليه‌السلام يتلوّى من الألم، ويتمنّى لنفسه الموت ليتخلّص من حياةٍ تحيط بها المكاره، وكان يقول: اللهم إن كان فرجي ممّا أنا فيه بالموت فعجّله لي الساعة.

صلاة لم تتمّ

لمّا حضر عيد الفطر في السنة التي عقد فيها المأمون ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام ، أرسل إليه بالركوب إلى العيد والصلاة بالناس والخطبة بهم، فبعث إليه الإمام الرضا: لقد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخول هذا الأمر (يعني قبوله لولاية العهد(، فأعفني من الصلاة بالناس. فألحّ عليه المأمون وقال له: أريد بذلك أن تطمئنّ إليك قلوب الناس، ويعرفوا فضلك. فأجابه الإمام إلى طلبه على شرط أن يخرج إلى الصلاة كما كان يخرج إليها

١٨٥

رسول الله وأميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب من بعده، فقال له المأمون: اخرج كيف شئت. ثمّ أمر القوّاد والحجّاب والناس أن يبكّروا إلى باب الرضاعليه‌السلام ، ليرافقوه إلى الصلاة.

وصباح العيد وقف الناس في الطّرقات وعلى السطوح ينتظرون خروجه، ووقف الجند والقادة على بابه وقد تزيّنوا وركبوا خيولهم. قام الإمام فاغتسل ولبس ثيابه، وتعمّم بعمامةٍ بيضاء من قطن، فألقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفيه، ومسّ شيئاً من الطيب، وقال لمن معه: افعلوا مثل ما فعلت، فخرجوا بين يديه وهو حاف قد شمّر سراويله، فرفع رأسه إلى السماء وقال: الله اكبر، فكبّر معه الناس، ولما رآه القادة والجند على تلك الصّورة، ترجّلوا عن خيولهم، ونزعوا أحذيتهم من أرجلهم، ومشوا خلفه حفاةً، ثم كبّر الرضاعليه‌السلام ، وكبّر معه الناس، وارتفعت أصواتهم بالتكبير حتى سمعت من كلّ الجهات، وضجت المدينة بالمكبّرين، وخرج الناس من منازلهم، وازدحمت بهم الشوارع والطرقات بشكلٍ لم تشهده (مرو) من قبل، وصدق فيه قول الشاعر:

ذكروا بطلعتك النبيّ فهلّلوا *** لمّا طلعت من الصّفوف وكبّروا

١٨٦

حتى انتهيت إلى المصلّى لابساً

نور الهدى يبدو عليك ويظهر

ومشيت مشية خاشعٍ متواضعٍ

لله لا يزهو ولا يتكبّر

ولو أنّ مشتاقاً تكلّف فوق ما

في وسعه لسعى إليك المنبر

كان المأمون يريده أن يخرج للصلاة كما يخرج الملوك، تحفّ بهم الزّينات ومعالم العظمة، ويستغلّون المناسبة لعرض قوّتهم وهيبتهم في النفوس، بينما يرى الإمام أنّ للمناسبة قداستها الروحيّة، ترفع فيها آيات الخضوع والعبوديّة لله تعالى، وترتفع الأصوات بحمده والتكبير له، وشتّان بين ما أراد المأمون وما فعله الإمام ، فما كان من المأمون إلاّ أن بعث إليه يقول:

لقد كلّفناك شططاً (أي زيادةً عن الحدّ( وأتعبناك يابن رسول الله، ولسنا نحبّ لك إلاّ الراحة، فارجع، وليصلّ بالناس من كان يصلي بهم.

فرجع الإمامعليه‌السلام ، لأنّ هذا هو ما يتمنّاه.

أموت في غربةٍ

منذ ذلك اليوم، وقد رأى المأمون تجاوب الناس مع الإمام، وكيف كان توجّههم إليه عميقاً، أحسّ بالمرارة تغلي في أحشائه، وتذكّر أيام أبيه هارون الرّشيد مع الإمام

١٨٧

الكاظمعليه‌السلام ، وكان يرى حفاوة الرشيد البالغة بالإمام، وإكرامه له، وهو (أي المأمون( لا يعرفه، فسأل أباه قائلاً: من هذا الرجل الذي عظّمته وقمت من مجلسك لأجله، وجلست بين يديه؟ قال الرشيد: هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده. فقال المأمون: أليست هذه الصفات كلّها لك وفيك؟ فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حقّ، والله يا بنيّ إنّه لأحقّ بمقام رسول الله منّي ومن الخلق أجمعين، فقال له المأمون: إذا كنت تعرف ذلك فتنحّ عن الملك وسلّمه لأصحابه، فقال: يا بنيّ إنّ الملك عقيم، والله لو نازعتني فيه لأخذت الذي فيه عيناك.

تذكّر المأمون هذه الواقعة مع أبيه، ولا يزال صدى العبارة الأخيرة يرنّ في مسامعه: والله لو نازعتني فيه لأخذت الذي فيه عيناك.

وما له يسلّط على هذا الملك رجلاً يلتفّ الناس حوله إذا حضر، وتهفو إليه قلوبهم إن غاب، يجلّونه ويقدّرونه؟ أليس أبوه الذي قال: إنّ الملك عقيم؟ أليس بالأمس القريب قتل أخاه وعشرات الألوف من الناس في سبيل هذا الملك؟

١٨٨

تذكّر كلّ هذا وصمّم أمراً، صمّم أن يريح نفسه من هذا الهمّ الذي جلبه على نفسه بيديه، وقرّر أن يتخلّص من الإمام.

ولم يطل الأمر كثيراً، وكان قد مضى على الإمام في ولاية العهد ما يقرب من سنتين، حين استشهد مسموماً، واتّهم المأمون بقتله، لكنّه أنكر التّهمة، وأظهر عليه الأسى والحزن. وكان استشهاده سنة ٢٠٣ للهجرة بطوس، ودفن في مشهد. ويختلف الناس لزيارة قبره من جميع أنحاء العالم. ويروى عنه أنّه قال: من زارني في غربتي كان معي في درجتي يوم القيامة.

عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأزكى السلام.

١٨٩

الإمام محمد الجوادعليه‌السلام

الاسم: الإمام محمد الجوادعليه‌السلام

اسم الأب: الإمام علي الرضاعليه‌السلام

اسم الأم: خيزران

تاريخ الولادة: ١٠ رجب سنة ١٩٥ للهجرة

محل الولادة: المدينة

تاريخ الاستشهاد: ٦ ذي الحجة سنة ٢٢٠ للهجرة

محل الاستشهاد: الكاظمية

محل الدفن: الكاظمية

المواجهة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم

في يوم دافئ، وأشعّة الشمس تتسلّل برفق عبر أزقّة مدينة بغداد، وتبدأ انتشارها فوق السّهول المترامية الأطراف حولها، خرج المأمون العباسي مع نفر من حاشيته للصيد، وقد امتطوا جيادهم يسابقون بها الريح، مصطحبين صقورهم وكلابهم، قاصدين السّهول الممتدّة حول المدينة.

بغداد في تلك الأيام كانت مدينةً كبيرةً جداً، تحيط بها مزارع البرتقال وكروم العنب وأشجار النّخيل، يزيّنها العشب الأخضر والورود.

كان الموكب يجتاز شوارع العاصمة، مثيراً الرعب والذّعر في قلوب الناس. وفي أحد الشوارع صادف مجموعةً من الصبية يلعبون ويتراكضون، وما إن شعر الصبيّة باقتراب خيل الحاكم حتى هربوا في كلّ

١٩٠

اتّجاهٍ؛ وتلك كانت صورة الحكّام المرعبة، فقد ترك أسلاف المأمون كالرّشيد والمنصور وهشامٍ والحجاج بصمات البطش والإرهاب في النفوس.

خلت الساحة من الأطفال، عدا طفل منهم، انتصب شامخاً أمام الموكب غير آبهٍ به، ممّا أثار دهشة المأمون، فأمر بإحضار الصبيّ إليه، وخاطبه قائلاً: لماذا لم تهرب مع الصبية الآخرين؟ قال الصبيّ: مالي ذنب فأفرّ منه، ولا الطريق ضيّق فأوسّعه عليك، فسر حيث شئت.

قال المأمون متعجّباً من جرأة الغلام: من تكون أنت؟ قال: أنا محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام .

قال المأمون: ما تعرف من العلوم؟

قال: سلني عن أخبار السّماوات.

(لقد سأل المأمون الغلام الصغير عمّا يعرفه من العلوم، والعلوم لا يعرفها إلاّ من درسها، وقضى السنين في تعلّمها، فكيف يسأل عنها غلاماً صغيراً؟

والجواب أنّ المأمون يعلم ذلك، لكنّه بعد أن

١٩١

عرف أنّ الغلام هو ابن الإمام الرضاعليه‌السلام ، وأنّه فرع من الشجرة المباركة، شجرة أهل البيتعليهم‌السلام ، الذين يتوارثون العلوم والمعارف، كلاّ عمّن سبقه، سأله هذا السؤال الطبيعيّ).

ترك المأمون الإمام مبتعداً نحو السّهول، وهو غارق في التفكير بأمر هذا الغلام، ومضى النهار إلا أقلّه، والمأمون لا يجد صيداً، فأطلق أحد صقوره يبحث عن طريدة؛ حلّق الصّقر عالياً وغاب عن الأنظار ساعةً، عاد بعدها وهو يحمل حيّةً بين مخالبه، وألقاها أمام المأمون، أمر المأمون بوضع الحيّة في صندوق وقال لأصحابه: قد دنا حتف ذلك الغلام في هذا اليوم، وعلى يديّ. ثمّ عاد أدراجه نحو بغداد.

وفي طريق عودته، التقى بالصبيّة أنفسهم وابن الرضا بينهم، فاقترب منه قائلاً (وكأنّما يتابع معه حديث الصباح):

وما عندك من أخبار السماوات؟

أجاب الإمام قائلاً: حدثني أبي عن آبائه، عن النبيّ، عن جبرائيل، عن ربّ العالمين أنّه قال: بين السماء والهواء عجاج (والعجاج هو الغبار أو الدخان)

١٩٢

يتلاطم به الأمواج. فيه حيات خضر البطون، رقط الظهور (لونها مبقّع بالبياض والسواد(، يصيدها الملوك بالبزاة الشهب، ليمتحنوا به العلماء.

فقال المأمون: صدقت، وصدق أبوك، وصدق جدّك، وصدق ربّك.

كان هذا هو اللّقاء الأول بين الإمام والمأمون، وتوالت اللّقاءات، وتعرّف المأمون أكثر وأكثر على مناقب الإمام العالية، وضلوعه بالعلم والمعرفة، وصمّم أن يزوّجه ابنته.

اعتراض العباسيين

كان المأمون يرمي من تزويج ابنته من الإمام الجوادعليه‌السلام ، إلى اكتساب رضى السادة العلويين، وإزالة ذكرى الموت المفاجئ للإمام الرضاعليه‌السلام من الخواطر، مدّعياً الصفاء معهم، كما يرمي من جهة ثانية إلى أن يكون الإمام الجواد على مقربةٍ منه، ليتمكّن من مراقبته بواسطة عيونه وجواسيسه، ومعرفة تحرّكاته واتّصالاته، وقد سبق للمأمون أن اتّبع الأسلوب نفسه مع الإمام الرضاعليه‌السلام .

ولمّا علم العباسيون بالأمر، ثقل عليهم

١٩٣

واستكبروه، وخافوا أن ينتهي الأمر مع الجواد إلى ما انتهى إليه مع أبيه الرضا، فيفوز بولاية عهد المأمون.

اجتمع نفر منهم إلى المأمون قائلين: ننشدك الله يا أميرالمؤمنين أن تصرف النظر عن هذا الأمر الذي عزمت عليه من تزويج ابن الرضا؛ فإنّا نخاف أن تخرج عنّا أمراً قد ملكناه، وتنزع عنّا عزّاً قد ألبسناه، فقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم آل عليّ قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك معهم، وقد كنّا في وهلةٍ (فزع( من عملك مع الرضا ما عملت، حتّى كفانا الله ألمهمّ من ذلك، فالله الله أن تردّنا إلى غم انحسر عنّا (زال عنا(، فاصرف رأيك عن ابن الرضا، واعدل إلى من تراه من أهل بيتك يصلح لها دون غيرهم.

فأجابهم المأمون: أمّا ما كان بينكم وبين آل أبي طالب، فأنتم السبب فيه، ولو أنصفتم القوم لكانوا أولى بكم. وأمّا ما كان يفعله من قبلي بهم، فقد كان قاطعاً للرّحم، وأعوذ بالله من ذلك وأمّا أبوجعفرٍ محمد (الجواد( بن عليّ فقد اخترته لتبريزه (تفوّقه( على كافّة أهل الفضل في العلم، مع صغر سنّه.. وأنا

١٩٤

١٩٥

أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه، ليعلموا أنّ الرأي ما رأيت فيه.

فقالوا: أتزوّج ابنتك وقرّة عينك صبياً لم يتفقّه في دين الله، ولم يعرف حلاله من حرامه، ولا فرضه من سننه؟ فأمهله ليتأدّب ويقرأ القرآن ويتفقّه في الدين، ثمّ اصنع ما تراه بعد ذلك.

فقال لهم: ويحكم، إنّي أعرف بهذا الفتى منكم، وإنّه لأفقه منكم وإن شئتم فامتحنوه، فإن كان كما وصفتم قبلت منكم

فقالوا: لقد رضينا لك ولأنفسنا بامتحانه؛ فخلّ بيننا وبينه، لنعيّن من يسأله بحضرتك عن شيءٍ من فقه الشريعة، فإن أصاب الجواب لم يكن لنا اعتراض، وإن عجز عن ذلك فقد كفينا أمره.

قبل المأمون، وعيّن لهم يوماً لذلك.

ثم اجتمع رأيهم على يحيى بن أكثم ، قاضي القضاة يومذاك، على أن يسأل الإمام مسألة لا يعرف الجواب عنها، ووعدوه بأموالٍ وفيرةٍ إن هو استطاع ذلك.

مجلس الامتحان

وفي اليوم الذي عيّنه المأمون، حضر الإمام وقاضي القضاة والمأمون، كما حضر كبار العباسييّن، وأعيان الدولة، وجلس الناس على مراتبهم، بينما أجلس المأمون الإمام الجواد إلى جانبه.

من الجدير بالذكر أنّ تلك المجالس الفخمة التي كان العباسيون يقيمونها من وقت إلى آخر، لم تكن بالنسبة إليهم إلاّ مجالس ترفٍ ولهوٍ، ولم تكن تعقد بناءً على التعاليم الإسلامية التي تراعي أصول التساوي بين الناس، ولم يسيروا فيها على خطى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخطى الإمام عليّعليه‌السلام ، في جعلها مجالس للمذاكرة في تعاليم الإسلام وأحكامه، ممّا يعود بالفائدة على الجميع، بل كانت مجالس للمناظرة والمبارزة الكلاميّة وإلقاء الأشعار والخطب. فحضور الإمام في هذا المجلس لم يكن حضور مشارك أو حتى ضيفٍ، بل كان - في الواقع - حضوراً قهريّاً إجبارياً لا يستطيع منه فكاكاً على أيّ حالٍ، فقد جلس الإمام في مكانٍ فخمٍ مزيّن إلى جانب المأمون، كما جلس النبيّ يوسف

١٩٦

- من قبل - إلى جانب فرعون مصر. وفي قصص الأنبياء دروس للناس، تبيّن لهم الحقائق الكامنة وراء الأحداث التاريخية المختلفة باختلاف الأزمان، فها هو يوسف النبي، يجلس إلى جوار فرعون مصر ويدير له شؤون دولته، وفي يوم آخر، يقوم نبيّ آخر هو موسىعليه‌السلام ، ضدّ فرعون آخر، فيهزمه ويقضي عليه. ولكنّ الكثرين لا يفكّرون في أحداث التاريخ، ويعجزون عن فهمها وإدراك مغزاها. تقول الآية الشريفة:

( لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسّائلين ) .

ساد المجلس صمت مطبق، والكلّ يتطلّع إلى رؤية الإمام الجواد، هذا القادم الجديد إلى بغداد، والذي لم تقع عليه أعين الناس من قبل، ورؤية مقدرته، وهو ابن تسع سنين، في مواجهة قاضي قضاة بغداد، ويتساءلون: هل في مقدور حفيد رسول الله أن يصمد أمام أسئلة هذا العالم الكبير؟

قطع القاضي يحيى بن أكثم حبل الصمت، والتفت إلى المأمون قائلاً:

أيأذن لي أميرالمؤمنين بأن أوجّه سؤالاً إلى أبي

١٩٧

جعفر بن الرّضا؟

أجاب المأمون: عليك أن تأخذ الإذن منه.

التفت يحيى بن أكثم إلى الإمام الجواد قائلاً:

(أتأذن لي - جعلت فذاك - في مسألة؟ فقال له أبو جعفر: سل إن شئت. قال يحيى: ماذا تقول في محرم قتل صيداً؟ أجاب الإمام:

قتله في حلّ أوحرم؟ عالماً كان المحرم أم جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حرّاً كان أم عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أم معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصيد أم من كباره؟ مصرّاً على ما فعل أم نادماً؟ في الليل كان قتله للصيد في أوكاره أم نهاراً؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله، أو بالحجّ كان محرماً؟

فتحيّر يحيى بن أكثم، وبان في وجهه العجز والانقطاع، وتلجلج حتى عرف أهل المجلس أمره).

لم يكن يحيى بن أكثم قد سمع - حتى يومه ذاك - بأكثر من وجه واحدٍ للمحرم الذي يقتل صيداً، ولم يعرف لذلك سوى حكم واحدٍ، ويفاجأ الآن بأنّ سؤالاً قصيراً واحداً يحتاج - في الإجابة عليه - إلى كلّ

١٩٨

ذلك التفصيل الكبير.

تحيّر يحيى بن أكثم، وتحيّر معه كلّ من حضر المجلس، وأدركوا بأنّ الإمام الجوادعليه‌السلام بحر من العلم والمعرفة؛ فقد أعطاهم - على صغر سنه - درساً في الأحكام، وهو أنّ الحكم في كلّ مسألةٍ يختلف باختلاف ظروفها وملابساتها.

ويروى أنّ المأمون طلب من الإمام أن يسأل يحيى بن أكثم كما سأله، فأجابه الإمام إلى طلبه، وسأل القاضي سؤالاً لم يعرف الإجابة عليه، وقال: والله لا أهتدي لجوابك، ولا أعرف الوجه في ذلك، فإن رأيت أن تفيدنا. فاستجاب الإمام إلى رغبته، وأعطاه جواب المسألة.

عند ذاك، أقبل المأمون على من حضره من أهل بيته قائلاً: ويحكم، إنّ أهل هذا البيت خصّوا من بين الخلق بما ترون من الفضل، وإنّ صغر السنّ فيهم لا يمنعهم من الكمال، أما علمتم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله افتتح دعوته بدعاء أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وهو ابن عشر سنين. وقبل الإسلام منه، ولم يدع أحداً في سنه غيره؟ أفلا تعلمون الآن ما خصّ

١٩٩

الله به هؤلاء القوم، وأنّهم ذريّة بعضها من بعض، يجري لآخرهم ما يجري لأوّلهم؟ فقالوا: صدقت يا أميرالمؤمنين، إنّ ما تراه هو الصّواب.

زواج سياسيّ

سرّ المأمون لخروجه من المراهنة منتصراً، ورأى أن يستغلّ الفرصة المتاحة، فالتفت نحو الإمام قائلاً:

يا بقيّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لقد علمت فضلك ومنزلتك، واخترتك زوجاً لابنتي (أمّ الفضل)، وإنّي - رغم معارضة الكثيرين لهذا الزّواج - أطلب منك القبول.

تردّد الإمام؛ فهو يعرف تماماً ما يرمي إليه المأمون من هذه المصاهرة، ويدرك الأهداف التي تكمن وراءها، فهي ليست في الواقع إلاّ زواجاً سياسيّاً، يحقّق للمأمون أغراضه في تهدئة وإرضاء العلويّين وفي جعل الإمام الجواد قريباً منه وتحت مراقبته.

شعر الإمام بالضيق، لكنّه كان يدرك حرج الموقف، فهو لا يستطيع أن يرفض طلب المأمون أمام هذا الجمع الكبير من أعيان بغداد، ورجالات الدولة وقوّادها، ففي الرّفض إهانة عظيمة للمأمون، والله

٢٠٠

201

202