اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)18%

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام
ISBN: 964- 5688-23
الصفحات: 220

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 220 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135983 / تحميل: 8331
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
ISBN: ٩٦٤- ٥٦٨٨-٢٣
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

المسلم أن يظلمه أو يخذله، أو يدفعه دفعة تعنته) (١) .

ودعا إلى المجاملة حفاظاً على الأفق العام من العلاقات فقال:(خالطوهم بالبرّانية وخالفوهم بالجوّانية إن كانت الإمرة صبيانية) (٢) .

عاشراً: الإمام الباقرعليه‌السلام ومستقبل الجماعة الصالحة

من أهم مقومات نجاح مسيرة الجماعات وجود قيادة تقوم بالإشراف على حركتها التكاملية، وتتبنى التغيير الشامل، وتقوم بتنسيق البرامج والخطط، وتشرف على تنفيذها في الواقع، وتمدّها بالقوة الروحية والشحنة المعنوية للوصول إلى أهدافها وآمالها، والقيادة في منهج أهل البيتعليهم‌السلام هي قيادة ربّانية نصّ عليها الله تعالى وأبلغها لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبلغها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير المؤمنينعليه‌السلام وتتدرج الوصية من إمام إلى إمام حتى تصل إلى خاتم الأوصياء والأئمةعليهم‌السلام .

وقد أولى الإمام الباقرعليه‌السلام الإمامة من بعده أهمية خاصة ووجّه أنظار أصحابه إليها، في شروطها وخصائصها، وفي تشخيصها في الواقع، فأعلن عنها تارةً إعلاناً جلياً وآخر خفياً، ابتداءً من أول مراحل إمامته، حتى أواخر أيامه الشريفة، وكان يستثمر الفرص المناسبة للإشارة إليها وتأكيد الاقتداء بها.

وكان الإعلان عن إمامة الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام مصحوباً بالسريّة، وفي نطاق محدود لم يخبر بها إلاّ أصحابه المخلصين المقرّبين له، حفاظاً على سلامة الإمام من بعده.

روي عن محمد بن مسلم أنّه قال: كنت عند أبي جعفر محمد بن علي الباقرعليه‌السلام ، إذ دخل جعفر ابنه وعلى رأسه ذؤابة، وفي يده عصا يلعب بها، فأخذه وضمّه إليه ضماً، ثم قال:بأبي أنت وأمي لا تلهو ولا تلعب .

ــــــــــــــ

(١) الكافي: ٢ / ٢٣٤.

(٢) المصدر السابق: ٢ / ٢٢٠ .

١٨١

ثم قال:(يا محمد هذا إمامك بعدي، فاقتد به، واقتبس من علمه، والله انه لهو الصادق الذي وصفه لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...) (١) .

وعن همام بن نافع قال: قال أبو جعفر لأصحابه يوماً:(إذا افتقدتموني فاقتدوا بهذا فإنه الإمام بعدي) ، وأشار إلى ابنه جعفرعليه‌السلام (٢) .

وسئل الإمام الباقرعليه‌السلام عن القائم فضرب بيده على أبي عبد الله جعفر ابن محمدعليه‌السلام (٣) .

وعن فضيل بن يسار، قال: كنت عند أبي جعفرعليه‌السلام فأقبل أبو عبد اللهعليه‌السلام فقال:(هذا خير البريّة بعدي) (٤) .

وعن عبد الغفار بن القاسم ـ في حديث طويل ـ جاء فيه قوله للإمام الباقرعليه‌السلام : (إني قد كبرت سنّي ودق عظمي ولا أرى فيكم ما أسره، أراكم مقتّلين مشردين خائفين، وإني أقمت على قائمكم منذ حين أقول: يخرج اليوم أو غداً.

فقال له ـ الإمام الباقرعليه‌السلام ـ:(يا عبد الغفار إن قائمنا عليه‌السلام هو السابع من ولدي، وليس هو أوان ظهوره، ولقد حدثني أبي عن أبيه عن آبائه قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الأئمة بعدي اثنا عشر عدد نقباء بني إسرائيل، تسعة من صلب الحسين، والتاسع قائمهم، يخرج في آخر الزمان فيملأها عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً) .

قلت: فإن كان هذا كائن يا ابن رسول الله، فإلى من بعدك ؟.

ــــــــــــــ

(١) كفاية الأثر: ٢٥٣.

(٢) المصدر السابق: ٢٥٤.

(٣) إثبات الوصيّة: ١٥٢.

(٤) المصدر السابق: ١٥٥.

١٨٢

قالعليه‌السلام :إلى جعفر وهو سيد أولادي وأبو الأئمة، صادق في قوله وفعله (١) .

وعن أبي الصباح الكناني، قال: نظر أبو جعفر إلى أبي عبد الله يمشي، فقال:ترى هذا ؟ هذا من الذين قال الله تعالى: ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) (٢)(٣) .

وعن زرارة قال: إن أبا جعفرعليه‌السلام أحضر أبا عبد اللهعليه‌السلام وهو صحيح لا علّة به، فقال له:إني أريد أن آمرك بأمر ، فقال له:مرني بما شئت ، فقال:ايتني بصحيفة ودواة ، فأتاه بها، فكتب له وصيته الظاهرة، ثم أمر أن يدعو له جماعة من قريش، فدعاهم وأشهدهم على وصيته إليه(٤) .

فهذا الإعلان أمر طبيعي لأنه وصية ظاهرة مألوفة عادةً وهي أن يوصي الموصي إلى أحد أبنائه وخصوصاً الأكبر منهم، فعن الإمام الصادقعليه‌السلام أنه قال:إنّ أبي استودعني ما هناك، وذلك أنّه لما حضرته الوفاة قال: (ادع لي شهوداً فدعوت له أربعة، منهم: نافع مولى عبد الله بن عمر، فقال: اكتب: هذا ما أوصى به يعقوب بنيه: ( يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) وأوصى محمد بن عليّ ابنه جعفر وأمره أنْ يكفّنه في بردته ـ التي كان فيها يصليّ الجمعة ـ وقميصه وأن يعمّمه بعمامته وان يرفع قبره مقدار أربع أصابع، وأن يحلّ أطماره عند دفنه.

ثم قال للشهود: انصرفوا رحمكم الله.

ــــــــــــــ

(١) كفاية الأثر: ٢٥٢.

(٢) القصص (٢٨): ٥.

(٣) الكافي: ١ / ٣٠٦.

(٤) إثبات الوصيّة: ١٥٥.

١٨٣

فقلت: يا أبت ما كان في هذا حتى يشهد عليه ؟ قال: يا بني كرهت أن تغلب، وأن يقال: لم يوص، فأردت أن يكون ذلك الحجّة) (١) .

وأدخل الإمام الباقرعليه‌السلام الأمل في قلوب أصحابه وأتباعه وجميع أفراد الجماعة الصالحة فأخبرهم بقرب زوال حكم بني أمية(٢) .

وبالفعل بعد استشهاد الإمامعليه‌السلام بثمانية عشر عاماً سقطت الدولة الأُموية وانتهى حكم الأمويين على يد بني العباس.

وكان الإمام الصادقعليه‌السلام هو القائم بالأمر من بعده، وكما وصفه المستشار عبد الحليم الجندي: الإمام جعفر الصادق نتاج قرن كامل من العظائم يحني لها الوجود البشري هاماته ويدين بحضارته ...(٣) .

وقال أيضاً: شجرة باسقة تترعرع في كل ورقة من أوراقها خصيصة من خصائص أهل البيت في عصر جديد للعلم، تعاونت فيه أجيال ثلاثة متتابعة منه ومن أبيه وجده(٤) .

ــــــــــــــ

(١) الفصول المهمة: ٢٢٢ وفي الكافي: ١/٣٠٧ أن تكون لك الحجة.

(٢) مناقب آل ابي طالب: ٤ / ٢٠٣، الصواعق المحرقة: ٣٠٧.

(٣) الإمام جعفر الصادق: ٤.

(٤) المصدر السابق: ٦٣ .

١٨٤

الفصل الثاني: اغتيال الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام واستشهاده

ولم يمت الإمام أبو جعفرعليه‌السلام حتف أنفه، وإنما اغتالته بالسم أيد أموية أثيمة لا تؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، وقد اختلف المؤرخون في الأثيم الذي أقدم على اقتراف هذه الجريمة.

فمنهم من قال: إن هشام بن الحكم هو الذي أقدم على اغتيال الإمام فدسّ إليه السم(١) والأرجح هو هذا القول لأن هشاماً كان حاقداً على آل النبي بشدة وكانت نفسه مترعة بالبغض لهم وهو الذي دفع بالشهيد العظيم زيد بن عليعليه‌السلام إلى إعلان الثورة عليه حينما استهان به، وقابله بمزيد من الجفاء، والتحقير. ومن المؤكد أن الإمام العظيم أبا جعفر قد أقضّ مضجع هذا الطاغية، وذلك لذيوع فضله وانتشار علمه، وتحدث المسلمين عن مواهبه، ومن هنا أقدم على اغتياله ليتخلص منه.

ومنهم من قال: إنّ الذي أقدم على سم الإمام هو إبراهيم بن الوليد(٢) .

ويرى السيد ابن طاووس أنّ إبراهيم بن الوليد قد شرك في دم

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٦ / ٣١٢.

(٢) أخبار الدول: ١١١.

١٨٥

الإمامعليه‌السلام (١) ومعنى ذلك أن إبراهيم لم ينفرد وحده باغتيال الإمامعليه‌السلام وإنما كان مع غيره.

وأهملت بعض المصادر اسم الشخص الذي اغتال الإمامعليه‌السلام واكتفت بالقول إنه مات مسموماً(٢) .

دوافع اغتيال الإمام الباقرعليه‌السلام :

أما الأسباب التي أدت بالأمويين إلى اغتيال الإمامعليه‌السلام فهي:

١ ـ سمو شخصية الإمام الباقرعليه‌السلام : لقد كان الإمام أبو جعفرعليه‌السلام أسمى شخصية في العالم الإسلامي فقد أجمع المسلمون على تعظيمه، والاعتراف له بالفضل، وكان مقصد العلماء من جميع البلاد الإسلامية.

لقد ملك الإمامعليه‌السلام عواطف الناس واستأثر بإكبارهم وتقديرهم لأنه العلم البارز في الأسرة النبوية، وقد أثارت منزلته الاجتماعية غيظ الأمويين وحقدهم فأجمعوا على اغتياله للتخلص منه.

٢ ـ أحداث دمشق:

لا يستبعد الباحثون والمؤرخون أن تكون أحداث دمشق سبباً من الأسباب التي دعت الأمويين إلى اغتيالهعليه‌السلام وذلك لما يلي:

أ ـ تفوق الإمام في الرمي على بني أمية وغيرهم حينما دعاه هشام إلى الرمي ظاناً بأنه سوف يفشل في رميه فلا يصيب الهدف فيتخذ ذلك وسيلة للحط من شأنه والسخرية به أمام أهل الشام. ولمّا رمى الإمام وأصاب الهدف عدة مرات بصورة مذهلة لم يعهد لها نظير في عمليات الرمي في العالم، ذهل الطاغية هشام، وأخذ يتميز غيظاً، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وصمم منذ ذاك الوقت على اغتياله.

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٦/٢١٦.

(٢) نور الأبصار: ١٣١، الأئمة الاثنى عشر لابن طولون: ٢٨١.

١٨٦

ب ـ مناظرته مع هشام في شؤون الإمامة، وتفوق الإمام عليه حتى بان عليه العجز ممّا أدّى ذلك إلى حقده عليه.

ج ـ مناظرته مع عالم النصارى، وتغلبه عليه حتى اعترف بالعجز عن مجاراته أمام حشد كبير منهم معترفاً بفضل الإمام وتفوّقه العلمي في أمّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أصبحت تلك القضية بجميع تفاصيلها الحديث الشاغل لجماهير أهل الشام(١) . ويكفي هذا الصيت العلمي أيضاً أن يكون من عوامل الحقد على الإمامعليه‌السلام والتخطيط للتخلّص من وجوده.

نصّه على الإمام الصادقعليه‌السلام :

ونصّ الإمام أبو جعفرعليه‌السلام على الإمام من بعده قبيل استشهاده فعيّن الإمام الصادقعليه‌السلام مفخرة هذه الدنيا، ورائد الفكر والعلم في الإسلام، وجعله مرجعاً عاماً للأمة من بعده، وأوصى شيعته بلزوم اتباعه وطاعته.

وكان الإمام أبو جعفرعليه‌السلام يشيد بولده الإمام الصادقعليه‌السلام بشكل مستمر ويشير إلى إمامته، فقد روى أبو الصباح الكناني، أنّ أبا جعفر نظر إلى أبي عبد الله يمشي، فقال: ترى هذا؟ هذا من الذين قال الله عَزَّ وجَلَّ: ( ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين)(٢) .

كل هذه الأمور بل وبعضها كان يكفي أن يكون وراء اغتيالهعليه‌السلام على أيدي زمرة جاهلية، افتقرت إلى أبسط الصفات الإنسانية، وحرمت من أبسط المؤهلات القيادية.

ــــــــــــــ

(١) راجع بحار الأنوار: ٤٦/٣٠٩ ـ ٣١١.

(٢) أصول الكافي: ١/٣٠٦.

١٨٧

وصاياه:

وأوصى الإمام محمد الباقرعليه‌السلام إلى ولده الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام بعدة وصايا كان من بينها ما يلي:

١ ـ أنه قال له:يا جعفر أوصيك بأصحابي خيراً ، فقال له الإمام الصادق:جُعلت فداك والله لأدعنهم، والرجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحداً (١) .

٢ ـ أوصى ولده الصادقعليه‌السلام أن يكفّنه في قميصه الذي كان يصلي فيه(٢) ليكون شاهد صدق عند الله على عظيم عبادته، وطاعته له.

٣ ـ أنه أوقف بعض أمواله على نوادب تندبه عشر سنين في منى(٣) . ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن منى أعظم مركز للتجمع الإسلامي، ووجود النوادب فيه مما يبعث المسلمين إلى السؤال عن سببه، فيخبرون بما جرى على الإمام أبي جعفرعليه‌السلام من صنوف التنكيل من قبل الأمويين واغتيالهم له، حتى لا يضيع ما جرى عليه منهم ولا تخفيه أجهزة الإعلام الأُموي.

وسرى السم في بدن الإمام أبي جعفرعليه‌السلام ، وأثّر فيه تأثيراً بالغاً، وأخذ يدنو إليه الموت سريعاً، وقد اتجه في ساعاته الأخيرة بمشاعره وعواطفه نحو الله تعالى، فأخذ يقرأ القرآن الكريم، ويستغفر الله، فوافاه الأجل المحتوم ولسانه مشغول بذكر الله فارتفعت روحه العظيمة إلى خالقها، تلك الروح التي أضاءت الحياة الفكرية والعلمية في الإسلام والتي لم يخلق لها نظير في عصره.

وقد انطوت برحيله أروع صفحة من صفحات الرسالة الإسلامية التي أمدّت المجتمع الإسلامي بعناصر الوعي والازدهار.

ــــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١/٣٠٦.

(٢) صفة الصفوة: ٢/٦٣، تاريخ ابن الوردي: ١/١٨٤، تاريخ أبي الفداء: ١/٢١٤.

(٣) بحار الأنوار: ١١/٦٢.

١٨٨

وقام ولده الإمام الصادقعليه‌السلام بتجهيز الجثمان المقدس فغسّله وكفنه، وهو يذرف أحر الدموع على فقد أبيه الذي ما أظلت على مثله سماء الدنيا في عصره علماً وفضلاً وحريجة في الدين.

ونقل الجثمان العظيم ـ محفوفاً بإجلال وتكريم بالغين من قبل الجماهير ـ إلى بقيع الغرقد، فحفر له قبراً بجوار الإمام الأعظم أبيه زين العابدينعليه‌السلام وبجوار عم أبيه الإمام الحسن سيد شاب أهل الجنةعليه‌السلام وأنزل الإمام الصادق أباه فى مقرّه الأخير فواراه فيه، وقد وارى معه العلم والحلم، والمعروف والبر بالناس.

لقد كان فقد الإمام أبي جعفرعليه‌السلام من أفجع النكبات التي مُني بها المسلمون في ذلك العصر، فقد خسروا القائد، والرائد، والموجه الذي بذل جهداً عظيماً في نشر العلم، وبلورة الوعي الفكري والثقافي بين المسلمين.

والمشهور بين الرواة أنه توفي وعمره الشريف ٥٨ سنة.

وكانت سنة وفاته ـ بحسب الرأي المشهور ـ سنة ١١٤ هـ.

تعزية المسلمين للإمام الصادقعليه‌السلام :

هرع المسلمون وقد قطع الحزن قلوبهم إلى الإمام الصادقعليه‌السلام وهم يعزونه بمصابه الأليم، ويشاركونه اللوعة والأسى بفقد أبيه، وممن وفد عليه يعزيه سالم بن أبي حفصة، قال: لما توفي أبو جعفر محمد بن علي الباقرعليهما‌السلام قلت لأصحابي انتظروني حتى أدخل على أبي عبد الله

١٨٩

جعفر بن محمد فأعزيه به، فدخلت عليه فعزيته، وقلت له: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب والله من كان يقول [قال:] رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يسأل عمن بينه وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والله لا يرى مثله أبداً ! قال: وسكت الإمام أبو عبد اللهعليه‌السلام ساعة، ثم التفت إلى أصحابه فقال لهم:قال الله تعالى: إن من عبادي من يتصدق بشق من تمرة فاربيها له، كما يربي أحدكم فلوه) (١) .

وخرج سالم وهو منبهر فالتفت إلى أصحابه قائلاً: ما رأيت أعجب من هذا!! كنا نستعظم قول أبي جعفرعليه‌السلام قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا واسطة، فقال لي أبو عبد اللهعليه‌السلام قال الله بلا واسطة(٢) .

الفصل الثالث: تراث الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام

علمنا أن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تنبّأ بأن حفيده محمد بن علي ابن الحسينعليه‌السلام سوف يبقر العلم بقراً ويفجره تفجيراً.

وقد شهد معاصرو الإمامعليه‌السلام بهذه الظاهرة التي كانت ملفتة للنظر وتناقلها المؤرخون جيلاً بعد جيل.

والتراث الذي تركه لنا هذا الإمام الهمام لهو خير دليل على صحة ما شهد به هؤلاء المؤرخون على مدى القرون والأجيال ودليل من دلائل نبوة جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

لقد كانت المرحلة التي عاشها الإمام الباقرعليه‌السلام تتطلّب منه أن يقوم بتشييد أسس الحضارة الإسلامية وتحصين الأمة المسلمة بروافد المعرفة الإسلامية لتقف في وجه المدّ الثقافي الذي كان يخترق الحياة الإسلامية بسبب الفتوحات والانفتاح الحضاري على ثقافات الأمم الوافدة على الدولة الإسلامية العظمى.

ــــــــــــــ

(١) الفلو بفتح الفاء، وضم اللام وتشديد الواو ـ المهر الصغير، والاثنى فلوة، والجمع أفلا.

(٢) أمالي الشيخ الطوسي: ١٢٥، راجع حياة الإمام محمد الباقر لفضيلة الشيخ باقر شريف القرشي: ٢/٣٨٦ ـ ٣٩٥.

١٩٠

ومن هنا نستطيع أن نقول: إن المعالم الرئيسية لرسالة الأئمة بعد الحسينعليه‌السلام تتلخص في التحصين المعرفي والثقافي للأمة المسلمة بشكل عام وللجماعة الصالحة بشكل خاص.

فإن الوقوف على تراثهم الذي قدّموه للأمة الإسلامية خلال النصف الثاني من القرن الأول الهجري وحتى بداية القرن الثالث الهجري يكشف عن عظمة هذا التراث وتفرّده عمّا سواه من التراث الذي نجده لدى عامة الفرق الإسلامية، ويتميّز عن كل ذلك بالاستيعاب لكل حقول المعرفة، وسلامة المصدر، ونقاء المحتوى، ووضوح الارتباط بمصادر المعرفة الربّانية المتمثلة بكتاب الله وسنّة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولابد أن ينعكس ثراء هذا التراث وعظمته في هذه الموسوعة رغم اختصارها وعدم استيعابها لكل تراث الإمام الباقرعليه‌السلام .

وقد اخترنا من تراثه الثرّ نماذج في مختلف حقول العلم والمعرفة الإسلامية بمقدار ما تقتضيه صفحات هذا الجزء الخاص بالإمام الباقرعليه‌السلام أخذاً بالميسور والله من وراء القصد وهو الموفق للصواب.

التراث التفسيري للإمام محمد الباقرعليه‌السلام

لا ريب في أن القرآن الكريم هو أول مصادر التشريع الإسلامي وأهم مصادر الثقافة الإسلامية التي تعطي للأمة الإسلامية وللرسالة الإلهية هويّتها الخاصة وتسير بالأمة إلى حيث الكمال الإنساني المنشود.

١٩١

وقد اعتنى الإمام الباقرعليه‌السلام كسائر الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام بالقرآن الكريم تلاوةً وحفظاً وتفسيراً وصيانةً له عن أيدي العابثين وانتحال المبطلين، فكانت محاضراته التفسيرية للقرآن الكريم تشكّل حقلاً خصباً لنشاطه المعرفي وجهاده العلمي وهو يرسم للأمة المسلمة معالم هويتها الخاصة ومن هنا خصص الإمامعليه‌السلام للتفسير وقتاً من أوقاته وتناول فيه جميع شؤونه وقد أخذ عنه علماء التفسير ـ على اختلاف آرائهم وميولهم ـ الشيء الكثير(١) فكان من ألمع المفسّرين للقرآن الكريم في دنيا الإسلام.

وقد نهج الإمام الباقرعليه‌السلام في تفسير القرآن الكريم منهجاً علميّاً خاصاً متّسقاً مع أهداف الرسالة وأصولها ونعى على أهل الرأي والاستحسان وأهل التأويل والظنون، فكان مما اعترض به على قتادة أن قال له:بلغني أنك تفسّر القرآن ! . فقال له: نعم. فأنكر عليه الإمامعليه‌السلام قائلاً:(يا قتادة، إن كنت قد فسَّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد فسرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت، يا قتادة ويحك إنما يعرف القرآن من خوطب به) (٢) .

وقد قصر الإمام أبو جعفرعليه‌السلام معرفة الكتاب العزيز على أهل البيتعليهم‌السلام فهم الذين يعرفون المحكم من المتشابه، والناسخ من المنسوخ وليس عند غيرهم هذا العلم، فقد ورد عنهمعليهم‌السلام (إنه ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، الآية يكون أولها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل ينصرف إلى وجوه) (٣) .

أما الأخذ بظواهر الكتاب فلا يعد من التفسير بالرأي المنهيّ عنه.

وألّف الإمام الباقرعليه‌السلام كتاباً في تفسير القرآن الكريم نص عليه محمد بن إسحاق النديم في (الفهرست) عند عرضه للكتب المؤلفة في تفسير القرآن الكريم حيث قال: (كتاب الباقر محمد بن علي بن الحسين رواه عنه أبو الجارود زياد بن المنذر رئيس الجارودية).

ــــــــــــــ

(١) حياة الإمام محمد الباقر، باقر شريف القرشي: ١ / ١٧٤.

(٢) البيان في تفسير القرآن: ٢٦٧.

(٣) فرائد الأصول: ٢٨.

١٩٢

وقال السيد حسن الصدر: وقد رواه عنه أيام استقامته جماعة من ثقاة الشيعة منهم أبو بصير يحيى بن القاسم الأسدي، وقد أخرجه علي بن إبراهيم بن هاشم القمي في تفسيره من طريق أبي بصير(١) .

نماذج من تفسيره:

فسّر الإمام الباقرعليه‌السلام الهداية في قوله تعالى: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) (٢) بالولاية لأئمة أهل البيت حين قال:فو الله لو أن رجلاً عبد الله عمره ما بين الركن والمقام، ولم يجيء بولايتنا إلاّ أكبه الله في النار على وجهه) (٣) .

٢ ـ وعن قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) (٤) . قالعليه‌السلام :إن الله أوحى إلى نبيّه أن يستخلف علياً فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعاً له على القيام بما أمره الله بأدائه (٥) .

٣ ـ وفي قوله تعالى:( تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا ) (٦) قالعليه‌السلام :تنزّل الملائكة والكتبة إلى سماء الدنيا فيكتبون ما يكون في السنة من أمور ما يصيب العباد،

ــــــــــــــ

(١) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: ٣٢٧، الفهرست للشيخ الطوسي: ٩٨، وحقق هذا التفسير المحامي السيد شاكر الغرباوي إلاّ إنه لم يقدمه للنشر .

(٢) طه (٢٠): ٨٢.

(٣) مجمع البيان: ٧ / ٢٣ طبع بيروت.

(٤) المائدة (٥): ٦٧.

(٥) مجمع البيان: ٤ / ٢٢٣.

(٦) القدر (٩٧): ٤.

١٩٣

والأمر عنده موقوف له فيه على المشيئة، فيقدم ما يشاء، ويؤخر ما يشاء، ويثبت، وعنده أم الكتاب) (١) .

٤ ـ وفي قوله تعالى:( فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ) (٢) ، قال الإمام أبو جعفرعليه‌السلام :(إنّها نزلت في قوم وصفوا عدلاً بألسنتهم ثم خالفوه إلى غيره) (٣) .

٥ ـ وفي قوله تعالى:( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (٤) . روى محمد ابن مسلم قال: قلت: للإمام أبي جعفر إن من عندنا يزعمون أن المعنيين بالآية هم اليهود والنصارى. قال:إذاً يدعونكم إلى دينهم ! ثم أشارعليه‌السلام إلى صدره فقال:نحن أهل الذكر ونحن المسؤولون (٥) .

٦ ـ في قوله تعالى:( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) (٦) روى جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفرعليه‌السلام أنّه قال:لما نزلت هذه الآية قال المسلمون: يا رسول الله ألست إمام الناس كلهم أجمعين ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا رسول الله إلى الناس أجمعين، ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من أهل بيتي يقومون في الناس فيُكَذبون، ويظلمهم أئمة الكفر والضلال وأشياعهم، فمن والاهم واتّبعهم، وصدقهم فهو مني ومعي، وسيلقاني، ألا ومن ظلمهم وكذّبهم فليس مني، ولا معي، وأنا منه بريء) (٧) .

٧ ـ وسئُل الإمام أبو جعفر عن قوله تعالى: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ ُ

ــــــــــــــ

(١) دعائم الإسلام: ١ / ٣٣٤.

(٢) الشعراء (٢٦): ٩٤.

(٣) أصول الكافي: ١ / ٤٧.

(٤) الأنبياء (٢١): ٧.

(٥) أصول الكافي: ١ / ٢١١.

(٦) الإسراء (١٧): ٧١.

(٧) أصول الكافي: ١ / ٢١٥.

١٩٤

اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ) (١) فقالعليه‌السلام :السابق بالخيرات الإمام، والمقتصد العارف للإمام، والظالم لنفسه الذي لا يعرف الإمام (٢) .

٨ ـ وعن المتوسّمين في قوله تعالى:( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) (٣) ، قالعليه‌السلام :قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتوسم، وأنا من بعده والأئمة من ذريتي المتوسمون) (٤) .

٩ ـ وفي قوله تعالى:( وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ) (٥) قالعليه‌السلام :(يعني لو استقاموا على ولاية علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه‌السلام والأوصياء من ولده، وقبلوا طاعتهم في أمرهم ونهيهم لأسقيناهم ماءاً غدقاً يعني أشربنا قلوبهم الإيمان، والطريقة: هي الإيمان بولاية علي والأوصياء) (٦) .

١٠ ـ وفي ما يرتبط بقوله تعالى: ( قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) (٧) ، سأل بريد بن معاوية الإمام أبا جعفرعليه‌السلام عن المعنيين بقوله تعالى:( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) ؟ فقالعليه‌السلام :(إيّانا عنى، وعليّ أوّلنا، وأفضلنا وخيرنا بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) (٨) .

ــــــــــــــ

(١) فاطر (٣٥): ٣٢.

(٢) أصول الكافي: ١ / ٢١٤.

(٣) سورة الحجر (١٥): ٧٥.

(٤) أصول الكافي: ١ / ٢١٩.

(٥) الجن (٧٢): ١٦.

(٦) أصول الكافي: ١ / ٢٢٠.

(٧) الرعد (١٣): ٤٣.

(٨) أصول الكافي: ١ / ٢٢٩ مجمع البيان: ٦ / ٣٠١ روى عن أبي جعفر أنها نزلت في آل البيتعليهم‌السلام .

١٩٥

التراث الحديثي للإمام الباقرعليه‌السلام :

يعدّ الحديث النبوي الشريف المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم، وله أهميته البالغة ودوره الكبير في بناء الصرح الثقافي للأمة الإسلامية بشكل عام وبناء الصرح الفقهي والتشريع العملي للحياة الإنسانية بشكل خاص.

وقد زاد من اهتمام أهل البيتعليهم‌السلام بنشر سنّة رسول الله وتبليغها ما واجهه الحديث النبوي الشريف من مآسي الدس والتزوير والوضع والتضييع خلال فترة منع الخلفاء من تدوينه وكتابته بل التحديث به في بعض الأحيان.

واعتنى الإمام الباقرعليه‌السلام بشكل خاص بحديث الرسولعليه‌السلام حتى روى عنه جابر بن يزيد الجعفي سبعين ألف حديث(١) ، كما روى عنه أبان بن تغلب وغيره من تلامذته وأصحابه مجموعة كبيرة من هذا التراث الضخم.

ولم يكتف الإمام بنقل الحديث ونشره بل دعا إلى الاهتمام بفهم الحديث والوقوف على معطياته، حتى جعل المقياس في فضل الراوي هو فهم الحديث ودرايته بمعانيه وأسراره.

روى يزيد الرزّاز عن أبيه عن أبي عبد الله الصادق عن أبيه الباقرعليهما‌السلام أنه قال له:(اعرف منازل الشيعة على قدر رواياتهم ومعرفتهم; فإن المعرفة هي الدراية للرواية، وبالدراية للرواية يعلو المؤمن إلى أقصى درجات الإيمان) (٢) .

وقد عرضنا نماذج من رواياته عن جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما مرّ من بحوث سابقة فراجع(٣) .

ــــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١ / ١٤٠، وراجع مقدمة صحيح مسلم.

(٢) حياة الإمام محمد الباقرعليه‌السلام ، للأستاذ باقر شريف القرشي: ١٤٠ ـ ١٤١ عن ناسخ التواريخ: ٢ / ٢١٩.

(٣) الخصال: ص٤ .

١٩٦

التراث الكلامي عند الإمام الباقرعليه‌السلام :

وبحث الإمام أبو جعفر في كثير من محاضراته المسائل الكلامية، وسئل عن أعقد المسائل وأدقها في بحوث هذا العلم فأجاب عنها.

ومن الجدير بالذكر أن عصر الإمام كان من أشد العصور الإسلامية حساسية فقد امتدّ فيه الفتح الإسلامي إلى اغلب مناطق العالم وشعوب الأرض فأثار ذلك موجة من الحقد في نفوس المعادين للإسلام من الشعوب المغلوبة على أمرها، فقاموا بحملة دعائية ضد العقيدة الإسلامية وأذاعوا الشكوك بين أبناء المسلمين، وقد شجّعت الحكومات الأُموية التيارات ذات الأفكار المعادية للإسلام; إذ لم يؤثّر عن أي واحد من ملوك بني أمية أنه قاومها أو تصدّى لإيقافها بين المسلمين، ولم يكن هناك أحد قد انبرى إلى إنقاذ المسلمين في ذلك العصر سوى الإمام أبي جعفرعليه‌السلام حيث تصدى لتزييفها والرد عليها ببالغ الحجة والبرهان.

واليك نماذج من بحوثه:

١ ـ عجز العقول عن إدراك حقيقة الله:

سئلعليه‌السلام عن قوله تعالى:( لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ) (١) فقالعليه‌السلام :(أوهام القلوب أدق من أبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها، ولا تدركها ببصرك. وأوهام القلوب لا تدركه فكيف أبصار العيون ؟!) (٢) .

سأله عبد الرحمن بن أبي النجران عن الله تعالى فقال: إني أتوهم شيئاً، فقالعليه‌السلام له:(نعم، غير معقول ولا محدود، فما وقع وهمك عليه من شيء فهو

ــــــــــــــ

(١) الأنعام (٦): ١٠٣.

(٢) نسب هذا الحديث إلى الإمام الجوادعليه‌السلام .

١٩٧

خلافه، ولا يشبهه شيء، ولا تدركه الأوهام، كيف تدركه الأوهام وهو خلاف ما يعقل، وخلاف ما يتصور في الأوهام، إنما يتوهم شيء، غير معقول ولا محدود) (١) .

٢ ـ أزلية واجب الوجود:

سأله رجل فقال له: أخبرني عن ربك متى كان ؟ فأجابه الإمامعليه‌السلام :

(ويلك! إنما يقال لشيء لم يكن، متى كان ؟ إن ربي تبارك وتعالى كان ولم يزل حياً بلا كيف، ولم يكن له كان، ولا كان لكونه كون. كيف! ولا كان له أين، ولا كان في شيء، ولا كان على شيء، ولا ابتدع لمكانه مكاناً، ولا قوي بعدما كوّن الأشياء، ولا كان ضعيفاً قبل أن يكوّن شيئاً، ولا كان مستوحشاً قبل أن يبتدع شيئاً، ولا يشبه شيئاً مذكوراً، ولا كان خلواً من الملك قبل إنشائه، ولا يكون منه خلواً بعد ذهابه، لم يزل حياً بلا حياة، وملكاً قادراً قبل أن ينشىء شيئاً، وملكاً جباراً بعد إنشائه للكون، فليس لكونه كيف ولا له أين، ولا له حد، ولا يعرف بشيء يشبهه، ولا يهرم لطول البقاء، ولا يصعق(٢) لشيء، بل لخوفه تصعق الأشياء كلها. كان حياً بلا حياة حادثة، ولا كون موصوف ولا كيف محدود، ولا أين موقوف عليه، ولا مكان جاور شيئاً، بل حي يعرف، وملك لم يزل له القدرة والملك، أنشأ ما شاء حين شاء بمشيئته، لا يحد ولا يبعض، ولا يفنى، كان أولاً بلا كيف، ويكون آخراً بلا أين، وكل شيء هالك إلاّ وجهه، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.

ويلك أيّها السائل ! ! إن ربي لا تغشاه الأوهام، ولا تنزل به الشبهات، ولا يحار، ولا يجاوزه شيء، ولا تنزل به الأحداث، ولا يسأل عن شيء، ولا يندم على شيء، ولا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما، وما تحت الثرى)(٣) .

ــــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١ / ٨٢.

(٢) يصعق: أي يهلك، ويضعف.

(٣) أصول الكافي: ١ / ٨٨ ـ ٨٩.

١٩٨

٣ ـ وجوب طاعة الإمامعليه‌السلام :

طاعة الإمام واجب ديني أعلنه القرآن الكريم بقوله تعالى:( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (١) وتواترت الأخبار بذلك، وروى زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام أنه قال:(ذروة الأمر وسنامه، ومفتاحه، وباب الأشياء، ورضا الرحمن تبارك وتعالى، الطاعة للإمام بعد معرفته إن الله تبارك وتعالى يقول: ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) ) (٢) .

التراث التاريخي للإمام الباقرعليه‌السلام

وتحدث الإمام أبو جعفر الباقرعليه‌السلام كثيراً عن حكم الأنبياء وسننهم ولا سيَّما السيرة النبوية المباركة وتأريخ العصر النبوي، وقد نقل عنه المختصون بهذه البحوث الشيء الكثير، وفيما يلي بعضها:

١ ـ من وحي الله لآدم:

عرض الإمامعليه‌السلام لأصحابه ما أوحى الله به لآدم من الحكم ومعالي الأخلاق فقالعليه‌السلام :(أوحى الله تبارك وتعالى لآدم إني أجمع لك الخير كله في أربع كلمات: واحدة منهن لي، وواحدة لك، وواحدة فيما بيني وبينك، وواحدة فيما بينك وبين الناس، فأما التي لي فتعبدني، ولا تشرك بي شيئاً، وأما التي لك فأجازيك بعملك في وقت أحوج ما تكون إليه وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعليَّ الإجابة، وأما التي بينك وبين الناس فترضى للناس ما ترضى لنفسك) (٣) .

ــــــــــــــ

(١) النساء (٤): ٥٩.

(٢) أصول الكافي: ١ / ١٨٥.

(٣) أمالي الصدوق: ٥٤٤ .

١٩٩

٢ ـ حكمة لسليمان:

وحكيعليه‌السلام لأصحابه حكمة رائعة لنبي الله سليمان بن داود فقالعليه‌السلام :(قال سليمان بن داود: أوتينا ما أوتي الناس، وما لم يؤتوا، وعلمنا ما علم الناس وما لم يعلموا، فلم نجد شيئاً أفضل من خشية الله في الغيب والمشهد، والقصد في الغنى والفقر، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والتضرع إلى الله عَزَّ وجَلَّ في كل حال) (١) .

٣ ـ حكمة في التوراة:

ونقلعليه‌السلام لأصحابه حكمة مكتوبة في التوراة فقالعليه‌السلام :(إنّ في التوراة مكتوباً يا موسى إني خلقتك، واصطفيتك، وقويتك، وأمرتك بطاعتي ونهيتك عن معصيتي فإن أطعتني أعنتك على طاعتي، وان عصيتني لم أعنك على معصيتي، يا موسى ولي المنة عليك في طاعتك لي، ولي الحجة عليك في معصيتك لي) (٢) .

٤ ـ تسمية نوح بالعبد الشكور:

روى محمد بن مسلم عن الإمام أبي جعفرعليه‌السلام أنه قال:(إنّ نوحاً إنما سمي عبداً شكوراً لأنه كان يقول إذا أمسى وأصبح: اللهم إني أشهدك أنه ما أُمسي وأصبح بي من نعمة أو عافية في دين أو دنيا فمنك وحدك لا شريك لك، لك الحمد والشكر بها عليّ حتى ترضى) (٣) .

٥ ـ دعاء نوح على قومه:

سأل سدير الإمام أبا جعفرعليه‌السلام عن دعاء نوح على قومه فقال له: أرأيت نوحاً حين دعا على قومه فقال:( رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً ) إنه كان عالماً بهم؟

ــــــــــــــ

(١) الخصال: ٢١٩.

(٢) أمالي الصدوق: ٢٧٤.

(٣) علل الشرائع: ٢٩.

٢٠٠

فأجابهعليه‌السلام :(أوحى الله إليه: أنه لا يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن. فعند ذلك دعا عليهم بهذا الدعاء) (١) .

٦ ـ إسماعيل أول من تكلم بالعربية:

ونقل الإمام أبو جعفرعليه‌السلام لأصحابه أنّ نبيّ الله إسماعيل هو أول من فتق لسانه باللغة العربية، بقولهعليه‌السلام :(أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل، وهو ابن عشر سنة) (٢) .

٧ ـ نفي الأُمية عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

روى علي بن أسباط فقال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : إن الناس يزعمون أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكتب، ولم يقرأ! فأنكرعليه‌السلام ذلك وقال:

(أنّى يكون ذلك ؟ ! ! وقد قال الله تعالى: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ) (٣) . كيف يعلمهم الكتاب والحكمة وليس يحسن أن يقرأ ويكتب ؟!) .

وانبرى علي بن أسباط فقال للإمام: لمَ سُمّي النبيّ الأمي ؟

فأجابه الإمام:(لأنه نسب إلى مكة، وذلك قول الله عَزَّ وجَلَّ: ( لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) فأم القرى مكة، فقيل أمي) (٤) .

ــــــــــــــ

(١) علل الشرائع: ٣١.

(٢) البيان والتبيين: ٣ / ٢٩٠.

(٣) الجمعة (٦٢): ٢.

(٤) علل الشرائع: ١٢٥.

٢٠١

مع السيرة النبوّية المبارك:

١ ـ استعارة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السلاح من صفوان:

وروى الطبري بسنده عن الإمام أبي جعفر الباقرعليه‌السلام أنّه قال:لما أجمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السير إلى هوازن ليلقاهم ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعاً وسلاحاً، فأرسل إليه فقال: يا أبا أمية ـ وهو يومئذ مشرك ـ أعرنا سلاحك هذا نلق فيه عدوّنا غداً. فقال له صفوان: أغصباً يا محمد ؟ قال: بل عارية مضمونة، حتى نؤديها إليك، قال: ليس بهذا بأس، فأعطاه مائة درع بما يصلحها من السلاح، وزعموا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سأله أن يكفيه حملها ففعل .

قال الإمام أبو جعفرعليه‌السلام :فمضت السُنّة أن العارية مضمونة (١) .

وقد ألمع الإمام إلى أن هذه الحادثة قد استفيد منها القاعدة الفقهية وهو أن العارية مضمونة مع التفريط، فمن استعار شيئاً فقد ضمنه حتى يؤديه إلى صاحبه.

٢ ـ مسيرة خالد إلى بني جذيمة:

وروى ابن هشام بسنده عن الإمام أبي جعفرعليه‌السلام :أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة حين فتح مكة داعياً إلى الله، ولم يبعثه مقاتلاً إلاّ أنّ خالداً أغار عليهم فأوجسوا منه خيفة فبادروا إلى أسلحتهم فحملوها، فلما رأى خالد ذلك قال لهم: ضعوا السلاح، فإن الناس قد أسلموا، ووثقوا بقوله، فوضعوا سلاحهم، إلاّ أنه غدر بهم، فأمر بتكتيفهم ثم عرضهم على السيف، فقتل منهم من قتل، ولما انتهى خبرهم إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلغ به الحزن أقصاه ورفع يديه بالدعاء، وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد). ودعا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال له: (اخرج إلى هؤلاء القوم، فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك).

ــــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري: ٣ / ٧٣ طبع دار المعارف.

٢٠٢

وخرج عليّ عليه‌السلام حتى جاءهم، ومعه مال، فَودى لهم الدماء، وما أصيب لهم من الأموال، حتى انه ليدي ميلغة الكلب (١) حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلاّ ودّاه، وبقيت معه بقية من المال، فقال لهم عليّ: هل بقي لكم بقية من دم أو مال لم يؤدَّ لكم ؟ قالوا: لا قال: فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال، احتياطاً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما يعلم ولا تعلمون،فأعطاهم ثم رجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره الخبر، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أصبت وأحسنت، وقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستقبل القبلة شاهراً يديه، حتى كان يرى ما تحت منكبيه، وهو يقول: (اللهم إني ابرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد) وكرر ذلك ثلاث مرات (٢) .

هذه بعض رواياته عن السيرة النبوية المباركة، وقد آثرنا الإيجاز والإشارة فحسب.

ــــــــــــــ

(١) الميلغة: الإناء يلغ فيه الكلب أو يسقى فيه فقد أعطى عليٌّعليه‌السلام ديته.

(٢) السيرة النبوية لابن هشام: ٢ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠ .

٢٠٣

مع سيرة الإمام عليّعليه‌السلام :

وتحدث الإمام أبو جعفرعليه‌السلام في كثير من أحاديثه عن سيرة جدّه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام رائد الحق والعدالة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإليك نموذجاً من ما رواه:

روى زرارة بن أعين عن أبيه، عن الإمام أبي جعفرعليه‌السلام قال:كان عليّ عليه‌السلام إذا صلّى الفجر لم يزل معقباً إلى أن تطلع الشمس، فإذا طلعت اجتمع إليه الفقراء والمساكين وغيرهم من الناس فيعلّمهم الفقه والقرآن، وكان له وقت يقوم فيه من مجلسه ذلك، فقام يوماً، فمرّ برجل فرماه بكلمة هجر ـ ولم يسم أبو جعفر ذلك الرجل ـ فرجع الإمام، وصعد المنبر، وأمر فنودي الصلاة جامعة، فلمّا حضر الناس، حمد الله وأثنى عليه، وصلَّى على نبيه، ثم قال: (أيها الناس إنه ليس شيء أحب إلى الله، ولا أعم نفعاً من حلم إمام وفقهه، ولا شيء أبغض إلى الله، ولا أعم ضرراً من جهل إمام وخرقه، ألا وإنه من لم يكن له من نفسه واعظ لم يكن له من الله حافظ، ألا وانه من أنصف من نفسه لم يزده الله، إلاّ عزاً، ألا وان الذل في طاعة الله أقرب إلى الله من التعزز في معصيته، ثم قال: أين المتكلم آنفاً ؟ فلم يستطع الإنكار، فقال: ها أنا ذا يا أمير المؤمنين، فقال: أما إني لو أشاء لقلت. فقال: إن تعف وتصفح فأنت أهل لذلك فقال: (قد عفوت وصفحت) (١) .

ــــــــــــــ

(١) شرح النهج: ٤ / ١٠٩ ـ ١١٠.

٢٠٤

من الملاحم التي أخبر عنها الإمام الباقرعليه‌السلام :

١ ـ قال أبو جعفر الدوانيقي: كنت هارباً من بني أمية أنا وأخي أبو العباس فمررنا بمسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومحمد بن علي جالس، فقالعليه‌السلام لرجل إلى جانبه: كأني بهذا الأمر قد صار إلى هذين، وأشار إلينا، فجاء الرجل وأخبرنا بمقالته، فملنا إليه وقلنا له: يابن رسول الله! ما الذي قلت ؟ فقالعليه‌السلام :(هذا الأمر صائر إليكم عن قريب ولكنكم تسيئون إلى ذريتي، وعترتي فالويل لكم) (١) . فكان كما أخبرعليه‌السلام وقد أساء المنصور حينما ولّي الخلافة إلى ذريّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعترته، فنكّل بهم كأفظع ما يكون التنكيل وقد قاست عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهد هذا الطاغية من صنوف العذاب ما لم تره عين في عهد الأمويين فقد كانت أيامه عليهم كلها محنة وألماً وعذاباً.

٢ ـ ومما أنبأ عنه الإمام أبو جعفرعليه‌السلام أنه أخبر عن الحجر الأسود وأنّه يعلق في الجامع الأعظم في الكوفة(٢) . وتحقق ذلك أيام القرامطة فقد أخذوه من الكعبة، وجعلوه في جامع الكوفة; معتقدين أن الحج يدور مداره، وقد أرادوا أن يكون الحج إلى مسجد الكوفة، وبقي فيه مدة تقرب من عشرين عاماً ثم أُرجع إلى مكانه.

٣ ـ ومن الملاحم التي أخبر عنها: غزو نافع بن الأزرق لمدينة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإباحتها لجنوده، يقول الإمام الصادقعليه‌السلام :(كان أبي في مجلس عام إذ اطرق برأسه إلى الأرض ثم رفعه وقال: يا قوم كيف أنتم إذا جاءكم رجل يدخل

ــــــــــــــ

(١) دلائل الإمامة: ٩٦.

(٢) اتعاض الحنفاء للمقريزي: ٢٤٥.

٢٠٥

عليكم مدينتكم في أربعة الآف حتى يستعرضكم على السيف ثلاثة أيام متوالية، فيقتل مقاتلكم، وتلقون منه بلاءاً لا تقدرون عليه ولا على دفعه وذلك من قابل ـ أي السنة التي تأتي ـ فخذوا حذركم، واعلموا أن الذي قلت لكم هو كائن لابد منه)، فلم يلتفت أهل المدينة إلى كلامه، وقالوا: لا يكون هذا أبداً، فلما كانت السنة المقبلة حمل أبو جعفر عليه‌السلام عياله، واصطحب معه جماعة من بني هاشم، وخرجوا من المدينة، فجاء نافع بن الأزرق فدخلها في أربعة آلاف واستباحها ثلاثة أيام، وقتل فيها خلقاً كثيراً (١) واستبان لأهل المدينة مدى صدق الإمام في إخباره .

٤ ـ وأخبر الإمام الباقرعليه‌السلام عن شهادة أخيه زيد بن علي فقد قال زيد ابن حازم: كنت مع أبي جعفرعليه‌السلام فمرّ بنا زيد بن علي فقال لي أبو جعفرعليه‌السلام :(أما رأيت هذا ؟ ليخرجن بالكوفة، وليقتلن، وليطافن برأسه) (٢) . ولم تمض الأيام حتى قتل زيد بالكوفة وطيف برأسه في الأقطار والأمصار.

٥ ـ ومن الأحداث التي أخبر عنها الإمام أبو جعفرعليه‌السلام هو ما أخبر به من هدم دار هشام بن عبد الملك، وهي من أضخم الدور في المدينة، وكان قد بناها بأحجار الزيت. قالعليه‌السلام :(أما والله لتهدمنّ، أما والله لتندر أحجار الزيت) ، قال أبو حازم: فلما سمعت هذا تعجّبت منه وقلت: من يهدمها وأمير المؤمنين هشام قد بناها! فلما مات هشام وولي الخلافة من بعده الوليد أمر بهدمها، ونقل أحجار الزيت منها حتى ندرت في يثرب(٣) .

ــــــــــــــ

(١) نور الأبصار: ١٣٠، جوهرة الكلام في مدح السادة الأعلام: ١٣٤، الخرايج والجرايح: ٨٠ من مخطوطات مكتبة الحكيم.

(٢) نور الأبصار: ص١٣١.

(٣) دلائل الإمامة: ١١٠.

٢٠٦

من التراث الفقهي للإمام الباقرعليه‌السلام

وتحدث الإمام أبو جعفرعليه‌السلام عن حكم القتال والحرب في الإسلام حينما سأله رجل من شيعته عن حروب الإمام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام فقال له:

(بعث الله محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخمسة أسياف: ثلاثة منها شاهرة لا تغمد حتى تضع الحرب أوزارها، ولن تضع الحرب أوزارها حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت الشمس من مغربها أمن الناس كلهم في ذلك اليوم فيومئذ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، وسيف مكفوف، وسيف منها مغمود، سله إلى غيرنا، وحكمه إلينا.

فأما السيوف الثلاثة الشاهرة: فسيف على مشركي العرب، قال الله عز وجل:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) (١) ( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ) (٢) هؤلاء لا يقبل منهم إلاّ القتل أو الدخول في الإسلام، وأموالهم فيء وذراريهم سبي على ما سن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنه سبى وعفا، وقبل الفداء.

والسيف الثاني: على أهل الذمة قال الله سبحانه:( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ) (٣) نزلت هذه الآية في أهل الذمة، ونسخها قوله:( قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) (٤) فمن كان منهم في دار الإسلام فلن يقبل منهم إلا الجزية

ــــــــــــــ

(١) التوبة (٩): ٥.

(٢) التوبة (٩): ١١.

(٣) البقرة (٢): ٨٣.

(٤) التوبة (٩): ٢٩.

٢٠٧

أو القتل، وما لهم فيء، وذراريهم سبي، فإذا قبلوا الجزية على أنفسهم حرم علينا سبيهم وحرمت أموالهم، وحلت لنا مناكحهم(١) ومن كان منهم في دار الحرب حل لنا سبيهم وأموالهم، ولم تحل لنا مناكحتهم، ولم يقبل منهم إلا دخول دار الإسلام والجزية أو القتل.

والسيف الثالث: على مشركي العجم كالترك والديلم والخزر، قال الله عَزَّ وجَلَّ: في أول السورة التي يذكر فيها الذين كفروا فقص قصتهم، ثم قال:( فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) (٢) .

فأما قوله: (فإما مناً بعد) يعني بعد السبي منهم (وأما فداء) يعني المفاداة بينهم، وبين أهل الإسلام، فهؤلاء لن يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في الإسلام، ولا يحل لنا نكاحهم ما داموا في الحرب.

وأما السيف المكفوف: فسيف على أهل البغي والتأويل قال الله:( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) (٣) فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان منكم من يقاتل بعدي على التأويل كما قاتلت على التنزيل، فسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هو؟ فقال: خاصف النعل ـ يعني أمير المؤمنين ـ وقال عمار ابن ياسر: قاتلت بهذه الراية مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثاً (٤) وهذه الرابعة والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا السعفات من هجر (٥) لعلمنا أنا على الحق، وأنهم على الباطل، وكانت السيرة فيهم من أمير المؤمنين عليه‌السلام مثل ما كان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أهل مكة يوم فتحها فإنه لم يسب لهم ذرية، وقال: من أغلق بابه فهو

ــــــــــــــ

(١) في التهذيب والكافي (مناكحتهم).

(٢) محمد (٤٧): ٤.

(٣) الحجرات (٤٩): ٩.

(٤) الثلاث: التي قاتل مع تلك الراية الصحابي العظيم عمار بن ياسر هي: يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين، وكان يتزعم تلك الحروب أبو سفيان عميد الأمويين.

(٥) هجر: ـ بالتحريك ـ بلدة باليمن، كما إنها اسم لجميع أرض البحرين.

٢٠٨

آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، وكذلك قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : يوم البصرة نادى فيهم لا تسبوا لهم ذرية، ولا تدفِّفوا على جريح(١) ولا تتبعوا مدبراً، ومن أغلق بابه وألقى سلاحه فهو آمن.

والسيف المغمود: فالسيف الذي يقام به القصاص قال الله عَزَّ وجَلَّ :( النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ) (٢) فسله إلى أولياء المقتول وحكمه إلينا.

فهذه السيوف التي بعث الله بها محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمن جحدها أو جحد واحداً منها و شيئاً من سيرها فقد كفر بما انزل الله تبارك وتعالى على محمد نبيه)(٣) .

واستمد فقهاء المسلمين الأحكام التي رتبوها على قتال أهل البغي من سيرة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في حرب الجمل، كما أخذوا عن أئمة الهدىعليهم‌السلام الكثير من الأحكام في هذا الباب.

المسح على الخفين:

وجوّز فقهاء المذاهب الإسلامية المسح على الخفين في الوضوء، ولم يشترطوا مماسّة اليد لظاهر القدمين(٤) . وأمّا أئمة أهل البيتعليهم‌السلام فقد اعتبروا المماسّة واشترطوها ولم يسوغوا غيرها، يقول الربيع: سألت أبا إسحاق عن المسح، فقال: أدركت الناس يمسحون ـ يعني على الخفين ـ حتى لقيت رجلاً من بني هاشم لم أر مثله قط يقال له: محمد بن علي بن الحسين فسألته عن المسح، فنهاني عنه، وقال:(لم يكن أمير المؤمنين عليه‌السلام يمسح، وكان يقول: سبق

ــــــــــــــ

(١) لا تدففوا على جريح: أي لا تجهزوا عليه.

(٢) المائدة (٥): ٤٥.

(٣) تحف العقول: ص٢٨٨ ـ ٢٩٠، ورواه الكليني في فروع الكافي، والشيخ الصدوق في الخصال، والشيخ الطوسي في التهذيب.

(٤) الخلاف: ١ / ١٨.

٢٠٩

الكتاب المسح على الخفين) (١) .

لقد دل الكتاب العظيم على اعتبار المماسة إذ قال تعالى:( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) والآية ظاهرة أشد الظهور فيما حكم به أهل البيتعليهم‌السلام .

مس الفرج لا ينقض الوضوء:

وذهب الشافعي إلى أنّ مسّ الفرج من نواقض الوضوء، وتمسّك بذلك بما روي عن ابن عمر وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعائشة وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار من أن مسّ الفرج من نواقض الوضوء. أما الإمام أبو جعفرعليه‌السلام وسائر أئمة أهل البيتعليهم‌السلام فإنهم لا يرون ذلك، فقد روى زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام أنه قال:(ليس في القُبلة ولا المباشرة، ولا مس الفرج وضوء) (٢) .

الجهر في صلاة الإخفات :

وذهب فقهاء المذاهب الإسلامية إلى أن الجهر في صلاة الإخفات أو الإخفات في صلاة الجهر متعمداً غير مبطل للصلاة، أما في فقه مذهب أهل البيتعليهم‌السلام فإنه مبطل للصلاة، فقد روى زرارة عن الإمام أبي جعفرعليه‌السلام في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه أو أخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه، فقالعليه‌السلام :(إنْ فعل ذلك متعمداً فقد نقض صلاته وعليه الإعادة، وإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شيء عليه وقد تمّت صلاته) (٣) .

ــــــــــــــ

(١) روضة الواعظين: ٢٤٣، وهذا النصّ يفيد أنّ الكتاب لا يوافق المسح على الخفّين.

(٢) الخلاف: ١ / ٢٣.

(٣) المصدر السابق: ١ / ١٣٠.

٢١٠

الصلاة على آل النبي في التشهد:

وذهب أكثر فقهاء المسلمين إلى وجوب الصلاة على آل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التشهد، وقد روى جابر الجعفي عن الإمام أبي جعفرعليه‌السلام أنه قال:قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من صلى صلاة لم يصلّ فيها عليّ، ولا على أهل بيتي لم تقبل منه) (١) .

هذه نماذج من المسائل الفقهية الكثيرة التي تكلّم عنها الإمام أبو جعفرعليه‌السلام .

من وصايا الإمام الباقرعليه‌السلام

وزوّد الإمام أبو جعفرعليه‌السلام تلميذه العالم جابر بن يزيد الجعفي بهذه الوصية الخالدة الحافلة بجميع القيم الكريمة والمثل العليا التي يسمو بها الإنسان فيما لو طبقها على واقع حياته، وهذا بعض ما جاء فيها:

(أوصيك بخمس: إن ظلمت فلا تظلم، وان خانوك فلا تخن، وان كذبت فلا تغضب، وان مدحت فلا تفرح، وان ذممت فلا تجزع، وفكّر فيما قيل فيك، فإن عرفت من نفسك ما قيل فيك فسقوطك من عين الله جَلَّ وعَزَّ عند غضبك من الحق أعظم عليك مصيبة مما خفت من سقوطك من أعين الناس، وإن كنت على خلاف ما قيل فيك، فثواب اكتسبته من غير أن يتعب بدنك.

واعلم بأنك لا تكون لنا ولياً حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك، وقالوا: إنك رجل سوء لم يحزنك ذلك، ولو قالوا: إنك رجل صالح لم يسرك ذلك، ولكن اعرض نفسك على كتاب الله فإن كنت سالكاً سبيله، زاهداً في تزهيده، راغباً في ترغيبة، خائفاً من تخويفه فاثبت وأبشر، فإنه لا يضرك ما قيل فيك، وإن كنت مبائناً للقرآن، فماذا الذي يغرّك من نفسك.

ــــــــــــــ

(١) الخلاف: ١ / ١٣١.

٢١١

إن المؤمن معنيّ بمجاهدة نفسه ليغلبها على هواها، فمرة يقيم إودها ويخالف هواها في محبة الله، ومرة تصرعه نفسه فيتبع هواها فينعشه الله، فينتعش، ويقيل الله عثرته فيتذكر، ويفزع إلى التوبة والمخافة فيزداد بصيرة ومعرفة لما زيد فيه من الخوف، وذلك بأن الله يقول: ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ) (١) .

يا جابر، استكثر لنفسك من الله قليل الرزق تخلصاً إلى الشكر، واستقلل من نفسك كثير الطاعة لله إزراء على النفس (٢) وتعرضاً للعفو.

وادفع عن نفسك حاضر الشر بحاضر العلم، واستعمل حاضر العلم بخالص العمل، وتحرّز في خالص العمل من عظيم الغفلة بشدة التيقظ، واستجلب شدة التيقظ بصدق الخوف، واحذر خفي التزين بحاضر الحياة، وتوقّ مجازفة الهوى بدلالة العقل، وقف عند غلبة الهوى باسترشاد العلم، واستبق خالص الأعمال ليوم الجزاء.

وانزل ساحة القناعة باتقاء الحرص، وادفع عظيم الحرص بايثار القناعة، واستجلب حلاوة الزهادة بقصر الأمل، واقطع أسباب الطمع ببرد اليأس.

وسد سبيل العجب بمعرفة النفس، وتخلص إلى راحة النفس بصحة التفويض، واطلب راحة البدن بإجمام (٣) القلب، وتخلّص إلى إجمام القلب بقلة الخطأ.

وتعرّض لرقة القلب بكثرة الذكر في الخلوات، واستجلب نور القلب بدوام الحزن.

وتحرّز من إبليس بالخوف الصادق، وإياك والرجاء الكاذب فإنه يوقعك في الخوف الصادق.

وتزيّن لله عَزَّ وجَلَّ بالصدق في الأعمال، وتحبّب إليه بتعجيل الانتقال. وإياك والتسويف فإنه بحر يغرق فيه الهلكى.

وإياك والغفلة ففيها تكون قساوة القلب، وإياك والتواني فيما لا عذر لك فيه فإليه يلجأ النادمون.

واسترجع سالف الذنوب بشدة الندم، وكثرة الاستغفار.

وتعرض للرحمة وعفو الله بحسن المراجعة، واستعن على حسن المراجعة بخالص الدعاء، والمناجاة في الظلم.

وتخلّص إلى عظيم الشكر باستكثار قليل الرزق، واستقلال كثير الطاعة.

واستجلب زيادة النعم بعظيم الشكر، والتوسل إلى عظيم الشكر بخوف زوال النعم.

ــــــــــــــ

(١) الأعراف (٧): ٢٠١.

(٢) إزراء على النفس: أي احتقاراً واستخفافاً بها.

(٣) الجمام: ـ بالفتح ـ الراحة.

٢١٢

واطلب بقاء العزّ بإماتة الطمع، وادفع ذل الطمع بعز اليأس، واستجلب عزّ اليأس ببعد الهمة.

وتزود من الدنيا بقصر الأمل، وبادر بانتهاز البغية عند إمكان الفرصة، ولا إمكان كالأيام الخالية مع صحة الأبدان.

وإياك والثقة بغير المأمون فإن للشر ضراوة كضراوة الغذاء.

واعلم انه لا علم كطلب السلامة، ولا سلامة كسلامة القلب، ولا عقل كمخالفة الهوى، ولا خوف كخوف حاجز، ولا رجاء كرجاء معين.

ولا فقر كفقر القلب، ولا غنى كغنى النفس، ولا قوة كغلبة الهوى.

ولا نور كنور اليقين، ولا يقين كاستصغارك للدنيا، ولا معرفة كمعرفتك بنفسك.

ولا نعمة كالعافية، ولا عافية كمساعدة التوفيق، ولا شرف كبعد الهمة، ولا زهد كقصر الأمل، ولا حرص كالمنافسة في الدرجات.

ولا عدل كالإنصاف، ولا تعدّي كالجور، ولا جور كموافقة الهوى، ولا طاعة كأداء الفرائض، ولا خوف كالحزن، ولا مصيبة كعدم العقل، ولا عدم عقل كقلّة اليقين، ولا قلّة يقين كفقد الخوف ولا فقد خوف كقلّة الحزن على فقد الخوف.

ولا مصيبة كاستهانتك بالذنب، ورضاك بالحالة التي أنت عليها.

ولا فضيلة كالجهاد، ولا جهاد كمجاهدة الهوى، ولا قوة كردّ الغضب.

ولا معصية كحب البقاء، ولا ذلّ كذلّ الطمع، وإياك والتفريط عند إمكان الفرصة فإنه ميدان يجري لأهله بالخسران...) (١) .

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض كلماته الحكيمة التي تمثّل أصالة الفكر والإبداع.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

ــــــــــــــ

(١) تحف العقول: ٢٨٤ ـ ٢٨٦ .

٢١٣

الفهرست

المقدمة ٤

الباب الأول: فيه فصول: ١١

الفصل الأول: الإمام محمد الباقر عليه‌السلام في سطور ١١

الفصل الثاني: انطباعات عن شخصية الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام.... ١٣

الفصل الثالث: مظاهر من شخصية الإمام محمد الباقر عليه‌السلام.... ١٧

حلمه: ١٧

صبره: ١٩

كرمه وسخاؤه: ٢٠

عبادته: ٢٢

حجه: ٢٤

مناجاته مع الله تعالى: ٢٥

ذكره لله تعالى: ٢٥

زهده في الدنيا: ٢٦

الباب الثاني: فيه فصول: ٢٧

الفصل الأول: نشأة الإمام محمّد بن علي الباقر عليه‌السلام.... ٢٧

الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام.... ٣٣

الفصل الثالث: الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام في ظلّ جدّه وأبيه عليهما‌السلام..... ٣٤

الباب الثالث: فيه فصول: ٤٠

الفصل الأول: جهاد أهل البيت عليهم‌السلام ودور الإمام الباقر عليه‌السلام.... ٤٠

مراحل حركة الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام: ٤٥

الفصل الثاني: وقائع وأحداث هامة في عصر الإمام الباقر عليه‌السلام.... ٤٨

الإمام الباقر عليه‌السلام مع عبد الملك بن مروان: ٥٥

الإمام الباقر عليه‌السلام وتحرير النقد الإسلامي: ٥٦

الوليد بن عبد الملك.. ٥٩

عمر بن عبد العزيز ٦١

٢١٤

الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام وعمر بن عبد العزيز ٦٥

يزيد بن عبد الملك.. ٦٨

هشام بن عبد الملك.. ٦٩

حمل الإمام الباقر عليه‌السلام إلى دمشق واعتقاله: ٧٠

الإمام الباقر عليه‌السلام مع قسّيس نصراني. ٧٥

محاولة اغتيال الإمام الباقر عليه‌السلام.... ٧٧

أهم ملامح عصر الإمام محمد الباقر عليه‌السلام.... ٧٨

مظاهر الانحراف في عصر الإمام الباقر عليه‌السلام: ٧٩

أوّلاً: الانحراف الفكري والعقائدي. ٧٩

ثانياً: الانحراف السياسي. ٨١

ثالثاً: الانحراف الأخلاقي. ٨٤

رابعاً: الانحراف في الميدان الاقتصادي. ٨٥

الفصل الثالث: دور الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام في إصلاح الواقع الفاسد. ٨٧

محاور الحركة الإصلاحية العامّة للإمام الباقر عليه‌السلام.... ٨٨

أوّلاً: الإصلاح الفكري والعقائدي. ٨٨

١ ـ الردّ على الأفكار والعقائد الهدّامة والمذاهب المنحرفة ٨٨

٢ ـ الحوار مع المذاهب والرموز المنحرفة ٩١

٣ ـ إدانة فقهاء البلاط. ٩٤

٤ ـ الدعوة إلى أخذ الفكر من مصادره النقيّة ٩٤

٥ ـ نشر علوم أهل البيت عليهم‌السلام.... ٩٥

ثانياً: تأسيس المدرسة الفقهية النموذجية ٩٦

مميّزات مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام الفقهيّة ٩٨

ثالثاً: الإصلاح السياسي. ٩٩

١ ـ الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ٩٩

٢ ـ نشر المفاهيم السياسية السليمة ١٠١

٣ ـ فضح الواقع الأُموي. ١٠٣

٢١٥

٤ ـ الدعوة إلى مقاطعة الحكم القائم. ١٠٤

٥ ـ مواقفه المباشرة من الحكّام المنحرفين. ١٠٥

٦ ـ موقفه من الثورة المسلحة ١٠٧

رابعاً: الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي. ١٠٨

١ ـ الدعوة لتطبيق السنّة النبوية ١٠٨

٢ ـ الدعوة إلى مكارم الأخلاق. ١١١

خامساً: الإصلاح الاقتصادي. ١١٣

الباب الرابع: فيه فصول: ١١٧

الفصل الأول: الإمام الباقر عليه‌السلام وبناء الجماعة الصالحة ١١٧

أولاً: الإمام الباقر عليه‌السلام ومقومات الجماعة الصالحة ١٢٠

١ ـ العقيدة السليمة ١٢٠

٢ ـ مرجعية أهل البيت عليهم‌السلام.... ١٢٢

٣ ـ خصائص الانتماء لأهل البيت عليهم‌السلام.... ١٢٤

ثانياً: الإمام الباقر عليه‌السلام والتزكية ١٢٦

١ ـ مقوّمات التزكية عند الإمام الباقر عليه‌السلام: ١٢٦

أ ـ تحكيم العقل: ١٢٦

ب ـ تبعية الإرادة الإنسانية للإرادة الإلهية: ١٢٧

ج ـ استشعار الرقابة الإلهية: ١٢٧

د ـ التوجّه إلى اليوم الآخر: ١٢٨

٢ ـ منهج التزكية عند الإمام الباقر عليه‌السلام.... ١٢٨

أ ـ الارتباط الدائم بالله تعالى. ١٢٩

ب ـ الإقرار بالذنب والتوبة ١٣٠

ج ـ الحذر من التورّط بالذنوب.. ١٣١

د ـ تعميق الحياء الداخلي. ١٣١

هـ ـ كسر الأُلفة بين الإنسان وسلوكه الجاهلي. ١٣٢

و ـ إزالة الحاجز النفسي بين الإنسان والسلوك السليم. ١٣٣

٢١٦

ثالثاً: المنهج التثقيفي عند الإمام الباقر عليه‌السلام.... ١٣٤

١ ـ الحث على طلب العلم. ١٣٤

٢ ـ موقع العلماء المتميّز وفضلهم. ١٣٥

٣ ـ الإخلاص في طلب العلم. ١٣٥

٤ ـ ضرورة نشر العلم وتثقيف الناس. ١٣٦

٥ ـ مزالق وآفات المتعلّمين. ١٣٦

٦ ـ المرجعية العلمية ١٣٧

٧ ـ المؤسسات الثقافية ١٣٨

رابعاً: الإمام الباقر عليه‌السلام وإحياء الروح الثورية في الأمة ١٣٩

الأول: إقامة الشعائر الحسينية ١٣٩

الثاني: إحياء الإيمان بقضية الإمام المهدي عليه‌السلام.... ١٤١

خامساً: الإمام الباقر عليه‌السلام وتشخيص هوية الجماعة الصالحة ١٤٢

مشخصات الهوية ١٤٥

الأول: الاسم. ١٤٥

الثاني: الصفات.. ١٤٦

الثالث: منزلة الجماعة الصالحة ١٤٧

سادساً: الإمام الباقر عليه‌السلام والعلاقات في نظام الجماعة الصالحة ١٤٩

١ ـ العلاقات داخل الجماعة الصالحة ١٤٩

أسس العلاقات الداخلية ١٥١

هـ ـ التكافل الاجتماعي. ١٥٢

و ـ التناصر والتآزر ١٥٢

٣ ـ العلاقة مع أهل الذمة ١٥٣

٤ ـ العلاقة مع الكفّار ١٥٣

سابعاً: الإمام الباقر عليه‌السلام والنظام الأمني للجماعة الصالحة ١٥٤

١ ـ التقيّة ١٥٤

ومن موارد التقيّة: ١٥٥

٢١٧

ج ـ كتمان البرامج والخطط المعدّة لإصلاح الواقع وتغييره. ١٥٥

٢ ـ كتمان الأسرار ١٥٧

٣ـ التوازن في العلاقة مع الحكّام ١٥٨

التأكيد على أهمية العامل الاقتصادي. ١٦٠

التوازن بين طلب الرزق وطلب المكارم ١٦٢

الموارد المالية للجماعة الصالحة ١٦٣

الأول: الزكاة ١٦٣

الثاني: الخمس.. ١٦٤

التكافل داخل الجماعة الصالحة ١٦٥

تاسعاً : الإمام الباقر عليه‌السلام والنظام الاجتماعي للجماعة الصالحة ١٦٩

١ ـ الأسرة ١٦٩

٢ ـ الأرحام ١٧٢

٣ ـ الجيران. ١٧٢

٤ ـ أفراد الجماعة الصالحة ١٧٣

٥ ـ مجتمع المسلمين. ١٧٧

عاشراً: الإمام الباقر عليه‌السلام ومستقبل الجماعة الصالحة ١٨١

الفصل الثاني: اغتيال الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام واستشهاده ١٨٥

دوافع اغتيال الإمام الباقر عليه‌السلام: ١٨٦

٢ ـ أحداث دمشق: ١٨٦

نصّه على الإمام الصادق عليه‌السلام: ١٨٧

وصاياه: ١٨٨

تعزية المسلمين للإمام الصادق عليه‌السلام: ١٨٩

الفصل الثالث: تراث الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام.... ١٩٠

التراث التفسيري للإمام محمد الباقر عليه‌السلام.... ١٩١

نماذج من تفسيره: ١٩٣

التراث الحديثي للإمام الباقر عليه‌السلام: ١٩٦

٢١٨

٢ ـ أزلية واجب الوجود: ١٩٨

٣ ـ وجوب طاعة الإمام عليه‌السلام: ١٩٩

التراث التاريخي للإمام الباقر عليه‌السلام.... ١٩٩

١ ـ من وحي الله لآدم: ١٩٩

٢ ـ حكمة لسليمان: ٢٠٠

٣ ـ حكمة في التوراة: ٢٠٠

٤ ـ تسمية نوح بالعبد الشكور: ٢٠٠

٥ ـ دعاء نوح على قومه: ٢٠٠

٦ ـ إسماعيل أول من تكلم بالعربية: ٢٠١

٧ ـ نفي الأُمية عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: ٢٠١

مع السيرة النبوّية المبارك: ٢٠٢

١ ـ استعارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السلاح من صفوان: ٢٠٢

٢ ـ مسيرة خالد إلى بني جذيمة: ٢٠٢

مع سيرة الإمام عليّ عليه‌السلام: ٢٠٤

من الملاحم التي أخبر عنها الإمام الباقر عليه‌السلام: ٢٠٥

من التراث الفقهي للإمام الباقر عليه‌السلام.... ٢٠٧

المسح على الخفين: ٢٠٩

مس الفرج لا ينقض الوضوء: ٢١٠

الجهر في صلاة الإخفات : ٢١٠

٢١٩

الصلاة على آل النبي في التشهد: ٢١١

من وصايا الإمام الباقر عليه‌السلام.... ٢١١

٢٢٠