اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)18%

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام
ISBN: 964- 5688-23
الصفحات: 220

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 220 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 134942 / تحميل: 8194
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
ISBN: ٩٦٤- ٥٦٨٨-٢٣
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

وقد قام الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام بدور جبّار لصيانة الإسلام والحفاظ على التجربة الإسلامية وعلى دولة الرسول وحاولوا جهد إمكانهم حفظ الأمة المسلمة من التمادي في الانحراف والانهيار، وعملوا بشكل عام على خطّين رئيسين للوقوف بوجه هذا الانحراف الكبير الذي لم يدرك إلاّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته الأطهار مدى عمقه وخطورته على الشريعة والدولة والأمة جميعاً.

والخطّان الرئيسان اللذان عمل الأئمةعليهم‌السلام عليهما وكان عليهم أن يوظّفوا لذلك نشاطهم يتمثّلان في:

١ ـ خط تحصين الأمة ضد الانهيار بعد وقوع التجربة، بأيدي أناس غير مؤهّلين لقيادتها، وإعطائها القدر الكافي من المقومات لكي تواصل مسيرتها في الاتجاه الصحيح، وبقدم راسخة .

٢ ـ خط محاولة تسلّم زمام التجربة وزمام الدولة ومحو آثار الانحراف وإرجاع القيادة الكفوءة إلى موضعها الطبيعي لتكتمل عناصر التربية ولتتلاحم الأمة والمجتمع مع الدولة والقيادة الرشيدة(١) .

أما الخط الثاني فكان على الأئمة الراشدين أن يقوموا له بإعداد طويل المدى، من أجل تهيئة الظروف الموضوعية اللازمة التي تتناسب مع مجموعة القيم والأهداف والأحكام الأساسية التي جاءت بها الرسالة الإسلامية وأريد تحقيقها من خلال الحكم وممارسة الزعامة باسم الإسلام القيّم وباسم الله المشرّع للإنسان تشريعاً يوصله إلى كماله اللائق به.

ــــــــــــــ

(١) أهل البيت، تنوع أدوار ووحدة هدف: ٥٩.

٤١

ومن هنا كان رأي الأئمة الأطهار في استلام زمام الحكم هو: أنّ الانتصار المسلّح الآنيّ غير كاف لإقامة دعائم الحكم الإسلامي المستقر، بل يتوقف ذلك على إعداد جيش عقائدي يؤمن بالإمام وبعصمته إيماناً مطلقاً ويعيش جميع أهدافه الكبيرة، ويدعم تخطيطه في مجال الحكم، ويحرس ما يحقّقه للأمة من مصالح أرادها الله لها في هذه الحياة.

وأما الخط الأوّل فهو الخط الذي لا يتنافى مع كل الظروف القاهرة والمؤاتية، وكان يمارسه الأئمةعليهم‌السلام حتى في حالة الشعور بعدم توفر الظروف الموضوعية التي تسمح للإمام بخوض معركة يتسلّم من خلالها زمام الحكم من جديد.

إن هذا الخط يتمثّل في تعميق الرسالة فكرياً وروحيّاً وسياسياً في الأمة نفسها; بغية إيجاد تحصين كاف في صفوفها ضدّ الانهيار، بعد تردّي التجربة وسقوطها، وذلك بإيجاد قواعد واعية في الأمة وإيجاد روح رسالية فيها وإيجاد عواطف صادقة تجاه هذه الرسالة في الأمة(١) .

واستلزم عمل الأئمة الأطهارعليهم‌السلام في هذين الخطّين قيامهم بدور رسالي إيجابي وفعّال على طول الخط لحفظ الرسالة والأمة والدولة وحمايتها جميعاً باستمرار.

وكلما كان الانحراف يشتدّ كان الأئمة الأطهار يتّخذون التدابير اللازمة ضد ذلك. وكلما وقعت محنة للعقيدة أو التجربة الإسلامية وعجزت الزعامات المنحرفة من علاجها ـ بحكم عدم كفاءتها ـ بادر الأئمةعليهم‌السلام إلى تقديم الحلّ ووقاية الأمة من الأخطار التي كانت تهدّدها.

ــــــــــــــ

(١) أهل البيت، تنوع أدوار ووحدة هدف: ١٣١ ـ ١٣٢ و١٤٧ ـ ١٤٨.

٤٢

فالأئمة المعصومونعليهم‌السلام كانوا يحافظون على المقياس العقائدي في المجتمع الإسلامي إلى درجة لا تنتهي بالأمة إلى الخطر الماحق لها(١) .

ومن هنا تنوّع عمل الأئمةعليهم‌السلام في مجالات شتّى باعتبار تعدّد العلاقات وتعدّد الجوانب والمهامّ التي تهمّهم باعتبارهم القيادة الواعية الرشيدة التي تريد تطبيق الإسلام وحفظه للإنسانية جمعاء.

فالأئمة الأطهارعليهم‌السلام مسؤولون عن صيانة تراث الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وثمار جهوده الكريمة المتمثلة في النقاط الأربع التالية:

١ ـ الشريعة والرسالة التي جاء بها الرسول الأعظم من عند الله تعالى والمتمثلة في الكتاب الكريم والسنة الشريفة.

٢ ـ الأمة التي كوّنها وربّاها الرسول الكريم بيديه الكريمتين.

٣ ـ الكيان السياسي الإسلامي الذي أوجده النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والدولة التي أسسها وشيّد أركانها.

٤ ـ القيادة النموذجية التي حققها بنفسه وربّى من يكون كفوءً لتجسيدها من أهل بيته الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.

لكنّ عدم إمكان الحفاظ على هذا المركز القيادي وتفويت الفرصة على القيادة التي عيّنها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر من الله تعالى لا يمنع من ممارسة مسؤولية الحفاظ على المجتمع الإسلامي السياسي وصيانة الدولة الإسلامية من الانهيار بالقدر الممكن الذي يتسنّى للقيادة الشرعية بالفعل وبمقدار ما تسمح به الظروف الراهنة.

كما ان سقوط الدولة الإسلامية لا يحول دون الاهتمام بالأمة المسلمة ودون الاهتمام بالرسالة والشريعة الإسلامية وصيانتها من الانهيار والاضمحلال التام.

ــــــــــــــ

(١) أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف: ١٤٤.

٤٣

وعلى هذا الأساس تنوّعت مجالات عمل الأئمة الطاهرينعليهم‌السلام بالرغم من اختلاف ظروفهم من حيث نوع الحكم القائم، ومن حيث درجة ثقافة الأمة ومدى وعيها، ومدى إيمانها ومعرفتها بالأئمةعليهم‌السلام ، ومدى انقيادها للحكام المنحرفين، ومن حيث نوع الظروف المحيطة بالكيان الإسلامي والدولة الإسلامية، ومن حيث درجة التزام الحكّام بالإسلام، ومن حيث نوع الأدوات التي كانوا يستخدمونها لدعم حكمهم وإحكام سيطرتهم على رقاب الأمة.

فقد كان لائمة أهل البيتعليهم‌السلام نشاط مستمر تجاه الحكم القائم والزعامات المنحرفة، وقد تمثّل في إيقاف الحاكم عن المزيد من الانحراف، بالتوجيه الكلامي، أو بالثورة المسلحة ضد الحاكم حينما كان يشكّل انحرافه خطراً ماحقاً، كثورة الإمام الحسينعليه‌السلام ضد يزيد بن معاوية وان كلّفهم ذلك حياتهم، أو عن طريق إيجاد المعارضة المستمرة ودعمها بشكل وآخر من أجل زعزعة القيادة المنحرفة بالرغم من دعمهم للدولة الإسلامية بشكل غير مباشر حينما كانت تواجه خطراً ماحقاً أمام الكيانات الكافرة.

وكان لهمعليهم‌السلام نشاط مستمر كذلك في مجال تربية الأمة عقائدياً وأخلاقياً وسياسيّاً وذلك من خلال تربية الأصحاب العلماء وبناء الكوادر العلمية والشخصيات النموذجية التي تقوم بمهمة نشر الوعي والفكر الإسلامي وتصحيح الأخطاء الحاصلة في فهم الرسالة والشريعة، ومواجهة التيارات الفكرية الوافدة أو التيارات السياسية المنحرفة أو الشخصيّات العلمية المنحرفة التي كان الحكام الجائرون يستخدمونهم لدعم حكوماتهم. وكانت من جملة مهامّهم دعوة الناس إلى السير وراء القيادة الإلهية بعد الرسولعليهم‌السلام والمتمثّلة في إمامة أهل البيت الأطهار، وتصعيد درجة معرفة الأمة والإيمان بهم والوعي اللازم تجاه إمامتهم وزعامتهم.

هذا بالإضافة إلى نزول الأئمةعليهم‌السلام إلى ساحة الحياة العامة والارتباط بالأمة بشكل مباشر والتعاطف مع قطّاع واسع من المسلمين; فإن الزعامة الجماهيرية الواسعة النطاق التي كان يتمتع بها أئمة أهل البيتعليهم‌السلام على مدى قرون لم يحصلوا عليها صدفة، أو لمجرد الانتماء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; وذلك لوجود كثير ممن كان ينتسب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يكن يحظى بهذه المكانة عند الناس; لأن الأمة لا تمنح ولاءها لأحد مجاناً، ولا يملك أحدٌ قيادتها وميل قلوبها من دون عطاء سخيّ منه في مختلف مجالات الحياة، وخاصّة عند الأزمات، والمشاكل.

٤٤

وهكذا خرج الإسلام على مستوى النظرية سليماً من الانحراف وان تشوّهت معالم التطبيق، كما أنّ بفضل قيادة أهل البيت الفكرية والمعنوية تحوّلت الأمة إلى أمة عقائدية تقف بوجه الغزو الفكري والسياسي الكافر واستطاعت أن تسترجع قدرتها وتماسكها على المدى البعيد كما لاحظناه في القرن المعاصر بعد عصور الانهيار والتردي.

وقد حقق الأئمة المعصومونعليهم‌السلام كل هذه الانتصارات بفضل اهتمامهم البليغ بتربية الكتلة الصالحة التي آمنت بهم وبإمامتهم وبفضل إشرافهم على تنمية وعي هذه الكتلة وإيمانها من خلال التخطيط لسلوكها وحمايتها باستمرار وإسعافها بكل الأساليب التي كانت تساعد على صمودها في خضمّ المحن وارتفاعها إلى مستوى جيش عقائدي رسالي يعيش هموم الرسالة ويعمل على صيانتها ونشرها وتطبيقها ليل نهار.

مراحل حركة الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام :

وإذا رجعنا إلى تاريخ أهل البيتعليهم‌السلام والظروف المحيطة بهم ولاحظنا سلوكهم ومواقفهم العامة والخاصة استطعنا أن نصنّف ظروفهم ومواقفهم إلى مراحل وعصور ثلاثة يتميز بعضها عن بعض بالرغم من اشتراكهم في كثير من الظروف والمواقف ولكن الأدوار تتنوع باعتبار مجموعة الظواهر العامة التي تشكل خطّاً فاصلاً ومميّزاً لكل عصر.

فالمرحلة الأولى من حياة الأئمةعليهم‌السلام وهي (مرحلة تفادي صدمة الانحراف) بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجسّدت في سلوك ومواقف الأئمة الأربعة: علي والحسن والحسين وعلي بن الحسينعليهم‌السلام إذ قاموا بالتحصينات اللازمة لصيانة العناصر الأساسية للرسالة وان لم يستطيعوا القضاء على القيادة المنحرفة. لكنهم استطاعوا كشف زيفها والمحافظة على الرسالة الإسلامية نفسها. وبالطبع إنهم لم يهملوا أمر الأمة أو الدولة الإسلامية بشكل عام ولم يحرموها من رعايتهم واهتمامهم إذا ارتبط الأمر بالكيان الإسلامي والأمة المسلمة، هذا فضلاً عن سعيهم البليغ في بناء وتكوين الكتلة الصالحة المؤمنة بقيادتهم.

٤٥

وتبدأ المرحلة الثانية بالشطر الثاني من حياة الإمام السجاد السياسية حتى الإمام الكاظمعليهما‌السلام وتتميز بأمرين أساسيين:

١ ـ فيما يرتبط بالخلافة المزيّفة فقد تصدى هؤلاء الأئمة لتعريتها عمّا بدأ الخلفاء يحصّنون به أنفسهم ويبرّرون أفعالهم، من خلال دعم طبقة من المحدّثين والعلماء (من وعّاظ السلاطين) لهم وتقديم التأييد والولاء لهم من أجل إسباغ الصبغة الشرعية على زعامتهم بعد أن استطاع الأئمة في المرحلة الأولى أن يكشفوا زيف خط الخلافة وأن يُحَسِّسوا الأمة بمضاعفات الانحراف الذي حصل في مركز القيادة بعد الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢ ـ فيما يرتبط ببناء الجماعة الصالحة الذي أرسيت دعائمه في المرحلة الأولى فقد تصدى الأئمة المعصومون في هذه المرحلة إلى تحديد الإطار التفصيلي وإيضاح معالم الخط الرسالي الذي اُؤتمن الأئمة الأطهارعليهم‌السلام عليه والذي تمثّل في تبيين ونشر معالم النظرية الإسلامية الإمامية وتربية عدة أجيال من العلماء على أساس هذه النظرية في قبال خط علماء البلاط والذين عرفوا بوعاظ السلاطين.

هذا فضلاً عن تصديهم لدفع الشبهات وكشف زيف الفرق المذهبية التي استحدثت من قبل خط الخلافة أو غيره.

والأئمة في هذه المرحلة لم يتوانوا في زعزعة قواعد الزعامات والقيادات المنحرفة من خلال دعم بعض الخطوط المعارِضة للسلطة ولا سيَّما الثورية منها التي كانت تتصدى لمواجهة من تربَّع على كرسيّ خلافة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام .

والمرحلة الثالثة من حياة الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام تبدأ بشطر من حياة الإمام الكاظمعليه‌السلام وتنتهي بالإمام المهديعليه‌السلام ; فأنهم بعد وضع التحصينات اللازمة للكتلة الصالحة ورسم المعالم والخطوط التفصيلية لها ـ عقائدياً وأخلاقياً وسياسيّاً في المرحلة الثانية ـ قد بدا للخلفاء أن قيادة أهل البيتعليهم‌السلام أصبحت بمستوى تسلّم زمام الحكم والعودة بالمجتمع الإسلامي إلى حظيرة الإسلام الحقيقي، وهو أمر استتبع ردود فعل من جانب الخلفاء تجاه الأئمةعليهم‌السلام ، وكانت مواقف الأئمة تجاه الخلفاء تابعة ومناسبة لنوع موقف الخليفة تجاههم وتجاه قضيتهم.

٤٦

وأمّا فيما يرتبط بالكتلة الصالحة التي أوضحوا لها معالم منهجها فقد عمل الأئمةعليهم‌السلام على دفعها نحو الثبات والاستقرار والانتشار من أجل تحصينها من الانهيار وإعطائها درجة من الاكتفاء الذاتي، وكان في تقدير الأئمة أنهم بعد المواجهة المستمرة للخلفاء سوف لا يُسمح لهم بالمكث بين ظهرانيهم وسوف لن يتركهم الخلفاء أحراراً بعد أن تبين للأمة عدم شرعيّتهم واتضحت لهم المكانة الشعبية للأئمةعليهم‌السلام الذين كانوا يمثّلون الزعامة الشرعية والاهتمام الحقيقي بشؤون الأمة الإسلامية.

ومن هنا تجلّت حكمة تربية الفقهاء على نطاق واسع ثم إرجاع الناس إليهم وتدريبهم على مراجعتهم في قضاياهم وشؤونهم العامة تمهيداً للغيبة التي لا يعلم مداها إلاّ الله سبحانه والتي اخبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تحققها وفرضت الظروف على الأئمة وأتباعهم الانصياع لها.

وبهذا استطاع الأئمةعليهم‌السلام وضمن تخطيط بعيد المدى أن يقفوا في وجه المسلسل الطبيعي للمضاعفات الناشئة عن الانحراف في القيادة والتي كانت تنتهي بتنازل الأمة عن الإسلام الصحيح، وبالتالي ضمور الشريعة وانهيار الرسالة الإلهية بشكل كامل.

فالذي جعل الأمة لا تتنازل عن الإسلام هو تقديم مثل آخر للإسلام واضح المعالم، أصيل المُثل والقيم، أصيل الأهداف والغايات، وقد قُدّمت هذه الأطروحة للأمة من قبل الواعين من المسلمين بزعامة الأئمة من أهل البيت المعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

إنّ هذه الأطروحة التي قدّمها الأئمةعليهم‌السلام للإسلام المحمّدي لم تكن لتتفاعل مع الشيعة المؤمنين بإمامة أهل البيتعليهم‌السلام فقط، بل كان لها صدى كبير في كل العالم الإسلامي، فالأئمة الأطهار كانت لهم أطروحة للإسلام وكانت لهم دعوى لإمامتهم وهذه الدعوى وان لم يطلبوا لها إلاّ عدداً ضئيلاً من مجموع الأمة الإسلامية ولكن الأمة بمجموعها تفاعلت مع هذه الأطروحة التي تُمَثّل النموذج الواضح والمخطّط الصحيح الصريح للإسلام في كل المجالات العامة والخاصة، ثقافياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وخلقياً، مما جعل المسلمين على مرّ الزمن يسهرون على الإسلام ويقيمونه وينظرون إليه بمنظار آخر غير منظار الواقع الذي كانوا يعيشونه من خلال الحكم القائم الذي تلاعب بالإسلام وغيّر معالمه(١) .

ــــــــــــــ

(١) أهل البيت، تنوع أدوار ووحدة هدف: ٧٩ ـ ٨٠ مع بعض التصرّف.

٤٧

هذا وستكون لنا وقفة تفصيليّة مع الأطروحة الكاملة التي طبّقها والمنهج الذي انتهجه الإمامعليه‌السلام لبناء الجماعة الصالحة في الباب الرابع إن شاء الله تعالى.

الفصل الثاني: وقائع وأحداث هامة في عصر الإمام الباقرعليه‌السلام

إذا أردنا أن نقف على ملامح المرحلة التي مارس فيها الإمام الباقرعليه‌السلام قيادته للأمة الإسلامية بعد والده الإمام زين العابدينعليهما‌السلام وجب أن نقف على أهم الأحداث التي مهّدت لتلك المرحلة ونلاحظ مدى علاقتها بالإمام الباقرعليه‌السلام كمرشّح للقيادة في حياة والده وممارس لها بعد ذلك.

لقد شُيّدت أسس الحكم الأُموي المرواني أيام عبد الملك بن مروان باعتباره أوّل حاكم مقتدر للحكم المرواني. وقد رسمت إجراءاته السياسية ملامح المرحلة التي نريد دراستها.

قال بعض المؤرخين: إن عبد الملك بن مروان قبل أن يتقلد الخلافة كان يظهر النسك والعبادة، فلما بشر بالملك كان بيده المصحف الكريم فأطبقه وقال: هذا آخر العهد بك، أو قال: هذا فراق بيني وبينك(١) .

ولقد اتصف عبد الملك بأخس الصفات وأحطها والتي كان من بينها:

١ ـ الطغيان والجبروت: قال المنصور: كان عبد الملك جباراً لا يبالي ما صنع(٢) وكان فاتكاً لا يعرف الرحمة والعدل، وقد قال: في خطبته بعد قتله

ــــــــــــــ

(١) تاريخ ابن كثير: ٨/٢٦٠.

(٢) النزاع والتخاصم للمقريزي: ٨.

٤٨

لابن الزبير: لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه(١) ، وهو أول من نهى عن الكلام بحضرة الخلفاء(٢) .

٢ ـ الغدر ونكث العهد: فقد أعطى الأمان لعمرو بن سعيد الأشدق على أن تكون الخلافة له من بعده إلا أنه غدر به، وقتله ورمى برأسه إلى أصحابه(٣) ولم يرع وشيجة النسب التي كانت تربطه بعمرو.

لقد خاف عبد الملك من الأشدق، إذ لو كان حياً لاتّخذ التدابير للقضاء على حكم بني مروان ولكن عبد الملك تغدّى به قبل أن يتعشى به عمر، وقد انتقم الله منه; لأنه كان جباراً مسرفاً في إراقة دماء المسلمين وإشاعة الخوف والرعب فيهم.

٣ ـ القسوة والجفاء: حيث انعدمت من نفسه الرحمة والرأفة، حتى أنّه بالغ في إراقة الدماء وسفكها بغير حق، وقد اعترف بذلك هو حين قالت له أم الدرداء: بلغني أنك شربت الطِلى ـ يعني الخمر ـ بعد العبادة والنسك، فقال لها غير متأثم: (إي والله والدماء شربتها)(٤) .

وقد نشر الثكل والحزن والحداد في بيوت المسلمين أيام حكمه الرهيب حتى أنّه خطب في يثرب بعد قتله لابن الزبير خطاباً قاسياً أعرب فيه عما كان يحمله في قرارة نفسه من القسوة والسوء قائلاً: (إني لا أداوي أدواء هذه الأمة إلاّ بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم...)(٥) .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي: ٢١٩.

(٢) المصدر السابق: ٢١٨.

(٣) تاريخ اليعقوبي: ٢ / ١٩٠، ط ١، الأعلمي بيروت، ١٤١٣ هـ.

(٤) مختصر تاريخ دمشق: ١٥/٢١٩، ترجمة عبد الملك بن مروان رقم ٢١٠.

(٥) تاريخ ابن كثير: ٩/٦٤.

٤٩

٤ ـ البخل: فكان يسمى (رشح الحجارة) لشدة شحه وبخله(١) وقد عانت الأمة في أيام حكمه الجوع والفقر والحرمان.

من بدع عبد الملك: خاف عبد الملك أن يتصل ابن الزبير بأهل الشام فيفسدهم عليه فمنعهم من الحج، فقالوا له: أتمنعنا من الحج وهو فريضة فرضها الله، فقال: قال ابن شهاب الزهري انّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد بيت المقدس.

وصرفهم بذلك عن الحج إلى بيت الله الحرام، وصيره إلى بيت المقدس وقد استغل الصخرة التي فيه، وروى فيها أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وضع قدمه عليها حين صعوده إلى السماء فأقامها لهم مقام الكعبة فبنى عليها قبة وعلى فوقها ستور الديباج، وأقام لها سدنة، وأمر الناس أن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة(٢) .

وانتقص عبد الملك سلفه من حكام بني أمية، وقد أدلى بذلك في خطابه الذي ألقاه في يثرب، إذ جاء فيه: (إني والله ما أنا بالخليفة، المستضعف ـ يعني عثمان ـ ولا بالخليفة المداهن ـ يعني معاوية ـ ولا بالخليفة المأفون(٣) ـ يعني يزيد).

وعلّق ابن أبي الحديد على هذه الكلمات بقوله: (وهؤلاء سلفه وأئمته، وبشفعتهم قام ذلك المقام، وبتقدمهم وتأسيسهم نال تلك الرياسة، ولولا العادة المتقدمة، والأجناد المجندة والصنائع القائمة، لكان أبعد خلق الله من ذلك

ــــــــــــــ

(١) تاريخ القضاعي: ٧٢.

(٢) اليعقوبي: ٢/٣١١.

(٣) المأفون: الضعيف الرأي.

٥٠

المقام، وأقربهم إلى المهلكة إن رام ذلك الشرف...)(١) .

من جرائم عبد الملك: وأخطر عمل قام به عبد الملك توليته للسفّاك المعروف الحجّاج بن يوسف الثقفي، فقد عهد بأمور المسلمين إلى هذا الإنسان الممسوخ الذي اشتهر بقساوته وشهوته في إراقة الدماء.

لقد منحه عبد الملك صلاحيات واسعة النطاق، فجعله يتصرف في أمور الدولة حسب رغباته التي لم تكن تخضع إلاّ لمنطق البطش والاستبداد، وقد أمعن هذا الأثيم في النكاية بالناس، وقهرهم وإذلالهم، وقد خلق في البلاد الخاضعة لنفوذه جواً من الأزمات السياسية التي لا عهد للناس بمثلها.

ونقم علماء المسلمين وخيارهم على الحجاج، وكان عمر بن عبد العزيز من الناقمين على الحجاج، والساخطين عليه، حتى قال فيه: (لو جاءت كل أمة بخبيثها، وجئنا بالحجاج لغلبناهم)(٢) .

وقال عاصم: (ما بقيت لله عَزَّ وجَلَّ حرمة إلاّ وقد ارتكبها الحجاج(٣) .

وقال طاووس: (عجبت لمن يسمي الحجاج مؤمناً)(٤) .

وقال ابن عماد الحنبلي عنه: (سنة خمس وتسعين فيها أراح الله العباد والبلاد بموت الحجاج بن يوسف الثقفي في ليلة مباركة على الأمة... كان لا يصبر عن سفك الدماء وانه اكبر لذّاته وله مقحمات عظام)(٥) .

ولما أراد الحج ولّى على العراق شخصاً اسمه محمد، وقد خطب بين الناس فقال لهم: إني قد استعملت عليكم محمداً، وقد أوصيته فيكم خلاف

ــــــــــــــ

(١) شرح ابن أبي الحديد: ١٥/٢٥٧.

(٢) نهاية الإرب: ٢١/٣٣٤.

(٣) تاريخ ابن كثير: ٩/١٣٢.

(٤) تهذيب التهذيب: ٢/٣١١.

(٥) شذرات الذهب: ١/١٠٦ ـ ١٠٧.

٥١

وصية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالأنصار فانه قد أوصى أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم، وقد أوصيته أن لا يقبل من محسنكم، ولا يتجاوز عن مسيئكم...)(١) .

وقال الدميري: (كان الحجاج لا يصبر عن سفك الدماء، وكان يخبر عن نفسه أ نّ أكبرَ لذّاته إراقته للدماء، وارتكاب أمور لا يقدر عليها غيره)(٢) .

وقد بالغ في قتل الناس بغير حق، فقد كان عدد من قتلهم صبراً ـ سوى من قتل في حروبه ـ مئة وعشرين ألفاً(٣) وقيل مئة وثلاثين ألفاً(٤) .

وقد اعترف رسمياً بسفكه للدماء بغير حق فقد قال: (والله ما أعلم اليوم رجلاً على ظهر الأرض هو أجرأ على دم مني)(٥) .

وأنكر عليه عبد الملك إسرافه في ذلك إلا أنه لم يعن به(٦) .

وقد وضع سيفه في رقاب القرّاء والعبّاد لأنهم أيدوا ثورة ابن الأشعث، وكان من جملة من قتلهم صبراً سعيد بن جبير أحد أبرز علماء الكوفة وزهادها، ولما بلغ الحسن البصري نبأ قتله قال: والله لقد مات سعيد بن جبير يوم مات وأهل الأرض من مشرقها إلى مغربها محتاجون لعلمه(٧) .

وحكم جماعة من أعلام المسلمين بكفره وإلحاده، منهم سعيد بن جبير النخعي، ومجاهد، وعاصم بن أبي النجود، والشعبي وغيرهم(٨) .

ــــــــــــــ

(١) مروج الذهب: ٣/٨٦.

(٢) حياة الحيوان للدميري: ١/١٦٧.

(٣) تهذيب التهذيب: ٢/٢١١، تيسير الوصول: ٤/٣١، التنبيه والإشراف: ٣١٨، معجم البلدان: ٥/٣٤٩.

(٤) حياة الحيوان: ١/١٧٠، تاريخ الطبري.

(٥) طبقات ابن سعد: ٦/٦٦.

(٦) مروج الذهب: ٣/٧٤.

(٧) حياة الحيوان: ١/١٧١.

(٨) تهذيب التهذيب: ٢/٢١١.

٥٢

وذلك لأنّ الحجاج قد استهان بالنبي العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى فضّل عبد الملك ابن مروان عليه وذلك حين خاطب الله تعالى أمام الناس قائلاً: (أرسولك أفضل ـ يعني النبي ـ أم خليفتك ـ يعني عبد الملك؟(١) .

وكان ينقم ويسخر من الذين يزورون قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول: (تبّاً لهم إنما يطوفون بأعواد ورمة بالية، هلاّ طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك، ألا يعلمون أنّ خليفة المرء خير من رسوله؟!(٢) .

وحفل حكم هذا الخبيث بالجرائم والموبقات فقد نكّل بشيعة آل البيتعليهم‌السلام وأذاع فيهم القتل، وأشاع في بيوتهم الثكل والحزن والحداد، في الوقت الذي كان عبد الملك قد كتب إليه: (جنبني دماء بني عبد المطلب فليس فيها شفاء من الحرب، وإني رأيت آل بني حرب قد سُلبوا ملكهم لما قتلوا الحسين بن علي)(٣) .

ولكن الحجاج قد تعرض للعلويين وشيعتهم فانطلقت يده في الفتك بهم وسفك دمائهم حتى أن الرجل كان أحب إليه أن يقال له زنديق من أن يقال له من شيعة علي(٤) . وقال المؤرخون: إن خير وسيلة للتقرب إلى الحجاج كانت انتقاص الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام عنده فقد أقبل إليه بعض المرتزقة من أوغاد الناس وأجلافهم وهو رافع عقيرته قائلاً:

(أيها الأمير، إن أهلي عقوني فسموني علياً، وإني فقير بائس، وأنا إلى صلة الأمير محتاج...). فسرّ الحجاج بذلك وقال: (للطف ما توسلت به، فقد

ــــــــــــــ

(١) النزاع والتخاصم للمقريزي: ٢٧، رسائل الجاحظ: ٢٩٧.

(٢) شرح النهج: ١٥/٢٤٢.

(٣) العقد الفريد: ٣/١٤٩.

(٤) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١١/٤٣ ـ ٤٤، تاريخ الشيعة: ٤٠.

٥٣

وليتك موضع كذا)(١) .

وعلى أي حال فقد أصبح أتباع أهل البيتعليهم‌السلام في عهد هذا الجلاّد طعمة للسيوف والرماح، إذ نكّل بهم وقتلهم ولاحقهم تحت كل حجر ومدر وأودع الكثيرين منهم السجون، وأثار جوّاً من الإرهاب، لم نشهد له مثيلاً حتى في أيام الطاغية زياد بن أبيه وابنه عبيد الله.

وامتُحنت الكوفة في أيام هذا الجبار كأشد ما تكون المحنة، فقد أخذ يقتل على الظنة والتهمة، وخطب في الكوفة خطاباً قاسياً، لم يحمد الله فيه، ولم يثن عليه، ولم يصلّ على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان من جملة ما قال فيه:

(يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق والمراق ومساوئ الأخلاق، إن أمير المؤمنين ـ يعني عبد الملك ـ فتل كنانته فعجمها عوداً عوداً، فوجدني من أمرّها عوداً، وأصعبها كسراً، فرماكم بي، وانه قلدني عليكم سوطاً وسيفاً، فسقط السوط وبقي السيف(٢) ثم قال: إني والله لأرى أبصاراً طامحة، وأعناقاً متطاولة، ورؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني أنا صاحبها كأني أنظر إلى الدماء ترقرق بين العمائم واللحى(٣) ثم أنشد:

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا

متى أضع العمامة تعرفوني

ومن جرائم هذا الطاغية: أنه قاد جيشاً مكثفاً إلى مكة لمحاربة ابن الزبير، وقد حاصر البيت الحرام ستة أشهر وسبع عشرة ليلة، وقد أمر برمي الكعبة المشرفة فرميت من جبل أبي قبيس بالمنجنيق(٤) .

ــــــــــــــ

(١) حياة الإمام الحسن بن علي: ٢/٣٣٦.

(٢) تاريخ اليعقوبي: ٣/٦٨.

(٣) مروج الذهب: ٣/٦٨.

(٤) تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر: ٤/٥٠، تاريخ الخلفاء للسيوطي: ٨٤، تاريخ ابن كثير: ٩/٦٣.

٥٤

واتخذ الحجّاج سجوناً لا تقي من حر ولا برد، وكان يعذب المساجين بأقسى ألوان العذاب، حتى قال المؤرخون: إنه مات في حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة منهن ستة عشر ألفاً مجردات وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد(١) وأُحصي في محبسه ثلاث وثلاثون ألف سجين لم يحبسوا في دَيْن ولا تبعة(٢) وكان يقول لأهل السجن:( اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ) (٣) تشبيهاً لهم بأهل النار، وتشبيهاً لنفسه بالخالق تعالى، عتواً وتكبراً منه.

وتلقى المسلمون نبأ وفاته بمزيد من السرور والأفراح، وكانت الشتائم تلاحقه من يوم وفاته حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

الإمام الباقرعليه‌السلام مع عبد الملك بن مروان:

أوعز عبد الملك إلى عامله على يثرب باعتقال الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام وإرساله إليه مخفوراً، وتردد عامله في إجابته ورأى أن من الحكمة إغلاق ما أمر به فأجابه بما يلي:

(ليس كتابي هذا خلافاً عليك، ولا ردّاً لأمرك، ولكن رأيت أن أراجعك في الكتاب نصيحة وشفقة عليك، فان الرجل الذي أردته ليس على وجه الأرض اليوم أعف منه، ولا أزهد، ولا أورع منه، وأنه ليقرأ في محرابه فيجتمع الطير والسباع إليه تعجباً لصوته، وإن قراءته لتشبه مزامير آل داود، وإنه لمن أعلم الناس، وأرأف الناس، وأشد الناس اجتهاداً وعبادة، فكرهت لأمير المؤمنين التعرض له، فان الله لا يغير ما بقوم، حتى يغيروا ما بأنفسهم...).

ــــــــــــــ

(١) حياة الحيوان للدميري: ١/١٧٠.

(٢) معجم البلدان: ٥/٣٤٩.

(٣) تهذيب التهذيب: ٢/٢١٢.

٥٥

إن هذه الرسالة لما وافت عبد الملك عدل عن رأيه في اعتقال الإمامعليه‌السلام ورأى أن الصواب فيما قاله عامله(١) .

الإمام الباقرعليه‌السلام وتحرير النقد الإسلامي:

قام الإمام أبو جعفرعليه‌السلام بأسمى خدمة للعالم الإسلامي، فقد حرّر النقد من التبعية للإمبراطورية الرومية، حيث كان النقد يصنع هناك ويحمل شعار الروم النّصارى، وقد جعله الإمامعليه‌السلام مستقلاً بنفسه يحمل الشعار الإسلامي، وقطع الصلة بينه وبين الروم.

أما السبب في ذلك فهو أن عبد الملك بن مروان نظر إلى قرطاس قد طرز بمصر فأمر بترجمته إلى العربية، فترجم له، وقد كتب عليه الشعار المسيحي الأب والابن والروح فأنكر ذلك، وكتب إلى عامله على مصر عبد العزيز بن مروان بإبطال ذلك وأن يحمل المطرزين للثياب والقراطيس وغيرها على أن يطرزوها بشعار التوحيد، ويكتبوا عليها (شهد الله أنه لا إله إلاّ هو) وكتب إلى عمّاله في جميع الآفاق بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم، ومعاقبة من وجد عنده شيء بعد هذا النهي.

وقام المطرزون بكتابة ذلك، فانتشرت في الآفاق، وحملت إلى الروم ولما علم ملك الروم بذلك انتفخت أوداجه، واستشاط غيظاً وغضباً فكتب إلى عبد الملك أن عمل القراطيس بمصر، وسائر ما يطرز إنما يطرز بطراز الروم إلى أن أبطلته، فان كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت، وإن كنت قد أصبت فقد أخطأوا، فاختر من هاتين الحالتين أيهما شئت وأحببت، وقد بعثت إليك بهدية تشبه محلك، وأحببت أن تجعل رد ذلك الطراز إلى ما كان عليه في جميع ما كان يطرز من أصناف الأعلاق حالة أشكرك عليها وتأمر بقبضة الهدية.

ــــــــــــــ

(١) الدر النظيم: ١٨٨، ضياء العالمين الجزء الثاني في أحوال الإمام الباقر عليه‌السلام .

٥٦

ولما قرأ عبد الملك الرسالة أعلم الرسول أنه لا جواب له عنده كما رد الهدية، وقفل الرسول راجعاً إلى ملك الروم فأخبره الخبر، فضاعف الهدية وكتب إليه ثانياً يطلب بإعادة ما نسخه من الشعار، ولما انتهى الرسول إلى عبد الملك ردّه، مع هديته، وظل مصمماً على فكرته، فمضى الرسول إلى ملك الروم وعرفه بالأمر، فكتب إلى عبد الملك يتهدده ويتوعده وقد جاء في رسالته:

(إنك قد استخففت بجوابي وهديتي، ولم تسعفني بحاجتي فتوهمتك استقللت الهدية فأضعفتها، فجريت على سبيلك الأول وقد أضعفتها ثالثة وأنا أحلف بالمسيح لتأمرن برد الطراز إلى ما كان عليه أو لآمرن بنقش الدنانير والدراهم، فانك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلاّ ما ينقش في بلادي، ولم تكن الدراهم والدنانير نقشت في الإسلام، فينقش عليها شتم نبيّك، فإذا قرأته إرفضّ جبينك عرقاً، فأحب أن تقبل هديتي، وترد الطراز إلى ما كان عليه، ويكون فعل ذلك هدية تودني بها، وتبقى الحال بيني وبينك...).

ولما قرأ عبد الملك كتابه ضاقت عليه الأرض، وحار كيف يصنع، وراح يقول: أحسبني أشأم مولود في الإسلام، لأني جنيت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من شتم هذا الكافر، وسيبقى عليَّ هذا العار إلى آخر الدنيا فان النقد الذي توعدني به ملك الروم إذا طبع سوف يتناول في جميع أنحاء العالم.

وجمع عبد الملك الناس، وعرض عليهم الأمر فلم يجد عند أحد رأياً حاسماً، وأشار عليه روح بن زنباع، فقال له: إنّك لتعلم المخرج من هذا الأمر، ولكنك تتعمد تركه، فأنكر عليه عبد الملك وقال له: ويحك! من ؟. فقال له: عليك بالباقر من أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فأذعن عبد الملك، وصدقه على رأيه، وعرفه أنه غاب عليه الأمر، وكتب من فوره إلى عامله على يثرب يأمره بإشخاص الإمام وأن يقوم برعايته والاحتفاء به، وأن يجهزه بمائة ألف درهم، وثلاثمائة ألف درهم لنفقته، ولما انتهى الكتاب إلى العامل قام بما عهد إليه، وخرج الإمام من يثرب إلى دمشق فلما سار إليها استقبله عبد الملك، واحتفى به وعرض عليه الأمر فقالعليه‌السلام :

(لا يعظم هذا عليك فإنه ليس بشيء من جهتين: إحداهما أن الله عَزَّ وجَلَّ لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأخرى وجود الحيلة فيه) .

فقال: ما هي ؟

٥٧

قالعليه‌السلام :تدعو في هذه الساعة بصناع فيضربون بين يديك سككاً للدراهم والدنانير، وتجعل النقش صورة التوحيد وذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم احدهما في وجه الدرهم، والآخر في الوجه الثاني، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه والسنّة التي يضرب فيها، وتعمد إلى وزن ثلاثين درهماً عدداً من الأصناف الثلاثة إلى العشرة منها وزن عشرة مثاقيل، وعشرة منها وزن ستة مثاقيل، وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل، فتكون أوزانها جميعاً واحداً وعشرين مثقالاً، فتجزئها من الثلاثين فيصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل، وتصب صنجات من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان، فتضرب الدراهم على وزن عشرة، والدنانير على وزن سبعة مثاقيل ... وأمره بضرب السكة على هذا اللون في جميع مناطق العالم الإسلامي، وأن يكون التعامل بها، وتلغى السكة الأولى، ويعاقب بأشد العقوبة من يتعامل بها، وترجع إلى المعامل الإسلامية لتصب ثانياً على الوجه الإسلامي.

وامتثل عبد الملك ذلك، فضرب السكة حسبما رآه الإمامعليه‌السلام ولما فهم ملك الروم ذلك سقط ما في يده، وخاب سعيه، وظل التعامل بالسكة التي صممها الإمامعليه‌السلام حتى في زمان العباسيين(١) .

وذكر ابن كثير أن الذي قام بهذه العملية الإمام زين العابدينعليه‌السلام (٢) . ولا مانع من أن يكون الإمام زين العابدين قد نفّذ الخطة بواسطة ابنه محمد الباقرعليه‌السلام .

وعلى أي حال فان العالم الإسلامي مدين للإمام أبي جعفر الباقرعليه‌السلام بما أسداه إليه من الفضل بإنقاذ نقده من تبعية الروم المسيحيين.

ومرض عبد الملك بن مروان مرضه الذي هلك فيه، وعهد بالخلافة من بعده إلى ولده الوليد، وأوصاه بالحَجاج خيراً، وقال له: وانظر الحَجّاج فأكرمه، فإنه هو الذي وطّأ لكم المنابر، وهو سيفك يا وليد، ويدك على من ناواك، فلا تسمعن فيه قول أحد، وأنت إليه أحوج منه إليك. وادع الناس إذا مت إلى البيعة، فمن قال برأسه هكذا، فقل: بسيفك هكذا...)(٣) .

ومثّلت هذه الوصية اندفاعاته نحو الشرّ حتى في الساعة الأخيرة من حياته. وقد سئل عنه الحسن البصري فقال: ما أقول في رجل كان الحجاج سيئة من سيئاته(٤) .

ــــــــــــــ

(١) حياة الحيوان للدميري: ١/٩١ ـ ٩٢، المحاسن والأضداد للبيهقي، المطالعة العربية: ١/٣١.

(٢) البداية والنهاية: ٩/٦٨.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي: ٢٢٠.

(٤) تاريخ أبي الفداء: ١/٢٠٩.

٥٨

الوليد بن عبد الملك

واستولى الوليد بن عبد الملك على الحكم بعد هلاك أبيه في النصف من شوال سنة (٨٦ هـ ) ولم تكن فيه أية صفة من صفات النبل بحيث تؤهله للخلافة، وإنما كان جباراً ظالماً(١) وكان يغلب عليه اللحن، وقد خطب في المسجد النبوي، فقال: يا أهل المدينة ـ بالضم ـ مع أن القاعدة تقتضي نصبه لأنه منادى مضاف.

وخطب يوماً فقال: يا ليتها كانت القاضية ـ وضم التاء ـ فقال عمر بن عبد العزيز: عليك وأراحتنا منك(٢) . وعاتبه أبوه على إلحانه، وقال: إنه لا يلي العرب إلا من يحسن كلامهم، فجمع أهل النحو ودخل بيتاً فلم يخرج منه ستة أشهر، ثم خرج منه، وهو أجهل منه يوم دخل(٣) .

وطعن عمر بن عبد العزيز في حكومته فقال: إنه ممن امتلأت الأرض به جوراً(٤) . ويقول المؤرخون: إنه كان كثير النكاح والطلاق إذ يقال: إنه تزوج ثلاثاً وستين امرأة(٥) غير الإماء.

وفي عهد الوليد قتل الحجاج سعيد بن جبير التابعي صبراً وكان قتله من الأحداث الجسام التي روّع بها العالم الإسلامي.

وكانت مدة خلافته تسع سنين وسبعة أشهر، توفي بدير

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء: ٢٢٣.

(٢) تاريخ ابن الأثير: ٤/١٣٨.

(٣) المصدر السابق.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي: ٢٢٣.

(٥) الأناقة في مآثر الخلافة: ١/١٣٣.

٥٩

مروان سنة (٩٦ هـ ) وكان عمره خمساً وأربعين سنة(١) .

ثم بويع سليمان بن عبد الملك بعهد من أبيه بعد هلاك أخيه في جمادى الآخرة سنة (٩٦ هـ ) فاستلم الحكم ونكّل بآل الحجاج تنكيلاً فظيعاً، وعهد بتعذيبهم إلى عبد الملك بن المهلب(٢) وعزل جميع عمّال الحجاج وأطلق في يوم واحد من سجنه واحداً وثمانين ألفاً، وأمرهم أن يلحقوا بأهاليهم، ووجد في السجن ثلاثين ألفاً ممن لا ذنب لهم وثلاثين ألف امرأة(٣) وكانت هذه من مآثره وألطافه على الناس.

لكنه كان مجحفاً أشد الإجحاف في جباية الخراج فقد كتب إلى عامله على مصر أسامة بن زيد التنوخي رسالة جاء فيها: (احلب الدر حتى ينقطع، واحلب الدم حتى ينصرم). وقدم عليه أسامة بما جباه من الخراج، وقال له: إني ما جئتك حتى نهكت الرعية وجهدت فان رأيت أن ترفق بها وترفه عليها، وتخفف من خراجها ما تقوى به على عمارة بلادها فافعل فانه يستدرك ذلك في العام المقبل فصاح به سليمان: (هبلتك أمك احلب الدر، فإذا انقطع فاحلب الدم)(٤) .

ودلت هذه البادرة على تجرده من الرحمة والرأفة على رعيته، فقد أمات الحركة الاقتصادية، وأشاع الفقر والبؤس في البلاد.

وكان شديد الإعجاب بنفسه، حتى إنّه لبس يوماً أفخر ثيابه وراح يقول: أنا الملك الشاب المهاب، الكريم، الوهاب، وتمثلت أمامه إحدى جواريه فقال لها: كيف ترين أمير المؤمنين؟!!

فقالت: أراه مني النفس، وقرة العين، لولا ما قال الشاعر...

فقال لها: ما قال: ؟

ــــــــــــــ

(١) تاريخ ابن الأثير: ٤/١٣٨.

(٢) المصدر السابق: ٤/١٣٨.

(٣) تاريخ ابن عساكر: ٥/٨٠.

(٤) الجهشياري: ٣٢.

٦٠

قالت: إنه قال:

ليس فيما بدا لنا منك عيب

عابه الناس غير أنّك فاني

فكانت هذه الأبيات كالصاعقة على رأسه، فقد تبدد جبروته وإعجابه بنفسه، ولم يمكث إلا زمناً يسيراً حتى هلك(١) وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيام، وتوفى يوم الجمعة لعشر ليال بقين من صفر سنة (٩٩ هـ )(٢) .

عمر بن عبد العزيز

ثم تقلّد الحكم الأُموي عمر بن عبد العزيز بعهد من سليمان بن عبد الملك في يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة (٩٩ هـ )(٣) ولمس الناس في عهده القصير الأمن، والرفاه، بشكل نسبي، فقد أزال عنهم شيئاً من جور بني مروان وطغيانهم، وكان محنكاً، قد هذبته التجارب، وقد ساس المسلمين سياسة لم يألفوها ممّن قبله.

وكانت لعمر بن عبد العزيز إنجازات عديدة ميّزته عن سائر الحكّام الأمويين ويمكن تلخيصها فيما يلي:

ــــــــــــــ

(١) مروج الذهب: ٣/١١٣.

(٢) تاريخ ابن الأثير: ٤/١٥١.

(٣) نهاية الإرب: ٢١/٣٥٥.

٦١

١ ـ إدانة سب الإمام عليعليه‌السلام ولعنه: كانت الحكومة الأُموية منذ تأسيسها قد تبنت بصورة جادّة سب الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وانتقاصه، فان معاوية كان يرى ان هذا السبّ هو السبب في بقاء دولتهم وسلطانهم(١) ، لأن مبادئ الإمامعليه‌السلام كانت تطاردهم وتفتح أبواب النضال الشعبي ضد سياستهم القائمة على الظلم والجور والطغيان فكان لابدّ من إسقاط شخصيّته، واعتباره.

وقد أدرك عمر بن عبد العزيز أن السياسة التي انتهجها آباؤه ضد الإمامعليه‌السلام لم تكن حكيمة ولا رشيدة، فقد جرّت للأمويين الكثير من المصاعب والمشاكل، وألقتهم في شر عظيم، فعزم على أن يمحو هذه الخطيئة، فأصدر أوامره الحاسمة إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي بترك سبّ عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وأن يُقرأ عوض السب قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ) .

وقد علّل عمر نفسه السبب في تركه لما سنّه آباؤه من انتقاص الإمام بقوله: كان أبي إذا خطب فنال من علي تلجلج، فقلت: يا أبت إنك تمضي في خطبتك فإذا أتيت على ذكر علي عرفت منك تقصيراً، قال: أوفطنت لذلك؟ قلت: نعم، فقال: يا بني إن الذين حولنا لو يعلمون من عليٍّ ما نعلم تفرّقوا عنّا إلى أولاده.

فلما ولي عمر الخلافة لم يكن عنده من الرغبة في الدنيا مثل إبطال ظاهرة سب الإمام(٢) .

وقد أثارت هذه المكرمة إعجاب الجميع، وأخذ الناس يتحدثون عنه بأطيب الحديث ويذكرون شجاعته النادرة في مخالفته لسلفه الطغاة البغاة.

ــــــــــــــ

(١) تاريخ دمشق: ٢/٤٧، تاريخ الأمم والملوك: ٥/١٦٧ ـ ١٦٨.

(٢) تاريخ ابن الأثير: ٤/١٥٤، حوادث سنة ٩٩ هـ .

٦٢

٢ ـ صلته للعلويين: جهدت الحكومة الأُموية منذ تأسيسها على حرمان أهل البيتعليهم‌السلام من حقوقهم وإشاعة الفاقة في بيوتهم، حتى عانوا الفقر والحرمان، ولكن لما ولي الحكم عمر بن عبد العزيز أجزل لهم العطاء فقد كتب إلى عامله على يثرب أن يقسم فيهم عشرة آلاف دينار، فأجابه عامله: إن علياً قد ولد له في عدة قبائل من قريش، ففي أي ولده ؟ فكتب إليه: إذا أتاك كتابي هذا، فاقسم في ولد علي من فاطمة رضوان الله عليهم عشرة آلاف دينار، فطالما تخطّتهم حقوقه)(١) . وكانت هذه أول صلة تصلهم أيام الحكم الأُموي.

٣ ـ رد فدك: رد عمر فدكاً إلى العلويين بعد أن صودرت منهم، وأخذت تتعاقب عليها الأيدي، وتتناهب الرجال وارداتها، وآل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد حرموا منها، وقد روي ردّه لها بصور متعددة منها:

ألف: إن عمر بن عبد العزيز زار مدينة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر مناديه أن ينادي: من كانت له مظلمة أو ظلامة فليحضر.

فقصده الإمام أبو جعفرعليه‌السلام فقام إليه عمر تكريماً واحتفى به فقال الإمامعليه‌السلام له:(إنما الدنيا سوق من الأسواق يبتاع فيها الناس ما ينفعهم وما يضرهم، وكم قوم ابتاعوا ما ضرّهم، فلم يصبحوا حتى أتاهم الموت فخرجوا من الدنيا ملومين لما لم يأخذوا ما ينفعهم في الآخرة، فقسم ما جمعوا لمن لم يحمدهم وصاروا إلى من لا يعذرهم، فنحن والله حقيقون أن ننظر إلى تلك الأعمال التي نتخوف عليهم منها، فنكف عنها، واتق الله، واجعل في نفسك اثنتين، انظر إلى ما تحب أن يكون معك إذا قدمت على ربك فقدمه بين يديك، وانظر إلى ما تكره معك إذا قدمت على ربك فارمه وراءك، ولا ترغبن في سلعة

ــــــــــــــ

(١) الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام : ٢/٤٧ ـ ٤٨ .

٦٣

بارت على من كان قبلك، فترجو أن يجوز عنك، وافتح الأبواب، وسهل الحجاب، وأنصف المظلوم، ورد الظالم، ثلاثة من كن فيه استكمل الإيمان بالله من إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل، ومن إذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق، ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له...) (١) .

ولما سمع عمر كلام الإمامعليه‌السلام أمر بدواة وبياض، وكتب بعد البسملة: (هذا ما رد عمر بن عبد العزيز ظلامة محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بفدك).

ب ـ إنه لما ولي الخلافة أحضر قريشاً ووجوه الناس، فقال لهم: إن فدكاً كانت بيد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان يضعها حيث أراه الله، ثم وليها أبو بكر كذلك، ثم عمر كذلك، ثم أقطعها مروان(٢) ثم إنها صارت إلي، ولم تكن من مالي أعود علي، وإني أشهدكم أني قد رددتها على ما كانت عليه في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) .

وليس في هذه الرواية أنه ردها إلى العلويين، وإنما وضعها حيث كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يضعها ومن المعلوم أن رسول الله أقطعها إلى بضعته سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراءعليها‌السلام وتصرفت بها في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن القوم رغبوا في مصادرتها لمصالح سياسية دعتهم إلى ذلك.

ج ـ إن عمر بن عبد العزيز لما أعلن رد فدك إلى العلويين نقم عليه بنو أُمية فقالوا له: نقمت على الشيخين ـ يعني أبا بكر وعمر ـ فعلهما وطعنت عليهما، ونسبتهما إلى الظلم، فقال: قد صح عندي وعندكم أن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ادعت فدكاً، وكانت في يدها، وما كانت لتكذب على

ــــــــــــــ

(١) المناقب: ٤/٢٠٧ ـ ٢٠٨.

(٢) هكذا في الأصل والصحيح ثم أطعها عثمان مروان.

(٣) تاريخ بن الأثير: ٤/١٦٤.

٦٤

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع شهادة علي، وأم أيمن وأم سلمة، وفاطمة عندي صادقة فيما تدعي، وإن لم تقم البيّنة وهي سيدة نساء الجنة، فأنا اليوم أردها على ورثتها أتقرب بذلك إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأرجو أن تكون فاطمة والحسن والحسين يشفعون لي يوم القيامة، ولو كنت بدل أبي بكر وادعت فاطمةعليها‌السلام كنت أصدقها على دعوتها، ثم سلمها إلى الإمام الباقرعليه‌السلام (١) .

الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام وعمر بن عبد العزيز

وكانت للإمام أبي جعفرعليه‌السلام عدة مواقف مع عمر بن عبد العزيز:

منها: تنبؤ الإمام بخلافة عمر: وأخبر الإمامعليه‌السلام بخلافة عمر بن عبد العزيز وذلك قبل أن تصير إليه الخلافة. قال أبو بصير: كنت مع الإمام أبي جعفرعليه‌السلام في المسجد إذ دخل عمر بن عبد العزيز، وعليه ثوبان ممصّران متكياً على مولى له، فقالعليه‌السلام :ليلينّ هذا الغلام، فيظهر العدل (٢) . إلا أنه قدح في ولايته من جهة وجود من هو أولى منه بالحكم.

ومنها: وصاياه لعمر حين الخلافة: ولما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كرّم الإمام أبا جعفرعليه‌السلام وعظّمه وأرسل خلفه فنون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وكان من عُبّاد أهل الكوفة، فاستجاب له الإمامعليه‌السلام وسافر إلى دمشق، فاستقبله عمر استقبالاً رائعاً، واحتفى به، وجرت بينهما أحاديث، وبقي الإمام أياماً في ضيافته ولما أراد الإمام الانصراف إلى يثرب خف إلى توديعه فجاء إلى البلاط الأُموي وعرّف الحاجب بأمره فأخبر عمر بذلك، فخرج رسوله فنادى أين أبو جعفر ليدخل، فأشفق الإمام أن يدخل خشية أن لا يكون هو، فقفل الحاجب إلى عمر وأخبره بعدم حضور الإمام، فقال له: كيف قلت؟ قال: قلت: أين أبو جعفر؟ فقال له: اخرج وقل: أين محمد بن علي؟ ففعل ذلك، فقام الإمامعليه‌السلام ، ودخل عليه وحدّثه ثم قال له:إني أريد الوداع ، فقال له عمر: أوصني.

ــــــــــــــ

(١) سفينة البحار: ٢/٢٧٢.

(٢) بحار الأنوار: ٤٦/٢٥١ .

٦٥

فقالعليه‌السلام :(أوصيك بتقوى الله، واتخذ الكبير أباً، والصغير ولداً والرجل أخاً...) .

وبهر عمر من وصية الإمام وراح يقول بإعجاب: (جمعت لنا والله، ما إن أخذنا به، وأماتنا الله عليه استقام لنا الخير).

وخرج الإمام من عنده، ولما أراد الرحيل بادره رسول عمر فقال له: إن عمر يريد أن يأتيك. فانتظره الإمام حتى أقبل فجلس بين يدي الإمام مبالغة في تكريمه وتعظيمه، ثم انصرف عنه(١) .

ومنها: تقريظه لعمر: ونقلت مباحث الأمويين إلى عمر أن الإمام أبا جعفرعليه‌السلام هو بقية أهله العظماء الذين رفعوا راية الحق والعدل في الأرض، وقد أراد عمر أن يختبره فكتب إليه، فأجابه الإمامعليه‌السلام برسالة فيها موعظة ونصيحة له، فقال عمر: اخرجوا كتابه إلى سليمان. فاخرج كتابه، فوجده يقرّظه، ويمدحه، فأنفذه إلى عامله على المدينة، وأمره أن يعرضه عليه مع كتابه إلى عمر، ويسجّل ما يقوله الإمامعليه‌السلام .

وعرضه العامل على الإمام فقالعليه‌السلام :إن سليمان كان جباراً كتبت إليه ما يكتب إلى الجبارين، وإن صاحبك أظهر أمراً، وكتبت إليه بما شاكله .

وكتب العامل هذه الكلمات إلى عمر فلما قرأها أظهر إعجابه بالإمامعليه‌السلام ، وراح يقول: (إنّ أهل هذا البيت لا يخلّيهم الله من فضل ...)(٢) .

ووجهت لعمر بن عبد العزيز بعض المؤاخذات رغم جميع مآثره:

منها: أنه أقرّ القطائع التي أقطعها من سبقه من أهل بيته، وهي من دون شك كانت بغير وجه مشروع.

ــــــــــــــ

(١) تاريخ دمشق: ٥٤/٢٧٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي: ٢/٤٨.

٦٦

ومنها: أن عمّاله وولاته على الأقطار والأقاليم الإسلامية قد جهدوا في ظلم الناس وابتزاز أموالهم.

حتّى إنّ عمر كان يخطب على المنبر فانبرى إليه رجل فقطع عليه خطابه، وقال له:

إن الذين بعثت في أقطارها

نبذوا كتابك واستحل المحرم

طلس الثياب على منابر أرضنا

كل يجور وكلهم يتظلم

وأردت أن يلي الأمانة منهم

عدل وهيهات الأمين المسلم(١)

ومنها: أنه أقر العطاء الذي كان للأشراف، فلم يغيره في حين أنه كان يتنافى مع المبادئ الإسلامية التي ألزمت بالمساواة بين المسلمين، وألغت التمايز بينهم.

ومنها: أنه زاد في عطاء أهل الشام عشرة دنانير، ولم يفعل مثل ذلك في أهل العراق(٢) . ولا وجه لهذا التمييز الذي يتصادم مع روح الإسلام.

وألمت الأمراض بعمر بن عبد العزيز، وقالوا: إنه امتنع من التداوي فقيل له: لو تداويت؟ فقال: لو كان دوائي في مسح أذني ما مسحتها، نعم المذهوب إليه ربي(٣) .

وتنص بعض المصادر على أنّه سقي السم من قبل الأمويين لأنهم علموا أنه إن امتدت أيامه فسوف يخرج الأمر منهم، ولا يعهد بالخلافة إلا لمن

ــــــــــــــ

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر: ١/٣٥٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي: ٢/٤٨.

(٣) تاريخ ابن الأثير: ٤/١٦١.

٦٧

يصلح لها فعاجلوه(١) . وتوفي في دير سمعان في شهر رجب(٢) سنة (١٠١ هـ ).

يزيد بن عبد الملك

واستولى يزيد بن عبد الملك على الحكم بعهد من أخيه سليمان، وأقام أربعين يوماً يسير بين الناس بسياسة عمر بن عبد العزيز، فشق ذلك على بني أمية، فأتوه بأربعين شيخاً فشهدوا بأنه ليس على الخلفاء حساب ولا عقاب(٣) . فعدل عن سياسة عمر، وساس الناس سياسة عنف وجبروت، وعمد إلى عزل جميع ولاة عمر، وكتب مرسوماً إلى عماله جاء فيه:

(أما بعد فإنّ عمر بن عبد العزيز كان مغروراً، فدعوا ما كنتم تعرفون من عهده، وأعيدوا الناس إلى طبقتهم الأولى، أخصبوا أم أجدبوا، أحبوا أم كرهوا، حيوا أم ماتوا...)(٤) .

وعاد الظلم على الناس بأبشع صوره وألوانه، وانتشر الجور، وعم الطغيان جميع أنحاء البلاد.

لقد كان يزيد بن عبد الملك جاهلاً، حقوداً على أهل العلم، حتى أنّه كان يحتقر العلماء، ويسمي الحسن البصري بالشيخ الجاهل(٥) كما كان مسرفاً في اللهو والمجون حتى هام بحب حبابة، وقد ثمل يوماً، فقال: دعوني أطير، فقالت حبابة: على من تدع الأمة؟ قال: عليك. وخرجت معه إلى الأردن يتنزهان فرماها بحبة عنب فدخلت حلقها فشرقت، ومرضت، وماتت فتركها

ــــــــــــــ

(١) الإنافة في مآثر الخلافة: ١/١٤٢.

(٢) تاريخ ابن الأثير: ٤ / ١٦١.

(٣) المصدر السابق: ٩/٢٣٢.

(٤) العقد الفريد: ٣/١٨٠.

(٥) الطبقات الكبرى: ٥/٩٥.

٦٨

ثلاثة أيام لم يدفنها حتى أنتنت، وهو يشمها، ويقبلها، وينظر إليها ويبكي، فكلم في أمرها حتى أذن في دفنها، وعاد إلى مقره كئيباً حزيناً(١) .

وله أخبار كثيرة مخزية في الدعارة واللهو أعرضنا عن ذكرها، وهلك سنة (١٠٥ هـ ).

هشام بن عبد الملك

استولى هشام بن عبد الملك على الحكم في اليوم الذي هلك فيه أخوه يزيد لخمس بقين من شوال وهو المعروف بأحول بني أمية وكان حقوداً على ذوي الأحساب العريقة، ومبغضاً لكل شريف.

ومن مظاهر بخله انه كان يقول: ضع الدرهم على الدرهم يكون مالاً(٢) وقد جمع من المال ما لم يجمعه خليفة قبله(٣) .

وقال: ما ندمت على شيء ندامتي على ما أهب، إن الخلافة تحتاج إلى الأموال كاحتياج المريض إلى الدواء(٤) .

ودخل إلى بستان له فيها فاكهة فجعل أصحابه يأكلون من ثمرها، فأوعز إلى غلامه بقلع الأشجار وزراعة الزيتون لئلا يأكل منه أحد(٥) .

ووصفه اليعقوبي بأنه بخيل فظ ظلوم شديد القسوة، وهو الذي قتل زيد بن علي، وتعرض الإمام أبو جعفرعليه‌السلام في عهده إلى ضروب من المحن والآلام والتي كان من بينها ما يلي:

ــــــــــــــ

(١) الكامل في التاريخ: ٥/١٢١.

(٢) البخلاء: ١٥٠.

(٣) أخبار الدول: ٢/٢٠٠.

(٤) انساب الأشراف: ٨/٣٩٩ طبعة دار الفكر المحققة ١٤١٧ هـ.

(٥) البخلاء: ١٥٠.

٦٩

حمل الإمام الباقرعليه‌السلام إلى دمشق واعتقاله:

لقد أمر الطاغية هشام عاملَه على المدينة بحمل الإمام إلى دمشق وقد روى المؤرخون في ذلك روايتين:

الرواية الأولى: أن الإمامعليه‌السلام لما انتهى إلى دمشق، وعلم هشام بقدومه أوعز إلى حاشيته أن يقابلوا الإمام بمزيد من التوهين والتوبيخ عندما ينتهي حديثه معه.

ودخل الإمامعليه‌السلام على هشام فسلم على القوم ولم يسلم عليه بالخلافة، فاستشاط هشام غضباً، وأقبل على الإمامعليه‌السلام فقال له: (يا محمد بن علي لا يزال الرجل منكم قد شق عصا المسلمين، ودعا إلى نفسه، وزعم أنه الإمام سفهاً وقلة علم...).

ثمّ سكت هشام فأنبرى عملاؤه وجعلوا ينالون من الإمام ويسخرون منه. وهنا تكلّم الإمامعليه‌السلام فقال:(أيها الناس: أين تذهبون؟ وأين يراد بكم؟ بنا هدى الله أولكم وبنا يختم آخركم، فان يكن لكم ملك معجّل، فان لنا ملكاً مؤجلاً، وليس بعد ملكنا ملك، لأنا أهل العاقبة، والعاقبة للمتقين...) (١) .

وخرج الإمام بعد أن ملأ نفوسهم حزناً وأسى، ولم يستطعيوا الرد على منطقه القويّ.

وازدحم أهل الشام على الإمامعليه‌السلام وهم يقولون: هذا ابن أبي تراب، فرأى الإمام أن يهديهم إلى سواء السبيل، ويعرفهم بحقيقة أهل البيت، فقام فيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، وصلَّى على رسول الله ثم قال:

اجتنبوا أهل الشقاق، وذرية النفاق، وحشو النار، وحصب جهنم عن البدر الزاهر، والبحر الزاخر، والشهاب الثاقب، وشهاب المؤمنين، والصراط المستقيم، من قبل أن نطمس وجوهاً فنردّها على أدبارها أو يلعنوا كما لعن أصحاب السبت، وكان أمر الله مفعولاً...

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ١١/٧٥.

٧٠

ثم قال بعد كلام له:أبِصِنْوِ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يعني الإمام أمير المؤمنين ـتستهزئون؟ أم بيعسوب الدين تلمزون؟ وأي سبيل بعده تسلكون؟! وأيّ حزن بعده تدفعون؟ هيهات برز ـ والله ـ بالسبق وفاز بالخصل واستولى على الغاية، وأحرز على الختار (١) فانحسرت عنه الأبصار، وخضعت دونه الرقاب، وفرع الذروة العليا، فكذب من رام من نفسه السعي، وأعياه الطلب، فأنّى لهم التناوش (٢) من مكان بعيد؟!

ثم قال:فأنّى يسدّ ثلمة أخي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ شفعوا، وشقيقه إذ نسبوا وندّ يده إذ قتلوا، وذي قرني كنزها إذ فتحوا، ومصلي القبلتين إذ تحرفوا، والمشهود له بالإيمان إذ كفروا، والمدعي لنبذ عهد المشركين إذ نكلوا والخليفة على المهاد ليلة الحصار إذ جزعوا، والمستودع الأسرار ساعة الوداع...) (٣) .

ولمّا ذاع فضل الإمام بين أهل الشام، أمر الطاغية باعتقاله وسجنه.

وحين احتف به السجناء وأخذوا يتلقون من علومه وآدابه، خشي مدير السجن من الفتنة فبادر إلى هشام فأخبره بذلك فأمره بإخراجه من السجن، وإرجاعه إلى بلده(٤) .

الرواية الثانية: وهي التي رواها لوط بن يحيى الأسدي عن عمارة بن زيد

ــــــــــــــ

(١) الختار: الغدر.

(٢) التناوش: التناول.

(٣) مناقب آل أبي طالب: ٤/٢٠٣ ـ ٢٠٤.

(٤) بحار الأنوار: ١١/٧٥.

٧١

الواقدي حيث قال: حج هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين(١) ، وكان قد حج فيها الإمام محمّد بن علي الباقر وابنه الإمام جعفر الصادقعليهما‌السلام فقال جعفر أمام حشد من الناس فيهم مسلمة بن عبد الملك:(الحمد لله الذي بعث محمداً بالحق نبيّاً، وأكرمنا به، فنحن صفوة الله على خلقه، وخيرته من عباده، فالسعيد من تبعنا، والشقي من عادانا وخالفنا...) .

وبادر مسلمة بن عبد الملك إلى أخيه هشام فأخبره بمقالة الإمام الصادقعليه‌السلام فأسرّها هشام في نفسه، ولم يتعرض للإمامين بسوء في الحجاز إلا أنه لما قفل راجعاً إلى دمشق أمر عامله على يثرب بإشخاصهما إليه ولما انتهيا إلى دمشق حجبهما ثلاثة أيام، ولم يسمح لهما بمقابلته استهانة بهما، وفي اليوم الرابع أذن لهما في مقابلته، وكان مجلساً مكتظاً بالأمويين وسائر حاشيته، وقد نصب ندماؤه برجاساً(٢) وأشياخ بني أمية يرمونه.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام :(فلما دخلنا، كان أبي أمامي وأنا خلفه فنادى هشام:

(يا محمد ارم مع أشياخ قومك).

فقال أبي: (قد كبرت عن الرمي، فإن رأيت أن تعفيني).

فصاح هشام: (وحقّ من أعزّنا بدينه ونبيّه محمّد لا أعفيك...) . وظن الطاغية أن الإمام سوف يخفق في رمايته فيتخذ ذلك وسيلة للحط من شأنه أمام الغوغاء من أهل الشام، وأومأ إلى شيخ من بني أمية أن يناول الإمامعليه‌السلام قوسه. فناوله، وتناول معه سهماً فوضعه في كبد القوس، ورمى به الغرض فأصاب وسطه، ثم تناول سهماً فرمى به فشق السهم الأول إلى نصله.

ــــــــــــــ

(١) ذكر اليعقوبي أن هشاماً حجّ سنة ١٠٦ هجرية.

(٢) البرجاس: جاء في معجم المعرّبات الفارسية: أن (البرجاس) هدف، (شي في الهواء، معلّق على رأس رمح أو نحوه) وهو معرّب ويراد به: هدف السهم.

٧٢

وتابع الإمام الرمي حتى شق تسعة أسهم بعضها في جوف بعض، ولم يحصل بعض ذلك لأعظم رام في العالم. وأخذ هشام يضطرب من الغيظ، وورم أنفه، فلم يتمالك أن صاح:

(يا أبا جعفر أنت أرمى العرب والعجم!! وزعمت أنك قد كبرت!!) ثم أدركته الندامة على تقريظه للإمام، فأطرق برأسه إلى الأرض والإمام واقف. ولما طال وقوفه غضبعليه‌السلام وبان ذلك على سحنات وجهه الشريف. وكان إذا غضب نظر إلى السماء. ولمّا بصر هشام غضب الإمام قام إليه واعتنقه، وأجلسه عن يمينه، وأقبل عليه بوجهه قائلاً: (يا محمد، لا تزال العرب والعجم تسودها قريش، ما دام فيها مثلك. لله درك!! مَن علّمك هذا الرمي؟ وفي كم تعلّمته؟ أيرمي جعفر مثل رميك؟ ...).

فقال أبو جعفرعليه‌السلام :(إنا لنحن نتوارث الكمال) .

وثار الطاغية، واحمرّ وجهه، وهو يتميز من الغيظ، وأطرق برأسه إلى الأرض، ثم رفع رأسه، وراح يقول: (ألسنا بنو عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد؟).

ورد عليه الإمام مزاعمه قائلاً:(نحن كذلك، ولكن الله اختصنا من مكنون سرّه، وخالص علمه بما لم يخص به أحداً غيرنا) .

وطفق هشام قائلاً: (أليس الله بعث محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من شجرة عبد مناف إلى الناس كافة أبيضها وأسودها وأحمرها، فمن أين ورثتم ما ليس لغيركم؟ ورسول الله مبعوث إلى الناس كافة، وذلك قول الله عَزَّ وجَلَّ:( وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) ؟ فمن أين ورثتم هذا العلم وليس بعد محمّد نبيّ، ولا أنتم أنبياء؟!)

وردّ عليه الإمام ببالغ الحجة قائلاً:من قوله تعالى لنبيّه ( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) فالذي لم يحرك به لسانه لغيرنا أمره الله تعالى أن يخصنا به من دون غيرنا، فلذلك كان يناجي أخاه علياً من دون أصحابه، وأنزل الله به قرآناً في قوله: ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) فقال رسول الله: سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي، فلذلك قال علي: علّمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب، خصّه به النبي من مكنون سرّه، كما خصّ الله نبيّه، وعلّمه ما لم يخص به أحداً من قومه، حتى صار إلينا فتوارثناه من دون أهلنا .

والتاع هشام من هذا الجواب، فالتفت إلى الإمام ـ وهو غضبان ـ قائلاً: إنَّ عليّاً كان يدّعي علم الغيب والله لم يطلع على غيبه أحداً، فكيف ادّعى ذلك؟ ومن أين؟

٧٣

فأجابه الإمام قائلاً:(إن الله أنزل على نبيّه كتاباً بين دفتيه فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة في قوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) وفي قوله تعالى: ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) وفي قوله تعالى: ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) وفي قوله تعالى: ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) وأوحى الله إلى نبيّه أن لا يبقي في عيبة سرّه، ومكنون علمه شيئاً إلاّ يناجي به عليّاً، فأمره أن يؤلف القرآن من بعده، ويتولّى غسله وتحنيطه من دون قومه، وقال لأصحابه: حرام على أصحابي وقومي أن ينظروا إلى عورتي غير أخي علي، فانه مني، وأنا منه، له ما لي، وعليه ما عليّ، وهو قاضي ديني، ومنجز موعدي، ثم قال لأصحابه: علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وعامّه إلا عند علي، ولذلك قال رسول الله: (أقضاكم علي) أي هو قاضيكم، وقال عمر بن الخطاب: لولا علي لهلك عمر، يشهد له عمر ويجحده غيره!) .

وأطرق هشام برأسه إلى الأرض، ولم يجد منفذاً يسلك فيه للرد على الإمام، فقال له: (سل حاجتك).

قال الإمامعليه‌السلام :(خلّفت أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي) .

٧٤

قال هشام: آنس الله وحشتهم برجوعك إليهم، فلا تقم وسر من يومك)(١) .

وهذه الرواية لم تشر إلى ما جرى على الإمام من الاعتقال في دمشق، ولكنها تشير إلى خروج الإمام من المدينة في حالة غير طبيعية بحيث استوحش أهله من خروجه.

الإمام الباقرعليه‌السلام مع قسّيس نصراني

والتقى الإمام أبو جعفرعليه‌السلام في الشام مع قسيس من كبار علماء النصارى جرت بينهما مناظرة اعترف القسيس فيها بعجزه، وعدم استطاعته على محاججة الإمام ومناظرته.

قال أبو بصير: قال أبو جعفرعليه‌السلام :مررت بالشام، وأنا متوجه إلى بعض خلفاء بني أمية فإذا قوم يمرون، قلت: أين تريدون؟ قالوا: إلى عالم لم نر مثله، يخبرنا بمصلحة شأننا ، قالعليه‌السلام :فتبعتهم حتى دخلوا بهواً عظيماً فيه خلق كثير، فلم ألبث أن خرج شيخ كبير متوكئ على رجلين، قد سقطت حاجباه على عينيه، وقد شدهما فلما استقرّ به المجلس نظر إليَّ وقال: منا أنت أم من الأمة المرحومة؟

قلت: من الأمة المرحومة. فقال: أمن علمائها أو من جهّالها؟

قلت: لست من جهّالها فقال: أنتم الذين تزعمون أنكم تذهبون إلى الجنة فتأكلون وتشربون ولا تُحْدِثون؟!!

قلت: نعم. فقال: هات على هذا برهاناً.

فقلت: نعم، الجنين يأكل في بطن أمه من طعامها، ويشرب من شرابها، ولا يُحْدِث. فقال: ألست زعمت أنك ليست من علمائها؟

قلت: لست من جهّالها. فقال: أخبرني عن ساعة ليست من النهار، ولا من الليل.

فقلت: هذه ساعة من طلوع الشمس، لا نعدها من ليلنا، ولا من نهارنا وفيها تفيق المرضى .

وبهر القسيس، وراح يقول للإمام: ألست زعمت أنك لست من علمائها؟!

فقلت: إنما قلت: لست من جهّالها. فقال: والله لأسألنك عن مسألة ترتطم فيها.

فقلت: هات ما عندك. فقال: أخبرني عن رجلين ولدا في ساعدة واحدة، وماتا في ساعة واحدة؟ عاش أحدهما مائة وخمسين سنة، وعاش الآخر خمسين سنة؟

ــــــــــــــ

(١) دلائل الإمامة: ١٠٤ ـ ١٠٦.

٧٥

فقلت: ذاك عزير وعزرة، ولدا في يوم واحد، ولما بلغا مبلغ الرجال مرّ عزير على حماره بقرية وهي خاوية على عروشها، فقال: أنّى يحيي الله هذه بعد موتها، وكان الله قد اصطفاه وهداه، فلمّا قال ذلك غضب الله عليه وأماته مائة عام ثم بعثه، فقيل له: كم لبثت؟ قال: يوماً أو بعض يوم. وعاش الآخر مائة وخمسين عاماً، وقبضه الله وأخاه في يوم واحد.

وصاح القسيس بأصحابه، والله لا أكلمكم، ولا ترون لي وجهاً اثني عشر شهراً (١) ، حيث توهم أنهم تعمّدوا إدخال الإمام أبي جعفرعليه‌السلام عليه لإفحامه وفضحه، فنهض الإمام أبو جعفرعليه‌السلام وأخذت أندية الشام تتحدث عن وفور فضله، وعن قدراته العلمية.

ــــــــــــــ

(١) الدر النظيم: ١٩٠، دلائل الإمامة: ١٠٦.

٧٦

محاولة اغتيال الإمام الباقرعليه‌السلام

وهنا أمر الطاغية بمغادرة الإمام أبي جعفرعليه‌السلام لمدينة دمشق خوفاً من أن يفتتن الناس به، وينقلب الرأي العام ضد بني أمية، ولكنه أوعز إلى أسواق المدن والمحلات التجارية الواقعة في الطريق أن تغلق محلاتها بوجهه، ولا تبيع عليه أية بضاعة، وأراد بذلك هلاك الإمامعليه‌السلام والقضاء عليه.

وسارت قافلة الإمامعليه‌السلام وقد أضناها الجوع والعطش فاجتازت على بعض المدن فبادر أهلها إلى إغلاق محلاتهم بوجه الإمام، ولما رأى الإمام ذلك صعد على جبل هناك، ورفع صوته قائلاً:

(يا أهل المدينة الظالم أهلها أنا بقية الله، يقول الله تعالى: ( بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ) .

وما أنهى الإمام هذه الكلمات حتى بادر شيخ من شيوخ المدينة فنادى أهل قريته قائلاً:

(يا قوم هذه والله دعوة شعيب، والله لئن لن تخرجوا إلى هذا الرجل بالأسواق لتؤخذنّ من فوقكم، ومن تحت أرجلكم فصدّقوني هذه المرة، وأطيعوني، وكذبوني فيما تستأنفون فاني ناصح لكم...).

وفزع أهل القرية فاستجابوا لدعوة الشيخ الذي نصحهم، ففتحوا حوانيتهم واشترى الإمام ما يريده من المتاع(١) وفسدت مكيدة الطاغية وما دبّره للإمامعليه‌السلام وقد انتهت إليه الأنباء بفشل مؤامرته. ولم يقف عند هذا الحد فقد أخذ يطلب له الغوائل حتى دسّ إليه السم القاتل، كما سنذكر ذلك فيما بعد.

ــــــــــــــ

(١) المناقب: ٤/٦٩٠، بحار الأنوار: ١١/٧٥، راجع حياة الإمام محمد الباقر عليه‌السلام : ٢/٤٠ ـ ٦٦.

٧٧

أهم ملامح عصر الإمام محمد الباقرعليه‌السلام

١ ـ في الفترة الواقعة بين سنة ( ٩٥ هـ ـ ٩٧ هـ ) وفي بداية تصدّي الإمام محمد الباقرعليه‌السلام للإمامة كان الحاكم الأُموي الوليدُ بن عبد الملك قد بدأ باتخاذ بعض الأساليب لامتصاص النقمة الشعبية التي خلقتها السياسة الإرهابية التي انتهجها السفّاك الأثيم الحجّاج بن يوسف وبعض الولاة الآخرين(١) .

٢ ـ تصدّعت الجبهة الداخلية للبيت الأُموي المرواني، ودبّ الخلاف بين الوليد وأخيه سليمان، حيث أراد الوليد خلعه ومبايعة ابنه عبد العزيز، فأبى عليه سليمان، ولم يجبه للبيعة جميع الولاة باستثناء الحجّاج وقتيبة بن مسلم وبعض الخواصّ من الناس، فعزم الوليد على السير إليه ليخلعه بالقوّة فمات قبل ذلك(٢) .

٣ ـ وفي بداية حكومة سليمان بن عبد الملك انشغل سليمان بمتابعة ولاة الوليد وعزلهم عن مناصبهم(٣) وحاول إصلاح بعض الأوضاع المتردّية تقرباً إلى الناس، فأطلق المعتقلين وفكَّ الأسرى(٤) .

٤ ـ كانت الدولة محاطة بجملة من المخاطر من الداخل والخارج(٥) . فانشغل الحكّام والولاة عن ملاحقة أو محاصرة الإمام الباقرعليه‌السلام خوفاً من قاعدته الشعبية العريضة والمتنامية فتصدىعليه‌السلام للإمامة وقام بأداء دوره الإصلاحي والتغييري في أوساط الأمة الإسلامية، بعيداً عن المواجهة السياسية العلنية للنظام القائم.

ــــــــــــــ

(١) المنتظم في تاريخ الأمم والملوك: ٧ / ٣.

(٢) المصدر السابق: ٧ / ١٢.

(٣) الكامل في التاريخ: ٥ / ١١.

(٤) المنتظم: ٧ / ١٣.

(٥) الكامل في التاريخ: ٥ / ١٣ وما بعدها.

٧٨

مظاهر الانحراف في عصر الإمام الباقرعليه‌السلام :

إن إقصاء أهل البيتعليهم‌السلام عن موقع القيادة وإمامة المسلمين أدّى إلى الانحراف في جميع مجالات الحياة، وترك تأثيره السلبي على جميع مقومات الشخصية، في الفكر والعاطفة والسلوك، فعمّ الانحراف الدولة والأمة معاً، كما عمّ التصورات والمبادئ، والموازين والقيم، والأوضاع والتقاليد، والعلاقات والممارسات العملية جميعاً.

نعم تغلغل الانحراف في ميدان النفس، وميدان الحياة الاجتماعية، وتحوّل الإسلام إلى طقوس ميتة لا تمتّ إلى الواقع بصلة، خلافاً لأهداف الإسلام الذي جاء من أجل تقرير المنهج الإلهي في الحياة. فانحسر عن الكثير من تلك المجالات ليصبح علاقة فرديّة بين الإنسان وخالقه فحسب.

أوّلاً: الانحراف الفكري والعقائدي

ازداد الانحراف في عهود الملوك المتعاقبين على الحكم، وكان للأفكار والعقائد نصيبها الأكبر من هذا الانحراف، ولم يكترث الحكّام بهذا الانحراف بل شجّعوا عليه; لأنه كان يخدم مصالح الحكم القائم، ويشغل المسلمين عن همومهم الأساسية وبخاصة التفكير في مجال تغيير الأوضاع وإعادتها إلى ما كانت عليه في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

فكثرت في عهد الأمويين الانحرافات الفكرية والعقائدية وتعدّدت وتعاظمت، وأصبح لها أتباع وأنصار، وتحولت إلى تيارات وكيانات خالف الكثير منها الأسس الواضحة للعقيدة الإسلامية، وابتدعوا ما لا يجوز من الأمور المخالفة للقرآن الكريم وللسنة النبوية، فانتشرت أفكار الجبر والتفويض والإرجاء، كما انتشرت أفكار التجسيم وتشبيه الله تعالى بخلقه، وكثرت الشبهات حول ثوابت العقيدة، وكثر الحديث حول ماهية الله تعالى وذاته، وتنوّعت تيّارات الغلوّ، حتى زعم البعض حلول الذات الإلهية في قوم من الصالحين، وقالوا بالتناسخ، وانتشرت الزندقة، فجحدوا البعث والنشور، وأسقطوا الثواب والعقاب وزُوِّرت الأحاديث والروايات واختُلِق كثير منها; لدعم التسلط الأُموي، كما راج اختلاق الفضائل لصالح المنحرفين من الصحابة، وطرحت نظرية عدالة جميع من صحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو رآه أو ولد في عهده، بينما منعوا ـ من جانب آخر ـ من نشر فضائل أهل البيتعليهم‌السلام .

٧٩

وكان للحكّام دور كبير في تشجيع هذا الانحراف المتمثّل في اختلاق النصوص وقد وصف الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ذلك قائلاً:(إنّ مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها: الغلو. وثانيها: التقصير في أمرنا. وثالثها: التصريح بمثالب أعدائنا) (١) .

وانتشرت ظاهرة الإفتاء بالرأي، وراج القياس في الأحكام والتفسير بالرأي لآيات القرآن المجيد، كما انتشرت أفكار التصوّف والاعتزال عن الحياة، وفصل الدين عن السياسة.

وأشغل الحكّام كثيراً من الناس بالجدل في المسائل العقلية التي لا فائدة فيها، وشجّعوا على إقامة مجالس المناظرة والجدل العقيم في ذات الله تعالى وفي الملائكة، وفي قدم القرآن أو حدوثه.

وهكذا كان للحكّام دور كبير في خلق المذاهب المنحرفة والتشجيع عليها، لا سيَّما بعض المذاهب التي كانت تحمل شعار الانتساب إلى أهل البيتعليهم‌السلام كالكيسانية لغرض شق صفوف أتباع أهل البيتعليهم‌السلام الذين كانوا يستهدفون الواقع السياسي المنحرف.

ــــــــــــــ

(١) عيون أخبار الرضا: ١ / ٣٠٤.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220