اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)0%

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام
ISBN: 964- 5688-23
الصفحات: 220

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: ISBN: 964- 5688-23
الصفحات: 220
المشاهدات: 129658
تحميل: 7245

توضيحات:

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 220 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 129658 / تحميل: 7245
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
ISBN: 964- 5688-23
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ثانياً: الانحراف السياسي

اتّبع الحكّام الأمويون سياسة من سبقهم في تحويل الخلافة إلى ملك يتوارثه الأبناء عن الآباء دون سابقة علم أو تقوى، وتوزيع المناصب المهمّة والحسّاسة في الدولة على أبنائهم وأقربائهم والمتملقين لهم، واستبدوا بالأمر فلا شورى ولا استشارة إلاّ مع المنحرفين والفسّاق من بطانتهم. ولشعورهم بعدم الأحقية بالخلافة استمروا على نهج من سبقهم في اتخاذ الإرهاب والتنكيل وسيلة لتثبيت سلطانهم، فحينما وجد الوليد بن عبد الملك أنّ ولاية عمر بن عبد العزيز على مكة والمدينة قد أصبحت ملجأً للهاربين من ظلم بقية الولاة، قام بعزله(١) تنكيلاً منه بالمعارضين وارهابهم وغلق منافذ السلامة أمامهم.

وكان سليمان بن عبد الملك محاطاً بثُلّة من الرجال الذين عرفوا بفسقهم وانحرافهم وسوء سيرتهم كما وصفهم أعرابيّ عنده، بعد أن أخذ منه الأمان، فقال له: يا أمير المؤمنين، أنه قد تكنّفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياهم بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، حرب للآخرة وسلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما يأمنك الله عليه، فإنّهم لم يأتوا إلاّ ما فيه تضييع وللأمة خسف وعسف، وأنت مسؤول عما اجترموا،

ــــــــــــــ

(١) الكامل في التاريخ: ٤ / ٥٧٧.

٨١

وليسوا مسؤولين عمّا اجترمت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك(١) .

واتّبع أبناء عبد الملك الوليد وسليمان سيرة أبيهم، والتزموا بوصيته في قتل الرافضين للبيعة، والتي جاء فيها: ادع الناس إلى البيعة، فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا(٢) .

وأقرّ كثير من الفقهاء سياسة الحكّام الأمويين خوفاً أو طمعاً أو استسلاماً للأمر الواقع، فقد أقرّوا ما ابتدعوا من ممارسات في تولية الحكم كالعهد إلى اثنين أو أكثر، فقد عهد سليمان بالحكم إلى عمر بن عبد العزيز ومن بعده ليزيد بن عبد الملك، فأقرّ كثير من الفقهاء ذلك، حتى أصبحت نظرية من نظريات تولّي الحكم(٣) .

وحينما تولّى عمر بن عبد العزيز الحكم حدث انفراج نسبي في السياسة الأُموية، كما لاحظنا، وقام ببعض الإصلاحات ومنح الحرية النسبية للمعارضين، وألغى بدعة سبّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام وردّ إلى أهل البيتعليهم‌السلام بعض حقوقهم، واعترف بالممارسات الخاطئة لأسلافه من الحكّام، حتى امتدحه الإمام الباقرعليه‌السلام على ذلك(٤) .

ولكن حكمه لم يدم طويلاً ; إذ عاد الوضع إلى ما كان عليه.

وامتازت هذه المرحلة بسرعة تبدّل الحكّام، فقد حكم سليمان ثلاث سنين، وحكم عمر بن عبد العزيز ثلاث سنين أو أقل، وحكم يزيد بن عبد الملك أربع سنين، وكان كل حاكم ينشغل بالإجهاز على ولاة من سبقه، وكثرت الاختلافات في داخل البيت الأُموي تنافساً على الحكم، كما كثرت

ــــــــــــــ

(١) الكامل في التاريخ: ٣ / ١٧٨.

(٢) البداية والنهاية: ٩ / ١٦١.

(٣) الأحكام السلطانية: ١٣، الماوردي.

(٤) الكامل في التاريخ: ٥ / ٦٢.

٨٢

الفتن الداخلية في عهدهم، حتى قام قتيبة بن مسلم بخلع سليمان والاستقلال في خراسان(١) .

وقام يزيد بن المهلب في سنة ( ١٠١ هـ ) بخلع يزيد بن عبد الملك وجهّز إليه يزيد من قتله وقتل أتباعه.

وأحاط يزيد نفسه بالمتملّقين الذين يبررون له انحرافاته حتى أفتوا له أنه ليس على الخلفاء حساب(٢) .

وهكذا كانت الأمة الإسلامية محاطة بالمخاطر من كل جانب، ففي سنة ( ١٠٤ هـ ) ظفر الخزر بالمسلمين وانتصروا عليهم في بعض الثغور.

وفي عهد هشام بن عبد الملك ازداد الإرهاب والتنكيل بأهل البيتعليهم‌السلام وأتباعهم وسائر المعارضين، حتى اجترأ هشام بن عبد الملك على سجن الإمام الباقرعليه‌السلام وأقدم على اغتياله(٣) . وأصدر أوامره بقتل بعض أتباع الإمام الباقرعليه‌السلام إلاّ أنّ الإمام استطاع أن ينقذهم من القتل(٤) .

والتجأ الكثير إلى العمل السرّي للإطاحة بالحكم الأُموي، فكان العباسيون يعدّون العدّة ويبثون دعاتهم في الأقاليم البعيدة عن مركز الحكومة وخصوصاً في خراسان، وأخذ زيد ابن الإمام زين العابدينعليه‌السلام يعدّ العدّة للثورة على الأمويين في وقتها المناسب، لأنّ الأمويين كانوا قد أحصوا أنفاس الناس عليهم لكي لا يتطرقوا إلى انحرافاتهم السياسية أو يعلنوا عن معارضتهم لها.

ــــــــــــــ

(١) تاريخ ابن خلدون: ٥ / ١٥١.

(٢) البداية والنهاية: ٩ / ٢٣٢.

(٣) مناقب آل أبي طالب: ٤ / ٢٠٦.

(٤) بحار الأنوار: ٤٦ / ٢٨٣.

٨٣

ثالثاً: الانحراف الأخلاقي

لقد حوّل الأمويون الأنظار إلى الغزوات، وحشّدوا جميع الطاقات البشريّة والمادّية باتجاه الغزوات; وذلك من أجل إشغال المسلمين عن التحدّث حول الأوضاع المنحرفة، وعن التفكير في العمل السياسي أو الثوري لاستبدال نظام الحكم بغيره، ولم يكن هدفهم نشر مفاهيم وقيم الإسلام كما يتصوّر البعض ذلك، لأنّهم كانوا قد خالفوا هذه المفاهيم والقيم في سياستهم الداخلية، وداسوا كثيراً من المقدسات الإسلامية، وشجّعوا على الانحرافات الفكرية.

وأدّى توسّع عمليات الفتح والغزو إلى خلق الاضطرابات في المجتمع الإسلامي وتشتيت الأُسر بغياب المعيل أو فقدانه، كما كثرت الجواري والغلمان ممّا أدّى إلى التشجيع على الانحراف باقتناء الأثرياء للجواري المغنّيات وتملك المخنثين، وانتقل الانحراف من البلاط إلى الأمة تبعاً لانحراف الحكّام وفسقهم، فقد انشغلوا باللهو والانسياق وراء الشهوات دون حدود أو قيود حتى كثر الغزل والتشبيب بالنساء في عهد الوليد بن عبد الملك بشكل خاص(١) .

وكانت همّة سليمان بن عبد الملك في النساء، وانعكس ذلك على المجتمع حتى كان الرجل يلقى صاحبه فيقول له: كم تزوجت ؟ وماذا عندك من السراري ؟(٢) .

وقد وصف أبو حازم الأعرج الوضع الاجتماعي والأخلاقي مجيباً سليمان بن عبد الملك على سؤاله: ما لنا نكره الموت؟ بقوله: لأنكم عمّرتم

ــــــــــــــ

(١) الأغاني: ٦ / ٢١٩.

(٢) البداية والنهاية: ٩ / ١٦٥.

٨٤

دنياكم وأخربتم آخرتكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب(١) .

وكان سليمان يسابق بين المغنيين ويمنح السابقين الجوائز الثمينة(٢) ، ويجزل العطاء للمغنيات. كما ازداد عدد المخنثين في عهده(٣) .

وأقبل يزيد بن عبد الملك على شرب الخمر واللهو(٤) ، ولم يتب من الشراب إلاَّ أسبوعاً حتى عاد إليه بتأثير من جاريته حبّابة(٥) .

وكان يقول: ما يقرّ عيني ما أوتيت من أمر الخلافة حتى اشتري سلامة وحبّابة فأرسل من يشتريهما له(٦) .

وهكذا وصل الانحراف إلى ذروته، حينما أصبح اللهو والمجون من أولى هموم حكّام الدولة.

وليس غريباً أن تنحرف الأمة بانحراف حكامها وولاتهم وأجهزة الدولة، وبهذا الانحراف كانت تبتعد الأغلبية من الناس عن الأهداف الكبرى التي حددها المنهج الإسلامي، ولا تكترث بالأحداث والمخاطر المحيطة بالوجود الإسلامي.

رابعاً: الانحراف في الميدان الاقتصادي

لقد تصرّف الحكّام بالأموال العامّة وكأنّها ملك شخصي لهم، فكانوا ينفقونها حسب رغباتهم وأهوائهم، على ملذاتهم وشهواتهم وكان للجواري والمغنيين نصيب كبير في بيت المال، كما كانوا ينفقون الأموال لشراء الذمم

ــــــــــــــ

(١) مروج الذهب: ٣ / ١٧٧.

(٢) الأغاني: ١ / ٣١٧.

(٣) المصدر السابق: ٤ / ٢٧٢.

(٤) مروج الذهب: ٣ / ١٩٦.

(٥) الأغاني: ١٥ / ٢٩٥.

(٦) المصدر السابق: ٨ / ٣٤٦.

٨٥

والضمائر، ويمنحونها لمن يشترك في تثبيت سلطانهم أو مدحهم والثناء عليهم، فقد مدح النابغة الشيباني يزيد بن عبد الملك فأمر له بمائة ناقة، وكساه وأجزل صلته(١) .

فتنافس الشعراء فيما بينهم للحصول على مزيد من الأموال كما تنافس المغنّون لنيل الهدايا من الحكام أو ولاتهم.

وكان الحكّام يعيشون في أعلى مراتب الترف والبذخ، ويبذّرون أموال المسلمين على لهوهم وشهواتهم، وعلى المقربين لهم، في وقت كان كثير من الناس يعيشون حياة الفقر والجوع والحرمان.وازداد التمييز الطبقي حينما عُطِّل مبدأ التكافل الاجتماعي، ولم تكترث الدولة بمعاناة الناس وهمومهم ولم تتدخل في الحث على الإنفاق.

وقد ضاعف الحكّام من الضرائب، فأضافوا ضرائب جديدة على الصناعات والحرف وخصوصاً في عهد هشام بن عبد الملك، الذي كان ينفق ما تجمّع لديه على الشعراء المادحين له(٢) .

وقد وصف سليمان بن عبد الملك حالات الترف والمجون التي وصلوا إليها قائلاً: قد أكلنا الطيب، ولبسنا اللين، وركبنا الفاره، ولم يبق لي لذة إلاّ صديق أطرح معه فيما بيني وبينه مؤنة التحفظ(٣) .

وهكذا انساق الناس ـ وخصوصاً ـ أتباع الأمويين وراء شهواتهم ورغباتهم، وانشغل الكثير في السعي للحصول على الأموال بأي وجه أمكن.

ــــــــــــــ

(١) الأغاني: ٧ / ١٠٩.

(٢) المصدر السابق: ١ / ٣٣٩.

(٣) مروج الذهب: ٣ / ٧٦.

٨٦

الفصل الثالث: دور الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام في إصلاح الواقع الفاسد

على الرغم من انحراف الحكّام وأجهزتهم الإدارية والسياسية عن المبادئ الثابتة التي أرسى دعائمها القرآن الكريم والسنّة النبويّة; إلاّ أنّ القاعدة الفكرية والتشريعية للدولة بقيت متبنّاةً من قبل الحاكم وأجهزته في مظاهرها العامة، وعلى ضوء ذلك فإنّ دور الإمامعليه‌السلام كان دوراً إصلاحياً لإعادة الحاكم وأجهزته وإعادة الأمة إلى الاستقامة في العقيدة والشريعة، وجعل الإسلام بمفاهيمه وقيمه هو الحاكم على الأفكار والعواطف والمواقف.

وكان أسلوب الإمامعليه‌السلام الإصلاحي متفاوتاً تبعاً لتفاوت الظروف التي كانت تحيط به، وبالحكم القائم، وبالأمة المسلمة.

لقد كان الإمامعليه‌السلام مقصد العلماء من كل بلاد العالم الإسلامي. وما زار المدينة أحد إلاّ عرّج على بيته يأخذ من فضائله وعلومه، وكان يقصده كبار رجالات الفقه الإسلامي: كسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وأبي حنيفة.

وكان دورهعليه‌السلام في الإصلاح يتركّز على اتجاهين متزامنين:

الاتجاه الأول: التحرك في أوساط الأمة وعموم الناس، بما فيهم المسلمون وأصحاب الديانات الأخرى، فضلاً عن التحرك على الحكّام وأجهزتهم لإعادتهم إلى خطّ الاستقامة أو الحدّ من انحرافاتهم وحصرها في نطاق محدود.

الاتجاه الثاني: بناء الجماعة الصالحة لتقوم بدورها في إصلاح الأوضاع العامة للأمة وللدولة طبقاً للأسس والقواعد الثابتة التي أرسى دعائمها أهل البيتعليهم‌السلام بما ينسجم مع القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة.

٨٧

محاور الحركة الإصلاحية العامّة للإمام الباقر عليه‌السلام

أوّلاً: الإصلاح الفكري والعقائدي

من الأزمات التي خلّفتها سيرة الحكّام السابقين هي أزمة ارتباك المفاهيم وما رافقها من تقليد وسطحية في الفكر، فلم تتجلّ حقيقة التصور الإسلامي عند الكثير من المسلمين لكثرة التيارات الهدّامة ونشاطها في تحريف المفاهيم السليمة وتزييف الحقائق، فكان دور الإمامعليه‌السلام هو حمل النفوس على التمحيص لتمييز ما هو أصيل من العقيدة عمّا هو زيف، وعلى تحكيم الأفكار والمفاهيم الأصيلة في عالم الضمير وعالم السلوك على حد سواء، والاستقامة على المنهج الذي يريده الله تعالى للإنسان.

وقد مارس الإمامعليه‌السلام عدة نشاطات لإصلاح الأفكار والعقائد، نشير إلى أهمّها كما يلي:

١ ـ الردّ على الأفكار والعقائد الهدّامة والمذاهب المنحرفة

وجد المنحرفون لأفكارهم وعقائدهم الهدّامة أوساطاً تتقبّلها وتروّج لها ـ جهلاً أو طمعاً أو تآمراً على الإسلام الخالد ـ وفي عهد الإمام الباقرعليه‌السلام نشطت حركة الغلاة بقيادة المغيرة بن سعيد العجلي.

٨٨

روى علي بن محمد النوفلي أن المغيرة استأذن على أبي جعفرعليه‌السلام

وقال له: أخبر الناس أنّي أعلم الغيب، وأنا أطعمك العراق، فزجره الإمامعليه‌السلام زجراً شديداً وأسمعه ما كره فانصرف عنه، ثم أتى أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية فقال له مثل ذلك، فوثب عليه، فضربه ضرباً شديداً أشرف به على الموت، فلمّا برئ أتى الكوفة وكان مشعبذاً فدعا الناس إلى آرائه واستغواهم فاتّبعه خلق كثير(١) .

واستمرّ الإمامعليه‌السلام في محاصرة المغيرة والتحذير منه وكان يلعنه أمام الناس ويقول:(لعن الله المغيرة بن سعيد كان يكذب علينا) (٢) .

ولعنعليه‌السلام بقية رؤساء الغلاة ومنهم بنان التبّان، فقال:(لعن الله بنان التبّان، وإن بناناً لعنه الله كان يكذب على أبي) (٣) .

وكانعليه‌السلام يحذّر المسلمين وخصوصاً أنصار أهل البيتعليهم‌السلام من أفكار الغلو، ويرشدهم إلى الاعتقاد السليم، بقوله:(لا تضعوا عليّاً دون ما وضعه الله، ولا ترفعوه فوق ما رفعه الله) (٤) .

وكانعليه‌السلام يخاطب أنصاره قائلاً:(يا معشر الشيعة شيعة آل محمد كونوا النمرقة الوسطى: يرجع إليكم الغالي، ويلحق بكم التالي) (٥) .

وحذّرعليه‌السلام من المرجئة ولعنهم حين قال:(اللهمّ العن المرجئة فإنهم أعداؤنا في الدنيا والآخرة) (٦) .

وكانعليه‌السلام يحذّر من أفكار المفوضة والمجبرة. ومن أقواله في ذلك:(إيّاك

ــــــــــــــ

(١) شرح نهج البلاغة: ٨ / ١٢١.

(٢) بحار الأنوار: ٢٥ / ٢٩٧.

(٣) المصدر السابق: ٢٥ / ٢٩٧.

(٤) المصدر السابق: ٢٥ / ٢٨٣.

(٥) المصدر السابق: ٦٧: ١٠١.

(٦) المصدر السابق: ٤٦ / ٢٩١.

٨٩

أن تقول بالتفويض! فإنّ الله عَزَّ وجَلَّ لم يفوّض الأمر إلى خلقه وهناً وضعفاً، ولا أجبرهم على معاصيه ظلماً) (١) .

وفي عرض هذا الردّ القاطع الصريح كان الإمامعليه‌السلام يبيّن الأفكار السليمة حول التوحيد لكي تتعرف الأمة على عقيدتها السليمة.

وكان ممّا ركّز عليه الإمامعليه‌السلام في هذا المجال بيان مقومات التوحيد ونفي التشبيه والتجسيم لله تعالى.

قالعليه‌السلام :(يا ذا الذي كان قبل كل شيء، ثم خلق كل شيء، ثم يبقى ويفنى كلّ شيء، ويا ذا الذي ليس في السموات العلى ولا في الأرضين السفلى، ولا فوقهنّ، ولا بينهنّ ولا تحتهنّ إله يعبد غيره) (٢) .

وفي جوابهعليه‌السلام للسائلين عن جواز القول بأنّ الله موجود، قال:(نعم، تخرجه من الحدّين: حدّ الإبطال، وحدّ التشبيه) (٣) .

وقالعليه‌السلام :(إن ربّي تبارك وتعالى كان لم يزل حيّاً بلا كيف، ولم يكن له كان، ولا كان لكونه كيف، ولا كان له أين، ولا كان في شيء، ولا كان على شيء، ولا ابتدع له مكاناً) (٤) .

كما ركّز الإمام الباقرعليه‌السلام على العبودية الخالصة لله ونهى عن الممارسات التي تتضمّن الشرك بالله تعالى.قالعليه‌السلام :(لو أن عبداً عمل عملاً يطلب به وجه الله عزّ جلّ والدار الآخرة، فأدخل فيه رضى أحد من الناس كان مشركاً) (٥) .

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٥ / ٢٩٨.

(٢) المصدر السابق: ٣ / ٢٨٥.

(٣) المصدر السابق: ٣ / ٢٦٥.

(٤) المصدر السابق: ٣ / ٣٢٦.

(٥) المصدر السابق: ٦٩ / ٢٩٧.

٩٠

كما دعا إلى الانقطاع الكامل لله تعالى بقوله:(لا يكون العبد عابداً لله حق عبادته; حتى ينقطع عن الخلق كلّه إليه) (١) .

ونهى الإمامعليه‌السلام عن التكلم في ذات الله تعالى، وذلك لأنّ الإنسان المحدود لا يحيط بغير المحدود فلا ينفعه البحث عن الذات اللامحدودة إلاّ بُعداً، ومن هنا كان التكلم عن ذاته تعالى عبثاً لا جدوى وراءه، فنهىعليه‌السلام عن ذلك، وحذّر منه بقوله:(إن الناس لا يزال لهم المنطق، حتى يتكلموا في الله، فإذا سمعتم ذلك فقولوا: لا اله إلاّ الله الواحد الذي ليس كمثله شيء) (٢) .

وممّا ركّز عليه الإمام الباقرعليه‌السلام الردع من اتّباع المذاهب المنحرفة والأفكار الهدّامة هو بيان عاقبة أهل الشبهات والأهواء والبدع، واستهدف الإمامعليه‌السلام من التركيز على عاقبة المنحرفين فكرياً وعقائدياً إبعاد المسلمين عن التأثر بهم، وإزالة حالة الأنس والألفة بينهم وبين الأفكار والعقائد المنحرفة.

قالعليه‌السلام في تفسير قوله تعالى:( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) : هم النصارى والقسيسون والرهبان وأهل الشبهات والأهواء من أهل القبلة والحرورية وأهل البدع(٣) .

٢ ـ الحوار مع المذاهب والرموز المنحرفة

يعتبر الحوار إحدى الوسائل التي تقع في طريق إصلاح الناس، حيث تزعزع المناظرة الهادفة والحوار السليم الأفكار والمفاهيم المنحرفة.

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٦٧ / ٢١١.

(٢) المصدر السابق: ٣ / ٢٦٤.

(٣) المصدر السابق: ٢ / ٢٩٨.

٩١

من هنا قام الإمامعليه‌السلام بمحاورة بعض رؤوس المخالفين، لتأثيرهم الكبير على أتباعهم لو صلحوا واستقاموا على الحقّ. وإليك بعض مناظراته:

مع علماء النصارى: حينما أخرج هشام بن عبد الملك الإمامعليه‌السلام من المدينة إلى الشام كانعليه‌السلام يجلس مع أهل الشام في مجالسهم، فبينا هو جالس وعنده جماعة من الناس يسألونه، اذ نظر إلى النصارى يدخلون في جبل هناك، فسأل عن حالهم، فأُخبر أنهم يأتون عالماً لهم في كل سنة في هذا اليوم يسألون عمّا يريدون وعمّا يكون في عامهم، وقد أدرك هذا العالم أصحاب الحوارييّن من أصحاب عيسىعليه‌السلام ، فقال الإمامعليه‌السلام : فهلمّ نذهب إليه؟ فذهبعليه‌السلام إلى مكانهم، فقال له النصراني: أسألك أو تسألني؟ قالعليه‌السلام : تسألني، فسأله عن مسائل عديدة حول الوقت، وحول أهل الجنّة، وحول عزرة وعزير، فأجابهعليه‌السلام عن كل مسألة.

فقال النصراني: يا معشر النصارى، ما رأيت أحداً قطّ أعلم من هذا الرجل لا تسألوني عن حرف وهذا بالشام ردّوني فردّوه إلى كهفه، ورجع النصارى مع الإمامعليه‌السلام .

وفي رواية: أنّه أسلم وأسلم معه أصحابه على يد الإمامعليه‌السلام (١) .

مع هشام بن عبد الملك: ناظره هشام بن عبد الملك في مسائل متنوعة تتعلق بمقامات أهل البيتعليهم‌السلام ، وميراثهم لعلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وادعاء الإمام عليعليه‌السلام علم الغيب، فأجابه الإمامعليه‌السلام عن مسائله المتنوعة وناظره في إثبات مقامات أهل البيتعليهم‌السلام مستشهداً بالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة،

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٦ / ٣١٣ ـ ٣١٥.

٩٢

فلم يستطع هشام أن يردّ عليه، وناظره في مواضع أخرى، فقال له هشام: (أعطني عهد الله وميثاقه ألاّ ترفع هذا الحديث إلى أحد ما حييت)، قال الإمام الصادقعليه‌السلام :فأعطاه أبي من ذلك ما أرضاه (١) .

وقد ذكرنا تفصيل المناظرتين في بحث سابق فراجع(٢) .مع الحسن البصري: قال له الحسن البصري: جئت لأسألك عن أشياء من كتاب الله تعالى.

وبعد حوار قصير قال لهعليه‌السلام :بلغني عنك أمر فما أدري أكذاك أنت؟ أم يُكذب عليك؟ قال الحسن: ما هو ؟

قالعليه‌السلام :زعموا أنّك تقول: إنَّ الله خلق العباد ففوّض إليهم أمورهم .

فسكت الحسن... ثمّ وضّح له الإمامعليه‌السلام بطلان القول بالتفويض وحذّره قائلاً:وإيّاك أن تقول بالتفويض، فإنّ الله عَزَّ وجَلَّ لم يفوّض الأمر إلى خلقه، وهناً منه وضعفاً، ولا أجبرهم على معاصيه ظلماً (٣) .

ولهعليه‌السلام مناظرات مع محمد بن المنكدر ـ من مشاهير زهاد ذلك العصر ـ ومع نافع بن الأزرق أحد رؤساء الخوارج، ومع عبد الله بن معمر الليثي، ومع قتادة بن دعامة البصري(٤) واحتجاجات لا يتحمّل شرحها هذا المختصر.

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٦ / ٣١٣ ـ ٣١٥.

(٢) راجع مبحث: ملامح وأبعاد هامة في عصر الإمام الباقرعليه‌السلام .

(٣) الاحتجاج: ٢/١٨٤.(٤) أعيان الشيعة: ١/٦٥٣ .

٩٣

٣ ـ إدانة فقهاء البلاط

جاء قتادة بن دعامة البصري إلى الإمامعليه‌السلام وقد هيّأ له أربعين مسألة ليمتحنه بها، فقال لهعليه‌السلام :أنت فقيه أهل البصرة؟ قال قتادة: نعم، فقالعليه‌السلام :(ويحك يا قتادة إن الله عَزَّ وجَلَّ خلق خلقاً، فجعلهم حججاً على خلقه، فهم أوتاد في أرضه، قوّام بأمره، نجباء في علمه اصطفاهم قبل خلقه) ، فسكت قتادة طويلاً، ثم قال: أصلحك الله، والله لقد جلست بين يدي الفقهاء، وقدّام ابن عباس، فما اضطرب قلبي قدّام أحد منهم ما اضطرب قدّامك(١) .

وأدان الإمام الباقرعليه‌السلام أبا حنيفة لقوله بالقياس، وعلّق الأستاذ محمد أبو زهرة على هذه الإدانة قائلاً: تتبيّن إمامة الباقر للعلماء، يحاسبهم على ما يبدو منهم، وكأنّه الرئيس يحاكم مرءوسيه ليحملهم على الجادة، وهم يقبلون طائعين تلك الرئاسة(٢) .

٤ ـ الدعوة إلى أخذ الفكر من مصادره النقيّة

لقد حذّر الإمامعليه‌السلام الناس من الوقوع في شراك الأفكار والآراء والعقائد المنحرفة، وحذّر من البدع وجعلها أحد مصاديق الشرك فقال:(أدنى الشرك أن يبتدع الرجل رأياً فيُحَبّ عليه ويبغَض) (٣) .

كما حذّر من الإفتاء بالرأي فقال:(من أفتى الناس بغير علم ولا هوى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه) (٤) .

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٦ / ٣٥٧.

(٢) تاريخ المذاهب الإسلامية: ٦٨٩.

(٣) المحاسن: ٢٠٧.

(٤) المصدر السابق: ٢٠٥.

٩٤

ومن هنا كان يدعو الناس إلى أخذ العلم والفكر من منابعه النقية وهم أهل البيت المعصومون من كل زيغ وانحراف. قالعليه‌السلام لسلمة بن كهيل وللحكم بن عتيبة:(شرّقا وغرِّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلاّ شيئاً خرج من عندنا) (١) .

وكان يحذّر من مجالسة أصحاب الخصومات ويقول:(لا تجالسوا أصحاب الخصومات، فإنهم يخوضون في آيات الله) (٢) .

كما كان يشجع على ذكر مقامات أهل البيتعليهم‌السلام وفضائلهم فإنّها من أسباب نشر الحق والفضيلة، فعن سعد الإسكاف، قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : إني أجلس فأقصّ، وأذكر حقكم وفضلكم. فقالعليه‌السلام :(وددت أن على كل ثلاثين ذراعاً قاصّاً مثلك) (٣) .

٥ ـ نشر علوم أهل البيتعليهم‌السلام

لقد فتح الإمامعليه‌السلام أبواب مدرسته العلمية لعامة أبناء الأمة الإسلامية، حتى وفد إليها طلاب العلم من مختلف البقاع الإسلامية، وأخذ عنه العلم عدد كبير من المسلمين بشتى اتّجاهاتهم وميولهم، منهم: عطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، والزهري، وربيعة الرأي، وابن جريج، والأوزاعي، وبسام الصيرفي(٤) ، وأبو حنيفة وغيرهم(٥) .

وفي ذلك قال عبد الله بن عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً

ــــــــــــــ

(١) الكافي: ١ / ٣٩٩.

(٢) كشف الغمّة: ٢ / ١٢٠.

(٣) رجال الكشي: ٢١٥.

(٤) سير أعلام النبلاء: ٤ / ٤٠١.

(٥) تاريخ المذاهب الإسلامية: ٣٦١.

٩٥

منهم عند أبي جعفر، لقد رأيت الحكم عنده كأنّه متعلم(١) .

وكانت أحاديثه مسندة عن آبائه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما كان يرسل الحديث ولا يسنده. وحينما سئل عن ذلك، قال:إذا حدّثت بالحديث فلم أسنده، فسندي فيه أبي زين العابدين عن أبيه الحسين الشهيد عن أبيه علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن جبرئيل عن الله عَزَّ وجَلَّ (٢) .

ثانياً: تأسيس المدرسة الفقهية النموذجية(٣)

لقد جهد الإمام الباقر وولده الصادقعليهما‌السلام على نشر الفقه الإسلامي وتبنّيا نشره بصورة إيجابية في وقت كان المجتمع الإسلامي غارقاً في الأحداث والاضطرابات السياسية، حيث أهملت الحكومات في تلك العصور الشؤون الدينية إهمالاً تاماً، حتى لم تعد الشعوب الإسلامية تفقه من أمور دينها القليل ولا الكثير، يقول الدكتور علي حسن: (وقد أدى تتبعنا للنصوص التاريخية إلى أمثلة كثيرة تدل على هذه الظاهرة ـ أي إهمال الشؤون الدينية ـ التي كانت تسود القرن الأول سواء لدى الحكام أو العلماء أو الشعب، ونعني بها عدم المعرفة بشؤون الدين، والتأرجح وعدم الجزم والقطع فيها حتى في العبادات، فمن ذلك ما روي أن ابن عباس خطب في آخر شهر رمضان على منبر البصرة فقال: اخرجوا صدقة صومكم فكان الناس لم يعلموا، فقال: من ها هنا من أهل المدينة؟ فقوموا إلى إخوانكم فعلموهم، فإنهم لا يعلمون فرض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) .

ــــــــــــــ

(١) مختصر تاريخ دمشق: ٢٣ / ٧٩.

(٢) إعلام الورى: ٢٩٤.

(٣) راجع حياة الإمام محمد الباقرعليه‌السلام ، باقر شريف القرشي ١/٢١٥ ـ ٢٢٦.

(٤) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: ٢ / ١٣١.

٩٦

فأهل البلاد الإسلامية لم يعرفوا شؤون دينهم معرفة كافية، وقد كان يوجد في بلاد الشام من لا يعرف عدد الصلوات المفروضة، حتى راحوا يسألون الصحابة عن ذلك(١) .

إن الدور المشرق الذي قام به الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام في نشر الفقه وبيان أحكام شريعة الله كان من أعظم الخدمات التي قدّماها للعالم الإسلامي.

وسعى إلى الأخذ من علومهما أبناء الصحابة والتابعون، ورؤساء المذاهب الإسلامية كأبي حنيفة ومالك وغيرهما، وتخرج على يد الإمام أبي جعفرعليه‌السلام جمهرة كبيرة من الفقهاء كزرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم وأبان بن تغلب، وإليهم يرجع الفضل في تدوين أحاديث الإمامعليه‌السلام وقد أصبحوا من مراجع الفتيا بين المسلمين، وبذلك أعاد الإمام أبو جعفرعليه‌السلام للإسلام نضارته وحافظ على ثرواته الدينية من الضياع والضمور.

ومن الجدير بالذكر أن الشيعة هم أول من سبق إلى تدوين الفقه فقد قال مصطفى عبد الرازق: (ومن المعقول أن يكون النزوع إلى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة لأن اعتقادهم العصمة في أئمتهم أو ما يشبه العصمة كان حرياً إلى تدوين أقضيتهم وفتاواهم)(٢) .

وبذلك فقد ساهمت الشيعة في بناء الصرح الإسلامي، وحافظت على أهم ثرواته... ولابد لنا من وقفة قصيرة للنظر في فقه أهل البيتعليهم‌السلام الذي هو مستمد من الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ــــــــــــــ

(١) سنن النسائي: ١ / ٤٢.

(٢) تمهيد لتأريخ الفلسفة الإسلامية: ص٢٠٢.

٩٧

مميّزات مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام الفقهيّة

١ ـ الاتصال بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والشيء المهم في فقه أهل البيتعليهم‌السلام هو أنه يتصل اتصالاً مباشراً بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فطريقه إليه أئمة أهل البيتعليهم‌السلام الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وجعلهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفن النجاة، وأمن العباد، وعدلاء الذكر الحكيم حسبما تواترت الأخبار بذلك.

قالعليه‌السلام :(لو أننا حدثنا برأينا ضللنا كما ضل من قبلنا، ولكنا حدثنا ببينة من ربنا بينها لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبينها لنا) (١) .

٢ ـ المرونة: إن فقه أهل البيت يساير الحياة، ويواكب التطور، ولا يشذ عن الفطرة ويتمشى مع جميع متطلبات الحياة، فليس فيه ـ والحمد لله ـ حرج ولا ضيق، ولا ضرر، ولا إضرار، وإنما فيه الصالح العام، والتوازن في جميع مناحي تشريعاته، وقد نال إعجاب جميع رجال القانون، واعترفوا بأنه من أثرى ما قنن في عالم التشريع عمقاً وأصالة وإبداعاً.

٣ ـ فتح باب الاجتهاد: إنّ من أهم ما تميز به فقه أهل البيتعليهم‌السلام هو فتح باب الاجتهاد، فقد دلّ ذلك على حيوية فقه أهل البيت، وتفاعله مع الحياة واستمراره في العطاء لجميع شؤون الإنسان، وإنه لا يقف مكتوفاً أمام الأحداث المستجدة التي يبتلى بها الناس خصوصاً في هذا العصر الذي برزت فيه كثير من الأحداث واستحدثت فيه كثير من الموضوعات، وقد أدرك كبار علماء المسلمين من الأزهر مدى الحاجة الملحّة إلى فتح باب الاجتهاد، ومتابعة الشيعة الإمامية في هذه الناحية.

ــــــــــــــ

(١) أعلام الورى: ٢٧٠.

٩٨

قال السيد رشيد رضا: (ولا نعرف في ترك الاجتهاد منفعة ما، وأمّا مضارّه فكثيرة، وكلها ترجع إلى إهمال العقل، وقطع طريق العلم، والحرمان من استغلال الفكر، وقد أهمل المسلمون كل علم بترك الاجتهاد، فصاروا إلى ما نرى)(١) .

٤ ـ الرجوع إلى حكم العقل: انفرد فقهاء الإمامية عن بقية المذاهب الإسلامية فجعلوا العقل واحداً من المصادر الأربعة لاستنباط الأحكام الشرعية، وقد أضفوا عليه أسمى ألوان التقديس فاعتبروه رسول الله الباطني، وإنه مما يُعبَد به الرحمن، ويكتَسب به الجنان. ومن الطبيعي ان الرجوع إلى حكم العقل إنّما يجوز إذا لم يكن في المسألة نص خاص أو عام وإلا فهو حاكم عليه، وإن للعقل مسرحاً كبيراً في علم الأصول الذي يتوقف عليه الاجتهاد.

ثالثاً: الإصلاح السياسي

استثمر الإمامعليه‌السلام بعض ظروف الانفراج السياسي النسبي من أجل بناء وتوسعة القاعدة الشعبية، وتسليحها بالفكر السياسي السليم المنسجم مع رؤية أهل البيتعليهم‌السلام ، وتعبئة الطاقات لاتخاذ الموقف المناسب في الوقت المناسب، ولهذا لم تنطلق أي ثورة علوية في عهده، لعدم اكتمال شروطها من حيث العدة والعدد.

وكان الإمامعليه‌السلام يقدّم للأمة المفاهيم والأفكار السياسية الأساسية مع الحيطة والحذر; وكانت له مواقف سياسية صريحة من بعض الحكام لإعادتهم إلى جادة الصواب.

وقد تجلّى دوره الإصلاحي في الممارسات التالية:

١ ـ الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحرّران الإنسان والمجتمع من ألوان الانحراف في الفكر والعاطفة والسلوك، ويحوّلان المفاهيم والقيم الإسلامية الثابتة إلى ممارسات سلوكية واضحة المعالم، تترجم فيها الآراء والنصوص إلى مشاعر وعواطف وأعمال وحركات وعلاقات متجسدة في الواقع لكي تكون الأمة والدولة بمستوى المسؤولية في الحياة، والمسؤولية هي حمل الأمانة الإلهية وخلافة الله تعالى في الأرض.

ــــــــــــــ

(١) الوحدة الإسلامية: ٩٩.

٩٩

ومن هنا جاءت تأكيدات الإمامعليه‌السلام على هذه الفريضة التي جعلها شاملة لجميع مرافق الحياة الإنسانية حيث قال:(إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصالحين، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم وتعمّر الأرض، وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر، فأنكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكّوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم...) (١) .

وحذّرعليه‌السلام من مغبّة التخليّ عن المسؤولية، ومداهنة المنحرفين حكّاماً كانوا أم من سائر أفراد الأمة فقال: (أوحى الله تعالى إلى شعيب النبيعليه‌السلام إنّي لمعذّب من قومك مائة ألف: أربعين ألفاً من شرارهم، وستين ألفاً من خيارهم، فقال: يا ربّ هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار ؟

فأوحى الله عَزَّ وجَلَّ إليه: إنهم داهنوا أهل المعاصي، ولم يغضبوا لغضبي)(٢) .

وحثعليه‌السلام على هذه المسؤولية وبيّن آثار التخلي عنها فقال:(الأمر

ــــــــــــــ

(١) تهذيب الأحكام: ٦ / ١٨٠.

(٢) المصدر السابق: ٦ / ١٨١.

١٠٠