اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)36%

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام
ISBN: 964- 5688-23
الصفحات: 220

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 220 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135845 / تحميل: 8307
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
ISBN: ٩٦٤- ٥٦٨٨-٢٣
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

فقالت: لا اتزوج حتى تسمي(١) لي قال: لا تسأليني شيئاً الا اعطيته، فقالت: ثلاثة آلاف، وعبداً وقينة وقتل عليّعليه‌السلام ، فقال: ما سألت هو لك مهر، الا قتل عليّعليه‌السلام فلا اراك تدركينه، قالت: فالتمس غرته(٢) فان اصبته شفيت نفسي ونفعك العيش معي، وان هلكت فما عند اللّه خير لك من الدنيا، فقال: والله ما جاء بي الى هذا المصر، وقد كنت هارباً منه الا ذلك، وقد اعطيتك ما سألت وخرج من عندها وهو يقول:

ثلاثة آلاف وعبد وقينة

وقتل علي (ع) بالحسام المصمم

فلا مهر اغلى من علي وان علا

ولا فتك الا دون فتك ابن ملجم

فلقيه رجل من اشجع، يقال له شبيب بن بجرة من الخوارج، فقال له: هل لك في شرف الدنيا والآخرة، فقال: وما ذاك قال: تساعدني على قتل علي قال: ثكلتك امك، لقد جئت شيئاً إدّاً(٣) قد عرفت عناءه في الإِسلام وسابقته مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال ابن ملجم: ويحك اما تعلم انه قد حكَّم الرجال في كتاب اللّه وقتل اخواننا المصلين فنقتله ببعض اخواننا، فأقبل معه حتى دخل على قطام وهي في المسجد الأعظم، وقد ضربت كلة بها، وهي معتكفة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، فاعلمته ان مجاشع بن وردان بن علقمة قد انتدب لقتله معهما، فدعت لهما بحرير وعصبتهما واخذوا أسيافهم وقعدوا مقابلين لباب السدة التي يخرج منها عليّعليه‌السلام للمسجد، وكان عليّ يخرج كل غداة اول الأذان للصلاة وقد كان ابن ملجم مر بالاشعث(٤) وهو في

____________________

(١) تسمي لي: أي تجعل لي المهر المسمى.

(٢) الغرة: الغفلة.

(٣) الإدّ بالكسر: الامر الفظيع. الداهية.

(٤) وهو ابن قيس الكندي. رأس منافقي اصحابهعليه‌السلام . وكان من مرتدي زمن ابي بكر وهو في الواقع سبب التحكيم في صفين.

٦١

المسجد فقال له: فضحك الصبح فسمعها حجر بن(١) عدي فقال: قتلته يا اعور قتلك اللّه، وخرج عليعليه‌السلام ينادي: ايها الناس الصلاة فشد عليه ابن ملجم واصحابه، وهم يقولون: الحكم للّه لا لك، وضربه ابن ملجم على رأسه بالسيف في قرنه، واما شبيب فوقعت ضربته بعضادة(٢) الباب واما ابن وردان فهرب، وقال عليّعليه‌السلام لا يفوتنكم الرجل وشد الناس على ابن ملجم يرمونه بالحصباء ويتناولونه ويصيحون، فضرب ساقه رجل من همدان برجله، وضرب المغيرة بن نوفل الحرث بن عبد المطلب وجهه فصرعه، واقبل به الى الحسنعليه‌السلام ودخل شبيب بين الناس فنجا بنفسه، وهرب، حتى أتى رحله، فدخل عليه عبد اللّه بن بحرة، وهو احد بني ابيه فرآه ينزع الحرير عن صدره، فسأله عن ذلك فخبّره خبره، فانصرف عبد اللّه الى رحله واقبل اليه بسيفه فضربه حتى قتله.

وقيل: ان عليّاًعليه‌السلام لم ينم تلك الليلة، وانه لم يزل يمشي بين الباب والحجرة، وهو يقول: واللّه ما كذَبت ولا كُذبت وانها الليلة التي وعدت، فلما صرخ بط (كان للصبيان) صاح بهن بعض من في الدار فقال عليّعليه‌السلام : ويحك دعن فانهن نوائح.

وقال المسعودي: أنهعليه‌السلام قد خرج الى المسجد وقد عسر عليه فتح باب داره، وكان من جذوع النخل فاقتلعه، وجعله ناحية، وانحل ازاره فشده وجعل ينشد:

أشدُدْ حيازيمك(٣) للموت‌فان الموت لاقيكا

ولا تجزع من الموت إذا حل بواديكا(٤)

____________________

(١) هو من خيار اصحابه.

(٢) أي خشبة من جانبه.

(٣) الحيزوم وسط الصدر. وشد الحيازيم كناية عن الصبر.

(٤) أي بساحتك.

٦٢

وروى الشيخ المفيد انه لما دخل شهر رمضان كان امير المؤمنينعليه‌السلام يتعشى ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين،عليهما‌السلام ، وليلة عند عبد اللّه بن العباس، وكان لا يزيد على ثلاث لقم فقيل له ليلة من تلك الليالي في ذلك، فقال: يأتيني امر اللّه وانا خميص(١) انما هي ليلة او ليلتان فاصيب اخر الليل.

ورُويَ عن ام موسى خادمة عليّعليه‌السلام وهي حاضنة(٢) فاطمة ابنته، قالت: سمعت عليّاًعليه‌السلام يقول لابنته ام كلثوم: يا بنية اني أراني قلَّ ما أصحبكم، قالت: وكيف ذلك يا أبتاه، قال: إني رأيت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منامي، وهو يمسح الغبار عن وجهي، ويقول: يا عليّ لا عليك قضيت ما عليك. قال(٣) : فما مكثنا الا ثلاثاً حتى ضُرب تلك الضربة، فصاحت ام كثلوم، فقال: يا بنية لا تفعلي فانّي أرى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشير الي بكفه ويقول: يا عليّ هلم الينا فان ما عندنا هو خير لك.

وروى صاحب قرب الاسناد عن جعفر بن محمد عن ابيهعليهم‌السلام ان علي بن أبي طالبعليه‌السلام خرج يوقظ الناس لصلاة الصبح فضربه عبد الرحمن بن ملجم (لعنه اللّه) بالسيف على ام رأسه، فوقع على ركبتيه واخذه فالتزمه، حتى أخذه الناس، وحُمل عليّ حتى افاق ثم قال للحسن والحسينعليهما‌السلام : احبسوا هذا الاسير واطعموه واسقوه وأحسنوا آثاره، فان عشت فانا اولى بما صنع بي، ان شئت استقدت(٤) وان شئت عفوت، وان شئت صالحت، وان مت فذلك اليكم، فان بدا لكم ان تقتلوه فلا تمثلوا به(٥) .

____________________

(١) خميص البطن: أي خاليه.

(٢) أي مربيتها.

(٣) والظاهر (قالت) بدل (قال).

(٤) أي اخذت منه القَود.

(٥) والمثلة ان يقطع بعض اعضاء الرجل.

٦٣

وروى ابن شاذان عن الاصبغ قال: لما ضرب امير المؤمنينعليه‌السلام الضربة التي كانت وفاته فيها، اجتمع اليه الناس بباب القصر وكان يراد قتل ابن ملجم، لعنه اللّه، فخرج الحسنعليه‌السلام فقال: معاشر الناس ان ابي اوصاني ان اترك امره الى وفاته، فان كان له الوفاة، وإلا نظر هو في حقه فانصرفوا يرحمكم اللّه، قال: فانصرف الناس ولم أنصرف، فخرج ثانية وقال لي: يا اصبغ اما سمعت قولي عن قول امير المؤمنينعليه‌السلام ، قلت: بلى ولكني رأيت حاله فاحببت ان انظر اليه، فاسمع منه حديثاً، فاستأذن لي رحمك اللّه، فدخل ولم يلبث ان خرج، فقال لي: ادخل فدخلت فاذا امير المؤمنينعليه‌السلام معصب بعصابة، وقد علت(١) صفرة وجهه على تلك العصابة، واذا هو يرفع فخذاً ويضع اخرى، من شدة الضربة وكثرة السم، فقال لي: يا اصبغ اما سمعت قول الحسن عن قولي قلت: يا امير المؤمنين ولكني رأيتك في حالة فاحببت النظر اليك، وان أسمع منك حديثاً، فقال لي: اقعد فما أراك تسمع مني حديثاً بعد يومك هذا، اعلم يا اصبغ اني أتيت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عائداً كما جئت الساعة، فقال: يا ابا الحسن اخرج فناد في الناس الصلاة جامعة واصعد المنبر وقم دون مقامي مرقاة وقل للناس ألا من عق(٢) والديه، فلعنة اللّه عليه، ألا من ابق من مواليه، فلعنة اللّه عليه ألا من ظلم اجيراً اجرته، فلعنة اللّه عليه، يا اصبغ، ففعلت ما أمرني به حبيبي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقام من اقصى المسجد رجل فقال: يا ابا الحسن تكلمت بثلاث كلمات وأوجزتهن فاشرحهن لنا فلم ارد جواباً حتى أتيت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت ما كان من الرجل، قال الاصبغ: ثم اخذ بيدي وقال ابسط يدك فبسطت يدي، فتناول اصبعا من اصابع يدي وقال: يا اصبغ كذا تناول رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اصبعا من اصابع يدي، كما تناولت اصبعا من

____________________

(١) أي غلبت.

(٢) أي عصاهما وترك الشفقة عليهما والاحسان اليهما واستخفّ بهما.

٦٤

اصابع يدك، ثم قال: مه يا ابا الحسن الا وأني وأنت أبوا هذه الأمة، فمن عقنا فلعنة اللّه عليه، ألا وإني وانت موليا هذه الأمة فعلى من أبق عنا لعنة اللّه، ألا وإني وأنت أجيرا هذه الأمة، فمن ظلمنا اجرتنا فلعنة اللّه عليه، ثم قال: آمين فقلت: آمين.

قال الاصبغ: ثم اغمي عليه ثم افاق فقال لي: اقاعد انت يا اصبغ قلت: نعم يا مولاي قال: ازيدك حديثاً آخر، قلت: نعم زادك اللّه من مزيدات الخير، قال: يا اصبغ لقيني رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض طرقات المدينة و أنا مغموم قد تبين الغم في وجهي، فقال لي: يا ابا الحسن أراك مغموماً ألا احدثك بحديث لا تغتم بعده ابداً؟ قلت: نعم، قال: اذا كان يوم القيامة نصب اللّه منبراً يعلو منابر النبيين والشهداء ثم يأمرني اللّه، اصعد فوقه، ثم يأمرك اللّه ان تصعد دوني بمرقاة، ثم يأمر اللّه ملكين فيجلسان دونك، بمرقاة، فاذا استقللنا على المنبر، لا يبقى احد من الاولين والآخرين الا حضر فينادي الملك الذي دونك بمرقاة، معاشر الناس، ألا من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فانا اعرفه بنفسي: انا رضوان خازن الجنان الا ان اللّه بمنه وكرمه وفضله وجلاله، أمرني ان ادفع مفاتيح الجنة الى محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وان محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرني ان ادفعها الى علي بن ابي طالبعليه‌السلام . فاشهدوا لي عليه، ثم يقوم ذلك الذي تحت ذلك الملك بمرقاة مناديا، يسمع اهل الموقف: معاشر الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فانا اعرفه بنفسي: انا مالك خازن النيران الا ان اللّه بمنه وفضله وكرمه وجلاله، قد أمرني ان ادفع مفاتيح النار الى محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وان محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمرني ان ادفعها الى علي بن أبي طالبعليه‌السلام فاشهدوا لي عليه، فاخذ مفاتيح الجنان والنيران ثم قال: يا عليّ فتأخذ بحجزتي(١) واهل بيتك يأخذون بحجزتك

____________________

(١) الحجزة: مقعد الازار موضع التكة من السراويل.

٦٥

وشيعتك يأخذون بحجزة اهل بيتك، قالعليه‌السلام : فصفقت بكلتا يدي والى الجنة يا رسول اللّه، قال: اي وربّ الكعبة قال الاصبغ: فلم اسمع من مولاي غير هذين الحديثين ثم توفي صلوات اللّه عليه.

قال ابو الفرج ثم جمع له اطباء الكوفة فلم يكن منهم اعلم بجرحه من اثير بن عمرو بن هاني السلولي، وكان متطبباً(١) صاحب الكرسي، يعالج الجراحات وكان من الاربعين غلاما الذين كان ابن الوليد اصابهم في عين التمر(٢) فسباهم، فلما نظر أثير إلى جرح امير المؤمنينعليه‌السلام ، دعا برئة شاة حارة، فاستخرج منها عرقاً ثم نفخه، ثم استخرجه واذا عليه بياض الدماغ، فقال: يا امير المؤمنين اعهد عهدك فان عدو اللّه قد وصلت ضربته الى أم رأسك.

روى الشيخ يوسف بن حاتم الشامي في الدر النظيم عن الاصبغ بن نباتة قال: دعا أمير المؤمنين الحسن والحسينعليهم‌السلام لمّا ضربه ابن ملجم (لعنه اللّه) فقال: اني مقبوض في ليلتي هذه ولاحق برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاسمعا قولي، وعياه(٣) : أنت يا حسن وصيّي والقائم بالامر بعدي، وانت يا حسين شريكه في الوصية، فانصت(٤) ما نطق وكن لامره تابعاً ما بقي، فاذا خرج من الدنيا فأنت الناطق بعده والقائم بالامر، وعليكما بتقوى اللّه الذي لا ينجو الا من اطاعه، ولا يهلك الا من عصاه، واعتصما بحبله، وهو الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، ثم قال للحسنعليه‌السلام : انك ولي الأمر بعدي، فان عفوت عن قاتلي فذاك، وان قتلت فضربة مكان ضربة، واياك والمثلة، فان رسول اللّه (صلى اللّه عليه

____________________

(١) صيغة التفعل هنا للمبالغة.

(٢) عين التمر: بلدة في طرف البادية في غربي الفرات (منه).

(٣) من الوعي وهو الحفظ.

(٤) الانصات هو السكوت للاستماع.

٦٦

وآله وسلم) نهى عنها ولو بكلب عقور، واعلم ان الحسين وليّ الدم معك، يجري فيه مجراك وقد جعل اللّه تبارك وتعالى له على قاتلي سلطاناً كما جعل لك وان ابن ملجم ضربني ضربة فلم تعمل فثناها فعملت، فان عملت فيه ضربتك فذاك، وان لم تعمل فمر اخاك الحسين، وليضربه اخرى بحق ولايته، فانها ستعمل فيه فان الإِمامة له بعدك وجارية في ولده الى يوم القيامة، واياك ان تقتل بي غير قاتلي، فان اللّه عز وجل يقول: ولا تزر وازرة وزر اخرى (الوصية).

روى الشيخ المفيد وغيره عن مولى لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام قال لما حضرت امير المؤمنينعليه‌السلام الوفاة قال للحسن والحسينعليهما‌السلام : اذا أنا مت فاحملاني على سريري ثم اخرجاني، ثم احملا مؤخر السرير فانكما تكفيان مقدمه ثم اتيا بي الغريّ(١) فانكما ستريان صخرة بيضاء تلمع نوراً فاحتفرا فيها فانكما تجدان فيها ساجة، فادفناني فيها، قال فلما مات (صلوات اللّه عليه) اخرجناه وجعلنا نحمل مؤخر السرير ونكفى مقدمه وجعلنا نسمع دويا(٢) وحفيفاً حتى اتينا الغريين فاذا صخرة بيضاء تلمع نورها فاحتفرنا فاذا ساجة مكتوب عليها هذه مما ادخرها نوح لعلي بن ابي طالبعليه‌السلام فدفناه فيه وانصرفنا، ونحن مسرورن باكرام اللّه تعالى لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، فلحقنا قوم من الشيعة لم يشهدوا الصلاة عليه، فاخبرناهم بما جرى وباكرام اللّه لامير المؤمنينعليه‌السلام ، فقالوا نحب ان نعاين من امره ما عاينتم فقلنا لهم ان الموضع قد عفى أثره بوصية منهعليه‌السلام ، فمضوا وعادوا الينا فقالوا انهم احتفروا فلم يجدوا شيئاً.

____________________

(١) هو ارض النجف.

(٢) الدويُّ هو صدى الأصوات كدويِّ النحل.

٦٧

ورُوى عن جابر بن(١) يزيد، قال: سألت ابا جعفر محمد بن عليّ الباقرعليه‌السلام اين دفن امير المؤمنينعليه‌السلام ، قال: دفن بناحية الغريين ودفن قبل طلوع الفجر، ودخل قبره الحسن والحسين ومحمد بنو عليّعليهم‌السلام وعبد اللّه بن(٢) جعفر، (رضي اللّه عنهما).

قال الشيخ المفيد فلم يزل قبرهعليه‌السلام مخفياً حتى دل عليه الصادق جعفر بن محمدعليهما‌السلام ، في الدولة العباسية، وزاره عند وروده إلى أبي جعفر، وهو بالحيرة، فعرفته الشيعة واستأنفوا اذ ذاك زيارته، عليه وعلى ذريته الطاهرين السلام وكانت سنه يوم وفاته ثلاثاً وستين سنة.

قال محمد بن بطوطة، في رحلته التي سماها تحفة النظار في غرائب الامصار، وقد فرغ منها سنة ٧٥٦ هجري ستة وخمسين وسبعمائة في ذكر وروده من مكة الى مشهد مولانا عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

ذكر الروضة والقبور التي بها، ويدخل من باب الحضرة الى مدرسة عظيمة يسكنها الطلبة والصوفية(٣) من الشيعة ولكل وارد ضيافة ثلاثة ايام من الخبز واللحم والتمر، مرتين في اليوم، ومن تلك المدرسة يدخل الى باب القبة، وعلى بابها الحجاب والنقباء والطواشية(٤) ، فعندما يصل الزائر يقوم اليه احدهم او جميعهم، وذلك على قدر الزائر فيقفون معه على العتبة، ويستأذنون له، ويقولون عن امركم يا امير المؤمنين، هذا العبد الضعيف يستأذن على دخوله للروضة العلية، فان أذنتم له، والا رجع، وان لم يكن اهلا لذلك، فانتم اهل المكارم والستر ثم يأمرونه بتقبيل العتبة، وهي من الفضة، وكذلك العضادتان، ثم يدخل القبة وهي مفروشة بانواع البسط

____________________

(١) الظاهر انه الجعفي وهو من خواص اصحاب الصادقعليه‌السلام وقد سمع منه احاديث وله كرامات. راجع ترجمته في الرجال الكبير وغيره.

(٢) هو زوج زينب (سلام اللّه عليها). وهو من الأجواد، وله حكايات في السخاء.

(٣) أي العرفاء والزهاد والنساك (منه).

(٤) جمع طاش وهو ذو منصب خاص.

٦٨

من الحرير وسواه وبها قناديل الذهب والفضة منها الكبيرة والصغيرة وفي وسط القبة مسطبة(١) مربعة مكسوة بالخشب عليها صفائح الذهب المنقوشة المحكمة العمل مسمرة بمسامير(٢) الفضة، قد غلبت على الخشب بحيث لا يظهر منه شيء وارتفاعها دون القامة، وفوقها ثلاثة من القبور، يزعمون ان احدها قبر آدم (عليه الصلاة والسلام) والثاني قبر نوح (عليه الصلاة والسلام) والثالث قبر علي (رضي اللّه عنه) وبين القبور طسوت(٣) ذهب وفضة، فيها ماء الورد والمسك، وانواع الطيب، يغمس الزائر يده في ذلك، ويدهن به وجهه تبركاً، وللقبة باب آخر، عتبته ايضاً من الفضة وعليه ستور من الحرير الملون، يفضي الى مسجد مفروش بالبسط الحسان، مستورة حيطانه وسقفه بستور الحرير، وله اربعة ابواب، عتبتها فضة وعليها ستور الحرير، وأهل هذه المدينة كلهم رافضية، وهذه الروضة ظهرت لها كرامات ثبت بها عندهم، ان بها قبر علي (رضي اللّه عنه)، فمنها: ان في ليلة السابع والعشرين من رجب ويسمى عندهم ليلة المحيا يؤتى الى تلك الروضة بكل مقعد(٤) من العراقين وخراسان وبلاد فارس والروم، فيجتمع منهم الثلاثون والاربعون ونحو ذلك فاذا كان بعد العشاء الآخرة جعلوا عند الضريح المقدس، والناس ينتظرون قيامهم، وهم ما بين مصلّ وذاكر وتال ومشاهد للروضة، فاذا مضى من الليل نصفه، او ثلثاه او نحو ذلك، قام الجميع اصحاء من غير سوء، وهم يقولون لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه عليّ وليّ اللّه، وهذا امر مستفيض عندهم سمعته من الثقات، ولم أحضر تلك الليلة، لكني رأيت بمدرسة الضياف ثلاثة من الرجال احدهم من ارض الروم، والثاني من اصبهان، والثالث من خراسان، وهم مقعدون فاستخبرتهم على شأنهم، فاخبروني انهم لم يدركوا ليلة المحيا، وانهم ينتظرون.

____________________

(١) بفتح الميم وكسرها: مكان ممهد مرتفع قليلاً يقعد عليه.

(٢) جمع مسمار وهو الوتد من الحديد.

(٣) جمع طست وهو معرب طشت.

(٤) من لا يستطيع المشي على قدميه.

٦٩

أوانها من عام آخر، وهذه الليلة يجتمع لها الناس من البلاد ويقيمون سوقاً عظيمة، مدة عشرة ايام. الخ.

وقال ايضاً ورأيت بغربي جبانة الكوفة موضعاً مسوداً، شديد السّواد، في بسيط ابيض، فاخبرت انه قبر الشقي، ابن ملجم، وان أهل الكوفة يأتون كل سنة بالحطب الكثير، فيوقدون النار على موضع قبره سبعة ايام، وعلى قرب منه قبة، اخبرت انها على قبر المختار بن ابي عبيد (انتهت الحاجة من كلامه).

والاحاديث في فضل زيارة امير المؤمنينعليه‌السلام أكثر من أن تذكر.

رُوي عن ابن مارد انه قال لأبي عبد الله ( عليه السلام ): ما لمن زار جدك امير المؤمنينعليه‌السلام ، فقال يا ابن مارد، من زار جدي عارفاً بحقه كتب اللّه له بكل خطوة حجة مقبولة، وعمرة مبرورة، واللّه يا ابن مارد ما يطعم اللّه النار قدماً اغبرت(١) في زيارة امير المؤمنينعليه‌السلام ماشياً او راكباً، يا ابن مارد اكتب هذا الحديث بماء الذهب.

____________________

(١) صارت مغبرة أي ذات غبار.

٧٠

النور الرابع.. الإِمام الثاني السيد الزكي ابو محمد الحسن بن علي بن ابي طالب سيد شباب اهل الجنة عليه السلام

ولدعليه‌السلام بالمدينة يوم الثلاثاء منتصف شهر رمضان سنة اثنتين او ثلاث من الهجرة.

روى الشيخ الصدوق باسناده عن الرضا عن آبائه عن علي بن الحسينعليهم‌السلام ، عن اسماء بنت عميس، قالت قَبَلتُ(١) جدتك فاطمةعليها‌السلام الحسن والحسينعليهما‌السلام فلما ولد الحسن جاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا اسماء هاتي ابني فدفعته اليه في خرقة صفراء فرمى بها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال: يا اسماء الم اعهد اليكم ان لا تلفوا المولود في خرقة صفراء، فلففته في خرقة بيضاء فدفعته إليه فأذّن في اذنه اليمنى، واقام في اليسرى، ثم قال لعليّ: بأي شيء سميت ابني قال: ما كنت اسبقك باسمه يا رسول اللّه، قد كنت احب ان اسميه حرباً، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و لا اسبق انا باسمه ربي ثم هبط جبرائيل فقال: يا محمد العلي الأعلى يقرئك السلام ويقول: علي منك بمنزلة هارون من موسى، ولا نبي بعدك، سم ابنك هذا باسم ابن هارون. قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما اسم ابن هارون قال شبر، قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لساني عربيّ قال جبرئيل سمه الحسن، فسماه الحسنعليه‌السلام ، فلما كان يوم سابعه عق النبي

____________________

(١) أي كنت القابلة عند ولاتها.

٧١

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنه بكبشين املحين(١) واعطى القابلة فخذاً وديناراً فحلق رأسه وتصدق بوزن الشعر ورقاً(٢) وطلى رأسه بالخلوق(٣) ثم قال: يا اسماء الدم فعل الجاهلية. الخ.

وروى ايضاً عن جابر، قال: لما حملت فاطمةعليها‌السلام بالحسنعليه‌السلام فولدت وقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرهم ان يلفوه في خرقة بيضاء فلفوه في صفراء وقالت فاطمة: يا عليّ سمّه، فقال: ما كنت لاسبق باسمه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخذه وقبله وأدخل لسانه في فيه فجعل الحسنعليه‌السلام يمصه، ثم قال لهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الم اتقدم اليكم ان لا تلفّوه في خرقة صفراء فدعا بخرقة بيضاء فلفه فيها فرمى بالصفراء، واذّن في اذنه اليمنى واقام في اليسرى، ثم قال لعليّعليه‌السلام : ما سميته، قال: ما كنت لاسبقك باسمه، قال: فأوحى اللّه عز ذكره الى جبرائيل، انه قد ولد لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابن، فاهبط اليه فأقرئه السلام وهنئه مني ومنك، وقل له: ان علياً منك بمنزلة هارون من موسى فسمه باسم ابن هارون قال: ما كان اسمه قال شبر، قال: لساني عربي قال: سمه الحسن فسمّاه الحسن، فلما ولد الحسينعليه‌السلام جاء اليهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ففعل به كما فعل بالحسن، وهبط جبرائيل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: ان اللّه عز وجل يقرئك السلام ويقول لك: ان علياً منك بمنزلة هارون من موسى، فسمه باسم ابن هارون، قال: وما كان اسمه، شبير، قال: لساني عربي، قال فسمه الحسين، فسماه الحسين.

وفي كشف الغمة، ورُوي مرفوعاً الى عليعليه‌السلام ، قال: لما حضرت ولادة فاطمةعليها‌السلام ، قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله

____________________

(١) الاملح هو ما خالط شعره الأسود شعر أبيض.

(٢) أي فضة مسكوكة.

(٣) طيب مركب متخذ من الزعفران، وغيره.

٧٢

وسلم) لاسماء بنت عميس وام سلمة احضراها، فاذا وقع ولدها واستهل، فأذنا في اذنه اليمنى، وأقيما في اذنه اليسرى، فانه لا يفعل ذلك بمثله الا عصم من الشيطان، ولا تحدثا شيئاً حتى آتيكما، فلما ولدت فعلتا ذلك فأتاه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسرّه ولبّاه بريقه، وقال اللهم اني اعيذه بك وولده من الشيطان الرجيم.

فصل في مناقب الإِمام الحسن عليه السلام

كان الحسن بن علي بن ابي طالبعليه‌السلام ، أعبد الناس في زمانه وازهدهم وافضلهم، وكان اذا حج، حج ماشياً وربما مشى حافياً، وكان اذا ذكر الموت بكى، واذا ذكر القبر بكى، واذا ذكر البعث والنّشور بكى، واذا ذكر الممر على الصراط بكى، واذا ذكر العرض على اللّه تعالى ذكره شهق شهقة يغشى عليه منها، وكان اذا قام في صلاة ترتعد فرائصه(١) بين يدي ربه عز وجل، وكان اذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم وسأل اللّه الجنة، وتعوذ باللّه من النار، وكان لا يقرأ من كتاب اللّه عز وجل: يا ايها الذين آمنوا الا قال لبيك اللهم لبيك، ولم ير في شيء من احواله الا ذاكراً للّه سبحانه. وكان اصدق الناس لهجة، وكان اذا توضّأ ارتعدت مفاصله واصفر لونه، فقيل له في ذلك، فقال: حقّ على كل من وقف بين يدي رب العرش ان يصفر لونه وترتعد مفاصله. وكان اذا بلغ باب المسجد رفع رأسه، ويقول: الهي ضيفك ببابك، يا محسن قد اتاك المسيء فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك، يا كريم. وكان اذا فرغ من الفجر لم يتكلم، حتى تطلع الشمس. ولقد حج خمساً وعشرين حجة ماشياً وان النجائب لتقاد معه، وقاسم اللّه تعالى ماله مرتين، وروي ثلاث مرات، حتى انه كان يعطي من ماله نعلاً ويمسك خفاً.

____________________

(١) جمع الفريصة وهي اللحمة بين الجنب والكتف ترعد عند الفزع.

٧٣

وروُي انهعليه‌السلام كان يحضر مجلس رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ابن سبع سنين، فيسمع الوحي فيحفظه، فيأتي امه فيلقي اليها ما حفظه، كلما دخل عليّعليه‌السلام وجد عندها علماً بالتنزيل، فسألها عن ذلك فقالت: من ولدك الحسنعليه‌السلام فتخفى يوماً في الدار وقد دخل الحسن وقد سمع الوحي فأراد أن يلقيه اليها، فارتج(١) فعجبت امّه من ذلك فقال: لا تعجبي يا امّاه، فان كبيراً يسمعني، واستماعه قد أوقفني، فخرج عليّعليه‌السلام فقبّله، وفي رواية، يا اماه قلَّ بياني وكلَّ لساني، لعل سيداً يرعاني(٢) .

وعن انس بن مالك قال لم يكن احد اشبه برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحسن بن عليعليه‌السلام .

وعنه قال: حيَّت(٣) جارية للحسن بن عليعليه‌السلام بطاقة(٤) ريحان فقال لها: انت حرة لوجه اللّه، فقلت له في ذلك، فقال: ادبنا اللّه تعالى، فاذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردُّوها، وكان احسن منها اعتاقها.

وروي انه لم يسمع قط منهعليه‌السلام كلمة فيها مكروه، الا مرة واحدة، فانه كان بينه وبين عمرو بن عثمان خصومة في ارض، فقال له الحسنعليه‌السلام : ليس لعمرو عندنا الا ما يرغم انفه.

ومن حلمه ما روى المبرد(٥) وغيره أن شامياً رآه راكباً فجعل يلعنه، والحسنعليه‌السلام لا يرد، فلما فرغ أقبل الحسنعليه‌السلام

____________________

(١) أي فاضطرب.

(٢) أي يراقبني.

(٣) من التحية.

(٤) يعني باقة من زهر الريحان.

(٥) هو ابو العباس محمد بن يزيد البصري من كبار النحويين واللغويين. وكان امامي المذهب. مقبول القول عند الفريقين وله الكامل والمقتضب ومعاني القرآن توفي سنة ٢٨٥ ببغداد.

٧٤

فسلم عليه وضحك، فقال: أيها الشيخ اظنك غريباً، ولعلك شبهت، فلو اشبعتنا اعتبناك(١) ، ولو سألتنا اعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وان كنت جائعاً أشبعناك، وان كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وان كنت طريداً آويناك، وان كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حركت رحلك الينا وكنت ضيفنا الى وقت ارتحالك، كان أعود عليك، لأن لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً، فلما سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: أشهد أنك خليفة اللّه في أرضه اللّه اعلم حيث يجعل رسالته، وكنت انت وابوك ابغض خلق اللّه الي، وحول رحله اليه وكان ضيفه الى ان ارتحل وصار معتقداً لمحبتهم.

وروي انه لما مات الحسنعليه‌السلام اخرجوا جنازته فحمل مروان بن الحكم سريره، فقال له الحسينعليه‌السلام : تحمل اليوم جنازته وكنت بالامس تجرعه الغيظ، قال مروان: نعم كنت افعل ذلك، بمن يوازن حلمه الجبال.

فصل في وفاة الإِمام الحسن عليه السلام

توفي الحسن بن عليعليه‌السلام بالسّم، يوم الخميس السابع من صفر سنة تسع واربعين، وكان ابن سبع واربعين، وقيل في الثامن والعشرين منه، وقيل في آخر صفر، ودفن بالبقيع من المدينة.

الكليني، عن ابي بكر الخضرمي، قال: ان جعدة بنت الاشعث بن قيس الكندي سمَّت الحسن بن عليّعليه‌السلام وسمَّت مولاة له، فأما

____________________

(١) أي ازلنا عنك العتبة (اي الشدائد).

٧٥

مولاته فقاءت السم، واما الحسن فاستمسك في بطنه ثم انتفط(١) به، فمات.

قلت: جعدة بنت الأشعث بن قيس، كانت ابنة ام فروة، اخت ابي بكر بن ابي قحافة.

رُوي ان معاوية بذل لها عشرة آلاف دينار، واقطاع عشرة ضياع من سقي سوراء(٢) وسواد الكوفة على ان تسم الحسنعليه‌السلام .

وقال الشيخ المفيد ضمن معاوية ان يزوجها بابنه يزيد، وأرسل اليها معاوية الف درهم، فسقته جعدة السم، فبقي اربعين يوماً مريضاً، ومضى لسبيله في صفر.

وذكر ابو الفرج في مقاتل الطالبيين ان الحسن بن عليّعليه‌السلام بعد صلحه لمعاوية انصرف الى المدينة، فأقام بها وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد، فلم يكن شيء اثقل عليه من امر الحسن بن عليعليه‌السلام ، وسعد بن(٣) أبي وقاص، فدس اليهما سما فماتا منه.

الاحتجاج، عن الاعمش، عن سالم بن ابي الجعد، قال: حدثني رجل منا قال: اتيت الحسن بن عليعليه‌السلام ، فقلت: يا ابن رسول اللّه اذللت رقابنا وجعلتنا معشر الشيعة عبيداً، ما بقي معك رجل، قال: ومم ذاك قال: قلت: بتسليمك الأمر لهذا الطاغية(٤) قال: واللّه ما سلّمت الأمر اليه الا أني لم اجد انصاراً، ولو وجدت انصاراً لقاتلته ليلي ونهاري حتى

____________________

(١) نفط القدر (بالكسر) أي غلت، نفط يده: قرحت او تجمع فيها بين الجلد واللحم.

(٢) سوراء: بالمد والضم: موضع. قيل في جنب بغداد و يروى بالقصر (مراصد الاطلاع).

(٣) من اصحاب رسول اللّه. وكان من العشرة المبشرة بالجنة بزعمهم وكان فاتح فارس على عهد عمر. والرجل وان لم يبايع علياً الا انه لم يسبه وقد دعاه اليه معاوية مراراً. فخالفه واعلن بفضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام .

(٤) يعني به معاوية.

٧٦

يحكم اللّه بيني وبينه. ولكني عرفت اهل الكوفة وبلوتهم(١) ، ولا يصلح لي منهم ما كان فاسداً، انهم لا وفاء لهم، ولا ذمة(٢) في قول ولا فعل، إنهم لمختلفون، ويقولون لنا: ان قلوبهم معنا وان سيوفهم لمشهورة(٣) علينا، قال: وهو يكلمني: اذ تنخع الدم فدعا بطست، فحمل من بين يديه ملآن مما خرج من جوفه من الدم، فقلت له: ما هذا يا ابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اني لأراك وجعاً قال أجل، دسّ إليّ هذا الطاغية من سقاني سمّاً، فقد وقع على كبدي فهو يخرج قطعاً كما ترى، قلت له: افلا تتداوى قال: قد سقاني مرتين وهذه الثالثة لا اجد لها دواء.

وروى الثقة الجليل عليّ بن محمد الخزاز القمي بسنده عن جنادة بن أبي اميّة، قال: دخلت على الحسن بن عليّ بن ابي طالبعليه‌السلام في مرضه الذي توفّي فيه، وبين يديه طست يقذف عليه الدم، ويخرج كبده قطعة قطعة من السم الذي اسقاه معاوية، فقلت: يا مولاي مالك لا تعالج نفسك فقال: يا عبد اللّه بماذا اعالج الموت، قلت: انا للّه وإنا اليه راجعون. ثم التفت اليّ فقال: واللّه لقد عهد الينا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان هذا الامر يملكه اثنا عشر اماماً من ولد عليّ وفاطمة، ما منا الا مسموم او مقتول. ثم رُفعت الطست وبكى قال، فقلت له: عظني يا ابن رسول اللّه قال: نعم استعد لسفرك وحصّل زادك قبل حلول اجلك، واعلم انك تطلب الدنيا والموت يطلبك، ولا تحمل هم يومك الذي لم يأت على يومك الذي انت فيه، وساق الكلام في ذكر موعظتهعليه‌السلام الى أن قال: ثم انقطع نفسه واصفر لونه حتى خشيت عليه ودخل الحسينعليه‌السلام ، والاسود بن ابي الاسود، فانكب(٤) ، عليه حتى قبّل رأسه وعينيه، ثم قعد عنده فتسارا جميعاً، فقال ابو الأسود: إنا للّه ان الحسن قد نُعَيت اليه نفسه، وقد أوصى الى الحسينعليه‌السلام ، وتوفّي يوم

____________________

(١) أي امتحنتهم.

(٢) أي الامان والعهد.

(٣) شهر سيفه: أي اخرجه من الغمد.

(٤) أي لزمه.

٧٧

الخميس في آخر صفر سنة خمسين من الهجرة وله سبعة واربعون سنة ودفن بالبقيع انتهى.

قلت: ومما اوصىعليه‌السلام الى اخيه الحسينعليه‌السلام ان قال: اذا انا متُّ فهيئني ثم وجهني الى قبر جدّي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأجدّد به عهداً، ثم ردني الى قبر جدتي فاطمة(١) فادفني هناك، وستعلم يا ابن امي ان القوم يظنون انكم تريدون دفني عند رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيجلبون(٢) في ذلك ويمنعونك منه، وباللّه اقسم عليك ان تهرق في امري محجمة(٣) دم، ثم وصى اليه باهله وولده، وتركاته، وما كان وصى اليه أمير المؤمنينعليه‌السلام ، حين استخلفه، فلما قبض (سلام اللّه عليه) غسله(٤) الحسينعليه‌السلام وكفنه وحمله على سريره وانطلق به الى مصلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان يصلي فيه على الجنائز، فصلى عليه ولم يشك مروان ومن معه من بني امية انهم سيدفنونه عند رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتجمعوا ولبسوا السلاح فلما توجه به الحسينعليه‌السلام الى قبر جده رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ليجدد به عهداً، اقبلوا اليه في جمعهم ولحقتهم الحميراء، على بغل، وهي تقول: مالي ولكم تريدون ان تدخلوا بيتي من لا أحبُّ، نحُّوا ابنكم عن بيتي فانه لا يدفن فيه شيء ولا يهتك على رسول اللّه حجابه:

منعته عن حرم النَّبي ضلالةً

وهو ابنهُ فلأيِّ امر يمنعُ

فكأنه روحُ النبَّي وقد رأت

بالبعد بينهما العلائق تقطعُ

____________________

(١) أي فاطمة بنت الاسد يعني ام ابيه أمير المؤمنين.

(٢) أي يتوعدون بالشر.

(٣) الة الحجامة وهي شيء كالكأس يفرغ من الهواء ويوضع على الجلد فيحدث فيه تهيجاً ويجذب الدم بقوة.

(٤) وفي كشف الغمة ولي غسله الحسين عليه السلام ومحمد والعباس واخوته وصلى عليه سعيد بن العاص.

٧٨

فقال لها الحسينعليه‌السلام : قديما هتكت انت وابوك حجاب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأدخلت بيته من لا يحب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قربه، وان اللّه تعالى يسألك عن ذلك، وجعل مروان يقول: يا رب هيجاء هي خير من دعة ايدفن عثمان في اقصى المدينة، ويدفن الحسن مع النبي، لا يكون ذلك ابدا، وانا(١) احمل السيف، وكادت الفتنة ان تقع بين بني هاشم وبين بني امية، فبادر ابن عباس الى مروان فقال له: ارجع يا مروان من حيث جئت فإنّا ما نريد دفن صاحبنا عند رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكنا نريد ان نجدد به عهداً بزيارته ثم نرده الى جدته فاطمة فندفنه عندها بوصيته بذلك، ولو كان اوصى بدفنه مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلمت انك اقصر باعاً من ردنا عن ذلك لكنه كان أعلم باللّه وبرسوله وبحرمة قبره من ان يطرق عليه هدما كما طرق ذلك غيره، ودخل بيته بغير اذنه، وفي المناقب ورموا(٢) بالنبال جنازته حتى سل(٣) منها سبعون نبلاً.

وفي زيارة امير المؤمنين: وانتم بين صريع في المحراب قد فلق السيف هامته(٤) وشهيد فوق الجنازة قد شكت بالسهام اكفانه وقتيل بالعراء(٥) قد رفع فوق القناة رأسه ومكبل(٦) في السجن قد رضّت(٧) بالحديد اعضاؤه ومسموم قد قطعت بجرعة السم امعاؤه.

(اقول شكت بالشين بعدها الكاف أي خرقت وشبكت بالموحدة بينهما تصحيف، ففي الحديث ان رجلا دخل بيته فوجد حية فشكها بالرمح أي خرقها وانتظمها به).

____________________

(١) لفظ الواو هنا للحال.

(٢) الواو للعطف على ما سبق.

(٣) سل الشيء من الشيء: انتزعه واخرجه برفق.

(٤) الهامة: راس كل شيء وتطلق على الجثة.

(٥) العراء: الفضاء لا يستتر بشيء.

(٦) أي مقيد. والكبل بالفتح او الكسر: القيد، او اعظم ما يكون من القيد.

(٧) أي دقت.

٧٩

«وقال الشاعر في رثاء الحسنعليه‌السلام »:

نعش له الروحُ الأمينُ مشيِّع

وغدت به زمرُ الملائكِ تخضعُ

نَثَلوا له حقد الصدورِ فما يُرى

منها لِقوس بالكنانةِ منزعُ

ورموا جنازتَه فعادَ وجسمُهُ

غرض لراميةِ السهامِ وموقعُ

شكّوة حتى اصبحت من نعشهِ

تستلُّ غاشيةُ النبالِ وتنزعُ

روى المسعودي في مروج الذهب عن أهل البيتعليهم‌السلام ، انه لما دفن الحسنعليه‌السلام ، وقف محمد بن الحنفية اخوه على قبره فقال: ابا محمد لئن طابت حياتك، لقد فجع مماتك، وكيف لا تكون كذلك وانت خامس اهل الكساء، وابن محمد المصطفى، وابن عليّ المرتضى، وابن فاطمة الزهراء، وابن شجرة طوبى ثم انشأ يقول:

ءأدَهن رأسي ام تطيب مجالسي

وخدك معفور(٣) وأنت سليبُ(٤)

ءاَشرب ماءَ المزنِ(٥) من غير مائِهِ

وقد ضمن الاحشاءَ منكَ لهيبُ

سأبكيكَ ما ناحتْ حمامةُ ايكةٍ(٦)

وما اخضرّ في دوح(٧) الحجازِ قضيبُ(٨)

غريب(٩) واكناف الحجازِ تحوطهُ

الا كلّ من تحت الترابِ غريبُ

وفي المناقب، وقال الحسينعليه‌السلام لما وضع الحسنعليه‌السلام في لحده:

ءَاَدهن رأسي ام اطيب محاسني

ورأسك معفور وأنت سليب

____________________

(١) أي مجعول عليه التراب ومغبرة به.

(٢) أي مأخوذ عنا.

(٣) أي السحاب.

(٤) الشجر الكثير الاغصان.

(٥) الشجرد العظيمة او البيت الضخم. والمراد هنا الروض.

(٦) الشجرة الرطبة.

(٧) أي انت غريب.

٨٠

ثانياً: الانحراف السياسي

اتّبع الحكّام الأمويون سياسة من سبقهم في تحويل الخلافة إلى ملك يتوارثه الأبناء عن الآباء دون سابقة علم أو تقوى، وتوزيع المناصب المهمّة والحسّاسة في الدولة على أبنائهم وأقربائهم والمتملقين لهم، واستبدوا بالأمر فلا شورى ولا استشارة إلاّ مع المنحرفين والفسّاق من بطانتهم. ولشعورهم بعدم الأحقية بالخلافة استمروا على نهج من سبقهم في اتخاذ الإرهاب والتنكيل وسيلة لتثبيت سلطانهم، فحينما وجد الوليد بن عبد الملك أنّ ولاية عمر بن عبد العزيز على مكة والمدينة قد أصبحت ملجأً للهاربين من ظلم بقية الولاة، قام بعزله(١) تنكيلاً منه بالمعارضين وارهابهم وغلق منافذ السلامة أمامهم.

وكان سليمان بن عبد الملك محاطاً بثُلّة من الرجال الذين عرفوا بفسقهم وانحرافهم وسوء سيرتهم كما وصفهم أعرابيّ عنده، بعد أن أخذ منه الأمان، فقال له: يا أمير المؤمنين، أنه قد تكنّفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياهم بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، حرب للآخرة وسلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما يأمنك الله عليه، فإنّهم لم يأتوا إلاّ ما فيه تضييع وللأمة خسف وعسف، وأنت مسؤول عما اجترموا،

ــــــــــــــ

(١) الكامل في التاريخ: ٤ / ٥٧٧.

٨١

وليسوا مسؤولين عمّا اجترمت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك(١) .

واتّبع أبناء عبد الملك الوليد وسليمان سيرة أبيهم، والتزموا بوصيته في قتل الرافضين للبيعة، والتي جاء فيها: ادع الناس إلى البيعة، فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا(٢) .

وأقرّ كثير من الفقهاء سياسة الحكّام الأمويين خوفاً أو طمعاً أو استسلاماً للأمر الواقع، فقد أقرّوا ما ابتدعوا من ممارسات في تولية الحكم كالعهد إلى اثنين أو أكثر، فقد عهد سليمان بالحكم إلى عمر بن عبد العزيز ومن بعده ليزيد بن عبد الملك، فأقرّ كثير من الفقهاء ذلك، حتى أصبحت نظرية من نظريات تولّي الحكم(٣) .

وحينما تولّى عمر بن عبد العزيز الحكم حدث انفراج نسبي في السياسة الأُموية، كما لاحظنا، وقام ببعض الإصلاحات ومنح الحرية النسبية للمعارضين، وألغى بدعة سبّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام وردّ إلى أهل البيتعليهم‌السلام بعض حقوقهم، واعترف بالممارسات الخاطئة لأسلافه من الحكّام، حتى امتدحه الإمام الباقرعليه‌السلام على ذلك(٤) .

ولكن حكمه لم يدم طويلاً ; إذ عاد الوضع إلى ما كان عليه.

وامتازت هذه المرحلة بسرعة تبدّل الحكّام، فقد حكم سليمان ثلاث سنين، وحكم عمر بن عبد العزيز ثلاث سنين أو أقل، وحكم يزيد بن عبد الملك أربع سنين، وكان كل حاكم ينشغل بالإجهاز على ولاة من سبقه، وكثرت الاختلافات في داخل البيت الأُموي تنافساً على الحكم، كما كثرت

ــــــــــــــ

(١) الكامل في التاريخ: ٣ / ١٧٨.

(٢) البداية والنهاية: ٩ / ١٦١.

(٣) الأحكام السلطانية: ١٣، الماوردي.

(٤) الكامل في التاريخ: ٥ / ٦٢.

٨٢

الفتن الداخلية في عهدهم، حتى قام قتيبة بن مسلم بخلع سليمان والاستقلال في خراسان(١) .

وقام يزيد بن المهلب في سنة ( ١٠١ هـ ) بخلع يزيد بن عبد الملك وجهّز إليه يزيد من قتله وقتل أتباعه.

وأحاط يزيد نفسه بالمتملّقين الذين يبررون له انحرافاته حتى أفتوا له أنه ليس على الخلفاء حساب(٢) .

وهكذا كانت الأمة الإسلامية محاطة بالمخاطر من كل جانب، ففي سنة ( ١٠٤ هـ ) ظفر الخزر بالمسلمين وانتصروا عليهم في بعض الثغور.

وفي عهد هشام بن عبد الملك ازداد الإرهاب والتنكيل بأهل البيتعليهم‌السلام وأتباعهم وسائر المعارضين، حتى اجترأ هشام بن عبد الملك على سجن الإمام الباقرعليه‌السلام وأقدم على اغتياله(٣) . وأصدر أوامره بقتل بعض أتباع الإمام الباقرعليه‌السلام إلاّ أنّ الإمام استطاع أن ينقذهم من القتل(٤) .

والتجأ الكثير إلى العمل السرّي للإطاحة بالحكم الأُموي، فكان العباسيون يعدّون العدّة ويبثون دعاتهم في الأقاليم البعيدة عن مركز الحكومة وخصوصاً في خراسان، وأخذ زيد ابن الإمام زين العابدينعليه‌السلام يعدّ العدّة للثورة على الأمويين في وقتها المناسب، لأنّ الأمويين كانوا قد أحصوا أنفاس الناس عليهم لكي لا يتطرقوا إلى انحرافاتهم السياسية أو يعلنوا عن معارضتهم لها.

ــــــــــــــ

(١) تاريخ ابن خلدون: ٥ / ١٥١.

(٢) البداية والنهاية: ٩ / ٢٣٢.

(٣) مناقب آل أبي طالب: ٤ / ٢٠٦.

(٤) بحار الأنوار: ٤٦ / ٢٨٣.

٨٣

ثالثاً: الانحراف الأخلاقي

لقد حوّل الأمويون الأنظار إلى الغزوات، وحشّدوا جميع الطاقات البشريّة والمادّية باتجاه الغزوات; وذلك من أجل إشغال المسلمين عن التحدّث حول الأوضاع المنحرفة، وعن التفكير في العمل السياسي أو الثوري لاستبدال نظام الحكم بغيره، ولم يكن هدفهم نشر مفاهيم وقيم الإسلام كما يتصوّر البعض ذلك، لأنّهم كانوا قد خالفوا هذه المفاهيم والقيم في سياستهم الداخلية، وداسوا كثيراً من المقدسات الإسلامية، وشجّعوا على الانحرافات الفكرية.

وأدّى توسّع عمليات الفتح والغزو إلى خلق الاضطرابات في المجتمع الإسلامي وتشتيت الأُسر بغياب المعيل أو فقدانه، كما كثرت الجواري والغلمان ممّا أدّى إلى التشجيع على الانحراف باقتناء الأثرياء للجواري المغنّيات وتملك المخنثين، وانتقل الانحراف من البلاط إلى الأمة تبعاً لانحراف الحكّام وفسقهم، فقد انشغلوا باللهو والانسياق وراء الشهوات دون حدود أو قيود حتى كثر الغزل والتشبيب بالنساء في عهد الوليد بن عبد الملك بشكل خاص(١) .

وكانت همّة سليمان بن عبد الملك في النساء، وانعكس ذلك على المجتمع حتى كان الرجل يلقى صاحبه فيقول له: كم تزوجت ؟ وماذا عندك من السراري ؟(٢) .

وقد وصف أبو حازم الأعرج الوضع الاجتماعي والأخلاقي مجيباً سليمان بن عبد الملك على سؤاله: ما لنا نكره الموت؟ بقوله: لأنكم عمّرتم

ــــــــــــــ

(١) الأغاني: ٦ / ٢١٩.

(٢) البداية والنهاية: ٩ / ١٦٥.

٨٤

دنياكم وأخربتم آخرتكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب(١) .

وكان سليمان يسابق بين المغنيين ويمنح السابقين الجوائز الثمينة(٢) ، ويجزل العطاء للمغنيات. كما ازداد عدد المخنثين في عهده(٣) .

وأقبل يزيد بن عبد الملك على شرب الخمر واللهو(٤) ، ولم يتب من الشراب إلاَّ أسبوعاً حتى عاد إليه بتأثير من جاريته حبّابة(٥) .

وكان يقول: ما يقرّ عيني ما أوتيت من أمر الخلافة حتى اشتري سلامة وحبّابة فأرسل من يشتريهما له(٦) .

وهكذا وصل الانحراف إلى ذروته، حينما أصبح اللهو والمجون من أولى هموم حكّام الدولة.

وليس غريباً أن تنحرف الأمة بانحراف حكامها وولاتهم وأجهزة الدولة، وبهذا الانحراف كانت تبتعد الأغلبية من الناس عن الأهداف الكبرى التي حددها المنهج الإسلامي، ولا تكترث بالأحداث والمخاطر المحيطة بالوجود الإسلامي.

رابعاً: الانحراف في الميدان الاقتصادي

لقد تصرّف الحكّام بالأموال العامّة وكأنّها ملك شخصي لهم، فكانوا ينفقونها حسب رغباتهم وأهوائهم، على ملذاتهم وشهواتهم وكان للجواري والمغنيين نصيب كبير في بيت المال، كما كانوا ينفقون الأموال لشراء الذمم

ــــــــــــــ

(١) مروج الذهب: ٣ / ١٧٧.

(٢) الأغاني: ١ / ٣١٧.

(٣) المصدر السابق: ٤ / ٢٧٢.

(٤) مروج الذهب: ٣ / ١٩٦.

(٥) الأغاني: ١٥ / ٢٩٥.

(٦) المصدر السابق: ٨ / ٣٤٦.

٨٥

والضمائر، ويمنحونها لمن يشترك في تثبيت سلطانهم أو مدحهم والثناء عليهم، فقد مدح النابغة الشيباني يزيد بن عبد الملك فأمر له بمائة ناقة، وكساه وأجزل صلته(١) .

فتنافس الشعراء فيما بينهم للحصول على مزيد من الأموال كما تنافس المغنّون لنيل الهدايا من الحكام أو ولاتهم.

وكان الحكّام يعيشون في أعلى مراتب الترف والبذخ، ويبذّرون أموال المسلمين على لهوهم وشهواتهم، وعلى المقربين لهم، في وقت كان كثير من الناس يعيشون حياة الفقر والجوع والحرمان.وازداد التمييز الطبقي حينما عُطِّل مبدأ التكافل الاجتماعي، ولم تكترث الدولة بمعاناة الناس وهمومهم ولم تتدخل في الحث على الإنفاق.

وقد ضاعف الحكّام من الضرائب، فأضافوا ضرائب جديدة على الصناعات والحرف وخصوصاً في عهد هشام بن عبد الملك، الذي كان ينفق ما تجمّع لديه على الشعراء المادحين له(٢) .

وقد وصف سليمان بن عبد الملك حالات الترف والمجون التي وصلوا إليها قائلاً: قد أكلنا الطيب، ولبسنا اللين، وركبنا الفاره، ولم يبق لي لذة إلاّ صديق أطرح معه فيما بيني وبينه مؤنة التحفظ(٣) .

وهكذا انساق الناس ـ وخصوصاً ـ أتباع الأمويين وراء شهواتهم ورغباتهم، وانشغل الكثير في السعي للحصول على الأموال بأي وجه أمكن.

ــــــــــــــ

(١) الأغاني: ٧ / ١٠٩.

(٢) المصدر السابق: ١ / ٣٣٩.

(٣) مروج الذهب: ٣ / ٧٦.

٨٦

الفصل الثالث: دور الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام في إصلاح الواقع الفاسد

على الرغم من انحراف الحكّام وأجهزتهم الإدارية والسياسية عن المبادئ الثابتة التي أرسى دعائمها القرآن الكريم والسنّة النبويّة; إلاّ أنّ القاعدة الفكرية والتشريعية للدولة بقيت متبنّاةً من قبل الحاكم وأجهزته في مظاهرها العامة، وعلى ضوء ذلك فإنّ دور الإمامعليه‌السلام كان دوراً إصلاحياً لإعادة الحاكم وأجهزته وإعادة الأمة إلى الاستقامة في العقيدة والشريعة، وجعل الإسلام بمفاهيمه وقيمه هو الحاكم على الأفكار والعواطف والمواقف.

وكان أسلوب الإمامعليه‌السلام الإصلاحي متفاوتاً تبعاً لتفاوت الظروف التي كانت تحيط به، وبالحكم القائم، وبالأمة المسلمة.

لقد كان الإمامعليه‌السلام مقصد العلماء من كل بلاد العالم الإسلامي. وما زار المدينة أحد إلاّ عرّج على بيته يأخذ من فضائله وعلومه، وكان يقصده كبار رجالات الفقه الإسلامي: كسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وأبي حنيفة.

وكان دورهعليه‌السلام في الإصلاح يتركّز على اتجاهين متزامنين:

الاتجاه الأول: التحرك في أوساط الأمة وعموم الناس، بما فيهم المسلمون وأصحاب الديانات الأخرى، فضلاً عن التحرك على الحكّام وأجهزتهم لإعادتهم إلى خطّ الاستقامة أو الحدّ من انحرافاتهم وحصرها في نطاق محدود.

الاتجاه الثاني: بناء الجماعة الصالحة لتقوم بدورها في إصلاح الأوضاع العامة للأمة وللدولة طبقاً للأسس والقواعد الثابتة التي أرسى دعائمها أهل البيتعليهم‌السلام بما ينسجم مع القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة.

٨٧

محاور الحركة الإصلاحية العامّة للإمام الباقر عليه‌السلام

أوّلاً: الإصلاح الفكري والعقائدي

من الأزمات التي خلّفتها سيرة الحكّام السابقين هي أزمة ارتباك المفاهيم وما رافقها من تقليد وسطحية في الفكر، فلم تتجلّ حقيقة التصور الإسلامي عند الكثير من المسلمين لكثرة التيارات الهدّامة ونشاطها في تحريف المفاهيم السليمة وتزييف الحقائق، فكان دور الإمامعليه‌السلام هو حمل النفوس على التمحيص لتمييز ما هو أصيل من العقيدة عمّا هو زيف، وعلى تحكيم الأفكار والمفاهيم الأصيلة في عالم الضمير وعالم السلوك على حد سواء، والاستقامة على المنهج الذي يريده الله تعالى للإنسان.

وقد مارس الإمامعليه‌السلام عدة نشاطات لإصلاح الأفكار والعقائد، نشير إلى أهمّها كما يلي:

١ ـ الردّ على الأفكار والعقائد الهدّامة والمذاهب المنحرفة

وجد المنحرفون لأفكارهم وعقائدهم الهدّامة أوساطاً تتقبّلها وتروّج لها ـ جهلاً أو طمعاً أو تآمراً على الإسلام الخالد ـ وفي عهد الإمام الباقرعليه‌السلام نشطت حركة الغلاة بقيادة المغيرة بن سعيد العجلي.

٨٨

روى علي بن محمد النوفلي أن المغيرة استأذن على أبي جعفرعليه‌السلام

وقال له: أخبر الناس أنّي أعلم الغيب، وأنا أطعمك العراق، فزجره الإمامعليه‌السلام زجراً شديداً وأسمعه ما كره فانصرف عنه، ثم أتى أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية فقال له مثل ذلك، فوثب عليه، فضربه ضرباً شديداً أشرف به على الموت، فلمّا برئ أتى الكوفة وكان مشعبذاً فدعا الناس إلى آرائه واستغواهم فاتّبعه خلق كثير(١) .

واستمرّ الإمامعليه‌السلام في محاصرة المغيرة والتحذير منه وكان يلعنه أمام الناس ويقول:(لعن الله المغيرة بن سعيد كان يكذب علينا) (٢) .

ولعنعليه‌السلام بقية رؤساء الغلاة ومنهم بنان التبّان، فقال:(لعن الله بنان التبّان، وإن بناناً لعنه الله كان يكذب على أبي) (٣) .

وكانعليه‌السلام يحذّر المسلمين وخصوصاً أنصار أهل البيتعليهم‌السلام من أفكار الغلو، ويرشدهم إلى الاعتقاد السليم، بقوله:(لا تضعوا عليّاً دون ما وضعه الله، ولا ترفعوه فوق ما رفعه الله) (٤) .

وكانعليه‌السلام يخاطب أنصاره قائلاً:(يا معشر الشيعة شيعة آل محمد كونوا النمرقة الوسطى: يرجع إليكم الغالي، ويلحق بكم التالي) (٥) .

وحذّرعليه‌السلام من المرجئة ولعنهم حين قال:(اللهمّ العن المرجئة فإنهم أعداؤنا في الدنيا والآخرة) (٦) .

وكانعليه‌السلام يحذّر من أفكار المفوضة والمجبرة. ومن أقواله في ذلك:(إيّاك

ــــــــــــــ

(١) شرح نهج البلاغة: ٨ / ١٢١.

(٢) بحار الأنوار: ٢٥ / ٢٩٧.

(٣) المصدر السابق: ٢٥ / ٢٩٧.

(٤) المصدر السابق: ٢٥ / ٢٨٣.

(٥) المصدر السابق: ٦٧: ١٠١.

(٦) المصدر السابق: ٤٦ / ٢٩١.

٨٩

أن تقول بالتفويض! فإنّ الله عَزَّ وجَلَّ لم يفوّض الأمر إلى خلقه وهناً وضعفاً، ولا أجبرهم على معاصيه ظلماً) (١) .

وفي عرض هذا الردّ القاطع الصريح كان الإمامعليه‌السلام يبيّن الأفكار السليمة حول التوحيد لكي تتعرف الأمة على عقيدتها السليمة.

وكان ممّا ركّز عليه الإمامعليه‌السلام في هذا المجال بيان مقومات التوحيد ونفي التشبيه والتجسيم لله تعالى.

قالعليه‌السلام :(يا ذا الذي كان قبل كل شيء، ثم خلق كل شيء، ثم يبقى ويفنى كلّ شيء، ويا ذا الذي ليس في السموات العلى ولا في الأرضين السفلى، ولا فوقهنّ، ولا بينهنّ ولا تحتهنّ إله يعبد غيره) (٢) .

وفي جوابهعليه‌السلام للسائلين عن جواز القول بأنّ الله موجود، قال:(نعم، تخرجه من الحدّين: حدّ الإبطال، وحدّ التشبيه) (٣) .

وقالعليه‌السلام :(إن ربّي تبارك وتعالى كان لم يزل حيّاً بلا كيف، ولم يكن له كان، ولا كان لكونه كيف، ولا كان له أين، ولا كان في شيء، ولا كان على شيء، ولا ابتدع له مكاناً) (٤) .

كما ركّز الإمام الباقرعليه‌السلام على العبودية الخالصة لله ونهى عن الممارسات التي تتضمّن الشرك بالله تعالى.قالعليه‌السلام :(لو أن عبداً عمل عملاً يطلب به وجه الله عزّ جلّ والدار الآخرة، فأدخل فيه رضى أحد من الناس كان مشركاً) (٥) .

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٥ / ٢٩٨.

(٢) المصدر السابق: ٣ / ٢٨٥.

(٣) المصدر السابق: ٣ / ٢٦٥.

(٤) المصدر السابق: ٣ / ٣٢٦.

(٥) المصدر السابق: ٦٩ / ٢٩٧.

٩٠

كما دعا إلى الانقطاع الكامل لله تعالى بقوله:(لا يكون العبد عابداً لله حق عبادته; حتى ينقطع عن الخلق كلّه إليه) (١) .

ونهى الإمامعليه‌السلام عن التكلم في ذات الله تعالى، وذلك لأنّ الإنسان المحدود لا يحيط بغير المحدود فلا ينفعه البحث عن الذات اللامحدودة إلاّ بُعداً، ومن هنا كان التكلم عن ذاته تعالى عبثاً لا جدوى وراءه، فنهىعليه‌السلام عن ذلك، وحذّر منه بقوله:(إن الناس لا يزال لهم المنطق، حتى يتكلموا في الله، فإذا سمعتم ذلك فقولوا: لا اله إلاّ الله الواحد الذي ليس كمثله شيء) (٢) .

وممّا ركّز عليه الإمام الباقرعليه‌السلام الردع من اتّباع المذاهب المنحرفة والأفكار الهدّامة هو بيان عاقبة أهل الشبهات والأهواء والبدع، واستهدف الإمامعليه‌السلام من التركيز على عاقبة المنحرفين فكرياً وعقائدياً إبعاد المسلمين عن التأثر بهم، وإزالة حالة الأنس والألفة بينهم وبين الأفكار والعقائد المنحرفة.

قالعليه‌السلام في تفسير قوله تعالى:( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) : هم النصارى والقسيسون والرهبان وأهل الشبهات والأهواء من أهل القبلة والحرورية وأهل البدع(٣) .

٢ ـ الحوار مع المذاهب والرموز المنحرفة

يعتبر الحوار إحدى الوسائل التي تقع في طريق إصلاح الناس، حيث تزعزع المناظرة الهادفة والحوار السليم الأفكار والمفاهيم المنحرفة.

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٦٧ / ٢١١.

(٢) المصدر السابق: ٣ / ٢٦٤.

(٣) المصدر السابق: ٢ / ٢٩٨.

٩١

من هنا قام الإمامعليه‌السلام بمحاورة بعض رؤوس المخالفين، لتأثيرهم الكبير على أتباعهم لو صلحوا واستقاموا على الحقّ. وإليك بعض مناظراته:

مع علماء النصارى: حينما أخرج هشام بن عبد الملك الإمامعليه‌السلام من المدينة إلى الشام كانعليه‌السلام يجلس مع أهل الشام في مجالسهم، فبينا هو جالس وعنده جماعة من الناس يسألونه، اذ نظر إلى النصارى يدخلون في جبل هناك، فسأل عن حالهم، فأُخبر أنهم يأتون عالماً لهم في كل سنة في هذا اليوم يسألون عمّا يريدون وعمّا يكون في عامهم، وقد أدرك هذا العالم أصحاب الحوارييّن من أصحاب عيسىعليه‌السلام ، فقال الإمامعليه‌السلام : فهلمّ نذهب إليه؟ فذهبعليه‌السلام إلى مكانهم، فقال له النصراني: أسألك أو تسألني؟ قالعليه‌السلام : تسألني، فسأله عن مسائل عديدة حول الوقت، وحول أهل الجنّة، وحول عزرة وعزير، فأجابهعليه‌السلام عن كل مسألة.

فقال النصراني: يا معشر النصارى، ما رأيت أحداً قطّ أعلم من هذا الرجل لا تسألوني عن حرف وهذا بالشام ردّوني فردّوه إلى كهفه، ورجع النصارى مع الإمامعليه‌السلام .

وفي رواية: أنّه أسلم وأسلم معه أصحابه على يد الإمامعليه‌السلام (١) .

مع هشام بن عبد الملك: ناظره هشام بن عبد الملك في مسائل متنوعة تتعلق بمقامات أهل البيتعليهم‌السلام ، وميراثهم لعلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وادعاء الإمام عليعليه‌السلام علم الغيب، فأجابه الإمامعليه‌السلام عن مسائله المتنوعة وناظره في إثبات مقامات أهل البيتعليهم‌السلام مستشهداً بالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة،

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٦ / ٣١٣ ـ ٣١٥.

٩٢

فلم يستطع هشام أن يردّ عليه، وناظره في مواضع أخرى، فقال له هشام: (أعطني عهد الله وميثاقه ألاّ ترفع هذا الحديث إلى أحد ما حييت)، قال الإمام الصادقعليه‌السلام :فأعطاه أبي من ذلك ما أرضاه (١) .

وقد ذكرنا تفصيل المناظرتين في بحث سابق فراجع(٢) .مع الحسن البصري: قال له الحسن البصري: جئت لأسألك عن أشياء من كتاب الله تعالى.

وبعد حوار قصير قال لهعليه‌السلام :بلغني عنك أمر فما أدري أكذاك أنت؟ أم يُكذب عليك؟ قال الحسن: ما هو ؟

قالعليه‌السلام :زعموا أنّك تقول: إنَّ الله خلق العباد ففوّض إليهم أمورهم .

فسكت الحسن... ثمّ وضّح له الإمامعليه‌السلام بطلان القول بالتفويض وحذّره قائلاً:وإيّاك أن تقول بالتفويض، فإنّ الله عَزَّ وجَلَّ لم يفوّض الأمر إلى خلقه، وهناً منه وضعفاً، ولا أجبرهم على معاصيه ظلماً (٣) .

ولهعليه‌السلام مناظرات مع محمد بن المنكدر ـ من مشاهير زهاد ذلك العصر ـ ومع نافع بن الأزرق أحد رؤساء الخوارج، ومع عبد الله بن معمر الليثي، ومع قتادة بن دعامة البصري(٤) واحتجاجات لا يتحمّل شرحها هذا المختصر.

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٦ / ٣١٣ ـ ٣١٥.

(٢) راجع مبحث: ملامح وأبعاد هامة في عصر الإمام الباقرعليه‌السلام .

(٣) الاحتجاج: ٢/١٨٤.(٤) أعيان الشيعة: ١/٦٥٣ .

٩٣

٣ ـ إدانة فقهاء البلاط

جاء قتادة بن دعامة البصري إلى الإمامعليه‌السلام وقد هيّأ له أربعين مسألة ليمتحنه بها، فقال لهعليه‌السلام :أنت فقيه أهل البصرة؟ قال قتادة: نعم، فقالعليه‌السلام :(ويحك يا قتادة إن الله عَزَّ وجَلَّ خلق خلقاً، فجعلهم حججاً على خلقه، فهم أوتاد في أرضه، قوّام بأمره، نجباء في علمه اصطفاهم قبل خلقه) ، فسكت قتادة طويلاً، ثم قال: أصلحك الله، والله لقد جلست بين يدي الفقهاء، وقدّام ابن عباس، فما اضطرب قلبي قدّام أحد منهم ما اضطرب قدّامك(١) .

وأدان الإمام الباقرعليه‌السلام أبا حنيفة لقوله بالقياس، وعلّق الأستاذ محمد أبو زهرة على هذه الإدانة قائلاً: تتبيّن إمامة الباقر للعلماء، يحاسبهم على ما يبدو منهم، وكأنّه الرئيس يحاكم مرءوسيه ليحملهم على الجادة، وهم يقبلون طائعين تلك الرئاسة(٢) .

٤ ـ الدعوة إلى أخذ الفكر من مصادره النقيّة

لقد حذّر الإمامعليه‌السلام الناس من الوقوع في شراك الأفكار والآراء والعقائد المنحرفة، وحذّر من البدع وجعلها أحد مصاديق الشرك فقال:(أدنى الشرك أن يبتدع الرجل رأياً فيُحَبّ عليه ويبغَض) (٣) .

كما حذّر من الإفتاء بالرأي فقال:(من أفتى الناس بغير علم ولا هوى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه) (٤) .

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٦ / ٣٥٧.

(٢) تاريخ المذاهب الإسلامية: ٦٨٩.

(٣) المحاسن: ٢٠٧.

(٤) المصدر السابق: ٢٠٥.

٩٤

ومن هنا كان يدعو الناس إلى أخذ العلم والفكر من منابعه النقية وهم أهل البيت المعصومون من كل زيغ وانحراف. قالعليه‌السلام لسلمة بن كهيل وللحكم بن عتيبة:(شرّقا وغرِّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلاّ شيئاً خرج من عندنا) (١) .

وكان يحذّر من مجالسة أصحاب الخصومات ويقول:(لا تجالسوا أصحاب الخصومات، فإنهم يخوضون في آيات الله) (٢) .

كما كان يشجع على ذكر مقامات أهل البيتعليهم‌السلام وفضائلهم فإنّها من أسباب نشر الحق والفضيلة، فعن سعد الإسكاف، قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : إني أجلس فأقصّ، وأذكر حقكم وفضلكم. فقالعليه‌السلام :(وددت أن على كل ثلاثين ذراعاً قاصّاً مثلك) (٣) .

٥ ـ نشر علوم أهل البيتعليهم‌السلام

لقد فتح الإمامعليه‌السلام أبواب مدرسته العلمية لعامة أبناء الأمة الإسلامية، حتى وفد إليها طلاب العلم من مختلف البقاع الإسلامية، وأخذ عنه العلم عدد كبير من المسلمين بشتى اتّجاهاتهم وميولهم، منهم: عطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، والزهري، وربيعة الرأي، وابن جريج، والأوزاعي، وبسام الصيرفي(٤) ، وأبو حنيفة وغيرهم(٥) .

وفي ذلك قال عبد الله بن عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً

ــــــــــــــ

(١) الكافي: ١ / ٣٩٩.

(٢) كشف الغمّة: ٢ / ١٢٠.

(٣) رجال الكشي: ٢١٥.

(٤) سير أعلام النبلاء: ٤ / ٤٠١.

(٥) تاريخ المذاهب الإسلامية: ٣٦١.

٩٥

منهم عند أبي جعفر، لقد رأيت الحكم عنده كأنّه متعلم(١) .

وكانت أحاديثه مسندة عن آبائه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما كان يرسل الحديث ولا يسنده. وحينما سئل عن ذلك، قال:إذا حدّثت بالحديث فلم أسنده، فسندي فيه أبي زين العابدين عن أبيه الحسين الشهيد عن أبيه علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن جبرئيل عن الله عَزَّ وجَلَّ (٢) .

ثانياً: تأسيس المدرسة الفقهية النموذجية(٣)

لقد جهد الإمام الباقر وولده الصادقعليهما‌السلام على نشر الفقه الإسلامي وتبنّيا نشره بصورة إيجابية في وقت كان المجتمع الإسلامي غارقاً في الأحداث والاضطرابات السياسية، حيث أهملت الحكومات في تلك العصور الشؤون الدينية إهمالاً تاماً، حتى لم تعد الشعوب الإسلامية تفقه من أمور دينها القليل ولا الكثير، يقول الدكتور علي حسن: (وقد أدى تتبعنا للنصوص التاريخية إلى أمثلة كثيرة تدل على هذه الظاهرة ـ أي إهمال الشؤون الدينية ـ التي كانت تسود القرن الأول سواء لدى الحكام أو العلماء أو الشعب، ونعني بها عدم المعرفة بشؤون الدين، والتأرجح وعدم الجزم والقطع فيها حتى في العبادات، فمن ذلك ما روي أن ابن عباس خطب في آخر شهر رمضان على منبر البصرة فقال: اخرجوا صدقة صومكم فكان الناس لم يعلموا، فقال: من ها هنا من أهل المدينة؟ فقوموا إلى إخوانكم فعلموهم، فإنهم لا يعلمون فرض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) .

ــــــــــــــ

(١) مختصر تاريخ دمشق: ٢٣ / ٧٩.

(٢) إعلام الورى: ٢٩٤.

(٣) راجع حياة الإمام محمد الباقرعليه‌السلام ، باقر شريف القرشي ١/٢١٥ ـ ٢٢٦.

(٤) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: ٢ / ١٣١.

٩٦

فأهل البلاد الإسلامية لم يعرفوا شؤون دينهم معرفة كافية، وقد كان يوجد في بلاد الشام من لا يعرف عدد الصلوات المفروضة، حتى راحوا يسألون الصحابة عن ذلك(١) .

إن الدور المشرق الذي قام به الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام في نشر الفقه وبيان أحكام شريعة الله كان من أعظم الخدمات التي قدّماها للعالم الإسلامي.

وسعى إلى الأخذ من علومهما أبناء الصحابة والتابعون، ورؤساء المذاهب الإسلامية كأبي حنيفة ومالك وغيرهما، وتخرج على يد الإمام أبي جعفرعليه‌السلام جمهرة كبيرة من الفقهاء كزرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم وأبان بن تغلب، وإليهم يرجع الفضل في تدوين أحاديث الإمامعليه‌السلام وقد أصبحوا من مراجع الفتيا بين المسلمين، وبذلك أعاد الإمام أبو جعفرعليه‌السلام للإسلام نضارته وحافظ على ثرواته الدينية من الضياع والضمور.

ومن الجدير بالذكر أن الشيعة هم أول من سبق إلى تدوين الفقه فقد قال مصطفى عبد الرازق: (ومن المعقول أن يكون النزوع إلى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة لأن اعتقادهم العصمة في أئمتهم أو ما يشبه العصمة كان حرياً إلى تدوين أقضيتهم وفتاواهم)(٢) .

وبذلك فقد ساهمت الشيعة في بناء الصرح الإسلامي، وحافظت على أهم ثرواته... ولابد لنا من وقفة قصيرة للنظر في فقه أهل البيتعليهم‌السلام الذي هو مستمد من الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ــــــــــــــ

(١) سنن النسائي: ١ / ٤٢.

(٢) تمهيد لتأريخ الفلسفة الإسلامية: ص٢٠٢.

٩٧

مميّزات مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام الفقهيّة

١ ـ الاتصال بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والشيء المهم في فقه أهل البيتعليهم‌السلام هو أنه يتصل اتصالاً مباشراً بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فطريقه إليه أئمة أهل البيتعليهم‌السلام الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وجعلهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفن النجاة، وأمن العباد، وعدلاء الذكر الحكيم حسبما تواترت الأخبار بذلك.

قالعليه‌السلام :(لو أننا حدثنا برأينا ضللنا كما ضل من قبلنا، ولكنا حدثنا ببينة من ربنا بينها لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبينها لنا) (١) .

٢ ـ المرونة: إن فقه أهل البيت يساير الحياة، ويواكب التطور، ولا يشذ عن الفطرة ويتمشى مع جميع متطلبات الحياة، فليس فيه ـ والحمد لله ـ حرج ولا ضيق، ولا ضرر، ولا إضرار، وإنما فيه الصالح العام، والتوازن في جميع مناحي تشريعاته، وقد نال إعجاب جميع رجال القانون، واعترفوا بأنه من أثرى ما قنن في عالم التشريع عمقاً وأصالة وإبداعاً.

٣ ـ فتح باب الاجتهاد: إنّ من أهم ما تميز به فقه أهل البيتعليهم‌السلام هو فتح باب الاجتهاد، فقد دلّ ذلك على حيوية فقه أهل البيت، وتفاعله مع الحياة واستمراره في العطاء لجميع شؤون الإنسان، وإنه لا يقف مكتوفاً أمام الأحداث المستجدة التي يبتلى بها الناس خصوصاً في هذا العصر الذي برزت فيه كثير من الأحداث واستحدثت فيه كثير من الموضوعات، وقد أدرك كبار علماء المسلمين من الأزهر مدى الحاجة الملحّة إلى فتح باب الاجتهاد، ومتابعة الشيعة الإمامية في هذه الناحية.

ــــــــــــــ

(١) أعلام الورى: ٢٧٠.

٩٨

قال السيد رشيد رضا: (ولا نعرف في ترك الاجتهاد منفعة ما، وأمّا مضارّه فكثيرة، وكلها ترجع إلى إهمال العقل، وقطع طريق العلم، والحرمان من استغلال الفكر، وقد أهمل المسلمون كل علم بترك الاجتهاد، فصاروا إلى ما نرى)(١) .

٤ ـ الرجوع إلى حكم العقل: انفرد فقهاء الإمامية عن بقية المذاهب الإسلامية فجعلوا العقل واحداً من المصادر الأربعة لاستنباط الأحكام الشرعية، وقد أضفوا عليه أسمى ألوان التقديس فاعتبروه رسول الله الباطني، وإنه مما يُعبَد به الرحمن، ويكتَسب به الجنان. ومن الطبيعي ان الرجوع إلى حكم العقل إنّما يجوز إذا لم يكن في المسألة نص خاص أو عام وإلا فهو حاكم عليه، وإن للعقل مسرحاً كبيراً في علم الأصول الذي يتوقف عليه الاجتهاد.

ثالثاً: الإصلاح السياسي

استثمر الإمامعليه‌السلام بعض ظروف الانفراج السياسي النسبي من أجل بناء وتوسعة القاعدة الشعبية، وتسليحها بالفكر السياسي السليم المنسجم مع رؤية أهل البيتعليهم‌السلام ، وتعبئة الطاقات لاتخاذ الموقف المناسب في الوقت المناسب، ولهذا لم تنطلق أي ثورة علوية في عهده، لعدم اكتمال شروطها من حيث العدة والعدد.

وكان الإمامعليه‌السلام يقدّم للأمة المفاهيم والأفكار السياسية الأساسية مع الحيطة والحذر; وكانت له مواقف سياسية صريحة من بعض الحكام لإعادتهم إلى جادة الصواب.

وقد تجلّى دوره الإصلاحي في الممارسات التالية:

١ ـ الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحرّران الإنسان والمجتمع من ألوان الانحراف في الفكر والعاطفة والسلوك، ويحوّلان المفاهيم والقيم الإسلامية الثابتة إلى ممارسات سلوكية واضحة المعالم، تترجم فيها الآراء والنصوص إلى مشاعر وعواطف وأعمال وحركات وعلاقات متجسدة في الواقع لكي تكون الأمة والدولة بمستوى المسؤولية في الحياة، والمسؤولية هي حمل الأمانة الإلهية وخلافة الله تعالى في الأرض.

ــــــــــــــ

(١) الوحدة الإسلامية: ٩٩.

٩٩

ومن هنا جاءت تأكيدات الإمامعليه‌السلام على هذه الفريضة التي جعلها شاملة لجميع مرافق الحياة الإنسانية حيث قال:(إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصالحين، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم وتعمّر الأرض، وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر، فأنكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكّوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم...) (١) .

وحذّرعليه‌السلام من مغبّة التخليّ عن المسؤولية، ومداهنة المنحرفين حكّاماً كانوا أم من سائر أفراد الأمة فقال: (أوحى الله تعالى إلى شعيب النبيعليه‌السلام إنّي لمعذّب من قومك مائة ألف: أربعين ألفاً من شرارهم، وستين ألفاً من خيارهم، فقال: يا ربّ هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار ؟

فأوحى الله عَزَّ وجَلَّ إليه: إنهم داهنوا أهل المعاصي، ولم يغضبوا لغضبي)(٢) .

وحثعليه‌السلام على هذه المسؤولية وبيّن آثار التخلي عنها فقال:(الأمر

ــــــــــــــ

(١) تهذيب الأحكام: ٦ / ١٨٠.

(٢) المصدر السابق: ٦ / ١٨١.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220