اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)0%

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 241

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 241
المشاهدات: 105299
تحميل: 7758

توضيحات:

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 241 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 105299 / تحميل: 7758
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أذقه حر الحديد ) (١) .

وكان موقفهعليه‌السلام صلباً أمام هذه الطائفة الخطيرة على الإسلام ، وما كان ليستريح طرفة عين حتى أحبط مؤامرتها وما ضمّته من الحقد اليهودي ودسائسه التأريخية على الإسلام ، ولو كان قد تراخى وفتر عنها لحظة لكانت تقصم ظهر التشيّع .

ونلمس في الروايتين التاليتين حرقة الإمام وألمه الشديد ومخافته من تأثير هذه الدعوة الضالّة على الأمة وشعارها المزيّف بحبّها لأهل البيتعليهم‌السلام ، فعن عنبسة بن مصعب قال : قال لي أبو عبد اللهعليه‌السلام : ( أي شيء سمعت من أبي الخطاب ؟ ) قلت : سمعته يقول : إنّك وضعت يدك على صدره وقلت له : عه ولا تنس وأنت تعلم الغيب وأنّك قلت هو عيبة علمنا وموضع سرّنا أمين على أحيائنا وأمواتنا .

فقال الإمام الصادق :( لا والله ما مسّ شيء من جسدي جسده ، وأما قوله إنّي قلت : إنّي أعلم الغيب فو الله الذي لا إله إلاّ هو ما أعلم الغيب (٢) ولا آجرني الله في أمواتي ولا بارك لي في أحبّائي إن كنت قلت له ! وأمّا قوله إنّي قلت : هو عيبة علمنا وموضع سرّنا وأمين على أحيائنا وأمواتنا فلا آجرني الله في أمواتي ولا بارك لي في أحيائي إن كنت قلت له من هذا شيئاً من هذا قط ) (٣) .

وقال الإمامعليه‌السلام لمرازم :( قل للغالية توبوا إلى الله فإنّكم فسّاق كفّار مشركون ) .

ـــــــــــــــــ

(١) اختيار معرفة الرجل : ٢٩٠ ح ٥٠٩ وعنه في عوالم العلوم والمعارف : ٢٠/٢ ح ١١٥١ .

(٢) والإمامعليه‌السلام هنا في مقام نفي العلم بالغيب الاستقلالي الذي يدّعيه الغلاة ، لا العلم بالغيب الممنوح للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولهم منه سبحانه .

(٣) اختيار معرفة الرجال للكشي : ٢٩٢ ح ٥١٥ وعنه في الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ٢ / ٣٧٥ .

١٠١

وقالعليه‌السلام له : (إذا قدمت الكوفة فأت بشار الشعيري وقل له : يقول لك جعفر بن محمد : يا كافر يا فاسق أنا بريء منك قال : مرازم فلمّا دخلت الكوفة قلت له : يقول لك جعفر بن محمد : يا كافر يا فاسق يا مشرك أنا بريء منك قال بشار : وقد ذكرني سيدي ؟! قلت : نعم ذكرك بهذا قال : جزاك الله خير )(١) .

لاحظ الخبث وطول الأناة وعمق التخطيط حيث يذهب هذا الخبيث ليلتقي بالإمامعليه‌السلام بعد كل الذي سمعه ولمّا دخل بشار الشعيري على الإمامعليه‌السلام قال له :( اُخرج عني لعنك الله ، والله لا يظلّني وإيّاك سقف أبداً ) فلمّا خرج ، قالعليه‌السلام :( ويله ما صغر الله أحداً تصغير هذا الفاجر ، إنّه شيطان خرج ليغوي أصحابي وشيعتي فاحذروه ، وليبلّغ الشاهدُ الغائب إني عبد الله وابن أمته ضمّتني الأصلاب والأرحام وإنّي لميّت ومبعوث ثم مسؤول ) (٢) .

ج ـ طرح المنهج الصحيح لفهم الشريعة :

إنّ الإمام الصادقعليه‌السلام في الوقت الذي كان يواجه هذه التيارات الإلحادية الخطيرة على الأمة كان مشغولاً أيضاً بمواجهة التيّارات التي تتبنّى المناهج الفقهية التي تتنافى مع روح التشريع الإسلامي ، والتي تكمن خطورتها في كونها تعرّض الدين إلى المحق الداخلي والتغيير في محتواه ، من هنا كان الإمامعليه‌السلام ينهى أصحابه عن العمل بها حتّى قال لأبان :( يا أبان ! إنّ السُنة إذا قيست محق الدين ) (٣) .

وكان للإمام نشاط واسع لإثبات بطلان هذه المناهج وبيان عدم شرعيّتها .

ـــــــــــــــــ

(١) اختيار معرفة الرجال للكشي : ٣٩٨ ح ٧٤٤ وعنه في الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ٢/٣٧٥ .

(٢) المصدر السابق : ٤٠٠ ح ٧٤٦ وعنه في الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ١/٢٣٥ .

(٣) بحار الأنوار : ١٠٤/٤٠٥ عن المحاسن للبرقي .

١٠٢

لقد كان أبو حنيفة يتبنّى مذهب القياس ويعمل به كمصدر من مصادر التشريع في استنباط الأحكام ، لكنّ الإمامعليه‌السلام كان ينكر عليه ذلك ويبيّن له بطلان مذهبه .

وإليك بعض المحاورات التي جرت بينه وبين الإمامعليه‌السلام :

ذكروا أنّه وفد ابن شبرمة مع أبي حنيفة على الإمام الصادقعليه‌السلام فقال لابن شبرمة :( مَن هذا الذي معك ؟ )

فأجابه قائلاً : رجل له بصر ، ونفاذ في أمر الدين .

فقال لهعليه‌السلام :(لعله الذي يقيس أمر الدين برأيه ؟ ) فأجابه : نعم .

والتفت الإمامعليه‌السلام إلى أبي حنيفة قائلاً له :( ما اسمك ؟ ) فقال : النعمان .

فسألهعليه‌السلام :( يا نعمان ! هل قست رأسك ؟ )

فأجابه : كيف أقيس رأسي ؟ .

فقال لهعليه‌السلام :ما أراك تحسن شيئاً هل علمت ما الملوحة في العينين ؟ والمرارة في الأذنين ، والبرودة في المنخرين والعذوبة في الشفتين ؟

فبهر أبو حنيفة وأنكر معرفة ذلك ووجّه الإمام إليه السؤال التالي :(هل علمت كلمة أوّلها كفر ، وآخرها إيمان ؟ ) فقال : لا .

والتمس أبو حنيفة من الإمام أن يوضّح له هذه الأمور فقال لهعليه‌السلام :( أخبرني أبي عن جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : إنّ الله تعالى بفضله ومنّه جعل لابن آدم الملوحة في العينين ليلتقطا ما يقع فيهما من القذى ، وجعل المرارة في الأذنين حجاباً من الدوابّ فإذا دخلت الرأس دابّة ، والتمست إلى الدماغ ، فإن ذاقت المرارة التمست الخروج ، وجعل الله البرودة في المنخرين يستنشق بهما الريح ولولا ذلك لانتن الدماغ ، وجعل العذوبة في الشفتين ليجد لذة استطعام كل شيء ) .

١٠٣

والتفت أبو حنيفة إلى الإمامعليه‌السلام قائلاً : أخبرني عن الكلمة التي أوّلها كفر وآخرها إيمان ؟

فقال لهعليه‌السلام :( إنّ العبد إذا قال : لا إله فقد كفر فإذا قال إلاّ الله فهو الإيمان) .

وأقبل الإمام على أبي حنيفة ينهاه عن العمل بالقياس حيث قال له :(يا نعمان حدثني أبي عن جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : أوّل مَن قاس أمر الدين برأيه إبليس ، قال له الله تعالى : اسجد لآدم فقال : ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) ) (١) .

والتقى أبو حنيفة مرّة أخرى بالإمام الصادقعليه‌السلام فقال له الإمام :( ما تقول في محرم كسر رباعيّة ظبي ؟ ) .

فأجابه أبو حنيفة : يا بن رسول الله ما أعلم ما فيه .

فقال لهعليه‌السلام :( ألا تعلم أنّ الظبي لا تكون له رباعيّة ، وهو ثني أبداً ؟! ) (٢) .

ثم التقى أبو حنيفة مرّة ثالثة بالإمام الصادق ، وسأله الإمامعليه‌السلام عن بعض المسائل ، فلم يجبه عنها .

وكان من بين ما سأله الإمام هو :( أيّهما أعظم عند الله القتل أو الزنا ؟ ) فأجاب : بل القتل .

فقالعليه‌السلام :(كيف رضي في القتل بشاهدين ، ولم يرضَ في الزنا إلاّ بأربعة ؟ )

وهنا لم يمتلك أبو حنيفة جواباً حيث ردّ الإمام قياسه بشكل واضح .

ثم وجّه الإمامعليه‌السلام إلى أبي حنيفة السؤال التالي :( الصلاة أفضل أم الصيام ؟ ) فقال : بل الصلاة أفضل .

ـــــــــــــــــ

(١) أصول الكافي : ١/٥٨ ح ٢٠ وعنه في بحار الأنوار : ٤٧/٢٢٦ ح ١٦ .

(٢) مرآة الجنان : ١ / ٣٠٤ ، ونزهة الجليس : ٢ / ٥٧ .

١٠٤

فقال الإمامعليه‌السلام :( فيجب ـ على قياس قولك ـ على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام ، وقد أوجب الله تعالى قضاء الصوم دون الصلاة ؟! ) .

وبهذا أراد الإمام أن يثبت لأبي حنيفة أنّ الدين لا يُدرك بالقياس والاستحسان ثم أخذ الإمام يركّز على بطلان مسلكه القياسي فوجّه له سؤالاً آخر هو :(البول أقذر أم المني ؟ ) فقال له : البول أقذر .

فقال الإمامعليه‌السلام :(يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول ; لأنّه أقذر ، دون المنيّ ، وقد أوجب الله تعالى الغسل من المني دون البول) .

ثم استأنف الإمامعليه‌السلام حديثه في الردّ عليه قائلاً :(ما ترى في رجل كان له عبد فتزوّج ، وزوّج عبده في ليلة واحدة فدخلا بامرأتيهما في ليلة واحدة ، ثم سافرا وجعلا امرأتيهما في بيت واحد وولدتا غلامين فسقط البيت عليهم فقتلت المرأتان ، وبقي الغلامان أيّهما في رأيك المالك ؟ وأيّهما المملوك ؟ وأيّهما الوارث ؟ وأيّهما الموروث ؟ ) .

وهنا أيضاً صرّح أبو حنيفة بعجزه قائلاً : إنّما أنا صاحب حدود .

وهنا وجّه إليه الإمام السؤال التالي :(ما ترى في رجل أعمى فقأ عين صحيح ، وقطع يد رجل كيف يقام عليهما الحدّ ؟ ) .

واعترف مرة أخرى بعجزه فقال : أنا رجل عالم بمباعث الأنبياء ...

وهنا وجّه له الإمام السؤال التالي :(أخبرني عن قول الله لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون ( لعلّه يتذكّر أو يخشى ) (١) ـولعلّ منك شكّ ؟ ) فقال : نعم فقال له الإمامعليه‌السلام :( وكذلك من الله شكّ إذ قال : لعلّه ؟!) فقال : لا علم لي .

وأخذ الإمام باستفراغ كل ما في ذهن أبي حنيفة من القياس قائلاً له :

ـــــــــــــــــ

(١) طه (٢٠) : ٤٤ .

١٠٥

تزعم أنّك تفتي بكتاب الله ، ولست ممّن ورثه ، وتزعم أنّك صاحب قياس ، وأوّل مَن قاس إبليس لعنه الله ولم يُبنَ دينُ الإسلام على القياس وتزعم أنّك صاحب رأي ، وكان الرأي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صواباً ومن دونه خطأ ؛ لأنّ الله تعالى قال : ( فاحكم بينهم بما أراك الله ) ولم يقل ذلك لغيره ، وتزعم أنّك صاحب حدود ، ومَن أُنزلت عليه أولى بعلمها منك ، وتزعم أنّك عالم بمباعث الأنبياء ، وخاتم الأنبياء أعلم بمباعثهم منك .

لولا أن يقال دخل على ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يسأله عن شيء ما سألتك عن شيء ، فقس إن كنت مقيساً .

وهنا قال أبو حنيفة للإمامعليه‌السلام : لا أتكلم بالرأي والقياس في دين الله بعد هذا المجلس .

وأجابه الإمامعليه‌السلام :( كلاّ إنّ حبّ الرئاسة غير تاركك كما لم يترك من كان قبلك ) (١) .

وهكذا وقف الإمامعليه‌السلام موقفاً لا هوادة فيه ضدّ هذه التوجّهات الخطيرة على الإسلام ؛ فكثّف من نشاطه حولها ولاحق العناصر التي كانت تتبنّى هذه الأفكار الدخيلة ليغيّر من قناعاتها .

ونجد للإمامعليه‌السلام موقفاً مع ابن أبي ليلى وهو القاضي الرسمي للحكومة الأموية ، وكان يفتي بالرأي قبل أبي حنيفة وقد قابل الإمام الصادقعليه‌السلام وكان معه سعيد بن أبي الخضيب فقالعليه‌السلام :( مَن هذا الذي معك ؟ ) قال سعيد : ابن أبي ليلى قاضي المسلمين .

فسأله الإمامعليه‌السلام قائلاً :( تأخذ مال هذا فتعطيه هذا وتفرّق بين المرء وزوجه ولا تخاف في هذا أحداً ؟! ) قال : نعم .

ـــــــــــــــــ

(١) الاحتجاج للطبرسي : ٢ / ١١٠ ـ ١١٧ .

١٠٦

قال :( بأيّ شيء تقضي ؟ ) قال : بما بلغني عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن أبي بكر وعمر ) .

قال :فبلغك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (أقضاكم عليّ بعدي؟ ) قال : نعم قال :( كيف تقضي بغير قضاء علي ، وقد بلغك هذا ؟ )

وهكذا عرف ابن أبي ليلى أنّه قد جانب الحق فيما حكم وأفتى به .

ثم قال له الإمامعليه‌السلام :( التمس مثلاً لنفسك ، فو الله لا أكلّمك من رأسي كلمة أبداً ) (١) .

وقال نوح بن درّاج(٢) لابن أبي ليلى : أكنت تاركاً قولاً قلته أو قضاء قضيته لقول أحد ؟ قال : لا ، إلاّ رجل واحد ، قلت : مَنْ هو ؟ قال : جعفر بن محمدعليه‌السلام (٣) .

د ـ مواجهة التحريف والاستغلال السياسي للقرآن ومفاهيمه :

قام الإمام الصادقعليه‌السلام بحماية القرآن وصيانته من عملية التوظيف السياسي ، التي تجعل النص القرآني خادماً لأغراض سياسيّة مشبوهة ، تحاول إسباغ طابع شرعي على الحكم الظالم وشلّ روح الثورة وإطفاء روح المقاومة في نفوس الأمة وبالتالي إسقاط شرعيّة القوى الرافضة لهذهِ النظم الظالمة ؛ حتى قيل في تفسير قوله تعالى :( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ

ـــــــــــــــــ

(١) الاحتجاج : ٢ / ١٠٢ .

(٢) نوح بن درّاج من أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام / تنقيح المقال : ٣ / ٢٧٥ وابن أبي ليلى هو محمد بن عبد الرحمن مفتي الكوفة وقاضيها ، راجع سير أعلام النبلاء : ٦ / ٣١٠ .

(٣) حلية الأولياء : ٣ / ١٩٣ .

١٠٧

الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) (١) .

( أنّها قد نزلت في علي بن أبي طالب )عليه‌السلام (٢) .

كما زيّف الإمامعليه‌السلام النظرة الجامدة للنصّ القرآني والتي تحاول تعطيله عن المواكبة للواقع المتغيّر والمتطوّر وحبسه في حدود الظاهر ، ولم يسمح بالتأويل الباطني الفاسد كما قاوم بعنف التفسير الذي يعتمد الرأي بعيداً عن الأحاديث الصحيحة الواردة عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته المعصومينعليهم‌السلام .

قالعليه‌السلام :( مَن فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر ، وإن أخطأ كان إثمه عليه ) (٣) .

قالعليه‌السلام :( الراسخون في العلم أمير المؤمنين والأئمّة من بعده ) (٤) ، وقال أيضاً :( نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله ) (٥) وجاء عن زيد بن معاوية ، عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير قول الله عزّ وجلّ :( وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم ) (٦) ،( فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل الراسخين في العلم قد علّمه الله عزّ وجلّ جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل ، وما كان الله لينزل عليه شيئاً لم يعلمه تأويله وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه ) (٧) .

وجاء عنهعليه‌السلام في تفسير قوله تعالى :( بل هو آيات بيّنات في صدور

ـــــــــــــــــ

(١) البقرة (٢) : ٢٠٤ ـ ٢٠٥ .

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٤ / ٧٣ عن أبي جعفر الاسكافي : ٢٤٠ .

(٣) تفسير العياشي : ١ / ١٧ وعنه في تفسير الصافي : ١ / ٢١ .

(٤) أصول الكافي : ١ / ٢١٣ .

(٥) المصدر السابق .

(٦) آل عمران (٣) : ٧ .

(٧) أصول الكافي : ١ / ٢١٣ .

١٠٨

الّذين أوتوا العلم ) (١) أنّهم(هم الأئمّة ) (٢) .

ودخل عليه الحسن بن صالح بن حي فقال له : يا بن رسول الله ! ما تقول في قوله تعالى :( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) (٣) ؟ مَن أولو الأمر الذين أمر الله بطاعتهم ؟ قال :( العلماء ) .

فلمّا خرجوا قال الحسن : ما صنعنا ! ألا سألناه مَن هؤلاء العلماء ؟!

فرجعوا إليه ، فسألوه فقال :( الأئمة منّا أهل البيت ) (٤) .

لقد ثبّتعليه‌السلام بأن فهم القرآن لا يتمّ إلاّ بالرجوع الى ما جاء عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليهم‌السلام لأنه يضمن الفهم الصحيح لنصوص القرآن الكريم .

كما أنّه فتح آفاقاً جديدة لفهم القرآن وعلومه وأحكامه فحدّد المحكم والمتشابه والتأويل والتفسير والمطلق والمقيّد والجري والانطباق إلى غيرها من شؤون القرآن الكريم .

٣ ـ المحور الروحي والأخلاقي

لاحظ الإمام الصادقعليه‌السلام تأثير موجات الانحراف الفكري والسياسي على الأمة ومدى إفسادها لعقول الناس ، وما لعبته سياسة الأمويين من خلق أجواء ملائمة لطغيان النزعات الإلحادية والقبلية حتى عمّ الانفلات

ـــــــــــــــــ

(١) العنكبوت (٢٩) : ٤٩ .

(٢) تفسير الصافي : ١ / ١٢ .

(٣) النساء (٤) : ٥٩ .

(٤) بحار الأنوار : ٤٧/٢٩ .

١٠٩

الأخلاقي ، كما كثر في زمانهعليه‌السلام رفع شعار الورع والتقوى كل ذلك أفقد الأمة قيمها وأبعدها عن الأخلاق التي أمر بها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأرادها لأُمّته .

من هنا كان دور الإمامعليه‌السلام وتوجّهه الروحي والأخلاقي مع الأمة في عدّة أبعاد :

البعد الأوّل : كونهعليه‌السلام القدوة الصالحة والمثال الواقعي الذي تتجسّد في شخصه أخلاق الرسالة ; ممّا يكون موقعاً لإشعاع الفضيلة ونموّها ، ويكشف من جانب آخر زيف الأنانيّة ونزعات الذات .

البعد الثاني : تقديم مجموعة من الوصايا والرسائل والتوجيهات التربويّة والأخلاقية التي عالج من خلالها الخواء الروحي والانحراف الأخلاقي الذي نما في سنوات الانحراف .

أمّا في البعد الأول فنجد الإمامعليه‌السلام كان يدعو الناس إلى الفضيلة برفق ولين ويجادلهم بالتي هي أحسن ، وكان يسمح للسائلين بطرح أسئلتهم مهما كانت وكان يوضّح لهم ما كان غامضاً عليهم.

كما كان لا يقبل من مقرّبيه أن يتشدّدوا بدعوتهم حيث كان يقول لهم :( لأحملنّ ذنوب سفهائكم على علمائكم ، ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهون ، وما يدخل به الأذى علينا ، أن تأتوه فتؤنّبوه وتعذلوه وتقولوا له قولاً بليغاً ) فقال له بعض أصحابه إذاً لا يقبلون منّا ، قال :اهجروهم واجتنبوا مجالسهم (١) .

فالإمام هنا يوصي العالم من أصحابه أن لا يتخلّى عن رسالته في إرشاد الإنسان الجاهل المنتمي إلى مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام بحجّة تماديه وجرأته بارتكاب المخالفات ممّا يعكس الوجه السلبي لاتّباع الإمام فيؤذي دعاة

ـــــــــــــــــ

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ٣ / ٢٩١ .

١١٠

الإصلاح .

ففي نظر الإمامعليه‌السلام لا يجوز تركه وإهماله إلاّ بعد اليأس من إصلاحه وإزالة الشك من ذهنه .

البعد الثالث : وكان يحرص على شدّ أواصر المجتمع الإسلامي وإشاعة الفضيلة بين الناس ليقضي على العداوة والبغضاء ، فكانعليه‌السلام يدفع إلى بعض أصحابه من ماله ليصلح بين المتخاصمين على شيء من حطام الدنيا من أجل القضاء على المقاطعة والهجران ؛ لئلاّ يدفعهم التخاصم إلى الترافع لحكّام الجور والذي كان قد نهىعليه‌السلام عنه .

قال سعيد بن بيان : مرّ بنا المفضّل بن عمر وأنا وختني نتشاجر في ميراث ، فوقف علينا ساعة ثم قال لنا : تعالوا إلى المنزل ، فأتيناه فأصلح بيننا بأربعمائة درهم فدفعها إلينا من عنده حتّى إذا استوثق كل واحد منّا من صاحبه قال المفضّل : أما إنّها ليست من مالي ، ولكنّ أبا عبد اللهعليه‌السلام أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا في شيء أن أصلح بينهما وأفتديهما من ماله ، فهذا من مال أبي عبد اللهعليه‌السلام (١) .

وهذا الأسلوب يأتي كخطوة عمليّة ترفد ذاك التوجيه الذي تضمّن حرمة الترافع إلى حكّام الجور .

وكانعليه‌السلام يحثّهم على صلة الرحم ومن حسن سيرته ومكارم أخلاقه أنّه كان يصل مَن قطعه ويعفو عمّن أساء إليه ، كما ورد أنّه وقع بينه وبين عبد الله بن الحسن كلام ، فأغلظ عبد الله في القول ثم افترقا وذهبا إلى المسجد فالتقيا على الباب فقال الصادقعليه‌السلام لعبد الله بن الحسن :كيف أمسيت يا أبا

ـــــــــــــــــ

(١) أصول الكافي : ٢ / ٢٠٩ .

١١١

محمد ؟ فقال عبد الله : ـ بخير ( كما يقول المغضب ) ـ قال الصادقعليه‌السلام :( يا أبا محمد أما علمت أنّ صلة الرحم تخفّف الحساب؟ ) ! ثمّ تلى قوله تعالى :( والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربّهم ويخافون سوء الحساب ) (١) فقال عبد الله : فلا تراني بعدها قاطعاً رحم(٢) فكان يصل رحمه ويبذل لهم النصح ، كما كان يصل الفقراء في اللّيل سرّاً وهم لا يعرفونه .

قال هشام بن الحكمرحمه‌الله كان أبو عبد الله إذا أعتم وذهب الليل شطره ، أخذ جراباً فيه خبز ولحم ودراهم فحمله على عنقه ثمّ ذهب إلى أهل الحاجة من أهل المدينة فقسّمه فيهم وهم لا يعرفونه ، وما عرفوه حتى مضى إلى الله تعالى(٣) .

وقال مصادف : كنت مع أبي عبد اللهعليه‌السلام ما بين مكة والمدينة فمررنا على رجل في أصل شجرة وقد ألقى بنفسه ، فقالعليه‌السلام :( مل بنا إلى هذا الرجل فإنّي أخاف أن يكون قد أصابه العطش ) فملنا إليه فإذا هو رجل من النصارى طويل الشعر ، فسأله الإمامعليه‌السلام :أعطشان أنت ؟ فقال : نعم ، فقال الإمامعليه‌السلام :( انزل يا مصادف فاسقه ) فنزلت وسقيته ثم ركبت وسرنا فقلت له : هذا نصراني ، أفنتصدّق على نصراني ؟ فقال :( نعم ، إذا كانوا بمثل هذه الحالة ) (٤) .

وكان يرىعليه‌السلام أنّ الإعراض عن المؤمن المحتاج للمساعدة استخفاف به ، والاستخفاف بالمؤمن استخفاف بهمعليهم‌السلام ، فقد كان عنده جماعة من أصحابه فقال لهم :( ما لكم تستخفّون بنا ؟! ) فقام إليه رجل من أهل

ـــــــــــــــــ

(١) الرعد (١٣) : ٢١ .

(٢) كشف الغمّة : ٢/٣٧٥ عن الجنابذي ، وعنه في بحار الأنوار : ٤٧/٢٧٤ .

(٣) بحار الأنوار : ٤٧/٣٨ عن فروع الكافي : ٤/٨ .

(٤) وسائل الشيعة : ٦ / ٢٨٥ الحديث ٣ .

١١٢

خراسان فقال : معاذ الله أن نستخفّ بك أو شيء من أمرك ! فقالعليه‌السلام :( إنّك أحد مَن استخفّ بي ) .

فقال الرجل : معاذ الله أن أستخفّ بك !! فقال لهعليه‌السلام :( ويحك ألم تسمع فلاناً ونحن بقرب الجحفة وهو يقول لك : احملني قدر ميل فقد والله أعييت فو الله ما رفعتَ له رأساً ، لقد استخففت به ومَن استخفّ بمؤمن فينا استخفّ وضيّع حرمة الله عزّ وجلّ ) (١) .

أمّا البعد الثاني : فكما قلنا كان يتمثّل في مجموعة الوصايا والرسائل والمناظرات والتوجيهات التي عالج الإمامعليه‌السلام من خلالها الإخفاق الروحي الذي كانت الأمة قد تعرّضت لإيصالها إلى المستوى الإيماني الذي كانت تريده الرسالة .

فقد خاطبعليه‌السلام شيعته وأصحابه قائلاً :( فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه ، وصدق الحديث ، وأدّى الأمانة ، وحسن خلقه مع الناس ، قيل : هذا جعفري ، فيسرّني ذلك ، ويدخل عليّ منه السرور وقيل : هذا أدب جعفر ، وإذا كان على غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه ، وعاره وقيل : هذا أدب جعفر ) (٢) .

وأراد الإمامعليه‌السلام أن يعزّز في نفوسهم صحّة مذهبهم باعتباره يمثّل الخط الإلهي ، فانتقد من جانب الاتّجاهات المنحرفة عن خطّ الرسالة وفتح لشيعته آفاقاً توجيهيّة قائلاً :( أما والله ما أحد من الناس أحبّ إليّ منكم وإنّ الناس قد سلكوا سُبلاً شتّى فمنهم مَن أخذ برأيه ، ومنهم مَن اتّبع هواه ، ومنهم مَن اتبع الرواية ، وإنّكم أخذتم بأمر له أصل فعليكم بالورع والاجتهاد واشهدوا الجنائز ، وعودوا المرضى ، واحضروا مع قومكم في مساجدهم للصلاة ، أما يستحي الرجل أن يعرف جاره حقّه ،

ـــــــــــــــــ

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ٢ / ٢٩٦ .

(٢) أصول الكافي : ٢/٦٣٦ وعنه في وسائل الشيعة : ١٢/٥ ح ٢ ، نهج السعادة : ٨/٣٢ .

١١٣

ولا يعرف حقّ جاره ) (١) .

كما أوصى أحد أصحابه بأن لا ينتقدوا مَن هو ضعيف الإيمان من بينهم ، بل يجب شدّ أزره وتقويم ضعفه مادام قد اختار طريق الحقّ ؛ وذلك كما في قولهعليه‌السلام :( يا ابن جندب لا تقل في المذنبين من أهل دعوتكم إلاّ خيراً ، واستكينوا إلى الله في توفيقهم ، وسلوا التوبة لهم ، فكل مَن قصدنا ووالانا ، ولم يوال عدوّنا ، وقال ما يعلم وسكت عمّا لا يعلم أو أشكل عليه فهو في الجنة ) (٢) وتجد الإمام يغرس في أصحابه صفة التواضع التي من علاماتها السلام على كل مَن يلقاه فإنّ ذلك يتمّ عن سلامة النفس ، واعتبر من التواضع ترك المناقشة العقيمة خصوصاً في المسائل العلمية فيما إذا كانت تنطلق من الشعور بالتفوّق ، واعتبر أيضاً من علامات التواضع أن لا يحب الشخص بأن يمتدح على ما يتمتّع به من علم وأدب وتقوى فإنّ حبّه لذلك حبّ للظهور والعظمة وليس من التواضع في شيء .

قالعليه‌السلام :( من التواضع أن ترضى بالمجلس دون المجلس وأن تسلّم على مَن تلقى وأن تترك المراء وإن كنت محقّاً ، ولا تحب أن تحمد على التقوى ) (٣) .

وكانعليه‌السلام يوصي أصحابه بالتسليم للحق في الحوار أو النقد وعدم التأثر بالعصبية للقوم أو العشيرة أو المذهب فيكون الانحياز حائلاً دون سماع الحقيقة التي هي شعار أهل البيتعليهم‌السلام فقال :( المُسلّم للحق أوّل ما يصل إلى الله ) (٤) .

ـــــــــــــــــ

(١) أصول الكافي : ٨/١٤٦ ح ١٢١ وعنه ألف حديث في المؤمن ، للشيخ هادي النجفي .

(٢) تحف العقول : وصيّتهعليه‌السلام لعبد الله بن جندب :٣٠٢ .

(٣) الحكم الجعفرية : ٣٥ .

(٤) المصدر السابق : ٦٠ .

١١٤

البعد الرابع : ومن الأمور التربوية التي أكّدها الإمامعليه‌السلام في نفوس أصحابه ـ ليكونوا بالمستوى المطلوب من النضج والسلامة في التفكير ولئلاّ تكون مشاريعهم وتخطيطاتهم عرضة للفساد ـ هي الدعوة إلى التثبّت في الأمور .

قالعليه‌السلام :( مع التثبّت تكون السلامة ، ومع العجلة تكون الندامة ، ومَن ابتدأ بعمل في غير وقته كان بلوغه في غير حينه ) (١) .

مواصلة بناء جامعة أهل البيت الإسلامية

لقد واصل الإمام الصادقعليه‌السلام تطويره للمدرسة التي أسّسها الأئمةعليهم‌السلام من قبله ، وانتقل بها إلى آفاق أرحب فاستقطبت الجماهير من مختلف البلاد الإسلامية ؛ لأنّها قد لبّت الرغبة في نفوسهم وسعت لملء الفراغ الذي كانت تعانيه الأمة آنذاك .

خصائص جامعة أهل البيتعليهم‌السلام

١ ـ من مميّزات مدرسة الإمام الصادقعليه‌السلام واختلافها عن باقي المدارس أنّها لم تنغلق في المعرفة على خصوص العناصر الموالية فحسب ، وإنّما انفتحت لتضمّ طلاّب العلم من مختلف الاتّجاهات ، فهذا أبو حنيفة الذي كان يخالف منهج الإمامعليه‌السلام حيث سلك في القياس مسلكاً استوجب شدّة الإنكار عليه وعلى أصحابه ، وهو الذي أطلق على مؤمن الطاق اسم شيطان الطاق ، كان ممّن يختلف إلى الإمام الصادقعليه‌السلام ويسأله عن كثير من المسائل

ـــــــــــــــــ

(١) الحكم الجعفرية : ٦٠ .

١١٥

وقد روى عن الإمام الصادقعليه‌السلام وحدّث عنه واتّصل به في المدينة مدّة من الزمن ، وناصر زيد بن علي وساهم في الدعوة إلى الخروج معه ، وكان يقول : ضاها خروج زيد خروج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر(١) .

٢ ـ انفتحت مدرسة الإمامعليه‌السلام على مختلف فروع المعرفة الإسلامية والإنسانية ، فاهتمّت بالقرآن والسنّة والفقه والتأريخ والأصول والعقيدة والكلام والفلسفة الإسلامية ، كما اهتمّت بعلوم أخرى مثل : علم الفلك ، والطبّ ، والحيوان ، والنبات ، والكيمياء ، والفيزياء .

٣ ـ لم تتّخذ مدرسة الإمام طابع الانتماء إلى الدولة الأموية أو العباسية ، ولم تتلوّث بسياسة الحاكمين ولم تكن أداة لخدمة الحكّام ، بل رأت الأمة أنّ هذه المدرسة هي التي تحقّق لها تطلّعاتها ; إذ كانت ترى على رأسها وريث النبوّة وعملاق الفكر المحمّدي الإمام أبا عبد الله الصادقعليه‌السلام المعروف بمواقفه واستقامته حتى لقّب بالصادق لسموّ أخلاقه وعدم مساومته وخضوعه لسياسة الحكّام المنحرفين .

من هنا شكّلت مدرسته حصناً سياسياً وفكريّاً يلوذ به طلاّب الحقيقة ومَن كان يشعر بالمسؤولية ويريد التخلّص من التيه الذي خلّفته التيارات الفكرية والسياسية المتضاربة في أهدافها ومساراتها .

٤ ـ وتميّزت أيضاً جامعة الإمام الصادقعليه‌السلام بمنهجها السليم وعمقها الفكري ، ولم تكن أطروحتها في الإعداد العلمي مبتنية على حشو الذهن ، وإنّما كانت تعتمد الفكر والتعمّق والأصالة ونموّ الكفاءات العلمية ، وتعتبرها أُسساً مهمّة في المنهج العلمي والتربوي .

ـــــــــــــــــ

(١) حياة الإمام محمد الباقر : ١ / ٧٥ .

١١٦

٥ ـ أنتجت هذه الجامعة رموزاً للعلم والتقوى والاستقامة ، وعرفت بالعطاء العلمي والديني للأمة وبما أبدعته في تخصّصاتها العلمية ، وما حققته من إنجازات على صعيد الدعوة والإصلاح بين الناس ، وأصبح الانتساب إلى مدرسة الإمامعليه‌السلام عليه‌السلام مفخرة للمنتسب ، كما ناهز عدد طلاّبها الأربعة آلاف طالب .

٦ ـ واتّسعت هذه المدرسة ـ فيما بعد ـ وشكّلت عدّة فروع لها في الكوفة ، والبصرة ، وقم ، ومصر .

٧ ـ إنّ الإمامعليه‌السلام لم يجعل من جامعته العلمية والجهد المبذول فيها نشاطاً منفصلاً عن حركته التغييرية وانشطته الأخرى ، بل كانت جزءاً من برنامجه الإصلاحي ؛ لأنّها كانت تساهم بحقّ في خلق المناخ المناسب لبناء الفرد الصالح ، وكانت امتداداً واعياً ومؤثّراً في المسيرة العامّة للأمة ، فضلاً عن النتائج السياسية الايجابية الخاصّة ، حيث نجد الكادر العلمي الحاضر في مدرسة الإمامعليه‌السلام هو نفسه الذي يحضر في نشاطات الإمام الخاصّة .

٨ ـ تميّزت مدرسة الإمام الصادقعليه‌السلام بالارتباط المباشر بمصادر التشريع والمعرفة وهما الكتاب الكريم والسنّة النبوية الشريفة بنحو لا مثيل له .

ومن هنا حرص الإمام الصادقعليه‌السلام على أن يحقّق من خلال مدرسته إنجازاً بخصوص تدوين الحديث والحفاظ على مضمونه ، بعد أن كان الحديث قد تعرّض في وقت سابق للضياع والتحريف والتوظيف السياسي المنحرف ، بسبب المنع من تدوينه ولم يستجب الأئمّة المعصومونعليهم‌السلام لقرار المنع بالرغم من كل الشعارات التي رُفعت لتجعل الهدف من حظر

١١٧

تدوين الحديث هو الحفاظ على القرآن وسلامته من التحريف .

بينما كان الهدف البعيد من منع تدوين الحديث هو تغييب الحديث النبوي الذي كان يؤكّد ربط الأمة بأهل البيتعليهم‌السلام فاستهدف الحكّام صرف الناس عن أهل البيتعليهم‌السلام ; لأنّ الحديث حين كان يؤكّد الارتباط بهم كان يحول بينهم وبين الانسياق وراء كلّ ناعق سياسي أو حاكم جائر .

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام :( أما والله إنّ عندنا ما لا نحتاج إلى أحد والناس يحتاجون إلينا إنّ عندنا الكتاب بإملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخطّه علي بيده صحيفة طولها سبعون ذراعاً فيها كل حلال وحرام ) (١) .

وجاء عنهعليه‌السلام أنّه قال :( علمنا غابر ومزبور ونكت في القلوب ونقر في الأسماع ، وإن عندنا الجفر الأحمر ، والجفر الأبيض ، ومصحف فاطمة عليها‌السلام وإن عندنا الجامعة فيها جميع ما يحتاج الناس إليه ) (٢) .

٩ ـ وتميّزت أيضاً مدرسة الإمامعليه‌السلام بالاهتمام بالتدوين بشكل عام ، بل ومدارسة العلم لإنمائه وإثرائه .

فكانعليه‌السلام يأمر طلاّبه بالكتابة ويؤكّد لهم ضرورة التدوين والكتابة كما تجد ذلك في قولهعليه‌السلام :( احتفظوا بكتبكم فإنّكم سوف تحتاجون إليها ) (٣) .

وكان يشيّد بنشاط زرارة الحديثي إذ كان يقول :( رحم الله زرارة بن أعين لولا زرارة لاندرست أحاديث أبي ) .

ـــــــــــــــــ

(١) بصائر الدرجات : ١٤٩ .

(٢) الإرشاد : ٢/١٨٦ وعنه في مناقب آل أبي طالب : ٤/٣٩٦ ، والاحتجاج : ٢/١٣٤ ، وبحار الأنوار : ٤٧/٢٦ وزادوا فيه : فسئل عن تفسير هذا الكلام فقال : أمّا الغابر فالعلم بما يكون .

(٣) الكافي : ١ / ٥٢ .

١١٨

وقال فيه وفي جماعة من أصحابه منهم أبو بصير ، ومحمد بن مسلم ، وبريد العجلي :( لولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا الفقه ، هؤلاء حفّاظ الدين وأُمناء أبي عليه‌السلام على حلاله وحرامه وهم السابقون إلينا في الدنيا والآخرة ) (١) .

وكان يأمر طلاّبه أيضاً بالتدارس والمباحثة فقد قال للمفضّل بن عمر :( اكتب وبثّ علمك في إخوانك ، فإنْ متّ فأورث كتبك بنيك ، فإنّه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلاّ بكتبهم ) (٢) .

وعلى هذا الأساس اهتمّ أصحابه بكتابة الأحاديث وتدوينها حتى تألّفت واجتمعت الأصول الأربعمائة المعروفة(٣) ، والتي شكّلت المجاميع الحديثية الأولى عند الشيعة الإمامية .

١٠ ـ وممّا تميزّت به مدرسة الإمام الصادقعليه‌السلام هو إنماء الفكر الإسلامي وتطويره من خلال التخصّص العلمي في مختلف فروع المعرفة الإسلامية ، وسوف نشير إلى هذه الميزة بالتفصيل .

التخصّص العلمي في مدرسة الإمامعليه‌السلام

والتفت الإمام في تلك المرحلة لأهمّية الاختصاص ودوره في إنماء الفكر الإسلامي وتطويره ، وقدرته في استيعاب الطاقات الكثيرة الوافدة على مدرسته ، وبالتخصّص تتنوّع عطاءاته ، فيكون الإبداع أعمق نتاجاً وأكثر احتواءً ؛ لذا وجّه الإمامعليه‌السلام طلاّبه نحو التخصّصات العلمية ، وتصدّى بنفسه

ـــــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٥٧ ـ ٥٩ .

(٢) أصول الكافي : ١ / ٥٢ .

(٣) وسائل الشيعة : ١٨ / ٥٧ ـ ٥٩ .

١١٩

للإشراف ، فكان يعالج الإشكالات التي تستجد ، ويدفع مسيرة الحركة العلمية إلى الأمام ولا يمكن في هذا البحث أن نستوعب كل هذه التخصّصات وإنّما نقتصر على ذكر بعض النماذج فيما يأتي :

أ ـ في الطب : سُئل الإمام عن جسم الإنسان فقالعليه‌السلام :( إنّ الله خلق الإنسان على اثني عشر وصلاً وعلى مائتين وثمانية وأربعين عظماً ، وعلى ثلاثمائة وستين عرقاً ، فالعروق هي التي تسقي الجسد كلّه ، والعظام تمسكه واللحم يمسك العظام والعصب تمسك اللحم ، وجعل في يديه اثنين وثمانين عظماً في كل يد إحدى وأربعين عظماً ، منها في كفّه خمسة وثلاثون عظماً وفي ساعده اثنان ، وفي عضده واحد ، وفي كتفه ثلاثة ، فذلك إحدى وأربعون ، وكذلك في الأخرى ، وفي رجله ثلاثة وأربعون عظماً ، منها في قدمه خمسة وثلاثون عظماً وفي ساقه اثنان ، وفي ركبتيه ثلاثة ، وفي فخذه واحد وفي وركه اثنان وكذلك في الأخرى ، وفي صلبه ثماني عشر فقارة وفي كل واحد من جنبيه تسعة أضلاع ، وفي وقصته ثمانية وفي رأسه ستة وثلاثون عظماً ، وفي فيه ثماني وعشرون عظماً أو اثنان وثلاثون عظماً ) (١) .

يقول الشيخ ميرزا محمد الخليلي : ولعمري إنّ هذا الحصر والتعداد هو عين ما ذكره المشرّحون في هذا العصر ، لم يزيدوا ولم ينقصوا(٢) .

وشرح الإمام الصادقعليه‌السلام كيفية دوران الدم في الجسم ولأول مرّة في حديثه مع المفضّل بن عمر ، وقد سبق بذلك العالم ( هارفي ) الذي عرف بأنّه مكتشف الدورة الدموية .

قالعليه‌السلام :( فكّر يا مفضّل في وصول الغذاء إلى البدن وما فيه من التدبير ، فإنّ

ـــــــــــــــــ

(١) المناقب : ٤ / ٢٥٦ ، وبحار الأنوار : ١٤ / ٤٨٠

(٢) طب الإمام الصادقعليه‌السلام : ٣ .

١٢٠