اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)0%

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 241

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 241
المشاهدات: 105266
تحميل: 7758

توضيحات:

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 241 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 105266 / تحميل: 7758
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الطعام يصير إلى المعدة فتطبخه ، وتبعث بصفوه إلى الكبد في عروق رقاق واشجة بينها ، قد جعلت كالمصفى للغذاء ، لكيلا يصل إلى الكبد منه شيء فينكأها ؛ وذلك أنّ الكبد رقيقة لا تحتمل العنف ، ثم إنّ الكبد تقبله فيستحيل فيها بلطف التدبير دماً ، فينفذ في البدن كلّه ، في مجار مهيّأة لذلك بمنزلة المجاري التي تهيّأ للماء حتى يطّرد في الأرض كلّها وينفذ ما يخرج منه من الخبث والفضول إلى مغايض أعدّت لذلك فما كان منه من جنس المرّة الصفراء جرى إلى المرارة ، وما كان من جنس السوداء جرى إلى الطحال ، وما كان من جنس البلّة والرطوبة جرى إلى المثانة ؛ فتأمّل حكمة التدبير في تركيب البدن ، ووضع هذه الأعضاء منه موضعها ، وإعداد هذه الأوعية فيه لتحمل تلك الفضول لئلاّ تنتشر في البدن فتسقمه وتنهكه ، فتبارك مَن أحسن التقدير وأحكم التدبير ) (١) .

ب ـ في الوقاية الصحية : حذّر الإمام من الأمراض المعدية وأوصى بعدم الاختلاط بالمصابين بمثل مرض الجذام حيث قال فيه :( لا يكلّم الرجل مجذوماً إلاّ أن يكون بينهما قدر ذراع ) (٢) ، وقد جاء في الطب الحديث أنّ ميكروب الجذام ينتشر في الهواء حول المصاب أكثر من مسافة متر .

وقالعليه‌السلام أيضاً :( كُلّ داء من التخمة ) (٣) .

وقالعليه‌السلام :( اغسلوا أيديكم قبل الطعام وبعده ) (٤) فإنّ غسل اليدين قبل الطعام تعقيم من الجراثيم المحتملة والغسل بعد الطعام يعدّ من النظافة .

ج ـ علم الحيوان : قالعليه‌السلام في مملكة النمل :( انظر إلى النمل واحتشاده في

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٣/٥٧ عن كتاب التوحيد للمفضل بن عمر الجعفي .

(٢) وسائل الشيعة : ٢ / ٢٠٨ .

(٣) بحار الأنوار : ٦٣/٣٣٦ .

(٤) المصدر السابق : ٦٣/٣٥٦ .

١٢١

جمع القوت وإعداده فإنّك ترى الجماعة منها إذا نقلت الحبّ الى زبيته (١) بمنزلة جماعة من الناس ينقلون الطعام أو غيره ، بل للنمل في ذلك من الجد والتشمير ما ليس للناس مثله أما تراهم يتعاونون على النقل كما يتعاون الناس على العمل ، ثم يعمدون إلى الحب فيقطعونه لكيلا ينبت فيفسد عليهم (٢) فإن أصابه ندى أخرجوه فنشروه حتى يجف ثم لا يتخذ النمل الزبية إلاّ في نشر من الأرض كيلا يفيض السيل فيغرقها ، وكل هذا منه بلا عقل ، ولا رويّة بل خلقة خلق عليها لمصلحة من الله عزّ وجلّ (٣) .

وتكلّم الإمام أيضاً في كل من علوم : النبات ، والفلك ، والكيمياء ، والفيزياء ، والعلاجات النباتية(٤) ، كما تكلّم في الفلسفة والكلام ومباحث الإمامة والسياسة والمعرفة والفقه وأصوله والحديث والتفسير والتأريخ .

وتخصّص من طلاّب الإمامعليه‌السلام في مباحث الكلام كلٌّ من : هشام بن الحكم ، وهشام بن سالم ، ومؤمن الطاق ، ومحمد بن عبد الله الطيّار ، وقيس الماهر ، وغيرهم .

وتخصّص في الفقه وأُصوله وتفسير القرآن الكريم : زرارة بن أعين ، ومحمد بن مسلم ، وجميل بن درّاج ، وبريد بن معاوية ، وإسحاق بن عمّار وعبد الله الحلبي ، وأبو بصير ، وأبان بن تغلب ، والفضيل بن يسار ، وأبو حنيفة ، ومالك بن أنس ، ومحمد بن الحسن الشيباني ، وسفيان بن عيينه ، ويحيى بن سعيد ، وسفيان الثوري .

ـــــــــــــــــ

(١) الزبية ـ بضم فسكون ـ الزابية لا يعلوها ماء ، جمعها زبى .

(٢) إذا خشي النمل من الحبّة المدخرة أن تنبت في الأرض فلقتها نصفين ، وقد تفلق بعض الحبوب كحب الكزبرة إلى أربعة أقسام ؛ لأنّ نصف الكزبرة أيضاً ينبت .

(٣) التوحيد للمفضل : ٦٦ ، وبحار الأنوار : ٣/ ٦١ و ٦٢ / ١٠٢ .

(٤) راجع حياة الإمام الصادق للشيخ باقر شريف القرشي : ٢/٢٨٩ وما بعدها .

١٢٢

كما تخصّص في الكيمياء : جابر بن حيّان الكوفي .

وتخصّص في حكمة الوجود : المفضّل بن عمر الذي أملى عليه الإمام الصادقعليه‌السلام كتابه الشهير المعروف ( بتوحيد المفضّل ) .

ونشط طلاّب الإمام في نتاجاتهم كلٌّ حسب اختصاصه في التأليف والمناظرة ، يدل على ذلك ما جمعه السيد حسن الصدر عن مؤلّفات الشيعة في هذه الفترة وقد ذكر أنّها وصلت إلى ستة آلاف وستمائة كتاب(١) .

وبرز في المناظرة : هشام بن الحكم ، وكان الإمام الصادقعليه‌السلام مسروراً بمناظرات هشام وحين استمع مناظراته مع زعيم المعتزلة ـ عمرو بن عبيد ـ وأخبره بانتصاره عليه قال له الإمامعليه‌السلام :يا هشام مَن علّمك هذا ؟ قال : يا بن رسول الله جرى على لساني قال الإمامعليه‌السلام :( هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسى ) (٢) .

ومن الأهداف الكُبرى التي خطّط لها الإمامعليه‌السلام في مدرسته إلى جانب الاختصاصات الأخرى هو تنشيط حركة الاجتهاد الفقهي الخاص إلى جانب التفقّه في الدين بشكل عام .

من هنا نجد تأصيل منهج الاجتهاد الفقهي واستنباط أحكام الشريعة ، قد تمثّل في الرسائل العلميّة التي دوّنها أصحابه في خصوص أصول الفقه وفي الفقه والحديث والتي تميّزت بالاعتماد على مدرسة أهل بيت الوحيعليهم‌السلام واتّخاذها أساساً للفقه والإفتاء دون الرأي والاستحسان .

قالعليه‌السلام :( حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ، وحديث جدّي

ـــــــــــــــــ

(١) تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام : ٢٨٨ .

(٢) راجع الاحتجاج : ٢ / ١٢٥ ـ ١٢٨ .

١٢٣

حديث الحسين ، وحديث الحسين حديث الحسن ، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين ، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحديث رسول الله قول الله عزّ وجلّ ) (١) .

وقالعليه‌السلام :( إنّا لو كنّا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ولكنّا نفتيهم بآثار من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصول علم عندنا نتوارثها كابر عن كابر ، نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضّتهم ) (٢) .

وقد تكفّلت كتب أصول الفقه بيان قواعد استنباط الأحكام ومناهجها وكيفية التعامل مع الأحاديث المدوّنة في عامة موسوعات الحديث وأُصوله .

وعلّم طلاّبه كيفية استنباط الأحكام من مصادر التشريع ، كما علّمهم كيفية التعامل مع الأحاديث المتعارضة ، قالعليه‌السلام فيما عارض القرآن :( ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف ) (٣) ، وقال أيضاً :( إنّ على كل حق حقيقة ، وعلى كل صواب نوراً ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه ) (٤) .

وفي حالة تعارض الأحاديث فيما بينها قالعليه‌السلام :( إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلاّ فالّذي جاءكم به أولى به ) (٥) .

وقالعليه‌السلام :( إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا ) (٦) .

ـــــــــــــــــ

(١) أصول الكافي : ١ / ٥٣ ـ ٥٨ .

(٢) بصائر الدرجات : ٣٠٠ .

(٣) الوسائل : ١٨ / ٧٨ .

(٤) أصول الكافي : ١ / ٦٩ .

(٥) المصدر السابق .

(٦) بحار الأنوار : ٢/٢٤٥ ح ٥٣ .

١٢٤

الفصل الثالث : دور الإمام الصادقعليه‌السلام في بناء الجماعة الصالحة

لقد تحدّثنا عن طبيعة الظروف السياسية وتناقضاتها والمظاهر الحياتية المضطربة ، والدور التخريبي الذي لعبته التيارات الفكرية والسياسية المنحرفة في ضمير الأمة وفكرها وثقافتها وعلى رأس هذا المدّ المنحرف كانت سياسة الأمويين الظالمة التي استمرّت لزمن طويل نسبياً .

كما تحدّثنا عن خطّ الإمامعليه‌السلام ومنهجه الإصلاحي العام مع الأمة ، حيث كانت الجامعة العلمية إحدى حلقات منهجه الإصلاحي الشامل .

ولم يقتصر نشاط الإمامعليه‌السلام على بناء الجامعة العلمية وغيرها من الأنشطة العامة ; لأنّه كان يدرك جيداً أنّ هدفه الكبير هو الحفاظ على الإسلام الذي سوف يتعرّض للتعطيل إذا اقتصر على ذلك ولم يستهدف المحتوى الداخلي للأفراد ، ولم يسع لبناء الشخصيّات الصالحة التي تمدّ الساحة الإسلامية العامّة بعوامل القوّة والبقاء والحفاظ على الأمة والدفاع عن مقدّساتها .

١٢٥

الهدف من إيجاد الجماعة الصالحة

من هنا كان تحرّك الإمام نحو بناء الجماعة الصالحة بهدف تغيير المجتمع الإسلامي وفق أطروحة أهل البيتعليهم‌السلام ; لأنّ وجود مثل هذا التيّار المتماسك يوفّر جملة من المكاسب والمنافع والأهداف التي كان يسعى الإمامعليه‌السلام لتحقيقها في حركته الرساليّة .

إنّ الجماعة الصالحة تحقّق ديمومة خط أهل البيتعليهم‌السلام حيث يشكّل وجودها خطوة عملية باتّجاه مشروعهم الكبير .

ونلخّص فيما يلي بعض النقاط التي يُحققها وجود هذه الجماعة الصالحة(١) .

١ ـ المحافظة على المجتمع الإسلامي

إنّ وجود هذا الخط في وسط الأمة سوف يوسّع من دائرة الأفراد الصالحين والواعين وكلّما اتّسعت هذه الدائرة كان الإمامعليه‌السلام أكثر اقتداراً على التغيير وإدارة العمل السياسي الذي يخوضه مع الحكّام .

ويمثّل هذا الخط القوّة التي تقف بوجه التحدّي الفكري والأخلاقي الذي واجهه العالم الإسلامي حينذاك ، وقد كان من المشهود تأريخيّاً ما لهذه الجماعة الصالحة من دور فعّال ومتميّز في تزييف البنى الفكريّة والسياسية

ـــــــــــــــــ

(١) راجع للتفصيل : السيد محمد باقر الحكيم / دور أهل البيتعليهم‌السلام في بناء الجماعة الصالحة ، الجزء الأوّل .

١٢٦

التي تعتمدها الفرق الضالّة من خلال مطارحاتهم ومناقشاتهم مع أقطاب تلك الفرق كالزنادقة والمجبّرة والمرجئة وغيرها .

وامتاز أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام عن غيرهم بالمواقف الشجاعة والتمسّك بالمثل والقيم العليا وعدم المداهنة وعدم الركون لإغراءات السلاطين ، وتحمّلوا ـ جرّاء التزامهم بالقيم المُثلى ـ شتّى ألوان القمع والاضطهاد ، وكان لمواقفهم الشجاعة الأثر الكبير في ثبات ومقاومة المجتمع الإسلامي أمام موجات الانحراف .

لقد كان الإمام الصادقعليه‌السلام يطلب من شيعته أن يكون كلٌّ منهم القدوة والمثل الأعلى في الوسط الذي يعيش فيه ، فقد روي عن زيد الشحّام أنّه قال : قال لي أبو عبد اللهعليه‌السلام :( اقرأ على مَن ترى أنّه يطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام ، وأوصيكم بتقوى الله عزّ وجلّ والورع في دينكم ، والاجتهاد لله وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وطول السجود ، وحسن الجوار ، فبهذا جاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأدّوا الأمانة إلى مَن ائتمنكم عليها برَّاً أو فاجراً ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأمر بأداء الخيط والمخيط ، صِلوا عشائركم واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم وأدّوا حقوقهم فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدّى الأمانة وحَسن خُلقه مع الناس ، قيل : هذا جعفريّ ) (١) .

وكان الإمامعليه‌السلام يأمر شيعته بالاهتمام بوحدة الصف الإسلامي والانفتاح على المذاهب الأخرى ، وترسيخ روح التعايش والمحبّة وتأكيد التماسك بين الجماعات الإسلامية ؛ فنجده يحرّضهم على التضامن والتكافل والوفاء بالعهود مع باقي المسلمين ، قالعليه‌السلام :( عليكم بالصلاة في المساجد وحسن الجوار للناس وإقامة الشهادة وحضور الجنائز ، إنّه لا بدّ لكم من الناس ، إنّ أحداً لا

ـــــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة : ١٢/٥ ح٢ عن أصول الكافي : ٢/٤٦٤ ح ٥ .

١٢٧

يستغني عن الناس في حياته ، والناس لابدّ لبعضهم من بعض ) (١) .

وكانعليه‌السلام يطرح للشيعة الأفق الإسلامي الرحيب في السلوك ليتحرّكوا باتّجاهه ، وأن لا يكتفوا بالمستويات الدانية مخافة أن تهزّهم ريح التحدّي والإغراء فيصف الشيعة لهم قائلاً :( فإنّ أبي حدّثني أنّ شيعتنا أهل البيت كانوا خيار مَن كانوا منهم : إن كان فقيه كان منهم ، وإن كان مؤذّن كان منهم ، وإن كان إمام كان منهم ، وإن كان كافل يتيم كان منهم ، وإن كان صاحب أمانة كان منهم ، وإن كان صاحب وديعة كان منهم ، وكذلك كونوا ، حبّبونا إلى الناس ولا تبغّضونا إليهم ) (٢) .

٢ ـ الحفاظ على الشريعة الإسلامية

وقف الإمام الصادقعليه‌السلام ضدّ حملات التشويه التي أرادت أن تعصف بالشريعة الإسلامية وتعرّضها للانحراف الذي أصاب الشرايع الأخرى من خلال دخول أفكار غريبة عن الشريعة بين أتباعها ، واستخدام أدوات جديدة لفهم الشريعة كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة .

ونتيجة للمستوى العلمي الرفيع الذي كان يتمتّع به أصحاب الإمام وشيعته لم تصبح مسألة الإفتاء والاستنباط خاضعة لمصلحة السلاطين وأهوائهم أو منسجمة مع متبنّياتهم الفكرية ، بل بقي الفهم الصحيح للكتاب والسُنّة مستقلاً عن تلك المؤثّرات وبعيداً عن استخدام تلك الأدوات الدخيلة على التشريع وعندما استخدمت الجماعات الأخرى تلك الأدوات الاجتهادية أدّت هذه الجرأة إلى آثار سلبيَّة ممّا اضطرّها إلى أن تلجأ إلى

ـــــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة : ١٢/٦ ح٥ عن الكافي : ٢/٤٦٤ ح١ .

(٢) مشكاة الأنوار : ١٤٦ ، وبحار الأنوار : ٧٤ / ١٦٢ .

١٢٨

غلق باب الاجتهاد ، وكان هذا القرار قد ترك هو الآخر آثاراً سلبية في المجتمع الإسلامي ؛ لعدم قدرتها على معالجة التطوّرات الجديدة التي كانت تواجهها البلاد الإسلامية فيما بعد .

لقد أكّد الإمام الصادقعليه‌السلام قضية مهمّة واعتبرها رصيداً مهمّاً لفهم النصوص وتبيينها والاستنباط منها وتلك هي ملكة التقوى والعدالة التي لابدّ للفقيه أن يتمتّع بها ليكون حارساً أميناً للشريعة ، والأمة التي تريد تطبيقها في الحياة .

والعدالة عند الإمامعليه‌السلام شرط في كثير من الممارسات الحياتية فهي شرط في إمام الجماعة وفي شهود الطلاق وفي القاضي والحاكم والوالي .

وهذه المزيّة لها دور كبير في حفظ الشريعة وحفظ النصوص الإسلامية بحيث تميز هذه المدرسة عن غيرها كما أنّ أصحاب الإمامعليه‌السلام لم يتعاملوا مع النصوص الواردة عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمةعليهم‌السلام كما تعاملوا مع النص القرآني القطعي الصدور ، بل تناولوها بالدراسة والنقد والتحليل ؛ لأنّ الراوي قد لا يكون معصوماً عندهم بالرغم من إيمانهم بعصمة الإمام المروي عنه .

٣ ـ المطالبة بالحكم الإسلامي

إنّ القيادة السياسية حق مشروع للأئمة المعصومين من أهل البيتعليهم‌السلام وفق النصوص الإسلامية الثابتة عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي تواترت عند مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام .

ومن هنا كانت القيادة السياسية التي تولّت الحكم بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١٢٩

مباشرة لا تحمل الصفة الشرعيّة بالرغم من نزول المسلمين عند إرادتها وعدم مواجهتها بالعنف ، فضلاً عن الحكّام الأمويين والعباسيين الذين عاصرهم الإمام الصادقعليه‌السلام حيث مارسوا شتّى الطرق لإبعاد الإمامعليه‌السلام وآبائه الكرام عن هذا الموقع الريادي .

والإمامعليه‌السلام كان يرى ضرورة العمل من أجل إيجاد الكيان الإسلامي الصحيح والمطلوب وذلك من خلال وجود المجتمع الإسلامي الصالح الذي يؤمن بالقيادة الشرعية الحقيقية المتمثّلة في الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام .

وهكذا كان الإمامعليه‌السلام يلفت النظر إلى ضرورة وجود هذه القاعدة الصالحة حين كان يجيب على التساؤلات التي كانت تدور في نفوس أصحابه كجوابه لسدير الصيرفي حيث جاء فيه بأنّ المطالبة بالحكم وإعلان الثورة المسلحة يعتمد الجماعة الصالحة التي تطيع وتضحّي وتتحمّل مسؤولية التغيير وتكون لها القدرة على التصدّي لكل عوامل الانحراف .

وهكذا تبدو أهمية السعي لتكوين وترشيد حركة الجماعة الصالحة في هذه المرحلة من حياة الإمامعليه‌السلام وتوسيع رقعتها في أرجاء العالم الإسلامي .

وسوف ندرس هذا التكوين وتكامل البناء من ثلاثة جوانب ، هي :

أ ـ البناء الجهادي .

ب ـ البناء الروحي .

ج ـ البناء الاجتماعي .

١٣٠

الدور الخاص للإمام الصادقعليه‌السلام في بناء الجماعة الصالحة

أ : البناء الجهادي

لقد كان عطاء الثورة الحسينية كبيراً جدّاً حيث أرجعت هذه الثورة الخالدة الأمة الإسلامية إلى مستوى التصدّي للثورة على الحكّام المنحرفين ، واستطاعت الأمة المسلمة بفضل هذه الثورة المباركة أن تتجاوز الهالة المزيّفة التي صنعها الأمويون لإضفاء طابع من الشرعية على سلطانهم ، وهذا الوعي الثوري والعمل الجهادي الذي شكّلته الأمة خلال عدّة عقود قد يأخذ بالهبوط إذا لم يقترن بعوامل البقاء والاستمرار والتكامل .

من هنا نجد الإمام الصادقعليه‌السلام قد تحرّك نحو صياغة العمل الثوري والجهادي ورسم هيكليّته ، وبالتالي تجذيره في النفوس ويبدو هذا واضحاً من خلال موقفه من ثورة عمّه زيد بن عليعليه‌السلام حيث صرّح قائلاً :( أَشْرَكَني الله في تلك الدماء مضى والله زيد عمّي وأصحابه شهداء مثل ما مضى عليه علي بن أبي طالب وأصحابه ) (١) .

وهذا الموقف منهعليه‌السلام يعطي الشرعية لثورة زيد ، ويرسم للجماعة الصالحة طموحات الإمامعليه‌السلام ، ويجعلها تعيش الهمّ الجهادي والثوري الذي يريده الإمام للقاعدة الصالحة التي تستطيع أن تسير بها نحو الأهداف المنشودة للقيادة الربّانية المتمثّلة في الإمام الصادقعليه‌السلام .

فالجماعة الصالحة هي ذلك النموذج الفاضل الذي يعدّه الإمامعليه‌السلام لمهمّة الإصلاح في المجتمع ، وهذه الجماعة هي التي سوف تتحمّل مسؤولية

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٤٦ / ١٧١ .

١٣١

الثورة الكبرى المرتقبة .

ومن هنا كان ترسيخ مبادئ وأهداف ومعالم وحيويّة الثورة الحسينية في نفوس الجماعة الصالحة من خطوات الإمام الكبيرة في هذا الصدد .

ترسيخ مبادئ وأهداف ومعالم الثورة الحسينية

لقد ربط الإمام الصادقعليه‌السلام العواطف باتّجاه مبادئ الثورة الحسينية وأهدافها ليكون الرفض ومقاومة الظلم مستنداً إلى الوعي الصحيح والتوجيه المنطقي ؛ لذا نجد خطابات الإمامعليه‌السلام واهتماماته لم تقتصر على الإثارات الفكرية والتوجيهات الوعظية نحو الثورة ، وإنّما استندت إلى أساليب تعبويّة وتحشيد جماهيريّ يعبّر بممارسته وحضوره عن الانتماء لخط الحسينعليه‌السلام .

ومن أساليبه بهذا الخصوص تأكيده على جملة من الوسائل مثل الزيارة والمجالس الحسينية والبكاء ونتكلّم عن كلٍّ منها بإيجاز :

١ ـ الزيارة : اعتبر الإمام الصادقعليه‌السلام زيارة قبر جدّه الحسينعليه‌السلام من الحقوق اللازمة والتي يجب على كل مسلم الاهتمام بها ويلزم الخروج من عهدتها .

قالعليه‌السلام :( لو أنّ أحدكم حجّ دهره ثم لم يزر الحسين بن علي عليه‌السلام لكان تاركاً حقّاً من حقوق رسوله ; لأنّ حقّ الحسين عليه‌السلام فريضة من الله عزّ وجلّ واجبة على كل مسلم ) (١) .

ـــــــــــــــــ

(١) كتاب المزار للشيخ المفيد : ٣٧ .

١٣٢

وقالعليه‌السلام :( مَن سرّه أن يكون على موائد النور يوم القيامة فليكن من زوّار الحسين بن علي عليه‌السلام ) (١) .

وقال عبد الله بن سنان : دخلت على سيدي أبي عبد الله جعفر بن محمدعليهما‌السلام في يوم عاشوراء فلقيته كاسف اللون ظاهر الحزن ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط فقلت : يا بن رسول الله ، مِمَّ بكاؤك ؟ لا أبكى الله عينيك فقال لي :أوَ في غفلة أنت ؟ أما علمت أنّ الحسين بن علي عليه‌السلام أُصيب في مثل هذا اليوم ؟

قلت : يا سيدي فما قولك في صومه ؟ فقال لي :( صمه من غير تبييت وافطره من غير تشميت ، ولا تجعله يوم صوم كملاً ، وليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعة على شربة من ماء فإنّه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلّت الهيجاء عن آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانكشفت الملحمة عنهم وفي الأرض منهم ثلاثون صريعاً في مواليهم يعزّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصرعهم ، ولو كان في الدنيا يومئذ حيّاً لكان صلوات الله عليه وآله هو المعزّى بهم .

يا عبد الله بن سنان إنّ أفضل ما تأتي به في هذا اليوم أن تعمد إلى ثياب طاهرة فتلبسها وتتسلّب . قلت : وما التسلّب ؟قال عليه‌السلام : تحلل أزرارك وتكشف عن ذراعيك كهيئة أصحاب المصايب ثم تخرج إلى أرض مقفرة أو مكان لا يراك به أحد أو تعمد إلى منزل لك خال ، أو في خلوة منذ حين يرتفع النهار ، فتصلّي أربع ركعات تحسن ركوعها وسجودها وتسلّم بين كلّ ركعتين تقرأ في الركعة الأولى سورة الحمد و ( قل يا ايها الكافرون ) وفي الثانية الحمد و ( قل هو الله أحد ) ثم تصلّي ركعتين تقرأ في الركعة الأولى الحمد وسورة الأحزاب ، وفي الثانية الحمد وسورة ( اذا جاءك المنافقون ) أو ما

ـــــــــــــــــ

(١) كامل الزيارات لابن قولويه باب : ٤٣ / ١٢١ .

١٣٣

تيسّر من القرآن .

ثم تسلّم وتحوّل وجهك نحو قبر الحسين عليه‌السلام ومضجعه فتمثّل لنفسك مصرعه ومَن كان معه من ولده وأهله وتسلّم وتصلّي عليه وتلعن قاتليه فتبرأ من أفعالهم ، يرفع الله عزّ وجل لك بذلك في الجنّة من الدرجات ويحطّ عنك السيئات .

ثم تسعى من الموضع الذي أنت فيه إن كان صحراء أو فضاء أو أي شيء كان خطوات ، تقول في ذلك : إنّا لله وإنّا إليه راجعون رضاً بقضائه وتسليماً لأمره ، وليكن عليك في ذلك الكآبة والحزن وأكثر من ذكر الله سبحانه والاسترجاع في ذلك .

فإذا فرغت من سعيك وفعلك هذا فقف في موضعك الذي صلّيت فيه ثم قل : اللّهمّ عذِّب الفجرة الذين شاقّوا رسولك وحاربوا أولياءك وعبدوا غيرك واستحلّوا محارمك ، والعن القادة والأتباع ومَن كان منهم فخبّ وأوْضَعَ معهم أو رضي بفعلهم لعناً كثيراً ، اللّهمّ وعجّل فرج آل محمد واجعل صلواتك عليهم واستنقذهم من أيدي المنافقين والمضلّين ، والكفرة الجاحدين وافتح لهم فتحاً يسيراً وأتح لهم رَوْحاً وفرجاً قريباً ، واجعل لهم من لدنك على عدوّك وعدوّهم سلطاناً نصيراً ) (١) .

هكذا كان الإمام الصادقعليه‌السلام يؤكّد مبادئ الثورة عن طريق الزيارة لتكون الزيارة خطّاً ثقافياً يُساهم في التربية وتمييز الجماعة الصالحة عن غيرها ، ويكون الحضور الدائم حول قبر الحسينعليه‌السلام بهذا المستوى العالي من الفهم والانتماء كدعوة للآخرين في أن يلتحقوا به وينضمّوا إلى أفكاره ومبادئه .

على أنّ الحضور الدائم حول القبر يتمتّع بالخزين العاطفي المتّكئ على

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ١٠١ / ٣٠٣ ـ ٣٠٦ .

١٣٤

أساس فكري ، وهذا بطبيعته يشكّل قاعدة للعمل الثوري الذي يعتمد المطالبة الواعية بإرجاع الحقوق المسلوبة من أهل البيتعليهم‌السلام وهذه الحقيقة كان يدركها الأمويون والعباسيون ؛ ولهذا وقفوا بوجه هذا المدّ المدروس وحالوا دون الزيارة بكلّ شكل ممكن .

٢ ـ المجالس الحسينية : ومن الخطوات التي تحرّك الإمام الصادقعليه‌السلام من خلالها من أجل صياغة العمل الثوري والجهادي وتربية الجماعة الصالحة على ضوئه هي قضية الرثاء التي حفظتها المجالس الحسينية ، فقد أكّدعليه‌السلام على رثاء الإمام الحسينعليه‌السلام كأسلوب من أساليب التربية والتحريك العاطفي لغرض ربط الأمة بالثورة الحسينية .

وكان الإمامعليه‌السلام يعقد هذه المجالس الخاصة لهذه الغاية والتي كان يطرح فيها إلى جانب الرثاء رُؤى وثقافة أهل البيتعليهم‌السلام العقائدية والأخلاقية والتربوية والسياسية لتكون أداة محفّزة لبثّ الوعي والعاطفة المبدئيّة .

قالعليه‌السلام لأبي هارون المكفوف :يا أبا هارون أنشدني في الحسين عليه‌السلام قال فأنشدته ، فبكى فقال :أنشدني كما تنشدون يعني بالرقّة قال فأنشدته :

اُمرُرْ على جَدَثِ الحُسَين

فَقُلْ لأعظُمه الزَكِيّه

قال : فبكى ثم قال :زِدني ، قال : فأنشدته القصيدة الأخرى ، قال : فبكى وسمعت البكاء من خلف الستر قال : فلمّا فرغت قال لي :( يا أبا هارون مَن أنشد في الحسين عليه‌السلام شعراً فبكى وأبكى عشراً كتبت له الجنّة ، ومَن أنشد في الحسين عليه‌السلام شعراً فبكى وأبكى خمسة كتبت له الجنّة ، ومَن أنشد في الحسين عليه‌السلام شعراً

١٣٥

فبكى وأبكى واحداً كتبت له الجنّة ) (١) .

وكان يؤكّد إحياء الذكرى كما نلاحظ ذلك في قولهعليه‌السلام لفضيل :( يا فضيل تجلسون وتتحدّثون ؟ ) قلت : نعم سيدي قال :( يا فضيل هذه المجالس أُحبّها ، أحْيُوا أمرنا رحم الله امرءاً أحيا أمرنا ) (٢) .

٣ ـ البكاء : ومن الأساليب التي اتّخذها الإمام الصادقعليه‌السلام لتركيز الخط الثوري وتأجيج روح الجهاد في نفوس خاصّته وشيعته هي تعميق وتعميم ظاهرة البكاء على الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ لأنّ البكاء يساهم في الربط العاطفي مع صاحب الثورة وأهدافه ويهيئ الذهن والنفس لتبنّي أفكار الثورة ويمنح الفرد المسلم الحرارة العاطفية التي تدفع بالفكرة نحو الممارسة والتطبيق ورفض الظلم واستمرار روح المواجهة والحصول على روح الاستشهاد .

كما يشكّل البكاء وسيلة إعلامية سياسيّة هادئة وسلميّة عبّر بها الشيعي عن المآسي والمظالم التي انتابته وحلّت بأُئمته ولا سيّما إذا كانت الظروف لا تسمح بالأنشطة الأخرى .

ولا يعبّر هذا البكاء عن حالة من الانهيار والضعف والاستسلام لإرادة الظالمين ، كما لا تشكّل إحياء هذه الذكرى والبكاء فيها وسيلة للتهرّب من الذنوب والحصول على صكوك الغفران كما يحلو للبعض أن يقول : إنّ الحسين قد قدّم دمه الطاهر لأجل براءة الشيعة من النار وإعفائهم من تبعات الآثام والخطايا التي يرتكبونها تشبّهاً بالنصارى الذين أباحوا لأنفسهم اقتراف الخطايا ; لأنّ المسيحعليه‌السلام كما يزعمون قد تكفّل بصلبه محو

ـــــــــــــــــ

(١) كامل الزيارات لابن قولويه : باب ٣٣ /١٠٤ .

(٢) واقعة الطف لبحر العلوم : ٥٢ .

١٣٦

خطاياهم .

فالبكاء الذي أكّده الإمامعليه‌السلام وتمارسه الشيعة لا يحمل واحداً من هذه العناوين ، بل هو تلك الحرارة التي تضخّ في الفكرة روح العمل وتخرجها من حيّز السكون إلى حيّز الحركة فقد جاء عنهعليه‌السلام :( إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جزع ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن علي عليه‌السلام فإنّه فيه مأجور ) (١) .

ب : البناء الروحي والإيماني

لقد تعرّض الواقع الإيماني والروحي في زمن الإمام الصادقعليه‌السلام إلى الخواء والذبول وبروز الأنانية وفصل الإيمان عن الأنشطة الحياتية الأخرى وإعطائه صورة مشوّهة ، وقد جاء ذلك بسبب عبث التيارات الفكرية التي استندت إلى دعم السلاطين والتي كانت تؤمن هي الأخرى أيضاً بلزوم طاعة الحاكم الأموي والعباسي ; تبريراً لدعمها للخط الحاكم .

من هنا بذل الإمام نشاطاً واسعاً لاستعادة الإيمان وبناء الذات وسموّها وفق الخط القرآني وترشيح قواعد إيمانية رصينة ، والانطلاق بالإيمان إلى آفاق أرحب وأوسع بدل التقوقع والنظرة الأحادية المجزّئة للدّين ; لأنّ الإيمان بهذا المعنى يمنح المؤمن القوّة في اقتحام الميادين الصعبة وتحمّل المسؤوليات ويمدّه بالنشاط والحيوية في مواصلة العمل والجهاد .

ونقتصر فيما يلي على بعض الأنشطة التي رسّخ الإمام عن طريقها الإيمان في نفوس أصحابه وخاصّته .

ـــــــــــــــــ

(١) كامل الزيارات لابن قولويه : باب ٣٣ .

١٣٧

١ـ حذّر الإمام من تكوين علاقات إيمانية مع مَن كانوا يسمّون بالعلماء ـ الذين انتشروا في زمانه ـ ومنع من الاقتداء بهم ؛ لأنّ ما يتحقق من خلال التعاطف معهم والمحبة لهم من دون معرفة لواقعهم النفسي والأخلاقي يكفي لبناء صرح إيماني خاطئ ومنحرف ; فإنّ العلم الذي يتمتّع به هؤلاء إنّما يكون كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءاً .

والإمامعليه‌السلام يشير إلى أنّ هذا النوع من العلاقة ينتهي إلى فساد العلاقة مع الله والابتعاد عنه سبحانه ، قالعليه‌السلام :( أوحى الله إلى داود عليه‌السلام : لا تجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً بالدنيا فيصدّك عن طريق محبّتي ; فإنّ أولئك قطّاع طريق عبادي المريدين ، إنّ أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم ) (١) .

٢ ـ ومن الأمور التي صحّحها الإمامعليه‌السلام ونبّه عليها أصحابه هو مفهوم الإيمان ومعناه ، فحاول أن يبلور صورته الصحيحة ويكشف عنه الإبهام في نفوس أصحابه ؛ وذلك عن طريق تشخيص صفات المؤمن فإنّ المؤمن هو ذلك الإنسان الذي يعكس المفهوم الإلهي بصورته الشاملة للحياة ، وليس هو ذلك النموذج المستسلم في حياته الفاقد لإرادته والذي يطمع فيه أهل السياسة لاستثمار طاقاته باتّجاه مصالحهم .

ولهذا نرى الإمامعليه‌السلام يشير إلى مسألة مهمّة تستبطن بعداً اجتماعياً وسياسيّاً ينبغي للمؤمن أن يعيها ويتحرّك بموجبها ، حين قالعليه‌السلام :( إنّ الله فوّض إلى المؤمن أمره كلّه ، ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً ، أما تسمع الله تعالى يقول : ( ولله العِزّة ولرسوله وللمؤمنين ) (٢) فالمؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً ) .

ـــــــــــــــــ

(١) الكافي : ١ / ٤٦ ، وعلل الشرائع : ٣٩٤ ح١٣ ، وبحار الأنوار : ٢ / ١٠٧ .

(٢) المنافقون (٦٣) : ٨ .

١٣٨

ثم قالعليه‌السلام :( المؤمن أعز من الجبل ، والجبل يستقل منه بالمعاول ، والمؤمن لا يستقلّ من دينه بشيء ) (١) .

٣ ـ كما بيّن الإمامعليه‌السلام أنّ القلب الخالي من مخافة الله ـ التي هي معيار الكمال والقوّة لقلب المؤمن ـ ليس بشيء ، فالقلب المملوء خوفاً من الله الكبير المتعال تتصاغر عنده سائر القوى مثل قوّة السلطان وقوّة المال وكل قوّة بشرية ، والقلب الذي لا يستشعر الرقابة الإلهية ويتغافل عن هيمنتها يكون ضعيفاً وساقطاً مهما بدا قوياً وعظيماً إنّ هذا النمط من العلاقة السلبية مع الله يؤدّي إلى اهتزاز الذات وقلقها وهزيمتها أمام التحدّيات الصادرة من تلك القوى المخلوقة الضعيفة أمام قدرة الله وعظمته وجبروته .

عن الهيثم بن واقد قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول :( مَن خاف الله أخاف الله منه كل شيء ومَن لم يخف الله أخافه الله من كلّ شيء ) (٢) .

٤ ـ ومن جملة تنبيهاته للشيعة أنّه قد حذّر من الثرثرة في الكلام وأمرهم بضبط اللسان وأشار إلى خطورة الكلام وما يترتّب عليه من آثار سيئة وآثام تضرّ بالإيمان كما حذّر أيضاً من الاستجابة لهوى النفس قائلاً :( إن كان الشؤم في شيء فهو في اللسان ، فاخزنوا ألسنتكم كما تخزنون أموالكم ، واحذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم فليس أقتل للرجال من اتّباع الهوى وحصائد ألسنتهم ) (٣) .

٥ ـ كما لفت الإمام أنظار شيعته إلى أن لا يتجاهل أحدهم الإشاعات التي يطلقها الخصوم ضد أصحابه فقد تكون مصيبة وصحيحة ، ولتكن مدعاة

ـــــــــــــــــ

(١) تهذيب الأحكام : ٦ / ١٧٩ .

(٢) الكافي : ٢ / ٦٨ .

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٥٣٤ .

١٣٩

لمراجعة النفس قالعليه‌السلام :( مَن لم يبال ما قال وما قيل فيه فهو شرك الشيطان ، ومَن لم يبال أن يراه الناس مسيئاً فهو شرك الشيطان ) (١) .

مظاهر عمق الإيمان

لقد أعطى الإمامعليه‌السلام للشيعة علائم ومؤشّرات واضحة تكشف عن عمق التديّن وعن مدى صحّته وسلامته ، فإنّ الإيمان أمر باطني ولكن له آثاره ومظاهره التي تكشف عنه ولا معنى لإيمان بلا عطاء ولا ثبات ولا قدرة على المواجهة .

فالمؤمن ذلك النموذج الذي يبرز تديّنه عندما يوضع على المحك ويعرَّض للمصاعب ولا ينثني أمام المغريات ولا يستجيب لمخطّطات أهل الباطل .

وقد هاجم الإمامعليه‌السلام تلك الشريحة التي تنتسب إلى التشيّع وهي تمارس أخلاقيات مرفوضة في نظر الإمام ، وأوضح بأنّ الإيمان كُلٌّ لا يتجزّأ بصفة دون أخرى مشيراً إلى أهمّية الاقتداء بالأئمةعليهم‌السلام قائلاً :( إنّما ينجو مَن أطال الصمت عن الفحشاء ، وصبر في دولة الباطل على الأذى ، أولئك النجباء الأصفياء الأولياء حقّاً وهم المؤمنون ، إنّ أبغضكم إليَّ المترأسون (٢) المشاؤون بالنمائم ، الحسدة لإخوانهم ليسوا منّي ولا أنا منهم إنّما أوليائي الذّين سلّموا لأمرنا واتبعوا آثارنا واقتدوا بنا في كل أمورنا ) (٣) .

ـــــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة : ١١ / ٢٧٣ ح١٠ ، عن مَن لا يحضره الفقيه : ٤ / ٤١٧ .

(٢) أي طلاّب الرئاسة .

(٣) تحف العقول : ٣٠٧ ، وعنه في بحار الأنوار : ٧٨ / ٢٨٦ .

١٤٠