اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)15%

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 241

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 241 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 117380 / تحميل: 9541
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

كما نجد الإمامعليه‌السلام يعطي ضابطة سلوكية تكشف بدورها عن مستوى التديّن وعمقه في النفس قائلاً :( إذا رأيتم العبد يتفقّد الذنوب من الناس ، ناسياً لذنبه فاعلموا أنّه قد مكر به ) (١) .

القدوة الحسنة

ومن الوسائل التي استخدمها الإمامعليه‌السلام في منهجه التغييري وبنائه للمجمتع الفاضل هو اهتمامه وتركيزه على النموذج الشيعي الذي يشكّل القدوة الحسنة في سلوكه ليكون عنصراً مؤثراً ومحفّزاً للخير ومشجّعاً لنمو الفضيلة في داخل المجتمع وقد بذل الإمامعليه‌السلام جهداً منقطع النظير في تربيته وإعداده للنموذج القدوة وقد سلّحه بمختلف العلوم وأحاطه بجملة من الوصايا والتوجيهات العلمية والأخلاقية .

واستطاع الإمام بطاقاته الإلهية أن يصنع عدداً كبيراً من هؤلاء الذين أصبحوا فيما بعد قادةً ومناراً تهوي إليهم القلوب لتنهل من علومهم ، وبقي اسمهم مخلّداً في التأريخ يتناقل المسلمون مآثرهم جيلاً بعد جيل .

ونقتصر فيما يلي على بعض التوجيهات بهذا الصدد :

١ ـ جاء عنهعليه‌السلام فيما يخص العبادة التي يتميّز بها الشيعي وعلاقته بالله أنه قال :( امتحنوا شيعتنا عند مواقيت الصلاة ، كيف محافظتهم عليها ، وإلى أسرارنا كيف حفظهم لها عند عدوّنا ، وإلى أموالهم كيف مواساتهم لإخوانهم فيها ) (٢) .

٢ ـ عن محمد بن عجلان قال كنت مع أبي عبد اللهعليه‌السلام فدخل رجل

ـــــــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٣٦٤ ، وبحار الأنوار : ٧٨ / ٢٤٦ .

(٢) وسائل الشيعة : ٣ / ٨٣ ، وبحار الأنوار : ٦٨ / ١٤٩ عن قرب الإسناد : ٥٢ .

١٤١

فسلّم ، فسأله ،( كيف من خلّفت من إخوانك ؟ ) فأحسن الثناء وزكى وأطرى ، فقال له :( كيف عيادة أغنيائهم لفقرائهم ؟ ) قال : قليلة قال :( كيف مواصلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم ؟ ) فقال : إنّك تذكر أخلاقاً ما هي فيمَن عندنا قالعليه‌السلام :( فكيف يزعم هؤلاء أنّهم لنا شيعة ؟ ) (١) .

لقد أكّد الإمامعليه‌السلام أهميّة القدوة الحسنة في المجتمع قال المفضّل : قال أبو عبد الله وأنا معه :( يا مفضّل ! كم أصحابك ؟ ) فقلت قليل فلمّا انصرفت إلى الكوفة ، أقبلت عليَّ الشيعة ، فمزّقوني كل ممزق ، يأكلون لحمي ، ويشتمون عرضي ، حتى أنّ بعضهم استقبلني فوثب في وجهي ، وبعضهم قعد لي في سكك الكوفة يريد ضربي ، ورموني بكلّ بهتان حتى بلغ ذلك أبا عبد اللهعليه‌السلام ، فلمّا رجعت إليه في السنة الثانية ، كان أوّل مااستقبلني به بعد تسليمه عليّ أن قال :يا مفضّل : ما هذا الذّي بلغني أنّ هؤلاء يقولون لك وفيك ؟ قلت : وما عليّ من قولهم ، قال :( أجل بل ذلك عليهم ، أيغضبون ؟! بؤس لهم إنّك قلت إنّ أصحابك قليل ، لا والله ما هم لنا شيعة ، ولو كانوا لنا شيعة ما غضبوا من قولك وما اشمأزّوا منه لقد وصف الله شيعتنا بغير ما هم عليه ، وما شيعة جعفر إلاّ مَن كفَّ لسانه ، وعمل لخالقه ورجا سيّده ، وخاف الله حق خيفته ويحهم !! أفيهم مَن قد صار كالحنايا من كثرة الصلاة ، أو قد صار كالتائه من شدّة الخوف ، أو كالضرير من الخشوع أو كالضني (٢) من الصيام ، أوكالأخرس من طول صمت وسكوت ؟! أو هل فيهم مَن قد أدأب ليله من طول القيام ، وأدأب نهاره من الصيام ، أو منع نفسه لذّات الدنيا ونعيمها خوفاً من الله وشوقاً إلينا أهل البيت ؟! أنّى يكونون لنا شيعة وإنّهم ليخاصمون عدوّنا فينا حتّى يزيدوهم

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٦٨ / ١٦٨ ح٢٧ عن صفات الشيعة للصدوق : ١٦٦ .

(٢) ضنى ضناء : اشتدّ مرضه حتى نحل جسمه .

١٤٢

عداوةً ، وإنّهم ليهرّون هرير الكلب ويطمعون طمع الغراب أما إنّي لو لا أنّني أتخّوف عليهم أن أغريهم بك ، لأمرتك أن تدخل بيتك وتغلق بابك ثم لا تنظر إليهم ما بقيت ، ولكن إن جاؤوك فاقبل منهم ; فإنّ الله قد جعلهم حجّة على أنفسهم واحتجّ بهم على غيرهم .

لا تغرّنكم الدنيا وما ترون فيها من نعيمها وزهرتها وبهجتها وملكها فإنّها لا تصلح لكم ، فو الله ما صلحت لأهلها ) (١) .

ج : البناء الاجتماعي

رسم الإمام الصادقعليه‌السلام الخط العام للعلاقات الاجتماعية للجماعة الصالحة ، وبيّن نظامها ووضع الأسس والقواعد المبدئية لهذا النظام ورسّخها في نفوسهم ؛ ليتمكّن الفرد الصالح من العيش في المجتمع وفي الظروف الصعبة ، ويمتلك القدرة في مواجهة المخططات التي تسعى لتفتيت مثل البناء الذي يهدف له الإمام وهو النظام الاجتماعي الذي خطط له الإمام ، وأمدّه بعناصر البقاء والاستمرار ليمتدّ بجذوره في أوساط الأمة .

الانفتاح على الأُمّة

لقد أكّد الإمامعليه‌السلام على محور مهمّ يمدّ الجماعة الصالحة بالقدرة والانتشار هو محور الانفتاح على الأمة وعدم الانغلاق على أنفسهم ، وقد حثّ الإمام شيعته على توسيع علاقاتهم مع الناس وشجّعهم على الإكثار من الأصحاب والأصدقاء فقد جاء عنهعليه‌السلام :( أكثروا من الأصدقاء في الدنيا فإنّهم

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٧٨ / ٣٨٣ ، عن تحف العقول : ٣٨٥ .

١٤٣

ينفعون في الدنيا والآخرة ، أمّا في الدنيا فحوائج يقومون بها وأمّا في الآخرة فإنّ أهل جهنّم قالوا مالنا من شافعين ولا صديق حميم ) (١) .

وجاء عنه أيضاً :( استكثروا من الإخوان فإنّ لكل مؤمن دعوة مستجابة ) .

وقال :( استكثروا من الإخوان فأنّ لكل مؤمن شفاعة ) (٢) كما أكّد الإمامعليه‌السلام على مواصلة هذا الانفتاح وشدّه بآداب وأخلاق تدعو للتلاحم والتعاطف بين المؤمنين فقال :( التواصل بين الإخوان في الحضر التزاور والتواصل في السفر المكاتبة ) (٣) .

وقالعليه‌السلام :( إنّ العبد ليخرج إلى أخيه في الله ليزوره فما يرجع حتى يغفر له ذنوبه وتقضى له حوائج الدنيا والآخرة (٤) ومن الآداب والأخلاق التي تصبّ في رافد التواصل الاجتماعي هو المصافحة التي حثّ الإمامعليه‌السلام عليها فقال :( تصافحوا فإنّها تذهب بالسخيمة ) (٥) .

وقال أيضا :( مصافحة المؤمن بألف حسنة ) (٦) .

وقالعليه‌السلام في التعانق :( إنّ المؤمنين إذا اعتنقا غمرتهما الرحمة ، فإذا التزما لا يريدان بذلك إلاّ وجه الله ولا يريدان غرضاً من أغراض الدنيا قيل لهما : مغفور لكما ، فاستأنفا ، فإذا أقبلا على المسألة قالت الملائكة بعضها لبعض تنحّوا عنهما فإنّ لهما سرّاً وقد ستر الله عليهما ، قال إسحاق : فقلت : جعلت فداك فلا يكتب عليهما لفظهما

ـــــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٠٧ .

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٠٨ .

(٣) تحف العقول : ٣٥٨ ، بحار الأنوار : ٧٨ / ٢٤٠ .

(٤) مشكاة الأنوار : ٢٠٩ .

(٥) الكافي : ٢ / ١٨٣ ، وتحف العقول : ٣٦ ، وبحار الأنوار : ٧٨ / ٢٤٣ .

(٦) مشكاة الأنوار : ٢٠٣ .

١٤٤

وقد قال الله عزّ وجل :( ما يلفظ من قولٍ إلاّ لديه رقيب عتيد ) ؟!(١) قال : فتنفّس أبو عبد الله الصعداءعليه‌السلام ثمّ بكى حتى أخضلت دموعه لحيته وقال :يا إسحاق : إنّ الله تبارك وتعالى إنّما أمر الملائكة أن تعتزل عن المؤمنين إذا التقيا إجلالاً لهما ، وإنّه وإن كانت الملائكة لا تكتب لفظهما ولا تعرف كلامهما فإنّه يعرفه ويحفظه عليهما عالم السر وأخفى ) (٢) .

تأكيد علاقة الأُخوّة :

كان الإمامعليه‌السلام يعمّق ويجذّر علاقة الأُخوّة في الله ، ويضع لها التوجيهات المناسبة التي تزيد في التلاحم والتفاهم ، فمنها ما قالهعليه‌السلام لخيثمة :( أبلغ موالينا السلام وأوصهم بتقوى الله والعمل الصالح وأن يعود صحيحهم مريضهم وليعد غنيهم على فقيرهم ، وأن يشهد جنازة ميّتهم ، وأن يتلاقوا في بيوتهم وأن يتفاوضوا علم الدين فإنّ ذلك حياة لأمرنا رحم الله عبداً أحيى أمرنا ) (٣) .

وقالعليه‌السلام في المواساة بين المؤمنين :( تقرّبوا إلى الله تعالى بمواساة إخوانكم ) (٤) .

قال محمّد بن مسلم : أتاني رجل من أهل الجبل فدخلت معه على أبي عبد الله فقال له حين الوداع أوصني فقالعليه‌السلام :( أُوصيك بتقوى الله وبرّ أخيك المسلم ، وأحب له ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لنفسك ، وإن سألك فأعطه وإن كفّ عنك فأعرض عليه ، لا تملّه خيراً فإنّه لا يملّك وكن له عضداً فإنّه لك عضد ، وإن وجد عليك

ـــــــــــــــــ

(١) سورة ق (٥٠) : ١٨ .

(٢) الكافي : ٢ / ١٨٤ بحار الأنوار : ٧٦ / ٣٥ وسائل الشيعة : ٨ / ٥٦٣ .

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٠٠ .

(٤) الخصال : ٨ وبحار الأنوار ٧٤ / ٣٩١ .

١٤٥

فلا تفارقه حتى تحلّ سخيمته (١) وإن غاب فاحفظه في غيبته ، وإن شهد فاكنفه وأعضده ووازره ، وأكرمه ولاطِفه فإنّه منك وأنت منه ) (٢) .

وقالعليه‌السلام مبيّناً صفة الأُخوّة في الله قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ستّ خصال مَن كُنّ فيه كان بين يدي الله عزّ وجلّ وعن يمين الله . فقال له ابن يعفور : وما هنّ جُعلت فداك ؟ قال :يحب المرء المسلم لأخيه ما يحب لأعزّ أهله ، ويكره المرء المسلم لأخيه ما يكره لأعزّ أهله ويناصحه الولاية ( إلى أن قال )إذا كان منه بتلك المنزلة بثّه همّه ففرح لفرحه إن هو فرح ، وحزن لحزنه إن هو حزن وإن كان عنده ما يفرج عنه فرّج عنه إلاّ دعا له ) (٣) .

كما نجده يحذّر من بعض التصرّفات التي من شأنها أن تفسد العلاقة ، فقد قالعليه‌السلام لابن النعمان :( إن أردت أن يصفو لك ودّ أخيك فلا تمازحنّه ولا تمارينه ولا تباهينّه ، ولا تشارنه ، ولا تطلع صديقك من سرّك إلاّ على ما لو اطّلع عليه عدوّك لم يضرّك ، فإنّ الصديق قد يكون عدوّك يوماً ) (٤) .

كما حذّرعليه‌السلام من المجاملة على حساب المبدأ والتعاطف مع الخصوم فقال :( مَن قعد إلى سابّ أولياء الله فقد عصى الله ومَن كظم غيضاً فيما لا يقدر على إمضائه كان معنا في السنام الأعلى ) (٥) .

وقال أيضاً :( مَن جالس لنا عائباً ، أو مدح لنا قالياً أو واصل لنا قاطعاً ، أو قطع لنا واصلاً ، أو والى لنا عدواً ، أو عادى لنا وليّاً فقد كفر بالذي أنزل السبع المثاني

ـــــــــــــــــ

(١) السخيمة : الحقد والضغينة حتى تسل سخيمته والسل الانتزاع والإخراج في رفق .

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٥٤٩ .

(٣) وسائل الشيعة : ٨/٥٤٢ .

(٤) الكافي : ١ / ١٦٥ ، وبحار الأنوار : ٧٨ / ٢٨٦ .

(٥) المصدر السابق .

١٤٦

والقرآن العظيم ) (١) .

وحذّر أيضاً من مرض الانقباض والشحناء مع الإخوان والمراء والخصومة فقالعليه‌السلام : قال أمير المؤمنينعليه‌السلام :( إيّاكم والمراء والخصومة فإنّهما يمرضان القلوب على الإخوان وينبت عليهما النفاق ) (٢) .

موقف الإمامعليه‌السلام من الهجران والمقاطعة

وندّد الإمامعليه‌السلام بظاهرة المقاطعة بين المؤمنين قائلاً :( لا يفترق رجلان على الهجران إلاّ استوجب أحدهما البراءة واللعنة ، وربّما استحق ذلك كلاهما فقال له معتّب : جعلني الله فداك ، هذا الظالم فما بال المظلوم ؟ قال :لأنّه لا يدعو أخاه إلى صلته ولا يتغامس ( يتغافل )له عن كلامه ، سمعت أبي يقول : إذا تنازع اثنان ، فعازّ أحدهما الآخر فليرجع المظلوم على صاحبه حتى يقول لصاحبه : أي أخي أنا الظالم ، حتى يقطع الهجران فيما بينه وبين صاحبه فإنّ الله تبارك وتعالى حكم عدل يأخذ للمظلوم من الظالم ) (٣) .

الخطّ التربوي للإمام الصادقعليه‌السلام

لم تكن علاقة الإمام الصادقعليه‌السلام مع جماعته وأصحابه من الناحية التربوية قائمة على أساس الوعظ والإرشاد العام من دون تشخيص لمستويات وواقع سامعيه فكرياً وروحياً وما يحتاجون إليه ، بل كانعليه‌السلام يستهدف البناء

ـــــــــــــــــ

(١) الأمالي للصدوق : ٥٥ وبحار الأنوار : ٢٧/٢٢ ، وسائل الشيعة : ١١/٥٠٦ .

(٢) وسائل الشيعة : ٨/٤٠٦ ، باب كراهة الانقباض من الناس .

(٣) الكافي : ٢/٣٤٤ / ح١ وبحار الأنوار : ٧٥/١٨٤ ، وسائل الشيعة : ٨/٥٨٤ .

١٤٧

الخاص ، ويميّز بينهم ويزقّ لهم الفكرة التربوية التي تحرّكهم نحو الواقع ليكونوا على استعداد تام لتحمّل مسؤولية إصلاح الأمة فكان يزوّدهم بالأُسس والقواعد التربوية الميدانية التي تؤهلهم لتجاوز الضغوط النفسية والاقتصادية ويمتلكوا الأمل الإلهي في تحقيق أهدافهم .

ونشير إلى بعض ما رفد به الإمام أصحابه من توجيهات ضمن عدّة نقاط :

النقطة الأولى : في الدعوة والإصلاح

قالعليه‌السلام :( إنّما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر مَن كانت فيه ثلاث خصال : عالم بما يأمر ، عالم بما ينهى عادل فيما يأمر ، عادل فيما ينهى ، رفيق بما يأمر ، رفيق بما ينهى ) (١) .

واعتبر الإمامعليه‌السلام النقد البنّاء سبباً لسدّ الفراغ والضعف الذي يصيب الأفراد عادةً ، فقالعليه‌السلام :( أحبّ إخواني إليَّ مَن أهدى إليَّ عيوبي ) (٢) .

وقالعليه‌السلام :( إذا بلغك عن أخيك ما تكره ، فاطلب له العذر إلى سبعين عذراً فإنْ لم تجد له عذراً ، فقل لنفسك لعلّ له عذراً لا نعرفه ) (٣) .

النقطة الثانية : التعامل التربوي في مجال العلم والتعلّم

أكّد الإمام الصادقعليه‌السلام على الخطورة التي تترتّب على الرسالة العلمية إذا انفكت عن قاعدتها الأخلاقية وَوُظِّفَ العلم لأغراض دنيوية وما ينجم عنه من تشويه لهذه الرسالة المقدّسة وقد لعب هذا الفصل بين العلم وقاعدته

ـــــــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٣٥٨ ، وبحار الأنوار : ٧٨/٢٤٠ .

(٢) تحف العقول : ٣٦٦ ، وبحار الأنوار : ٧٨/٢٤٩ .

(٣) إحقاق الحق : ١٢/٢٧٩ ، والمشروع الرويّ : ١/٣٥ .

١٤٨

الأخلاقية دوراً سلبياً حيث أنتج ظاهرة وعّاظ السلاطين التي وظّفت الدين لمصلحة السلطان ، من هنا حذّر الإمامعليه‌السلام من هذه الظاهرة ضمن تصنيفه لطلبة العلم قائلاً :( طلبة العلم ثلاثة فاعرفوهم بأعيانهم وصفاتهم : صنف يطلبه للجهل والمراء ، وصنف يطلبه للاستطالة والختل ، وصنف يطلبه للفقه والعقل.

فصاحب الجهل والمراء ، مؤذ ممار متعرّض للمقال في أندية الرجال بتذاكر العلم وصفة الحلم قد تسربل بالخشوع وتخلّى من الورع ، فدقّ الله من هذا خيشومه وقطع منه حيزومه .

وصاحب الاستطالة والختل ، ذو خبّ وملق يستطيل على مثله من أشباهه ويتواضع للأغنياء من دونه ، فهو لحلوائهم هاضم ، ولدينه حاطم ، فأعمى الله على هذا خبره ، وقطع من آثار العلماء أثره .

وصاحب الفقه والعقل ، ذو كآبة وحزن وسهر ، قد تحنّك في برنسه ، وقام الليل في حندسه ، يعمل ويخشى وجلاً داعياً مشفقاً ، مقبلاً على شأنه ، عارفاً بأهل زمانه ، مستوحشاً من أوثق إخوانه فشدّ الله من هذا أركانه ، وأعطاه يوم القيامة أمانه ) (١) .

النقطة الثالثة : الضابطة التربوية للتصدّي والقيادة

وضع الإمامعليه‌السلام قاعدة أخلاقية عامة وضابطة يتعامل بها المؤمن ويطبّقها في كل ميادين الحياة ، وبها تنمو الفضيلة ، وتكون أيضاً سبباً للتنافس الصحيح والبنّاء والتفاضل المبدئي وبغياب هذه القاعدة واستبدالها بمقاييس مناقضة لها سوف يتقدّم المفضول على الفاضل وتضيع القيم وتهدر الطاقات ، قالعليه‌السلام :( مَن دعا الناس إلى نفسه ، وفيهم مَن هو أعلم منه ، فهو مبتدع ضالّ ) (٢) .

ـــــــــــــــــ

(١) الكافي : ١/٤٩ ، وبحار الأنوار : ٨٣ / ١٩٥ .

(٢) تحف العقول : ٣٧٥ ، وبحار الأنوار : ٧٨/٢٥٩ .

١٤٩

النقطة الرابعة : المحنة والقدرة على المقاومة

لقد عبّأ الإمام الصادقعليه‌السلام شيعته وعاهدهم في أكثر من مرّة قائلاً : إنّ الانتماء لخطّه سوف يترتّب عليه من الاضطهاد والابتلاء ما لا يطيقه أحد إلاّ مَن اختاره الله سبحانه ، كما أنّ التشيّع لا يستحقه إلاّ أولئك الذين لديهم الاستعداد للتضحية العالية وتحمّل البلاء وهذا أسلوب إلهي استخدمه الله مع أوليائه ، فعن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام عندما ذكر عنده البلاء وما يخص به المؤمن قال :سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَن أشد الناس بلاءاً في الدنيا ؟ فقال : ( النبيون ثم الأمثل فالأمثل ، ويُبتلى المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن أعماله فمَن صحّ إيمانه وحسن عمله اشتدّ بلاؤه ، ومَن سخف إيمانه وضعف عمله قلّ بلاؤه ) (١) .

وروى الحسين بن علوان عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّه قال وعنده سدير :( إنّ الله إذا أحبّ عبداً غتّه بالبلاء غتّاً ) (٢) .

وقالعليه‌السلام :( قد عجز مَن لم يعد لكل بلاءٍ صبراً ، ولكل نعمة شكراً ، ولكل عسر يُسراً ، اصبر نفسك عند كل بلية ورزية في ولد أو في مال ، فإنّ الله إنّما يقبض عاريته وهبته وليبلو شكرك وصبرك ) (٣) .

وقالعليه‌السلام :( إنّا لنصبر ، وإنّ شيعتنا لأصبر منّا ، قال الراوي فاستعظمت ذلك ، فقلت : كيف يكون شيعتكم أصبر منكم ؟! فقالعليه‌السلام :إنّا لنصبر على ما نعلم ، وأنتم تصبرون على ما لا تعلمون ) (٤) .

ـــــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة : ٢/٩٠٦ .

(٢) المصدر السابق : ٢/٩٠٨ .

(٣) تحف العقول : ٣٦١ ، وبحار الأنوار : ٦٧/٢١٦ .

(٤) مشكاة الأنوار : ٢٧٤ .

١٥٠

الباب الرابع :

فيه فصول :

الفصل الأول : نهاية الحكم الأموي وبداية الحكم العبّاسي .

الفصل الثاني : حكومة المنصور واستشهاد الإمام الصادقعليه‌السلام .

الفصل الثالث : من تراث الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام .

١٥١

الفصل الأول : نهاية الحكم الأموي وبداية الحكم العبّاسي

١ ـ المستجدّات السياسية

لقد تداعا النظام الأموي في هذه المرحلة التاريخية من حياته بعد أن فقد في نظر الأمة كلّ مبرّراته الحضارية ، عقائدية كانت أو سياسية ، ولم يبقَ في قبضته سوى منطق السيف الذي هو آخر مواطن القوّة التي كان يدير بها شؤون البلاد .

وحتى هذا المنطق لم يدم طويلاً أمام إرادة الأمة رغم صرامة آخر ملوك الأمويين (مروان) المعروف في حسمه .

لقد استحكمت قناعة الأمة وآمنت بضرورة التخلّص من الطغيان الأموي ، ولم يبق بعد شيءٌ بيد وعّاظ السلاطين ليرتشوا به ويدافعوا عن وجه الاستبداد الأموي الكالح فيوظّفوا القرآن والحديث لصالح مملكته ولزوم طاعة الأمة لحكّامها ؛ حيث تراكمت في ذهن الأمة وضميرها تلك المظالم التي ارتُكبت بحق ذريّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدءاً بسمّ معاوية للإمام الحسنعليه‌السلام وسبّه الإمام علي أخي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابن عمّه وزوج ابنته وجعل السبّ سُنّةً ، ثم قتل الحسين بن علي ريحانة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته وخيرة أصحابه

١٥٢

بأمر يزيد وعمّاله ، وأخذه البيعة من أهل المدينة في واقعة الحَرّة الأليمة على أنّهم عبيد له بعد أن أباحها لجيشه ثلاثة أيام .

وقول عبد الملك بن مروان :( مَن أوصاني بتقوى الله ضُربت عنقه ) (١) وقتل الطاغية هشام لزيد بن عليعليه‌السلام وصلبه وحرق جثمانه الشريف .

وفساد الولاة الأمويين بالإضافة إلى جبايتهم الضرائب الظالمة ، وشقّ صف وحدة الأمة الإسلامية وتمزيقها إلى طوائف بإشاعتهم للروح القبلية حيث فرّقوا بالعطاء واستعبدوا الشعوب غير العربية .

وهكذا ظهرت إلى سطح الساحة الفكرية والفقهية آراء لا ترى أية شرعية للنظام الأموي وعبّرت عن ذلك في وسط الأمة وأصبح مدح العلويين أمراً تتناقله الناس رغم سلبية موقف السلطة منهم ، بعد أن كان الخوف يمنعهم من التعبير عن رأيهم .

وهكذا استعدت الأمة بفعل تراكم الظلم الأموي ؛ لأنّ تتقبّل أي بديل من شأنه أن ينقذها من الكابوس الأموي ، لعلّها تنعم بشيء من العدل والمساواة .

وهذا الجو قد شجّع على ظهور اتجاهات وادّعاءات سياسية تحرض الأمة وتدعوها إلى الانضمام تحت رايتها تحقيقاً لأطماعها في الخلافة ، كما تطلّعت الأمة للمنقذ باحثة عن أخباره بشغف وأخذت فكرة المهدي المنتظر تشقّ طريقها في أوساط الأمة المظلومة .

ومن جانب آخر اتّسع خط الإمامعليه‌السلام وامتدّ وكثرت أنصاره واستلهمت الأمة ثقافته حيث إنّه قد أثّر في عقلها وقراراتها ، ليس على

ـــــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢١٩ .

١٥٣

المستوى الخاص الذي يحضى برعاية الإمام فحسب ، أو في دوائر محدودة ، بل أصبح له وجود في مختلف البلاد الإسلامية وتألّق الإمام الصادقعليه‌السلام ودخل صيته في كل بيت حتى أصبح مرجعاً روحياً تهوى إليه القلوب من كل مكان وتلوذ به لحل مشكلاتها الفكرية والعقائدية والسياسية .

ولم يكن هذا الامتداد منحصراً بين عموم الناس وسوادها بل كان الإمامعليه‌السلام مرجعاً لعلمائها وموئلاً لساستها ، فهذا سفيان الثوري يقول : دخلت على الإمام الصادقعليه‌السلام فقلت له : أوصني بوصيّة أحفظها من بعدك قال :( وتحفظ يا سفيان ؟ قلت : أجل يا بن رسول الله قال :يا سفيان لا مروّة لكذوب ولا راحة لحسود ولا إخاء لملول ولا خلّة لمختال ولا سؤدد لسيّء الخلق ) (١) .

ودخل عليه مرة أخرى يطلب منه المزيد من التعاليم فقالعليه‌السلام :( يا سفيان الوقوف عند كل شبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، وترك حديث لم تروه أفضل من روايتك حديثاً لم تحصه ، إنّ على كل حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالفه فدعوه ) (٢) وكانت لسفيان الثوري لقاءات أخرى مع الإمامعليه‌السلام ، بل كانت علاقته به علاقة التلميذ بأستاذه .

وكان من جملة العلماء الذين يدخلون على الإمام للاستفادة منه : حفص بن غياث وهو أحد أعلام عصره وأحد المحدثين في وقته فكان يطلب من الإمامعليه‌السلام أن يرشده ويوصيه فقال له الإمامعليه‌السلام :( إن قدرتم أن لا تعرفوا فافعلوا ، وما عليك أن لم يثن الناس عليك ـ إلى أن قال ـ :إن قدرت أن لا تخرج من بيتك

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٧٨/٢٦١ .

(٢) أصول الكافي : ١/٦٩ ح١ وتاريخ اليعقوبي : ٢/٣٨١ وعن الكافي في بحار الأنوار : ٢/١٦٥ والإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ٢/٣٢٢ .

١٥٤

فافعل فإنّ عليك في خروجك أن لا تغتاب ، ولا تكذب ولا تحسد ، ولا ترائي ، ولا تداهن ) .

وكان أبو حنيفة يغتنم الفرص ليحضر عند الإمام ويستمع منه ، وكان يقول بحق الإمامعليه‌السلام : ما رأيت أفقه من جعفر بن محمدعليه‌السلام .

وكان مالك بن أنس ممّن يحضر عند الإمامعليه‌السلام ليتأدّب بآدابه ويهتدي بهديه فكان يقول : ما رأت عين ولا سمعت أُذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً وقال : اختلفت إلى جعفر بن محمد زماناً فما كنت أراه إلاّ على إحدى ثلاث خصال إمّا مصلّياً وإمّا صائماً وإمّا يقرأ القرآن ، وما رأيته قط يحدّث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ على طهارة ، ولا يتكلّم بما لا يعنيه ، وكان من العلماء العبّاد والزهاد الذين يخشون الله(١) .

وشهد المنصور بحقّه وهو ألدّ أعدائه قائلاً : إنّ جعفر بن محمد كان ممّن قال الله فيه( ثم أورَثْنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) وكان ممّن اصطفى الله وكان من السابقين بالخيرات(٢) .

ولم يكن الإمام مرجعاً للعلماء والفقهاء والمحدّثين وقائداً للنهضة الفكرية والعلمية في زمانه فحسب ، بل كان مرجعاً للساسة والثوّار حيث كان الزعيم الحقيقي للخط العلوي الثائر ، حيث نجد زيداً الشهيد بن علي بن الحسينعليهما‌السلام يرجع إليه في قضية الثورة ، كما كان زيد يقول بحق الإمامعليه‌السلام في كل زمان رجل منّا أهل البيت يحتج الله به على خلقه ، وحجّة زماننا ابن أخي جعفر لا يضل مَن تبعه ولا يهتدي مَن خالفه(٣) .

ـــــــــــــــــ

(١) مالك بن أنس للخولي : ٩٤ ، وكتاب مالك ، محمد أبو زهرة : ٢٨ .

(٢) تاريخ اليعقوبي : ٢/٣٨٣ وقد أخذ هذا عن الصادقعليه‌السلام نفسه ، كما عنه في مناقب آل أبي طالب : ٤/١٤٢ .

(٣) المناقب لابن شهرآشوب : ٤/٢٩٩ .

١٥٥

ولم يكن الإمام جزءاً منفصلاً عن الثورة فقد كان يدعم الثورة بالمال والدعاء والتحريض والتوجيه كما مرّ في البحوث السابقة(١) ، أمّا العلويون من آل الحسن أمثال عبد الله بن الحسن وعمر الأشرف بن الإمام زين العابدين فهم كانوا يرجعون إليه ويستشيرونه في مسائل حياتهم ، ولم يتجاوزه أحد في الأعمال المسلّحة والنشاطات الثورية .

من هنا فإنّ القناعة السائدة آنذاك في أوساط الأمة هي أنّ البديل للحكم الأموي هو الخط الذي يتزعّمه الإمامعليه‌السلام وهذه الحقيقة لم يمكن تغافلها ، كما سوف يتضح أنّ أهم قادة الحركة العباسية ورؤساؤها والمدبّرون لها أو قادتها العسكريون كانوا يعتقدون في قرارة أنفسهم بأنّ الإمامعليه‌السلام هو الأولى من غيره ، وصاحب القوّة والقدرة والحنكة في إدارة الثورة وقيادتها ; وذلك لطاقاته الإلهية وثقله الشعبي ، ولهذا فاتحه بالمبايعة كخليفة كلاًّ من : أبي سلمة الخلاّل وأبي مسلم الخراساني ، وقد ألحّ عليه بعض أصحابه أيضاً مؤكّداً ضرورة إعلان الثورة .

والجدير بالانتباه أنّ الإمامعليه‌السلام لم يتبوّأ هذا الموقع المقدّس من القلوب بسبب المعادلات السياسية الآنية ، فإنّ الأحداث والظروف المختلفة هي التي كانت قد خلقت هذا الجوّ وأكّدت بأن يكون الإمامعليه‌السلام لا غيره في هذا الموقع ويصبح هو البديل اللائق سياسيّاً وفكريّاً والخليفة الشرعي للمسلمين بدل الحكم الأموي الظالم .

وإنّ العمل الدؤوب والمنهج الإصلاحي الذي خطّه الإمامعليه‌السلام ومَن سبقه من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، وبناء الأجيال الطليعية أدّى إلى ارتفاع هذا

ـــــــــــــــــ

(١) راجع ص : ٧٩ ـ ٨٠ حول موقف الإمام الصادق من ثورة زيد .

١٥٦

الوعي عند الأمة وخلق منعطفاً تاريخياً في حياة الأمة ممّا أدّى إلى أن تنعم الأمة بالثروة الفكرية التي خلفتها تلك الفترة الذهبية لنا .

وكان الإمامعليه‌السلام في هذا الظرف الحسّاس يراقب التحركات السلبية التي تحاول العبث بمسار الأمة والأخذ بها إلى مطبّات انحرافية جديدة ، من هنا أصدر جملة من التوجيهات لأصحابه والتزم الحياد إزاء العروض السياسية الكاذبة التي تقدّم بها بعض الثوّار ; وذلك لمعرفته بالدوافع والمطامع التي كانت تحرّكهم .

وكان من تلك الاتجاهات التي تحرّكت لإقناع الناس بضرورة الثورة على الأمويين بهدف الاستحواذ على الخلافة وتفويت الفرصة على منافسيهم الاتجاه العبّاسي .

٢ ـ الحركة العبّاسيّة ( النشأة والأساليب )

سبقت الإشارة إلى النواة الأولى التي دفعت ببني العبّاس إلى أن يطمعوا في الخلافة ويمنّوا أنفسهم بها .

وقد مرّ فيما ذكرنا(١) أنّ أبا هاشم كان من رجالات أهل البيت البارزين ، وكان هشام بن عبد الملك يحذرّه ; لوجود لياقات علمية وسياسية عنده تؤهّله للقيادة ، فحاول هشام اغتياله ولمّا أحس أبو هاشم بالمكيدة ضدّه احترز من ذلك فأوصى إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العبّاس بإدارة أتباعه في مقاومة الأمويين سنة ( ٩٩ هـ ) وكانت هذه الوصية هي بذرة الطمع التي حركت

ـــــــــــــــــ

(١) راجع البحث الذي مرّ تحت عنوان ( بداية الانفلات ) في الصفحة ٨٢ من هذا الكتاب .

١٥٧

محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ممّا جعلته يشعر بأنّه القائد والخليفة مستقبلاً .

وكانت الفرصة سانحة في ذلك الوقت بالتبليغ لشخصه ، لذا شرع في بثّ الدعاة إلى خراسان سرّاً لهذا الغرض واستمرّ بدعوته إلى أن مات سنة ( ١٢٥ هـ ) وترك من بعده أولاده ، وهم : إبراهيم الإمام ، والسفّاح ، والمنصور(١) ويبدو أنّ إبراهيم الإمام هو الذي كان يخطّط لقيام دولة عبّاسية ؛ لأنّه الأكثر دهاءً وحنكة وتخطيطاً من أخويه كما سيتضح ذلك .

نشط إبراهيم بالدعوة وأخذ يتحدّث بأهمّية الثورة وإنقاذ المنكوبين ، وشارك البسطاء من الناس آلامهم وأخذ يعطف على المظلومين ويلعن الظالمين وانتشر دعاة إبراهيم في بلاد خراسان وكان لهم الأثر الكبير هناك وكان منهم : زياد مولى همدان ، وحرب بن قيس ، وسليمان بن كثير ، ومالك بن الهيثم وغيرهم ، وقد تعرّض الدعاة العباسيون للقتل في سبيل دعوتهم ومثّل ببعضهم وحُبس البعض الآخر(٢) ، وكان في طليعة الدعاة نشاطاً وقوّة ودهاءً أبو مسلم الخراساني(٣) .

وتضمّن المنهج السياسي العبّاسي ـ لتضليل الأمة ـ عدّة أساليب كانت منسجمة مع الواقع ومقبولة عند الناس ; لذا لقيت الدعوة استجابة سريعة وانضم المحرومون والمضطهدون إليها .

ونشير إلى بعض هذه الأساليب فيما يلي :

ـــــــــــــــــ

(١) الآداب السلطانية : ١٢٧ .

(٢) تاريخ ابن الساعي : ٣ .

(٣) تاريخ اليعقوبي : ٢/٣٤٠ ـ ٣٤٤ .

١٥٨

الأُسلوب الأوّل :

حرّك العباسيون العواطف بقوّة وحاولوا إقناع الناس بأنّ الهدف من دعوتهم هو الانتصار لأهل البيتعليهم‌السلام الذين تعرّضوا للظلم والاضطهاد وأريقت دماؤهم في سبيل الحق ، وركّز العباسيون بين صفوف دعاتهم بأنّ الهدف المركزي من دعوتهم هو رجوع الخلافة المغتصبة إلى أهلها ؛ ولهذا تفاعل الناس مع شعار ( الرضي من آل محمد ) ووجدوا في هذا الشعار ضالّتهم .

وكان يعتقد الدعاة أنّ هذه الدعوة تنبئ بظهور عهد جديد يضمن لهم حقوقهم كما عرفوه من عدالة عليعليه‌السلام وقد حقّق هذا الشعار نجاحاً باهراً ، خصوصاً في البلاد التي كانت قد لاقت البؤس والحرمان ، وكانت تترقّب ظهور الحق على يد أهل بيت النبوّة .

وكانت ثقافتهم السياسية التي يروّج لها دعاتهم بين الناس تأتي على شكل تساؤلات ، منها : ( هل فيكم أحد يشك أنّ الله عزّ وجلّ بعث محمداً واصطفاه ؟ فيقولون : لا ، فيقال : أفتشكّون أنّ الله أنزل عليه كتابه فيه حلاله وحرامه وشرائعه ؟ فيقولون : لا ، فيقال : أفتظنّون خلفه عند غير عترته وأهل بيته ؟ فيقولون : لا ، فيقال : أفتشكّون أنّ أهل البيت هم معدن العلم وأصحاب ميراث رسول الله الذي علمه الله ؟ فيقال : لا ...(١) .

بهذه الإثارات العامّة التي لا تعيّن المصداق وتكتفي بالإيحاء وتتّكئ

ـــــــــــــــــ

(١) الكامل لابن الأثير : ٥/٣٦٢ .

١٥٩

على الغموض حصلوا على مكاسب جماهيرية هائلة حتى من غير المسلمين وكان هذا الأسلوب يشكّل سرقة لجهود الأئمةعليهم‌السلام حيث يوظّفونها لمصالحهم في الأوساط غير الواعية لطبيعة الصراع .

الأُسلوب الثاني :

ومن الأساليب التي سلكها الدعاة العباسيون ونفذوا من خلالها إلى أوساط الأمة النبوءات الغيبية التي كانت تكشف عن أحداث المستقبل ، وكان لهذا الأسلوب الماكر الأثر الكبير في كسب البسطاء واندفاع المتحمّسين للدعوة وانضمامهم إليها اعتقاداً منهم بصحّة ما يدعون إليه ، فمن تلك النبوءات الغيبية التي أشاعوها في ذلك الحين أنّ (ع) ابن (ع) سيقتل (م) ابن (م) ، ثمّ تأوّلوا أنّ المراد بالأوّل هو عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس والثاني هو مروان بن محمد بن مروان ، كما ادّعوا ـ أيضاً حسب زعمهم ـ أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يبشّر بدولة هاشمية على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعمّه العباس : إنّها تكون في ولدك .

ومن تلك الدعايات التي كانت تريد إضفاء الشرعية على دعوتهم هو زعمهم بأنّ لديهم كتباً تؤكّد انتقال الخلافة إلى بني العباس لكن لا يجوز إخراجها وكشفها لكل الناس وإنّما يطّلع عليها النقباء من خواصّهم وهذا الأسلوب كان قد زاد الدعاة تقديساً لدعوتهم كما أنّها قد زادتهم اندفاعاً لها(١) .

الأُسلوب الثالث :

واستخدموا أسلوباً لم يكن مألوفاً من قبل وهو في غاية من الدهاء السياسي ، حيث استطاعوا بواسطته أن يكسبوا الجولة ويوظّفوا الجهود والقناعات المختلفة نحو هدف واحد وهو أنّهم كانوا يتشدّدون في إخفاء اسم الخليفة الذي يدعون إليه ، من هنا التزموا بكتمان أمره ووعدوا الناس بأنّ

ـــــــــــــــــ

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ، أسد حيدر : ٢/٣٠٩ .

١٦٠

الخليفة لا يمكن إظهار اسمه إلاّ بعد زوال سلطان الأمويين حيث يعلق اسمه الذي تعرفه القوّاد والنقباء(١) .

الأُسلوب الرابع :

ومن الأساليب التي استخدمها العباسيون في دعوتهم هو لبس السواد ، حيث كانوا يرمزون به إلى محاربة الظالمين وإظهار الحزن والتألّم لأهل البيتعليهم‌السلام والشهداء الذين لحقوا بهم .

وهكذا قامت الدعوة العباسية باسمهم للانتقام من الأمويين وتركيزاً لهذا الشعار الذي كان له وقع بالغ في النفوس ، أرسل إبراهيم الإمام لواءً يُدعى الظل أو السحاب على رمح طويل ، طوله ثلاثة عشر ذراعاً ، وكتب إلى أبي مسلم : إنّي قد بعثت إليك براية النصر(٢) وقد تأوّلوا الظل أو السحاب فقالوا : إنّ السحاب يطبق الأرض وكما أنّ الأرض لا تخلو من الظل كذلك لا تخلو من خليفة عبّاسي(٣) ، وأنّ ذلك يمثّل لواء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنّهم ذكروا أنّ لواءه في حروبه وغزواته كان أسوداً .

وبعد أن حقّق العباسيون بدهاء إبراهيم الامام وأبيه من قبل وأنصاره في خراسان تقدّماً مشهوداً وكثرت أنصارهم هناك وشكّلوا مجاميع منظّمة تدعو لهم ، وتأكّدوا من نجاح أساليبهم في تضليل الناس وأنّها قد ترسّخت في نفوس دعاتهم ، حينئذٍ تحرّكوا خطوة نحو منافسيهم الحقيقيين وهم أهل البيتعليهم‌السلام فإنّهم الذين كان العباسيون يخشونهم أشدّ خشية ; لأنّ دعوتهم لم تحقّق أي

ـــــــــــــــــ

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ٢ / ٣٠٩ .

(٢) الطبري : ٩ / ٨٢ .

(٣) الطبري : ٩ / ٨٥والكامل لابن الأثير : ٥ / ١٧٠ .

١٦١

نجاح إلاّ بواسطة الشعارات التي كانت باسم أهل البيتعليهم‌السلام ؛ إذ حالة عزل الخط العلوي وتجاهله في بداية الأمر سوف تحبط مخططاتهم بأجمعها ، ومن هنا لجأ العباسيون إلى عقد اجتماع موسع يضم الطرف العباسي والعلوي بهدف احتواء الخط العلوي وزجّه في المعترك السياسي والإيحاء للجماهير الإسلامية بأنّ البيت العلوي وراء هذا النشاط الثوري .

وكان إبراهيم الإمام يعلم وعشيرته من بني العباس ، بأنّ الصادقعليه‌السلام يدرك جيّداً على ماذا تسير الأمور وما هو الهدف من هذا التخطيط ، وليس بمقدورهم احتواء الإمام وتوظيف جهده وزجّه ضمن مخطّطهم ، وسوف لن يستجيب فيما لو دُعي للحضور في الاجتماع المزمع عقده ؛ لذا عمدوا إلى شقّ الصفّ العلوي وإغراء آل الحسن بأن تكون الخلافة لهم .

اجتماع الأبواء

وكان الهدف من عقد هذا الاجتماع الصوري بالإضافة إلى الهدف الذي ذكر أعلاه تهيئة الأجواء الودية وإشاعة روح المحبّة والوئام بينهم وبين العلويين وتطميناً لخواطرهم ، وعلى أقل تقدير جعلهم محايدين في هذا الصراع ، ليتمّ لهم ما يهدفون إليه ويحشدوا ما استطاعوا من قوّة لصالحهم .

من هنا اجتمعوا في منطقة الأبواء ـ التي تقع بين مكة والمدينة ـ ودعوا كبار العلويين والعباسيين ، فحضر كل من : إبراهيم الإمام والسفاح والمنصور وصالح ابن علي وعبد الله بن الحسن وابناه محمد ذي النفس الزكية وإبراهيم وغيرهم .

١٦٢

وقام صالح بن علي خطيباً فقال : قد علمتم أنّكم الذين تمدّ الناس أعينهم إليهم ، وقد جمعكم الله في هذا الموضع ، فاعقدوا بيعة لرجل منكم تعطونه إيّاها من أنفسكم وتواثقوا على ذلك حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين .

ثم قام عبد الله بن الحسن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : قد علمتم أنّ ابني هذا هو المهدي فهلمّوا لنبايعه .

فقال أبو جعفر المنصور : لأي شيء تخدعون أنفسكم ؟ والله لقد علمتم ما الناس إلى أحد أصور(١) أعناقاً ، ولا أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى ـ يريد به محمد بن عبد الله ـ قالوا قد ـ والله ـ صدقت إن هذا لهو الذي نعلم فبايعوا جميعاً محمّداً ، ومسح على يده كل من : إبراهيم الإمام والسفّاح والمنصور وكل مَن حضر الاجتماع(٢) .

وبعد أن أنهى مؤتمرهم أعماله بتعيين محمد بن عبد الله بن الحسن خليفة للمسلمين ، أرسلوا إلى الإمام الصادقعليه‌السلام فجاء الإمام وقال : (لماذا اجتمعتم ؟ قالوا : أن نبايع محمد بن عبد الله ، فهو المهدي ) .

قال الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام :لا تفعلوا فإنّ الأمر لم يأت بعد ، وهو ليس بالمهديّ ، فقال عبد الله ـ ردّاً على الإمامعليه‌السلام ـ : يحملك على هذا الحسد لابني ! فأجابه الإمامعليه‌السلام :والله لا يحملني ذلك ولكن هذا وإخوته وأبناءهم دونكم وضرب بيده على ظهر أبي العباس ، ثم قال لعبد الله :ما هي إليك ولا إلى ابنيك ، ولكنّها لبني العباس ، وإنّ ابنيك لمقتولان ، ثم نهضعليه‌السلام وقال :إنّ صاحب الرداء الأصفر ـ يقصد بذلك أبا جعفر ـيقتله .

ـــــــــــــــــ

(١) أصور : أميل .

(٢) مقاتل الطالبيين : ٢٥٦ ، وإعلام الورى : ١/٥٢٧ ، وكشف الغمّة : ٢/٣٨٦ .

١٦٣

قال عبد العزيز : والله ما خرجت من الدنيا حتى رأيته قتله وانفضّ القوم ، فقال أبو جعفر المنصور للإمام جعفر الصادقعليه‌السلام : تتمّ الخلافة لي ؟ فقال :نعم أقوله حقّاً )(١) .

تحرّك العبّاسيين بعد المؤتمر

بعد أن حقّق المؤتمر غرضه وأنِسَ الحاضرون بقراره الكاذب نشط إبراهيم الإمام في الاتجاه الآخر ليواصل عمله بشكل مستقل عن أعضاء المؤتمر فأصدر عدّة قرارات سرّية كعادته منها : أنّه كتب إلى شيعته في الكوفة وخراسان : إنّي قد أمّرت أبا مسلم بأمري فاسمعوا له وأطيعوا ، قد أمّرته على خراسان ، وما غلب عليه كان ذلك سنة ( ١٢٨ هـ ) وكان أبو مسلم لا يتجاوز عمره التسعة عشر سنة ووصفوه بأنّه كان يقظاً فاتكاً غادراً لا يعرف الرحمة ولا الرأفة ، وكان ماهراً في حياكة الدسائس .

ودهش الجميع لتعيين أبي مسلم في هذا المنصب الخطير نظراً لحداثة سنّه وقلّة تجاربه ، وأبى جمع من الدعاة طاعته والانصياع لأوامره إلاّ أنّ إبراهيم الإمام ألزمهم السمع والطاعة(٢) وأقدم أبو مسلم فيما بعد على إعدام جميع من عارض اختياره لقيادة هذه المنطقة .

أمّا ما هو الخط الذي سوف يتحرّك بموجبه أبو مسلم لإعلان ثورته هناك ؟ فقد جاء هذا الخط في وصيّة إبراهيم الإمام له عندما قال : يا عبد الرحمن إنّك منّا أهل البيت فاحفظ وصيّتي ، انظر هذا الحي من اليمن

ـــــــــــــــــ

(١) مقاتل الطالبيين : ٢٥٦ ، الخرائج والجرائح : ٢ / ٧٦٥ ، وعنه في بحار الأنوار : ٤٧ / ١٢٠ : ٢٥٦ .

(٢) الكامل في التاريخ : ٤ / ١٩٥ ، وتاريخ ابن الساعي : ٣ .

١٦٤

فأكرمهم ، وحلّ بين ظهرانيهم ، فإنّ الله لا يتم هذا الأمر إلاّ بهم ، وانظر هذا الحي من ربيعه فاتهمهم في أمرهم ، وانظر هذا الحي من مضر فإنّهم العدو القريب الدار ، فاقتل مَن شككت في أمره ومَن وقع في نفسك منه شيء ، وإن شئت أن لا تدع بخراسان مَن يتكلّم العربية فافعل ، فأيّما غلام بلغ خمسة أشبار فاقتله(١) وهذه الوصيّة تلخّص السياسة العباسية مع المسلمين .

وقد أثّر أبو مسلم الخراساني في الناس لتعاطفه معهم حيث كان يتمتّع بصفات تؤهّله لهذا الموقع ، فهو خافض الصوت فصيح بالعربية والفارسية ، حلو المنطق راوية للشعر ، لم يُر ضاحكاً ولا مازحاً إلاّ في وقته ، ولا يكاد يُقَطّب في شيء من أحواله ، تأتيه الفتوحات العظام فلا يظهر عليه أثر السرور ، وتنزل به الحوادث الفادحة فلا يُرى مكتئباً وعندما سُئل إبراهيم الإمام عن أهلية أبي مسلم قال : إنّي قد جرّبت هذا الأصبهاني ، وعرفت ظاهره وباطنه فوجدته حَجَر الأرض(٢) .

وكان محبوباً حتى عند غير المسلمين حيث نجد دهاقين المجوس اندفعوا إلى اتّباعه وأظهروا الإسلام على يديه ، كما استجاب للدعوة الإسلامية عدد كبير من أهل الآراء الخارجة عن الإسلام ، كل ذلك للظلم والجور الذي لحق بهم من الولاة الأمويين ، وبسبب ما شاهدوه من العطف من أبي مسلم الخراساني ؛ ولذا كان الكثير منهم يعتبرونه وحده الإمام ، واعتقدوا أنّه أحد أعقاب زرادشت الذي ينتظر المجوس ظهوره ، حتى أنّهم لم يعتقدوا بموت أبي مسلم بل كانوا ينتظرون رجعته(٣) .

ـــــــــــــــــ

(١) الكامل في التاريخ : ٤ / ٢٩٥ .

(٢) وفيات الأعيان : ٣ / ١٤٥ .

(٣) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ٢ / ٣١١ .

١٦٥

ومن جانب آخر أنّه هو الذي أنزل جثمان يحيى بن زيد وصلّى عليه ودفنه ، وبعد أن تقلّد المنصب كقائد عام للعسكر توجّه من فوره لخراسان ليقود الجماهير التي تنتظر الأوامر منه ، وكانت متحمّسة قبل هذا الحين للحرب مع الأمويين فخطب بالدعاة قائلاً : أشعروا قلوبكم الجرأة فإنّها من أسباب الظفر ، وأكثروا من ذكر الضغائن ، فإنّها تبعث على الإقدام ، وألزموا الطاعة فإنّها حصن المحارب(١) .

وفجّر الثورة هناك ، وكان يبذر الشقاق بين جنود الأمويين ليحصل الانقسام بينهم وقد استفاد بذلك ونجح في مهمّته ، وقد انجفل الناس من هرات والطالقان ومرو وبلخ وتوافروا جميعاً مسودين الثياب وأنصاف الخشب التي كانت معهم(٢) .

وباشر أبو مسلم إبادة الأبرياء فقتل ـ فيما ينقل المؤرّخون ـ ستمائة ألف عربي بالسيف صبراً عدا مَن قتل في الحرب(٣) .

وتقدّمت جيوش أبي مسلم ـ بعد أن هزمت ولاة الأمويين في خراسان ـ نحو العراق وهي كالموج تخفق عليها الرايات السود فاحتلّت العراق بدون مقاومة تُذكر وبهذا أُعلن الحكم العباسي على يد أبي مسلم الخراساني في الكوفة سنة ( ١٣٢ هـ ) .

والجدير بالذكر أنّه قبل أن يدخل أبو مسلم الخراساني الكوفة حدث هناك أمران ينبغي الالتفات إليهما :

ـــــــــــــــــ

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر : ١ / ٣٢٦ .

(٢) حياة الحيوان ، الدينوري : ٣٦٠ .

(٣) حياة الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : ١ / ٣٢٦ .

١٦٦

الأمر الأول : في سنة ( ١٣١ هـ ) بعد إعلان أبي مسلم الخراساني الثورة في خراسان ، وقبل دخوله الكوفة أُلقي القبض على إبراهيم الإمام ـ الرأس المدبّر للثورة ـ من قِبل الخليفة الأموي مروان وحبسه في حرّان ثم قتله بعد ذلك في نفس التاريخ ؛ وبهذا الحدث تعرّضت الحركة العباسية لانتكاسة كبرى .

الأمر الثاني : خاف أبو العباس السفّاح وأبو جعفر المنصور وجماعة فهربوا إلى الكوفة لوجود قاعدة من الدعاة العباسيين فيها وعلى رأسهم أبو سلمة الخلاّل الذي كان يضاهي أبا مسلم في الدهاء والنشاط وكان يُعرف بوزير آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخلى لهم داراً وتولّى خدمتهم بنفسه وتكتّم على أمرهم .

ولعلّ أبا سلمة الخلاّل كان يريد من خلال هذا الإجراء صرف الخلافة لآل علي ولكنّه غلب على أمره حتى فاجأته جيوش أبي مسلم الخراساني إلى الكوفة وظهر أمر بني العباس فأخرجوا السفّاح إلى المسجد وبايعوه يوم الجمعة ١٢ ربيع الأول سنة ( ١٣٢ هـ ) .

واستقبلت الكوفة بيعة السفّاح بكثير من القلق ؛ لأنّها كانت تترقّب بفارغ الصبر حكومة العلويين حسب الشعارات المرفوعة ليبسطوا الأمن والرخاء .

أمّا الأوساط الواعية في الكوفة ، بل في كل أنحاء العالم الإسلامي ، فقد شجبت البيعة للسفّاح وأفتى الفقهاء في يثرب بعدم شرعيّتها(١) .

وبعد ذلك أخذوا به إلى المسجد لغرض الصلاة والخطبة لكنّه

ـــــــــــــــــ

(١) تاريخ الامم والملوك : ٩ / ١٢٤ ، وتاريخ ابن قتيبة : ١٢٨ ، والطقطقي : ١٢٧ .

١٦٧

حُصِر وخطب مكانه عمّه داود ثمّ امتلك الجرأة فخطب وكان من جملة ما قاله في خطابه :

يا أهل الكوفة أنتم محل محبّتنا ، ومنزل مودّتنا ، أنتم الذين لم تتغيّروا عن ذلك ، ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم ، حتى أدركتم زماننا ، وأتاكم الله بدولتنا ، فأنتم أسعد الناس بنا ، وأكرمهم علينا ، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم ، فأنا السفّاح المبيح ، والثائر المنيح(١) .

ثمّ أرسل قوّاته بقيادة عبد الله بن علي لقتال مروان بن محمد بن مروان الحمار ولاحقته الجيوش العباسية من بلدة إلى أخرى حتى حاصرته في مصر في قرية يقال لها ( بوصير ) وقُتل هناك شرّ قتلة(٢) .

٣ ـ موقف الإمامعليه‌السلام من الأحداث

التزم الإمام الصادقعليه‌السلام إزاء المستجدّات السياسية في هذه المرحلة موقف الحياد لكنّه من جانب آخر واصل العمل في نهجه السابق ، وأخذ يتحرّك بقوّة ويوسّع من دائرة الأفراد الصالحين في المجتمع ؛ تحقيقاً لهدفه الذي خطّه قبل هذا الوقت وحفاظاً على جهده في بناء الإنسان .

ومن هذا المنطلق أصدر جملة من التوصيات لشيعته التي كان من شأنها أن تجنّبهم الدخول في المعادلات السياسية المتغيّرة التي تؤدّي بنتيجتها إلى استنزاف الوجود الشيعي في نظر الإمامعليه‌السلام محذّراً من أساليب العنف والمواجهة كخيار لهذه المرحلة .

ـــــــــــــــــ

(١) الكامل في التاريخ : ٥/٤١٣ .

(٢) اليعقوبي : ٢/٣٤٦ وابن جرير وابن الأثير في الكامل في التاريخ : ٥/٤٢٦ .

١٦٨

فعن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول :( اتقوا الله وعليكم بالطاعة لأئمتكم ، قولوا ما يقولون ، واصمتوا عمّا صمتوا ، فإنّكم في سلطان من قال الله تعالى : ( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) (١) ـ يعني بذلك ولد العباس ـفاتقوا الله فأنّكم في هدنة ، صلّوا في عشائرهم واشهدوا جنائزهم ، وأدّوا الأمانة إليهم ) (٢) .

ويمكن بلورة سيرة الإمامعليه‌السلام ومنهجه السياسي ـ مع الأطراف الطامعة بالحكم ، أو العباسيين الّذين يرون في الإمام الصادقعليه‌السلام وخطّه خطراً حقيقياً على سلطانهم ـ من خلال المواقف التالية :

موقف الإمامعليه‌السلام من عرض أبي سلمة الخلاّل

لقد أدرك أبو سلمة الخلاّل أحد الدعاة العباسيين النشطين في الكوفة والذي لعب دوراً متميّزاً في نجاح الدعوة العباسية وتكثير أنصارها في الكوفة ؛ وذلك لما امتاز به من لياقة وعلم ودهاء ، وثراء حيث أنفق من ماله الخاص على رجال الدعوة العباسية ، وكانت له علاقة خاصة واتصالات مستمرّة مع إبراهيم الإمام ، وأدرك بعد موت إبراهيم الإمام بأنّ الأمور تسير على خلاف ما كان يطمح إليه أو لعلّه كان قد تغيّر هواه واستجدّ في نفسه شيء ، ولاحظ أنّ مستقبل الخلافة سيكون إلى أبي العباس أو المنصور وهما غير جديرين بالخلافة أو لطمعه بالسلطة ، نراه يكتب للعلويين وفي مقدّمتهم الإمام الصادقعليه‌السلام بأنّه يريد البيعة لهم .

لكنّنا لا نفهم من رسالة ـ أبي سلمة ـ للإمامعليه‌السلام بأنّها رسالة ندم أو

ـــــــــــــــــ

(١) إبراهيم (١٤) : ٤٦ .

(٢) الكافي : ٨ / ٢١٠ .

١٦٩

اعتراض على النهج العباسي وخديعتهم للعلويين أو إدانة أساليبهم في الاستيلاء على السلطة .

نعم ، إنّ الّذي نجده عند مشهور المؤرّخين(١) هو أنّ أبا سلمة الخلال أراد نقل الخلافة إلى العلويين ولم يوفّق لذلك .

ونجد في جواب الإمامعليه‌السلام على رسالة أبي سلمة : أنّ الإمامعليه‌السلام قد رفض العرض لا بسبب كون الظروف قلقة وغير مؤاتية فحسب ، بل كان الرفض يشمل أبا سلمة نفسه حيث قال :( مالي ولأبي سلمة وهو شيعة لغيري ) (٢) .

وأكّد الإمامعليه‌السلام رفضه القاطع عندما قام بحرق الرسالة التي بعثها له أبو سلمة جواباً لأبي سلمة:

قال المسعودي : كاتب أبو سلمة الخلاّل ثلاثة من أعيان العلويين وهم جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام وعمر الأشرف بن زين العابدين ، وعبد الله المحض ، وأرسل الكتب مع رجل من مواليهم يسمى محمد بن عبد الرحمن ابن أسلم مولىً لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال أبو سلمة للرسول : العجل العجل فلا تكونن كواقد عاد وقال له : اقصد أولاً جعفر بن محمد الصادق فإن أجاب فأبطل الكتابين الآخرين ، وإن لم يجب فالق عبد الله المحض فإن أجاب فأبطل كتاب عمر وإن لم يجب فالق عمر .

فذهب الرسول إلى جعفر بن محمد أولاً ، ودفع إليه كتاب أبي سلمة فقال الإمامعليه‌السلام :( مالي ولأبي سلمة وهو شيعة لغيري ؟! فقال له الرجل : اقرأ الكتاب ، فقال لخادمه :ادن السراج منّي ، فأدناه ، فوضع الكتاب على

ـــــــــــــــــ

(١) تاريخ الأمم والملوك : ٩ / ١٢٤ وابن قتيبة : ١٢٨ ، والطقطقي : ١٢٧ .

(٢) مروج الذهب : ٣ / ٢٥٤ ، والآداب السلطانية : ١٣٧ .

١٧٠

النار حتى احترق ، فقال الرسول : ألا تجبه ؟ قالعليه‌السلام :قد رأيت الجواب عرّف صاحبك بما رأيت ) (١)

موقف الإمام الصادقعليه‌السلام من العلويين

أمّا العلويون الذين خدعهم العباسيون في اجتماع الأبواء قبل انتصار العباسيين وبايعوا في حينه محمد بن عبد الله كخليفة للمسلمين ، فقد استجاب عبد الله بن الحسن أيضاً للعرض الذي تقدم به أبو سلمة وجاء للإمام الصادق مسروراً يبشّره بهذا العرض .

قال المسعودي : فخرج الرسول من عند الإمام الصادق وأتى عبد الله بن الحسن ، ودفع إليه الكتاب وقرأه وابتهج ، فلمّا كان غد ذلك اليوم الذي وصل إليه فيه الكتاب ركب عبد الله حتى أتى منزل أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام فلمّا رآه أبو عبد الله أكبر مجيئه ، وقال : يا أبا محمد ( وهي كنية عبد الله المحض ) أمر ما أتى بك ؟ قال : نعم هو أجل من أن يوصف ، فقال له : وما هو يا أبا محمد ؟

قال : هذا كتاب أبي سلمة يدعوني للخلافة ، وقد قدمت عليه شيعتنا من أهل خراسان ، فقال له أبو عبد الله : يا أبا محمد ومتى كان أهل خراسان شيعة لك ؟ أنت بعثت أبا مسلم إلى خراسان؟ وأنت أمرتهم بلبس السواد ؟ هؤلاء الذين قدموا العراق أنت كنت سبب قدومهم أو وجّهت فيهم ؟ وهل تعرف منهم أحداً ؟

فنازعه عبد الله بن الحسن الكلام إلى أن قال : إنّما يريد القوم ابني محمداً لأنّه مهدي هذه الأمة .

فقال أبو عبد الله جعفر الصادق :( ما هو مهدي هذه الأمة ولئن شهر سيفه

ـــــــــــــــــ

(١) مروج الذهب : ٣ / ٢٥٤ .

١٧١

ليقتلن ) .

فقال عبد الله : كان هذا الكلام منك لشيء .

فقال الصادقعليه‌السلام :( قد علم الله أنّي أوجب النصيحة على نفسي لكل مسلم ، فكيف أدّخره عنك فلا تمنّ نفسك الأباطيل ، فإنّ هذه الدولة ستتمّ لهؤلاء وقد جاءني مثل الكتاب الذي جاءك ) (١) .

نهاية أبي سلمة الخلاّل

ولم يخف أمر أبي سلمة الخلال على العباسيين فقد أحاطوه بالجواسيس التي تسجّل جميع حركاته وأعماله وترفعها إلى العباسيين ، فاتفق السفّاح وأخوه المنصور على أن يخرج المنصور لزيارة أبي مسلم ويحدّثه بأمر أبي سلمة ، ويطلب منه القيام باغتياله ، فخرج المنصور ، والتقى بأبي مسلم ، وعرض عليه أمر أبي سلمة فقال ، أبو مسلم : أفعلها أبو سلمة ؟ أنا أكفيكموه ؟ ثم دعا أحد قوّاده ( مرار بن أنس الضبي ) ، وقال له : انطلق إلى الكوفة فاقتل أبا سلمة حيث لقيته فسار إلى الكوفة مع جماعة من جنوده وكان أبو سلمة يسمر عند السفّاح الذي تظاهر بإعلان العفو والرضا عنه ، واختفى مرار مع جماعته في طريق أبي سلمة فلمّا خرج من عند السفّاح بادر إلى قتله ، وأشاعوا في الصباح : أنّ الخوارج هي التي قتلته(٢) .

ـــــــــــــــــ

(١) مروج الذهب : ٣ / ٢٥٤ ، ٢٥٥ ونحوه في اليعقوبي : ٢/٣٤٩ ، والآداب السلطانية : ١٣٧ ونحوه الحلبي في مناقب آل أبي طالب : ٤/٢٤٩ عن ابن كادش العكبري في مقاتل العصابة العلوية .

(٢) اليعقوبي : ٢/٣٥٤ وتاريخ الأمم والملوك ، أحداث سنة ( ١٣٢ ) قتل أبو سلمة في الخامس عشر من شهر رجب بعد هزيمة مروان بشهر واحد .

١٧٢

موقف الإمامعليه‌السلام من عرض أبي مسلم

أمّا أبو مسلم الخراساني الذي قاد الانقلاب على الأمويين في خراسان ، وتمّ تأسيس الدولة العباسية على يديه نجده في الأشهر الأولى من انتصار العبّاسيين وإعلان البيعة لأبي العباس السفاح بالكوفة يكتب للإمام الصادقعليه‌السلام رسالة يريد بها البيعة للإمامعليه‌السلام فقد جاء فيها : إنّي قد أظهرت الكلمة ، ودعوت الناس عن موالاة بني أُميّة إلى موالاة أهل البيت فإن رغبت فلا مزيد عليك(١) .

لا شك أنّ أبا مسلم الخراساني المعروف بولائه وإخلاصه للعباسيين وهو صنيعتهم حينما تصدر رسالة من عنده بهذه اللهجة تعتبر مفاجأة ولابد أن تتأثّر بعوامل طارئة قد غيّرت من قناعاته ، سواء كانت تلك العوامل ذاتية أو موضوعية وإلاّ فما هي الجهة التي تربطه بالإمامعليه‌السلام ؟

لم يحدثنا التاريخ عن أي علاقة بينه وبين الإمامعليه‌السلام عقائدياً أو سياسياً سوى لقاء واحد لم يتم فيه التعارف بينهما أو التفاهم نعم كان الإمامعليه‌السلام قد عَرِفه وذكر اسمه ومستقبله السياسي قبل إعلان العباسيين ثورتهم(٢) .

أمّا موقف الإمام من عرض أبي مسلم الخراساني فيمكن معرفته من جواب الإمام على الرسالة فقد جاء في جوابهعليه‌السلام ( ما أنت من رجالي ولا الزمان

ـــــــــــــــــ

(١) الملل والنحل للشهرستاني : ١ / ٢٤١ ، وفي روضة الكافي : ٢٢٩ جوابه لرسول أبي مسلم بكتابه إليه وعنه في بحار الأنوار : ٤٧/٢٩٧ .

(٢) إعلام الورى : ٢/٥٢٨ وعنه في مناقب آل أبي طالب : ٤/٢٥٩ وبحار الأنوار : ٤٧/٢٧٤ ح١٥ .

١٧٣

زماني ) (١) .

كلمات مختصرة ومعبّرة عن تفسير الإمام للمرحلة وتشخيصه لأبي مسلم ; لأنّ أبا مسلم لم يكن من تربية الإمام ، ولا من الملتزمين بمذهبه ، فهو قبل أيام قد سفك من الدماء البريئة ما لا يُحصى وقيل لعبد الله بن المبارك : أبو مسلم خير أو الحجاج ؟ قال : لا أقول إنّ أبا مسلم كان خيراً من أحد ولكنّ الحجاج كان شرّاً منه(٢) وكان لا يعرف أحداً من خط أهل البيت ومواليهم ; إذ كانت علاقته محصورة بدائرة ضيّقة كما قد حددها له مولاه إبراهيم الإمام عندما أمره أن لا يخالف سليمان بن كثير ، فكان أبو مسلم يختلف ما بين إبراهيم وسليمان(٣) .

كما نجده بعد مقتل إبراهيم الإمام الذي كان يدعو له يتحوّل بولائه لأبي العباس السفّاح ومن بعده لأبي جعفر المنصور ، علماً أنّ العلاقة كانت بينه وبين المنصور سيئة وكان أبو مسلم يستصغر المنصور أيام حكومة السفّاح(٤) إلاّ أنّ المنصور ثأر لنفسه أيام حكومته فقتله شرّ قتلة .

أمّا المرحلة التي سادها الاضطراب فلم تكن في نظر الإمامعليه‌السلام وتقديره صالحة لتقبّل أطروحته إذ قال له :عليه‌السلام ( ولا الزمان زماني ) (٥) .

٤ ـ منهج الإمامعليه‌السلام في هذه المرحلة

قد أملت الظروف السياسية الساخنة وساهمت في إيجاد بعض

ـــــــــــــــــ

(١) الملل والنحل للشهرستاني : ١ / ١٤٢ .

(٢) وفيات الأعيان : ٣ / ١٤٥ وتاريخ مختصر الدول لابن العبري : ١٢١ : سُئل بعضهم ...

(٣) وفيات الأعيان : ٣/١٤٥ .

(٤) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٣٦٧ والمسعودي : ٣/٢٩١ وتاريخ مختصر الدول : ١٢١ .

(٥) الملل والنحل للشهرستاني : ١/١٥٤ ، تاريخ اليعقوبي : ٢/٣٤٩ .

١٧٤

التصوّرات والإرهاصات عند أصحاب الإمامعليه‌السلام أُسوة بباقي الناس ، وقد لاحظ هؤلاء بأنّ الظرف مناسب لتفجير الوضع واستلام الحكم لضخامة ما كانوا يشاهدونه من شعبية الإمام وكثرة الناس التي تواليه جاءت التصوّرات والتساؤلات عن ضرورة الثورة عند ما ورد إلى الإمام كتاب أبي مسلم الخراساني ، فعن الفضل الكاتب قال كنت عند أبي عبد اللهعليه‌السلام فأتاه كتاب أبي مسلم فقالعليه‌السلام :ليس لكتابك جواب أُخرج عنّا ـ وقد مرّ جواب الإمام على العرض الذي تقدّم به أبو مسلم ـ فجعلنا يُسار بعضنا بعضاً فقال :( أيّ شيء تسارُّون يا فضل ؟ إنّ الله عزّ ذكره لا يعجل لعجلة العباد ، ولإزالة جبل عن موضعه أيسر من زوال ملك لم ينقض أجله ) ثم قال : إنّ فلان بن فلان ، حتى بلغ السابع من ولد فلان .

قلت : فما العلامة فيما بيننا وبينك جُلعتُ فداك ؟ قال :( لا تبرح الأرض يا فضل حتى يخرج السفياني ، فإذا خرج السفياني فأجيبوا إلينا ـ يقولها ثلاثاً ـوهو من المحتوم ) (١) .

وينقل المعلّى بأنّه جاء إلى الإمام بكتب كثيرة من شيعته تطالبه بالنهوض(٢) وقد مرّ جواب الإمامعليه‌السلام في البحوث السابقة بما حاصله أنّ الكثرة المزعومة وذلك العدد الذي لا يستهان به لهو أحوج إلى الإخلاص ورسوخ العقيدة في النفوس فلا يمكن للإمام أن يخوض المعركة بالطريقة التي يفكّر بها فضل الكاتب أو سهل الخراساني وغيرهم ، فإنّ المغامرة من هذا النوع والدخول في اللعب السياسية استغلالاً للظرف سيؤول إلى نتائج لم يدركها هؤلاء إذ تشكّل تجربة كأداء تعطّل المخطّط الإلهي الذي التزمه الإمامعليه‌السلام حتى في حالة نجاح الإمامعليه‌السلام وتسلّمه مقاليد الحكم .

ـــــــــــــــــ

(١) روضة الكافي : ٢٢٩ وعنه في بحار الأنوار : ٤٧ / ٢٩٧ ، وسائل الشيعة : ١١ / ٣٧ .

(٢) الكافي : ٨ / ٢٧٤ .

١٧٥

التصعيد العبّاسي وموقف الإمامعليه‌السلام

وبعد أن تولّى أبو العباس السفّاح الحكم وصار أوّل حاكم عبّاسي قام بتعيين الولاة في البلاد الإسلامية ، فعيّن عمّه داود بن علي بن العباس والياً على يثرب ومكة واليمن وقد خطب داود أوّل تولّيه المنصب خطاباً في أهالي المدينة وتضمّن خطابه التهديد والوعيد بالقتل والتشريد قائلاً : أيّها الناس أغرّكم الإمهال حتى حسبتموه الإهمال ، هيهات منكم ، وكيف بكم ؟ والسوط في كفّي والسيف مشهر .

حتى يبيد قبيلة فقبيلة

ويعض كل مثقّف بالهامِ

ويقمن ربات الخدور حواسراً

يمسحن عرض ذوائب الأيتامِ(١)

وكان تعيين داود بن علي عم السفّاح والياً على المدينة له الأثر السلبي على حركة الإمام الصادقعليه‌السلام فقد بادر هذا الأحمق بمواجهة الإمام عن طريق اعتقال مولى الإمام ( المعلّى بن خنيس ) والتحقيق معه لغرض انتزاع أسماء الشيعة وقد امتنع هذا المخلص وصمّم على الشهادة ولم يذكر أي اسم حتى استشهد .

عن أبي بصير قال : فلمّا ولي داود المدينة ، دعا المعلّى وسأله عن شيعة أبي عبد اللهعليه‌السلام فكتمه ، فقال اتكتمني !؟ أما إنّك إن كتمتني قتلتك .

فقال المعلى : أبالقتل تهدّدني ؟! والله لو كانوا تحت قدمي ما رفعت قدمي عنهم ، وإن أنت قتلتني لتسعدني ولتشقين ، فلمّا أراد قتله ، قال المعلّى أخرجني إلى الناس ، فإنّ لي أشياء كثيرة ، حتى أشهد بذلك .

ـــــــــــــــــ

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ١ / ١٣٩ .

١٧٦

فأخرجه إلى السوق ، فلمّا اجتمع الناس ، قال : أيّها الناس ، اشهدوا أنّ ما تركت من مال عين ، أو دين ، أو أمة ، أو عبد ، أو دار ، أو قليل أو كثير ، فهو لجعفر بن محمدعليه‌السلام . فقُتل(١) .

لقد تألّم الإمام الصادقعليه‌السلام كثيراً لمقتل المُعلّى بن خنيس ، ولمّا التقى الإمامعليه‌السلام بداود بن علي بن العباس قال له :قتلت قيّمي في مالي وعيالي ، ثم قال لأدعونّ الله عليك قال داود : اصنع ما شئت .

فلما جنّ الليل قالعليه‌السلام :( اللّهم ارمه بسهم من سهامك فأفلق به قلبه ) فأصبح وقد مات داود والناس يهنّئونه بموته(٢) .

لقد أدرك الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ الظرف ينبئ بالخطر ، وأنّ الحاضر يحمل في داخله كثيراً من التعقيدات والمشاكل التي سوف يلقاها عن قريب ، لكن الوقت لازال فيه متسع من النشاط والتحرّك ويمكن للإمامعليه‌السلام أن يثبت ما بقي من منهجه ويرسّخه في ذهن الأمة ويمدّها بالآفاق الرسالية التي تحصنها في المستقبل ; لأنّ العباسيين الآن مشغولون بملاحقة الأمويين ؛ لذا نجدهعليه‌السلام لم يصطدم مع داود بن علي بسبب قتله للمعلّى بالطرق المتوقّعة ولم يعلنها ثورة ، كما لم ينسحب للمنطق الذي أبداه داود في تصعيده الموقف مع الإمام ، والذي كان يستهدف جهد الإمام وحركته ، بل قابله بمنطق أقوى يعجز من مثل داود أن يواجهه به .

إنّ لجوء الإمامعليه‌السلام إلى الدعاء سوف يدرك العباسيون من خلاله أنّ الإمام لا يريد المواجهة العسكرية ، لكن مثل هذه الأعمال لا تثنيه عن

ـــــــــــــــــ

(١) اختيار معرفة الرجال للكشي : ٣٧٧ ح ٧٠٨ و ٧١٣ وعنه في المناقب لابن شهر آشوب : ٣ / ٣٥٢ ، وبحار الأنوار : ٤٧ / ١٢٩ .

(٢) الكافي : ٢ / ٥١٣ والخرائج والجرائح : ٢ / ٦١١ ، وبحار الأنوار : ٤٧ / ٢٠٩ .

١٧٧

مواصلة نشاطه ومن فوائد دعاء الإمام أنّه كان يستبطن إيحاءاً لهم بأنّ الإمامعليه‌السلام لا يمتلك تلك القوّة التي تمكّنه من أن يقوم بعمل عسكري ـ مثلاً ـ يهدّد به كيانهم ، وهذا التصوّر الناشئ من هذا الموقف يُطمئن العباسيين ويتيح للإمامعليه‌السلام فرصاً جديدة من النشاط .

ثم نجد الإمامعليه‌السلام بعد أن أنهى مشكلة المعلّى بن خنيس بالطريقة التي مرّت وتفادى المواجهة ، يسافر إلى الكوفة التي يكثر فيها أنصاره وشيعته ولعلم الإمام بأنّ السفّاح ليس بمقدوره مواجهة الإمام في الوقت الحاضر ، وليس من صالح سياسته المستفيدة من اسم الإمامعليه‌السلام هذه المواجهة ، بل نجد السفّاح لا يفكّر حتى في مواجهة بني الحسن الذين وصلته عنهم معلومات تفيد أنّهم يخطّطون للثورة .

وبعد أن وصل الإمام إلى الكوفة قام ببعض النشاطات ، منها :

أنّ الإمامعليه‌السلام أوضح لخواصّ الشيعة بأنّ الحكومة الجديدة لم تختلف عن سابقتها ، لأنّ البعض من الشيعة كان قد التبس عليه الأمر وظنّ أنّ العلاقة بين الإمام وبني العباس طيّبة ؛ لذا طلب بعض الخواصّ من الإمام أن يتوسّط له ليكون موظّفاً في حكومة بني العباس .

ولمّا امتنع الإمام عن إجابته ظنّ بأنّ الإمام منعه مخافة أن توقعه الوظيفة في الظلم ؛ لذا قال : فانصرفت إلى منزلي ، ففكّرت فقلت : ما أحسبه منعني إلاّ مخافة أن أظلم أو أجور ، والله لآتينّه ولأعطينّه الطلاق والعتاق والأيمان المغلّظة أن لا أظلم أحداً ولا أجور ولأعدلنّ .

قال : فأتيته فقلت : جُعلت فداك إنّي فكّرت في إبائك ( امتناعك ) عليَّ فظننت أنّك إنّما منعتني وكرهت ذلك مخافة أن أجور أو أظلم وإنّ كلّ امرأة لي طالق ، وكل مملوك لي حُرّ عليَّ وعليَّ إن ظلمت أحداً أو جرت عليه ، وإن

١٧٨

لم أعدل .

فقال :كيف قلت ؟ قال : فأعدت عليه الأيمان ، فرفع رأسه إلى السماء فقال :( تناول السماء أيسر عليك من ذلك !! ) (١) .

ثم نجد الإمام الصادقعليه‌السلام يؤكّد بأنّ لقب ( أمير المؤمنين ) خاصّ بالإمام عليعليه‌السلام ولا يجوز إطلاقه على غيره حتى من ولده الأئمةعليهم‌السلام فكيف بمَن هو ظالم لهم .

جاء في كتاب مناقب آل أبي طالب : لم يجوّز أصحابنا أن يطلق هذا اللفظ لغيره ( أي لغير الإمام علي ) من الأئمةعليهم‌السلام ) .

وقال رجل للصادقعليه‌السلام : يا أمير المؤمنين قال :( مَه ، فإنّه لا يرضى بهذهِ التسمية أحد إلاّ ابتُلي ببلاء أبي جهل ) (٢) .

ثم نجد للإمام توصيات كثيرة تحرّم التعاون مع الظلمة والتحاكم إليهم لكن لا يمكن تحديد زمنها .

لقد كان موقف الإمام من الحكومتين واحداً قالعليه‌السلام :( لا تعنهم ـ أي حكّام الجور ـعلى بناء مسجد ) (٣) .

وكان يقول لبعض أصحابه :( يا عذافر ! نبّئت أنّك تعامل أبا أيوب والربيع ، فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة ؟! ) (٤) .

وكان حضور الإمام الصادقعليه‌السلام في الحيرة ـ المدينة القريبة من الكوفة ـ قد لفت أنظار الأمة جميعاً واتجهت الناس حوله لتنهل من علومه وتستفيد

ـــــــــــــــــ

(١) الكافي ٥/١٠٧

(٢) مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٦٧ .

(٣) وسائل الشيعة : ٦/١٣٠ .

(٤) وسائل الشيعة : ٦ / ١٢٨ .

١٧٩

من توصياته وتوجيهاته حتى قال محمد بن معروف الهلالي : مضيت إلى الحيرة إلى جعفر بن محمد فما كان لي من حيلة من كثرة الناس فلمّا كان اليوم الرابع رآني ، فأدناني(١) .

وهذا الحشد الجماهيري الكبير الذي يؤمن بأهليّة الإمام وأعلميّته والتفافه المستمر حول الإمام قد دفع بالحكومة العباسية إلى أن تحدّ من هذه الظاهرة لكنّ الإمامعليه‌السلام وانطلاقاً من محافظته على مسيرة الأمة ودفاعاً عن الإسلام ؛ نجده قد مارس مع السفّاح أسلوباً مرناً فعن حذيفة بن منصور قال : كنت عند أبي عبد اللهعليه‌السلام بالحيرة ، فأتاه رسول أبي العباس السفّاح الخليفة يدعوه فدعى بممطر أحد وجهيه أسود والآخر أبيض ، فلبسه ، ثم قال أبو عبد اللهعليه‌السلام :( أما إنّي ألبسه ، وأنا أعلم أنّه لباس أهل النار ) (٢) .

وجاء عن رجل قال : قال أبو عبد اللهعليه‌السلام :( دخلت على أبي العبّاس بالحيرة فقال : يا أبا عبد الله ما تقول في الصيّام اليوم ؟ فقلت : ذاك إلى الإمام إن صمت صمنا وإن أفطرت أفطرنا فقال : يا غلام عليَّ بالمائدة فأكلت معه وأنا أعلم والله إنّه من شهر رمضان فكان إفطاري يوماً وقضاؤه أيسر عليَّ من أن يضرب عنقي ولا يُعبد الله ) (٣) .

ومن جانب آخر قد انتقد الإمام القتل الجماعي للأمويين ، وطلب من السفّاح الكفّ عن قتلهم بعدما أخذ الملك من أيديهم ودهش السفّاح وتعجّب من موقف الإمام تجاه ألدّ أعدائه الذين صبّوا على أهل البيتعليهم‌السلام ألوان الظلم ؛ لأنّ الإمام لا ينطلق من العصبية الجاهلية وروح التشفّي(٤) .

ـــــــــــــــــ

(١) فرحة الغري : ٥٩

(٢) الكافي : ٦ / ٤٤٩ ، وبحار الأنوار : ٤٧ / ٤٥ .

(٣) الكافي : ٤ / ٨٣ .

(٤) حياة الإمام جعفر الصادق : ٧ / ٨٠ .

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241