اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)15%

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 241

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 241 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 117953 / تحميل: 9612
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الخليفة لا يمكن إظهار اسمه إلاّ بعد زوال سلطان الأمويين حيث يعلق اسمه الذي تعرفه القوّاد والنقباء(١) .

الأُسلوب الرابع :

ومن الأساليب التي استخدمها العباسيون في دعوتهم هو لبس السواد ، حيث كانوا يرمزون به إلى محاربة الظالمين وإظهار الحزن والتألّم لأهل البيتعليهم‌السلام والشهداء الذين لحقوا بهم .

وهكذا قامت الدعوة العباسية باسمهم للانتقام من الأمويين وتركيزاً لهذا الشعار الذي كان له وقع بالغ في النفوس ، أرسل إبراهيم الإمام لواءً يُدعى الظل أو السحاب على رمح طويل ، طوله ثلاثة عشر ذراعاً ، وكتب إلى أبي مسلم : إنّي قد بعثت إليك براية النصر(٢) وقد تأوّلوا الظل أو السحاب فقالوا : إنّ السحاب يطبق الأرض وكما أنّ الأرض لا تخلو من الظل كذلك لا تخلو من خليفة عبّاسي(٣) ، وأنّ ذلك يمثّل لواء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنّهم ذكروا أنّ لواءه في حروبه وغزواته كان أسوداً .

وبعد أن حقّق العباسيون بدهاء إبراهيم الامام وأبيه من قبل وأنصاره في خراسان تقدّماً مشهوداً وكثرت أنصارهم هناك وشكّلوا مجاميع منظّمة تدعو لهم ، وتأكّدوا من نجاح أساليبهم في تضليل الناس وأنّها قد ترسّخت في نفوس دعاتهم ، حينئذٍ تحرّكوا خطوة نحو منافسيهم الحقيقيين وهم أهل البيتعليهم‌السلام فإنّهم الذين كان العباسيون يخشونهم أشدّ خشية ; لأنّ دعوتهم لم تحقّق أي

ـــــــــــــــــ

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ٢ / ٣٠٩ .

(٢) الطبري : ٩ / ٨٢ .

(٣) الطبري : ٩ / ٨٥والكامل لابن الأثير : ٥ / ١٧٠ .

١٦١

نجاح إلاّ بواسطة الشعارات التي كانت باسم أهل البيتعليهم‌السلام ؛ إذ حالة عزل الخط العلوي وتجاهله في بداية الأمر سوف تحبط مخططاتهم بأجمعها ، ومن هنا لجأ العباسيون إلى عقد اجتماع موسع يضم الطرف العباسي والعلوي بهدف احتواء الخط العلوي وزجّه في المعترك السياسي والإيحاء للجماهير الإسلامية بأنّ البيت العلوي وراء هذا النشاط الثوري .

وكان إبراهيم الإمام يعلم وعشيرته من بني العباس ، بأنّ الصادقعليه‌السلام يدرك جيّداً على ماذا تسير الأمور وما هو الهدف من هذا التخطيط ، وليس بمقدورهم احتواء الإمام وتوظيف جهده وزجّه ضمن مخطّطهم ، وسوف لن يستجيب فيما لو دُعي للحضور في الاجتماع المزمع عقده ؛ لذا عمدوا إلى شقّ الصفّ العلوي وإغراء آل الحسن بأن تكون الخلافة لهم .

اجتماع الأبواء

وكان الهدف من عقد هذا الاجتماع الصوري بالإضافة إلى الهدف الذي ذكر أعلاه تهيئة الأجواء الودية وإشاعة روح المحبّة والوئام بينهم وبين العلويين وتطميناً لخواطرهم ، وعلى أقل تقدير جعلهم محايدين في هذا الصراع ، ليتمّ لهم ما يهدفون إليه ويحشدوا ما استطاعوا من قوّة لصالحهم .

من هنا اجتمعوا في منطقة الأبواء ـ التي تقع بين مكة والمدينة ـ ودعوا كبار العلويين والعباسيين ، فحضر كل من : إبراهيم الإمام والسفاح والمنصور وصالح ابن علي وعبد الله بن الحسن وابناه محمد ذي النفس الزكية وإبراهيم وغيرهم .

١٦٢

وقام صالح بن علي خطيباً فقال : قد علمتم أنّكم الذين تمدّ الناس أعينهم إليهم ، وقد جمعكم الله في هذا الموضع ، فاعقدوا بيعة لرجل منكم تعطونه إيّاها من أنفسكم وتواثقوا على ذلك حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين .

ثم قام عبد الله بن الحسن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : قد علمتم أنّ ابني هذا هو المهدي فهلمّوا لنبايعه .

فقال أبو جعفر المنصور : لأي شيء تخدعون أنفسكم ؟ والله لقد علمتم ما الناس إلى أحد أصور(١) أعناقاً ، ولا أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى ـ يريد به محمد بن عبد الله ـ قالوا قد ـ والله ـ صدقت إن هذا لهو الذي نعلم فبايعوا جميعاً محمّداً ، ومسح على يده كل من : إبراهيم الإمام والسفّاح والمنصور وكل مَن حضر الاجتماع(٢) .

وبعد أن أنهى مؤتمرهم أعماله بتعيين محمد بن عبد الله بن الحسن خليفة للمسلمين ، أرسلوا إلى الإمام الصادقعليه‌السلام فجاء الإمام وقال : (لماذا اجتمعتم ؟ قالوا : أن نبايع محمد بن عبد الله ، فهو المهدي ) .

قال الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام :لا تفعلوا فإنّ الأمر لم يأت بعد ، وهو ليس بالمهديّ ، فقال عبد الله ـ ردّاً على الإمامعليه‌السلام ـ : يحملك على هذا الحسد لابني ! فأجابه الإمامعليه‌السلام :والله لا يحملني ذلك ولكن هذا وإخوته وأبناءهم دونكم وضرب بيده على ظهر أبي العباس ، ثم قال لعبد الله :ما هي إليك ولا إلى ابنيك ، ولكنّها لبني العباس ، وإنّ ابنيك لمقتولان ، ثم نهضعليه‌السلام وقال :إنّ صاحب الرداء الأصفر ـ يقصد بذلك أبا جعفر ـيقتله .

ـــــــــــــــــ

(١) أصور : أميل .

(٢) مقاتل الطالبيين : ٢٥٦ ، وإعلام الورى : ١/٥٢٧ ، وكشف الغمّة : ٢/٣٨٦ .

١٦٣

قال عبد العزيز : والله ما خرجت من الدنيا حتى رأيته قتله وانفضّ القوم ، فقال أبو جعفر المنصور للإمام جعفر الصادقعليه‌السلام : تتمّ الخلافة لي ؟ فقال :نعم أقوله حقّاً )(١) .

تحرّك العبّاسيين بعد المؤتمر

بعد أن حقّق المؤتمر غرضه وأنِسَ الحاضرون بقراره الكاذب نشط إبراهيم الإمام في الاتجاه الآخر ليواصل عمله بشكل مستقل عن أعضاء المؤتمر فأصدر عدّة قرارات سرّية كعادته منها : أنّه كتب إلى شيعته في الكوفة وخراسان : إنّي قد أمّرت أبا مسلم بأمري فاسمعوا له وأطيعوا ، قد أمّرته على خراسان ، وما غلب عليه كان ذلك سنة ( ١٢٨ هـ ) وكان أبو مسلم لا يتجاوز عمره التسعة عشر سنة ووصفوه بأنّه كان يقظاً فاتكاً غادراً لا يعرف الرحمة ولا الرأفة ، وكان ماهراً في حياكة الدسائس .

ودهش الجميع لتعيين أبي مسلم في هذا المنصب الخطير نظراً لحداثة سنّه وقلّة تجاربه ، وأبى جمع من الدعاة طاعته والانصياع لأوامره إلاّ أنّ إبراهيم الإمام ألزمهم السمع والطاعة(٢) وأقدم أبو مسلم فيما بعد على إعدام جميع من عارض اختياره لقيادة هذه المنطقة .

أمّا ما هو الخط الذي سوف يتحرّك بموجبه أبو مسلم لإعلان ثورته هناك ؟ فقد جاء هذا الخط في وصيّة إبراهيم الإمام له عندما قال : يا عبد الرحمن إنّك منّا أهل البيت فاحفظ وصيّتي ، انظر هذا الحي من اليمن

ـــــــــــــــــ

(١) مقاتل الطالبيين : ٢٥٦ ، الخرائج والجرائح : ٢ / ٧٦٥ ، وعنه في بحار الأنوار : ٤٧ / ١٢٠ : ٢٥٦ .

(٢) الكامل في التاريخ : ٤ / ١٩٥ ، وتاريخ ابن الساعي : ٣ .

١٦٤

فأكرمهم ، وحلّ بين ظهرانيهم ، فإنّ الله لا يتم هذا الأمر إلاّ بهم ، وانظر هذا الحي من ربيعه فاتهمهم في أمرهم ، وانظر هذا الحي من مضر فإنّهم العدو القريب الدار ، فاقتل مَن شككت في أمره ومَن وقع في نفسك منه شيء ، وإن شئت أن لا تدع بخراسان مَن يتكلّم العربية فافعل ، فأيّما غلام بلغ خمسة أشبار فاقتله(١) وهذه الوصيّة تلخّص السياسة العباسية مع المسلمين .

وقد أثّر أبو مسلم الخراساني في الناس لتعاطفه معهم حيث كان يتمتّع بصفات تؤهّله لهذا الموقع ، فهو خافض الصوت فصيح بالعربية والفارسية ، حلو المنطق راوية للشعر ، لم يُر ضاحكاً ولا مازحاً إلاّ في وقته ، ولا يكاد يُقَطّب في شيء من أحواله ، تأتيه الفتوحات العظام فلا يظهر عليه أثر السرور ، وتنزل به الحوادث الفادحة فلا يُرى مكتئباً وعندما سُئل إبراهيم الإمام عن أهلية أبي مسلم قال : إنّي قد جرّبت هذا الأصبهاني ، وعرفت ظاهره وباطنه فوجدته حَجَر الأرض(٢) .

وكان محبوباً حتى عند غير المسلمين حيث نجد دهاقين المجوس اندفعوا إلى اتّباعه وأظهروا الإسلام على يديه ، كما استجاب للدعوة الإسلامية عدد كبير من أهل الآراء الخارجة عن الإسلام ، كل ذلك للظلم والجور الذي لحق بهم من الولاة الأمويين ، وبسبب ما شاهدوه من العطف من أبي مسلم الخراساني ؛ ولذا كان الكثير منهم يعتبرونه وحده الإمام ، واعتقدوا أنّه أحد أعقاب زرادشت الذي ينتظر المجوس ظهوره ، حتى أنّهم لم يعتقدوا بموت أبي مسلم بل كانوا ينتظرون رجعته(٣) .

ـــــــــــــــــ

(١) الكامل في التاريخ : ٤ / ٢٩٥ .

(٢) وفيات الأعيان : ٣ / ١٤٥ .

(٣) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ٢ / ٣١١ .

١٦٥

ومن جانب آخر أنّه هو الذي أنزل جثمان يحيى بن زيد وصلّى عليه ودفنه ، وبعد أن تقلّد المنصب كقائد عام للعسكر توجّه من فوره لخراسان ليقود الجماهير التي تنتظر الأوامر منه ، وكانت متحمّسة قبل هذا الحين للحرب مع الأمويين فخطب بالدعاة قائلاً : أشعروا قلوبكم الجرأة فإنّها من أسباب الظفر ، وأكثروا من ذكر الضغائن ، فإنّها تبعث على الإقدام ، وألزموا الطاعة فإنّها حصن المحارب(١) .

وفجّر الثورة هناك ، وكان يبذر الشقاق بين جنود الأمويين ليحصل الانقسام بينهم وقد استفاد بذلك ونجح في مهمّته ، وقد انجفل الناس من هرات والطالقان ومرو وبلخ وتوافروا جميعاً مسودين الثياب وأنصاف الخشب التي كانت معهم(٢) .

وباشر أبو مسلم إبادة الأبرياء فقتل ـ فيما ينقل المؤرّخون ـ ستمائة ألف عربي بالسيف صبراً عدا مَن قتل في الحرب(٣) .

وتقدّمت جيوش أبي مسلم ـ بعد أن هزمت ولاة الأمويين في خراسان ـ نحو العراق وهي كالموج تخفق عليها الرايات السود فاحتلّت العراق بدون مقاومة تُذكر وبهذا أُعلن الحكم العباسي على يد أبي مسلم الخراساني في الكوفة سنة ( ١٣٢ هـ ) .

والجدير بالذكر أنّه قبل أن يدخل أبو مسلم الخراساني الكوفة حدث هناك أمران ينبغي الالتفات إليهما :

ـــــــــــــــــ

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر : ١ / ٣٢٦ .

(٢) حياة الحيوان ، الدينوري : ٣٦٠ .

(٣) حياة الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : ١ / ٣٢٦ .

١٦٦

الأمر الأول : في سنة ( ١٣١ هـ ) بعد إعلان أبي مسلم الخراساني الثورة في خراسان ، وقبل دخوله الكوفة أُلقي القبض على إبراهيم الإمام ـ الرأس المدبّر للثورة ـ من قِبل الخليفة الأموي مروان وحبسه في حرّان ثم قتله بعد ذلك في نفس التاريخ ؛ وبهذا الحدث تعرّضت الحركة العباسية لانتكاسة كبرى .

الأمر الثاني : خاف أبو العباس السفّاح وأبو جعفر المنصور وجماعة فهربوا إلى الكوفة لوجود قاعدة من الدعاة العباسيين فيها وعلى رأسهم أبو سلمة الخلاّل الذي كان يضاهي أبا مسلم في الدهاء والنشاط وكان يُعرف بوزير آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخلى لهم داراً وتولّى خدمتهم بنفسه وتكتّم على أمرهم .

ولعلّ أبا سلمة الخلاّل كان يريد من خلال هذا الإجراء صرف الخلافة لآل علي ولكنّه غلب على أمره حتى فاجأته جيوش أبي مسلم الخراساني إلى الكوفة وظهر أمر بني العباس فأخرجوا السفّاح إلى المسجد وبايعوه يوم الجمعة ١٢ ربيع الأول سنة ( ١٣٢ هـ ) .

واستقبلت الكوفة بيعة السفّاح بكثير من القلق ؛ لأنّها كانت تترقّب بفارغ الصبر حكومة العلويين حسب الشعارات المرفوعة ليبسطوا الأمن والرخاء .

أمّا الأوساط الواعية في الكوفة ، بل في كل أنحاء العالم الإسلامي ، فقد شجبت البيعة للسفّاح وأفتى الفقهاء في يثرب بعدم شرعيّتها(١) .

وبعد ذلك أخذوا به إلى المسجد لغرض الصلاة والخطبة لكنّه

ـــــــــــــــــ

(١) تاريخ الامم والملوك : ٩ / ١٢٤ ، وتاريخ ابن قتيبة : ١٢٨ ، والطقطقي : ١٢٧ .

١٦٧

حُصِر وخطب مكانه عمّه داود ثمّ امتلك الجرأة فخطب وكان من جملة ما قاله في خطابه :

يا أهل الكوفة أنتم محل محبّتنا ، ومنزل مودّتنا ، أنتم الذين لم تتغيّروا عن ذلك ، ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم ، حتى أدركتم زماننا ، وأتاكم الله بدولتنا ، فأنتم أسعد الناس بنا ، وأكرمهم علينا ، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم ، فأنا السفّاح المبيح ، والثائر المنيح(١) .

ثمّ أرسل قوّاته بقيادة عبد الله بن علي لقتال مروان بن محمد بن مروان الحمار ولاحقته الجيوش العباسية من بلدة إلى أخرى حتى حاصرته في مصر في قرية يقال لها ( بوصير ) وقُتل هناك شرّ قتلة(٢) .

٣ ـ موقف الإمامعليه‌السلام من الأحداث

التزم الإمام الصادقعليه‌السلام إزاء المستجدّات السياسية في هذه المرحلة موقف الحياد لكنّه من جانب آخر واصل العمل في نهجه السابق ، وأخذ يتحرّك بقوّة ويوسّع من دائرة الأفراد الصالحين في المجتمع ؛ تحقيقاً لهدفه الذي خطّه قبل هذا الوقت وحفاظاً على جهده في بناء الإنسان .

ومن هذا المنطلق أصدر جملة من التوصيات لشيعته التي كان من شأنها أن تجنّبهم الدخول في المعادلات السياسية المتغيّرة التي تؤدّي بنتيجتها إلى استنزاف الوجود الشيعي في نظر الإمامعليه‌السلام محذّراً من أساليب العنف والمواجهة كخيار لهذه المرحلة .

ـــــــــــــــــ

(١) الكامل في التاريخ : ٥/٤١٣ .

(٢) اليعقوبي : ٢/٣٤٦ وابن جرير وابن الأثير في الكامل في التاريخ : ٥/٤٢٦ .

١٦٨

فعن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول :( اتقوا الله وعليكم بالطاعة لأئمتكم ، قولوا ما يقولون ، واصمتوا عمّا صمتوا ، فإنّكم في سلطان من قال الله تعالى : ( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) (١) ـ يعني بذلك ولد العباس ـفاتقوا الله فأنّكم في هدنة ، صلّوا في عشائرهم واشهدوا جنائزهم ، وأدّوا الأمانة إليهم ) (٢) .

ويمكن بلورة سيرة الإمامعليه‌السلام ومنهجه السياسي ـ مع الأطراف الطامعة بالحكم ، أو العباسيين الّذين يرون في الإمام الصادقعليه‌السلام وخطّه خطراً حقيقياً على سلطانهم ـ من خلال المواقف التالية :

موقف الإمامعليه‌السلام من عرض أبي سلمة الخلاّل

لقد أدرك أبو سلمة الخلاّل أحد الدعاة العباسيين النشطين في الكوفة والذي لعب دوراً متميّزاً في نجاح الدعوة العباسية وتكثير أنصارها في الكوفة ؛ وذلك لما امتاز به من لياقة وعلم ودهاء ، وثراء حيث أنفق من ماله الخاص على رجال الدعوة العباسية ، وكانت له علاقة خاصة واتصالات مستمرّة مع إبراهيم الإمام ، وأدرك بعد موت إبراهيم الإمام بأنّ الأمور تسير على خلاف ما كان يطمح إليه أو لعلّه كان قد تغيّر هواه واستجدّ في نفسه شيء ، ولاحظ أنّ مستقبل الخلافة سيكون إلى أبي العباس أو المنصور وهما غير جديرين بالخلافة أو لطمعه بالسلطة ، نراه يكتب للعلويين وفي مقدّمتهم الإمام الصادقعليه‌السلام بأنّه يريد البيعة لهم .

لكنّنا لا نفهم من رسالة ـ أبي سلمة ـ للإمامعليه‌السلام بأنّها رسالة ندم أو

ـــــــــــــــــ

(١) إبراهيم (١٤) : ٤٦ .

(٢) الكافي : ٨ / ٢١٠ .

١٦٩

اعتراض على النهج العباسي وخديعتهم للعلويين أو إدانة أساليبهم في الاستيلاء على السلطة .

نعم ، إنّ الّذي نجده عند مشهور المؤرّخين(١) هو أنّ أبا سلمة الخلال أراد نقل الخلافة إلى العلويين ولم يوفّق لذلك .

ونجد في جواب الإمامعليه‌السلام على رسالة أبي سلمة : أنّ الإمامعليه‌السلام قد رفض العرض لا بسبب كون الظروف قلقة وغير مؤاتية فحسب ، بل كان الرفض يشمل أبا سلمة نفسه حيث قال :( مالي ولأبي سلمة وهو شيعة لغيري ) (٢) .

وأكّد الإمامعليه‌السلام رفضه القاطع عندما قام بحرق الرسالة التي بعثها له أبو سلمة جواباً لأبي سلمة:

قال المسعودي : كاتب أبو سلمة الخلاّل ثلاثة من أعيان العلويين وهم جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام وعمر الأشرف بن زين العابدين ، وعبد الله المحض ، وأرسل الكتب مع رجل من مواليهم يسمى محمد بن عبد الرحمن ابن أسلم مولىً لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال أبو سلمة للرسول : العجل العجل فلا تكونن كواقد عاد وقال له : اقصد أولاً جعفر بن محمد الصادق فإن أجاب فأبطل الكتابين الآخرين ، وإن لم يجب فالق عبد الله المحض فإن أجاب فأبطل كتاب عمر وإن لم يجب فالق عمر .

فذهب الرسول إلى جعفر بن محمد أولاً ، ودفع إليه كتاب أبي سلمة فقال الإمامعليه‌السلام :( مالي ولأبي سلمة وهو شيعة لغيري ؟! فقال له الرجل : اقرأ الكتاب ، فقال لخادمه :ادن السراج منّي ، فأدناه ، فوضع الكتاب على

ـــــــــــــــــ

(١) تاريخ الأمم والملوك : ٩ / ١٢٤ وابن قتيبة : ١٢٨ ، والطقطقي : ١٢٧ .

(٢) مروج الذهب : ٣ / ٢٥٤ ، والآداب السلطانية : ١٣٧ .

١٧٠

النار حتى احترق ، فقال الرسول : ألا تجبه ؟ قالعليه‌السلام :قد رأيت الجواب عرّف صاحبك بما رأيت ) (١)

موقف الإمام الصادقعليه‌السلام من العلويين

أمّا العلويون الذين خدعهم العباسيون في اجتماع الأبواء قبل انتصار العباسيين وبايعوا في حينه محمد بن عبد الله كخليفة للمسلمين ، فقد استجاب عبد الله بن الحسن أيضاً للعرض الذي تقدم به أبو سلمة وجاء للإمام الصادق مسروراً يبشّره بهذا العرض .

قال المسعودي : فخرج الرسول من عند الإمام الصادق وأتى عبد الله بن الحسن ، ودفع إليه الكتاب وقرأه وابتهج ، فلمّا كان غد ذلك اليوم الذي وصل إليه فيه الكتاب ركب عبد الله حتى أتى منزل أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام فلمّا رآه أبو عبد الله أكبر مجيئه ، وقال : يا أبا محمد ( وهي كنية عبد الله المحض ) أمر ما أتى بك ؟ قال : نعم هو أجل من أن يوصف ، فقال له : وما هو يا أبا محمد ؟

قال : هذا كتاب أبي سلمة يدعوني للخلافة ، وقد قدمت عليه شيعتنا من أهل خراسان ، فقال له أبو عبد الله : يا أبا محمد ومتى كان أهل خراسان شيعة لك ؟ أنت بعثت أبا مسلم إلى خراسان؟ وأنت أمرتهم بلبس السواد ؟ هؤلاء الذين قدموا العراق أنت كنت سبب قدومهم أو وجّهت فيهم ؟ وهل تعرف منهم أحداً ؟

فنازعه عبد الله بن الحسن الكلام إلى أن قال : إنّما يريد القوم ابني محمداً لأنّه مهدي هذه الأمة .

فقال أبو عبد الله جعفر الصادق :( ما هو مهدي هذه الأمة ولئن شهر سيفه

ـــــــــــــــــ

(١) مروج الذهب : ٣ / ٢٥٤ .

١٧١

ليقتلن ) .

فقال عبد الله : كان هذا الكلام منك لشيء .

فقال الصادقعليه‌السلام :( قد علم الله أنّي أوجب النصيحة على نفسي لكل مسلم ، فكيف أدّخره عنك فلا تمنّ نفسك الأباطيل ، فإنّ هذه الدولة ستتمّ لهؤلاء وقد جاءني مثل الكتاب الذي جاءك ) (١) .

نهاية أبي سلمة الخلاّل

ولم يخف أمر أبي سلمة الخلال على العباسيين فقد أحاطوه بالجواسيس التي تسجّل جميع حركاته وأعماله وترفعها إلى العباسيين ، فاتفق السفّاح وأخوه المنصور على أن يخرج المنصور لزيارة أبي مسلم ويحدّثه بأمر أبي سلمة ، ويطلب منه القيام باغتياله ، فخرج المنصور ، والتقى بأبي مسلم ، وعرض عليه أمر أبي سلمة فقال ، أبو مسلم : أفعلها أبو سلمة ؟ أنا أكفيكموه ؟ ثم دعا أحد قوّاده ( مرار بن أنس الضبي ) ، وقال له : انطلق إلى الكوفة فاقتل أبا سلمة حيث لقيته فسار إلى الكوفة مع جماعة من جنوده وكان أبو سلمة يسمر عند السفّاح الذي تظاهر بإعلان العفو والرضا عنه ، واختفى مرار مع جماعته في طريق أبي سلمة فلمّا خرج من عند السفّاح بادر إلى قتله ، وأشاعوا في الصباح : أنّ الخوارج هي التي قتلته(٢) .

ـــــــــــــــــ

(١) مروج الذهب : ٣ / ٢٥٤ ، ٢٥٥ ونحوه في اليعقوبي : ٢/٣٤٩ ، والآداب السلطانية : ١٣٧ ونحوه الحلبي في مناقب آل أبي طالب : ٤/٢٤٩ عن ابن كادش العكبري في مقاتل العصابة العلوية .

(٢) اليعقوبي : ٢/٣٥٤ وتاريخ الأمم والملوك ، أحداث سنة ( ١٣٢ ) قتل أبو سلمة في الخامس عشر من شهر رجب بعد هزيمة مروان بشهر واحد .

١٧٢

موقف الإمامعليه‌السلام من عرض أبي مسلم

أمّا أبو مسلم الخراساني الذي قاد الانقلاب على الأمويين في خراسان ، وتمّ تأسيس الدولة العباسية على يديه نجده في الأشهر الأولى من انتصار العبّاسيين وإعلان البيعة لأبي العباس السفاح بالكوفة يكتب للإمام الصادقعليه‌السلام رسالة يريد بها البيعة للإمامعليه‌السلام فقد جاء فيها : إنّي قد أظهرت الكلمة ، ودعوت الناس عن موالاة بني أُميّة إلى موالاة أهل البيت فإن رغبت فلا مزيد عليك(١) .

لا شك أنّ أبا مسلم الخراساني المعروف بولائه وإخلاصه للعباسيين وهو صنيعتهم حينما تصدر رسالة من عنده بهذه اللهجة تعتبر مفاجأة ولابد أن تتأثّر بعوامل طارئة قد غيّرت من قناعاته ، سواء كانت تلك العوامل ذاتية أو موضوعية وإلاّ فما هي الجهة التي تربطه بالإمامعليه‌السلام ؟

لم يحدثنا التاريخ عن أي علاقة بينه وبين الإمامعليه‌السلام عقائدياً أو سياسياً سوى لقاء واحد لم يتم فيه التعارف بينهما أو التفاهم نعم كان الإمامعليه‌السلام قد عَرِفه وذكر اسمه ومستقبله السياسي قبل إعلان العباسيين ثورتهم(٢) .

أمّا موقف الإمام من عرض أبي مسلم الخراساني فيمكن معرفته من جواب الإمام على الرسالة فقد جاء في جوابهعليه‌السلام ( ما أنت من رجالي ولا الزمان

ـــــــــــــــــ

(١) الملل والنحل للشهرستاني : ١ / ٢٤١ ، وفي روضة الكافي : ٢٢٩ جوابه لرسول أبي مسلم بكتابه إليه وعنه في بحار الأنوار : ٤٧/٢٩٧ .

(٢) إعلام الورى : ٢/٥٢٨ وعنه في مناقب آل أبي طالب : ٤/٢٥٩ وبحار الأنوار : ٤٧/٢٧٤ ح١٥ .

١٧٣

زماني ) (١) .

كلمات مختصرة ومعبّرة عن تفسير الإمام للمرحلة وتشخيصه لأبي مسلم ; لأنّ أبا مسلم لم يكن من تربية الإمام ، ولا من الملتزمين بمذهبه ، فهو قبل أيام قد سفك من الدماء البريئة ما لا يُحصى وقيل لعبد الله بن المبارك : أبو مسلم خير أو الحجاج ؟ قال : لا أقول إنّ أبا مسلم كان خيراً من أحد ولكنّ الحجاج كان شرّاً منه(٢) وكان لا يعرف أحداً من خط أهل البيت ومواليهم ; إذ كانت علاقته محصورة بدائرة ضيّقة كما قد حددها له مولاه إبراهيم الإمام عندما أمره أن لا يخالف سليمان بن كثير ، فكان أبو مسلم يختلف ما بين إبراهيم وسليمان(٣) .

كما نجده بعد مقتل إبراهيم الإمام الذي كان يدعو له يتحوّل بولائه لأبي العباس السفّاح ومن بعده لأبي جعفر المنصور ، علماً أنّ العلاقة كانت بينه وبين المنصور سيئة وكان أبو مسلم يستصغر المنصور أيام حكومة السفّاح(٤) إلاّ أنّ المنصور ثأر لنفسه أيام حكومته فقتله شرّ قتلة .

أمّا المرحلة التي سادها الاضطراب فلم تكن في نظر الإمامعليه‌السلام وتقديره صالحة لتقبّل أطروحته إذ قال له :عليه‌السلام ( ولا الزمان زماني ) (٥) .

٤ ـ منهج الإمامعليه‌السلام في هذه المرحلة

قد أملت الظروف السياسية الساخنة وساهمت في إيجاد بعض

ـــــــــــــــــ

(١) الملل والنحل للشهرستاني : ١ / ١٤٢ .

(٢) وفيات الأعيان : ٣ / ١٤٥ وتاريخ مختصر الدول لابن العبري : ١٢١ : سُئل بعضهم ...

(٣) وفيات الأعيان : ٣/١٤٥ .

(٤) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٣٦٧ والمسعودي : ٣/٢٩١ وتاريخ مختصر الدول : ١٢١ .

(٥) الملل والنحل للشهرستاني : ١/١٥٤ ، تاريخ اليعقوبي : ٢/٣٤٩ .

١٧٤

التصوّرات والإرهاصات عند أصحاب الإمامعليه‌السلام أُسوة بباقي الناس ، وقد لاحظ هؤلاء بأنّ الظرف مناسب لتفجير الوضع واستلام الحكم لضخامة ما كانوا يشاهدونه من شعبية الإمام وكثرة الناس التي تواليه جاءت التصوّرات والتساؤلات عن ضرورة الثورة عند ما ورد إلى الإمام كتاب أبي مسلم الخراساني ، فعن الفضل الكاتب قال كنت عند أبي عبد اللهعليه‌السلام فأتاه كتاب أبي مسلم فقالعليه‌السلام :ليس لكتابك جواب أُخرج عنّا ـ وقد مرّ جواب الإمام على العرض الذي تقدّم به أبو مسلم ـ فجعلنا يُسار بعضنا بعضاً فقال :( أيّ شيء تسارُّون يا فضل ؟ إنّ الله عزّ ذكره لا يعجل لعجلة العباد ، ولإزالة جبل عن موضعه أيسر من زوال ملك لم ينقض أجله ) ثم قال : إنّ فلان بن فلان ، حتى بلغ السابع من ولد فلان .

قلت : فما العلامة فيما بيننا وبينك جُلعتُ فداك ؟ قال :( لا تبرح الأرض يا فضل حتى يخرج السفياني ، فإذا خرج السفياني فأجيبوا إلينا ـ يقولها ثلاثاً ـوهو من المحتوم ) (١) .

وينقل المعلّى بأنّه جاء إلى الإمام بكتب كثيرة من شيعته تطالبه بالنهوض(٢) وقد مرّ جواب الإمامعليه‌السلام في البحوث السابقة بما حاصله أنّ الكثرة المزعومة وذلك العدد الذي لا يستهان به لهو أحوج إلى الإخلاص ورسوخ العقيدة في النفوس فلا يمكن للإمام أن يخوض المعركة بالطريقة التي يفكّر بها فضل الكاتب أو سهل الخراساني وغيرهم ، فإنّ المغامرة من هذا النوع والدخول في اللعب السياسية استغلالاً للظرف سيؤول إلى نتائج لم يدركها هؤلاء إذ تشكّل تجربة كأداء تعطّل المخطّط الإلهي الذي التزمه الإمامعليه‌السلام حتى في حالة نجاح الإمامعليه‌السلام وتسلّمه مقاليد الحكم .

ـــــــــــــــــ

(١) روضة الكافي : ٢٢٩ وعنه في بحار الأنوار : ٤٧ / ٢٩٧ ، وسائل الشيعة : ١١ / ٣٧ .

(٢) الكافي : ٨ / ٢٧٤ .

١٧٥

التصعيد العبّاسي وموقف الإمامعليه‌السلام

وبعد أن تولّى أبو العباس السفّاح الحكم وصار أوّل حاكم عبّاسي قام بتعيين الولاة في البلاد الإسلامية ، فعيّن عمّه داود بن علي بن العباس والياً على يثرب ومكة واليمن وقد خطب داود أوّل تولّيه المنصب خطاباً في أهالي المدينة وتضمّن خطابه التهديد والوعيد بالقتل والتشريد قائلاً : أيّها الناس أغرّكم الإمهال حتى حسبتموه الإهمال ، هيهات منكم ، وكيف بكم ؟ والسوط في كفّي والسيف مشهر .

حتى يبيد قبيلة فقبيلة

ويعض كل مثقّف بالهامِ

ويقمن ربات الخدور حواسراً

يمسحن عرض ذوائب الأيتامِ(١)

وكان تعيين داود بن علي عم السفّاح والياً على المدينة له الأثر السلبي على حركة الإمام الصادقعليه‌السلام فقد بادر هذا الأحمق بمواجهة الإمام عن طريق اعتقال مولى الإمام ( المعلّى بن خنيس ) والتحقيق معه لغرض انتزاع أسماء الشيعة وقد امتنع هذا المخلص وصمّم على الشهادة ولم يذكر أي اسم حتى استشهد .

عن أبي بصير قال : فلمّا ولي داود المدينة ، دعا المعلّى وسأله عن شيعة أبي عبد اللهعليه‌السلام فكتمه ، فقال اتكتمني !؟ أما إنّك إن كتمتني قتلتك .

فقال المعلى : أبالقتل تهدّدني ؟! والله لو كانوا تحت قدمي ما رفعت قدمي عنهم ، وإن أنت قتلتني لتسعدني ولتشقين ، فلمّا أراد قتله ، قال المعلّى أخرجني إلى الناس ، فإنّ لي أشياء كثيرة ، حتى أشهد بذلك .

ـــــــــــــــــ

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ١ / ١٣٩ .

١٧٦

فأخرجه إلى السوق ، فلمّا اجتمع الناس ، قال : أيّها الناس ، اشهدوا أنّ ما تركت من مال عين ، أو دين ، أو أمة ، أو عبد ، أو دار ، أو قليل أو كثير ، فهو لجعفر بن محمدعليه‌السلام . فقُتل(١) .

لقد تألّم الإمام الصادقعليه‌السلام كثيراً لمقتل المُعلّى بن خنيس ، ولمّا التقى الإمامعليه‌السلام بداود بن علي بن العباس قال له :قتلت قيّمي في مالي وعيالي ، ثم قال لأدعونّ الله عليك قال داود : اصنع ما شئت .

فلما جنّ الليل قالعليه‌السلام :( اللّهم ارمه بسهم من سهامك فأفلق به قلبه ) فأصبح وقد مات داود والناس يهنّئونه بموته(٢) .

لقد أدرك الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ الظرف ينبئ بالخطر ، وأنّ الحاضر يحمل في داخله كثيراً من التعقيدات والمشاكل التي سوف يلقاها عن قريب ، لكن الوقت لازال فيه متسع من النشاط والتحرّك ويمكن للإمامعليه‌السلام أن يثبت ما بقي من منهجه ويرسّخه في ذهن الأمة ويمدّها بالآفاق الرسالية التي تحصنها في المستقبل ; لأنّ العباسيين الآن مشغولون بملاحقة الأمويين ؛ لذا نجدهعليه‌السلام لم يصطدم مع داود بن علي بسبب قتله للمعلّى بالطرق المتوقّعة ولم يعلنها ثورة ، كما لم ينسحب للمنطق الذي أبداه داود في تصعيده الموقف مع الإمام ، والذي كان يستهدف جهد الإمام وحركته ، بل قابله بمنطق أقوى يعجز من مثل داود أن يواجهه به .

إنّ لجوء الإمامعليه‌السلام إلى الدعاء سوف يدرك العباسيون من خلاله أنّ الإمام لا يريد المواجهة العسكرية ، لكن مثل هذه الأعمال لا تثنيه عن

ـــــــــــــــــ

(١) اختيار معرفة الرجال للكشي : ٣٧٧ ح ٧٠٨ و ٧١٣ وعنه في المناقب لابن شهر آشوب : ٣ / ٣٥٢ ، وبحار الأنوار : ٤٧ / ١٢٩ .

(٢) الكافي : ٢ / ٥١٣ والخرائج والجرائح : ٢ / ٦١١ ، وبحار الأنوار : ٤٧ / ٢٠٩ .

١٧٧

مواصلة نشاطه ومن فوائد دعاء الإمام أنّه كان يستبطن إيحاءاً لهم بأنّ الإمامعليه‌السلام لا يمتلك تلك القوّة التي تمكّنه من أن يقوم بعمل عسكري ـ مثلاً ـ يهدّد به كيانهم ، وهذا التصوّر الناشئ من هذا الموقف يُطمئن العباسيين ويتيح للإمامعليه‌السلام فرصاً جديدة من النشاط .

ثم نجد الإمامعليه‌السلام بعد أن أنهى مشكلة المعلّى بن خنيس بالطريقة التي مرّت وتفادى المواجهة ، يسافر إلى الكوفة التي يكثر فيها أنصاره وشيعته ولعلم الإمام بأنّ السفّاح ليس بمقدوره مواجهة الإمام في الوقت الحاضر ، وليس من صالح سياسته المستفيدة من اسم الإمامعليه‌السلام هذه المواجهة ، بل نجد السفّاح لا يفكّر حتى في مواجهة بني الحسن الذين وصلته عنهم معلومات تفيد أنّهم يخطّطون للثورة .

وبعد أن وصل الإمام إلى الكوفة قام ببعض النشاطات ، منها :

أنّ الإمامعليه‌السلام أوضح لخواصّ الشيعة بأنّ الحكومة الجديدة لم تختلف عن سابقتها ، لأنّ البعض من الشيعة كان قد التبس عليه الأمر وظنّ أنّ العلاقة بين الإمام وبني العباس طيّبة ؛ لذا طلب بعض الخواصّ من الإمام أن يتوسّط له ليكون موظّفاً في حكومة بني العباس .

ولمّا امتنع الإمام عن إجابته ظنّ بأنّ الإمام منعه مخافة أن توقعه الوظيفة في الظلم ؛ لذا قال : فانصرفت إلى منزلي ، ففكّرت فقلت : ما أحسبه منعني إلاّ مخافة أن أظلم أو أجور ، والله لآتينّه ولأعطينّه الطلاق والعتاق والأيمان المغلّظة أن لا أظلم أحداً ولا أجور ولأعدلنّ .

قال : فأتيته فقلت : جُعلت فداك إنّي فكّرت في إبائك ( امتناعك ) عليَّ فظننت أنّك إنّما منعتني وكرهت ذلك مخافة أن أجور أو أظلم وإنّ كلّ امرأة لي طالق ، وكل مملوك لي حُرّ عليَّ وعليَّ إن ظلمت أحداً أو جرت عليه ، وإن

١٧٨

لم أعدل .

فقال :كيف قلت ؟ قال : فأعدت عليه الأيمان ، فرفع رأسه إلى السماء فقال :( تناول السماء أيسر عليك من ذلك !! ) (١) .

ثم نجد الإمام الصادقعليه‌السلام يؤكّد بأنّ لقب ( أمير المؤمنين ) خاصّ بالإمام عليعليه‌السلام ولا يجوز إطلاقه على غيره حتى من ولده الأئمةعليهم‌السلام فكيف بمَن هو ظالم لهم .

جاء في كتاب مناقب آل أبي طالب : لم يجوّز أصحابنا أن يطلق هذا اللفظ لغيره ( أي لغير الإمام علي ) من الأئمةعليهم‌السلام ) .

وقال رجل للصادقعليه‌السلام : يا أمير المؤمنين قال :( مَه ، فإنّه لا يرضى بهذهِ التسمية أحد إلاّ ابتُلي ببلاء أبي جهل ) (٢) .

ثم نجد للإمام توصيات كثيرة تحرّم التعاون مع الظلمة والتحاكم إليهم لكن لا يمكن تحديد زمنها .

لقد كان موقف الإمام من الحكومتين واحداً قالعليه‌السلام :( لا تعنهم ـ أي حكّام الجور ـعلى بناء مسجد ) (٣) .

وكان يقول لبعض أصحابه :( يا عذافر ! نبّئت أنّك تعامل أبا أيوب والربيع ، فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة ؟! ) (٤) .

وكان حضور الإمام الصادقعليه‌السلام في الحيرة ـ المدينة القريبة من الكوفة ـ قد لفت أنظار الأمة جميعاً واتجهت الناس حوله لتنهل من علومه وتستفيد

ـــــــــــــــــ

(١) الكافي ٥/١٠٧

(٢) مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٦٧ .

(٣) وسائل الشيعة : ٦/١٣٠ .

(٤) وسائل الشيعة : ٦ / ١٢٨ .

١٧٩

من توصياته وتوجيهاته حتى قال محمد بن معروف الهلالي : مضيت إلى الحيرة إلى جعفر بن محمد فما كان لي من حيلة من كثرة الناس فلمّا كان اليوم الرابع رآني ، فأدناني(١) .

وهذا الحشد الجماهيري الكبير الذي يؤمن بأهليّة الإمام وأعلميّته والتفافه المستمر حول الإمام قد دفع بالحكومة العباسية إلى أن تحدّ من هذه الظاهرة لكنّ الإمامعليه‌السلام وانطلاقاً من محافظته على مسيرة الأمة ودفاعاً عن الإسلام ؛ نجده قد مارس مع السفّاح أسلوباً مرناً فعن حذيفة بن منصور قال : كنت عند أبي عبد اللهعليه‌السلام بالحيرة ، فأتاه رسول أبي العباس السفّاح الخليفة يدعوه فدعى بممطر أحد وجهيه أسود والآخر أبيض ، فلبسه ، ثم قال أبو عبد اللهعليه‌السلام :( أما إنّي ألبسه ، وأنا أعلم أنّه لباس أهل النار ) (٢) .

وجاء عن رجل قال : قال أبو عبد اللهعليه‌السلام :( دخلت على أبي العبّاس بالحيرة فقال : يا أبا عبد الله ما تقول في الصيّام اليوم ؟ فقلت : ذاك إلى الإمام إن صمت صمنا وإن أفطرت أفطرنا فقال : يا غلام عليَّ بالمائدة فأكلت معه وأنا أعلم والله إنّه من شهر رمضان فكان إفطاري يوماً وقضاؤه أيسر عليَّ من أن يضرب عنقي ولا يُعبد الله ) (٣) .

ومن جانب آخر قد انتقد الإمام القتل الجماعي للأمويين ، وطلب من السفّاح الكفّ عن قتلهم بعدما أخذ الملك من أيديهم ودهش السفّاح وتعجّب من موقف الإمام تجاه ألدّ أعدائه الذين صبّوا على أهل البيتعليهم‌السلام ألوان الظلم ؛ لأنّ الإمام لا ينطلق من العصبية الجاهلية وروح التشفّي(٤) .

ـــــــــــــــــ

(١) فرحة الغري : ٥٩

(٢) الكافي : ٦ / ٤٤٩ ، وبحار الأنوار : ٤٧ / ٤٥ .

(٣) الكافي : ٤ / ٨٣ .

(٤) حياة الإمام جعفر الصادق : ٧ / ٨٠ .

١٨٠

وانعكست إجراءات العباسيين للحدّ من ظاهرة الالتفاف حول الإمام والاستفادة من علومه ، فقد روى هارون بن خارجة ، فقال : كان رجل من أصحابنا طلّق امرأته ثلاثاً فسأل أصحابنا ، فقالوا : ليس بشيء ، فقالت امرأته لا أرضى حتى تسأل أبا عبد اللهعليه‌السلام وكان في الحيرة إذ ذلك أيام أبي العباس السفّاح قال : فذهبت إلى الحيرة ولم أقدر على كلامه ؛ إذ منع الخليفة الناس من الدخول على أبي عبد الله وأنا أنظر كيف ألتمس لقاءه فإذا سواديّ(١) عليه جبّة صوف يبيع خياراً ، فقلت له : بكم خيارك هذا كلّه ؟ قال بدرهم ، فأعطيته درهماً ، وقلت له أعطيني جبّتك هذه ، فأخذتها ولبستها وناديت : مَنْ يشتري خياراً ؟ ودنوت منه ! فإذا غلام من ناحية ينادي يا صاحب الخيار ! فقال لي لمّا دنوت منه : ما أجود ما احتلت إلى حاجتك ؟

قلت : إني ابتليت : فطلّقت أهلي في دفعة ثلاثاً ، فسألت أصحابنا فقالوا : ليس بشيء ، وإنّ المرأة قالت : لا أرضى حتى تسأل أبا عبد اللهعليه‌السلام فقال :( ارجع إلى أهلك فليس عليك شيء ) (٢) .

لقد لاحظ الإمام الصادقعليه‌السلام الدهاء العبّاسي وقدراته السياسية التي حقّق بها نصراً حاسماً على خصومه الأمويين ، وعلم بأنّ المعركة سوف تنتقل إليه وإلى أصحابه باعتبارهم الثقل الأكبر والخطر الداخلي الحقيقي الذي يخشاه العبّاسيون ، كما لاحظعليه‌السلام أنّ القاعدة الشعبية الكبيرة التي تؤيّده سوف تكون سبباً لانهيار حركته إذا لم تزوّد بتعاليم جديدة خصوصاً للجماعة الصالحة ؛ لأنّ سعة دائرة الأنصار تسمح بدخول الأدعياء والمنتفعين الذين يحسبون للظرف السياسي ومستقبله .

ـــــــــــــــــ

(١) سواديّ : نسبة إلى العراق الذي سُمّي بأرض السواد أو إلى اسوادية قرية بالكوفة .

(٢) الخرائج والجرائح : ٢ / ٦٤٢ ، وبحار الأنوار : ٤٧ / ١٧١ .

١٨١

وقد صنّف الإمامعليه‌السلام جمهوره قائلاً :( افترق الناس فينا على ثلاث فرق ، فرقة أحبّونا انتظار قائمنا ليصيبوا دنيانا ) ، وهذا هو الانتماء السياسي ـ وليس هو الانتماء القلبي ـ للتشيّع والذي يطمع أصحابه للمواقع السياسية فيه مستقبلاً ، أمّا نشاط هؤلاء فيقول عنه الإمام :( فقالوا وحفظوا كلامنا وقصّروا عن فعلنا فسيحشرهم الله إلى النار ) .

ويشير الإمامعليه‌السلام إلى الفرقة الثانية التي تؤيّد حركة الإمام وتحبّه لكنّها تستهدف المنافع الدنيوية من هذا التأييد .

قالعليه‌السلام :( أحبّونا واسمعوا كلامنا ولم يقصّروا عن فعلنا ) هذه هي حركتهم ونشاطهم ، أمّا هدفهم فيقول الإمامعليه‌السلام :ليستأكلوا الناس بنا فيملأ الله بطونهم ناراً ويسلّط عليهم الجوع والعطش .

وأخيراً يشير الإمام إلى الفرقة المخلصة قائلاً :( وفرفة أحبّونا وحفظوا قولنا ، وأطاعوا أمرنا ، لم يخالفوا فعلنا فأولئك منا ونحن منهم ) (١) .

فالمستقبل ينذر بمعركة شرسة تريد استئصال حركة الإمامعليه‌السلام من الجذور ، قد بدأها داود بن علي ، ومن علائمها التضييق على الإمام في الحيرة ، فلابدّ للإمام أن ينشط باتجاه تثقيف الشيعة بمبادئ تكون كفيلة بالحفاظ عليهم وتمكّنهم من مواصلة العمل البنّاء والتعايش مع الأمة بسلام ـ كمبدأ التقيّة وكتمان السرّ ـ وتفوّت على الظالمين نواياهم كما أنّ الالتزام بها يحافظ على صحّة المعتقدات والأحكام الشرعية ؛ لذا نجده وهو في معرض تربيته للخواصّ يقول :( رحم الله عبداً سمع بمكنون علمنا فدفنه تحت قدميه والله إنّي لأعلم بشراركم من البيطار (٢) بالدواب ، شراركم الذين لا يقرأون القرآن

ـــــــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٥١٤ ، وبحار الأنوار : ٧٨ / ٣٨٠ .

(٢) البيطار : في الأصل معرّب بهدار بالفارسية أي الصحّة ، ولكنّه اختصّ في العربية بطبّ الحيوان انظر بديع اللغة ، والمعرّب من لغة العرب للجواليقي .

١٨٢

إلاّ هجراً (١) ولا يأتون الصلاة إلاّ دبراً ولا يحفظون ألسنتهم ، إعلم أنّ الحسن بن علي عليه‌السلام لما طعن ، واختلف الناس عليه ، سلّم الأمر لمعاوية فسلّمت عليه الشيعة : عليك السلام يا مذل المؤمنين فقال عليه‌السلام : ما أنا بمذلّ المؤمنين ، ولكنّي معزّ المؤمنين إنّي لما رأيتكم ليس بكم عليهم قوّة ، سلّمت الأمر لأبقى أنا وأنتم بين أظهرهم كما عاب العالم السفينة لتبقى لأصحابها ، وكذلك نفسي وأنتم لنبقي بينهم ) (٢) .

فالإمامعليه‌السلام يضرب المثل بالإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام الذي مارس التقية بأسلوب دفاعي مع معاوية لغرض مواصلة العمل ، فلم يصالح الإمام على أساس المبادئ والأحكام بل كان من أجلها ومن أجل إبراز هوية شيعة الإمام والاعتراف بحقوقهم المغصوبة ولتفتح لهم مجالاً واسعاً للتبليغ .

من هنا جاءت مهمّة تثبيت هذه المبادئ وتربية الشيعة عليها ووجوب العمل بها ليس لأنّها مبادئ تخصّ نخبة من الناس وإنّما باعتبارها مبادئ إسلامية عامّة ومشروعة حسب النصوص الثابتة في القرآن والسنّة لكن الظروف السيئة حالت دون إظهارها وأساءت فهمها ؛ لأنّها لا تخدم الحكّام وتعارض سياستهم .

يصف الإمامعليه‌السلام دور التقية في الجمع ذاك قائلاً :( اتقوا على دينكم وأحيوه بالتقيّة فإنّه لا إيمان لمَن لا تقيّة له إنّما أنتم من الناس كالنحل في الطير ، ولو أنّ الطير يعلم ما في أجواف النحل ما بقي منها شيء إلاّ أكلته ، ولو أنّ الناس علموا ما في أجوافكم أنّكم تحبّونا أهل البيت لأكلوكم بألسنتهم ، ولنحلوكم بالسرّ والعلانية ، رحم الله عبداً منكم كان على ولايتنا (٣) .

ـــــــــــــــــ

(١) هَجَرَ : تباعد ويقال هجر الفحل : ترك الضراب .

(٢) تحف العقول : ٣٠٧ ، والبحار : ٧٨ / ٢٨٦ .

(٣) وسائل الشيعة : ١١ / ٤٦١ .

١٨٣

وبعد أن ثبّت الإمام هذا المبدأ بوصايا وتوجيهات متعدّدة ، أتبعه بنشاطات تربوية مخافة أن يساء فهمه أثناء التطبيق ، فحذّرعليه‌السلام من أن تكون التقيّة في مورد من موارد تطبيقها سبباً إلى التهاون والضعف والجبن والاستسلام وخذلان المؤمنين وتضييع الشريعة وأحكامها ، قالعليه‌السلام :( لم تبق الأرض إلاّ وفيها منّا عالم ، فإذا بلغت التقيّة الدم فلا تقيّة وأيم الله لو دعيتم لتنصرونا قلتم لا نفعل إنّما نتّقي !! ولكانت التقيّة أحبّ إليكم من آبائكم وأمهاتكم ، ولو قد قام القائم ما احتاج إلى مسألتكم عن ذلك ، ولأقام في كثير منكم من أهل النفاق حدّ الله ) (١) .

ومن وسائله التربوية لترشيد هذا المبدأ الحسّاس في مجال العلاقات بين المؤمنين حذراً من أن تؤدّي التقيّة إلى التفكيك بينهم ، نقرأ رواية إسحاق بن عمّار الصيرفي ، قال : دخلت على أبي عبد اللهعليه‌السلام وكنت تركت التسليم على أصحابنا في مسجد الكوفة وذلك لتقيّة علينا فيها شديدة ، فقال لي أبو عبد الله :( يا إسحاق متى أحدثت هذا الجفاء لإخوانك ! تمرُّ بهم فلا تسلّم عليهم ؟! )

فقلت له : ذلك لتقيّة كنت فيها .

فقال :( ليس عليك في التقيّة ترك السلام ، وإنّما عليك في التقيّة الإذاعة إنّ المؤمن ليمرُّ بالمؤمنين فيسلّم عليهم فتردّ الملائكة : سلام عليك ورحمة الله وبركاته ) (٢) .

كما أكّد الإمام الصادقعليه‌السلام على ضرورة كتمان السرّ وجعله مرتبطاً بالإيمان والعقيدة وذمّ إفشاء السرّ وإذاعته بين الناس حتى قالعليه‌السلام :( إنّ المذيع ليس كقاتلنا بسيفه بل هو أعظم وزراً ، بل هو أعظم وزراً ، بل هو أعظم وزراً ) (٣) كما أثنى على الذي يكتم السر بقولهعليه‌السلام ( رحم الله قوماً كانوا سراجاً ومناراً ، كانوا

ـــــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة : ١١ / ٤٨٣ .

(٢) كشف الغمّة : ٢ / ١٩٧ .

(٣) تحف العقول : ٢٣٨ وعنه في بحار الأنوار : ٧٨ / ٢٨٨ .

١٨٤

دعاة إلينا بأعمالهم ، ومجهود طاقتهم ، ليس كمَن يذيع أسرارنا ) (١) .

وشدّد الإمام على أهميّة الكتمان وبيّن أبعاده وعلاقته برسالة الإمام ودوره في نجاحها بعكس الإفشاء وإذاعة الأسرار التي سبّبت عرقلة المسيرة وإضاعة فرص النجاح وتأخير النصر قائلاً لابن النعمان :( إنّ العالم لا يقدر أن يخبرك بكل ما يعلم ; لأنّه سرّ الله الذي أسرّه جبرئيل عليه‌السلام وأسرّه جبرئيل عليه‌السلام إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأسرّه محمد إلى علي وأسرّه علي إلى الحسن وأسرّه الحسن إلى الحسين وأسرّه الحسين إلى علي وأسرّه علي إلى محمد وأسرّه محمد إلى مَن أسرّه ، فلا تعجلوا فو الله لقد قرب هذا الأمر ـ ثلاث مرات ـفأذعتموه ، فأخّره الله ، والله مالكم سرّ إلاّ وعدوّكم أعلم به منكم ) (٢) .

الحضور في أجهزة السلطة

ومن الخطوات التي تحرّك نحوها الإمام الصادقعليه‌السلام في هذه المرحلة وأسّس لها عملياً هي الحضور المحدود في أجهزة السلطة لغرض الحفاظ على المسيرة الإسلامية من التحريف والدفاع عنها عن طريق رصد المعلومات والمخطّطات والمواقف التي يفكّر بها الحكّام بواسطة هذا النشاط ؛ ليتسنّى للإمام دفع الأخطار وإحباط المؤامرات ثم يوفّر هذا النشاط للإمام ردّ المظالم والقيام ببعض الخدمات للمحرومين ؛ ولهذا نجد الإمامعليه‌السلام يصدر رسالة شفوية لبعض الشيعة تتضمّن توجيهات وتحذيرات للعاملين في هذا الميدان ردّاً على رسالة شيعي يطلب من الإمام توضيحاً لهذه المهمّة إذ جاء فيها : وحاجتي أن تهدي إليّ من تبصيرك على مداراة هذا السلطان وتدبير أمري

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٧٨ / ٢٨٠ عن تحف العقول : ٢٢١ .

(٢) تحف العقول : ٢٢٨ وعنه في بحار الأنوار : ٧٨/٢٨٩ .

١٨٥

كحاجتي إلى دعائك لي .

فقالعليه‌السلام لرسوله :قل له ، احذر أن يعرفك السلطان : بالطعن عليه في اختيار الكفاة وإن أخطأ في اختيارهم أو مصافات مَن يباعد منهم ، وإن قربت الأواصر (١) بينك وبينه ، فإنّ الأُولى تغريه (٢) بك والأخرى توحشه ، ولكن تتوسّط في الحالين ، واكتف بعيب مَن اصطُفوا له والإمساك عن تقريظهم عنده ومخالفة مَن أقصوا بالتنائي عن تقريبهم وإذا كدت فتأنّ في مكايدتك ... إلى أن قال :فلا تبلغ بك نصيحة السلطان أن تعادي له حاشيته وخاصّته فإنّ ذلك ليس من حقّه عليك ، ولكن الأقصى لحقه والأدعى إليك للسلامة أن تستصلحهم جهدك ... (٣) .

وقد برز هذا النشاط بشكل ملحوظ زمن الإمام الكاظمعليه‌السلام بينما نجد الإمام الصادقعليه‌السلام قد حذّر كثيراً وحرّم على شيعته التعاون مع الظالمين والاشتراك في أجهزتهم حفاظاً على الوجود الإسلامي من الضياع والتحريف فقد جاء عنهعليه‌السلام ( لا تعنهم ـ حكّام الجور ـعلى بناء المسجد ) (٤) وقال لبعض أصحابه :( يا عذافر نبّئت أنّك تحامل أبا أيّوب والربيع فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة ؟! ) (٥) .

الإمام الصادق يرسّخ الاعتقاد بالإمام المهديعليه‌السلام

من المبادئ التي سعى الإمام الصادقعليه‌السلام لترسيخها في نفوس الشيعة وضمن الدور المشترك الذي مارسه الأئمةعليهم‌السلام من قبله هي مسألة القيادة

ـــــــــــــــــ

(١) بمعنى العهود .

(٢) غري بالشيء : أولع به ولزمه .

(٣) نزهة الناظر : ١١٤ ، ومستدرك الوسائل : ١٢ / ١٨٨ .

(٤) وسائل الشيعة : ١٧/١٨٠ ح٨ عن تهذيب الأحكام للطوسي .

(٥) المصدر السابق : ١٧/١٧٨ ح٣ عن الكافي .

١٨٦

العالميّة المهدويّة التي تمثّل الامتداد الشرعي لقيادة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنّها العقيدة التي تجسّد طموحات الأنبياء والأئمة حسب التفسير الإسلامي للتأريخ الذي يؤكّد بأنّ وراثة الأرض سوف تكون للصالحين من عباده قال تعالى :( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذّكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون ) (١) .

وترسيخ فكرة الإمام المهدي وتربية الشيعة على الاعتقاد الدائم بها تمنح الإنسان الشيعي الثائر روح الأمل الذي لا يتوقّف والقدرة على الصمود والمصابرة وعدم التنازل للباطل ، فكان الإمام الصادقعليه‌السلام يقول :( إذا قام القائم المهدي لا تبقى أرض إلاّ نودي فيها شهادة أن لا اله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ) (٢) .

وبالإيمان بقضية الإمام المهديعليه‌السلام يشعر الإنسان المسلم إلى جانب الدعم الغيبي بأنّ أهدافه التي سعى لإيجادها سوف تتحقّق وأن النصر حليفه مهما طال الزمن ، فقد سأل عبد الله بن عطاء المكّي الإمام الصادقعليه‌السلام عن سيرة المهدي كيف تكون ؟ قال :( يصنع كما صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يهدم ما كان قبله كما هدم رسول الله أمر الجاهلية ، ويستأنف الإسلام جديد ) (٣) .

وبهذه الحقيقة التأريخية يزداد الشيعي اعتقاداً بأنّ جهده سوف يكون جزءاً من الحركة الإلهيّة بجهوده المستمرّة سوف يقترب من الهدف المنشود ويرى الاضطهاد الذي يتعرّض له الشيعة والمسلمون سيزول حتماً حين ينتقم أصحاب الحق ممّن ظلمهم وتعمّ العدالة وجه الأرض جميعاً .

ـــــــــــــــــ

(١) الأنبياء (٢١) : ١٠٥ .

(٢) بحار الأنوار : ٥٢ / ٣٤٠ .

(٣) المصدر السابق : ٥٢ / ٣٥٢ .

١٨٧

الفصل الثاني : حكومة المنصور واستشهاد الإمام الصادقعليه‌السلام

المنصور والتضييق على الإمام الصادقعليه‌السلام

حين تولّى الحكم أبو جعفر المنصور بعد أخيه أبي العباس السفّاح سنة ( ١٣٦ هـ ) عبّر عن مكنون حقده على الإمام الصادقعليه‌السلام وصحبه من العلويين وغيرهم ، وقال عنه المؤرّخون : وكان المنصور خدّاعاً لا يتردّد في سفك الدماء وكان سادراً في بطشه مستهتراً في فتكه(١) .

ووصفه ابن هبيرة وهو أحد معاصريه بقوله : ما رأيت رجلاً في حرب أو سلم أمكر ولا أنكر ولا أشدّ تيقّظاً من المنصور(٢) .

لقد بادر المنصور إلى قتل أبي مسلم الخراساني الذي كان يبغضه ، وأبو مسلم هو القائد الأوّل للانقلاب العبّاسي ، وذلك بعد أن أعدّ له المنصور مكيدة وأغراه بالمجيء إلى بغداد وجرّده من جميع مناصبه العسكرية .

ولمّا دخل أبو مسلم الخراساني على المنصور قابله بقساوة بالغة وأخذ يعدّد عليه أعماله وأبو مسلم يعتذر عن ذلك .

ثمّ صفّق المنصور عالياً حسب الاتّفاق مع حرّاسه لتكون الصفقة بمثابة

ـــــــــــــــــ

(١) الكامل في التأريخ : ٤ / ٣٥٥ .

(٢) تأريخ اليعقوبي : ٢ / ٣٩٩ .

١٨٨

ساعة الصفر ، فدخل الحرّاس وبأيديهم السيوف فقال : أبو مسلم للمنصور متوسّلاً استبقني لعدوّك فصاح به : وأيّ عدو أعدى لي منك ؟!

وبمثل هذا الأسلوب أيضاً قد غدر بعمّه عبد الله بن علي حيث أرسل عليه بعد أن أعطاه الأمان ثم قتله بعد ذلك(١) .

أمّا مخطّطه الخبيث ضدّ الإمام الصادقعليه‌السلام ونهضته الإسلاميّة بشكل عام فقد أخذ ثلاثة اتّجاهات :

الاتّجاه الأوّل :

اتّخذ المنصور في هذا الاتّجاه أُسلوباً مرناً محاولاً فيه الاستفادة من جهد الإمامعليه‌السلام واحتوائه ضمن سياسة الخلافة العباسية فقد كتب إليه : ( لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس ؟

فأجابه الإمامعليه‌السلام :( ليس لنا ما نخافك ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له ، ولا أنت في نعمة فنهنّئك بها ولا تراها نقمة فنعزّيك بها ، فما نصنع عنك !؟ ) .

فكتب إليه : تصحبنا لتنصحنا .

فأجابهعليه‌السلام :( مَن أراد الدنيا لا ينصحك ، ومَن أراد الآخرة لا يصحبك ) .

قال : المنصور : والله لقد ميّز عندي منازل الناس ، مَن يريد الدنيا ممّن يريد الآخرة وإنّه ممّن يريد الآخرة لا الدنيا(٢) .

ومن أساليب المنصور مع الإمامعليه‌السلام في هذا الاتّجاه ما جاء عن عبد الوهّاب عن أبيه حيث قال :

بعث أبو جعفر المنصور إلى أبي عبد الله جعفر بن محمّدعليه‌السلام وأمر

ـــــــــــــــــ

(١) تاريخ اليعقوبي : ٢/٣٦٩ وتاريخ الأمم والملوك : ٦ / ٢٦٦ .

(٢) كشف الغمّة : ٢/٤٢٠ عن تذكرة ابن حمدون ، وعنه في بحار الأنوار : ٤٧ / ١٨٤ .

١٨٩

بفرش فطرحت له إلى جانبه ، فأجلسه عليها ثم قال عليّ بمحمد ، عليَّ بالمهدي فأقبل المنصور على جعفرعليه‌السلام فقال : يا أبا عبد الله حديث حدّثتنيه في صلة الرحم ، اذكره ، يسمعه المهدي .

قال :( نعم ، حدّثني أبي ، عن أبيه ، عن جدّه عن علي عليه‌السلام قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الرجل ليصل رحمه وقد بقي من عمره ثلاث سنين ، فيصيرها الله عزّ وجّل ثلاثين سنة ، ويقطعها وقد بقي من عمره ثلاثون سنة ، فيصيّرها الله ثلاث سنين ) ثم تلاعليه‌السلام :( يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) (١) .

قال : هذا حسن يا أبا عبد الله ، وليس إيّاه أردت ، قال أبو عبد اللهعليه‌السلام :( نعم حدّثني أبي عن أبيه عن جدّه عن عليّ عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صلة الرحم تعمّر الديار وتزيد في الأعمار وإن كان أهلها غير أخيار ) .

قال هذا حسن يا أبا عبد الله ، وليس هذا أردت .

فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام :( نعم حدّثني أبي عن أبيه عن جدّه عن علي عليه‌السلام قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلة الرحم تهوّن الحساب وتقي ميتة السوء ) .

قال المنصور : نعم إيّاه أردت(٢) .

إنّ السلاطين يخافون الموت ، فالإمامعليه‌السلام ركّز على هذه الناحية وربطها بصلة الرحم لتعالج الحقد والكيد الذي يشغل ذهن المنصور ضدّ الإمام والعلويين من أهل بيته ؛ لذا أكّدعليه‌السلام عن طريق الأحاديث بأنّ طول العمر يرتبط بصلة الرحم .

ـــــــــــــــــ

(١) الرعد (١٣) : ٣٩ .

(٢) أمالي ابن الشيخ : ٤٨٠ ح١٠٤٩ وعنه في بحار الأنوار : ٤٧ / ١٦٣ ، والبرهان : ٢ / ٢٩٩ .

١٩٠

الاتّجاه الثاني :

كما تحرّك المنصور بقوّة نحو الإمامعليه‌السلام عن طريق نشر عيونه وجواسيسه التي كانت تراقب حركة الإمام الصادق وترصد نشاطاته لتزوّده بآخر المعلومات ، ليتّخذ منها مسوّغاً للنيل من الإمامعليه‌السلام والتضييق على حركته التي كان يرى فيها المنصور خطراً حقيقياً على سلطانه وبالتالي تمهّد له تلك التقارير أن يصوغ ما يريده من الاتّهامات لأجل أن يتخذها ذريعة في قتله وقد تضمّن هذا الاتّجاه جملة من الأساليب .

الأسلوب الأول : عن رزام بن مسلم مولى خالد القسري قال : بعثني أبو جعفر المنصور إلى المدينة ، وأمرني إذا دخلت المدينة أن أفضّ الكتاب الّذي دفعه إليّ وأعمل بما فيه ; قال : فما شعرت إلاّ بركب قد طلعوا عليَّ حين قربت من المدينة ، وإذا رجل قد صار إلى جانبي ، فقال : يا رزام اتق الله ، ولا تشرك في دم آل محمّد قال : فأنكرت ذلك فقال لي : دعاك صاحبك نصف الليل ، وخاط رقعة في جانب قباك ، وأمرك إذا صرت إلى المدينة ، تفضّها وتعمل بما فيها .

قال : فرميت بنفسي من المحمل ، وقبّلت رجليه ، وقلت : ظننت أنّ ذلك صاحبي وأنت يا سيّدي صاحبي ، فما أصنع ؟ قال : ارجع إليه ، واذهب بين يديه وتعال ، فإنّه رجل نسّاء ، وقد أُنسي ذلك ، فليس يسألك عنه ، قال :

١٩١

فرجعت إليه ، فلم يسألني عن شيء ، فقلت صدق مولاي(١) .

وعن مهاجر بن عمار الخزاعي ، قال : بعثني أبو الدوانيق إلى المدينة ، وبعث معي بمال كثير ، وأمرني أن أتضرّع لأهل هذا البيت ، وأتحفّظ مقالتهم ، قال : فلزمت الزاوية التي ممّا يلي القبلة ، فلم أكن أتنحّى منها في وقت الصلاة ، لا في ليل ولا في نهار .

قال : وأقبلت أطرح إلى السؤال الذين حول القبر الدارهم ومن هو فوقهم الشيء بعد الشيء حتى ناولت شباباً من بني الحسن ومشيخة (منهم) حتى ألفوني وألفتهم في السّر .

قال : وكنت كلّما دنوت من أبي عبد اللهعليه‌السلام يُلاطفني ويكرمني حتى إذا كان يوماً من الأيام ـ بعد ما نلت حاجتي ممّن كنت أريد من بني الحسن وغيرهم ـ دنوت من أبي عبد اللهعليه‌السلام وهو يُصلّي ، فلمّا قضى صلاته ، التفت إليّ وقال :

تعال يا مهاجر ! ـ ولم أكن أتسمّى ( باسمي ) ولا أتكنّى بكنيتي ـ فقال :قل لصاحبك : يقول لك جعفر : ( كان أهل بيتك إلى غير هذا أحوج منهم إلى هذا ، تجيء إلى قوم شباب محتاجين فتدسّ إليهم ، فلعلّ أحدهم يتكلّم بكلمة تستحلُّ بها سفك دمه ، فلو بررتهم ووصلتهم ( وأنلتهم )وأغنيتهم ، كانوا إلى هذا أحوج ممّا تريد منهم ) .

قال : فلمّا أتيت أبا الدوانيق ، قلت له : جئتك من عند ساحر ، كذّاب كاهن كان من أمره كذا وكذا فقال : صدق والله لقد كانوا إلى غير هذا أحوج ، وإيّاك أن يسمع هذا الكلام منك إنسان(٢) .

ـــــــــــــــــ

(١) دلائل الإمامة : ١٢٩ ، ومدينة المعاجز : ٣٦٤ ، وإثبات الهداة : ٥ / ٤٥٦ .

(٢) الخرائج والجرائح : ٢ / ٦٤٦ ، وبحار الأنوار : ٤٧ / ١٧٢ .

١٩٢

الأسلوب الثاني : ومن أساليبه باتّجاه سياسة التضييق التي فرضها على الإمامعليه‌السلام محاولة تسليط الضوء على بعض الشخصيّات ليجعل منها بدائل علميّة تغطّي على الإمام وتؤيّد سياسته ، وتساهم من جانب آخر في تضعيف القدسية والانجذاب الجماهيري نحو الإمام ، وتؤدّي بالنتيجة إلى شق وحدة التيّار الإسلامي الذي يقرّ بزعامة الإمامعليه‌السلام وأعلميّته وإيجاد الفرقة والاختلاف .

وقد نجح المنصور بهذه الخطوة فكسب البعض من طلاّب الإمامعليه‌السلام حين أحاطهم بهالة من الاحترام والتقدير وخلق منهم وجوداً قِبال مذهب الإمام ونهجه الإسلامي الأصيل .

ذكر أبو القاسم البغّار في مسند أبي حنيفة فقال : قال الحسن بن زياد سمعت أبا حنيفة وقد سُئل : مَن أفقه مَن رأيت ؟ قال جعفر بن محمد ، لمّا أقدمه المنصور بعث إليّ ، فقال يا أبا حنيفة ! إنّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيّئ له من مسائلك الشداد .

فهيّأت له أربعين مسألة ، ثم بعث إليَّ أبو جعفر وهو بالحيرة فأتيته .

فدخلت عليه ، وجعفر جالس عن يمينه ، فلمّا بصرت به دخلني من الهيبة لجعفر ما لم يدخل لأبي جعفر ، فسلّمت عليه ، فأومى إليّ فجلست ، ثم التفت إليه ، فقال :

يا أبا عبد الله : هذا أبو حنيفة ، قال : نعم أعرفه ثم التفت إليّ فقال : يا أبا حنيفة ألق على أبي عبد اللهعليه‌السلام من مسائلك .

فجعلت ألقي عليه فيجيبني ، فيقول : ( أنتم تقولون كذا ، وأهل المدينة

١٩٣

يقولون كذا ونحن نقول كذا ) فربّما تابعنا ، وربّما تابعهم ، وربّما خالفنا جميعاً حتى أتيت على الأربعين مسألة ، فما أخلّ منها بشيء ثم قال أبو حنيفة : أليس إنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس؟!(١) .

الأسلوب الثالث : لقد كانت سياسة الإمامعليه‌السلام إزاء حكومة المنصور ذات طابع غير ثوري ، وإنّما سلك الإمام نفس نهجه السابق في التغيير والإصلاح ، وقد أوحى للمنصور في وقت سابق بأنه لم يكن بصدد التخطيط للثورة ضدّه بل صرّح له في أكثر من مرة بذلك ، إلاّ أنّ المنصور لم يطمئن لعدم تحرّك الإمام وثورته التغييرية ؛ وذلك بسبب ما كان يشاهده من كثرة مؤيّديه .

يحدثنا الإمام الصادقعليه‌السلام عن الشكوك والتساؤلات التي أثارها المنصور بوجه الإمام عند لقائه به كما في النصّ التالي :

عن حمران قال : ( قال أبو عبد اللهعليه‌السلام وبعد ذكر هؤلاء عنده وسوء حال الشيعة عندهم فقال : ( إنّي سرت مع أبي جعفر المنصور وهو في موكبه ، وهو على فرس وبين يديه خيل ومن خلفه خيل ، وأنا على حمار إلى جانبه ، فقال لي :

يا أبا عبد الله ! قد كان ينبغي لك أن تفرح بما أعطانا الله من القوّة وفتح لنا من العزّ ، ولا تخبر الناس أنّك أحق بهذا الأمر منّا وأهل بيتك ، فتغرينا بك وبهم .

قال : فقلت : ( ومن رفع هذا إليك عنّي فقد كذب ) فقال : أتحلف على ما تقول ؟

قال : فقلت : ( إنّ الناس سحرة يحبّون أن يفسدوا قلبك عليّ ، فلا تمكنّهم من

ـــــــــــــــــ

(١) سير أعلام النبلاء : ٩ / ٥٤٣ ومناقب آل أبي طالب : ٤/٢٧٧ عن مسند أبي حنيفة لأبي القاسم البغار .

١٩٤

سمعك ، فأنا إليك أحوج منك إلينا ) .

فقال لي : تذكر يوم سألتك هل لنا ملك ؟ فقلت : نعم طويل عريض شديد ، فلا تزالون في مهلة من أمركم وفسحة في دنياكم حتى تصيبوا منّا دماً حراماً في شهر حرام في بلد حرام !

فعرفت أنّه قد حفظ الحديث ، فقلت : لعلّ الله ( عزّ وجّل ) أن يكفيك ، فإني لم أخصك بهذا ، وإنما هو حديث رؤيته ، ثم لعلّ غيرك من أهل بيتك يتولّى ذلك ، فسكت عنيّ(١) .

الاتّجاه الثالث :

واستخدم المنصور مع الإمامعليه‌السلام أيضاً سياسة الاستدعاء والمقابلة المصحوبة بالتهم والافتراءات ، أو الاستدعاءات الفارغة من أيّ سؤال ، محاولاً عن طريق هذه السياسة شلّ حركة الإمام وجعله تحت ضوء رقابة أجهزته ليطمئنّ المنصور من خطر الإمام ، كما استخدم بعض الأساليب التي من شأنها أن تنال من كرامة الإمامعليه‌السلام ، فمن أساليبه بهذا الاتّجاه :

١ ـ ما جاء عن بشير النبّال أنّه قال : كنت على الصفا وأبو عبد اللهعليه‌السلام قائم عليها إذ انحدر وانحدرت معه ، وأقبل أبو الدوانيق على حمارته ، ومعه جنده على خيل وعلى إبل ، فزاحموا أبا عبد اللهعليه‌السلام حتى خفت عليه من خيلهم وأقبلت أقيه بنفسي وأكون بينهم وبينه ، قال : فقلت في نفسي : يا رب عبدك وخير خلقك في أرضك ، وهؤلاء شرّ من الكلاب قد كانوا يفتنونه !

ـــــــــــــــــ

(١) روضة الكافي : ٣١ حديث الصادق مع المنصور في موكبه ، وعنه في بحار الأنوار : ٥٢ / ٢٥٥ ، واثبات الهداة : ٥ / ٣٥١ .

١٩٥

قال : فالتفت إليّ وقال : ( يا بشير ! قلت : لبيك قال : ارفع طرفك لتنظر ) .

قال : فإذا ـ والله ـ واقية من الله أعظم ممّا عسيت أن أصفه .

قال فقال : يا بشير ! إنّا أُعطينا ما ترى ، ولكنّا أُمرنا أن نصبر ، فصبرنا )(١) .

٢ ـ ما جاء عن المفضل بن عمر أنّه قال : إنّ المنصور قد كان هَمّ بقتل أبي عبد اللهعليه‌السلام غير مرّة ، فكان إذا بعث إليه ودعاه ليقتله ، فإذا نظر إليه هابه ولم يقتله ، غير أنّه منع الناس عنه ، ومنعه من القعود للناس ، واستقصى عليه أشدّ الاستقصاء حتى أنّه كان يقع لأحدهم مسألة في دينه ، في نكاح أو طلاق أو غير ذلك فلا يكون علم ذلك عندهم ، ولا يصلون إليه ، فيعتزل الرجل أهله .

فشقّ ذلك على شيعته وصعب عليهم ، حتى ألقى الله عزّ وجلّ في روع المنصور أن يسأل الصادقعليه‌السلام ليتحفه بشيء من عنده ، لا يكون لأحد مثله ، فبعث إليه بمخصرة(٢) كانت للنبيعليه‌السلام طولها ذراع ، ففرح بها فرحاً شديداً ، وأمر أن تشق له أربعة أرباع ، وقسّمها في أربعة مواضع.

ثم قال له : ماجزاؤك عندي إلاّ أن أُطلق لك ، وتفشي علمك لشيعتك ، ولا أتعرّض لك ، ولا لهم ، فاقعد غير مُحتشم ، وافت الناس ، ولا تكن في بلد أنا فيه ، ففشى العلم عن الصادقعليه‌السلام (٣) .

٣ ـ وعن عبد الله بن أبي ليلى ، قال : كنت بالربذة مع المنصور ، وكان قد وجّه إلى أبي عبد اللهعليه‌السلام فأُتي به ، وبعث إليّ المنصور فدعاني ، فلمّا انتهيت إلى الباب سمعته يقول : عجلّوا عليّ به قتلني الله إن لم أقتله ، سقى الله الأرض

ـــــــــــــــــ

(١) الأصول الستة عشر : ١٠٠ ، وإثبات الهداة : ٥ / ٤٦٥ .

(٢) المخصرة : شيء كالسوط ما يتوكّأ عليه كالعصا .

(٣) المناقب لابن شهر آشوب : ٤/٢٥٩ وعنه في بحار الأنوار : ٤٧ / ١٨٠ .

١٩٦

من دمي إن لم أسق الأرض من دمه .

فسألت الحاجب من يعني ؟ قال : جعفر بن محمدعليه‌السلام فإذا هو قد أُتي به مع عدّة جلاوزة(١) ، فلمّا انتهى إلى باب ـ قبل أن يرفع الستر ـ رأيته قد تململت شفتاه عند رفع الستر ، فدخل .

فلمّا نظر إليه المنصور قال : مرحباً يا بن عمّ ، مرحباً يا بن رسول الله فما زال يرفعه حتى أجلسه على وسادته ، ثم دعا بالطعام ، فرفعت رأسي ، وأقبلت أنظر إليه ، وجعل يلقمه جيّداً بارداً ، وقضى حوائجه ، وأمره بالانصراف .

فلمّا خرج ، قلت له : قد عرفت موالاتي لك ، وما قد ابتليت به في دخولي عليهم ، وقد سمعت كلام الرجل وما كان يقول ، فلمّا صرت إلى الباب رأيتك قد تململت شفتاك ، وما أشك أنّه شيء قلته ، ورأيت ما صنع بك ، فإن رأيت أن تعلّمني ذلك ، فأقوله إذا دخلت عليه .

قال : نعم ، قلت :( ما شاء الله ، ما شاء الله ، لا يأتي بالخير إلاّ الله ، ما شاء الله ، ما شاء الله ، لا يصرف السوء إلاّ الله ) (٢) .

تحرّك العلويين نحو الثورة

بعد أن تأكّد المنصور عن طريق المعلومات التي كانت تصله من جواسيسه بأنّ السادة الحسنيين يخطّطون للثورة عليه ، انتظر المنصور موسم الحجّ فلمّا حان الموسم سافر هو وحاشيته إلى بيت الله الحرام ، وبعد انتهائه من

ـــــــــــــــــ

(١) الجلاوزة : جمع الجلواز معرّب من الفارسية : گلوبازاى المفتوح الجيب كناية عن الشرطيّ المستعد لتنفيذ الأوامر .

(٢) كشف الغمّة : ٢/٤٠٧ عن الدلائل للحميري ، وعنه في بحار الأنوار : ٤٧ / ١٨٣ .

١٩٧

مناسك الحجّ رجع إلى يثرب وقد صحب معه عقبة بن مسلم الجاسوس الذي عيّنه المنصور لمراقبة تحرّك آل الحسن وكان قد أوصاه قبل سفره فقال له :إذا لقيني بنو الحسن وفيهم عبد الله فأنا مكرمه ورافع محمله وداع بالغذاء فإذا فرغنا من طعامنا فلحظتك فامتثل بين يديه فإنه سيصرف عنك بصره ، فاستدر حتى ترمز ظهره بإبهام رجلك حتى يملأ عينه منك .

ولمّا انتهى المنصور إلى يثرب استقبله السادة الحسنيّون وفيهم عبد الله ابن الحسن ، فأجلسه المنصور إلى جانبه ودعا بالغذاء فأصابوا منه فقام عقبة ، ونفّذ ما عهد إليه المنصور ، وجلس أمامه ففزع منه عبد الله وقال للمنصور : أقلني أقالك الله ...

فصاح به : لا أقالني الله إن أقلتك(١) .

وأمر أن يكبّل بالحديد ويزجّ في السجن فكبّل مع جماعة من العلويين وحُبس في بيت مروان .

وأرادوا من عبد الله أن يخبر بمكان ولديه : محمد ذي النفس الزكيّة وأخيه إبراهيم وإن لم يخبر بمكانهما فسوف يتعرّض للانتقام والقتل .

وقد عبّر عبد الله عن عمق هذه المأساة للحسن بن زيد قائلاً : يا بن أخي ، والله لبليّتي أعظم من بليّة إبراهيمعليه‌السلام ; إن الله عزّ وجلّ أمر إبراهيم أن يذبّح ابنه ، وهو لله طاعة ، فقال إبراهيم :( إنّ هذا لهو البلاء المبين ) (٢) وإنّكم جئتموني في أن آتي بابني هذا الرجل فيقتلهما وهو لله جّل وعزّ معصية(٣) .

ـــــــــــــــــ

(١) الكامل في التاريخ : ٤/٣٧١ .

(٢) الصافات (٣٧) : ١٠٦ .

(٣) مقاتل الطالبيين : ١٩١ ـ ١٩٤ تحقيق السيد أحمد صقر .

١٩٨

وبقي السادة الحسنيّون في السجن لمدّة ثلاث سنين ، وفي سنة ( ١٤٢ هـ ) سافر المنصور مرّة أخرى إلى الحجّ لغرض تدارك الوضع في المدينة والوقوف أمام التصعيد الثوري هناك ، وبعد أن أنهى مناسكه اتّجه نحو الربذة التي تبعد ثلاثة أميال عن المدينة وبعد وصوله إليها أمر بإشخاص السادة الحسنيين ومَن معهم من العلويين إليه ، وقد تكفّل عقبة بن مسلم بعملية إخراجهم من السجن والسير بهم نحو الربذة .

وبعد إخراجهم من السجن وضع الحديد في أيديهم وجيء بهم إلى مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث ازدحم الناس عليهم وهم بين باكٍ ومتأسّف والشرطة تشتمهم وقد طلبت من الناس أن يشتموهم .

لكنّ الذي حدث كان على العكس من ذلك إذ أخذ الناس يسبّون عقبة بن مسلم والمنصور ويترحّمون على العلويين(١) .

موقف الإمامعليه‌السلام من آل الحسن

وكتب الإمام الصادقعليه‌السلام إلى عبد الله بن الحسن رسالة يعزّيه فيها ويُصبّرهُ على المصاب الذي جرى عليه وعلى أصحابه .

عن إسحاق بن عمّار الصيرفي أنّه قال : إنّ أبا عبد الله جعفر بن محمدعليه‌السلام كتب إلى عبد الله بن الحسن حين حمل هو وأهل بيته ، يعزّيه عمّا صار إليه :( بسم الله الرحمن الرحيم ، إلى الخلف الصالح ، والذريّة الطيّبة من ولد أخيه وابن عمّه : أمّا بعد : فلئن كنت قد تفرّدت أنت وأهل بيتك ـ ممّن حُمل معك ـ بما أصابكم ، ما انفردت ـ بالحزن والغيظ والكآبة ، وأليم وجع القلب ـ دوني ولقد نالني من ذلك من

ـــــــــــــــــ

(١) مقاتل الطالبيين : ٢١٩ ـ ٢٢٠ .

١٩٩

الجزع والقلق ، وحرّ المصيبة مثل ما نالك ولكن رجعت الى ما أمر الله ـ جلّ جلاله ـ به المتقين من الصبر ، وحُسن العزاء ، حين يقول لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( واصبر لحكم ربك فإنّك بأعيننا ) (١) . وحين يقول : ( فاصبر لحكم ربّك ولا تكن كصاحب الحوت ) (٢) إلى أن قال :( واعلم أي عمّ وابن عمّ إن الله ـ جلّ جلاله ـ لم يُبال بضرّ الدنيا لوليه ساعة قط ولا شيء أحبّ إليه من الضرر والجهد والأذى مع الصبر وإنّه تعالى لم يُبال بنعم الدنيا لعدوّه ساعة قط ولولا ذلك ما كان أعداؤه يقتلون أولياءه ويخوّفونهم ويمنعونهم وأعداؤه آمنون مطمئنّون عالون ظاهرون ، ولولا ذلك لما قتل زكريا واحتجب يحيى ظلماً وعدواناً في بغيّ من البغايا ، ولولا ذلك لما قتل جدّك علي بن أبي طالب عليه‌السلام لمّا قام بأمر الله ـ جلّ وعزّ ـ ظلماً ، وعمّك الحسين بن فاطمة اضطهاداً وعدواناً ) (٣) .

واعترف المنصور بسياسته الغاشمة ضدّ العلويين القائمة على القتل والإبادة لذريّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : قتلت من ذرّية فاطمة ألفاً أو يزيدون وتركت سيّدهم ومولاهم جعفر بن محمد(٤) .

ثورة محمد بن عبد الله ( ذي النفس الزكيّة )

إنّ محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي الملقّب بذي النفس الزكيّة قد رشّح باتّفاق الهاشميين للخلافة ، وكان المنصور يسير بخدمته ويسوّي عليه ثيابه ويمسك له دابته تقرّباً إليه ، وقد بايعه مع أخيه السفّاح مرّتين وبعد اختلاس العبّاسيين للحكم واستبدادهم وشياع ظلمهم تألّم محمد

ـــــــــــــــــ

(١) الطور (٥٢) : ٤٨ .

(٢) القلم (٦٨) : ٤٨ .

(٣) إقبال الأعمال : ٥٧٨ ، وبحار الأنوار : ٤٧ / ٢٩٨ .

(٤) الأدب في ظل التشيّع لعبد الله نعمة : ٦٣ ، نقلاً عن شرح القصيدة الشافية لأبي فراس : ١٦١ .

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241