اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)0%

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 241

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 241
المشاهدات: 105295
تحميل: 7758

توضيحات:

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 241 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 105295 / تحميل: 7758
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

تعاظماً فطوّقه الله تعالى بحيّة لها سبعون ألف جناح ، في كل جناح سبعون ألف ريشة ، في كل ريشة سبعون ألف وجه ، في كل وجه سبعون ألف فم ، في كل فم سبعون ألف لسان يخرج من أفواهها كل يوم من التسبيح عدد قطر المطر ، لا عدد ورق الشجر ، وعدد الحصى والثرى ، وعدد أيام الدنيا وعدد الملائكة أجمعين ، والتوت الحيّة على العرش ، فالعرش إلى نصف الحيّة وهي ملتوية عليه فتواضع عند ذلك(١) .

وقال معاوية لكعب أنت تقول : إنّ ذا القرنين كان يربط خيله بالثريّا ؟ فقال له كعب : إن كنت قلت ذلك فإنّ الله قال :( وآتيناه من كل شيء سبباً ) (٢) .

هذا هو التراث الحديثي والتفسيري والتأريخي المخلوط بالإسرائيليات وافتراءات الوضّاعين خدمة للحكّام وقد دوّن هذا التراث بعد قرن من وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد رفع الحظر عمر بن عبد العزيز واعتمدت مدرسة الحديث اعتماداً مطلقاً على ما روي بدون تحكيم العقل حتى قالوا : إنّ السنة تنسخ القرآن والقرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن ، أمّا مَنْ يقول بأنّا نعرض الأحاديث على القرآن فهذا من أقوال الزنادقة كما يزعمون !(٣) .

ومن هنا نقف على بعض أسباب نشوء الانحرافات الفكرية وانتشارها بسرعة في المجتمع الإسلامي مثل الجبر والزندقة والغلو ، ونشير إلى كل منها تباعاً .

ب ـ التحريف في مجال الحديث النبوي الشريف :

١ ـ جاء في صحيح الترمذي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لمعاوية : اللّهمّ

ـــــــــــــــــ

(١) الجامع لأحكام القرآن : ١٥ / ٢٨٢ .

(٢) تفسير القرآن العظيم لابن كثير : ٣ / ١٠٦ .

(٣) بحوث في الملل والنحل ، جعفر السبحاني : ١/١٢٩ .

٨١

اجعله هادياً مهدياً وأهد به(١) .

٢ ـ وعن عمير بن سعيد قال : لا تذكروا معاوية إلاّ بخير فإنّي سمعت رسول الله يقول : اللّهم أهد به ؟(٢) .

٣ ـ وروى أحمد وأبو داود والبغوي والطبراني وغيرهم أن النبيّ قال : ( عليكم بالشام فإنّها خيرة الله من أرضه ، يجتبي إليها خيرته من عباده ، إنّ الله قد توكل بالشام وأهله )(٣) .

٤ ـ وعن كعب الأحبار : أنّ النبيّ قال : أهل الشام سيف من سيوف الله ينتقم الله بهم ممّن عصاه(٤) .

٥ ـ روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : ( وصاحب سرّي معاوية بن أبي سفيان )(٥) .

٦ ـ وقيل إنّ ابن أبي العوجاء ( وهو أحد الزنادقة ) لمّا أُخذ لتضرب عنقه قال : وضعت فيكم أربعة آلاف حديث ، أُحرّم فيها الحلال وأحلّ الحرام(٦) .

ج ـ التحريف في المجال التاريخي

حاولت مجموعة من الروايات الموضوعة أن ترسم لنا شخصية الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصورة هزيلة ومتناقضة في سلوكها ، منها :

ـــــــــــــــــ

(١) صحيح الترمذي : ٥ / ٦٨٧ ، باب مناقب معاوية .

(٢) كنز العمّال : ١٤ / ١٤٩ .

(٣) المصدر السابق .

(٤) أضواء على السنّة المحمّدية : ١٢٩ .

(٥) تطهير الجنان واللسان : ١٧ .

(٦) الموضوعات لابن الجوزي ، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان : ١/٣٧ .

٨٢

١ ـ أنّ النبيّ كان يستمع إلى الجواري يغنّين ويضربن الدفوف .

٢ ـ أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحمل زوجته عائشة على عاتقه لتنظر إلى لعب السودان وخدّه على خدّها .

٣ ـ أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عشق زوجة ابنه بالتبنيّ بعد أن رآها بصورة مثيرة !(١) .

الاتجاهات الفكرية المنحرفة

١ ـ الجبر : عندما دعت الحاجة لصياغة علم الكلام والفقه والتفسير رجع المنظّرون لهذه الأفكار إلى التراث الحديثي الذي قد يبدو منه الجبر من قِبل الله للعباد فاستخدموه لخدمة الأمويين تثبيتاً لدعائم سلطانهم فروّجوا عقيدة أنّ الجبر التي تعني نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الربّ تعالى ، فكل ما يصدر من العبد من خير أو شر ينسب إلى الله سبحانه ، ويقولون إنّه ليس لنا صُنع ، أي لسنا مخيّرين بل نسير بإرادة الله ومشيئته فإذا شاء الله أن نصلّي صلّينا وإذا شاء أن نشرب الخمر شربناها واستدلوا على ذلك بآيات قرآنية منها قوله تعالى :( وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله ) (٢) وقوله تعالى :( فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ) (٣) ومن الواضح أنّ المعتنق لهذه العقيدة يسمح لنفسه بارتكاب كل جريمة ومعصية من ترك الواجبات وانتهاك المحرّمات مثل شرب الخمر وارتكاب الزنا والسرقة

ـــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري : ١ / ١٦٩ ، وصحيح مسلم باب صلاة العيدين : ٢ / ٦٠٧ ، ومسند أحمد : ٦ / ٣٨ .

(٢) الإنسان : ٧٦ / ٣٠ .

(٣) الأنعام : ٦ / ١٢٥ .

٨٣

والقتل ثم يقول شاء الله أن أسرق فسرقت ، وشاء الله أن أزني فزنيت ؛ وبهذا لا يكون للإنسان كسب ولا إرادة ولا اختيار ولا تصرّف فيما وهبه الله من نعمة العقل ، فكيف يكون له مطمع في ثواب أو خوف من عقاب(١) .

٢ ـ الزندقة : ومن الأفكار التي ظهرت في عصر الإمام الصادقعليه‌السلام فكرة الإلحاد والزندقة ، ولا يستغرب أحد من نشوء هذه الفكرة المنحرفة في العالم الإسلامي وهو عالم التوحيد الخالص وإبّان قوته وفي وقت تتطلع سائر الأمم للرسالة الإسلامية الخاتمة .

إنّ الظلم والفساد الذي أشاعه الأمويون في كل ميادين الحياة كان هو السبب في ظهور هذه الأفكار المناقضة للفكر الإسلامي .

عن حماد بن عثمان قال : سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول : تظهر الزنادقة سنة ثمانية وعشرين ومئة لأنّي نظرت في مصحف فاطمةعليها‌السلام (٢) .

كان السؤال والمناقشة للفكر الذي يتبنّاهُ الحكام ذنباً لا يغتفر وعلى الإنسان أن يسمع ولا يفكر أمّا الخلافة الإسلامية فتبلورت في طواغيت بني أمية وفراعنة بني العباس هذا الفساد الذي عمّ ميادين الفكر والسلوك شجّع ظهور الفكر الإلحادي كرفض للواقع الفاسد .

ومن هنا نشاهد ابن أبي العوجاء يعقد حلقاته الفكرية لغرض التشكيك في التوحيد وفي مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث كان ينكر أصل الوجود ويقول : إنّ الوجود بدأ بإهمال وكان الجعد بن درهم ممعناً في الكفر ومبتدعاً ومتفانياً

ـــــــــــــــــ

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ٢ / ١٢٢ .

(٢) بصائر الدرجات : ١٧٢ ، وبحار الأنوار : ٢٦ / ١٢٣ وإثبات الهداة : ٥ / ١٧٥ .

٨٤

في الزندقة وكان يعلن الإلحاد(١) ومن بدعه أنّه جعل في قارورة تُراباً وماءً فاستحال دوداً وهواماً فقال لأصحابه : إنّي خلقت ذلك لأنّي كنت سبب كونه وبلغ ذلك الإمام الصادقعليه‌السلام فردّه بأبلغ البرهان قائلاً :( إن كان خلقه فليقل كم هو ؟ وكم الذكران منه والإناث ؟ وكم وزن كل واحدة منهنّ ؟ وليأمر الذي يسعى إلى هذا الوجه أن يرجع إلى غيره ) (٢) .

٣ ـ الاعتزال : لقد تطرّف الخوارج والمرجئة في حكم مرتكب الكبيرة ، بعد تعارض التراث الحديثي والتفسيري مع العقل ، ثم عجزت الثقافة التي جمدت على ظواهر الحديث والقرآن من الإجابة على الأسئلة التي فرضتها حالة الانفتاح على الحضارات الأخرى ومن هنا تبلورت أفكار المعتزلة تلبية لحاجة التطوّر المدني في البلاد الإسلامية وكثرة الاستفهامات التي كانت تثيرها الحركات الإلحادية فظهرت في هذا العصر فكرة الاعتزال التي رفضت الاعتماد على الحديث بشكل مطلق وهاجمت أهل الحديث لتعطيلهم العقل ، وتكفيرهم كل مَن يبحث ويناقش .

الخط السياسي للاعتزال : كان الاعتزال مسانداً للحكم القائم في تلك العصور ، وقد خدم سياسة الحكّام عندما أخذ يهاجم المقدسات في ضمير الأمة وتفكيرها ؛ وذلك حين أقرّ المعتزلة بأنّ الإمامة والخلافة تتمّ للمفضول ويجوز تقديمه على الفاضل ، وبهذا استدلّوا على شرعيّة خلافة الأمويين والعباسيين .

قال أحمد أمين : إنّ جرأة المعتزلة في نقد الرجال هو بمثابة تأييد قوي

ـــــــــــــــــ

(١) ميزان الاعتدال : ١ / ٣٩٩ ، لسان الميزان : ٢ / ١٠٥ .

(٢) أمالي المرتضى : ١ / ٢٨٤ .

٨٥

للأمويين ؛ لأنّ نقد الخصوم ووضعهم موضع التحليل وتحكّم العقل في الحكم عليهم أو لهم يزيل على الأقل فكرة تقديس عليعليه‌السلام التي كانت شائعة عند جماهير الناس(١) .

ولذا نالوا التأييد المطلق والدعم الشامل من قِبل الأمويين وبعد انهيار الحكم الأموي انضمّوا إلى الحكم العباسي فكانوا من أجهزته وأعوانه ، وكان المنصور يُكبر عَمْرو بن عبيد أحد كبار المعتزلة(٢) .

أمّا علاقتهم مع الشيعة فكانت في غاية من الخصومة وترى الشيعة أنّ الاعتزال فكر طارئ على الإسلام ؛ لأنّ تقديم المفضول على الفاضل معناه الخروج عن منطق الحق وإماتة المواهب والقدرات فضلاً عن أنّ هذا الاتجاه يُعارض القرآن الكريم الذي يقول :( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) (٣) .

إنّ الكوارث التي عانتها الأمة على مدى تأريخها بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعود إلى تقديم المفضول على الفاضل ، ولولا ذلك لسار الفاضل بالأمة سيراً سجُحاً ولأوردهم منهلاً رويّاً تطفح ضفتاه كما تنبّأت بذلك بضعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة الزهراءعليها‌السلام في خطابها المبكّر بعد تسنّم أبي بكر الخلافة والتربّع على منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعزل علي بن أبي طالبعليه‌السلام عن هذا الموقع الريادي الذي عيّنه فيه رسول الإسلام .

٤ ـ حركة الغلاة : تعتبر حركة الغلاة في نظر المؤرّخين من أخطر الحركات هدماً

ـــــــــــــــــ

(١) فجر الإسلام : ٢٩٥ .

(٢) تاريخ بغداد : ٤ / ١٤٨ ـ ١٥٠ .

(٣) الزمر : ٣٩ / ٩ .

٨٦

وضرراً للمجتمع الإسلامي آنذاك ؛ لأنّها حركة سياسية عقائدية قد استهدفت ضرب الإسلام من الداخل ، كما أنّ دراسة هذهِ الحركة من قِبل المؤرّخين لا زالت غامضة حتى اليوم ; إذ لم تدوّن أفكار هذهِ الحركة بأقلام دعاتها .

وحركة الغلاة لم تدم طويلاً ؛ لأنّها ظهرت على المسرح السياسي ثم اختفت بسرعة وقد حاصرها الإمام الصادقعليه‌السلام حيث أدرك خطورتها فأعلن البراءة منها ومن مبادئها ولعن دعاتها كأبي الخطاب وحذّر الناس من أهدافها الخبيثة .

لقد نشطت هذه الحركة في أواخر الحكم الأموي فبثّ أبو الخطاب أفكاره بسريّة في مدينة الكوفة في الوقت الذي كانت تموج بها التيارات السياسية ، والدعوة العباسية ناشطة في شق طريقها إلى النجاح وكان اختيار أبي الخطاب للكوفة لعلمه بأنّها قاعدة لتجمع الموالين لأهل البيتعليهم‌السلام ؛ وبهذا يمكن تشويه هذه القاعدة الواعية وضرب أتباع أهل البيت عن هذا الطريق .

قال أبو عباس البغوي : دخلنا على فثيون النصراني وكان في دار الروم بالجانب الغربي ، فجرى الحديث إلى أن سألته عن ابن كلاب فقال فثيون : رحم الله عبد الله ( ابن كلاب ) كان يجيئني فيجلس إلى تلك الزاوية ـ وأشار إلى ناحية من البيعة وهي الكنيسة ـ وعني أخذ هذا القول ، ولو عاش لنصّرنا المسلمين(١) ـ أي لجعلناهم نصارى .

إنّ ظهور الروحاني بالجسد الجسماني أمرٌ لا ينكره عاقل : أمّا في جانب الخير ، فكظهور جبرئيلعليه‌السلام ببعض الأشخاص ، والتصوير بصورة أعرابي ، والتمثّل بصورة البشر .

ـــــــــــــــــ

(١) الفهرست لابن النديم : ٢٥٥ ـ ٢٥٦ .

٨٧

وأمّا في جانب الشر ، فكظهور الشيطان بصورة إنسان ، حتى يعمل الشر بصورته وظهور الجن بصورة بشر حتى يتكلّم بلسانه فكذلك يقال : إنّ الله تعالى ظهر بصورة أشخاص ولمّا لم يكن بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شخص أفضل من علي (رضي الله عنه) وبعده أولاده المخصوصون وهم خير البرية فظهر الحق بصورتهم ونطق بلسانهم وأخذ بأيديهم فعن هذا أطلقوا اسم الإلهية عليهم !! وإنّما أثبتوا هذا الاختصاص ( لعلي ) (رضي الله عنه) دون غيره لأنّه كان مخصوصاً بتأييد إلهي من عند الله تعالى فيما يتعلّق بباطن الأسرار(١) .

ثم زعم أبو الخطاب أنّ الأئمة أنبياء ثم آلهة ! وقال بإلهية جعفر بن محمد ! وإلهية آبائه (رضي الله عنهم) وهم أبناء الله وأحباؤه ! والإلهية نور في النبوّة والنبوّة نور في الإمامة ، ولا يخلو العالم من هذه الآثار والأنوار وزعم أنّ جعفراً هو الإله في زمانه !! وليس هو المحسوس الذي يرونه ! ولكن لما نزل إلى هذا العالم لبس تلك الصورة فرآه الناس فيه(٢) !

هذه هي أهم الاتجاهات الفكرية المنحرفة التي كانت قد راجت في عصر الإمام الصادقعليه‌السلام ، وسوف نتابع مواقف الإمامعليه‌السلام منها وأساليبه في كيفية التعامل معها بغية معالجة هذا الداء الذي أخذ يستشري في المجتمع الإسلامي آنذاك .

ـــــــــــــــــ

(١) الملل والنحل للشهرستاني : ١/١٦٨ .

(٢) الملل والنحل للشهرستاني : ١/١٥٩ .

٨٨

الفصل الثاني : متطلّبات عصر الإمام الصادقعليه‌السلام

بعد الوقوف على مظاهر الفساد والانحراف التي عمّت ميادين الحياة في عصر الإمام الصادقعليه‌السلام نستطيع أن ندرك عمق المأساة التي كان الإمامعليه‌السلام قد واكبها منذُ نشأته حتى هذا التاريخ .

وفي هذا الظرف الذي خفّت فيه المراقبة بسبب ضعف الدولة الأموية ، ووجد الإمامعليه‌السلام أنّ جانباً كبيراً من الإسلام قد أُقصي عن واقع الحياة ، وأنّ قيم الجاهلية قد عادت تظهر للوجود ، وأنّ الصيغ الغريبة عن الدين أخذت تدخل في فهم القرآن والسنّة الشريفة وتسبّبت في تغيير مضمون الرسالة وجوهرها ، لاحظ أنّ الأمر أخذ يزداد تفاقماً في أواخر العهد الأموي الذي نمت فيه مدارس فكرية وتيارات سياسية بعيدة عن الإسلام ، وكان يرىعليه‌السلام أنّ الأكثرية الساحقة من الأمة قد ركنت إلى الطمع بسبب ما شاهدته من صور الظلم والتعسّف الذي قد ارتكب بحق كل مَن كان يعترض على سياسة الحكّام المنحرفين عن الدين كل هذه الأمور قد لاحظها الإمامعليه‌السلام بدقّة وبدأ يعالجها بكل أناة لنقرأ معاً حوار سدير الصيرفي مع الإمامعليه‌السلام :

قال سدير الصيرفي : دخلت على أبي عبد اللهعليه‌السلام فقلت له : والله

٨٩

ما يسعك القعود فقال :ولِم يا سدير ؟ قلت : لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك ، والله لو كان لأمير المؤمنينعليه‌السلام ما لك من الشيعة والأنصار والموالي ما طمع فيه تيم ولا عديّ .

فقال :يا سدير وكم عسى أن يكونوا ؟ قلت : مائة ألف قال :مائة ألف ! قلت : نعم ، ومائتي ألف ؟ فقال :ومائتي ألف ؟ قلت : نعم ، ونصف الدنيا قال : فسكت عنّي ثم قال :يخفّ عليك أن تبلغ معنا إلى ينبع (١) ؟ قلت : نعم فأمر بحمار وبغل أن يسرجا ، فبادرت ، فركبت الحمار فقال :يا سدير ، أترى ، انزل بنا نصلّي ، ثم قال :هذه أرض سبخة لا تجوز الصلاة فيها فسرنا حتى صرنا إلى أرض حمراء ، ونظر إلى غلام يرعى جداء(٢) .

فقالوالله يا سدير لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود ونزلنا وصلّينا فلمّا فرغنا من الصلاة عطفت على الجداء ، فعددتها فاذا هي سبعة عشر ! )(٣) .

فالإمامعليه‌السلام إزاء هذا الواقع المملوء بالفساد والضياع قد وجد أنّ الأمر أحوج ما يكون إلى إيجاد تيّار إسلامي أصيل يحمل قيم الرسالة التي جاء بها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولابدّ أيضاً أن يتم عزل الأمة عن الحكومات الظالمة لئلاّ تكون مرتعاً لمظالمها ، فعن طريق غرس القيم الإسلامية وإيجاد تيّار فاعل يساهم في اجتثاث المظالم أو تقليلها يمكن التحرّك لإصلاح الواقع الفاسد حيث إنّه قد يرغم الولاة على العدل استجابة لإرادة قطّاع كبير من

ـــــــــــــــــ

(١) يَنبع حصن له عيون ونخيل وزروع بطريق حاج مصر .

(٢) الجدي : من أولاد المعز .

(٣) الكافي : ٢ / ٢٤٢ ، وبحار الأنوار : ٤٧/٣٧٢ .

٩٠

الأمة حينما يرفض هذا القطاع الكبير الاستبداد ويدعو إلى العدل بوعي إسلامي عميق .

لقد تخلّى الإمام الصادقعليه‌السلام عن ممارسة العمل المسلح ضد الحكّام المنحرفين بشكل مباشر ، وكان موقفه هذا تعبيراً واقعياً عن اختلاف صيغ العمل السياسي التي تحدّدها الظروف الموضوعية وإدراكاً عميقاً لطبيعة العمل التغييري .

فالإمامعليه‌السلام حاول أن ينشر قيمه ومفاهيمه دعوته بعيداً عن التصريحات السياسية الثورية ، واتّجه نحو بناء تيّار شعبي عامّ في الأمة كما ركّز على بناء الجماعة الصالحة الممثّلة لخط أهل البيتعليهم‌السلام والإشراف عليها وتنظيم أساليب عملها في مواجهة الانحراف المستشري بحيث يجعلها كتلة مترابطة في العمل والتغيير وإعداد أرضية صالحة تؤدّي إلى قلب الواقع الفاسد على المدى القريب أو البعيد .

وقد استهدف الإمامعليه‌السلام في نشاطه الرسالي لونين من الانحراف :

اللون الأول : الانحراف السياسي المتمثّل في زعامة الدولة ، واللون الثاني : الانحراف العقائدي والفكري والأخلاقي ، ثم الانحراف السياسي عند الأمة .

كما اتّجه الإمامعليه‌السلام في حركته التغييرية الشاملة إلى حقلين مهمّين :

أحدهما : الانفتاح العام والشامل على طوائف الأمة واتجاهاتها السياسية والفكرية .

ثانيهما : مواصلة بناء جامعة أهل ألبيتعليهم‌السلام العلمية .

وكلا الحقلين يعتبران من حقول النشاط العام ، وسوف نبحثه في هذا

٩١

الفصل من هذا الباب .

وأمّا حقل النشاط الخاص بمحاوره المتعدّدة فيتلخّص في إكمال بناء الجماعة الصالحة وهذا ما سوف نبحثه في الفصل الثالث من هذا الباب .

الانفتاح على الاتجاهات الفكرية والسياسية

ويقع البحث في هذا الحقل ضمن عدّة محاور :

١ ـ المحور العقائدي السياسي :

وفي هذا المحور ركّز الإمام على عدّة نشاطات :

النشاط الأوّل : التثقيف على عدم شرعيّة الحكومات الجائرة ورتّب على ذلك تحريم الرجوع إليها لحل النزاع والخصومات كما ورد عنه :( إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه ) (١) .

وقال أيضاً :( أيّما مؤمن قدّم مؤمناً في خصومة إلى قاضٍ أو سلطان جائر فقضى عليه بغير حكم الله فقد شركه في الإثم ) (٢) .

وعن أبي بصير عنهعليه‌السلام قال :( أيّما رجل كان بينه وبين أخ له ممارات في حق فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه فأبى إلاّ أن يرافعه إلى هؤلاء ، كان بمنزلة الذين قال الله عزّ وجل : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ

ـــــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٤ .

(٢) المصدر السابق : ١٨ / ٢ .

٩٢

قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) ) (١) .

وعن عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد الله عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاء أيحل ذلك ؟ فقال :مَن تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنّما تحاكم إلى طاغوت وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً وإن كان حقه ثابتاً ؛ لأنّه أخذه بحكم الطاغوت ، وقد أمر الله أن يكفر به قال الله تعالى : ( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) (٢) .

وفي توجيه آخر حرّم أيضاً التعاون مع الأنظمة الجائرة فمن توصياته بهذا الخصوص ، قولهعليه‌السلام :( إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يحكم الله بين العباد ) (٣) .

وقالعليه‌السلام :لا تُعِنْهم ـ أي حكام الجور ـعلى بناء مسجد (٤) .

وقالعليه‌السلام لبعض أصحابه :( يا عذافر نُبّئت أنّك تعامل أبا أيوب والربيع فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة ؟ ! ) (٥) .

وعن علي بن حمزة ، قال كان لي صديق من كتّاب بني أمية فقال لي : استأذن لي على أبي عبد اللهعليه‌السلام فاستأذنت له ، فلمّا دخل سلّم وجلس ، ثم قال : جعلت فداك إنّي كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً ، وأغمضت في مطالبه .

فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام لو أنّ بني أمية لم يجدوا مَن يكتب لهم ، ويجبي لهم

ـــــــــــــــــ

(١) النساء : ٤ / ٦٠ .

(٢) النساء : ٤/٦٠ ، وسائل الشيعة : ٢٧/١٣ .

(٣) وسائل الشيعة : ١٧/١٧٩ ح ٦ .

(٤) المصدر السابق : ١٧/١٨٠ .

(٥) المصدر السابق : ١٧/١٧٨ .

٩٣

الفيء (١) ويقاتل عنهم ، ويشهد جماعتهم ، لما سلبونا حقّنا ، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ، ما وجدوا شيئاً إلاّ وقع في أيديهم . فقال الفتى : جعلت فداك فهل لي من مخرج منه ؟

قال :إن قلت لك تفعل ؟ قال : أفعل ، قال :اخرج من جميع ما كسبت في دواوينهم ، فمَن عرفت منهم رددت عليه ماله ، ومَن لم تعرف تصدّقت به (٢) .

النشاط الثاني : مارس فيه التثقيف على الصيغة السياسية السليمة من خلال تبيان موقع الولاية المغصوب واستخدم الخطاب القرآني في هذا المجال الذي حاولت فيه المدارس الفكرية الأخرى تجميد النص بحدود الظاهر فقد علّقعليه‌السلام على قوله تعالى :( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (٣) .

إنّ الله عزّ وجلّ اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبيّاً ، وأنّ الله اتّخذه نبيّاً قبل أن يتّخذه رسولاً وان الله اتّخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً ، وأنّ الله اتخذه خليلاً قبل أن يتخذه إماماً ، فلمّا جمع له الأشياء قال :( إنّي جاعلك للناس إماماً ) .

قالعليه‌السلام :( فَمن عِظَمِها ـ أي الإمامة ـفي عين إبراهيم عليه‌السلام قال : ومن ذرّيتي ؟ قال : لا ينال عهدي الظالمين ، قال : لا يكون السفيه إمام التقي ) (٤) .

كما فسّرعليه‌السلام قوله تعالى :( صبغة الله ومَن أحسن من الله صبغة ونحن

ـــــــــــــــــ

(١) الفيء : الخراج .

(٢) المناقب لابن شهر اشوب : ٣/٣٦٥ ، بحار الأنوار : ٤٧/١٣٨ ، والكافي : ٥/١٠٦ .

(٣)البقرة : ٢ / ١٢٤ .

(٤) الميزان : ١/٢٧٦ .

٩٤

له عابدون ) (١) بأنّ الصبغة هي الإسلام(٢) وفي قول آخر عنهعليه‌السلام بأنّ الصبغة هي صبغ المؤمنين بالولاية ، يعني الولاية لإمام الحق أمير المؤمنينعليه‌السلام في الميثاق(٣) .

وعلّق العلاّمة الطباطبائي على ذلك بقوله : وهو من باطن الآية(٤) .

كما نجدهعليه‌السلام يتحدث عن الإمام أمير المؤمنين ويذكّر الناس بحديث الغدير ، ذلك الحدث السياسي الخطير في حياه الأمة ، ويذكّرهم به لئلاّ يتعرّض هذا الحدث للنسيان والإلغاء قال في حق عليعليه‌السلام ( المدعو له بالولاية المثبت له الإمامة يوم غديم خم ، بقول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ألست أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا : بلى قال :فمَن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه ، وعاد مَن عاداه ، وانصر مَن نصره ، واخذل مَن خذله ، وأعن مَن أعانه (٥) .

وعندما التقى وفد من المعتزلة في مستوى رفيع ضمّ أعلامهم ورؤوسهم فكان من بينهم : عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وحفص بن سالم ، وذلك بعد قتل الوليد واختلاف أهل الشام ، وقد أجمع رأي المعتزلة على محمد بن الحسن للخلافة الإسلامية ، وبعد أن اسندوا أمرهم في الرأي إلى زعيمهم الروحي عمرو بن عبيد ودار حوار طويل بينه وبين الإمام خاطبه الإمام قائلاً :يا عمرو لو أنّ الأمة قلّدتك أمرها فملكته بغير قتال ، ولا مؤنة فقيل لك : ولِّها مَن شئت ، مَن كنت تولّي ؟

ـــــــــــــــــ

(١) البقرة : ٢/١٣٨ .

(٢) تفسير الصافي : ١/١٧٦ .

(٣) تفسير العياشي : ١/٦٢ .

(٤)الميزان : ١/٣١٥ .

(٥) عوالم العلوم والمعارف : ١٥/٣ ـ (٢٧٠ ـ ٢٧١) وراجع أيضاً شواهد التنزيل : ١/١٨٧ والدر المنثور : ٢/٢٩٨ وفتح القدير : ٣/٥٧ وروح المعاني : ٦/١٦٨ .

٩٥

وبادر عمرو فقال : أجعلها شورى بين المسلمين .

قال :بين كلّهم ؟ قال : نعم قال :بين فقهائهم وخيارهم ؟ قال :نعم قال :قريش وغيرهم ؟ قال : قال له : العرب والعجم ؟

قالعليه‌السلام :أخبرني يا عمرو أتتولّى أبا بكر وعمر أو تتبرّأ منهما ؟ قال : أتولاّها .

فقال له الإمامعليه‌السلام :يا عمرو إن كنت رجلاً تتبرّأ منهما فإنّه يجوز لك الخلاف عليهما ، وأنت كنت تتولاّهما فقد خالفتهما فقد عهد عمر إلى أبي بكر فبايعه ، ولم يشاور أحداً ، ثم ردّها أبو بكر عليه ولم يشاور أحداً ، ثم جعلها عمر شورى بين ستة ، فأخرج منها الأنصار غير أولئك الستة من قريش ، ثم أوصى الناس فيهم ـ أي في الستة الذين انتخبهم ـبشيء ما أراك ترضى أنت ولا أصحابك به .

وسأل عمرو الإمامعليه‌السلام عما صنع عمر قائلاً : ما صنع ؟

قال الإمامعليه‌السلام :أمر صهيباً أن يصلّي بالناس ثلاثة أيام ، وأن يتشاور أولئك الستّة ليس فيهم أحد سواهم إلاّ ابن عمر ، ويشاورونه ، وليس له من الأمر شيء ، وأوصى مَن كان بحضرته من المهاجرين والأنصار إن مضت ثلاثة أيّام ولم يفرغوا ويبايعوا ، أن تُضرب أعناق الستة جميعاً وإن اجتمع أربعة قبل أن يمضي ثلاثة أيّام وخالف اثنان أن يضرب أعناق الاثنين أفترضون بذا فيما تجعلون من الشورى بين المسلمين ؟ (١) .

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار ٤٧/٢١٣ ـ ٢١٦ ، والاحتجاج ٢/١١٨ ـ ١٢٢ .

٩٦

٢ ـ المحور الثقافي والفكري :

أ ـ مواجهة التيّارات الإلحادية :

ومن الخطوات التي خطاها الإمامعليه‌السلام هي مواجهة الأفكار الإلحادية ـ سابقة الذكر ـ حيث ناقشها بعدّة أساليب حتى استفرغ محتواها ووقف أمام تحقيقها لأهدافها .

نختار نماذج من تحرّك الإمام ونشاطه في هذا المجال .

١ ـ جرت بين الإمام وأحد أقطاب حركة الكفر والإلحاد ( أبو شاكر الديصاني ) عدّة مناظرات أفحمه الإمام فيها ، وأبطل مزاعمه الواهية ، وكان من بينها المناظرة التي وجّه فيها أبو شاكر السؤال التالي للإمامعليه‌السلام : قائلاً : ما الدليل على أنّ لك صانعاً ؟

فأجابه الإمامعليه‌السلام :( وجدت نفسي لا تخلو من إحدى جهتين : إمّا أن أكون صنعتها أنا أو صنعها غيري فإن كنت صنعتها فلا أخلو من أحد معنيين : إمّا أن أكون صنعتها وكانت موجودة فقد استغنيت بوجودها عن صنعتها ، وإن كانت معدومة فإنّك تعلم أنّ المعدوم لا يحدث شيئاً ، فقد ثبت المعنى الثالث : أنّ لي صانعاً وهو ربّ العالمين ) (١) .

٢ ـ دخل الديصاني على الإمام الصادقعليه‌السلام فقال له : يا جعفر بن محمد دُلّني على معبودي . وكان إلى جانب الإمام غلام بيده بيضة فأخذها منه ، وقال له :( يا ديصاني هذا حصن مكنون له جلد غليظ وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق ، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضة ذائبة فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة ، فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٣/٥٠ عن التوحيد للصدوق .

٩٧

صلاحها ، ولا دخل فيها داخل مفسد فيخبر عن فسادها ، لا يدرى للذكر خُلقت أم للانثى ، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس ، أترى لها مدبّراً ؟ ) .

وأطرق الديصاني مليّاً إلى الأرض ، وأعلن التوبة والبراءة ممّا قاله(١) .

٣ ـ ووفد زنديق آخر على الإمامعليه‌السلام وهو من الزنادقة البارزين في عصر الإمام الصادقعليه‌السلام وقد قدّم للإمام عدّة مسائل حسّاسة فأجاب عنها الإمامعليه‌السلام نذكر بعضاً منها :

١ ـ سأله : كيف يعبد اللهَ الخلقُ ولم يروه ؟

فأجابهعليه‌السلام :( رأته القلوب بنور الإيمان ، وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان ، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف ، ثم الرسل وآياتها ، والكتب ومحكماتها ، واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته ) (٢) .

ويتضمّن جواب الإمامعليه‌السلام بعض الأدلة الوجدانية على وجود الخالق من خلقه للمجرّات في الفضاء والتي لا تعتمد على شيء سوى قدرة الله تعالى .

ثم إنّ العقول الواعية والقلوب المطمئنّة بالإيمان هي التي ترى الله بما تبصره من بدائع مخلوقاته ؛ إذ الأثر يدلّ على المؤثّر والمعلول يدلّ على علّته .

٢ ـ وسأله : من أين أثبت أنبياءَ ورسلاً ؟

فأجابعليه‌السلام :( إنّا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقاً ، صانعاً ، متعالياً عنّا ، وعن جميع ما خلق وكان ذلك الصانع حكيماً ، لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا أن يلامسوه ولا أن يباشرهم ويباشروه ، ويحاجّهم ويحاجّوه ، ثبت أنّ له سفراء في خلقه ، وعباد يدلّونهم على مصالحهم

ـــــــــــــــــ

(١) أصول الكافي : ١ / ٨٠ ، والاحتجاج : ٢ / ٧١ ـ ٧٢ .

(٢) الاحتجاج : ٢/٧٧ .

٩٨

ومنافعهم ، وما به بقاؤهم ، وفي تركه فناؤهم فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، وثبت عند ذلك أنّ له معبّرين هم أنبياء الله وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدّبين بالحكمة مبعوثين عنه ، مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ، مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، فلا تخلو الأرض من حجّة يكون معه علمٌ يدلّ على صدق مقال الرسول ووجود عدالته .

وأضاف الإمام الصادقعليه‌السلام قائلاً :( نحن نزعم أنّ الأرض لا تخلو من حجّة ولا تكون الحجة إلاّ من عقب الأنبياء وما بعث الله نبياً قطّ من غير نسل الأنبياء ؛ وذلك أن الله شرع لبني آدم طريقاً منيراً ، وأخرج من آدم نسلاً طاهراً طيّباً ، أخرج منه الأنبياء والرسل ، هم صفوة الله وخلص الجوهر ، طهروا في الأصلاب ، وحفظوا في الأرحام ، لم يصبهم سفاح الجاهلية ولا شاب أنسابهم ؛ لأنّ الله عزّ وجلّ جعلهم في موضع لا يكون أعلى درجة وشرفاً منه ، فمَن كان خازن علم الله ، وأمين غيبه ، ومستودع سرّه ، وحجّته على خلقه ، وترجمانه ولسانه لا يكون إلاّ بهذه الصفة ، فالحجّة لا تكون إلاّ من نسلهم ، يقوم مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخلق بالعلم الذي عنده وورثه عن الرسول ، إن جحده الناس سكت ، وكان بقاء ما عليه الناس قليلاً ممّا في أيديهم من علم الرسول على اختلاف منهم فيه ، قد أقاموا بينهم الرأي والقياس ، وإنّهم إن أقرّوا به وأطاعوه وأخذوا عنه ظهر العدل ، وذهب الاختلاف والتشاجر ، واستوى الأمر ، وأبان الدين ، وغلب على الشك اليقين ، ولا يكاد أن يقرّ الناس به ، ولا يطيعوا له ، أو يحفظوا له بعد فقد الرسول ، وما مضى رسول ولا نبيّ قط لم تختلف أُمّته من بعده ) .

٣ ـ وسأله : ما يصنع بالحجّة إذا كان بهذهِ الصفة ؟

فأجابهعليه‌السلام :( يُقتدى به ، ويخرج عنه الشيء بعد الشيء ، مكانه منفعة الخلق ،

٩٩

وصلاحهم فإن أحدثوا في دين الله شيئاً أعلمهم ، وإن زادوا فيه أخبرهم ، وإن نقصوا منه شيئاً أفادهم ) (١) .

وبهذا المستوى من الحوار وعمقه يستمرّ الإمامعليه‌السلام في أجوبته العملاقة حتى تصل الأسئلة والأجوبة إلى خمسة وتسعين(٢) ، ونظراً لسعتها اقتصرنا على الثلاث الأول منها .

ب ـ مواجهة تيّار الغلوّ

لقد كان موقف الإمام الصادقعليه‌السلام من تيّار الغلوّ وحركة الغلاة حازماً وصارماً ، فقال لسدير :( يا سدير سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هؤلاء براء ، برئ الله منهم ورسوله ، ما هؤلاء على ديني ودين آبائي ، والله لا يجمعني وإيّاهم يوم إلاّ وهو عليهم ساخط ) (٣) .

وقال ميسرة : ذكرت أبا الخطّاب عند أبي عبد اللهعليه‌السلام وكان متّكئاً فرفع إصبعه إلى السماء ثم قال :( على أبي الخطّاب لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فأشهد بالله أنّه كافر فاسق مشرك ، وأنّه يحشر مع فرعون في أشدّ العذاب غدوّاً وعشيّاً ، ثم قال :والله والله إنّي لأنفس على أجساد أصيبت معه النار ) (٤) .

وقال عيسى بن أبي منصور : سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول ـ وقد ذكر أبا الخطّاب ـ :( اللّهمّ العن أبا الخطّاب فإنّه خوّفني قائماً وقاعداً وعلى فراشي اللّهمّ

ـــــــــــــــــ

(١) الاحتجاج للطبرسي : ٢/٧٧ ـ ٧٨ .

(٢) الاحتجاج : ٢/٧٧ ـ ١٠٠ عن يونس بن ظبيان وعبد الدين سنان ، ولم يسمّيا الزنديق ولم يرويا توبته !

(٣) أصول الكافي : ١ / ٢٦٩ .

(٤) اختيار معرفة الرجال للكشي : ٢٦٩ ح ٥٢٤ .

١٠٠