الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة

الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة0%

الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 119

الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد تقي المدرسي
تصنيف: الصفحات: 119
المشاهدات: 95365
تحميل: 23474

توضيحات:

الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 119 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 95365 / تحميل: 23474
الحجم الحجم الحجم
الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة

الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

نوايا القوم، وماذا سيفعلون به، ولكنه رغم ذلك ذهب ليطلب له شربة من الماء فإذا به يُذبح وهو في حضن والده.

التضحيات المعنوية

وفي الجانب المعنوي قدّم كل شيء أيضاً، فبقدر ما كانت كربلاء أليمة ومفجعة على الصعيد المادي كانت كذلك عل الصعيد المعنوي؛ فلقد وُجّهت إلى الحسينعليه‌السلام اتهامات كبيرة نجد أثرها إلى يومنا هذا.

فشريح القاضي - وما أكثر أمثاله في واقعنا المعاصر - أفتى بوجوب قتل الحسينعليه‌السلام ، إلى درجة أنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام قال:« ولا يوم كيوم الحسين عليه‌السلام ؛ ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنهم من هذه الاُمّة، كلٌّ يتقرّب إلى الله (عزّ وجلّ) بدمه، وهو بالله يذكّرهم فلا يتعظون حتّى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً » (١) .

هكذا فعلت الدعايات المضللة بأدمغة الناس، فبعد أن قُتل الإمام الحسينعليه‌السلام وسُبي أهل بيته كان الناس يعتقدون أنهم سبايا الترك أو الديلم، وهذا هو سر عظمتهعليه‌السلام ؛ إذ إنّه قدّم نفسه وأهل بيته مختاراً فداءً لدين الله.

فربما يختار الإنسان الثورة لنفسه، لكنه قد لا يكون مستعداً للتضحية بأهله وأقاربه فيرضى لنفسه الشهادة ولا يرضاها لأهله وأقربائه خوفاً عليهم. وهناك الكثير من الناس من يحجم عن العمل الثوري والجهاد في سبيل الله لخوفه من التضحية أساساً.

إنّ من الخطأ أن يخشَ الإنسان على الاُناس المرتبطين به من اقتحام الثورة؛ لأنّ الواجب أن يثور ويسمح لغيره بالثورة، فإذا ثار

____________________

(١) أمالي الصدوق / ٥٤٧.

١٠١

المجاهد مثلاً، واعتقلت السلطة الطاغوتية زوجته وأولاده ووالديه، فليعلم علم اليقين أنهم قد دخلوا ساحة النضال من أوسع أبوابها، أمّا هو فله الثواب الجزيل إن أدخل الآخرين ساحة الجهاد؛ لكونها ساحة مباركة على الجميع أن يدخلوها.

وهكذا أتى الإمام الحسينعليه‌السلام بكلِّ أهل بيته إلى كربلاء وهو يعلم ماذا سيجري عليهم من ظلم واضطهاد، فقد قالعليه‌السلام عندما سأله ابن عباس عن سبب خروج النسوة معه:« إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا » (١) ، ومع ذلك فقد ذهب بهنّ لعلمه أن هذا درس عظيم من دروس الثورة الإسلاميّة.

الثورة ضد حالة الانبهار والتراجع

وهناك درس آخر تجب الإشارة إليه في سياق الحديث عن الثورة الحسينيّة، فنحن عندما نقول: إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام تحوّل إلى ثورة، نعني أنهعليه‌السلام ثار ضد حالة الانهيار والتراجع التي بدأت في الاُمّة الإسلاميّة وخصوصاً في عصره.

وقبل الخوض في هذا الحديث لا بدّ من الحديث عن الفتوحات الإسلاميّة التي أذهلت المراقبين عبر التاريخ؛ لأنها كانت سريعة ومفاجئة؛ فلقد عبر المسلمون السهول والهضاب، والجبال والبحار من كلِّ جهة، وفي كلِّ الأبعاد كما يتدفق الماء النازل من الجبل؛ بدءً بفتح اليرموك والحيرة في جانبي الجزيرة، وانتهاءً بسقوط الإمبراطورية الفارسية، واقتطاع أجزاء كبيرة من الإمبراطورية البيزنطينية في آسيا وأفريقيا.

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ / ٣٦٤.

١٠٢

وفي عصر الإمام الحسينعليه‌السلام كانت الفتوحات الإسلاميّة تتّجه إلى الهند، ومن الطبيعي أنّ الذي يقوم بهذه الفتوحات هو الجيش؛ فالقوات المسلحة هي التي تكتب أكثر الانتصارات للاُمّة، بيد أن هذه القوى قد تغتر بنفسها وتفتّش عن دور لها في إدارة البلاد وسياسته، علماً أن القوة العسكرية إذا تسلّطت في البلاد أفسدتها؛ لأنها تريد أن تحكم فيها بمنطق حكمها، أي منطق السيف والحروب والمعارك الدامية، وهكذا جرت الاُمور في الاُمّة الإسلاميّة.

وكل حضارة في العالم لا بدّ أن تمرّ بهذا المنعطف الحساس؛ فالحضارة لا مناص لها من أن تدعم القوات المسلحة باعتبارها الدرع الواقي من الأعداء، ولكنها ما أن تدعم هذه القوات حتّى تتعرّض لخطر داهم مدمر.

إنّ هذه الآفة الحضارية عانت منها جميع الحضارات، فإذا كانت في الاُمّة بقية إرادة تتجلّى في نهضة جماهيرية وقيادة رشيدة، فإنّ القوة العسكرية المتواجدة على الحدود لا يمكنها أن تنكفئ إلى الداخل، وتحطّم ما حقّقته في الخارج، وإلاّ فإنّ هذه القوة التي حققت الانتصارات للاُمّة ستهدم كلَّ ما بنته بيدها.

وقد أوضح الله تعالى جانباً من هذه الحالة في قصة عاد، حيث يقول:( وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) (الشعراء / ١٢٩-١٣٥).

لقد أراد النبي هودعليه‌السلام أن ينبّه قومه إلى أنّ هذه القوة التي يملكونها هي من الله تعالى، وأنّ استخدامهم لهذه القوة في طريق البطش

١٠٣

والإرهاب والسعي إلى الخلود سوف يضرهم؛ إذ سوف يأخذهم الله بعذاب عظيم بسببها.

ثورة على سلطة العسكر

إنّ ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام لم تكن بعيدة جداً عن هذا المضمون؛ فهوعليه‌السلام لم يشأ أن يخضع للإرهاب أو لسلطة القوة، ولم يرد أن يتدخّل العسكر الذين فتحوا أطراف البلاد في الحكم. ومن خلال دراسة التاريخ نجد أن النظام الإسلامي يغضّ النظر عمّن كان يسود النظام، كان منتبهاً إلى هذا الخطر، فكان يعمد إلى عزل كلِّ قائد عسكري يحرز الانتصار لكي لا يفتتن الناس به.

ومن أجل أن يعمل يزيد بن معاوية على تركيز سلطته، فقد اعتمد على القادة العسكريين الذين فتحوا البلاد؛ فوزّع عليهم الأراضي، وقد كان (عمر بن سعد) من ضمنهم؛ فقد منّاه يزيد بملك الري إن انتصر على الإمام الحسينعليه‌السلام .

وهكذا فعل معاوية من قبل؛ إذ بعث إلى مصر عمرو بن العاص الذي كان من قبلُ قائداً فاتحاً لمصر، أي أنه حكم القيادة العسكرية على إرادة الجماهير، فكان يزيد امتداداً لمعاوية، وابن زياد امتداداً لزياد ابن أبيه، وعمر بن سعد امتداداً لأبيه سعد بن أبي وقاص الذي فتح العراق.

وهناك نتيجة اُخرى وهي أن الارستوقراطية الاجتماعية في النظام الاُموي كانت ثورة الرتب العسكرية، فمَن كان أبوه قائداً عسكرياً فإنه يرثه من بعده. وهذا هو أغرب نوع من الإرث؛ فلأن فلاناً هو ابن القائد الفلاني ينبغي أن يصبح قائداً هو الآخر!

فذاك عمر بن سعد يرث عن أبيه قيادة الجيش المعد للفتح، وها هو ابن زياد يهدّد

١٠٤

أهل الكوفة بجيش الشام، فقد قام قبل شهر واحد من واقعة كربلاء بانقلاب عسكري في الكوفة التي هددها بحاميات من الجيش الشامي للقضاء على إرادة الجماهير، وهذا انقلاب عسكري بكلِّ ما تحمل الكلمة من معنى.

وقد حوّل هذا الانقلاب القوة العسكرية التي بُنيت لفتح البلاد الاُخرى إلى قوة لقهر إرادة الجماهير؛ فقاوم الإمام الحسينعليه‌السلام هذا التحوّل من أجل مصلحة الاُمّة الإسلاميّة ومصلحة تاريخها، وبالفعل فقد نجح في ذلك وأعاد القيادات العسكرية إلى ثكناتها، وهذا هو وجه من العلاقة بين نهضة الإمام الحسينعليه‌السلام ونهضة الأنبياء كهود وصالح اللذين قاوما الجبارين.

ولقد كان أصحاب الإمام الحسينعليه‌السلام يدركون عظمة حركتهم، وأنها امتداد لحركة الأنبياءعليهم‌السلام ، وأنّ بطش وغرور القوة العسكرية يجب أن يُحطّما في كربلاء. والدليل على معرفتهم هو بعض ما صرّحوا به في يوم عاشوراء.

ومن ذاك ما جاء عن حنظلة بن سعد الشامي عندما وقف يوم عاشوراء، فوقف بين يدي الإمام الحسينعليه‌السلام وهو يصلّي صلاة الخوف بأصحابه، يقيه من السهام والرماح والسيوف، ويتلقّاها بوجهه ونحره، فنادى أهل الكوفة: يا قوم، إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب. ياقوم، إني أخاف عليكم يوم التناد. يا قوم، لا تقتلوا حسيناً فيسحتكم الله بعذاب وقد خاب من افترى(١) .

____________________

(١) الإرشاد للشيخ المفيد / ١٠٥.

١٠٥

وهكذا ينصحهم هذا الصحابي ويذكّرهم بمصير الأقوام السابقة الذين كانوا يسيرون في نفس الخط.

وقد تكرّرت مثل هذه الكلمة من قبل الآخرين من أصحاب الإمام الحسينعليه‌السلام ، وعلى سبيل المثال فقد تقدّم سعيد بن عبد الله الحنفي أمام الحسينعليه‌السلام عندما وقف للصلاة في ظهيرة يوم عاشوراء يحميه، فصار هدفاً لنبال الأعداء حتّى سقط على الأرض وهو يقول: اللّهمَّ العنهم لعن عاد وثمود. اللّهمَّ أبلغ نبيّكصلى‌الله‌عليه‌وآله عني السلام، وأبلغه ما لقيته من الجراح؛ فإنّي أردت بذلك نصرة ذرّيّة نبيك(١) .

خلوص النيّة ووضوح الرؤية

وهناك ملاحظة أخيرة نذكرها كدرس أخير من دروس الثورة الحسينيّة، وهي إنّ أصحاب الإمام الحسينعليه‌السلام قاموا بنصرة إمامهم لله، وفي سبيل رضوانه تعالى، لا حباً للجنّة وابتغاءً لدخولها. فمن أجل القيام بأي عمل لا بدّ أن ننوي أن يكون هذا العمل لله؛ لكي يعطينا تعالى الأجر ويزكّينا. فالعمل في سبيل الله يجب أن تسبقه النية مثل سائر الأعمال، وهذه النية تلعب دوراً كبيراً في خلوص العمل لله تعالى؛ وعلى هذا يجب ونحن نعمل في سبيل الله أن نؤكّد لأنفسنا ونوحي لها باستمرار بأهمّية العمل، وأهمّية أن ننوي لله تعالى بعيداً عن الذات.

إنّ من أهم الصفات التي بيّنها الإمام الصادقعليه‌السلام في دعائه لعمه العباسعليه‌السلام في كربلاء قائلاً:« وأنّك مضيت على بصيرة من أمرك،

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٥ / ٢١.

١٠٦

مقتدياً بالصالحين ومتّبعاً للنبيِّين »(١) .

لا شك إنّ وضوح الرؤية تجاه أي عمل يعطينا قوة وصلابة واستقامة. ونظرة إلى أصحاب الإمام الحسينعليه‌السلام تثبت لنا وضوح الرؤية لديهم، فهذا نافع بن هلال ينشد قائلاً:

أنا الغلامُ اليمنيُّ البجليْ

ديني على دينِ حسينِ بن عليْ

أضربُكم ضربَ غلامٍ بطلِ

ويختمُ الله بخيرٍ عملي(٢)

وهذا رجل آخر من أصحاب الإمام الحسينعليه‌السلام ، وهو شوذب الذي يبدو أنه كان من أصحاب البصائر، يأتي هذا الرجل إلى الحسينعليه‌السلام ويقول له: يا أبا عبد الله، أما والله ما أمسى على وجه الأرض قريبٌ ولا بعيدٌ أعزّ عليّ ولا أحبّ إليّ منك، ولو قدرتُ على أن أدفع عنك الضيم أو القتل بشيء أعزّ من نفسي ودمي لفعلت.

ثمّ قال بعد ذلك: السلام عليك يا أبا عبد الله، أشهد أنّي على هداك وعلى هدى أبيك(٣) . ثمَّ مضى بالسيف نحو القوم وقاتل حتّى استشهد.

وكان بعض أصحاب الإمام الحسينعليه‌السلام لا ينتسبون في أراجيزهم إلى أنفسهم، بل إلى إمامهم، وكان البعض يؤكّد على أنّ هدفه الجنّة حيث رضوان الله تعالى، والراحة الأبديّة.

سعد بن حنظلة التميمي ينزل ساحة الصراع وهو ينشد قائلاً:

صبراً على الأسياف والأسنّهْ

صبراً عليها لدخول الجنّهْ

____________________

(١) مفاتيح الجنان - زيارة العباسعليه‌السلام .

(٢) مناقب آل أبي طالب - ابن شهر آشوب ٣ / ٢٥٣.

(٣) لواعج الأحزان للسيد محسن الأمين / ١٥٨.

١٠٧

وحورِ عينٍ ناعماتٍ هنّ

لمن يريد الفوز لا بالظنهْ

يا نفسُ للراحة فاجهدنَّ

وفي طلاب الخير فارغبنّهْ(١)

لقد كان يعلم جيّداً أنّ دخول الجنّة ليس بالأماني، بل يجب أن يصبر على السيوف والأسنة ليدخل الجنة.

وبعد، فما أعظمها من دروس تلك التي كتبها أصحاب الإمام الحسينعليه‌السلام بدمائهم! والمؤمنون الحقيقيّون هم الذين يستوحون هذه الدروس من مدرسة كربلاء وأصحاب الإمام الحسينعليه‌السلام ، هذه المدرسة التي كانت مزدحمة بالتلاميذ عبر التاريخ من كلِّ حدب وصوب، ومن كل فئة ولون.

والمهم في كلِّ ذلك أن نسجّل أسماءنا في هذه المدرسة منذ هذه اللحظة، أو نجدّد تسجيلنا فيها، ونسعى من أجل أن نصبح تلامذة ممتازين في هذه المدرسة، وهذا هو أملنا من الله سبحانه وتعالى.

____________________

(١) لواعج الأحزان / ١٦١.

١٠٨

كربلاء.. المسيرة

لقد انتهت مأساة كربلاء لتبدأ مسيرة كربلاء. انتهت هذه المأساة بسفك أزكى الدماء، وسبي أطهر النساء، وحدوث فاجعة لم يسبق لها مثيل عبر التاريخ، لتبتدئ بعد ذلك مسيرة جديدة، وهذه المسيرة تحوّلت إلى حقائق راسخة توغّلت في عمق الإنسان حتّى أصبحت جزءاً منه وكأنها سنّةٌ من سنن الكون.

دور الثقافة في انتصار الثورات

ولكن مَن الذي قاد هذه المسيرة؟

قبل أن نُجيب على هذا السؤال لا بدّ أن نلفت الأنظار إلى دور الثقافة في الثورة؛ فكلّنا نعرف أن الثقافة هي عصب الثورة، فعلى قاعدة التوحيد والأيديولوجية تُبنى الثورات، ومن هذه القاعدة تنطلق.

ولولا إيمان الثائرين الذي يدفعهم إلى التضحية من أجل الثورة، ولولا وجود فلسفة الشهادة في الاُمّة الإسلاميّة لما كانت الثورات

١٠٩

ممكنة الحدوث عبر التاريخ، وخصوصاً الثورات الإسلاميّة بما كانت تحمل من بطولات وشجاعة، ومع ذلك فإنّ دور الثقافة لا ينتهي عند هذا الحدِّ؛ لأنّ الدور الأعظم لها يبدأ بعد الثورات، وسواء انتهت هذه الثورات بانتصار أو بنكسة مؤقتة فإنّ للثقافة دوراً أساسياً فيها.

إنّ الإسلام قام منذ البداية على أساس التضحية والفداء، والتعبير الذي يقول: إنّ الدم ينتصر على السيف هو التعبير الموجز المستلهم من الآيات القرآنية، وخصوصاً من قوله تعالى على لسان النبي نوحعليه‌السلام :( أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) ، وهو تعبير يلخص تاريخاً حافلاً بالدماء والدموع.

ولا ريب في أنّ الثورة الإسلاميّة حتّى في بداية انطلاقها في عهد الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت تعتمد على دماء الشهداء الذين يقتلون في سبيل الله، ومع ذلك فإن لم يكن هناك لسان ناطق باسم هذه الدماء، ولم تكن هناك فكرة معبرة عن تلك الشهادة فإن الدم سيذهب هدراً؛ وبذلك لا يحقق أهدافه المقدسة.

وبالفعل لو انتهت مأساة كربلاء باستشهاد أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام فلا ريب في أن هذه المأساة كانت ستُطوى في عالم النسيان لولا ذلك اللسان الناطق باسم الثورة، والمتمثل في الإمام زين العابدين والسيدة زينب زينب الكبرىعليهما‌السلام الَّذين حملا معهما مأساة كربلاء إلى كل أرض ومصر.

وبعد، فهذا هو دور الثقافة والإعلام، فالذي يحيي الشهيد ويميته هو الإعلام؛ ولذلك فإن مسؤولية بقايا السيف والدم هي مسؤولية

١١٠

أكبر من مسؤولية الشهداء. فعندما يقوم نظام طاغوتي بإعدام الصفوة من أبناء اُمّتنا يطرح سؤال مهم وهو: مَن الذي يحدد مصير هذه الصفوة المستشهدة؟

إنها مسؤولية أصحاب القلم وأصحاب الفكر، فعندما يسقط شهيد لا بدّ أن يرتفع من حوله وعلى كلِّ بقعة من دمائه علم يدعو باسمه، ويصنع منه سيفاً يلاحق الطغاة في نومهم ويقظتهم، أمّا إذا سقط شهيد ثمّ سكت الآخرون فإنّ هذا يعني أنهم اشتركوا في جريمة قتله؛ فإن أماته الطاغوت مادياً فإن الاُمّة ستكون قد أماتته معنوياً.

الثورة الحسينيّة ملهمة الشعراء

إنّ كلَّ قطرة دم زكية من دماء الإمام الحسينعليه‌السلام شكّلت رافداً أثار أحاسيس الشعراء، بل إن هذه القطرة صنعت الشعراء. فالإنسان الذي يحمل قضية وإحساساً هو الإنسان الذي يريد أن يعبّر عنها بصدق، فيبحث عن وسيلة للتعبير ليجد وسيلة اللسان والشعر، وهي الوسيلة المناسبة للتعبير عن آهاتهم وأحزانهم وآلامهم وقضيتهم الإنسانيّة.

وفي أرض كربلاء بدأ اُسلوب التعبير عن الثورة بالشعر، ابتداءً من أراجيز الشهداء قبل استشهادهم، ثمّ بعض الأبيات المنسوبة إلى أبي عبد اللهعليه‌السلام كقول:

شيعتي مهما شربتم عذب ماء فاذكروني

أو سمعتم بشهيد أو قتيل فاندبوني

١١١

فأنا السبط الذي من غير ذنبٍ قتلوني

وبجردِ الخيلِ عمداً سحقوني

فهذه الأشعار انطلقت من كربلاء نفسها يوم عاشوراء، وقد امتد هذا الشعر إلى الكوفة على يد الكميت، وامتد إلى خراسان على يد شاعر أهل البيتعليهم‌السلام دعبل الحزاعي، واستمر مع الحمدانيين بأبي فراس الحمداني، والشعراء الآخرين من مثل الشريف الرضي، فكانت رسالة الشعر رافداً انطلق من كل قطرة من دم الشهيد المظلوم في كربلاء.

رسالة الكلمة

وبالإضافة إلى ذلك فإنّ دماء الشهداء أجرت رافداً آخر للتعبير عن أحداث الطفِّ هو رافد الخطب اللاهبة؛ فقد كانت زينب الكبرى تقذف لهباً وحمماً في وجه الطغاة، ابتداءً من كربلاء؛ حيث خاطبت عمر بن سعد في يوم عاشوراء خطاباً مؤثراً حتّى بكى وجرت دموعه على لحيته.

وهذا هو ما حدث في الكوفة أيضاً، فعندما ألقت السيدة زينبعليها‌السلام ذلك الخطاب أثارت به الجماهير، وكشفت عن واقعهم الفاسد بكلِّ صراحة وبطولة، وحينئذ أخذ بعضهم ينظر إلى البعض الآخر ولسان حالهم يقول: أنحن الرجال، أم أن هذه المرأة هي الرجل الحقيقي؟!

فمع أنها فقدت كل أعزّتها، وأنها وحيدة، فإنها لا تتحدث عن ظلم الطغاة وانحرافهم فحسب، بل وتكشف عن سكوت الجماهير، ومدى اشتراكهم في الجريمة لو استمروا في السكوت. وهذه هي الشجاعة، فهي أن يقول المصلح كل الحقيقة التي هي حقاً رسالة الكلمة التي تحوّلت إلى رافد.

١١٢

إنّ الخطب لم تعد بعد كربلاء خطباً فارغة، بل كانت الخطب والأحاديث تبدأ بذكر الإمام الحسينعليه‌السلام وتنتهي به، وهكذا فقد تحوّلت كل قطرة من قطرات دمهعليه‌السلام إلى رسالة للكلمة، وتحوّلت القطرات الاُخرى إلى روافد جرى أحدها في عروق الثائرين عبر التاريخ، وآخر جرى في عروق العلماء والمفكرين، وآخر جرى في شرايين الناس ورفعهم إلى كل معاني الإنسانيّة والتضحية.

والذي يعنينا هنا هو رافد الثقافة، فبعد أن يقوم الشهيد بدوره يبدأ الدور الأساسي، وهو دور الكلمة والثقافة والإعلام. وهذا الدور هو في الواقع منعطف خطير للثورة؛ فإن قام به الباقون انتصرت، وإلاّ فإن مصيرها سيكون على كفّ متأرجح. والإمام الحسينعليه‌السلام كان يخطط له منذ البدء باُسلوب معيّن؛ ولذلك اصطحب معه السيدة زينب وسائر أهل بيتهعليهم‌السلام .

إنّ الإسلام لا يريد للإنسان أن يخضع قسراً لرسالة السماء، بل يريد أن يربطه بالرسلة، وينمي فيه الإرادة والعزم والوعي لكي يصل إلى مستوى الإيمان بالرسالة، والذين يستشهدون في طريق الحق لا يهدفون العلو إلى السلطة ليفرضوا على الناس فكرة معينة؛ فالله لا يريد لعباده المؤمنين أن يتحوّلوا إلى إرهابيِّين، بل لكي يفسحوا المجال واسعاً أمام الثقافة والوعي ليلعبا دورهما في رفع الناس إلى مستوى الإيمان، وقد كان هذا هو هدف كربلاء.

ومن الأهداف التي رسمها الله تعالى من فوق عرشه لهذه الأرض، ولبطلها الإمام الحسينعليه‌السلام فتح المجال أمام الخطباء والكتّاب والإعلام ليفهّموا الناس الحقيقة؛ فعندما

١١٣

نسمع قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « والذي بعثني بالحق نبياً، إنّ الحسين بن علي في السماء أكبر منه في الأرض، وأنه لَمكتوب عن يمين عرش الله (عزّ وجلّ) مصباحُ هدىً وسفينةُ نجاة، وإمامُ خيرٍ ويُمنٍ، وعزٍّ وفخرٍ، وعلمٍ وذخرٍ... »(١) ، فإن هذا يعني أن الإمام الحسينعليه‌السلام كان يريد أن يقود الناس المنحرفين إلى الجنّة عبر فتح المجال واسعاً أمام هداية الناس.

فلسفة كربلاء

تُرى لماذا عرّض الإمام الحسينعليه‌السلام نفسه إلى القتل؟ ولماذا جاء بأصحابه وأهل بيته وأولاده وحتّى طفله الرضيع؟

الجواب يأتي من قبل الذين حملوا رسالتهعليه‌السلام من بعده؛ زينب الكبرىعليها‌السلام ، وفاطمة الصغرىعليها‌السلام ، واُمّ كلثومعليها‌السلام ، وسكينة التي كانت إلى آخر أيام حياتها تندب أباها الحسينعليه‌السلام .

إنّ فلسفة كربلاء لا تتلخص في أن الإمام الحسينعليه‌السلام علّم الناس كيف يحملون السيف، بل أنه أثار في أذهانهم أنه إنما قُتل ليتحمّل بعض ذوي الضمائر الحية رسالته، ويرتفع مستوى وعي الجماهير وإرادتها إلى قمة الإيمان والالتزام. فدور الثقافة إذاً هو جزء من فلسفة شهادة الحسينعليه‌السلام ، وهو مسؤولية ملقاة على عاتق الباقين.

إنّ هذه المسؤولية لم تكن ملقاة على عاتق السيدة زينبعليها‌السلام في أيام الحسينعليه‌السلام فحسب، بل إنها باقية إلى يومنا هذا؛ فهوعليه‌السلام ما يزال حياً متجسداً في مَن يحمل رسالته، وأن يزيد ما يزال طاغوتاً متمثّلاً في فكره الفاسد، وفي مَن يمثّل دوره من الطغاة.

____________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام للشيخ الصدوق / ٦٢.

١١٤

وقضية كربلاء ما تزال تحمل آفاقاً لم تُكشف بعد، وأبعاد لم يهتدِ إليها الناس، وخصوصاً تلك المتعلّقة بالذين حملوا الرسالة من بعد الإمام الحسينعليه‌السلام كزينب الكبرى، فالقضية ما زالت إلى الآن تحمل آفاقاً لم يرتادها أحد، وإذا ما اكتشفت هذه الآفاق فإنها بقدرها سوف تعطي زخماً للثورة، وتعطي لهذا التيار المبارك شحنات جديدة؛ ولذلك تبقى الرسالة الإعلاميّة هي نفس الرسالة التي حملتها زينبعليها‌السلام في عصر الإمام الحسينعليه‌السلام .

وبالتأكيد فإن حركتهعليه‌السلام كانت تمهيداً للثورات التي تفجّرت من بعدها.

والحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسّلام على محمّد وآله الطاهرين

١١٥

الفهرس

تمهيد. ٥

الزيف غياب المسؤوليّة ٥

كربلاء مشعل كشف الزيف.. ٩

عرفان الرب.. ١١

سلسبيل الحب.. ١٣

الطاعة سبيل اليقين. ١٣

نهج الحياة ١٤

الفصل الأول: آية الهدى. ١٧

الجانب الربّاني من شخصيّة الإمام الحسين عليه‌السلام.... ١٩

التسليم المطلق. ٢٠

لا بدّ من صبغة ربّانية ٢١

امتحان الاختيار في ثورة الحسين عليه‌السلام.... ٢٣

سر عظمة وشموخ الحسين عليه‌السلام.... ٢٤

إرادة الإنسان فوق كلّ قوة ٢٥

طريقان لا ثالث لهما ٢٦

الإمام الحسين عليه‌السلام وامتحان الاختيار ٢٧

كيف نختار، وما هي عوامل الاختيار؟ ٢٨

الإمام الحسين عليه‌السلام مجمع الكرامات والفضائل. ٢٩

ماذا نستلهم من شهادة الحسين عليه‌السلام؟ ٣١

تربية الجيل الحسيني. ٣٢

الشعارات وحدها لا تكفي. ٣٣

القمم الشامخة في النهضة الحسينيّة ٣٦

كيف نعرف درجتنا الإيمانية؟ ٣٦

لنحاول أن نكون كأصحاب الحسين عليه‌السلام.... ٣٨

١١٦

لنتجاوز نواقصنا البشرية ٣٩

أصحاب الحسين عليه‌السلام قمم شامخة ٤٠

ضرورة عدم التهاون والانهيار ٤١

قارن بين نفسك والآخرين. ٤٢

الشهادة الناطقة ٤٣

سمات وخصائص الإعلام الإسلامي. ٤٥

إعلام إلهي. ٤٥

إعلام متفاعل مع الواقع. ٤٧

إعلام شجاع لا يهادن. ٤٨

نهضة الإمام الحسين عليه‌السلام نهضة تبليغيّة ٤٨

الإعلام بعد ثورة الحسين عليه‌السلام.... ٤٩

الفصل الثاني: منهج التغيير ٥١

عاشوراء ثورة في ضمير الإنسان. ٥٣

الدروس التي تخترق الحجب.. ٥٣

المصيبة التي أدمت جميع القلوب.. ٥٤

لماذا البكاء على مأساة الحسين عليه‌السلام.... ٥٦

محرّم مدرسة التطهير والتزكية ٥٨

حتّى الأعداء بكوا على مأساة الحسين عليهم‌السلام.... ٥٩

كيف نعيش ذكرى الحسين عليه‌السلام دوماً؟ ٦٠

عاشوراء نهضة خالدة ٦٣

السبب الغيبي لخلود ثورة الحسين عليه‌السلام.... ٦٣

ثورة الحسين عليهم‌السلام لخّصت رسالات السماء ٦٤

الجانب المأساوي لثورة الحسين عليه‌السلام.... ٦٥

واقعة الطفِّ جسّدت سنن الله. ٦٦

كربلاء دروس خالدة ٦٨

عاشوراء والإصلاح الشامل في الاُمة ٧٠

١١٧

الصراع بين الهدى والضلال أبدي. ٧٠

الإمام الحسين عليهم‌السلام القيادة العليا لحزب الله. ٧٢

الإمام الحسين عليهم‌السلام رمز التوحيد. ٧٢

حل جذري. ٧٣

عاشوراء رسالة الإعلام الجماهيري. ٧٥

منهجان في الإعلام ٧٦

مسؤوليتنا إزاء الإعلام المضلل. ٧٧

كن جهازاً إعلاميّاً ٧٩

ضرورة الإكثار من خطباء المنبر الحسيني. ٨٠

ضرورة تطوير الحديث عن ثورة الحسين عليه‌السلام.... ٨١

الإمام الحسين عليه‌السلام ثورة ممتدة ٨٢

الفصل الثالث: مدرسة الحياة ٨٥

كربلاء مدرسة الانتصار على الذات.. ٨٧

الانتصار هو تجاوز الضعف البشري. ٨٧

طبيعة الإنسان كما يرسمها لنا القرآن. ٨٨

إحياء ذكرى عاشوراء وسيلة لتزكية النفس.. ٩٠

كيف انتصر الإمام الحسين عليه‌السلام على الضعف البشري؟ ٩١

كربلاء مدرسة متكاملة ٩٢

كيف ينحدر الإنسان إلى الحضيض؟ ٩٣

الحرّ بطولة التحدي. ٩٤

كربلاء ينبوع الثورات.. ٩٧

سر خلود الإمام الحسين عليه‌السلام.... ٩٨

في البدء ثورة على الذات.. ٩٩

التضحية يجب أن تكون شاملة ١٠٠

التضحيات المعنوية ١٠١

الثورة ضد حالة الانبهار والتراجع. ١٠٢

١١٨

ثورة على سلطة العسكر ١٠٤

خلوص النيّة ووضوح الرؤية ١٠٦

كربلاء.. المسيرة ١٠٩

دور الثقافة في انتصار الثورات.. ١٠٩

الثورة الحسينيّة ملهمة الشعراء ١١١

رسالة الكلمة ١١٢

فلسفة كربلاء ١١٤

١١٩