تلخيص التمهيد الجزء ١

تلخيص التمهيد13%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 459

  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 78206 / تحميل: 10895
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

تلخيصُ التَمهيد

موجز دراسات مبسّطة عن مختلف شؤون القرآن الكريم

تمتاز هذه الطبعة بإضافات ذوات أهمّية كبيرة وتنقيح كثير

تأليف:

محمّد هادي معرفة

الجزء الأوّل

مؤسّسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة

١

تلخيصُ التَمهيد

(ج ١)

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلْقه محمّد الأمين، وعلى آله الطاهرين المنتجبين.

وبعد، لا يخفى على أُولي البصائر والأذهان اشتمال كتاب الله الكريم، ومعجزة الرسول العظيم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على كنوز المعارف الإلهية، وجواهر العلوم الربّانية التي أركعت أرباب العقول المتوقّدة من الحكماء والعلماء في مختلف الفنون والمعارف أمام عظمتها وسِعتها، فقد انطوت آيات الكتاب الحكيم على الرموز والإشارات واللطائف والحِكم ما لا تحويه عقول البشر، مضافاً إلى التشريعات والقوانين وقصص الأنبياء والصالحين وأخبار الأمم من الغابرين وعلوم المبدأ والمعاد، بحيث ما من مرتبة من مراتب العلم الحسّي والمعنوي يرتقي إليها المحقّقون والمكتشفون، إلاّ وتجد القرآن قد سبقهم إليها وأشار إليها من قريب أو بعيد، فهو بحقّ الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وفيه تبيان كلّ شيء ورحمة وشفاء لمَا في الصدور.

ومنذ الأيام الأُولى لنزول القرآن، اهتمّ المسلمون بدراسة شؤون وملابسات الآيات القرآنية، وما يتعلّق بها من علوم ومعارف أعمّ من شأن النزول، ومعرفة المعاني والمحكَم والمتشابه والناسخ والمنسوخ، مضافاً إلى القراءات والنكات الأدبية والبلاغية وغيرها، ولكن كانت بشكلٍ بدائيّ، وأخذت بمرور الزمن تتطوّر

٣

وتزداد سعةً وعمقاً، حتّى صار البحث في هذه العلوم منضوياً تحت علمٍ مستقلّ أُطلق عليه بـ (علوم القرآن)، فكُتبت العشرات من الكتُب في مسائله المتنوّعة، وتضاربت الآراء، وطُرحت النظريات المتعدّدة والدراسات المختلفة على اختلاف مذاهب أصحابها.

ولأهمّية هذه العلوم لم يغفل علماء الشيعة عنها، فلم يمرّوا بباب من أبوابها إلاّ وأشبعوه بحثاً واستدلالاً، فصنّفوا وأتقنوا، وكان كتاب (التمهيد في علوم القرآن) للأستاذ المحقق الشيخ محمّد هادي معرفة (أيّده الله)، يمثّل أصدق نتاج في هذا المضمار، ولمّا كان البحث فيه بشكلٍ موسَّع ومبسوط رأى المؤلّف - ونزولاً عند رغبة مديرية الحوزة العلمية في قم المشرّفة - أن يُلخّص ما جاء فيه من الأبحاث بشكلٍ يناسب ومستوى الدراسة في المعاهد الإسلامية والحوزات العلمية في مراتبها الأوّلية، فجمعَ كلَّ ما ورد في أصل الكتاب في جِلدين بأسلوب جزلٍ واختصارٍ غير مخلٍّ.

والطبعة الماثلة بين يديك - عزيزنا القارئ - هي طبعة منقّحة وأُدخلت عليها بعض الإضافات، وحُذف البعض الآخر بقلم المؤلّف، وبذلك سدّ ما كان في الطبعة الأولى للتلخيص من فجوات وثغور فجاء كاملاً، ولبلوغ الغاية ونيل المطلوب موصّلاً إن شاء الله.

ونحنُ إذ نُقدِم على طبع هذا الكتاب بحلّته الجديدة، لا يفوتنا أن نتقدّم بخالص دعائنا لسماحة الشيخ المؤلّف، وأن يمدّ في عُمره وينفع به أمّته، ونتقدّم كذلك بشكرنا للإخوة الذين شاركونا في تنظيم هذا الكتاب، نخصّ بالذِكر فضيلة الأخ الحاج كمال الكاتب حفظه الله وزاد في توفيقه.

اللّهم نوّر قلوبنا بالقرآن، ووفّقنا للعمل به وبيّض وجوهنا يوم نلقاك، وآخِر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مؤسّسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

٤

مقدمة المؤلّف

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيّه وآله وعلى رواة سُنّته، وحَمَلة أحاديثه وحَفظة كلِمه.

وبعد، كانت دراستنا لعلوم القرآن - سواء في الأجزاء المطبوعة من التمهيد أمْ غير المطبوعة، وهي تربو على ستّة مجلّدات - دراسة مستوعبة فيها تفصيل وتبسيط شامل، كان يتناسب والتحقيق في المسائل القرآنيَّة، شأن أيِّ موضوع ذي أهمّية بالغة، ولكنَّه كان فوق الحدّ اللازم للدراسات الرتيبة في المعاهد العلمية.

ومن ثَمَّ كنت قد قصدت من أوّل الأمر أن أُلخّصها في دروس متناسبة مع المستويات الدراسية في المعاهد، لولا أنَّ متابعة البحوث المتتالية كانت تعوقني عن إنجاز هذه المهمَّة، وفي هذا الأخير قد طلبَتْ منّي مديرية شؤون الحوزة العلميَّة بقم المقدَّسة تحقيق هذا المهمّ؛ لاستدعاء ضرورة الدراسات الطلاّبية ذلك، فوعدتهم بالإنجاز بعونه تعالى، فاغتنمت فرصة العطلة الصيفية لهذا العام (١٤٠٩هـ) في قرية (فردو - من مصايف قم)؛ لإنجاز الوعد وتحقيق تلك الأُمنية القديمة، فجاءت بحمد الله كاملة ووافية بأصول البحث وفروعه بما يشبع نَهَم المتعلّمين في شؤون القرآن الكريم، فله الشكر على هذا التوفيق، جعله الله خير رفيق.

قم المقدّسة

محمّد هادي معرفة

ذو الحجّة الحرام ١٤٠٩هـ

٥

٦

الوحي والقرآن

١ - ظاهرة الوحي.

٢ - نزول القرآن.

٣ - معرفة أسباب النزول.

٤ - كُتّابُ الوحي.

٧

٨

١ - ظاهرةُ الوحي

- الوحي في اللّغة.

- الوحي في القرآن.

- إمكان الوحي.

- الوحي عند فلاسفة الغرب.

- أنحاء الوحي الرسالي.

- موقف النبي (صلّى الله عليه وآله) من الوحي.

- النبوَّة مقرونة بدلائل نيِّرة.

- قصَّة ورقة بن نوفل.

- الوحي لا يَحتمل التباساً.

- أُسطورة الغرانيق.

٩

ظاهرةُ الوَحي

الوَحي في اللغة:

الوَحي: إعلام سريع خفيّ، سواء أكان بإيماءة أو همسة أو كتابة في سرّ، وكلّ ما ألقيته إلى غيرك في سرعة خاطفة حتى فَهِمه فهو وحيٌ، قال الشاعر:

نظرتُ إليها نظرة فتحيَّرتْ

دقائق فكري في بديع صفاتها

فأوحى إليها الطَرْف أنّي أُحبها

فأثَّر ذاك الوحي في وَجَناتها

وقال تعالى عن زكريّا (عليه السلام): ( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْـرَةً وَعَشِيّـاً ) (١) ، أي أشار إليهم على سبيل الرمز والإيماء.

قال الراغب : أصل الوحي، الإشارة السريعة، ولتضمّن السرعة قيل: أمرٌ وحِيٌّ (أي سريع)، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرّد عن التركيب، وبإشارة ببعض الجوارح، وبالكتابة (٢) .

وقال ابن فارس : و، ح، ي، أصل يدلّ على إلقاء علم في إخفاء أو غيره، والوحي: الإشارة، والوحي: الكتاب والرسالة، وكلّ ما ألقيتَه إلى غيرك حتّى

____________________

(١) مريم: ١١.

(٢) المفردات للإصبهاني: ص٥١٥.

١٠

عِلمه فهو وحي، كيف كان (١) .

ولعلَّ هذا التعميم في مفهوم الوحي - عند ابن فارس - كان في أصل وضْعه، غير أنّ الاستعمال جاء فيما كان خفيّـاً.

قال أبو إسحاق: أصل الوحي في اللغة كلّها: إعلام في خَفاء؛ ولذلك سُمّي الإلهام وحياً.

وقال ابن بري: وحى إليه وأوحى: كلَّمه بكلام يخفيه من غيره، ووحى وأوحى: أومأ، قال الشاعر:

فأوحت إلينا والأنامل رُسُلها (٢) أي: أشارت بأناملها.

الوحي في القرآن:

واستعمله القرآن في معانٍ أربعة:

١ - نفس المعنى اللُغَوي: الإيماءة الخفية، وقد مرّ في آية مريم.

٢ - تركيز غريزيّ فطريّ، وهو تكوين طبيعيّ مجعول في جِبلَّة الأشياء، استعارة من إعلام قوليّ لإعلام ذاتيّ، بجامع الخفاء في كيفية الإلقاء والتلقّي، فبما أنَّ الوحي إعلام سرّي، ناسب استعارته لكلّ شعور باطنيّ فطريّ، ومنه قوله تعالى: ( وَأَوْحَى‏ رَبّكَ إِلَى النّحْلِ أَنِ اتّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشّجَرِ وَمِمّا يَعْرِشُونَ * ثُمّ كُلِي مِن كُلّ الثّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً ) (٣) ، فهي تنتهج وفْق فطرتها، وتستوحي من باطن غريزتها، مذلَّلة لِما أُودع فيها من غريزة العمل المنتظم، ومن ثَمَّ فهي لا تحيد عن تلك السبيل.

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ( وَأَوْحَى‏ فِي كُلّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) (٤) أي: قدّر، وقد استوحى العجاج هذا المعنى من القرآن في قوله:

أوحى لها القرار فاستقرَّت

وشدَّها بالراسيات الثُبَّت (٥)

____________________

(١) معجم مقاييس اللغة: ج٦، ص٩٣.

(٢) لسان العرب لابن منظور.

(٣) النحل: ٦٨ و٦٩.

(٤) فصّلت: ١٢.

(٥) لسان العرب لابن منظور.

١١

٣ - إلهامٌ نفسيّ، وهو شعور في الباطن، يحسّ به الإنسان إحساساً يخفى عليه مصدره أحياناً، وأحياناً يُلهم أنَّه من الله، وقد يكون من غيره تعالى.

وهذا المعنى هو المعروف عند الروحيّين بظاهرة (التلباثي: التخاطر من بعيد)، وهو خطور باطنيّ آنيّ لا يُعرف مصدره، قالوا: إنَّها فكرة تنتقل من ذهن إنسان إلى آخر، والمسافة بينهما شاسعة، أو إلقاء روحي من قِبل أرواح عالية أو سافلة (١) ، وقيل: إنَّها فكرة رحمانيّة تُوحيها الملائكة، تنفثها في رَوع إنسان يريد الله هدايته، أو وسوسة شيطانية تُلقيها أبالسة الجِنّ؛ لغرض غوايته.

* * *

ومن الإلهام الرحماني قوله تعالى: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى‏ أُمّ مُوسَى‏ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنّا رَادّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (٢) .

قال الأزهري: الوحي هنا: إلقاء الله في قَلْبها، قال: وما بعد هذا يدلّ - والله أعلم - على أنّه وحي من الله على جهة الإعلام، للضمان لها ( إِنّا رَادّوهُ إِلَيْكِ ) ، وقيل: إنَّ معنى الوحي هنا: الإلهام، قال: وجائز أن يُلقي الله في قلبها أنَّه مردود إليها وأنَّه يكون مرسلاً، ولكنَّ الإعلام أبيَن في معنى الوحي هنا (٣) .

والشيخ المفيد (قدّس سرّه) أخذ الوحي هنا بمعنى الإعلام الخفيّ في كتابه (أوائل المقالات)، لكنَّه في كتابه (تصحيح الاعتقاد) جعله بمعنى رؤيا أو كلام سمعته أُمّ موسى في المنام.

وقال - بصدد إيضاح معنى الوحي -: أصل الوحي هو الكلام الخفيّ، ثُمَّ قد يُطلق على كلّ شيء قُصد به إفهام المخاطب على السرّ له عن غيره (٤) .

وأمّا التعبير بالوحي عن وسواس الشيطان وتسويله خواطر الشرّ والفساد،

____________________

(١) راجع مفصّل الإنسان روح لا جسد لرؤوف عبيد: ج١، ص٥٤٢.

(٢) القصص: ٧.

(٣) لسان العرب لابن منظور.

(٤) راجع أوائل المقالات: ص٣٩، وتصحيح الاعتقاد: ص٥٦.

١٢

فجاء في قوله تعالى: ( وَكَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى‏ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) (١) ، وقال: ( وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى‏ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ) (٢) ، ويفسّره قوله: ( مِن شَرّ الْوَسْوَاسِ الْخَنّاسِ * الّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ * مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ ) (٣) .

كما جاء التعبير عمّا يُلقيه الله إلى الملائكة من أمره؛ ليفعلوه من فورهم، بالوحي أيضاً في قوله تعالى: ( إِذْ يُوحِي رَبّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُوا الّذِينَ آمَنُوا ) (٤) .

وأمّا التعبير بالوحي عمّا يلقيه الله إلى نبيّ من أنبيائه بواسطة مَلك، أو بغير واسطة؛ لأجل تبليغ رسالة الله، فهو معنى رابع استعمله القرآن وهو موضوع بحثنا في الفصل التالي.

٤ - الوحي الرسالي، وهو معنى رابع استعمله القرآن في أكثر من سبعين موضعاً، معبِّراً عن القرآن أيضاً بأنّه وحي أُلقي على النبيّ (صلّى الله عليه وآله): ( نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ ) (٥) ، ( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنذِرَ أُمّ الْقُرَى‏ وَمَنْ حَوْلَهَا ) (٦) ، ( وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ ) (٧) .

وظاهرة الوحي بشأن رسالة الله، هي أُولى سمات الأنبياء، امتازوا بها على سائر الزعماء والمصلحين، أصحاب العبقريّات الملهَمين، ولم يكن النبيّ محمَّد (صلّى الله عليه وآله) بِدعاً من الرسل في هذا الاختصاص النبويّ، ولا أوَّل مَن خاطب الناس باسم الوحي السماوي، ومن ثَمَّ فلا عجب في هذا الاصطفاء ما دام ركْب البشريَّة - منذ بداية سيرها - لم تزل يرافقها رجال إصلاحيّون يهتفون بهذا النداء

____________________

(١) الأنعام: ١١٢.

(٢) الأنعام: ١٢١.

(٣) الناس: ٤ - ٦.

(٤) الأنفال: ١٢.

(٥) يوسف: ٣.

(٦) الشورى: ٧.

(٧) العنكبوت: ٤٥.

١٣

الروحي، ويدعون إلى الله باسم الوحي وتبليغ رسالة الله:

( أَكَانَ لِلنّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى‏ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النّاسَ وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوا أَنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنّ هذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ) (١) .

ودفعاً لهذا الاستنكار الغريب قال: ( إِنّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى‏ نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسى‏ وَأَيّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنَا دَاوُود زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلّمَ اللّهُ مُوسَى‏ تَكْلِيماً * رُسُلاً مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى‏ اللّهِ حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً * لكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى‏ بِاللّهِ شَهِيداً * إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَصَدّوا عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلّوا ضَلاَلاً بَعِيداً ) (٢) .

والوحي الرسالي لا يعدو مفهومه اللغوي بكثير، بعد أن كان إعلاماً خفياً، وهو اتّصال غيبيّ بين الله ورسوله، يتحقّق على أنحاء ثلاثة، كما جاءت في الآية الكريمة: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنّهُ عَلِيّ حَكِيمٌ ) (٣).

فالصورة الأولى: إلقاء في القلب ونفْثٌ في الرَوع.

والثانية: تكليم من وراء حجاب، بخلْق الصوت في الهواء بما يقرع مسامع النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، ولا يرى شخص المتكلّم.

والثالثة: إرسال مَلك الوحي فيبلّغه إلى النبي، إمّا عياناً يراه، أو لا يراه ولكن يستمع إلى رسالته.

إذاً فالفارق بين الوحي الرسالي وسائر الإيحاءات المعروفة، هو جانب مصدره الغيبي اتّصالاً بما وراء المادَّة، فهو إيحاءٌ من عالَمٍ فوق، الأمر الذي دعا بأولئك الذين لا يروقهم الاعتراف بما سوى هذا الإحساس المادّي، أن يجعلوا

____________________

(١) يونس: ٢.

(٢) النساء: ١٦٣ - ١٦٧.

(٣) الشورى: ٥١.

١٤

من الوحي الرسالي سبيله إلى الإنكار، أو تأويله إلى وجدان باطني ينتشئ من عبقريَّة واجدِه، وسنبحث عن ذلك في فصل قادم.

إمكان الوحي:

قد يتشبّث البعض - ذريعة لإنكار النبوّات - بتباعد ما بين العالَم العُلوي والعالَم السُفلي، ذاك متشعشع روحيّ لطيـف، وهذا متكدّر مادّي كثيف، وإذ لا واسطة بين الجانبين، فلا عُلقة تربط أحد العالَمَين بالآخر.

هذه شبهة مَن يرى من عالم الدنيا مادّياً محضاً، لا تناسُب بينه وبين عالَم الملَكوت الأعلى.

لكن إذا ما عرفنا من هذا الإنسان وجوداً برزخياً ذا جانبين - هو من أحدهما جسمانيّ كثيف، وفيه خصائص المادَّة السفلى، ومن جانبه الآخر روحاني لطيف، وهو ملَكوتي رفيع - لم يكن موقع لهذه الشبهة رأساً.

الإنسان وراء شخصيَّته هذه الظاهرة شخصيَّة أخرى باطنة، هي التي تؤهِّله - أحياناً - للارتباط مع عالم روحاني أعلى، إذ كان مبدأه منه، وإليه منتهاه: ( إِنّا للّهِ‏ِ وإِنّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ ) (١) ، هذا هو واقع الإنسان الحقيقي ذو التركيب المزدوج من روح وجسم، ومن ثَمَّ فهو برزخ بين عالَمي المادّة وما وراء المادَّة، فمن جهة هو مرتبط بالسماء، ومن أخرى مستوثق بالأرض، قال تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِن طِينٍ * ثُمّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مّكِينٍ * ثُمّ خَلَقْنَا النّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ) ، إلى هنا تكتمل خِلقة الإنسان الماديّة، ثمَّ يقول: ( ثُمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (٢) .

وهذا الخلْق الآخر هو وجود الإنسان الروحي، وهو وجوده الأصيل الذي

____________________

(١) البقرة: ١٥٦.

(٢) المؤمنون: ١٢ - ١٤.

١٥

أشارت إليه آية أخرى: ( وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ * ثُمّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِن مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ ) (١) .

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ الله خلقَ خلْقاً وخلَق روحاً، ثمَّ أمر مَلكاً فنفخ فيه...) (٢) .

فهذا هو الإنسان، مخلوق متركّب من جسم هو مادّي، وروح هو لا مادّي، فبوجوده المادّي خَلْق، وبوجوده اللامادّي خَلقٌ آخر، وبوجوده هذا الآخَر يستأهل الاتّصال بالملأ الأعلى، لا بوجوده ذاك المادّي الكثيف.

* * *

نعم، جاءت فكرة إنكار الوحي نتيجةً للنظرة المادّية البحتة إلى هذا الإنسان، وهي نظرة قاصرة بشأن الإنسان، سادت أوروبا في عصر نشوء الفكرة الماديّة عن الحياة، والتي جعلت تتقدَّم وتتوسَّع كلَّما تقدَّمت العلوم الصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وأخذت المقاييس المعنويَّة في الحياة تتدهور تراجعاً إلى الوراء، وكادت الموجة تطبّق العالم أجمع، لولا أن انتهضت الفكرة الروحية في أمريكا ومنها سرت إلى أوروبا كلّها، فجعلت مسألة الوحي تَحيى من جديد.

قال الأستاذ وجدي: كان الغربيّون - إلى القرن السادس عشر - كجميع الأمم المتديّنة يقولون بالوحي، وكانت كتُبهم مشحونة بأخبار الأنبياء، فلمَّا جاء العلم الجديد بشكوكه وماديّاته، ذهبت الفلسفة الغربية إلى أنّ مسألة الوحي هي من بقايا الخرافات القديمة، وتغالَت حتّى أنكرت الخالق والروح معاً، وعلَّلت ما ورد عن الوحي في الكتب القديمة بأنّه: إمّا اختلاق من المتنبّئة أنفسهم لجذْب الناس إليهم وتسخيرهم لمشيئتهم، وإمّا هذَيان مَرَضي يعتري بعض العصبيين، فيُخيَّل إليهم يرون أشباحاً تكلّمهم، وهُم لا يرون في الواقع شيئاً.

____________________

(١) السجدة: ٧ - ٩.

(٢) بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي: ج٦١، ص٣٢.

١٦

راج هذا التعليل في العالم الغربي، حتّى صار مذهب العِلم الرسمي.

فلمّا ظهرت آية الروح في أمريكا سنة ١٨٤٦م، وسرَت منها إلى أوروبا كلّها، وأثبت الناس بدليل محسوس وجود عالَم روحاني آهِل بالعقول الكبيرة والأفكار الثاقبة، تغيّر وجه النظر في المسائل الروحانية، وحيِيَت مسألة الوحي بعد أن كانت في عِداد الأضاليل القديمة، وأعاد العلماء البحث فيها على قاعدة العلم التجريبيّ المقرَّر، لا على أسلوب التقليد الديني، ولا من طريق الضرب في مهامّ الخيالات، فتأدَّوا إلى نتائج، وإن كانت غير ما قرّره علماء الدين الإسلامي، إلاّ أنّها خطوة كبيرة في سبيل إثبات أمر عظيم كان قد أُحيل إلى عالَم الأمور الخرافية (١) .

خلاصة الكلام: إنَّ الإنسان يملك في وجوده جانبَين: هو من أحدهما جسماني ، ومن الآخر روحاني ، فلا غَروَ أن يتَّصل أحياناً بعالَم وراء المادَّة، ويكون هذا الاتّصال مرتبطاً بجانبه الروحي الباطن، وهو اتّصال خفيّ، الأمر الذي يشكّل ظاهرة الوحي.

الوحي ظاهرة روحيَّة قد توجد في آحاد من الناس، يمتازون بخصائص روحيَّة تؤهّلهم للاتّصال بالمَلأ الأعلى، إمّا مكاشفةً في باطن النفس أو قرْعاً على مسامع، يحسّ به الموحى إليه إحساساً مفاجئاً يأتيه من خارج وجوده، وليس منبعثاً من داخل الضمير، ومن ثمَّ لا يكون الوحي ظاهرة فكرية تقوم بها نفوس العباقرة - كما يزعمه ناكروا الوحي - كلاّ، بل إلقاء روحانّي صادر من محلٍّ أرفع إلى مهبطٍ صالحٍ أمين.

قال تعالى: ( أَكَانَ لِلنّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى‏ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النّاسَ ) (٢) .

نعم، شيء واحد لا نستطيع إدراكه، وإن كنّا نعتبره واقعاً حقّاً، ونؤمن به إيماناً

____________________

(١) دائرة معارف القرن العشرين لمحمّد فريد وجدي: ج١٠، ص٧١٣.

(٢) يونس: ٢.

١٧

صادقاً، وهو: كيف يقع هذا الاتّصال الروحي؟ هذا شيء يخفى علينا إذا كنّا نحاول إدراكه بأحاسيسنا المادّية، أو نريد التعبير عنه بمقاييسنا اللفظية الكلامية، إنَّها ألفاظ وُضِعت لمفاهيم لا تعدو الحسّ أو لا تكاد، وكلّ ما باستطاعتنا إنَّما هو التعبير عنه على نحو التشبيه والاستعارة، أو المجاز والكناية لا أكثر، فهو ممّا يُدرك ولا يوصف.

فالوحي ظاهرة روحية يدركها مَن يصلُح لها، ولا يستطيع غيره أن يصِفها وصفاً بالكُنه، ما عدا التعبير عنها بالآثار والعوارض هذا فحسب.

الوحي عند فلاسفة الغرب:

أشرنا فيما سبَق أنّ فلاسفة أوروبا - بعد أن عادوا إلى الاعتراف بوجود شخصيّة باطنة للإنسان تسمّى بالروح، وعلموا أنَّها هي التي كوَّنت جسمه في الرحِم، وهي التي تُحرِّك جميع عضلاته وأعضائه التي ليست تحت إرادته: كالكبـد، والقلب، والمعدة، وغيرها، فهو إنسان بها لا بهذه الشخصية العادية - عادوا يعترفون أيضاً بالوحي، الوحي الذي يدَّعيه الأنبياء مِلأ كتبهم النازلة المنسوبة إلى السماء.

ولكن فسَّروه تفسيراً يختلف عمّا قرَّره علماء الدين الإسلامي، على ما سبق تعريفه بأنَّه: إلقاء من خارج الوجود إمّا قذفاً في قلْب، أو قرعاً في سمْع.

قالوا: الوحي عبارة عن إلهامات روحية تنبعث من داخل الوجود، أي الروح الواعية هي التي تعطينا تلكم الإلهامات الطيّبة الفُجائية في ظروفٍ حرِجة، وهي التي تنفُث في رَوع الأنبياء ما يعتبرونه وحياً من الله، وقد تظهر نفس تلك الروح المتقبّعة وراء جسمهم، متجسّدة خارجاً، فيحسبونها من ملائكة الله هبطت عليهم من السماء، وما هي إلاّ تجلّي شخصيّتهم الباطنة، فتُعلّمهم ما لم يكونوا يعلمونه من قبْل، وتهديهم إلى خير الطُرق؛ لهداية أنفسهم وترقية أمّتهم، وليس بنزول مَلك من السماء ليلقي عليهم كلاماً من عند الله.

هذا ما يراه العلم الأوروبي التجريبي الحديث في مسألة الوحي.

١٨

ودليلهم على ذلك: أنَّ الله أجلّ وأعلى من أن يقابله بشَر أو يتَّصل به مخلوق، وأنَّ الملائكة مهما قيل في روحانيّتهم وتجرّدهم عن المادَّة، فلا يعقل أنَّهم يقابلون الله أو يستمعون إلى كلامه؛ لأنَّ هذا كلَّه يقتضي تحيّزاً في جانبه تعالى، ويستدعي عدم التنزيه المطلق اللائق بشأنه جلَّ شأنه؛ ولأنَّ الملائكة مهما ارتقَوا فلا يكونون أعلى من الروح الإنساني التي هي من روح الله نفسه، فمثَلهم ومثَلها سواء.

وبهذه النظرية حاولوا حلّ ما عسى أن يصادفوه في بعض الكتب السماوية، من أنواع المعارف المناقضة للعلم الصحيح طبيعياً وإلهياً، فهم لا يقولون بأنَّ تلك الكتب قد حرِّفت عن أصلها الصحيح النازل من عند الله، ولكنَّهم يقولون بأنَّ الشخصية الباطنة لكلّ رسول إنّما تؤتي صاحبها بالمعلومات على قدَر درجة تجلّيها وعبقريَّتها، وعلى قدر استعداده لقبول آثارها، ومن ثمَّ قد تختلط معارفها العالية بمعارف باطلة آتية من قِبل شخصيَّته العادية، فيقع في الوحي خلْطٌ كثير بين الغثّ والسمين، فترى بجانب الأصول العالية التي لم يعرفها البشر إلى ذلك الحين، أصولاً أخرى عامّية اصطلح عليها الناس إلى ذلك الزمان (١) .

* * *

وبعد، فإذا ما أخضعَتْهم الحقيقة العلمية على طريقة تجريبيَّة قاطعة، بأنَّ وجود الإنسان الحقيقي هو شخصيَّته الثانية القابعة وراء هذا الجسد، وأنَّه يبقى خالداً بعد فناء الجسد، فما عساهم امتنعوا من الاعتراف بحقيقة الوحي كما هي عند المسلمين!؟ لا شكَّ أنّ ما وصلوا إليه خطوة كبيرة نحو الواقعية، لا نزال نقدِّرها تقديراً علمياً، لكنَّها بلا موجب توقَّفت أثناء المسير ودون أن تنتهي إلى الشوط الأخير.

إنَّ منار العلم وضوء الحقيقة قد هَدَياهم إلى الدرب اللائح، وكادوا يلمسون

____________________

(١) راجع دائرة معارف القرن العشرين: ج١٠، ص٧١٥ فيما نقله عن العلاّمة (ميرس - Myers ) من كتابه (الشخصية الإنسانية)، ص٧٧ فما بعد.

١٩

الحقيقة مكشوفة بعيان، فوجدوا وراء هذا العالم عالَماً آخر مليئاً بالعقول، ووجدوا من واقع الإنسان شخصيةً أخرى وراء شخصيَّته الظاهرة، فهاتان مقدّمتان أذعنوا لهما، وقد أشرفتا بهم على الاستنتاج الصحيح، وصاروا منه قاب قوسين أو أدنى، لكنَّهم بلا موجب توقّفوا، وأنكروا حقيقة كانوا على وَشَك لمْسها.

فعلى ضوء هاتين المقدَّمتين، لا مبرّر لعدم فهْم حقيقة اتّصال روحيّ خفيّ يتحقَّق بين مَلأ أعلى وجانب روحانيّة هذا الإنسان، فيتلقّى بروحه إفاضات تأتيه من ملَكوت السماء، وإشراقات نورية تشعّ على نفسه من عالَم وراء هذا العالم المادّي، وليس اتّصالاً أو تقارباً مكانيّاً؛ لكي يستلزم تحيّزاً في جانبه تعالى. وأظنّهم قاسُوا من أمور ذاك العالم غير المادّي بمقاييس تخصّ العالم المادّي، مع العلم أنّ الألفاظ هي التي تكون قاصرة عن أداء الواقع، وأنَّ التعبير بنزول الوحي أو المَلَك تعبير مجازي، وليس سوى إشراق وإفاضة قدسية ملَكوتية يجدها النبيّ (صلّى الله عليه وآله) حاضرة نفسه، مُلقاة عليه من خارج روحه الكريمة، وليست منبعثة من داخل كيانه هو.

هذا هو حقيقة الوحي الذي نعترف به، من غير أن يقتضي تحيّزاً في ذاته تعالى.

أمّا التعليل الذي يعلّلون به ظاهرة الوحي، فهو في واقعِه إنكار للوحي وتكذيب ملتوٍ للأنبياء بصورة عامّة، كما هم فسَّروا معجزة إبراء الأكمَه والأبرص بظاهرة الهبنو توزم (المغناطيسية الحيوانية)، فجعلوا من المسيح (عليه السلام) إنساناً مشعوذاً - حاشاه - يَستغلّ من عقول البسطاء مجالاً متّسعاً لترويج دعوته، بأساليب خدّاعة ينسبها إلى البارئ تعالى!.

ونحن نقدّس ساحة الأنبياء من أيّ مراوغة أو احتيال مسلَكي، وحاشاهم من ذلك، وما هي إلاّ واقعية بنَوا عليها دعوتهم الإصلاحية العامّة، واقعية يعترف بها العلم سواء في مراحله القديمة أو الجديدة الحاضرة، إذاً لا مبرّر لتأويل ما جاء في كتب الأنبياء من ظاهرة الوحي، اتّصالاً حقيقيّاً بمبدءٍ أعلى.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

(٥)

بعثته ونزول الوحي إليه

«بَعَثَ اللهُ سُبْحانَهُ نَبِيَّهُ الأَكْرَم عَلَى حِينِ فَتَرةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَطُولِ هَجعَةٍ مِنَ الاُمَمِ، وَاعْتِزَام مِنَ الفِتَنِ وَانتِشَارٍ مِنَ الأُمُورِ، وَتَلَظٍّ مِنَ الحُروبِ، والدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ، ظَاهِرةُ الغُرورِ، عَلى حِينِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا، وإياسٍ مِن ثَمرِهَا، وَاغوِرَار مِنْ مَائِهَا، قَدْ دَرَسَتْ مَنَار الهُدى، وَظَهَرتْ اَعلامُ الرَّدى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لأَهْلِهَا، عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبَها، ثَمَرُهَا الفِتْنَةُ، وَطَعَامُهَا الجِيفَةُ، وَشِعارُهَا الخَوْفُ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ » (١) .

بعث على رأس الأربعين من عمره، وبُشّر بالنبوّة والرسالة، وأمّا الشهر الذي بعث فيه، ففيه أقوال وآراء، فالشيعة الإمامية تبعاً لأئمّة أهل البيت: على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث في سبع وعشرين من رجب.

روى الكليني عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال: لا تدع صيام يوم سبع وعشرين من رجب فإنّه اليوم الذي نزلت فيه النبوّة على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

وروى أيضاً عن الإمام الكاظمعليه‌السلام أنّه قال: بعث الله عزّ وجلّ محمّداً رحمة للعالمين في سبع وعشرين من رجب(٣) .

روى المفيد عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: في اليوم السابع والعشرين من رحب نزلت النبوّة على رسول الله، إلى غير ذلك من الروايات(٤) .

وأمّا غيرهم فمن قائل بأنّه بعث في سبعة عشر من شهر رمضان أو ثمانية عشر أو أربع وعشرين من هذا الشهر أو في الثاني عشر من ربيع الأوّل.

__________________

(١) إقتباس من كلام الإمام أمير المؤمنين في نهج البلاغة الخطبة ٨٥، طبعة عبده.

(٢) و (٣) البحار: ج ١٨ ص ١٨٩ ـ نقلاً عن الكافي وأمالي ابن الشيخ.

(٤) البحار: ج ١٨ ص ١٨٩ ـ نقلاً عن الكافي وأمالي ابن الشيخ.

١٠١

وبما أنّ أهل البيت أدرى بما في البيت، كيف وهم نجوم الهدى ومصابيح الدجى وأحد الثقلين الذين تركهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعده، فيجب علينا الوقوف دون نظرهم ولا نجتازه، نعم دلّ الذكر الحكيم على أنّ القرآن نزل في شهر رمضان قال سبحانه:( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) ( البقرة / ١٨٥ ).

وقال سبحانه:( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ( القدر / ١ ).

وقال سبحانه:( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) ( الدخان / ٣ ).

إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على نزوله في شهر رمضان.

والإستدلال بهذه الآيات على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث في شهر رمضان مبني على إقتران البشارة بالنبوّة، بنزول القرآن وهو بعد غير ثابت، فلو قلنا بالتفكيك وأنّه بعث في شهر رجب، وبشّر بالنبوّة فيه، ونزل القرآن في شهر رمضان، لما كان هناك منافاة بين بعثته في رجب، ونزول القرآن في شهر رمضان.

ويؤيّد ذلك أي عدم اقتران النبوّة بنزول القرآن ما نقله غير واحد عن عائشة: إنّ أوّل ما بدء به رسول الله من النبوّة حين أراد الله كرامته، الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رؤيا في نومه إلّا جاءت كفلق الصبح، قالت: وحبّب الله تعالى إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحبّ إليه من أن يخلو وحده(١) .

لكن الظاهر من ذيل ما روته عائشة أنّ النبوّة كانت مقترنة بنزول الوحي والقرآن الكريم، ولنذكر نص الحديث بتمامه ثمّ نذيّله ببيان بعض الملاحظات حوله.روى البخاري: « كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يخلو بغار حراء، فيتحنّث فيه وهو التعبّد في الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاء الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد ثمّ أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ منّي الجهد ثمّ أرسلني

__________________

(١) صحيح البخاري: ج ١ ص ٣، السيرة النبوية: ج ١ ص ٣٣٤.

١٠٢

فقال: إقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثالثة ثمّ أرسلني، فقال:( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) (١) .

وفي هذه الرواية تأمّلات واضحة:

١ ـ ما هو المبرّر لجبرئيل أن يروّع النبي الأعظم، وأن يؤذيه بالعصر إلى حدٍّ أنّه يظن انّه الموت ؟ يفعل به ذلك وهو يراه عاجزاً عن القيام بما يأمره به، ولا يرحمه ولا يلين معه ؟

٢ ـ لماذا يفعل ذلك ثلاث مرات لا أكثر ولا أقل ؟

٣ ـ لماذا صدّقه في الثالثة، لا في المرّة الاُولى ولا الثانية مع أنّه يعلم أنّ النبي لا يكذب ؟

٤ ـ هل السند الذي روى به البخاري قابل للإحتجاج مع أنّ فيه الزهري وعروة.

أمّا الزهري فهو الذي عرف بعمالته للحكام، وإرتزاقه من موائدهم، وكان كاتباً لهشام بن عبد الملك ومعلّماً لأولاده، وجلس هو وعروة في مسجد المدينة فنالا من عليٍّ، فبلغ ذلك السجادعليه‌السلام حتى وقف عليهما فقال: أمّا أنت يا عروة فإنّ أبي حاكم أباك، فحُكِم لأبي على أبيك، وأمّا أنت يا زهري فلو كنت أنا وأنت بمكّة لأريتك كن أبيك(٢) .

أمّا عروة بن الزبير الذي حكم عليه ابن عمر بالنفاق وعدّه الاسكافي من التابعيين الذين يضعون أخباراً قبيحة في عليّعليه‌السلام (٣) .

نعم رواه ابن هشام والطبري في تفسيره وتاريخه(٤) بسند آخر ينتهي إلى

__________________

(١) صحيح البخاري: ج ١ ص ٣.

(٢) أي بيت أبيك.

(٣) الصحيح من سيرة النبي الأعظم: ص ٢٢٣.

(٤) السيرة النبوية: ج ١ ص ٢٣٥، تفسير الطبري: ج ٣٠ ص ١٦٢، وتاريخه: ج ٣ ص ٣٥٣.

١٠٣

أشخاص يستبعد سماعهم الحديث عن نفس الرسول الأكرم ودونك أسماؤهم:

١ ـ عبيد بن عمير، ترجمه ابن الاثير، قال: ذكر البخاري أنّه رأى النبي وذكر مسلم أنّه ولد على عهد النبي وهو معدود من كبار التابعين يروي عن عمر وغيره(١) .

٢ ـ عبد الله بن شداد، ترجمه ابن الأثير وقال: ولد على عهد النبي، روى عن أبيه وعن عمر وعليّ(٢) .

٣ ـ عائشة، زوجة النبي، حيث تفرّدت بنقل هذا الحديث ومن المستبعد جداً أن لا يحدّث النبي هذا الحديث غيرها مع تلهف غيرها إلى سماع أمثال هذا الحديث.

نعم ورد مضمون الحديث في تفسير الإمام العسكريعليه‌السلام ونقله من أعلام الطائفة ابن شهر آشوب في مناقبه(٣) أو المجلسي في بحاره(٤) .

لكن الكلام في صحّة نسبة التفسير الموجود إلى الإمام العسكريعليه‌السلام وأمّا المناقب فإنّه يورد الأحاديث والتواريخ مرسلة لا مسندة، والمجلسي اعتمد على هذه المصادر التي عرفت حالها.

وبذلك يظهر أنّه لا دليل على أنّ البشارة بالنبوّة كانت مقترنة بنزول القرآن، وبذلك ينسجم نزول القرآن في شهر رمضان مع كون البعثة في شهر رجب، نعم أورد العلّامة الطباطبائي على هذه النظرية بقوله: إذا بعث النبي في اليوم الثاني والعشرين من شهر رجب وبينه وبين شهر رمضان أكثر من ثلاثين يوماً فكيف تخلو البعثة في هذه المدّة من نزول القرآن ؟ على أنّ سورة العلق أوّل سورة نزلت على رسول الله وأنّها

__________________

(١) اُسد الغابة: ج ٣ ص ٣٥٣.

(٢) نفس المصدر: ج ٤ ص ١٨٣.

(٣) مناقب آل أبي طالب: ج ١ ص ٤٠ ـ ٤٤.

(٤) بحار الأنوار: ج ١٨ ص ١٩٦.

١٠٤

نزلت بمصاحبة البعثة(١) .

يلاحظ على ما ذكر:

١ ـ انّ الوجه الأوّل من كلامه مجرّد استبعاد، فأيّ إشكال في أن يكون النبي قد بشّر بالنبوّة ونزِّل القرآن بعد شهر وبضعة أيام.

٢ ـ وأمّا الوجه الثاني فلأنّ الروايات نطقت بأنّها أوّل سورة نزلت وليس فيها ما يدلّ على اقتران نزولها بأوّل عهد البعثة.

سؤال وإجابة:

إذا كان القرآن نازلاً في شهر رمضان فإنّ معناه أنّ مجموعه نزل في هذا الشهر مع أنّه نزل قرابة مدّة ثلاثة وعشرين سنة فكيف التوفيق بين هذين الأمرين ؟

وأمّا الإجابة فقد اُجيب عنه بأجوبة نذكرها واحداً تلو الآخر.

الأوّل: إنّ للقرآن نزولين: نزول دفعي وقد عبّر عنه بلفظ الإنزال الدال على الدفعة، ونزول تدريجي وهو الذي يعبّر عنه بالتنزيل. قال سبحانه:( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) ( هود / ١ ) فإنّ هذا الإحكام في مقابل التفصيل، والتفصيل هو جعله فصلاً فصلاً، وقطعة قطعة، والإحكام كونه على وجه لا يتفصّل فيه جزء من جزء ولا يتميّز بعض من بعض، لرجوعه إلى معنى واحد، لا أجزاء ولا فصول فيه، فعلى ذلك فالقرآن نزل دفعة واحدة على قلب النبي الأعظم، ثمّ صار ينزل تدريجياً حسب المناسبات والوقائع والأحداث(٢) .

وعلى ذلك فلا مانع من نزول جميع القرآن في شهر رمضان نزولاً دفعياً، ثمّ نزوله نحو ما في بضعة وعشرين سنة.

__________________

(١) تفسير الميزان: ج ٢ ص ١٣.

(٢) الميزان: ج ٢ ص ١٤ ـ ١٦.

١٠٥

ويلاحظ عليه: أنّ ما ذكره مبني على الفرق بين « الإنزال » و « التنزيل »، وأنّ الأوّل عبارة عن النزول الدفعي، والثاني عن النزول التدريجي مع أنّه لا دليل عليه، فإنّ الثاني أيضاً استعمل في النزول الدفعي. قال تعالى حاكياً عن المشركين:( وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ) ( الاسراء / ٩٣ ).

وقال تعالى:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) ( الفرقان / ٣٢ ) فلو كان التنزيل هو النزول التدريجي فلماذا وصفه بقوله: « جملة واحدة ».

الثاني: إنّ القرآن نزل دفعة واحدة إلى البيت المعمور حسب ما نطقت به الروايات الكثيرة ثمّ صار ينزل تدريجياً على الرسول الأعظم.

روى حفص بن غياث عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال سألته عن قول الله عزّ وجلّ:( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) وإنّما اُنزل في عشرين بين أوّله وآخره، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام « نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثمّ نزل في طول عشرين سنة »(١) .

ولو صحّت الرواية يجب التعبّد بها، وإلّا فما معنى نزول القرآن الذي هو هدى للناس إلى البيت المعمور، وأيّ صلة بهذا النزول بهداية الناس الذي يتكلّم عنه القرآن ويقول:( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ) ؟

قال الشيخ المفيد:

« الذي ذهب إليه أبو جعفر(٢) حديث واحد لا يوجب علماً ولا عملاً ونزول

__________________

(١) البرهان في تفسير القرآن: ج ١ ص ١٨٢، والدر المنثور: ج ٦ ص ٣٧٠.

(٢) مراده الصدوق، وقد ذهب إلى أنّ القرآن قد نزل في شهر رمضان في ليلة القدر جملة واحدة إلى البيت المعمور، ثمّ انزل من البيت المعمور في مدة عشرين سنة.

١٠٦

القرآن على الأسباب الحادثة حالاً لا يدلّ على خلاف ما تضمّنه الحديث، وذلك أنّه قد تضمّن حكم ما حدث، وذكر ما جرى على وجهه، وذلك لا يكون على الحقيقة إلّا لحدوثه عند السبب، الخ.

ثمّ استعرض آيات كثيرة نزلت لحوادث متجددة(١) .

الثالث: إنّ القرآن يطلق على الكلّ والجزء، فمن الممكن أن يكون المراد بنزول القرآن في شهر رمضان هو شروع نزوله في ليلة مباركة وهي ليلة القدر، فكما يصحّ نسبة النزول إليه في شهر رمضان إذا نزل جملة واحدة، تصحّ نسبتة إليه إذا نزل أوّل جزء منه في شهر رمضان واستمرّ نزوله في الأشهر القادمة طيلة حياة النبي.

فيقال: نزل القرآن في شهر رمضان أي بدأ نزوله في هذا الشهر، وله نظائر في العرف، فلو بدأ فيضان الماء في المسيل يقال جرى السيل في يوم كذا وإن استمرّ جريانه وفيضانه عدّة أيام.

وهذا هو الظاهر من صاحب « المنار » حيث يقول: وأمّا معنى إنزال القرآن في رمضان مع أنّ المعروف باليقين أنّ القرآن نزل منجّماً في مدّة البعثة كلّها، فهو أنّ إبتداء نزوله كان في رمضان، ذلك في ليلة منه سمّيت ليلة القدر أي الشرف، والليلة المباركة كما في آيات اُخرى. وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه، على أنّ لفظ القرآن يطلق على هذا الكتاب كلّه ويطلق على بعضه.

الرابع: إنّ جملة القرآن وإن لم تنزل في تلك الليلة، لكن لـمّا نزلت سورة الحمد بها وهي تشتمل على جلِّ معارف القرآن، فكأنّ القرآن اُنزل فيه جميعاً فصحّ أن يقال: إنّا اَنزلناه في ليلة القدر.

يلاحظ عليه: أنّه لو كانت سورة الحمد أوّل سورة نزلت على رسول الله لكان حق الكلام أن يقال: قل بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، أو يقال:

__________________

(١) تصحيح الإعتقاد: ص ٥٨.

١٠٧

بسم الله الرحمن الرحيم، قل: الحمد لله ربّ العالمين(١) .

وهذا يعرب عن أنّ سورة الحمد ليست أوّل سورة نزلت على النبي.

هذه هي الوجوه التي ذكرها المفسّرون المحقّقون والثالث هو الأقوى.

أوّل ما نزل على رسول الله:

ذكر أكثر المفسّرين أنّ أوّل سورة نزلت على رسول الله هي سورة العلق، وتدل عليه روايات أئمّة أهل البيت. روى الكليني عن الصادقعليه‌السلام قال: أوّل ما نزل على رسول الله( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) وآخر سورة هو قوله:( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ) ومثله عن الإمام الرضاعليه‌السلام (٢) .

ولعلّ المراد نزول آيات خمس من أوّلها لا جميع السورة.

لأنّ قوله سبحانه في نفس تلك السورة:( أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ *عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ ) لا يناسب أن تكون أوّل ما نزل، بل هو حاك عن وجود تشريع للصلاة، ووجود من يقيمها حتّى واجه نهي بعض المشركين، وهذا لا يتّفق مع كونه أوّل ما نزل.

أساطير وخرافات

دلّت الأدلة العقلية والآيات القرآنية على أنّ الأنبياء مصونون عن الخطأ والإشتباه في تلقّي الوحي أوّلاً، وضبطه ثانياً، وإبلاغه ثالثاً وأنّهم لا يشكّون فيما يلقى في روعهم من أنّه ربّ العالمين وأنّ ما يعاينونه رسول إله العالمين، والكلام كلامه، لا يشكّون في ذلك طرفة عين ولا يتردّدون بل يتلقّونه بنفس مطمئنة.

__________________

(١) الميزان: ج ٢ ص ٢١ ـ ٢٢.

(٢) البرهان في تفسير القرآن: ج ١ المقدّمة الباب الخامس عشر ص ٢٩، وتاريخ القرآن للزنجاني: ص ٣٠.

١٠٨

هذا هو القرآن الكريم يذكر كيفيّة بدء نزول الوحي إلى موسى وأنّه تلقّاه بلا تردّد ولا تريّث. بذكره في سور مختلفة:

يقول:( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ *إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى *وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ *إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلَٰهَ إلّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي *إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ *اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ *قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي *وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي *وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي *يَفْقَهُوا قَوْلِي *وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي *هَارُونَ أَخِي *اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي *وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي *كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا *وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا *إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا ) ( طه / ١١ ـ ٣٥ ).

ترى أنّ الكليم عندما فُوجئ بنزول الوحي، تلقّاه بصدر رحب، ولم يتردّد في أنّه وحيه سبحانه وأمره، ولذلك سأل سبحانه أن يشرح له صدره، وييسر له أمره، ويحلّ العقدة التي في لسانه، ويجعل له وزيراً من أهله، يشدّ به أزره ويشركه في أمره.

يقول سبحانه:( فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *يَا مُوسَىٰ إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( النحل / ٨ ـ ٩ ).

وجاءت هذه القصة في سورة القصص على وفق ما وردت في السورتين(١) .

ومن لاحظ هذه الآيات يقف على أنّ موقف الأنبياء من الوحي هو موقف الإنسان المتيقّن المطمئنّ إليه، وهذه خاصّة تعمّ جميع الأنبياء:

نرى أنّه سبحانه يذكر رؤية النبي الأكرم، ومواجهته لمعلّمه الذي وصفه القرآن بـ « شديد القوى ».

يقول:( إِنْ هُوَ إلّا وَحْيٌ يُوحَىٰ *عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ *ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ *وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَىٰ *ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ *فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ

__________________

(١) القصص: ٢٩ ـ ٣٥.

١٠٩

مَا أَوْحَىٰ *مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ *أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ ) ( النجم / ٤ ـ ١٢ ).

فأي كلمة أصرح في توصيف إيمان النبي واذعانه في مجال الوحي ومواجهة أمينه من قوله سبحانه:( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ) أي صدق القلب عمل العين. ويحتمل أن يكون المراد، ما رآه الفؤاد.

قال العلّامة الطباطبائي:

فالمراد بالفؤاد، فؤاد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وضمير الفاعل في « ما رأى » راجع إلى الفؤاد، والرؤيا رؤيته ولابدع في نسبة الرؤية وهي مشاهدة العيان إلى الفؤاد، فإنّ للإنسان نوعاً من الإدراك الشهودي وراء الإدراك بإحدى الحواسّ الظاهرة، والتخيّل والتفكّر بالقوى الباطنة كما أنّنا نشاهد من أنفسنا أنّنا نرى وليست هذه المشاهدة العيانية رؤية بالبصر ولا معلوماً بالفكر، وكذا نرى من أنفسنا أنّنا نسمع ونشمّ ونذوق ونلمس، ونشاهد أنّنا نتخيّل ونتفكّر، وليست هذه الرؤية ببصر أو بشيء من الحواسّ الظاهرة أو الباطنة(١) .

فالله سبحانه يؤيّد صدق النبي فيما يدّعيه من الوحي ورؤية آيات الله الكبرى، سواء كانت بالعين أو بالفؤاد.

وعلى كل تقدير فهذه الآيات وغيرها تدلّ على أنّ الأنبياء وغيرهم لا يشكّون ولا يتردّدون فيما يواجهون من الاُمور الغيبيّة.

وعلى ضوء ذلك تقف على أنّ ما ملأ كتب السيرة وبعض التفاسير في مجال بدء الوحي وأنّه تردّد النبي وشكّ عندما بشّر بالنبوّة وشاهد ملك الوحي وامتلأ روعاً وخوفاً إلى حدّ حاول أن يلقي نفسه من شاهق، وعاد إلى البيت فكلّم زوجته فيما واجهه، وعادت زوجته تسلّيه وتقنعه بأنّه رسول ربّ العالمين، وأنّ ما رآه ليس إلّا أمراً حقّاً.

إذ كل ذلك أساطير وخرافات، تناقض البراهين العقليّة وما يتلقّاه الإنسان

__________________

(١) الميزان: ج ١٩ ص ٣٠.

١١٠

من قصص الأنبياء الواردة في القرآن الكريم، وقد دسّها الأحبار والرهبان وسماسرة الحديث والقصّاصون في كتب القصص والسير والحديث، ونحن نكتفي في المقام بما ذكره البخاري في صحيحه وابن هشام في سيرته، فإنّ استقصاء كل ما ورد حول هذا الموضوع من الروايات المدسوسة يدفع بنا إلى تأليف رسالة مفردة، ولكن فيما ذكرنا غنىً وكفاية. قال البخاري:

( بعد ذكر نزول أمين الوحي عليه في جبل حراء ) « فرجع بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد ( رضي الله عنها ) فقال: زمّلوني زمّلوني، فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة ـ واخبرها الخبر ـ لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلاّ والله ما يخزيك الله أبداً إنّك لتصل الرحم، وتحمل الكل وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقّ، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ابن عمّ خديجة، وكان أمرئً تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة يا ابن عمّ اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعاً ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمخرجي هم ؟ قال: نعم، لم يأتِ رجل قطّ بمثل ما جئت به إلّا عودي، وان يدركني يومك، أنصرك نصراً مؤزّراً ثمّ لم ينشب(١) ورقة أن توفّي وفتر الوحي »(٢) .

هذا ما لدى البخاري، وأمّا صاحب السيرة النبوية فبعدما ذكر مسألة الغتّ ينقل عن النبي أنّه قال:

« فخرجت حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول:

__________________

(١) أي لم يلبث.

(٢) صحيح البخاري: ج ١ ص ٣.

١١١

يا محمّد، أنت رسول الله وأنا جبرئيل، قال: فوقفت أنظر إليه، فما أتقدّم وما أتأخّر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، قال: فلا أنظر في ناحية منها إلّا رأيته كذلك، فما زلت واقفاً، ما أتقدّم أمامي، وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا على مكّة ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك، ثمّ انصرف عنّي وانصرفت راجعاً إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها، فقالت: يا أبا القاسم، أين كنت ؟ فو الله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكّة ورجعوا إليّ، ثمّ حدّثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشر يا ابن عمّ واثبت، فو الذي نفس خديجة بيده إنّي لأرجو أن تكون نبيّ هذه الاُمّة ».

ثمّ يذكر انطلاق خديجة إلى ورقة بن نوفل، وما أجابها به ورقة بنفس النص الذي ذكره البخاري ثمّ يذكر لقاء النبي ورقة بن نوفل، وهو يطوف بالكعبة، فسأله ورقة بما رأى وسمع، فأخبره النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال له ورقة: والذي نفسي بيده إنّك لنبيّ هذه الاُمّة.

ثمّ عقبه بذكر ما قامت به خديجة من إمتحان صدق نبوّته فذكر أنّها قالت لرسول الله: أي ابن عمّ، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا إذا جاءك ؟ قال: نعم. قالت: فإذا جاءك فاخبرني به، فجاءه جبرئيل، فقال رسول الله لخديجة: هذا جبرئيل قد جائني، قالت: قم يا بن عمّ فاجلس على فخذي اليسرى، قال: فقام رسول الله فجلس عليها، قالت: هل ترى ؟ قال: نعم، قالت: فتحوّل فاجلس على فخذي اليمنى، فجلس على فخذها اليمنى، فقالت: هل تراه ؟ قال: نعم، قالت: فتحوّل واجلس في حجري، فتحوّل فجلس في حجرها، قالت هل تراه، قال: نعم، فتحسّرت وألقت خمارها ورسول الله جالس في حجرها، ثم قالت له: هل تراه ؟ قال: لا.

قالت: يا ابن عم أثبت وابشر، فو الله هذا ملك وما هذا بشيطان(١) .

وقال الطبري ـ بعد ما ذكر نزول جبرئيل إليه وتعليم آيات من سورة العلق ـ

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ١ ص ٢٣٧ ـ ٢٣٩، وتاريخ الطبري: ج ٢ ص ٤٩ ـ ٥٠.

١١٢

ثمّ دخلت على خديجة وقلت: زمّلوني زمّلوني حتى ذهب عنّي الروع، ثمّ أتاني وقال: يا محمّد، أنت رسول الله.

قال: لقد هممت أن أطرح نفسي من حالق من جبل فتبدّى لي حين هممت بذلك، فقال: يا محمّد، أنا جبرئيل وأنت رسول الله، ثمّ قال: إقرأ، قلت: ما اقرأ ؟ قال: فأخذني فغتني ثلاث مرات حتّى بلغ منّي الجهد ثمّ قال: اقرأ باسم ربّك الذي خلق، فقرأت فأتيت خديجة، فقلت: لقد أشفقت على نفسي، فأخبرتها خبري فقالت: أبشر فو الله لا يخزيك الله أبداً، ووالله إنّك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدّي الأمانة، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقّ، ثمّ انطلقت بي إلى ورقة بن نوفل بن أسد، فقالت: اسمع من ابن أخيك، فسألني فأخبرته خبري، فقال: هذا الناموس الذي اُنزل على موسى بن عمران .

نظرة تحليلية حول هذه النصوص:

إنّ هذه النصوص التاريخية التي نقلها المشايخ كالبخاري وابن هشام والطبري، وتلقّاها الآخرون من بعدهم على أنّها حادثة متسالم عليها تضاد ما يستشفه الإنسان من التدبّر في حالات الأنبياء في القرآن الكريم وتناقض البديهة العقلية، وإليك بيان ما فيها من نقاط الضعف وعلائم الجعل والتهافت:

١ ـ إنّ النبوّة كما عرفت منصب إلهي لا يفيضه الله إلّا على من امتلك زخماً هائلاً من القدرات الروحية والقوى النفسية العالية حتّى يقوى على معاينة الوحي، ومشاهدة الملائكة، فعندئذٍ فلا معنى لما ذكره البخاري: « لقد خشيت على نفسي » أفيمكن أن ينزل الوحي الإلهي على من لا يفرّق بين لقاء الملك، ولقاء الجنّ ومكالمتهما حتى يخشى على نفسه الجنون أو الموت ؟

٢ ـ وأسوأ منه ما ذكره الطبري من أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله همّ أن يرمي بنفسه من شاهق من جبل، فندم عليه ورجع عنه حين سمع كلام جبرئيل يا محمّد أنا جبرئيل.

١١٣

إنّ هذا الكلام يعرب من أنّ نفسهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تكن نفساً مستعدّة لتحمّل الوحي على حدٍّ، همّ أن يقتل نفسه بالإلقاء من حالق، وهل هذا هو إلّا نفس الجنون الذي كان المشركون يصفونه به طيلة بعثته، فوا عجباً نسمعه من أعوانه وأنصاره ومن لسان زوجته.

٣ ـ إنّ قول خديجة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّا والله ما يخزيك الله أبداً، تعرب من أنّها كانت أوثق إيماناً بنبوّته من نفس الرسول. فهل يمكن التفوّه بذلك، وما حاجة النبي الأعظم الذي قال تعالى في حقّه:( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) ( النساء / ١١٣ ) إلى هذا التسلّي ؟

وهل يصحّ ويتعقّل للنبيّ أنّ يشكّ في رسالة نفسه حتى يستفتي زوجته فيزول شكّه بتصديقها ؟

٤ ـ ذكر البخاري: أنّ خديجة انطلقت مع رسول الله إلى ورقة، فأخبره رسول الله بما وقع، فأجاب ورقة بما ذكره، وأنّ ما نزل عليه هو الناموس الذي نزّله الله على موسى.

ومعنى هذا أن يكون ورقة أعلم بالسرّ المودع في قلب رسول الله من نفسه، كما أنّ معنى ذلك أنّ كلاًّ من الزوجين كانا شاكّين في صحّة الرسالة، فانطلقا إلى متنصّر وقرأ وريقات من العهدين حتى يستفتياه ليزيل عنهما حجاب الشكّ وغشاوة الريب.

٥ ـ إنّ معنى ما ذكره البخاري من أنّ ورقة أخبر النبي بأنّه: يسخر منك قومك، وتعجّب الرسول من هذا الكلام وقال: أوَ مخرجي هم ؟ كون المرسل إليه أعلم من الرسول وأفضل منه.

٦ ـ إنّ ما ذكره ابن هشام من « أنّ الرسول كلّما رفع رأسه إلى السماء لينظر ما رأى إلّا رجلاً صافّاً قدميه في اُفق السماء، فلا ينظر في ناحية من السماء إلّا رآه فيها » يشبه كلام المصابين في عقولهم وشعورهم، والمختلّين في أفكارهم، فلا يرون في

١١٤

كل جهة إلّا الصورة المتخيّلة، لطغيانها على مخيّلتهم وشعورهم، أعاذنا الله من إكالة الشنائع بمقام النبوّة، بنحو لا يليق بساحة العاديين من الناس فضلاً عن النبي الأكرم خاتم النبّيين.

٧ ـ انظر إلى امتحان خديجة لبرهان النبوّة فإنّ ظاهرها أنّها كانت شاكّة في نبوّة زوجها، ولكنّها استحصلت اليقين على الوجه الذي سمعته في كلام ابن هشام والطبري، ولكن أيّ صلة بين رفع الخمار وإلقائه وعدم رؤية جبرئيل، وهل لرفع الخمار وتعرية شعر الرأس تأثير في غياب أمين الوحي عن البيت ؟

نرى أنّه سبحانه ينقل في غير سورة من سور القرآن الكريم مكالمة الملائكة زوجة الخليل وتبشيرها بالولد. فهل يمكن لنا أن نقول بعد ذلك: إنّ زوجة الخليل لو كانت مكشوفة الرأس لامتنعت الملائكة من دخول بيت الخليلعليه‌السلام (١) .

٨ ـ إنّ ورقة بن نوفل على حدّ تصريح نصّ الرواية كان بادي بدئه نصرانيّاً بعد ما كان مشركاً، فمقتضى الحال أن يشبّه الرسول الأعظم بالمسيح الذي كان يعتقد بنبوّته، لا بالكليم. أو ليس هذا يعرب عن لعب يد الأحبار في الخفاء في اصطناع هذه الأحاديث ودورهم في تشويش صفاء رسالة الرسول الأعظم بأمثال هذه الأساطير والمهاترات والخرافات ؟

٩ ـ نحن على ثقة ويقين بأنّ النبوّة منصب إلهي لا يتحمّله إلّا الأمثل والأكمل فالأكمل من الناس، ولا يقوم بأعباء مهامّها إلّا من امتلك قدرة روحيّة خاصّة تبعث في نفسه الإذعان والتسليم، والإنقياد حينما يتمثّل له رسول ربّه وأمين وحيه، فلا تأخذه المسكنة ولا يستولي عليه الخوف عند سماع كلامه ووحيه، وقد درسنا وضع الكليم عندما فوجئ بالوحي فما حاق به الروع ولا أحاط به الخوف، ولا همّ بإلقاء نفسه إلى غير ذلك ممّا ورد في هذه الروايات، وبما أنّ القرآن هو المرجع الفصل في تمييز الصحيح من الزائف في جملة هذه الروايات، يحتّم علينا إعراض

__________________

(١) لاحظ هود / ٧١ ـ ٧٣، الذاريات / ٢٩.

١١٥

الصفح عنها، وضربها عرض الجدار، مضافاً إلى ما فيها من التناقض والإختلاف في حكاية القصّة كما هو معلوم لمن تدبّر فيها وتأمّل نصّها.

فرية إنقطاع الوحي وفتوره

وقفت على ما في الروايات السابقة من الوضع والدسّ بهدف تشويه صفاء صورة رسالة النبي الأكرم فهلمّ معي نتناول فريّة اُخرىٰ حيكت على المنوال السابق، وللغاية نفسها، وهي مسألة إنقطاع الوحي بعد نزول آيات من سورة العلق، أو سورة المدّثّر، أو سورة الحمد على إختلاف في أوّل سورة نزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد حازت هذه الفريّة على نصيب من الإهتمام والتقدير في كتب السيرة والتفسير حتى أنّ الدكتور محمد حسنين هيكل، أرسلها إرسال المسلّمات في كتابه بقوله: « انتظر هداية الوحي إيّاه في أمره، وإنارة سبيله، فإذا الوحي يفتر، واذا جبرئيل لا ينزل عليه، إلى أن قال: وقد روي أنّ خديجة قالت له: ما أرىٰ ربّك إلّا قد قلاك، وتولّاه الخوف والوجل، فهما يبعثانه من جديد، يطوي الجبال وينقطع في حراء يرتفع بكل نفسه ابتغاء وجه ربّه، يسأله: لم قلاه بعد أن اصطفاه، ولم تكن خديجة بأقلّ منه إشفاقاً ووجلاً ويتمنّى الموت صادقاً لولا أنّه كان يشعر بما اُمر به، فيرجع إلى نفسه، ثمّ إلى ربّه، ولقد قيل: إنّه فكّر في أن يلقي بنفسه من أعلى حراء أو أبي قبيس وأيّ خير في الحياة، وهذا أكبر عمله فيها يدوي وينقضي، وأنّه لذلك تساور هذه المخاوف، إذ جاءه الوحي بعد طول فتوره إذ نزل عليه بقوله تعالى:( وَالضُّحَىٰ *وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ *مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ *وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَىٰ *وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ *أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ *وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَىٰ *وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَىٰ *فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ *وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ *وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) ( سورة الضحى )(١) .

هذا ما يذكره رجل مثقّف في القرن العشرين في حقّ النبي الأكرم، فما ظنّك

__________________

(١) حياة محمد:صلى‌الله‌عليه‌وآله ص ١٣٨.

١١٦

بغيره ممّن سبقه من الذين يتعبّدون بالروايات ولا يحيدون عن شاذّها وسقيمها قيد أنملة وقدر شعرة، وأصل هذه الفرية يرجع إلى كتب السيرة والتفسير، وإليك ما يذكره واحد من اُولئك من أمثال الطبري حيث يصرّح في تفسيره بما نصّه:

١ ـ عن ابن زيد: إنّ هذه السورة نزلت على رسول الله تكذيباً من الله قريشاً في قيلهم لرسول الله لـمّا أبطأ عليه الوحي: « قد ودّع محمّداً ربّه وقلاه ».

٢ ـ عن ابن عبد الله: لـمّا أبطأ جبرئيل على رسول الله، فقالت امرأة من أهله أو من قومه: ودّع الشيطان محمّداً، فأنزل الله عليه:( وَالضُّحَىٰ ـ إلى قوله ـمَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ ) .

٣ ـ عن جندب البجلي: أبطأ جبرئيل على النبي حتّى قال المشركون ودّع محمّداً ربّه، فأنزل الله:( وَالضُّحَىٰ ) ، وعنه قالت امرأة لرسول الله: ما أرى صاحبك إلّا قد أبطأ عنك، فنزلت هذه الآية.

وفي رواية اُخرى عنه: ما أرى شيطانك إلّا قد تركك.

٤ ـ عن عبد الله بن شدّاد: إنّ خديجة قالت للنبي: ما أرىٰ ربّك إلّا قد قَلاك، فأنزل الله( وَالضُّحَىٰ ) .

٥ ـ وعن قتادة: إنّ جبرئيل أبطأ عليه بالوحي، فقال ناس من الناس: ما نرى صاحبك إلّا قد قلاك فودّعك، فأنزل الله:( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ ) .

٦ ـ عن ضحّاك: مكث جبرئيل عن محمّد، فقال المشركون: قد ودّعه ربّه.

٧ ـ عن ابن عروة، عن أبيه قال: أبطأ جبرئيل على النبي، فجزع جزعاً شديداً، وقالت خديجة: أرىٰ ربّك قد قلاك، ممّا نرى من جزعك، قالت: فنزلت( وَالضُّحَىٰ ) (١) .

يلاحظ على هذه الروايات وعلى فرية فترة إنقطاع الوحي عدّة اُمور:

١ ـ إنّ هذه الروايات التي ملأت التفاسير وكتب السير، رويت عن اُناس

__________________

(١) تفسير الطبري: ج ٣٠ ص ١٤٨.

١١٧

لا يركن إليهم كقتادة والضحّاك فإنّهما كانا يأخذان تفسير القرآن عن أهل الكتاب(١) . وجلّها بل كلّها مرسلة غير مسندة إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢ ـ إنّها اختلفت في القائل الذي شَمِت برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله: « ودّعك ربّك » فربّما يسند إلى امرأة من أهله أو قومه وأخرى إلى المشركين، وثالثة إلى طائفة من الناس، ورابعة إلى زوجته خديجة.

إنّ نسبة هذا القول إلى زوجته الطاهرة التي آمنت به يوم بعثته، وقد عرفت فضائله وملكاته النفسيّة عن كثب، بعيداً جداً.

٣ ـ إنّها إختلفت في مدة الفترة. قال ابن جريج: احتبس عنه الوحي إثنى عشر يوماً، وقال ابن عباس: خمسة عشر يوماً، وقيل: خمسة وعشرين يوماً، وقال مقاتل: أربعين يوماً(٢) ، وفي فتح الباري: أنّه كان ثلاث سنين(٣) كما في السيرة الحلبية وفيها أيضاً: إنّها كانت سنتين ونصفاً، وعلى قول: سنتين، إلى غير ذلك من الأقوال المختلفة التي تحكي عن اضطراب في الرواية والنقل.

٤ ـ إختلفت الرواية في سبب الفترة وانقطاع الوحي.فتارة زعموا أنّ سببها هو أنّ اليهود سألوا رسول الله عن مسائل ثلاث: عن أصحاب الكهف وعن الروح وعن قصّة ذي القرنين، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : سأخبركم غداً ولم يستثنِ، فاحتبس عنه الوحي، فقال المشركون ما قالوا، فنزلت(٤) .

واُخرى قالوا: إنّ عثمان أهدى إليه عنقود عنب، وقيل: عذق تمر، فجاء سائل فأعطاه، ثمّ اشتراه عثمان بدرهم، فقدّمه إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) لاحظ آلاء الرحمن في تفسير القرآن: ج ١، ص ٤٦، يقول: إنّ الضحّاك بن مزاحم فقد ضعّفه يحيى بن سعيد، وكان يروي عن ابن عباس، وأنكر ملاقاته له حتى قيل: إنّه ما رآه قط، وأمّا قتادة فقد ذكروا: أنّه مدلّس.

(٢) تفسير القرطبي: ج ٢٠ ص ٩٢.

(٣) السيرة الحلبية: ج ١ ص ٢٦٢.

(٤) روح المعاني: ج ١٠ ص ١٥٧، نقله عن جمع من المفسّرين.

١١٨

ثانياً، ثمّ عاد السائل فأعطى وهكذا ثلاث مرّات، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله ملاطفاً لا غضبان: أسائل أنت يا فلان أم تاجر ؟ فتأخّر الوحي أيّاماً فاستوحش فنزلت.

وثالثة: رووا عن ابن أبي شيبة في مسنده والطبراني وابن مردويه من حديث خولة، وكانت تخدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ جرواً دخل تحت سرير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فمات ولم تشعر به، فمكث رسول الله أربعة أيّام لا ينزل عليه الوحي، فقال: يا خولة ! ما حدث في بيت رسول الله ؟ جبرئيل لا يأتيني ! فقلت يا نبي الله ما أتى علينا يوم خير من هذا اليوم، فأخذ برده فلبسها وخرج، فقلت في نفسي لو هيّأت البيت وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا بشيء ثقيل فلم أزل به حتى بدا لي الجرو ميّتاً، فأخذته بيدي فألقيته خلف الدار، فجاء النبي ترعد لحيته، وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة، فقال يا خولة دثّريني، فأنزل الله تعالى:( وَالضُّحَىٰ *وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ ) (١) .

ورابعة: انّ المسلمين قالوا: يا رسول الله مالك لا ينزل عليك الوحي ؟ فقال: وكيف ينزل عليّ وأنتم لا تنقّون رواجبكم، وفي رواية: براجمكم، ولا تقصّون أظفاركم، ولا تأخذون من شواربكم، فنزل جبرئيل بهذه السورة، فقال النبي: ما جئت حتى اشتقت إليك، فقال جبرئيل: وأنا كنت أشدّ إليك شوقاً، ولكنّي عبد مأمور، ثمّ أنزل عليه:( وَمَا نَتَنَزَّلُ إلّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) ( مريم / ٦٤ )(٢) .

إنّ الإضطراب في أسباب فتور الوحي يعرب عن عدم صحّة الرواية.

أمّا الأوّل: فلو صحّ فيلزم كون زمان إنقطاع الوحي في العام السابع من البعثة لأنّ قريشاً أرسلت النضر بن الحارث وابن أبي معيط إلى أحبار اليهود يسألانهم عن النبي الأكرم، وقالا لهم: إنّكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، فقالت لهم أحبار اليهود: سلوهُ عن ثلاث نأمركم بهنّ، فجاؤوا إلى رسول الله، وقالوا: يا محمّد أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل، قد كانت لهم قصّة عجب ،

__________________

(١) روح المعاني: ج ١٠ ص ١٥٧.

(٢) تفسير القرطبي: ج ٢٠ ص ٩٣، ومجمع البيان: ج ١٠ ص ٥٥ ( طبع صيدا ).

١١٩

وعن رجل كان طوّافاً قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي ؟ فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أخبركم بما سألتم عنه غداً ولم يستثن، فانصرفوا عنه(١) .

نحن ننزّه ساحة النبي الأكرم الذي نشأ نشأة الأنبياء في عالم مليء بالطهر والقداسة، أن يخبرهم على وجه قاطع بأنّه سيجيبهم غداً على أسئلتهم تلك فمن أين علم أنّه سبحانه ينزل الوحي عليه غداً ؟ أو أنّه سبحانه يجيب عن أسئلتهم عن طريق الوحي ؟

وأمّا الثاني: فهو أشبه بالقصص الموضوعة، فهل من المعتاد أن يباع عنقود عنب ثلاث مرّات في السوق، ومثله عذق تمر ؟ ولعلّ الجاعل كان يهدف إلى إختلاق الفضائل لعثمان فحسب أنّ هذا الموضع مناسب له.

وأمّا الثالث: فبعيد جدّاً، إذ كيف يمكن أن يموت الجرو تحت سرير النبي أو في زاوية من البيت ولا يلتفت إليه ؟ على أنّ ظاهر الرواية أنّ إنقطاع الوحي كان بعد تلقّي النبي لنزول الوحي مدّة مديدة حيث إنّ خولة قالت: « وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة » فإنّ ذلك يعرب عن أنّ الحادثة كانت في أزمنة متأخّرة من بدء البعثة، مع أنّ المشهور أنّها كانت في بدء البعثة ـ أي بعد نزول سورة العلق أو آيات منها ـ.

وأمّا الرابع: فهو أشبه بحمل النبي وزر الغير، فإنّ عدم قصّ المسلمين شواربهم، أو عدم تنظيف رواجبهم لا يكون سبباً لإنقطاع الوحي، قال سبحانه:( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ) ( الأنعام / ١٦٤ ).

هذه الوجوه كلّها تدفع بنا إلى القول: بأنّ مسألة انقطاع الوحي فرية تاريخيّة صنعتها يد الجعل والوضع لغاية أو غايات خاصّة، ولم يكن هناك أيّة فترة، وإنّما المسألة كانت بصورة اُخرى:

__________________

(١) السيرة النبويّة لإبن هشام: ج ١، ص ٣٠١.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459