تلخيص التمهيد الجزء ١

تلخيص التمهيد8%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 459

  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 79237 / تحميل: 11095
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

تلخيصُ التَمهيد

موجز دراسات مبسّطة عن مختلف شؤون القرآن الكريم

تمتاز هذه الطبعة بإضافات ذوات أهمّية كبيرة وتنقيح كثير

تأليف:

محمّد هادي معرفة

الجزء الأوّل

مؤسّسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة

١

تلخيصُ التَمهيد

(ج ١)

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلْقه محمّد الأمين، وعلى آله الطاهرين المنتجبين.

وبعد، لا يخفى على أُولي البصائر والأذهان اشتمال كتاب الله الكريم، ومعجزة الرسول العظيم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على كنوز المعارف الإلهية، وجواهر العلوم الربّانية التي أركعت أرباب العقول المتوقّدة من الحكماء والعلماء في مختلف الفنون والمعارف أمام عظمتها وسِعتها، فقد انطوت آيات الكتاب الحكيم على الرموز والإشارات واللطائف والحِكم ما لا تحويه عقول البشر، مضافاً إلى التشريعات والقوانين وقصص الأنبياء والصالحين وأخبار الأمم من الغابرين وعلوم المبدأ والمعاد، بحيث ما من مرتبة من مراتب العلم الحسّي والمعنوي يرتقي إليها المحقّقون والمكتشفون، إلاّ وتجد القرآن قد سبقهم إليها وأشار إليها من قريب أو بعيد، فهو بحقّ الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وفيه تبيان كلّ شيء ورحمة وشفاء لمَا في الصدور.

ومنذ الأيام الأُولى لنزول القرآن، اهتمّ المسلمون بدراسة شؤون وملابسات الآيات القرآنية، وما يتعلّق بها من علوم ومعارف أعمّ من شأن النزول، ومعرفة المعاني والمحكَم والمتشابه والناسخ والمنسوخ، مضافاً إلى القراءات والنكات الأدبية والبلاغية وغيرها، ولكن كانت بشكلٍ بدائيّ، وأخذت بمرور الزمن تتطوّر

٣

وتزداد سعةً وعمقاً، حتّى صار البحث في هذه العلوم منضوياً تحت علمٍ مستقلّ أُطلق عليه بـ (علوم القرآن)، فكُتبت العشرات من الكتُب في مسائله المتنوّعة، وتضاربت الآراء، وطُرحت النظريات المتعدّدة والدراسات المختلفة على اختلاف مذاهب أصحابها.

ولأهمّية هذه العلوم لم يغفل علماء الشيعة عنها، فلم يمرّوا بباب من أبوابها إلاّ وأشبعوه بحثاً واستدلالاً، فصنّفوا وأتقنوا، وكان كتاب (التمهيد في علوم القرآن) للأستاذ المحقق الشيخ محمّد هادي معرفة (أيّده الله)، يمثّل أصدق نتاج في هذا المضمار، ولمّا كان البحث فيه بشكلٍ موسَّع ومبسوط رأى المؤلّف - ونزولاً عند رغبة مديرية الحوزة العلمية في قم المشرّفة - أن يُلخّص ما جاء فيه من الأبحاث بشكلٍ يناسب ومستوى الدراسة في المعاهد الإسلامية والحوزات العلمية في مراتبها الأوّلية، فجمعَ كلَّ ما ورد في أصل الكتاب في جِلدين بأسلوب جزلٍ واختصارٍ غير مخلٍّ.

والطبعة الماثلة بين يديك - عزيزنا القارئ - هي طبعة منقّحة وأُدخلت عليها بعض الإضافات، وحُذف البعض الآخر بقلم المؤلّف، وبذلك سدّ ما كان في الطبعة الأولى للتلخيص من فجوات وثغور فجاء كاملاً، ولبلوغ الغاية ونيل المطلوب موصّلاً إن شاء الله.

ونحنُ إذ نُقدِم على طبع هذا الكتاب بحلّته الجديدة، لا يفوتنا أن نتقدّم بخالص دعائنا لسماحة الشيخ المؤلّف، وأن يمدّ في عُمره وينفع به أمّته، ونتقدّم كذلك بشكرنا للإخوة الذين شاركونا في تنظيم هذا الكتاب، نخصّ بالذِكر فضيلة الأخ الحاج كمال الكاتب حفظه الله وزاد في توفيقه.

اللّهم نوّر قلوبنا بالقرآن، ووفّقنا للعمل به وبيّض وجوهنا يوم نلقاك، وآخِر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مؤسّسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

٤

مقدمة المؤلّف

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيّه وآله وعلى رواة سُنّته، وحَمَلة أحاديثه وحَفظة كلِمه.

وبعد، كانت دراستنا لعلوم القرآن - سواء في الأجزاء المطبوعة من التمهيد أمْ غير المطبوعة، وهي تربو على ستّة مجلّدات - دراسة مستوعبة فيها تفصيل وتبسيط شامل، كان يتناسب والتحقيق في المسائل القرآنيَّة، شأن أيِّ موضوع ذي أهمّية بالغة، ولكنَّه كان فوق الحدّ اللازم للدراسات الرتيبة في المعاهد العلمية.

ومن ثَمَّ كنت قد قصدت من أوّل الأمر أن أُلخّصها في دروس متناسبة مع المستويات الدراسية في المعاهد، لولا أنَّ متابعة البحوث المتتالية كانت تعوقني عن إنجاز هذه المهمَّة، وفي هذا الأخير قد طلبَتْ منّي مديرية شؤون الحوزة العلميَّة بقم المقدَّسة تحقيق هذا المهمّ؛ لاستدعاء ضرورة الدراسات الطلاّبية ذلك، فوعدتهم بالإنجاز بعونه تعالى، فاغتنمت فرصة العطلة الصيفية لهذا العام (١٤٠٩هـ) في قرية (فردو - من مصايف قم)؛ لإنجاز الوعد وتحقيق تلك الأُمنية القديمة، فجاءت بحمد الله كاملة ووافية بأصول البحث وفروعه بما يشبع نَهَم المتعلّمين في شؤون القرآن الكريم، فله الشكر على هذا التوفيق، جعله الله خير رفيق.

قم المقدّسة

محمّد هادي معرفة

ذو الحجّة الحرام ١٤٠٩هـ

٥

٦

الوحي والقرآن

١ - ظاهرة الوحي.

٢ - نزول القرآن.

٣ - معرفة أسباب النزول.

٤ - كُتّابُ الوحي.

٧

٨

١ - ظاهرةُ الوحي

- الوحي في اللّغة.

- الوحي في القرآن.

- إمكان الوحي.

- الوحي عند فلاسفة الغرب.

- أنحاء الوحي الرسالي.

- موقف النبي (صلّى الله عليه وآله) من الوحي.

- النبوَّة مقرونة بدلائل نيِّرة.

- قصَّة ورقة بن نوفل.

- الوحي لا يَحتمل التباساً.

- أُسطورة الغرانيق.

٩

ظاهرةُ الوَحي

الوَحي في اللغة:

الوَحي: إعلام سريع خفيّ، سواء أكان بإيماءة أو همسة أو كتابة في سرّ، وكلّ ما ألقيته إلى غيرك في سرعة خاطفة حتى فَهِمه فهو وحيٌ، قال الشاعر:

نظرتُ إليها نظرة فتحيَّرتْ

دقائق فكري في بديع صفاتها

فأوحى إليها الطَرْف أنّي أُحبها

فأثَّر ذاك الوحي في وَجَناتها

وقال تعالى عن زكريّا (عليه السلام): ( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْـرَةً وَعَشِيّـاً ) (١) ، أي أشار إليهم على سبيل الرمز والإيماء.

قال الراغب : أصل الوحي، الإشارة السريعة، ولتضمّن السرعة قيل: أمرٌ وحِيٌّ (أي سريع)، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرّد عن التركيب، وبإشارة ببعض الجوارح، وبالكتابة (٢) .

وقال ابن فارس : و، ح، ي، أصل يدلّ على إلقاء علم في إخفاء أو غيره، والوحي: الإشارة، والوحي: الكتاب والرسالة، وكلّ ما ألقيتَه إلى غيرك حتّى

____________________

(١) مريم: ١١.

(٢) المفردات للإصبهاني: ص٥١٥.

١٠

عِلمه فهو وحي، كيف كان (١) .

ولعلَّ هذا التعميم في مفهوم الوحي - عند ابن فارس - كان في أصل وضْعه، غير أنّ الاستعمال جاء فيما كان خفيّـاً.

قال أبو إسحاق: أصل الوحي في اللغة كلّها: إعلام في خَفاء؛ ولذلك سُمّي الإلهام وحياً.

وقال ابن بري: وحى إليه وأوحى: كلَّمه بكلام يخفيه من غيره، ووحى وأوحى: أومأ، قال الشاعر:

فأوحت إلينا والأنامل رُسُلها (٢) أي: أشارت بأناملها.

الوحي في القرآن:

واستعمله القرآن في معانٍ أربعة:

١ - نفس المعنى اللُغَوي: الإيماءة الخفية، وقد مرّ في آية مريم.

٢ - تركيز غريزيّ فطريّ، وهو تكوين طبيعيّ مجعول في جِبلَّة الأشياء، استعارة من إعلام قوليّ لإعلام ذاتيّ، بجامع الخفاء في كيفية الإلقاء والتلقّي، فبما أنَّ الوحي إعلام سرّي، ناسب استعارته لكلّ شعور باطنيّ فطريّ، ومنه قوله تعالى: ( وَأَوْحَى‏ رَبّكَ إِلَى النّحْلِ أَنِ اتّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشّجَرِ وَمِمّا يَعْرِشُونَ * ثُمّ كُلِي مِن كُلّ الثّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً ) (٣) ، فهي تنتهج وفْق فطرتها، وتستوحي من باطن غريزتها، مذلَّلة لِما أُودع فيها من غريزة العمل المنتظم، ومن ثَمَّ فهي لا تحيد عن تلك السبيل.

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ( وَأَوْحَى‏ فِي كُلّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) (٤) أي: قدّر، وقد استوحى العجاج هذا المعنى من القرآن في قوله:

أوحى لها القرار فاستقرَّت

وشدَّها بالراسيات الثُبَّت (٥)

____________________

(١) معجم مقاييس اللغة: ج٦، ص٩٣.

(٢) لسان العرب لابن منظور.

(٣) النحل: ٦٨ و٦٩.

(٤) فصّلت: ١٢.

(٥) لسان العرب لابن منظور.

١١

٣ - إلهامٌ نفسيّ، وهو شعور في الباطن، يحسّ به الإنسان إحساساً يخفى عليه مصدره أحياناً، وأحياناً يُلهم أنَّه من الله، وقد يكون من غيره تعالى.

وهذا المعنى هو المعروف عند الروحيّين بظاهرة (التلباثي: التخاطر من بعيد)، وهو خطور باطنيّ آنيّ لا يُعرف مصدره، قالوا: إنَّها فكرة تنتقل من ذهن إنسان إلى آخر، والمسافة بينهما شاسعة، أو إلقاء روحي من قِبل أرواح عالية أو سافلة (١) ، وقيل: إنَّها فكرة رحمانيّة تُوحيها الملائكة، تنفثها في رَوع إنسان يريد الله هدايته، أو وسوسة شيطانية تُلقيها أبالسة الجِنّ؛ لغرض غوايته.

* * *

ومن الإلهام الرحماني قوله تعالى: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى‏ أُمّ مُوسَى‏ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنّا رَادّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (٢) .

قال الأزهري: الوحي هنا: إلقاء الله في قَلْبها، قال: وما بعد هذا يدلّ - والله أعلم - على أنّه وحي من الله على جهة الإعلام، للضمان لها ( إِنّا رَادّوهُ إِلَيْكِ ) ، وقيل: إنَّ معنى الوحي هنا: الإلهام، قال: وجائز أن يُلقي الله في قلبها أنَّه مردود إليها وأنَّه يكون مرسلاً، ولكنَّ الإعلام أبيَن في معنى الوحي هنا (٣) .

والشيخ المفيد (قدّس سرّه) أخذ الوحي هنا بمعنى الإعلام الخفيّ في كتابه (أوائل المقالات)، لكنَّه في كتابه (تصحيح الاعتقاد) جعله بمعنى رؤيا أو كلام سمعته أُمّ موسى في المنام.

وقال - بصدد إيضاح معنى الوحي -: أصل الوحي هو الكلام الخفيّ، ثُمَّ قد يُطلق على كلّ شيء قُصد به إفهام المخاطب على السرّ له عن غيره (٤) .

وأمّا التعبير بالوحي عن وسواس الشيطان وتسويله خواطر الشرّ والفساد،

____________________

(١) راجع مفصّل الإنسان روح لا جسد لرؤوف عبيد: ج١، ص٥٤٢.

(٢) القصص: ٧.

(٣) لسان العرب لابن منظور.

(٤) راجع أوائل المقالات: ص٣٩، وتصحيح الاعتقاد: ص٥٦.

١٢

فجاء في قوله تعالى: ( وَكَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى‏ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) (١) ، وقال: ( وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى‏ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ) (٢) ، ويفسّره قوله: ( مِن شَرّ الْوَسْوَاسِ الْخَنّاسِ * الّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ * مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ ) (٣) .

كما جاء التعبير عمّا يُلقيه الله إلى الملائكة من أمره؛ ليفعلوه من فورهم، بالوحي أيضاً في قوله تعالى: ( إِذْ يُوحِي رَبّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُوا الّذِينَ آمَنُوا ) (٤) .

وأمّا التعبير بالوحي عمّا يلقيه الله إلى نبيّ من أنبيائه بواسطة مَلك، أو بغير واسطة؛ لأجل تبليغ رسالة الله، فهو معنى رابع استعمله القرآن وهو موضوع بحثنا في الفصل التالي.

٤ - الوحي الرسالي، وهو معنى رابع استعمله القرآن في أكثر من سبعين موضعاً، معبِّراً عن القرآن أيضاً بأنّه وحي أُلقي على النبيّ (صلّى الله عليه وآله): ( نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ ) (٥) ، ( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنذِرَ أُمّ الْقُرَى‏ وَمَنْ حَوْلَهَا ) (٦) ، ( وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ ) (٧) .

وظاهرة الوحي بشأن رسالة الله، هي أُولى سمات الأنبياء، امتازوا بها على سائر الزعماء والمصلحين، أصحاب العبقريّات الملهَمين، ولم يكن النبيّ محمَّد (صلّى الله عليه وآله) بِدعاً من الرسل في هذا الاختصاص النبويّ، ولا أوَّل مَن خاطب الناس باسم الوحي السماوي، ومن ثَمَّ فلا عجب في هذا الاصطفاء ما دام ركْب البشريَّة - منذ بداية سيرها - لم تزل يرافقها رجال إصلاحيّون يهتفون بهذا النداء

____________________

(١) الأنعام: ١١٢.

(٢) الأنعام: ١٢١.

(٣) الناس: ٤ - ٦.

(٤) الأنفال: ١٢.

(٥) يوسف: ٣.

(٦) الشورى: ٧.

(٧) العنكبوت: ٤٥.

١٣

الروحي، ويدعون إلى الله باسم الوحي وتبليغ رسالة الله:

( أَكَانَ لِلنّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى‏ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النّاسَ وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوا أَنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنّ هذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ) (١) .

ودفعاً لهذا الاستنكار الغريب قال: ( إِنّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى‏ نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسى‏ وَأَيّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنَا دَاوُود زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلّمَ اللّهُ مُوسَى‏ تَكْلِيماً * رُسُلاً مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى‏ اللّهِ حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً * لكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى‏ بِاللّهِ شَهِيداً * إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَصَدّوا عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلّوا ضَلاَلاً بَعِيداً ) (٢) .

والوحي الرسالي لا يعدو مفهومه اللغوي بكثير، بعد أن كان إعلاماً خفياً، وهو اتّصال غيبيّ بين الله ورسوله، يتحقّق على أنحاء ثلاثة، كما جاءت في الآية الكريمة: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنّهُ عَلِيّ حَكِيمٌ ) (٣).

فالصورة الأولى: إلقاء في القلب ونفْثٌ في الرَوع.

والثانية: تكليم من وراء حجاب، بخلْق الصوت في الهواء بما يقرع مسامع النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، ولا يرى شخص المتكلّم.

والثالثة: إرسال مَلك الوحي فيبلّغه إلى النبي، إمّا عياناً يراه، أو لا يراه ولكن يستمع إلى رسالته.

إذاً فالفارق بين الوحي الرسالي وسائر الإيحاءات المعروفة، هو جانب مصدره الغيبي اتّصالاً بما وراء المادَّة، فهو إيحاءٌ من عالَمٍ فوق، الأمر الذي دعا بأولئك الذين لا يروقهم الاعتراف بما سوى هذا الإحساس المادّي، أن يجعلوا

____________________

(١) يونس: ٢.

(٢) النساء: ١٦٣ - ١٦٧.

(٣) الشورى: ٥١.

١٤

من الوحي الرسالي سبيله إلى الإنكار، أو تأويله إلى وجدان باطني ينتشئ من عبقريَّة واجدِه، وسنبحث عن ذلك في فصل قادم.

إمكان الوحي:

قد يتشبّث البعض - ذريعة لإنكار النبوّات - بتباعد ما بين العالَم العُلوي والعالَم السُفلي، ذاك متشعشع روحيّ لطيـف، وهذا متكدّر مادّي كثيف، وإذ لا واسطة بين الجانبين، فلا عُلقة تربط أحد العالَمَين بالآخر.

هذه شبهة مَن يرى من عالم الدنيا مادّياً محضاً، لا تناسُب بينه وبين عالَم الملَكوت الأعلى.

لكن إذا ما عرفنا من هذا الإنسان وجوداً برزخياً ذا جانبين - هو من أحدهما جسمانيّ كثيف، وفيه خصائص المادَّة السفلى، ومن جانبه الآخر روحاني لطيف، وهو ملَكوتي رفيع - لم يكن موقع لهذه الشبهة رأساً.

الإنسان وراء شخصيَّته هذه الظاهرة شخصيَّة أخرى باطنة، هي التي تؤهِّله - أحياناً - للارتباط مع عالم روحاني أعلى، إذ كان مبدأه منه، وإليه منتهاه: ( إِنّا للّهِ‏ِ وإِنّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ ) (١) ، هذا هو واقع الإنسان الحقيقي ذو التركيب المزدوج من روح وجسم، ومن ثَمَّ فهو برزخ بين عالَمي المادّة وما وراء المادَّة، فمن جهة هو مرتبط بالسماء، ومن أخرى مستوثق بالأرض، قال تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِن طِينٍ * ثُمّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مّكِينٍ * ثُمّ خَلَقْنَا النّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ) ، إلى هنا تكتمل خِلقة الإنسان الماديّة، ثمَّ يقول: ( ثُمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (٢) .

وهذا الخلْق الآخر هو وجود الإنسان الروحي، وهو وجوده الأصيل الذي

____________________

(١) البقرة: ١٥٦.

(٢) المؤمنون: ١٢ - ١٤.

١٥

أشارت إليه آية أخرى: ( وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ * ثُمّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِن مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ ) (١) .

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ الله خلقَ خلْقاً وخلَق روحاً، ثمَّ أمر مَلكاً فنفخ فيه...) (٢) .

فهذا هو الإنسان، مخلوق متركّب من جسم هو مادّي، وروح هو لا مادّي، فبوجوده المادّي خَلْق، وبوجوده اللامادّي خَلقٌ آخر، وبوجوده هذا الآخَر يستأهل الاتّصال بالملأ الأعلى، لا بوجوده ذاك المادّي الكثيف.

* * *

نعم، جاءت فكرة إنكار الوحي نتيجةً للنظرة المادّية البحتة إلى هذا الإنسان، وهي نظرة قاصرة بشأن الإنسان، سادت أوروبا في عصر نشوء الفكرة الماديّة عن الحياة، والتي جعلت تتقدَّم وتتوسَّع كلَّما تقدَّمت العلوم الصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وأخذت المقاييس المعنويَّة في الحياة تتدهور تراجعاً إلى الوراء، وكادت الموجة تطبّق العالم أجمع، لولا أن انتهضت الفكرة الروحية في أمريكا ومنها سرت إلى أوروبا كلّها، فجعلت مسألة الوحي تَحيى من جديد.

قال الأستاذ وجدي: كان الغربيّون - إلى القرن السادس عشر - كجميع الأمم المتديّنة يقولون بالوحي، وكانت كتُبهم مشحونة بأخبار الأنبياء، فلمَّا جاء العلم الجديد بشكوكه وماديّاته، ذهبت الفلسفة الغربية إلى أنّ مسألة الوحي هي من بقايا الخرافات القديمة، وتغالَت حتّى أنكرت الخالق والروح معاً، وعلَّلت ما ورد عن الوحي في الكتب القديمة بأنّه: إمّا اختلاق من المتنبّئة أنفسهم لجذْب الناس إليهم وتسخيرهم لمشيئتهم، وإمّا هذَيان مَرَضي يعتري بعض العصبيين، فيُخيَّل إليهم يرون أشباحاً تكلّمهم، وهُم لا يرون في الواقع شيئاً.

____________________

(١) السجدة: ٧ - ٩.

(٢) بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي: ج٦١، ص٣٢.

١٦

راج هذا التعليل في العالم الغربي، حتّى صار مذهب العِلم الرسمي.

فلمّا ظهرت آية الروح في أمريكا سنة ١٨٤٦م، وسرَت منها إلى أوروبا كلّها، وأثبت الناس بدليل محسوس وجود عالَم روحاني آهِل بالعقول الكبيرة والأفكار الثاقبة، تغيّر وجه النظر في المسائل الروحانية، وحيِيَت مسألة الوحي بعد أن كانت في عِداد الأضاليل القديمة، وأعاد العلماء البحث فيها على قاعدة العلم التجريبيّ المقرَّر، لا على أسلوب التقليد الديني، ولا من طريق الضرب في مهامّ الخيالات، فتأدَّوا إلى نتائج، وإن كانت غير ما قرّره علماء الدين الإسلامي، إلاّ أنّها خطوة كبيرة في سبيل إثبات أمر عظيم كان قد أُحيل إلى عالَم الأمور الخرافية (١) .

خلاصة الكلام: إنَّ الإنسان يملك في وجوده جانبَين: هو من أحدهما جسماني ، ومن الآخر روحاني ، فلا غَروَ أن يتَّصل أحياناً بعالَم وراء المادَّة، ويكون هذا الاتّصال مرتبطاً بجانبه الروحي الباطن، وهو اتّصال خفيّ، الأمر الذي يشكّل ظاهرة الوحي.

الوحي ظاهرة روحيَّة قد توجد في آحاد من الناس، يمتازون بخصائص روحيَّة تؤهّلهم للاتّصال بالمَلأ الأعلى، إمّا مكاشفةً في باطن النفس أو قرْعاً على مسامع، يحسّ به الموحى إليه إحساساً مفاجئاً يأتيه من خارج وجوده، وليس منبعثاً من داخل الضمير، ومن ثمَّ لا يكون الوحي ظاهرة فكرية تقوم بها نفوس العباقرة - كما يزعمه ناكروا الوحي - كلاّ، بل إلقاء روحانّي صادر من محلٍّ أرفع إلى مهبطٍ صالحٍ أمين.

قال تعالى: ( أَكَانَ لِلنّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى‏ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النّاسَ ) (٢) .

نعم، شيء واحد لا نستطيع إدراكه، وإن كنّا نعتبره واقعاً حقّاً، ونؤمن به إيماناً

____________________

(١) دائرة معارف القرن العشرين لمحمّد فريد وجدي: ج١٠، ص٧١٣.

(٢) يونس: ٢.

١٧

صادقاً، وهو: كيف يقع هذا الاتّصال الروحي؟ هذا شيء يخفى علينا إذا كنّا نحاول إدراكه بأحاسيسنا المادّية، أو نريد التعبير عنه بمقاييسنا اللفظية الكلامية، إنَّها ألفاظ وُضِعت لمفاهيم لا تعدو الحسّ أو لا تكاد، وكلّ ما باستطاعتنا إنَّما هو التعبير عنه على نحو التشبيه والاستعارة، أو المجاز والكناية لا أكثر، فهو ممّا يُدرك ولا يوصف.

فالوحي ظاهرة روحية يدركها مَن يصلُح لها، ولا يستطيع غيره أن يصِفها وصفاً بالكُنه، ما عدا التعبير عنها بالآثار والعوارض هذا فحسب.

الوحي عند فلاسفة الغرب:

أشرنا فيما سبَق أنّ فلاسفة أوروبا - بعد أن عادوا إلى الاعتراف بوجود شخصيّة باطنة للإنسان تسمّى بالروح، وعلموا أنَّها هي التي كوَّنت جسمه في الرحِم، وهي التي تُحرِّك جميع عضلاته وأعضائه التي ليست تحت إرادته: كالكبـد، والقلب، والمعدة، وغيرها، فهو إنسان بها لا بهذه الشخصية العادية - عادوا يعترفون أيضاً بالوحي، الوحي الذي يدَّعيه الأنبياء مِلأ كتبهم النازلة المنسوبة إلى السماء.

ولكن فسَّروه تفسيراً يختلف عمّا قرَّره علماء الدين الإسلامي، على ما سبق تعريفه بأنَّه: إلقاء من خارج الوجود إمّا قذفاً في قلْب، أو قرعاً في سمْع.

قالوا: الوحي عبارة عن إلهامات روحية تنبعث من داخل الوجود، أي الروح الواعية هي التي تعطينا تلكم الإلهامات الطيّبة الفُجائية في ظروفٍ حرِجة، وهي التي تنفُث في رَوع الأنبياء ما يعتبرونه وحياً من الله، وقد تظهر نفس تلك الروح المتقبّعة وراء جسمهم، متجسّدة خارجاً، فيحسبونها من ملائكة الله هبطت عليهم من السماء، وما هي إلاّ تجلّي شخصيّتهم الباطنة، فتُعلّمهم ما لم يكونوا يعلمونه من قبْل، وتهديهم إلى خير الطُرق؛ لهداية أنفسهم وترقية أمّتهم، وليس بنزول مَلك من السماء ليلقي عليهم كلاماً من عند الله.

هذا ما يراه العلم الأوروبي التجريبي الحديث في مسألة الوحي.

١٨

ودليلهم على ذلك: أنَّ الله أجلّ وأعلى من أن يقابله بشَر أو يتَّصل به مخلوق، وأنَّ الملائكة مهما قيل في روحانيّتهم وتجرّدهم عن المادَّة، فلا يعقل أنَّهم يقابلون الله أو يستمعون إلى كلامه؛ لأنَّ هذا كلَّه يقتضي تحيّزاً في جانبه تعالى، ويستدعي عدم التنزيه المطلق اللائق بشأنه جلَّ شأنه؛ ولأنَّ الملائكة مهما ارتقَوا فلا يكونون أعلى من الروح الإنساني التي هي من روح الله نفسه، فمثَلهم ومثَلها سواء.

وبهذه النظرية حاولوا حلّ ما عسى أن يصادفوه في بعض الكتب السماوية، من أنواع المعارف المناقضة للعلم الصحيح طبيعياً وإلهياً، فهم لا يقولون بأنَّ تلك الكتب قد حرِّفت عن أصلها الصحيح النازل من عند الله، ولكنَّهم يقولون بأنَّ الشخصية الباطنة لكلّ رسول إنّما تؤتي صاحبها بالمعلومات على قدَر درجة تجلّيها وعبقريَّتها، وعلى قدر استعداده لقبول آثارها، ومن ثمَّ قد تختلط معارفها العالية بمعارف باطلة آتية من قِبل شخصيَّته العادية، فيقع في الوحي خلْطٌ كثير بين الغثّ والسمين، فترى بجانب الأصول العالية التي لم يعرفها البشر إلى ذلك الحين، أصولاً أخرى عامّية اصطلح عليها الناس إلى ذلك الزمان (١) .

* * *

وبعد، فإذا ما أخضعَتْهم الحقيقة العلمية على طريقة تجريبيَّة قاطعة، بأنَّ وجود الإنسان الحقيقي هو شخصيَّته الثانية القابعة وراء هذا الجسد، وأنَّه يبقى خالداً بعد فناء الجسد، فما عساهم امتنعوا من الاعتراف بحقيقة الوحي كما هي عند المسلمين!؟ لا شكَّ أنّ ما وصلوا إليه خطوة كبيرة نحو الواقعية، لا نزال نقدِّرها تقديراً علمياً، لكنَّها بلا موجب توقَّفت أثناء المسير ودون أن تنتهي إلى الشوط الأخير.

إنَّ منار العلم وضوء الحقيقة قد هَدَياهم إلى الدرب اللائح، وكادوا يلمسون

____________________

(١) راجع دائرة معارف القرن العشرين: ج١٠، ص٧١٥ فيما نقله عن العلاّمة (ميرس - Myers ) من كتابه (الشخصية الإنسانية)، ص٧٧ فما بعد.

١٩

الحقيقة مكشوفة بعيان، فوجدوا وراء هذا العالم عالَماً آخر مليئاً بالعقول، ووجدوا من واقع الإنسان شخصيةً أخرى وراء شخصيَّته الظاهرة، فهاتان مقدّمتان أذعنوا لهما، وقد أشرفتا بهم على الاستنتاج الصحيح، وصاروا منه قاب قوسين أو أدنى، لكنَّهم بلا موجب توقّفوا، وأنكروا حقيقة كانوا على وَشَك لمْسها.

فعلى ضوء هاتين المقدَّمتين، لا مبرّر لعدم فهْم حقيقة اتّصال روحيّ خفيّ يتحقَّق بين مَلأ أعلى وجانب روحانيّة هذا الإنسان، فيتلقّى بروحه إفاضات تأتيه من ملَكوت السماء، وإشراقات نورية تشعّ على نفسه من عالَم وراء هذا العالم المادّي، وليس اتّصالاً أو تقارباً مكانيّاً؛ لكي يستلزم تحيّزاً في جانبه تعالى. وأظنّهم قاسُوا من أمور ذاك العالم غير المادّي بمقاييس تخصّ العالم المادّي، مع العلم أنّ الألفاظ هي التي تكون قاصرة عن أداء الواقع، وأنَّ التعبير بنزول الوحي أو المَلَك تعبير مجازي، وليس سوى إشراق وإفاضة قدسية ملَكوتية يجدها النبيّ (صلّى الله عليه وآله) حاضرة نفسه، مُلقاة عليه من خارج روحه الكريمة، وليست منبعثة من داخل كيانه هو.

هذا هو حقيقة الوحي الذي نعترف به، من غير أن يقتضي تحيّزاً في ذاته تعالى.

أمّا التعليل الذي يعلّلون به ظاهرة الوحي، فهو في واقعِه إنكار للوحي وتكذيب ملتوٍ للأنبياء بصورة عامّة، كما هم فسَّروا معجزة إبراء الأكمَه والأبرص بظاهرة الهبنو توزم (المغناطيسية الحيوانية)، فجعلوا من المسيح (عليه السلام) إنساناً مشعوذاً - حاشاه - يَستغلّ من عقول البسطاء مجالاً متّسعاً لترويج دعوته، بأساليب خدّاعة ينسبها إلى البارئ تعالى!.

ونحن نقدّس ساحة الأنبياء من أيّ مراوغة أو احتيال مسلَكي، وحاشاهم من ذلك، وما هي إلاّ واقعية بنَوا عليها دعوتهم الإصلاحية العامّة، واقعية يعترف بها العلم سواء في مراحله القديمة أو الجديدة الحاضرة، إذاً لا مبرّر لتأويل ما جاء في كتب الأنبياء من ظاهرة الوحي، اتّصالاً حقيقيّاً بمبدءٍ أعلى.

٢٠

أو في صورة دحية بن خليفة، وأخرى لا يراه، وإنَّما ينزل بالوحي على قلْبه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ( نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الأَمِينُ * عَلَى‏ قَلْبِكَ... ) (1) .

قال تعالى: ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى‏ * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى‏ * عَلّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ‏ ) : جبرائيل، مثال قدرته تعالى: ( ذُو مِرّةٍ ) أي: ذو عقلية جبّارة ( فَاسْتَوَى ) : استقام على صورته الأصليّة، وهذا هو المرَّة الأُولى في بدْء الوحي ( وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ) : سدَّ ما بين الشرق والغرب ( ثُمّ دَنَا فَتَدَلّى ) : فجعل يقترب من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى‏ * فَأَوْحَى ) الله بواسطة جبرائيل ( إِلَى‏ عَبْدِهِ ) محمَّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ( مَا أَوْحَى‏ * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ ) : فؤاد محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ( مَا رَأَى‏ ) ، فكان قلْبه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يصدّق بصره فيما يرى أنّه حقٌّ ( أَفَتُمارُونَهُ عَلَى‏ مَا يَرَى‏ * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى‏ ) : مرَّة ثانية في مرتبة أنزَل من الأُولى ( عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى‏ * عِندَهَا جَنّةُ الْمَأْوَى‏ * إِذْ يَغْشَى السّدْرَةَ مَا يَغْشَى‏ * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ) (2) فكان الذي يراه حقيقة واقعة، ليس وهْماً ولا خيالاً.

وقال: ( إِنّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) : جبرائيل ( ذِي قُوّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُم ) : محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ( بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ ) : رأى جبرائيل في صورة الأصليـة ( بِالأُفُـقِ الْمُبِيـنِ ) (3) ، إشارة إلى المرّة الأُولى أيضاً.

قال ابن مسعود: إنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يرَ جبرائيل في صورته إلاّ مرّتين، إحداهما: أنَّه سأله أن يراه في صورته فأراه صورته فسدَّ الأفُق، وأمّا الثانية: فحيث صعد به ليلة المعراج، فذلك قوله: ( وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ‏ ) (4) .

والصحيح: أنَّ المرَّتين كانت إحداهما: في بدْء الوحي بحراء، ظهر له جبرائيل في صورته التي خلَقه الله عليها، مالئاً أُفق السماء من المشرق والمغرب، فتهيَّبه

____________________

(1) الشعراء: 193 - 194.

(2) النجم: 3 - 17.

(3) التكوير: 19 - 23.

(4) الدرّ المنثور: ج6، ص123.

٢١

النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تهيّباً بالغاً، فنزل عليه جبرائيل في صورة الآدميّين فضمَّه إلى صدره، فكان لا ينزل عليه بعد ذلك إلاّ في صورة بشَر جميل.

والثانية: كانت باستدعائه الذي جاءت به الروايات: (كان لا يزال يأتيه جبرائيل في صورة الآدميين)، فسأله رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يُريَه نفسه مرّة أخرى على صورته التي خلَقه الله، فأراه صورته فسدّ الأفُـق، فقوله تعالى: ( وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى‏ ) كان المرّة الأُولى، وقوله: ( نَزْلَةً أُخْرَى ) كان المرَّة الثانية (1) .

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (وأحياناً يتمثّل لي المَلك رجلاً، فيكلّمني فأعي ما يقول) (2) .

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنَّ جبرائيل كان إذا أتى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يدخل حتّى يستأذنه، وإذا دخل عليه قعدَ بين يديه قعدة العبد) (3) .

هذا، وكان جبرائيل (عليه السلام) عندما يتمثَّل لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، يبدو في صورة دحية بن خليفة الكلبي، وبتعبيرٍ أصحَّ: يبدو في صورة شبيهة بدحية.

كما جاء في تعبير ابن شهاب: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يُشَبِّه دحية الكلبي بجبرائيل، حينما يتصوّر بصورة بشَر (4) .

وذلك لأنَّ دحية كان أجمل إنسان في المدينة، كان إذا قدم البلد خرجت الفتَيات ينظرْنَ إليه (5) .

والسبب في ذلك: أنَّ جبرائيل كان حينما يتمثّل بشراً، يتمثَّل صورة إنسان خلَقَه الله على الفطرة الأُولى، والإنسان في أصل خِلْقته جميل، فكان يتمثّل جبرائيل في أجمل صورة إنسانية، وبما أنَّ دحية كان أجمل إنسان في المدينة

____________________

(1) مجمع البيان للطبرسي: ج9، ص173 و175، وج10، ص446 / تفسير الصافي: ج2، ص618.

(2) البخاري: ج1، ص3.

(3) كمال الدين للشيخ الصدوق: ص85.

(4) الاستيعاب (بهامش الإصابة): ج1، ص474.

(5) الإصابة لابن حجر: ج1، ص473.

٢٢

كان الناس يزعمون من جبرائيل - وهو يتمثَّل بشَراً - أنَّه دحية الكلبي، ومن ثَمَّ كان العكس هو الصحيح.

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (كان جبرائيل يأتيني على صورة دحية الكلبي)، وكان دحية رجُلاً جميلاً.

والظاهر أنَّ الجملة الأخيرة هي من كلام أنَس، راوي الحديث (1) أي: على صورة تشبهها صورة دحية، وكان الصحابة يزعمونه دحية حقيقة، ومن ثمَّ نهاهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يدخلوا عليه إذا وجدوا دحية عنده، قال: (إذا رأيتم دحية الكلبي عندي فلا يدخلنَّ عليَّ أحد) (2) .

وكان جبرائيل قد يتمثّل للصحابة أيضاً بصورة دحية، كما في غزوة بني قريظة سنة خمس من الهجرة، شاهده الصحابة على بُلغة بيضاء (3) .

وشاهده أيضاً علي (عليه السلام) دفعات بمحضر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتكلَّم معه، والنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) راقد (4) .

وأمّا نزول المَلك عليه بالوحي من غير أن يراه فكثير أيضاً، إمّا إلقاء على مسامعه وهو يصغي إليه، أو إلهاماً في قلبه فيعِيَه بقوَّة، قال تعالى: ( وَإِنّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الأَمِينُ * عَلَى‏ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مُبِينٍ ) (5).

كان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أوائل نزول المَلك عليه بالوحي يخشى أن يفوته اللفظ، ومن ثَمَّ كان يحرِّك لسانه وشفتَيه؛ ليستذكره ولا ينساه، فكان يتابع جبرائيل في كلِّ

____________________

(1) الإصابة: ج1، ص473 / أُسد الغابة: ج2، ص130.

(2) بحار الأنوار: ج37، ص326 عن كتاب حجَّة التفصيل لابن الأثير.

(3) سيرة ابن هشام: ج3، ص245.

(4) بحار الأنوار: ج20، ص210 و ج22، ص332 / المجمع: ج8، ص351.

(5) الشعراء: 192 - 195.

٢٣

حرفٍ يلقيه عليه، فنهاه تعالى عن ذلك ووعَده بالحِفظ والرعاية من جانبه تعالى، قال: ( لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَاْنَاهُ فَاتّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمّ إِنّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (1) .

وربّما كان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقرأ على أصحابه فَور قراءة جبرائيل عليه، وقبل أن يستكمل الوحي أو تنتهي الآيات النازلة؛ حرصاً على ضبْطه وثبْته، فنهاه تعالى أيضاً وقال: ( وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَبّ زِدْنِي عِلْماً ) (2) ، فطمأنه تعالى بالحِفظ والرعاية الكاملة، فكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد ذلك إذا أتاه جبرائيل استمع له، فإذا انطلق قرأه كما أقرأه (3) ، قال تعالى: ( سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ) (4).

وإشارة إلى هذا النحو من الوحي الذي هو نكْتٌ في القلب، قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنّ روح القدس نفث في رَوعي) (5) وهو سواد القلب، كناية عن السرّ الباطن، والمقصود روحه الكريمة.

3 - الوحي المباشر:

ولعلَّ أكثرية الوحي كان مباشرياً لا يتوسَّطه مَلك، على ما جاء في وصف الصحابة حالته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ساعة نزول الوحي عليه، كان ذا وطئٍ شديد على نفسه الكريمة، يجهد من قواه وتعتريه غشاوة مُنهكة، فكان ينكّس رأسه ويتربَّد وجهه ويتصبَّب عرَقاً، وتسطو على الحضور هيبة رهيبة، ينكّسون رؤوسهم صموداً من رَوعة المنظر الرهيب، قال تعالى: ( إِنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ) (6) .

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (كان ذلك إذا جاءه الوحي وليس بينه وبين الله مَلك).

____________________

(1) القيامة: 16 - 19.

(2) طه: 114.

(3) طبقات ابن سعد: ج1، ص132.

(4) الأعلى: 6.

(5) الإتقان: ج1، ص44.

(6) المزّمّل: 5.

٢٤

فكان تصيبه تلك السبتة (1) ويغشاه ما يغشاه لثقل الوحي عليه، أمّا إذا أتاه جبرائيل بالوحي، فكان يقول: (هو ذا جبرائيل، أو قال لي جبرائيل...) (2) .

قال الشيخ أبو جعفر الصدوق: إنَّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يكون بين أصحابه فيغمى عليه وهو يتصابًُّ عرَقاً، فإذا أفاق قال: (قال الله تعالى كذا وكذا، وأمركم بكذا ونهاكم عن كذا)، قال: وكان يزعم أكثر مخالفينا أنّ ذلك كان عند نزول جبرائيل، فسُئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن الغشية التي كانت تأخذ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أكانت عند هبوط جبرائيل؟ فقال: (لا، إنّ جبرائيل كان إذا أتى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يدخل حتّى يستأذنه، وإذا دخل عليه قعَد بين يديه قعدة العبد، وإنّما ذاك عند مخاطبة الله عزّ وجلّ إيّاه بغير ترجمان وواسطة) (3) .

موقف النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الوحي:

هنا موضوعان لهما أهميّة كبيرة بشأن رسالة الأنبياء وصدْق دعوتهم إلى الله، لابدّ من معالجتهما بصورة علمية مقبولة، وقد تكلَّم فيهما عامّة أهل السنّة بطريقة غير مألوفة، وربّما لا يستسيغها العقل الفطري في شيء.

أمّا علماؤنا الإمامية، فتكلّموا فيهما بطريقة عقلية على أساس الاستدلال البرهاني مدعماً بالنقل المأثور عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).

الأوّل: كيف عرف النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه مبعوث؟ ولِمَ لم يشكّ في أنَّ الذي أتاه شيطان، واطمأنّ أنَّه جبرائيل (عليه السلام)؟؟.

الثاني: هل يجوز على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يخطأ فيما يوحى إليه، فيلتبس عليه تخيّلات باطلة في نفسه لتبدو له بصورة وحي، أو يُلقي عليه إبليس ما يظنُّه وحياً من الله؟.

____________________

(1) هي إغماءة تشبه النعْسة.

(2) المحاسن للبرقي: ص338 / أمالي الشيخ: ص31 / بحار الأنوار: ج18، ص271، وص268.

(3) كمال الدين: ص85 / البحار: ج18، ص260.

٢٥

نعم، إنّ ما بقي بأيدي الناس من كتُب منسوبة إلى الأنبياء - غير القرآن - لم تبقَ سالمة من تطاول أيدي المحرِّفيـن، ومن ثمّ ففيها من الغثّ والسمين الشيء الكثير، ونحن نرْبأ بعلماء محقّقين أن يجعلوا من موضوع دراستهم لشؤون الأنبياء (عليهم السلام) تلكم الكتُب المحرّفة.

أنحاء الوحي الرسالي:

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً ) أي: إلهاماً وقذفاً في روعه، وهو إلقاء في الباطن، يحسّ به الموحى إليه كأنّما كُتب في ضميره صفحة لامعة، أو رؤيا في منام، ( أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ ) أي: يكلّمه تكليماً يسمع صوته ولا يرى شخصه، كما كلَّم موسى (عليه السلام) بخلْق الصوت في الهواء يخرق مسامعه، ويأتيه من كلِّ مكان، وكما كلَّم نبيّنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليلة المعراج.

والتكليم من وراء حجاب كناية أو تشبيه بمن يتكلّم محتجباً، أو المراد بالحجاب الحجاب المعنوي؛ لبُعد الفاصلة بين كمال الواجب ونقص الممكن.

( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) مَلكاً من الملائكة ( فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) ، إمّا إلقاءً على السمع، أو نقراً في القلب ( إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) .

( وَكَذَلِكَ ) أي على هذه الأنحاء الثلاثة: إلهاماً، وتكليماً، وإرسال مَلك (1) ، ( أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً ) هي: الشريعة أو القرآن ( مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (2) .

هذه أنحاء الوحي بوجه عامّ وبصورة إجمالية، أمّا بالنسبة إلى نبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فكان يأتيه الوحي تارةً في المنام، وهذا أكثريّاً كان في بدْء نبوَّته،

____________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج18، ص246.

(2) الشورى: 51 و52.

٢٦

وأخرى وحياً مباشريّاً من جانب الله بلا توسيط مَلك، وثالثة مع توسيط جبرائيل (عليه السلام)، غير أنّ الوحي القرآني كان يخصّ الأخيرَين إمّا مباشرةً أو على يد مَلك، وإليك بعض التفصيل:

1 - الرؤيا الصادقة:

كان أوّل ما بُدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة، كان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلَق الصبح، وهو كناية عن تشعشع نورانيّ كان ينكشف لروحه المقدّسة؛ تمهيداً لإفاضة روح القدُس عليه (صلوات الله عليه وآله)، ثمّ حُبِّب إليه الخلأ، فكان يخلو بغارِ حراء يتحنَّث فيه (1) الليالي أُولات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثمّ يرجع إلى خديجة فتزوّده لمِثلها (2) حتّى فجَأه الحقّ، وهو في غار حراء: جاءه المَلك فقال: ( اقْرَأْ.. ) (3).

قال علي بن إبراهيم القمّي: إنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمّا أتى له سبع وثلاثون سنة، كان يرى في منامه كأنّ آتياً يأتيه فيقول: يا رسول الله، ومضت عليه بُرهة من الزمن وهو على ذلك يكتمُه، وإذا هو في بعض الأيّام يرعى غنماً لأبي طالب في شُعَب الجبال إذ رأى شخصاً يقول له: (يا رسول الله، فقال له: مَن أنت؟ قال: أنا جبرائيل أرسلني الله إليك ليتّخذك رسولاً...) (4) .

قال الإمام الباقر (عليه السلام): (وأمّا النبيّ فهو الذي يرى في منامه، نحو رؤيا إبراهيم (عليه السلام)، ونحو ما كان رأى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أسباب النبوّة قبل الوحي،

____________________

(1) التحنّث: التحنّف، وهو المَيل إلى الحنيفيّة، كناية عن التعبّد الذي هو مطهرةٌ للعبد، قال ابن هشام: تقول العرب: التحنّث والتحنّف، فيبدلون الفاء من الثاء، كما في جدث وجدف أي: القبر، قال: وحدّثني أبو عبيدة أنّ العرب تقول: فمَّ في موضوع ثمَّ (راجع السيرة: ج1، ص 251).

(2) التزوّد: استصحاب الزاد.

(3) صحيح البخاري: ج 1، ص 3 / صحيح مسلم: ج1، ص 97 / تاريخ الطبري: ج2، ص 298.

(4) بحار الأنوار: ج 18، ص 184 و 194.

٢٧

حتّى أتاه جبرائيل (عليه السلام) من عند الله بالرسالة...) (1) .

قوله: (قبْل الوحي) أي قبل الوحي الرساليّ المأمور بتبليغه؛ لأنّ هذا البيان تفسير لمفهوم (النبيّ) قبل أن يكون رسولاً، وهو إنسان أُوحيَ إليه من غير أن يكون مأموراً بتبليغه، فهو يتّصل بالمَلأ الأعلى اتّصالاً روحيّاً، وينكشف له الملكوت كما حصل لنبينا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قُبيل بِعثته المباركة.

قال صدر الدين الشيرازي: يعني أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اتّصفت ذاته المقدّسة بصفة النبوّة، وجاءته الرسالة من عند الله باطناً وسرّاً، قبل أن يتَّصف بصفة الرسالة، أو ينزل عليه جبرائيل معايناً محسوساً بالكلام المنزل المسموع، وإنّما جاءه جبرائيل معايناً حين جمعَ له من أسباب النبوَّة ما جمع للأنبياء الكاملين - كإبراهيم - من الرؤيا الصادقة، والإعلامات المتتالية بحقائق العلوم والإيحاءات بالمغيّبات.

والحاصل: أنَّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) استكمل باطنه وسرّه قبل أن يتعدّى صفة الباطن منه إلى الظاهر، فاتّصف القالَب بصفة القلْب محاكياً له، والأوَّل نهاية السفر من الخلْق إلى الحقّ، والثاني نهاية السفر من الحقّ بالحقّ إلى الخلْق (2) .

* * *

نعم، ربّما كانت الرؤيا الصادقة سبيل الوحي إليه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيُلقى إليه العلم أحياناً في المنام، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (رؤيا الأنبياء وحي) (3) ، ولكن لم يكن شيء من ذلك قرآناً، إذ لم يعهد نزول قرآن عليه في المنام، نعم، وإن كانت بعض رؤاه أسباباً لنزول القرآن، كما في قوله تعالى: ( لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيَا بِالْحَقّ لَتَدْخُلُنّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللّهُ... ) (4) ، فقد رأى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذلك عام

____________________

(1) الكافي للكليني: ج1، ص176 / بحار الأنوار: ج18، ص266.

(2) شرح أصول الكافي لصدر المتألّهين: كتاب الحجَّة، الحديث الثالث ص 454.

(3) أمالي الشيخ الطوسي: ص215 / البحار: ج11، ص64.

(4) الفتح: 27.

٢٨

الحديبيَّة (1) ، وصَدقت عام الفتح (2) .

وكما في قوله: ( وَمَا جَعَلْنَا الرّؤْيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لّلنّاسِ وَالشّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ... ) (3) .

فقد أخرج: ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي، وابن عساكر عن سعيد بن المسيّب، قال: رأى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بَني أُميّة على المنابر، فسائه ذلك، فأوحى الله إليه: (إنّما هي دنيا أُعطوها)، وهي قوله تعالى: ( وَمَا جَعَلْنَا الرّؤْيَا... ) يعني بلاءً للناس (4) .

هذا، وقد ذكر بعضهم أنَّ سورة الكوثر نزلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المنام؛ لرواية أنس بن مالك، قال: بَينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بين أظْهُرِنا إذ أُغفيَ إغفاءة، ثمَّ رفع رأسه متبسّماً، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله!؟ فقال: (أُنزلت عليَّ آنفاً سورة) ، فقرأ: ( بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ * إِنّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ... ) إلخ (5) .

قال الرافعي: إنَّهم فهِموا من ذلك أنَّ السورة نزلت في تلك الإغفاءة، لكنَّ الأشبه أنَّه خطَر له في النوم سورة الكوثر المنزَلة عليه قبل ذلك، فقرأها عليهم وفسَّرها لهم، قال: وقد يُحمَل ذلك على الحالة التي كانت تعتريه عند نـزول الوحـي، ويقال لها: برحاء الوحي، وهي سبتة شِبه النعاس كانت تعرضه من ثقْل الوحي.

قال جلال الدين: الذي قاله الرافعي في غاية الاتّجاه، والتأويل الأخير أصحّ من الأوَّل؛ لأنَّ قوله (آنفاً) يدفع كونها نزلت قبْل ذلك، بل نزلت في تلك الحالة، ولم يكن الإغفاء إغفاء نوم، بل الحالة التي كانت تعتريه عند الوحي (6)، وآنف بمعنى قُبيل هذا الوقت.

أقول: لا شكَّ أنَّ سورة الكوثر مكّية، وهذا هو المشهور بين المفسِّرين شهرةً تكاد تبلغ التواتر.

قالوا: نزلت بمكَّة عندما عابَه المشركون بأنَّه أبتَر لا عَقِب له، أو

____________________

(1) وهي سنة السِتّ من الهجرة.

(2) وهي سنة الثمان.

(3) الإسراء: 60.

(4) الدرّ المنثور للسيوطي: ج4، ص191 / تفسير الطبري: ج15، ص77.

(5) الدرّ المنثور: ج6، ص401.

(6) الإتقان: ج1، ص23.

٢٩

أنَّه مبتور من قومه منبوذ.

وهكذا لمّا مات ابنه عبد الله مشَت قريش بعضهم إلى بعض متباشرين، فقالوا: إنّ هذا الصابي قد بُتر الليلة.

قال ابن عباس: دخل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من باب الصفا وخرج من باب المروة، فاستقبله العاص بن وائل السهمي، فرجع العاص إلى قريش، فقالت له قريش: مَن استقبلك يا أبا عمرو آنفاً؟ قال: ذلك الأبتر - يريد به النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - فأنزل الله جلَّ جلاله سورة الكوثر؛ تسليةً لنفس نبيّه الزكية (1) .

هذا، وأنس عند وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يبلغ العشرين، إذ كان عند مَقدمه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المدينة طفلاً لم يتجاوز التسْع، وقيل: ثماني سنوات (2) ، فكيف نثِق بحديث منه يخالف إطباق الأمّة على خلافـه، وأنّها نزلت بمكّة في قصّة جازت حدّ التواتر؟! الأمر الذي يرجّح الوجه الأوَّل من اختيار الإمام الرافعي، أو نجعل من رواية أنَس حبْلَها على غاربِها!.

نعم، أخرج مسلم والبيهقي هذه الرواية من وجه آخر، ليس فيه (أُنزلت عليّ)، قال: أُغفيَ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إغفاءة، ثمّ رفع رأسه فقرأ: ( بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ * إِنّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ... ) إلخ، ثمّ فسّرها بنَهَر في الجنَّة.

قال البيهقي: وهذا اللفظ أَولى، حيث لا يتنافى وما عليه أهل التفاسير والمغازي من نزول سورة الكوثـر بمكّـة... (3) .

2 - نزول جبرائيل (عليه السلام):

كان المَلك الذي ينزل على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالوحي هو: جبرائيل (عليه السلام)، فكان يلقيه على مسامعه الشريفة، فتارةً يراه إمّا في صورته الأصليَّة - وهذا حصل مرَّتين -

____________________

(1) راجع أسباب النزول للسيوطي بهامش الجلالين: ج2، ص142 / والدرّ المنثور: ج6، ص401.

(2) أُسد الغابة لابن الأثير: ج1، ص127.

(3) الدرّ المنثور: ج6، ص401.

٣٠

والأكثر في الموضوع الأوّل جعلوا من النبي (صلّى الله عليه وآله) مرتاعاً في أوَّل أمره، خائفاً على نفسه من مسّ جنون، عائذاً إلى أحضان زوجته الوفية؛ لتستنجد هي بدورها إلى ابن عمّها ورقة بن نوفل، فيُطَمْئنه هذا بأنَّه نبيّ، ويؤكِّد عليه ذلك حتّى يطمئنّ ويستريح بالَه.

أمّا الموضوع الثاني، فقد أجازوا لإبليس أن يتلاعب بوحي السماء، فيُلقي على النبي (صلّى الله عليه وآله) ما يظنّه وحياً - كما في حديث الغرانيق - لولا أن يتداركه جبرائيل فيُذهب بكَيد الشيطان.

وقد ذهب أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في كِلا الموضوعين مذهباً نزيهاً، وجعلوا من النبي (صلّى الله عليه وآله) أكرم على الله من أن يتركه إلى إنسانٍ غيرَه، ولا ينير عليه الدلائل الواضحة على نبوَّته الكريمة في تلك الساعة الحرجة، كما لا يدع للشيطان أن يستحوذ على مشاعر نبيّه الكريم: ( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ فَإِنّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ ) (1) .

هذا، ويجدر بنا ونحن نحاول تنزيه جانب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ممّا ألصقوه بكرامته، أن نتكلم في كِلا المجالين بصورة مستوفاة، كلاًّ على حِدة.

النبوَّة مقرونة بدلائل نيِّرة:

يجب على الله - وجوباً منبعثاً من مقام لُطفه ورأفته بعباده - أن يقرِن تنبيئه إنساناً بدلائل نيّرة، لا تدَع لمسارب الشكّ مجالاً في نفسه، كما أرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض؛ ليكون من الموقِنين (2) ، وكما ( نُودِيَ يَا مُوسَى‏ * إِنّي أَنَا رَبّكَ ) (3) ، ( يَا مُوسَى‏ إِنّهُ أَنَا اللّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *... يَا مُوسَى‏ لاَ تَخَفْ إِنّي

____________________

(1) الطور: 48.

(2) مقتبس من الآية 75 من سورة الأنعام.

(3) طه: 11 و12.

٣١

لاَ يَخَافُ لَدَيّ الْمُرْسَلُونَ ) (1) .

هذا هو مقتضى قاعدة اللطف، وقد بحث عنها علماء الكلام (2) ، وتتلخّص في تمهيد سبيل الطاعة، فواجب عليه تعالى أن يُمهِّد لعباده جميع ما يقرّبهم إلى الطاعة ويبعّدهم عن المعصية، وهذا الوجوب منبعث من مقام حكمته تعالى، إذا كان يريد من عِباده الانقياد، وإلاّ كان نقضاً لغرضه من التكليف، ومن ثَمّ وجب عليه تعالى أن يبعث الأنبياء وينزل الشرائع ويجعل في الأمم ما ينير لهم درب الحياة، إمّا إلى سعادة فباختيارهم، أو إلى شقاء فباختيارهم أيضاً (3) .

وطبقاً لهذه القاعدة لا يدع تعالى مجالاً لتدليس أهل الزَيغ والباطل، إلاّ ويفضحهم من فورهم ( وَلَوْ تَقَوّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (4) ، فالحقّ دائماً يعلو ولا يُعلى عليه، والحقّ والباطل دائماً على وضَح الجلاء، لا يكدِّر وجه الحقّ غبار الباطل أبداً ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) (5) ، ( إِنّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا ) (6) وهذا إنّما هو نصر واعتلاء مبدئيّ، فالحقّ دائماً ظاهر منصور، وإنَّ رسالة الأنبياء دائماً تكون هي الغالبة الظافرة ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنّ جُنْدَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ ) (7) نعم ( إِنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ) (8) .

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (أبى الله أن يعرِّف باطلاً حقّاً، أبى الله أن يجعل الحقَّ

____________________

(1) النمل: 9 و10.

(2) عِلم منشعب عن الفلسفة الحِكَمية، يبحث عن أحوال المبدأ والمعاد في ضوء العقل وإرشاد الشريعة.

(3) راجع شرح تجريد الاعتقاد للعلاّمة الحلّي: ص181.

(4) الحاقّة: 44 - 46.

(5) الأنبياء: 18.

(6) غافر: 51.

(7) الصافّات: 171 - 173.

(8) النساء: 76.

٣٢

في قلب المؤمن باطلاً لا شكَّ فيه، وأبى الله أن يجعل الباطل في قلب الكافر المخالف حقّاً لا شكّ فيه، ولو لم يجعل هذا هكذا ما عُرف حقٌّ من باطل) (1).

وقال (عليه السلام): (ليس من باطل يقوم بإزاء الحقّ، إلاّ غلَب الحقُّ الباطلَ، وذلك قوله تعالى: ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) ) (2) .

هذا، وقد سأل زرارة بن أعين الإمام أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) عن نفس الموضوع، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف لم يخفْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيما يأتيه من قِبل الله أن يكون ممّا ينزغ به الشيطان؟ فقال (عليه السلام): (إنّ الله إذا اتّخذ عبداً رسولا أنزل عليه السكينة والوقار - أي الطمأنينة والاتّزان الفكري - فكان الذي يأتيه من قِبل الله مثل الذي يراه بعينه) (3) أي: يجعله في وضَح الحقّ، لا غبار عليه أبداً، فيرى الواقع ناصعاً جلياً لا يشكّ ولا يضطرب في رأيه ولا في عقله).

وقد أوضح الإمام (عليه السلام) ذلك في حديث آخر، سُئل (عليه السلام): كيف عَلمت الرسُل أنَّها رسُل؟ قال: (كُشف عنهم الغطاء) (4) .

قال العلاّمة الطبرسي: (إنّ الله لا يوحي إلى رسوله إلاّ بالبراهين النيِّرة والآيات البيِّنة، الدالَّة على أنَّ ما يوحى إليه إنَّما هو من الله تعالى، فلا يحتاج إلى شيء سواها، ولا يفزع ولا يُفزَّع ولا يَفرق) (5) .

وقال القاضي عيّاض: لا يصحّ - أي في حكمته تعالى، وهو إشارة إلى قاعدة اللطف - أن يتصوّر له الشيطان في صورة المَلك، ويلبس عليه الأمر، لا في أوَّل الرسالة ولا بعدها، والاعتماد - أي اطمئنان النبيّ - في ذلك دليل المعجزة، بل لا يشكّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنَّ ما يأتيه من الله هو المَلك ورسوله الحقيقي، إمّا بعلم

____________________

(1) المحاسن للبرقي: كتاب مصابيح الظلم حديث 394، ص222.

(2) نفس المصدر: حديث 395.

(3) تفسير العيّاشي: ج2، ص201 / والبحار: ج18، ص262.

(4) بحار الأنوار: ج11، ص56.

(5) مجمع البيان: ج10، ص384.

٣٣

ضروريّ يخلُقه الله له، أو ببرهان جليّ يظهره الله لديه؛ لتتمّ كلمة ربِّك صِدقاً وعدلاً لا مبدِّل لكلمات الله (1) .

إذاً فلابدَّ أن يكون النبي (صلّى الله عليه وآله) حين انبعاثه نبيّاً على عِلم يقين، بل عين يقين من أمْره، لا يشكّ ولا يضطرب، مستيقناً مطمئنّاً باله، مَرعيّاً بعناية الله تعالى ولُطفه الخاصّ، منصوراً مؤيَّداً، ولاسيَّما في بدْء البعثة، فيأتيه الناموس الأكبر وهو الحقّ الصِراح معايَناً مشهوداً، وهي موقعية حاسمة لا ينبغي لنبيّ أن يتزلزل فيها، أو يتروّع في موقفه ذلك الحرج العصيب: ( إِنّي لاَ يَخَافُ لَدَيّ الْمُرْسَلُونَ ) (3) .

* * *

وأيضاً فإنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لم يخترْه الله لنبوَّته إلاّ بعد أن أكمل عقله وأدَّبه فأحسن تأديبه، وعرَّفه من أسرار ملكوت السماوات والأرض ما يستأهله للقيام بمهمَّة السفارة وتبليغ رسالة الله إلى العالمين، كما فَعل بإبراهيم الخليل (عليه السلام).

قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (ولقد قرَنَ الله به من لدُن أن كان فطيماً أعظم مَلك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره..) (3) .

وقال الإمام العسكري (عليه السلام): (إنّ الله وجدَ قلب محمّد (صلّى الله عليه وآله) أفضل القلوب وأوعاها، فاختاره لنبوَّته..) (4) .

قال العلاّمة المجلسي (رحمه الله): منذ أن أكمل الله عقله لم يزل مؤيَّداً بروح القدُس، يكلّمه ويسمع صوته ويرى الرؤيا الصادقة، حتّى بعثه الله نبيّاً رسولاً (5) .

والدلائل على أنَّه (صلّى الله عليه وآله) منذ بدايته كان مورد لُطفه تعالى وعنايته الخاصَّة كثيرة، وقد عرَف قومه فيه النبوغ والجدارة الذاتية، ولمَسوا فيه الصدْق والأمانة

____________________

(1) رسالة الشفا: ج2، ص112.

(2) النمل: 10.

(3) نهج البلاغة: ج1، ص392، الخطبة القاصعة.

(4) بحار الأنوار: ج18، ص206.

(5) بحار الأنوار: ج18، ص277.

٣٤

والذكاء والفطنة، فوجدوه مزيجاً من الاستقامة وحصافة العقل، حتّى حُبِّب إلى الناس جميعاً، ولقّبوه بالصادق الأمين، أميناً في رأيه، وأميناً في سلوكه.

وكان قُبيل بعثته تظهر له علائم النبوَّة، فقد ظهرت آياتها قبل ثلاث سنوات من بعثته وهو في سِنِّ السابعة والثلاثين - كما في رواية عليِّ بن إبراهيم القمّي (1) - فكان يرى الرؤيا الصادقة، وكان يختلي بنفسه في غار حراء، متفكّراً في أسرار الملكوت، متعمِّقاً في ذات الله، متطلِّعاً سرَّ الخليقة، حتّى فاجأه الحقُّ وقد بلغ سِنَّ الأربعين، فقد كان ممهِّداً نفسه لذلك، عارفاً بسِمات أمر قد أشرفَت طلائعه منذ حين، وهكذا إنسان لا يفزع ولا يَفرق ولا يظنّ بنفسه الجِنَّة أو عارضة سوء؛ ليلتجئ إلى امرأة لا عهد لها بأسرار النبوّات، أو رجُل (2) كان حظّه من العلم أن قرأ كتُباً محرَّفة وآثاراً بائدة، لم يثبت آنذاك أنَّه لمَسَ حقائق ومعارف من المَلك والملكوت، كانت موجودة فيها لحدّ ذاك غير ممسوخة عن فطرتها الأُولى.

على أنَّ النبيّ محمَّداً (صلّى الله عليه وآله) كان أشرف الأنبياء وأفضل المرسلين وخاتم سفراء ربِّ العالمين، فكان أكرم عليه تعالى من أن يتركه ونفسه يتلوّى في أحضان القلق والاضطراب، خائفاً على نفسه مَسَّ جنون أو الاستحواذ على عقله الكريم، على ما جاءت في روايات آتية لا قيمة لها عندنا.

إذاً فقد كان موقف النبي (صلّى الله عليه وآله) تجاه نزول الحقِّ عليه - في بدء البعثة - موقف إنسان واعٍ بجليِّ الأمر، عارف بحقيقة الحقّ النازل عليه، في اطمئنان بالغ وسكون نفس وانشراح صدر، لم يتردَّد ولم يشكَّ ولم يضطرب، كما لم يفزع ولم يَفْرق، وسنذكر قصَّة بدء البعثة على ما جاءت في روايات أهل البيت (عليهم السلام)، وهي تشرح جوانب من موقف النبي (صلّى الله عليه وآله) آنذاك مِلؤها عَظمة وإكبار وأُبّهة وجلال.

____________________

(1) راجع ص22 من هذا الكتاب.

(2) هو ورقة بن نوفل ابن عمّ خديجة، تأتي قصّته في الصفحة القادمة.

٣٥

قصّة وَرَقة بن نوفل:

تلك كانت قصَّة البِعثة، وفق ما جاءت في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، وهُم أدرى بما في البيت، وإليك الآن حديثاً آخر عن بعثة النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) على ما جاءت في روايات غيرهم:

روى البخاري، ومسلم، وابن هشام، والطبري وأضرابهم: بينما كان النبي (صلّى الله عليه وآله) مختلياً بنفسه في غار حراء، إذ سمع هاتفاً يدعوه، فأخذه الرَوع ورفع رأسه وإذا صورة رهيبة هي التي تناديه، فزاد به الفزع وأوقفه الرُعب مكانه، وجعل يصرف وجهه عمَّا يرى، فإذا هو يراه في آفاق السماء جميعاً ويتقدَّم ويتأخَّر، فلا تنصرف الصورة من كلِّ وجه يتَّجه إليه، وأقام على ذلك زمناً، ذاهلاً عن نفسه، وكاد أن يطرح بنفسه من حالق من جبل، من شدّة ما ألَمّ به من روعة المنظر الرهيب.

وكانت خديجة قد بعثت أثنائه مَن يلتمس النبي (صلّى الله عليه وآله) في الغار فلا يجده، حتّى إذا انصرفت الصورة عاد هو راجعاً وقلبه مضطرب ممتلئاً رُعباً وهلَعاً، حتّى دخل على خديجة وهو يرتعد فرِقاً كأنَّ به الحمّى، فنظر إلى زوجه نظرة العائذ المستنجد، قائلاً: يا خديجة: ما لي؟! وحدَّثها بما رأى، وأفْضى إليها بمخاوفه أن تخدعه بصيرته، قال: لقد أشفقتُ على نفسي، وما أراني إلاّ قد عرَض لي (1) ، وقال: إنَّ الأبعد - يعني نفسه الكريمة - لكاهن أو مجنون!

فرَنت إليه زوجه الوفيَّة بنظرة الإشفاق، وقالت: كلاّ يا ابن عمّ، أبشِر واثبت، والله لا يخزيك أبداً، فو الذي نفس خديجة بيده إنّي لأرجو أن تكون نبيَّ هذه الأمّة، إنّك لتصِل الرحِم، وتصدُق الحديث، وتُقري الضيف، وتُعين على النوائب، وما أوتِيت بفاحشة قطّ، وهكذا طمأنَته بحديثها المرهَف.

____________________

(1) قال ابن الأثير: أي أصابني مسّ من الجِنّ.

٣٦

ثمَّ قامت بتجربة ناجحة، قالت: يا ابن عمّ، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك؟ قال: نعم، قالت: فإذا جاءك فأخبرني به، فجاءه المَلك كما كان يأتيه، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): يا خديجة، هذا هو قد جاءنـي، فقالت: نعم، فقم يا بن عمّ واجلس على فخِذي اليسرى، فقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فجلس عليهـا، فقالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحوَّل واقعد على فخذي اليمنى، فتحوَّل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فجلس عليها، فتحوَّل وجلس في حِجرها، ثمَّ تحسَّرت (1) وألقت خمارها، ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) جالس في حِجرها، فقالت: هل تراه يا بن عمّ؟ قال: لا، فقالت: يا بن عمّ، أبشِر واثبت، فو الله إنَّه لمَلك وما هو بشيطان.

ثمَّ توكيداً لِمَا استنتجتْه من تجربتها، انطلقت إلى ابن عمِّها ورقة بن نوفل، وكان متنصِّراً قارئاً للكتُب، فقصَّت عليه خبر ابن عمِّها محمَّد (صلّى الله عليه وآله)، فقال ورقة: قدّوس قدّوس، لئن كنتِ صدقتني يا خديجة، فقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، فقولي له: فليثبت، وإنَّه لنبيُّ هذه الأمّة، ولوددتُ أن أُدرِك أيَّامه فأؤمن به وأنصره، فعادت خديجة إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأخبرته بما قال، فعند ذلك اطمأنَّ بالُه، وذهبت رَوعتـه، وأيقن أنَّه نبيّ (2) .

* * *

قلت: لا شكَّ أنَّ قصّة ارتياع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بتلك الصورة الفظيعة، أسطورة خرافة حاكَتها عقول ساذجة جاهلة بمقام أنبياء الله الكرام، ومن ثمَّ فهي إزراء بشأنهم الرفيع، وحطٍّ من منزلتهم الشامخة، إن لم تكن ضعضعة بأقوى دعامة رسالة الله!.

أوّلاً: النبي (صلّى الله عليه وآله) أكرم على الله من أن يروِّعه في ساعة حرجة، هي نقطة حاسمة في حياة رسوله الكريم، هي نقطة تحوّلٍ عظيم، من إنسان كامل كان

____________________

(1) أي: كشفَتْ عن نفسها.

(2) راجع سيرة ابن هشام: ج1، ص252 - 255 / صحيح البخاري: ج1، ص3 - 4 / صحيح مسلم: ج1، ص97 - 99 / تاريخ الطبري: ج2، ص298 - 303 / تفسيره: ج30، ص161 / حياة محمّد لهيكل: ص95 - 96.

٣٧

مسؤول نفسه، إلى إنسان رسول هو مسؤول أُمَّة بأجمعها، كان قبل أن يصل إلى موقفه هذا العصيب يسير قدُماً إلى قمَّة الاكتمال الإنسانيّ الأعلى، في سفرة خطرة كان مبدأُها الخَلْق ومنتهاها الحقّ تعالى، فكان يسير من الخلْق إلى الحقّ، والآن وقد وصل القمَّة، فعاد من الحقّ، حاملاً للحقّ إلى الخلْق (1) .

فساعة البِعثة هي الفترة الحاسمة، وهي الحلقة الواصلة بين السفرتين الذاهبة والراجعة، وهي موقف حرِج، حاشا لله أن يترك حبيبه يكابِد الأمَرَّين حينما بلغ قمَّة اللقاء، والآن يريد أن يختاره رسولاً إلى الناس، فيتركه يتلوّى في هواجس مخطرة، ويروّعه بتلك الصورة الفظيعة التي تكاد تُذهب بنفسه الكريمة، أو تستحوذ على عقله روعةُ المنظر الرهيب!!

أليس محمّد (صلّى الله عليه وآله) أكرم على الله من إبراهيم الخليل، وموسى الكليم وغيرهما من أنبياء عِظام، لم يتركهم في ساعة العُسرة؛ ليلتجئوا إلى إنسانٍ غيره، حاشاه من ربٍّ رؤوفٍ رحيم!!.

ثانياً: إنَّا لنربأ بعلماء - هُم أهل تحقيق وتمحيص - أن يفضِّلوا عقليَّة امرأة لا شأن لها وأسرار النبوّات، على عقليَّة إنسان كامل كان قد بلَغ القمَّة التي استأهلته لحمْل رسالة الله، ثمَّ تقوم هي بتجربة حاسمة يجهلها رسول ربِّ العالمين؛ ليطمئنَّ إلى قَولتها، أو قولة رجُل كان شأنه أن كان قارئاً للكتُب، وليس لذلك العهد كُتب فيها حقائق ومعارف غير محرَّفة قطعياً، ولم نعرف ما الذي وجده رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في قَولتِهما، فكان منشأ اطمئنانه لم يجده في الحقِّ النازل عليه من عند الله العزيز الحكيم.

ألم تكن الرؤى الصادقة التي سبقت البِعثة، ولم يكن تسليم المَلك النازل عليه حينها: السلام عليك يا رسول الله، وتسليم الشجر والحجَر كلَّما مرَّ بهما في طريقه

____________________

(1) على ما جاء في تعبير الفيلسوف الإلهي الحكيم صدر الدين الشيرازي، تقدّم كلامه في ص 25 فراجع.

٣٨

راجعاً إلى بيت خديجة، ولم يكن عِرفانه الذاتي الذي كان يتعمَّقه مدَّة اختلائه بِحراء، كلّ ذلك لم يستوجب استيقانه بالأمـر، ليستيقن من طَمْأنة امرأة أو رجل متنصّر؟! إنّ هذا إلاّ إزراء فظيع بمقام رسالة الله، إن لم يكن مسّاً شنيعاً بكرامة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) المنيعة.

ثالثاً: اختلاف سرد القصَّة، بما لا يلتئم مع بعضها البعض؛ لَدليلٌ على كِذبها رأساً.

ففي رواية: (انطلقت خديجة لوَحدها إلى ورَقة، فأخبرته بما جرى).

وفي أخرى: (انطلقت بي إلى ورقة وقالت: اسمع من ابن أخيك، فسألني فأخبرته، فقال: هذا الناموس الذي أُنزل على موسى).

وفي ثالثة: (لقيَه ورَقة بن نوفل وهو يطوف بالبيت، فقال: يا بن أخي، أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقال له ورقة: والذي نفسي بيده إنَّك لنبيُّ هذه الأمّة، ولئن أدركتُ ذلك لأنصرنَّ الله نصراً يعلمه).

وفي رابعة: (عن ابن عبّاس، عن ورَقة بن نوفل قال: قلت: يا محمّد، أخبرني عن هذا الذي يأتيك - يعني جبرائيل (عليه السلام) -؟ فقال: يأتيني من السماء، جناحاه لؤلؤ وباطن قدميه أخضر) (1) ، وهذا ليس في روايات خديجة مع ورَقة، على ما جاءت في الصحاح المتقدّمة.

وفي خامسة: (إنَّ أبا بكر دخل على خديجة، فقالت: انطلق بمحمَّد إلى ورَقة، فانطلقنا، فقصّا عليه...) (2) .

ثمَّ لو صحَّت القصَّة، فلماذا لم يؤمن به ورَقة حينذاك وقد علم أنَّه نبيّ مبعوث؟! فقد صحَّ أنَّه مات كافراً لم يؤمن بـه، وقضيَّة رؤيا النبي (صلّى الله عليه وآله): (كان ورَقة في ثياب بيض) أيضاً مكذوبة وسنَدها مقطوع، وإلاّ لسُجِّل اسمه فيمن آمن به، قال ابن عساكر: لا أعرف أحداً قال إنَّه أسلَم (3) .

هذا، وقد عاش ورقة إلى زمن بعد البعثة، فقد روي أنَّه مرَّ ببلال وهو يُعذَّب (4) .

____________________

(1) أُسد الغابة لابن الأثير: ج5، ص88، والرواية ضعيفة بروح بن مسافر، ولم يدرك ابنُ عباس ورَقة.

(2) الإتقان: ج1، ص24.

(3 و4) الإصابة: ج3، ص633.

٣٩

قال ابن حجر: وهذا يدلّ على أنَّه عاش حتَّى ظهرت دعوته (صلّى الله عليه وآله)، ودَعا بلالاً فأسلم، إذاً فلِم بقي على كُفره ولم يُسلم كما أسلم الآخرون؟ ولِمَ لم ينصره كما نصره آخرون؟ وقد خالف عهده كما جاء في الأسطورة.

الوحي لا يحتمل التباساً:

هذا هو الموضوع الثاني - فيما أشرنا سابقاً -: النبي (صلّى الله عليه وآله) لا يخطأ فيما يوحى إليه، ولا يلتبس عليه الأمر قطّ، النبي كان عندما يوحى إليه يُكشف عن عينه الغطاء، فيرى الواقعية فيما يتَّصل بجانب روحه الملكوتي، منقطعاً عن صوارف المادَّة، إنَّه (صلّى الله عليه وآله) حينذاك يلمس تجلّيات وإشراقات نورية تغشاه من عالم الملكـوت؛ لينصرف بكلّيته إلى لقاء روح الله وتلقّي كلماته، فيرى حقيقة الحقّ النازل عليه بشعورٍ واعٍ وبصيرةٍ نافذة، كمَن يرى الشمس في وضَح النهار، لا يحتمل خطأً في إبصاره ولا التباساً فيما يعِيه.

وهكذا الوحي، إذ لم يكن فكرة نابعة من داخل الضمير؛ ليحتمل الخطأ في ترتيب مقدّمات استنتاجها، أو إبصاراً من بعيد؛ ليتحمَّل التباساً في الانطباق (1) ، بل هي مشاهدةُ حقيقةٍ حاضرة بعَين نافذة، فاحتمال الخطأ فيه مستحيل.

____________________

(1) الخطأ إنّما يُحتمَل في مجالَين: إمّا في مجال التفكير، أو في مجال الإبصار الخارجي - مثلاً -؛ وذلك لأنّ للاستنتاج الفكري شرائط وأحكاماً، إذا ما أهملها المتفكّر فسوف يقع في خطأ التفكير، وكذلك إبصار العين الخارجية إذا كان من بعيد، فربّما يقع الخطأ فيه من ناحية تطبيق ما عند النفس من مرتكزات ومعلومات على خصوصيات يراها موجودة في العين الخارجية، فالخطأ إنَّما هو في هذا التطبيق النفسي لا في العين المشاهِدة؛ لأنّ الإبصار عبارة عن انطباع صورة الخارج - وهي واقعية لا تتغيّر - في الشبكية العصبية خلف بؤرة العين، وهذه ظاهرة طبيعية تتحقّق ذاتياً إذا ما تحقّقت شرائطها، نعم، كانت النفس هي التي تحكُم على ما شاهدتْه العين بأنّه كذا وكذا، والخطأ إنّما هو في هذا الحكم لا في ذاك الإبصار الطبيعي.

إذاً فبما أنّ الوحي خارج عن الأمرين، لا تفكير ولا إبصار من بعيد - مثلاً - وإنّما هو لمْس حقيقة حاضرة، فلا موقع للخطأ فيه أصلاً.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459