تلخيص التمهيد الجزء ١

تلخيص التمهيد8%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 459

  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 79910 / تحميل: 11264
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

وكان نزولها يوم النصّ على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه بغدير خمّ (١) .

أقول: لا شكّ أنّ سورة النصر نزلت قبل براءة؛ لأنّها كانت بشارة بالفتح، أو بمكَّة عام الفتح (٢) ، وبراءة نزلت بعد الفتح بسنة.

فطريق الجمْع بين هذه الروايات: أنَّ آخِر سورة نزلت كاملة هي سورة النصر، فقال (صلّى الله عليه وآله): (أمَا إنَّ نفسي نُعيَت إليَّ) (٣) ، وآخِر سورة نزلت باعتبار مفتتحها هي سورة براءة.

وأمّا آية: ( وَاتّقُوْا يَوْمَاً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ) فإن صحَّ أنّها نزلت بمِنى يوم النحْر في حجَّة الوداع، كما جاء في رواية الماوردي (٤) ، فآخِر آية نزلت هي: آية الإكمال ، كما ذكرها اليعقوبي؛ لأنَّها نزلت في مرجعه (صلّى الله عليه وآله) من حجَّة الوداع ثامن عشر ذي الحجّة، وإلاّ فلو صحَّ أنَّ النبي (صلّى الله عليه وآله) عاش بعد آية ( وَاتّقُوْا.. ) أحداً وعشرين يوماً، أو سبعة، أو تسعة أيام، فهذه هي آخر آية نزلت عليه (صلّى الله عليه وآله).

والأرجح عندنا: هو ما ذهب إليه اليعقوبي؛ نظراً لأنَّها آية الإعلام بكمال الدِين، فكان إنذاراً بانتهاء الوحي عليه (صلّى الله عليه وآله) بالبلاغ والأداء، فلعلَّ تلك الآية كانت آخِر آيات الأحكام، وهذه آخر آيات الوحي إطلاقاً.

وهناك أقوال وآراء أُخر لا قيمة لها، إنَّها غير مستندة إلى نصّ معصوم.

قال القاضي أبو بكر - في الانتصار -: وهذه الأقوال ليس في شيء منها ما رُفع إلى النبي (صلّى الله عليه وآله)، ويجوز أن يكون قاله قائلُه بضربٍ من الاجتهاد وتغليب الظنّ، وليس العلم بذلك من فرائض الدين؛ حتَّى يلزم ما طعن به الطاعنون من عدم الضبط، ويُحتمل أنَّ كُلاًّ منهم أخبر عن آخِر ما سمعه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وغيره سمِع منه بعد ذلك.

ويحتمل أيضاً أن تنزل الآية التي هي آخِر آية تلاها الرسول (صلّى الله عليه وآله) مع آيات نزلت معها، فيؤمَر برسم ما نزل معها، وتلاوتها عليهم بعد

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي: ج٢، ص٣٥.

(٢) أسباب النزول بهامش الجلالين: ج٢، ص١٤٥.

(٣) مجمع البيان: ج٢، ص٣٩٤.

(٤) البرهان للزركشي: ج١، ص١٨٧.

٨١

رسم ما نزل آخراً وتلاوته، فيظنّ سامع ذلك أنَّه آخِر ما نزل في الترتيب (١) .

المكّي والمدَني:

لمعرفة المكّي من المدَني - سواء أكانت سورة أمْ آية - فائدة كبيرة تمسّ جوانب أسباب النزول، وتمدّ المفسِّر والفقيه في تعيين اتّجاه الآية، وفي مجال معرفة الناسخ من المنسوخ، والخاصّ من العامّ، والقيد من الإطلاق، وما أشبه، ومن ثمَّ حاول العلماء جهدهم في تعيين المكّيات من المدَنيات، ووقع إجماعهم على قِسم كبير، واختلفوا في البقية، كما استثنوا آيات مدَنية في سوَر مكّية أو بالعكس، ولذلك تفصيلٌ ذكرناه في تفصيل التمهيد.

واليك بعض فوائد معرفة المكّي عن المدنيّ.

فوائد معرفة المكّي عن المدَني:

لمعرفة السوَر المكّية عن المدنية فوائد جمّة نشير إلى بعضها:

أوّلاً: الجهة التاريخية لنزول الآيات، ووجه الخطاب فيها، والبيئة التي أحاطت نزولها في كلّ حين، هي غاية تاريخية يبتغيها روّاد العلم والمعرفة في جميع القضايا التاريخية، ولاسيّما المهمّة منها، ومن أهمّها: قضية نزول السوَر وآيات القرآن، وتترتّب على معرفة الحوادث زمنياً فوائد متصاعدة يعرفها أهل العلم بالتاريخ.

ثانياً: تأثيره في فهْم محتوى الآيات، ولاسيّما في مجالات الفقاهة والاستنباط، فربّما كان ظاهر الآية في شيء ويترتّب عليه حكم شرعي، لولا إرادة خلاف هذا الظاهر البدائي بعد التعمّق في محتوى الآية، ولاسيّما تاريخ نزولها.

____________________

(١) البرهان للزركشي: ج١، ص٢١٠.

٨٢

مثلاً: كانت مسألة تكليف الكفّار بالفروع، ممّا أثار البحث والجدل العريض بين الفقهاء، فمِن مُثبِتٍ وآخَر نافٍ، والمُثبِت ربّما استدلّ بظاهر قوله تعالى: ( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) (١)، فإنّها عتاب للمشرِك حيث لا يؤدّي زكاة مالِه، ولا عتاب إلاّ بعد تكليف.

لكنّ الشيء المغفول عنه هنا هو: أنَّ الآية في سورة مكّية ولم يستثنِها أحد، والزكاة لم تكن مفروضة على المسلمين آنذاك فكيف بالمشركين؟!.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (أترى أنّ الله عزّ وجلّ طلبَ من المشركين زكاة أموالهم وهُم يشركون به، حيث يقول: ( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) ؟! فقال: إنّما دعا الله تعالى العباد إلى الإيمان به، فإذا آمنوا بالله وبرسوله افترضَ عليهم الفرائض) .

قال المحقّق الفيض الكاشاني: هذا الحديث - وهو صحيح الإسناد - يدلّ على ما هو التحقيق من أنّ الكفّار غير مكلّفين بالأحكام الشرعيّة ماداموا على الكفر (٢) .

ومن ثُمّ فقد أُوِّلت الآية تأويلات: (منها) : ما عن ابن عبّاس أنّها زكاة النفس، أي: لا يُطهّرون أنفسهم من دَرن الشِرك. (ومنها) : أنّ المقصود بالزكاة مطلق الصدقات والقُربات لوجه الله، حيث الكافر بالله لا يستطيع - وهو على كفره - أن يتصدّق بقُرْبة. (ومنها): أنّ المراد حرمان أنفسهم من تكاليف الشريعة التي هي بمجموعتها تطهير للنفوس؛ وذلك بسبب بقائهم على الكُفر والجحود.

ثالثاً: فائدة كلامية، ولاسيّما في بحث الإمامة والاستنادات الواقعة كثيراً في كثير من الآيات، وهي موقوفة في الأغلب على معرفة المكيّ عن المدنيّ.

مثلاً: سورة الدهر فيها الآيات بشأن فضيلةٍ من أكبر فضائل أهل بيت النبوّة، قضية النَذْر لشفاء الحسنَين (عليهما السلام) .

ذكر الطبرسي: أنّ الحسن والحسين (عليهما السلام) مرِضا، فعادهما جدُّهما (صلّى الله عليه وآله) في

____________________

(١) فصّلت: ٦ - ٧.

(٢) تفسير الصافي: ج٢، ص٤٩٤.

٨٣

نفر من وجوه العرب، فقالوا: يا أبا الحسن، لو نذَرت على ولَديك نذْراً، فنذَر صوم ثلاثة أيّام، ونذرَت فاطمة كذلك.. فبرِئا، فأخذ عليّ (عليه السلام) أصْوعاً من الشعير وجاء بها إلى فاطمة؛ لتهيّئها خبزاً لإفطارهم.. فلمّا كان مساء اليوم الأول أتاهم مسكين يسألهم طعاماً فأعطوه الخبز، وكذلك في اليوم الثاني أتاهم يتيم، وفي الثالث أسير، فلمّا كان اليوم الرابع وقضوا نذورهم أتوا النبي (صلّى الله عليه وآله) وبهم ضعف، فلمّا رآهم النبي على تلك الحالة رقّ لهم قلْبه، ونزل جبرئيل حينذاك بسورة هل أتى (١) .

وذكر الطبرسي روايات أُخَر بمختلف الطُرق والمضامين، كلّها تشير إلى سبب نزول السورة بشأن أهل البيت (عليهم السلام)، وهكذا الحاكم الحسكاني، وغيرهما من الأعلام.

كما جاء الطبرسي هنا - بصدد إثبات كون السورة مدَنية - بروايات الترتيب عن أُمّهات المصادر الأُولى المعتمدة، بحيث ينفى كلّ رَيب في الموضوع، وقد صرّح مجاهد، وقتادة، وغيرهما من أعلام المفسّرين بكون السورة مدنيّة.. (٢) .

نعم، كان مثل عبد الله بن الزبير - ممّن يحمل العداء لآل بيت الرسول - يَعتبر السورة مكّية (٣) . وهكذا سيّد قطب؛ نظراً لِلَحْن السورة وسياقها حسب نظره (٤) .

رابعاً: في كثير من المباحث القرآنية نرى تمام الاستدلال موقوفاً على معرفة السورة مكّيةً أمْ مدنيّة، ويكون ذلك حلاًّ فاصلاً في البحث.

من ذلك مسألة نسْخ القرآن بالقرآن، وقد أفرَط فيها جماعات، فأنهَوا الآيات المنسوخة إلى أكثر من مئتي آية منسوخة في القرآن، وهذا إفراطٌ مبالَغ فيه.

وفي تجاه هؤلاء مَن كاد ينكر أصل النسْخ في القرآن؛ نظراً للتهافت البائن

____________________

(١) مجمع البيان: ج١٠، ص٤٠٤ - ٤٠٥ / شواهد التنزيل: ص٢٩٩ - ٣١٥ / وراجع التمهيد: ج١، ص١٥٤ - ١٥٥.

(٢) مجمع البيان: ج١٠، ص٤٠٤ - ٤٠٥ / شواهد التنزيل: ص٢٩٩ - ٣١٥ / وراجع التمهيد: ج١، ص١٥٤ - ١٥٥.

(٣) الدرّ المنثور: ج٦، ص٢٩٧.

(٤) في ظلال القرآن: ج٢٩، ص٢١٥.

٨٤

بين الناسخ والمنسوخ، المتنافي مع قوله تعالى: ( أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) (١) .

أمّا السائرون في الوسط، فيرَون النسْخ قليلاً في القرآن في بِضع آيات، ذكرناها في الجزء الثاني من التمهيد.

ومن الآيات التي زعمها الإفراطيون منسوخة: آية الاستمتاع (٢) ، زعموها منسوخة بآية حِفظ الفَرْج دون الأزواج والإماء.

قال محمّد بن إدريس الشافعي: إنّ آية الاستمتاع نَسَخَتها آية حِفظ الفروج (٣) .

ولكن يقال: إنّ المتمتَع بها زوجة، ولكنّها منقطعة في مقابلة الزوجة الدائمة، فهي زوجة وإن اختلفت في بعض أحكامها.

وأيضاً، قد غفل القائل بكون الناسخ آية الحِفْظ، فإنّها مكّية، ولم يقل أحد باستثناء هذه الآية، في حين أنّ آية الاستمتاع مدنيّة، فكيف يتقدّم الناسخ على المنسوخ بأعوام؟! (٤) .

والمِلاك في تعيين المكّي والمدَني مختلِف حسب اختلاف الآراء والأنظار في ذلك، وفيما يلي ثلاث نظريات جاءت مشهورة:

الأوَّل: اعتبار ذلك بهجرة النبي (صلّى الله عليه وآله) ووصوله إلى المدينة المنوَّرة، فما نزلَ قبل الهجرة أو في أثناء الطريق قبل وصوله إلى المدينة، فهو مكّي، وما نزل بعد ذلك فهو مدَني.

____________________

(١) النساء: ٨٢.

(٢) قوله تعالى: ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ ) (النساء: ٢٤).

(٣) قال سبحانه: ( وَالّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاّ عَلَى‏ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى‏ وَرَاءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ) (المؤمنون: ٥ - ٧)، راجع التمهيد: ج٢، ص٣٣٥.

(٤) راجع التمهيد: ج١، ص١٩٨ - ١٩٩، رقم ١٥.

٨٥

والمِلاك على هذا الاعتبار ملاكٌ زمَني، فما نزل قبل وقت الهجرة ولو في غير مكَّة فهو مكّي، وما نزل بعد الهجرة ولو في غير المدينة - حتّى ولو نزل في مكَّة عام الفتح، أو في حجَّة الوداع - فهو مدَني باعتبار نزوله بعد الهجرة، وعلى هذا الاصطلاح؛ فجميع الآيات النازلة في الحروب وفي أسفاره (صلّى الله عليه وآله) - بما أنَّها نزلت بعد الهجرة - كلُّها مدَنيات.

قال يحيى بن سلام: ما نزل بمكَّة أو في طريق المدينة قبل أن يبلغ (صلّى الله عليه وآله) فهو مكّي، وما نزل بعدما قدِم (صلّى الله عليه وآله) المدينة، أو في بعض أسفاره وحروبه فهو مدَني.

قال جلال الدين: وهذا أثر لطيف يؤخَذ منه أنّ ما نزل في سفَر الهجرة مكّي اصطلاحاً (١) .

وذلك كقوله تعالى: ( إِنّ الّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادّكَ إِلَى‏ مَعَادٍ ) (٢) قيل: نزلت بالجحفة والنبي (صلّى الله عليه وآله) في طريق هجرته إلى المدينة (٣) .

الثاني: ما نزل بمكّة وحوالَيها ولو بعد الهجرة فهو مكّي، وما نزل بالمدينة وحواليها فهو مدَني، وما نزل خارج البلدَين بعيداً عنهما فهو لا مكّي ولا مدَني، كقوله تعالى: ( كَذلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لّتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبّي لاَ إِلهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ) (٤) قيل: نزلت بالحديبية حينما صالح النبي (صلّى الله عليه وآله) مشركي قريش، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام): (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال سهيل بن عمرو وسائر المشركين: ما نعرف الرحمان إلاّ صاحب اليمامة - يعنون مسيلمة الكذّاب - فنزلت الآية (٥) .

وهكذا آية الأنفال (٦) نزلت في بدْر عندما اختصم المسلمون في تقسيم الغنائم (٧) لا مكّية ولا مدنيّة، على هذا الاصطلاح.

____________________

(١) الإتقان: ج١، ص٩.

(٢) القصص: ٨٥.

(٣) البرهان للزركشي: ج١، ص١٩٧.

(٤) الرعد: ٣٠.

(٥) مجمع البيان: ج٦، ص٢٩٣.

(٦) قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للّهِ‏ِ وَالرّسُولِ... ) (الأنفال: ١).

(٧) راجع السيرة لابن هشام: ج٢، ص٣٢٢.

٨٦

الثالث: ما كان خطاباً لأهل مكّة فهو مكّي، وما كان خطاباً لأهل المدينة فهو مدَني، وهذا الاصطلاح مأخوذ من كلام ابن مسعود: كلّ شيء نزل فيه ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) فهو بمكّة، وكلّ شيء نزل فيه ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ) فهو بالمدينة (١) . قال الزركشي: لأنَّ الغالب على أهل مكَّة الكُفر، والغالب على أهل المدينة الإيمان (٢) .

* * *

وهذا الاختلاف في تحديد المكّي والمدَني، أوجب اختلافاً في كثير من آيات وسوَر أنّها مكّية أمْ مدَنية (٣) ، غير أنّ المعتمد من هذه المصطلحات هو الأوّل، وهو المشهور الذي جرى عليه أكثرية أهل العلم (٤) ، وكان تحديدنا الآتي في نَظْم السِوَر - حسب ترتيب نزولها - معتمداً على هذا الاصطلاح.

نعم، الطريق إلى معرفة مواقع النزول أنّها كانت بمكّة أو بالمدينة أو بغيرهما قليل جدّاً؛ لأنّ الأوائل لم يُعيروا هذه الناحية المهمّة اهتماماً معتدّاً به، سوى ما ذكروه في عَرَض الكلام استطراداً، وهي استفادة ضئيلة للغاية، ومن ثمّ يجب لمعرفة ذلك ملاحظة شواهد وقرائن من لفظ الآية، أو استفادة من لهجة الكلام خطاباً مع نوعيّة موقف الموجّه إليهم، أكان في حرب أم في سلم، وعْدٌ أمْ وعيد، إرشاد أو تكليف، فيما إذا أوجب ذلك علماً أو حلاًّ قطعياً لمشكلة في لفظ الآية، كما في قوله: ( فَمَنْ حَجّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطّوّفَ بِهِمَا ) (٥) ، فإنّ مشكلة دلالتها على مطلق الترخيص دون الإلزام والإيجاب، تنحلّ بما أُثر في سبب نزولها (٦) ، الأمر الذي يوجب الثقة بصحّة الأثر، مع غضّ النظر عن ملاحظة

____________________

(١) مستدرك الحاكم: ج ٣ ص ١٨.

(٢) البرهان للزركشي: ج ١ ص ١٨٧.

(٣) كما في آية الأمانات من سورة النساء: ٥٨، زعمها النحّاس مكّية لرواية ابن جريح. (راجع مجمع البيان: ج ٣ ص ٦٣).

(٤) راجع البرهان للزركشي: ج ١ ص ١٨٧ / والإتقان: ج١، ص ٩.

(٥) البقرة: ١٥٨.

(٦) كان المسلمون يتحرّجون السعي بين الصفا والمروة، زعماً أنّها عادة جاهلية تكريماً بمقام أساف ونائلة، فنزلت الآية دفعاً لهذا الوهْم. (راجع مجمع البيان: ج١، ص٢٤٠).

٨٧

السنَد، ومن ثمّ فهي مدنيّة.

قال الجعبري: لمعرفة المكّي والمدَني طريقان: سماعي، وقياسي.

فالسماعي: ما وصل إلينا نزوله بأحدهما. والقياسي: قال علقمة، عن ابن مسعود: كلّ سورة فيها (يا أيها الناس) فقط، أو (كلاّ)، أو أوّلها حروف تهجّي سوى الزهراوين: (البقرة، وآل عمران)، والرعد - في وجه -، أو فيها قصّة آدم وإبليس سوى الطولي (البقرة)، أو فيها قصص الأنبياء والأمم الخالية، فهي مكّية. وكلّ سورة فيها حدّ أو فريضة، فهي مدَنية، وفي رواية: وكلّ سورة فيها (يا أيّها الذين آمنوا) فهي مدنيّة.

قال الزركشي: وهذا القول الأخير إن أُخذ على إطلاقه ففيه نظر؛ فإنّ سورة البقرة مدنية وفيها: ( يَا أَيّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبّكُمُ ) (١) ، وفيها: ( يَا أَيّهَا النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيّباً ) (٢) ، وسورة النساء مدنيّة وفيها: ( يَا أَيّهَا النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمُ ) (٣) ، وفيها: ( إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيّهَا النّاسُ ) (٤) فإن أراد المفسّرون أنّ الغالب ذلك، فهو صحيح؛ ولذا قال مكّي بن حموش: هذا إنّما هو في الأكثر وليس بعامّ، وفي كثير في سوَر مكّيّة ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا ) (٥) .

وقال القاضي أبو بكر: كانت العادة تقضي بحِفظ الصحابة ذلك، غير أنّه لم يكن من النبي (صلّى الله عليه وآله) في ذلك قول، ولا ورد عنه (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: ما نزل بمكّة كذا وبالمدينة كذا، وإنّما لم يفعله؛ لأنّه لم يؤمَر به، ولم يجعل الله عِلم ذلك من فرائض

____________________

(١) البقرة: ٢١.

(٢) البقرة: ١٦٨.

(٣) النساء: ١.

(٤) النساء: ١٣٣.

(٥) لم نجد في سورة مكّية ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا ) نعم، فيها كثير ذِكر (الذين آمنوا) بلا خطاب، كما في سورة: ص، والزمر، وغافر، وفصّلت وغيرها.

نعم، ذكر الزركشي مثالاً لذلك قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ) سورة الحجّ: ٧٧، فزعمها مكّية، لكنّ الصحيح أنّها مدَنية.

٨٨

الأمّة.

وكذلك الصحابة والتابعون من بعدهم - لمّا لم يعتبروا ذلك من فرائض الدِين - لم تتوفّر الدواعي على إخبارهم به، ومواصلة ذلك على أسماعهم، وإذا كان الأمر على ذلك ساغ أن يختلف مَن جاء بعدهم في بعض القرآن: هل هو مكّي أو مدَني؟ وأن يعملوا في القول بذلك ضرْباً من الرأي والاجتهاد... (١) .

ترتيب النزول:

اعتمدنا في هذا العَرْض على عدّة روايات متّفق عليها، وثقَ بها العلماء أكثرياً، وعَمدتها رواية ابن عبّاس بطُرق وأسانيد اعترف بها أئمّة الفنّ (٢) .

قال الإمام بدر الدين الزركشي: وعلى هذا الترتيب استقرّت الرواية من الثقات (٣).

وقد أخذناها الأصل الأوّل في هذا العرْض، وأكملنا ما سقط منها على رواية جابر بن زيد وغيره، وكذا نصوص تاريخية معتمدة (٤) ، نعم، كان بينها بعض الاختلاف إمّا للاختلاف في تحديد المكّي والمدَني، أو في عدد المكّيات من المدَنيات، ومن ثَمّ جاء اختلافهم في نيّف وثلاثين سورة أنّها مكّيات أمْ مدَنيات.

والنظر في هذا العرض كان إلى مفتتح السوَر، فالسورة إذا نزلت من أوّلها بضْع آيات، ثمّ نزلت أخرى، وبعدها اكتملت الأُولى، كانت الأُولى متقدّمة على الثانية في ترتيب النزول، حسب هذا المصطلح.

وإليك قائمة السوَر المكّية، وعددها: ستّ وثمانون سورة ، متقدّمة على السوَر المدنيّة، وعددها: ثمان وعشرون سورة ، مع غضّ النظر عن سوَر مختلَفٌ فيها.

____________________

(١) راجع البرهان للزركشي: ج١ ص ١٩٠ - ١٩٢.

(٢) راجع مجمع البيان للعلاّمة الطبرسي: ج١٠، ص ٤٠٥ و ٤٠٦ / والإتقان لجلال الدين السيوطي: ج١ ص١٠ و ١١ و ٢٥.

(٣) البرهان للزركشي: ج١ ص ١٩٣ - ١٩٤.(٤) راجع الفهرست لابن النديم: ص ٢٨ / وتاريخ اليعقوبي: ج٢، ص ٢٨.

٨٩

السور المكّية (٨٦)

٩٠

٩١

٩٢

آيات مُستَثْنيات:

تعرّض الأوائل لاستثناء آيات من سوَر تُخالفها في النزول، فربّ سورة مكّية فيها آيات مدَنية أو بالعكس، واستقصى ذلك جلال الدين السيوطي في (الإتقان) مستوعباً، غير أنّه اعتمد في الأكثر على روايات ونقول ضعيفة، ثمّ جاء المتأخّرون ليأخذوا بذلك تقليداً من غير تحقيق (١) ، في حين أنّ غالبية القائلين بهذه الاستثناءات قالوا بها عن حدَس أو اجتهادٍ في الرأي، من غير أن يستندوا إلى نصٍّ صحيح مأثور.

قال ابن الحصار: إنّ من الناس مَن اعتمد في الاستثناء على الاجتهاد دون النقل (٢) .

ونحن إذ نستطرق هذا الباب، نضرب عن كلّ ما قالوه بهذا الشأن صفحاً إذا لم

____________________

(١) جاءت في المصحف الأميريّ - المطبوع بالقاهرة بإذن مشيخة الأزهر، وبإشراف لجنة مراقبة البحوث الإسلامية - استثناءات بأرقام كبيرة، لكنّه تقليد محض لا أصل لأكثريتها الساحقة، وهكذا سجّلها من غير تحقيق الشيخ أبو عبد الله الزنجاني في تاريخ قرآنه.

أضف إلى ذلك تناقضات جاءت في هكذا اختيارات تقليدية.

مثلاً: جاء في المصحف الأميريّ: أنّ سورة ألم تنزيل (السجدة) نزلت بعد سورة المؤمن، وأنّ سورة حم تنزيل (فصّلت) نزلت بعد سورة غافر، في حين أنّ المؤمن وغافر اسمان لسورة واحدة! وأثبت أبو عبد الله في تاريخ قرآنه قائمتين بشأن ترتيب نزول السورة، فذكر في القائمة الأُولى: أنّ سورة الأنعام نزلت بعد الحِجر، وفي الثانية أنّها نزلت بعد الكهف! كما ذكر في الأُولى أنّ الأعراف نزلت بعد ص، وفي الثانية نزلت بعد الأنفال! وذكر أنّ السوَر المكّيّة: ٨٥، والسوَر المدنية: ٢٨، ولم يلتفت أنّها تنقص مجموع سوَر القرآن بواحدة! وأظنّه في ذلك قلّد الإمام بدر الدين الزركشي!!.

كما جاء في مصحف مطبوع على عهد القاجارية قائمتان: الأُولى تُسجّل عام نزول كلّ سورة، والثانية تُسجّل ترتيب النزول، فجاء في الأُولى: نزلت الصافّات في العام الخامس من البعثة، ونزلت الأنعام في العام الثالث عشر، ثمّ جاء في القائمة الثانية: أنّ الصافات نزلت بعد الأنعام!! وأمثال هذا التناقض كثير.

(٢) الإتقان: ج١ ص ١٤.

٩٣

يكن مستنداً إلى دليل مقبول، إذ لا شكّ أنّ الآيات كانت تُسجّل تِباعاً في كلّ سورة بعد نزول بسمَلتِها - واحدة تلو الأخرى - ترتيباً طبيعياً حسب النزول، أمّا أن تبقى آية مكّية غير مسجّلة في سورة حتّى تنزل سورة بالمدينة ثمّ تسجّل فيها، فهذا أمر غريب خارج عن طريقة الثبْت المعروف، كما أنّ آية مدنية تسجّل في سورة مكّية بحاجة إلى نصّ صريح خاصّ، وليس بالأمر الذي يتدخّل فيه الحدَس أو الاجتهاد النظري!.

قال ابن حجَر: وأمّا نزول شيء من سورة بمكّة، ثمّ يتأخّر نزول أصل السورة إلى المدينة، فلم أرَه إلاّ نادراً، فقد اتّفقوا على أنّ الأنفال مدَنية، لكن قيل: إنّ قوله تعالى: ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الّذِينَ كَفَرُوا ) (١) نزلت بمكّة، ثمّ نزلت سورة الأنفال بالمدينة، وهذا غريب جدّاً (٢) .

وقد استوفينا الكلام عن ذلك، وأبدَينا رأينا في إنكار مزعومة الاستثناء رأساً؛ حيث لا دليل عليه البتّة، وإليك نماذج منها:

* مثلاً قالوا - في سورة البقرة المدَنية - في قوله تعالى: ( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتّى‏ يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ ) (٣) : إنّها نزلت بمكّة بشأن المشركين أيام كان المسلمون ضعفاء، لكن صدر الآية: ( وَدّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ... ) شاهد نزولها بشأن أهل الكتاب في أوائل الهجرة، حيث لم تقوَ شوكة المسلمين آنذاك، ثمّ نُسخت بقوله تعالى: ( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ - إلى قوله - مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) (٤) (٥) .

* وهكذا قالوا في قوله تعالى: ( وَاتّقُوْا يَوْمَاً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ... ) (٦) : هي

____________________

(١) الأنفال: ٣٠.

(٢) فتح الباري بشرح البخاري: ج ٩ ص ٣٨.

(٣) البقرة: ١٠٩.

(٤) التوبة: ٢٩.

(٥) راجع مجمع البيان: ج ١ ص ١٨٤ - ١٨٥ / والدرّ المنثور: ج١، ص ١٠٧.

(٦) البقرة: ٢٨١.

٩٤

آخِر آية نزلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو بمِنى في حجّة الوداع (١) .

غير أنّ هذا القول مبتنٍ على كون المكان معياراً للوصف بالمكّية والمدَنية، وقد أسبقنا أنّ المعيار هو زمان الهجرة، فما نزلت بعدها فهي مدَنية وإن نزلت بمكّة أو غيرها.

* كما أنّ زَعْم بعضهم: أنّ الآية: ( إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدّوا الأَمَانَاتِ إِلَى‏ أَهْلِهَا ) (٢) نزلت بمكّة بعد الفتح، فهي مكّية في سورة مدَنية (٣) ، أيضاً مردود بعد كون المعيار زمان الهجرة.

* وقوله تعالى: ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ ) (٤) .

جاء في المجمع: أنّها مكّية ولم يذكر السبب (٥) . غير أنّ لهجة الآية ومحتواها شاهِدَتا صدقٍ على كونها نزلت بالمدينة؛ لأنّها من آيات الأحكام بشأن المواريث.

* وقوله تعالى: ( الْيَوْمَ يَئِسَ الّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) (٦) .

زعم أبو عبد الله الزنجاني أنّها نزلت بعَرَفات في حجّة الوداع (٧) .

لكنّ أبا عبد الله الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (نزلت الآية بعد أن نصّب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) عَلماً للأمّة يوم غدير خمّ، مُنصرَفهُ عن حجّة الوداع) (٨) .

وهكذا سجّلها ابن واضح اليعقوبي في تاريخه، قال: وكان نزولها يوم النصّ على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه بغدير خمّ، قال: وهي الرواية الصحيحة الثابتة الصريحة (٩)، وقد ذكرها الحافظ الحسكاني بعدّة طُرق (١٠) .

____________________

(١) الدرّ المنثور: ج١ ص ٣٧٠.

(٢) النساء: ٥٨.

(٣) مجمع البيان: ج٣ ص ٦٣.

(٤) النساء: ١٧٦.

(٥) مجمع البيان: ج٣ ص ١٤٩.

(٦) المائدة: ٣.

(٧) تاريخ القرآن للزنجاني: ص ٢٧.

(٨) راجع تفسير التبيان للشيخ الطوسي: ج ٣ ص ٤٣٥.

(٩) تاريخ اليعقوبي: ج٢ ص ٣٥.

(١٠) شواهد التنزيل: ج١ ص ١٥٦ - ١٦٠.

٩٥

على أنّ النزول بعرَفات كان بعد الهجرة، فهي مدَنية أيضاً في المصطلح كما عرفت.

* وقوله تعالى: ( مَا كَانَ لِلنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى‏ - إلى قوله -: ... إِنّ إِبْرَاهِيمَ لأَوّاهٌ حَلِيمٌ ) (١) .

قالوا: نزلت بشأن أبي طالب (عليه السلام) عندما حضرته الوفاة، دخل عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعنده بعض أشراف قريش، فقال النبي: أي عمّ، قل: لا إله إلاّ الله، أُحاجّ لك بها عند الله، فقال بعض الحضور: أترغب عن ملّة عبد المطلب؟ قالوا: فأبى أبو طالب أن يذكر الشهادة، فقال النبي عند ذلك: لأستغفرنّ لك. فنزلت الآية... فهي مكّية مستثناة من سورة مدَنية (٢) .

كما قالوا: إنّها نزلت بشأن والدَي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أراد أن يستغفر لأبيه، وهكذا استجاز ربّه في زيارة قبر أمّه فأجازه، ثمّ بدا لله في ذلك، فأنزل الله الآية، فما رُئيَ رسول الله أكثر باكياً من يومه ذاك (٣) .

أقول: قاتل الله العصبية، عصبية الجاهلية الأُولى، لم تزَلْ متمكّنة في قلوب أذناب قريش ومواليهم حتّى اليوم.

وقد ثبتَ في الصحيح: أنّ أبا طالب مات مسلماً (٤) ، كما أنّ قوله تعالى: ( وَتَقَلُّبَكَ فِي السّاجِدِينَ ) (٥) تصريح بطهارة آباء رسول الله وأمّهاته، ففي حديث ابن عبّاس: (لم يزَل الله ينقلُني من الأصلاب الطيّبة إلى الأرحام الطاهرة مصفّىً مهذّباً) (٦) .

وهو المروي - صحيحاً - عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) قالا: (في أصلاب النبيّين نبيّ بعد نبيّ حتّى أخرجه من صُلب أبيه، من نكاح غير سفاح من

____________________

(١) التوبة: ١١٣ و ١١٤.

(٢) راجع الدرّ المنثور: ج ٣ ص ٢٨٢ / وصحيح البخاري: ج ٢ ص ١١٩، وج ٦ ص ٨٧.

(٣) جامع البيان للطبري: ج ١١ ص ٣١.

(٤) راجع التمهيد: ج ١ ص ٢٣٠.

(٥) الشعراء: ٢١٩.

(٦) الدرّ المنثور: ج ٣ ص ٢٩٤.

٩٦

لدُن آدم (عليه السلام)) (١) .

وفي زيارة الوارث لأبي عبد الله الحسين (عليه السلام): (أشهد أنّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة، لم تُنجّسك الجاهليةُ بأنجاسها، ولم تُلبسك من مُدلهمّات ثيابها...) (٢) .

والصحيح في سبب نزول تلك الآية - على ما ذكره أبو علي الطبرسي -: أنّ المسلمين جاؤوا إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) يطلبون إليه الاستغفار لموتاهم الذين مضَوا على الكُفر أو النفاق، قالوا: ألا تستغفر لآبائنا الذين ماتوا في الجاهلية؟! فنزلت الآية (٣) .

راجع التفصيل في التمهيد (٤) .

* * *

____________________

(١) راجع الدرّ المنثور: ج ٥ ص ٩٨ / ومجمع البيان: ج ٧ ص ٢٠٧.

(٢) الزيارة السابعة من الزيارات المطلقة لأبي عبد الله الحسين (عليه السلام).

(٣) مجمع البيان: ج ٥ ص ٧٦.

(٤) التمهيد: ج ١ ص ٢٢٩ - ٢٣٢.

٩٧

٩٨

٣ - معرفةُ أسباب النزول

- قيمة هذه المعرفة وفائدتها.

- الاهتداء إلى معرفة أسباب النزول.

- الفَرْق بين سبب النزول وشأن النزول.

- معنى قولهم: نزلت الآية في كذا.

- الفرْق بين التنزيل والتأويل.

- هل يُشترط في ناقل السبب حضوره المشهد؟

- العِبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المورد.

- نزلَ القرآن بـ (إيّاك أعني واسمعي يا جارة).

- القرآن يجري كما تجري الشمس والقمر.

- كيف الاهتداء إلى معالم القرآن؟

٩٩

معرفةُ أسباب النزول

وإذ كان القرآن ينزل نجوماً، وفي فترات متفاصلة بعضها عن بعض، ولمناسبات شتّى كانت تستدعي نزول آية أو آيات تعالج شأنها؛ فقد اصطلحوا على تسمية تلكم المناسبات بأسباب النزول أو شأن النزول - على فرْق بينهما - وهو عِلمٌ شريف، وفي نفس الوقت خطير يمسّ التنزيل في صميم معناه، ويهدي المفسّر المسترشد والفقيه المستنبط إلى حيث سواء السبيل.

واستيفاء هذا البحث يقتضي النظر في مسائل: قيمة هذه المعرفة وفائدتها في مجال الفقاهة والتفسير؟ وكيف الاهتداء إلى معرفة أسباب النزول؟ وهل هناك فرْق بين قولهم: سبب النزول، أو شأن النزول؟ والفرْق بين التنزيل والتأويل، وكذا ظَهْر الآية وبطْنها في مصطلح السلَف؟ وما معنى قولهم: نزلت الآية في كذا؟ وهل يجب في الناقل الأوّل للسبب أن يكون حاضر المشهد؟ وأنّ العِبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المورد؟ وأنّ القرآن نزل بإيّاك أعني واسمعي يا جارة؟ وأنّه يجري كما تجري الشمس والقمر؟ وكيف الاهتداء إلى معالم القرآن؟ وما هي الوسائل المستعملة في هذا السبيل؟ ونحو ذلك من أبحاث عامّة وشاملة.

١٠٠

قال: هذا تقرير ما صدَر عن عمَر، مع ما عُرف من شدّة صلابته في الدين! (1) .

يا للعجَب من عقلية ابن حجَر، كيف يتصوّر من عمَر عملاقاً في فَهْم قضايا الدين والوقوف على مزايا اللغة، ممّا غفَل عنه مثل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، الذي هو مبلِّغ الشريعة وأفصح مَن نطقَ بالضاد؟!.

أمثل مَن لا يَعرف الأَبَّ مِن القَتّ (2) ، ويجهل الكثير من الآداب والسُنن (3) ، يقوم بتأنيب ناموس الشريعة وصميم العربية الفصحاء؟! إنْ هذا إلاّ وهْمٌ ناشئ عن عصبية عمياء، أعاذنا الله منها!.

* * *

وبعد، فإذ قد عرفت قيمة ما أُسند من روايات أسباب النزول الواردة في أهمّ الكتُب الحديثية، فكيف بالمقطوع، والمرسَل، والمجهول... الأمر الذي يُنْبئك عن أصالة ما لدينا من صحاح الروايات في هذا الباب، وقد صحّ كلام الإمام أحمد: ثلاثة ليس لها أصل معتمَد: المغازي، والملاحم، والتفسير.

هذا السيوطي يُخرّج لقوله تعالى: ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ) (4) خمسة أوجه:

الأوّل: إنّه في تحويل القِبلة وارتياب اليهود في ذلك. عن ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.

____________________

(1) فتح الباري: ج 8 ص 252.

(2) أخرج الطبري في تفسيره (ج 30 ص 38) عن أنس قال: قرأ عمَر سورة عبَس، فلمّا أتى على هذه الآية ( وَفَاكِهَةً وَأَبّاً ) قال: عرفنا الفاكهة فما الأبّ؟.. ثمّ قال: إنّ هذا لهو التكلّف!. وأورده ابن كثير في تفسيره (ج4 ص 473) وصحّحه، ثمّ تعجّب من عدم فَهْم عمَر معنى الأبّ؛ لأنّ الكلّ يعلم أنّه من نبات الأرض ممّا يقتات به البهائم، لقوله تعالى بعد ذلك: ( مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ ) فالأبّ علَف الدوابّ كالقَت.

(3) راجع نوادر الأثر في علم عُمَر (الغدير: ج 6 ص 83).

(4) البقرة: 115.

١٠١

الثاني: أن تصلّي حيثما توجّهتْ به راحلتك. أخرجه الحاكم وغيره عن ابن عمَر.

الثالث: إنّه كان في سفَر ليلةٍ ظلماء، فصلّى كلّ رجُل على حياله لا يدرون أين وجه القِبلة. أخرجه الترمذي من حديث عامر بن ربيعة، وكذا الدارقطني من حديث جابر.

الرابع: لمّا نزلت ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (1) قالوا: إلى أين؟ فنزلت. أخرجه ابن جرير عن مجاهد.

الخامس: عن قتادة أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (إنّ أخاً لكم قد مات فصلّوا عليه) ، فقالوا: إنّه كان لا يصلّي إلى القِبلة، فنزلت.

قال السيوطي - تعقيباً على ذلك -: فهذه خمسة أسباب مختلفة، وأضعفها الأخير لإعضاله، ثمّ ما قبله لإرساله، ثمّ الثالث لضعف رُواته، والثاني صحيح لكنّه قال: قد أُنزلت في كذا، ولم يُصرّح بالسبب، والأوّل صحيح الإسناد، وصُرّح فيه بذِكر السبب فهو المعتمَد (2) .

* * *

سبب النزول أو شأن النزول:

ما هو الفارق بين قولهم: (سبب النزول) أو (شأن النزول) ؟.

إن كانت هناك مشكلة حاضرة - سواء أكانت حادثة أُبهم أمرُها، أمْ مسألة خفِيَ وجه صوابها، أو واقعة ضلّ سبيل مَخرجِها - فنزلت الآية لتعالج شأنها وتضع حلاً لمشكلتها، فتلك هي أسباب النزول، أي السبب الداعي والعلّة الموجِبة لنزول قرآن بشأنها.

وهذا أخصّ من قولهم: (شأن النزول)؛ لأنّ الشأن أعمّ مورداً من السبب

____________________

(1) غافر: 60.

(2) الإتقان: ج1، ص93.

١٠٢

- في مصطلحهم - بعد أن كان الشأن يعني: الأمر الذي نزل القرآن - آيةً أو سورة - ليعالج شأنه بياناً وشرحاً، أو اعتباراً بمواضع اعتباره، كما في أكثرية قصص الماضين والإخبار عن أُمم سالِفين، أو عن مواقف أنبياء وقدّيسين كانت مشوّهة، وكادت تمسّ من كرامتهم أو تحطّ من قدسيّتهم؛ فنزل القرآن ليعالج هذا الجانب، ويبيّن الصحيح من حكاية حالهم والواقع من سيرتهم بما يرفع الإشكال والإبهام، وينزّه ساحة قُدس أولياء الله الكرام.

وعليه: فالفارق بين السبب والشأن - اصطلاحاً - أنّ الأوّل يعني مشكلة حاضرة لحادثة عارضة، والثاني مشكلة أمرٍ واقع، سواء أكانت حاضرة أمْ غابرة، وهذا اصطلاح ولا مشاحّة فيه.

* * *

وقولهم: (نزلت في كذا) أعمّ، قد يراد السبب العارض، وقد يراد شأنُ أمرٍ واقع في الغابر، وأحياناً يراد بيان حُكم وتكليف شرعي دائم.

قال الزركشي: وقد عُرف من عادة الصحابة والتابعين أنّ أحدهم إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا، فإنّه يريد بذلك أنّ هذه الآية تتضمّن هذا الحُكم، لا أنّ هذا كان السبب في نزولها (1) .

إلاّ أنّ السيوطي خصّ أسباب النزول بالنوع الأوّل، ورفض أن يكون بيانه قصّة سالفة لنزول سورة أو آية قرآنية، ومن ثمّ اعترض على الواحدي - في أسباب النزول - قوله: نزلت سورة الفيل في قصّة أصحاب أبْرهة الذي جاء لهدْم الكعبة (2) .

قال: والذي يتحرّر في سبب النزول أنّه ما نزلت الآية أيام وقوعه؛ ليخرج ما ذكره الواحدي في سورة الفيل من أنّ سببها قصّة قدوم الحبشة، فإنّ ذلك ليس من

____________________

(1) البرهان للزركشي: ج1، ص31 - 32.

(2) أسباب النزول للواحدي: ص259.

١٠٣

أسباب النزول في شيء، بل هو باب الإخبار عن الوقائع الماضية، كذِكر قصّة قوم نوح وعاد وثمود وبناء البيت ونحو ذلك (1) ، مع أنّ الواحدي لم يصرّح بالسبب، بل ذَكر أنّها نزلت في قصّة أصحاب الفيل.

ولا وجه لِمَا تضايق السيوطي على نفسه وعلى الآخرين، بعد أن كان المصطلح على دواعي النزول هي المناسبات المقتضية لنزول قرآن، سواء أكانت حادثة واقعة، أمْ اختلافاً في مسألة شرعية فرعية أو عقائدية، أمْ قصّة غابرة كانت ذات عِبرة أو موضع اختلاف، فأراد الله تعالى تحريرها وتهذيبها وتطهير ساحة قُدس أوليائه الكرام.

التنزيل والتأويل:

سأل الفُضَيل بن يسار الإمام أبا جعفر الباقر (عليه السلام) عن الحديث المعروف: (ما في القرآن آية إلاّ ولَها ظَهْر وبطْن، فقال (عليه السلام): ظهْره تنزيله وبطْنه تأويله، منه ما قد مضى ومنه ما لم يكن، يجري كما تجري الشمس والقمر) (2) .

وقال (عليه السلام): (ظَهْر القرآن الذين نزل فيهم، وبطْنه الذين عملوا بمِثل أعمالهم) (3) .

ذلك أنّ للآية وجهاً مرتبطاً بالحادثة الواقعة - التي استدعَت نزولها - ووجهاً آخر عامّاً، تكون الآية بذلك دستوراً كلّياً يجري عليه المسلمون أبَدياً، وكما أنّ الآية عالجت - بوجهها الخاصّ - مشكلة حاضرة، فإنّها - بوجهها العامّ - سوف تعالج مشاكل الأمّة على مَرّ الأيام.

قال الإمام أبو جعفر (عليه السلام): (ولو أنّ الآية نزلت في قوم، ثمّ مات أولئك القوم ماتت الآية؛ لَمَا بقي من القرآن شيء، ولكنّ القرآن يجري أوّله على آخِره ما دامت السماوات والأرض، ولكلّ قومٍ آية يتلونها هُم من خير أو شرّ) (4) .

____________________

(1) لباب النقول بهامش الجلالين: ج1، ص5.

(2) بصائر الدرجات: ص196، ح7.

(3) تفسير العيّاشي: ج1، ص11، ح4.

(4) تفسير العيّاشي: ج1، ص10، ح7.

١٠٤

نعم، إنّ الحكمة في نزول آية أو سورة ليست بالتي تقتصر على معالجة مشاكل حاضرة، وليست دواءً وقتيّاً لداءٍ عارضٍ وقتيّ، إذاً تنتفي فائدتها بتبدّل الأحوال والأوضاع، بل القرآن - في جميع آياتهِ وسوَرهِ - نزل علاجاً لمشاكل أُمّة بكاملها في طول الزمان وعَرْضه، وإلى ذلك يشير قولهم (عليهم السلام): (نزلَ القرآن بإيّاك أعني واسمعي يا جارة) (1) .

وهذا الوجه العامّ للآية: هو ناموسها الأكبر الكامن وراء ذلك الوجه الخاصّ، وإنّما يلقي بأضوائه على الآفاق من وراء ذلك الستار الظاهري، وتنبعث أنواره من ذلك البطن الكامن وراء هذا الظهْر.

وهذا من اختصاص القرآن في بيان مقاصده من الوجهين الخاصّ والعامّ، ومن ثمّ فإنّ له تنزيلاً (الذين نزل فيهم)، وتأويلاً (الذين عملوا بمثل أعمالهم)، وذلك ظهْره وهذا بطْنه.

غير أنّ الوقوف على تأويل القرآن وفهْم بطون الآيات، إنّما هو من اختصاص الراسخين في العلم، ممّن ثبتوا على الطريقة، فسقاهم ربّهم ماءً غَدَقاً (2) .

ومن ثمّ قال الإمام أبو جعفر - بعد أن تلا الآية -: (نحن نعلمه) أي التأويل (3) ، وفي رواية أخرى: (تعرفه الأئمّة) (4) .

* * *

قال تعالى: ( وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (5) .

هذه الآية نموذج من الآيات ذوات الوجهَين، لها تنزيل ولها تأويل، ظهْرٌ وبطْنٌ، وإنّّما يَعلم سرّها الكامن العامّ أُولوا البصائر في الدين الأئمّة

____________________

(1) تفسير العيّاشي: ج1، ص10، ح4.

(2) راجع آية 16 من سورة الجنّ.

(3) بصائر الدرجات: ص196، ح7.

(4) بصائر الدرجات: ص196، ح8.

(5) البقرة: 115.

١٠٥

المعصومون (عليهم السلام).

هذه الآية تبدو - في ظاهرها - متعارضة مع آيات توجِب التوجّه في الصلاة شطْر المسجد الحرام (1) ، ولكن مع ملاحظة سبب النزول، وأنّه دفعٌ لشُبهة اليهود ورفعٌ لارتيابهم في تحويل القِبلة، يتبيّن أن لا معارضة، ويرتفع الإبهام عن وجه الآية؛ ذلك أنّ الاستقبال في الصلاة والعبادات أمرٌ اعتباريّ محض، ينوط باعتبار صاحب الشريعة في مصالح يراها مقتضية حسب الأحوال والأوضاع، وليس وجه الله محصوراً في زاوية القُدس الشريف أو الكعبة المكرّمة.

وبذلك تنحلّ مشكلة الآية ويرتفع إبهامها، وأن ليس ترخيصاً في الاتّجاه بسائر الجهات.

هذا، وقد فهِم الأئمة (عليهم السلام) أمراً آخر أيضاً، استخرجوه من باطن الآية، حيث تأويلها المستمرّ، وأنّها تعني جواز التطوّع بالنوافل إلى حيث توجَّهت به راحلتك... أو اشتبهت القِبلة، فتصلّي إلى أيّ الجهات شئت، هكذا وجدنا صراحة الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) (2) .

قال سيّدنا الطباطبائي (قدّس سرّه): إنّك إذا تصفّحت كلمات الأئمّة (عليهم السلام) في عموم القرآن وخصوصه ومطلقه ومقيّده؛ لوجدت كثيراً ما استفادةَ حُكمٍ من عموم الآية، ثمّ استفادة حكمٍ آخر مع ملاحظة خصوصها، فقد يستفاد (الاستحباب) من الآية من وجه عمومها، (الوجوب) من وجهها الخاصّ، وهكذا (الحرمة) و(الكراهة) من الوجهين للآية بذاتها.

قال: وعلى هذا المقياس تجد أصولاً هي مفاتيح لكثير من مغالق الآيات، إنّما تجدها في كلماتهم (عليهم السلام) لا غيرهم، قال: ومن هنا يمكنك أن تَستخرج من

____________________

(1) البقرة: 144 و149 و150.

(2) راج وسائل الشيعة: باب 8 و 15 من أبواب القِبلة ج3، ص225 - 239 / وتفسير العيّاشي: ج1، ص56 - 57.

١٠٦

لُباب كلامهم في المعارف القرآنية قاعدتين أساسيّتين:

الأُولى: أنّ كلّ عبارة من عبارات الآية الواحدة، فإنّها لوحدها تفيد معنى وتلقي ضوءً على حُكمٍ من أحكام الشريعة، ثمّ هي مع العبارة التالية لها تفيد حكماً آخر، ومع الثالثة حكماً ثالثاً، وهكذا دواليك.

مثلاً قوله تعالى: ( قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) (1) فقوله: ( قُلِ اللّهُ ) جملة تامّة الإفادة وهي مع قوله: ( ثُمَّ ذَرْهُم ) أيضاً كلام آخر هو تامّ، ومع ( في خوْضِهِمْ ) ، وكذا مع ( يَلْعَبُونَ ) كُلاًّ كلامٌ ذو فائدةٍ تامّة.

واعتبِر نظير ذلك في كلّ آية شئت من آيات القرآن..

الثانية: أنّ القصّتين أو المعنيَين إذا اشتركا في جملة أو نحوها، فهما راجعان إلى مرجعٍ واحد.

قال: وهذان سِرّان، تحتهما أسرار، والله الهادي (2) .

* * *

وقوله تعالى: ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ) (3) .

قيل: نزلت بشأن الجِنّ استأذنوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن يشهدوا مسجده، وقد كان صعباً عليهم وهم منتشرون في فِجاج الأرض، فنزلت: أنّ كلّ موضع من الأرض فهو مسجد لله يجوز التعبّد فيه، سوى أنّه يجب الإخلاص في العبادة في أيّ مكان كانت (4) ، وهكذا روي عن سعيد بن جبير.

هذا إذا أُخذت (المساجد) بمعنى (المعابد): أمكنة العبادة.

وربّما فُسّرت بمعنى المصدر، وأنّ العبادات بأسْرها خاصّة بالله تعالى لا يجوز السجود لغيره، روي ذلك عن الحسن.

____________________

(1) الأنعام: 119.

(2) تفسير الميزان: ج1، ص262.

(3) الجنّ: 18.

(4) لباب النقول بهامش الجلالين: ج2، ص121.

١٠٧

وقال جمْع من المفسّرين كسعيد بن جبير، والزجّاج، والفرّاء: إنّها المواضع السبعة حالة السجود، وهي لله، إذ هو خالقها والذي أنعم بها على الإنسان، فلا ينبغي أن يسجد بها لأحد سوى الله تعالى (1) .

وبهذا المعنى الأخير أخذ الإمام أبو جعفر محمّد بن علي الجواد (عليه السلام)، حينما سأله المعتصم العباسي عن هذه الآية، فقال: (هي الأعضاء السبعة التي يُسجَد عليها) (2) .

وكان هذا الحادث في قصّة سارق جيء به إلى مجلس المعتصم، فاختلف الفقهاء الحضور في موضع القطع من يده، فكان من رأي الإمام (عليه السلام) أن يُقطع من مفصل الأصابع، ولمّا سأله المعتصم عن السبب أجاب بأنّ: (راحة الكفّ هي إحدى مواضع السجود السبعة، وأنّ المساجد لله، فلا تُقطع) (3) .

وهكذا، وبهذا الأُسلوب البديع استنبط (عليه السلام) من تعبير القرآن دليلاً على حكم شرعيّ، كان حلاًّ قاطعاً لمشكلة الفقهاء حلاًّ أبديّاً.

وهذا من بطن القرآن وتأويله الساري مع كلّ زمان، تعرفه الأئمة، إمام كلّ عصر حسب حاجة ذلك العصر.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ للقرآن تأويلاً، فمنه ما قد جاء ومنه ما لم يجئ، فإذا وقع التأويل في زمان إمام من الأئمّة عرَفَه إمام ذلك الزمان) (4) .

قال الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام): (ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء) (5) .

____________________

(1) وهكذا فسّرها الأئمة من أهل البيت فيما ورد من التفسير المأثور (راجع مجمع البيان: ج10، ص372 / وتفسير البرهان: ج4، ص394 - 395).

(2) مجمع البيان: ج10، ص372.

(3) وسائل الشيعة: باب 4، من أبواب حدّ السرقة ح5، ج18، ص490.

(4) بصائر الدرجات: ص195، ح5.

(5) الكافي: ج1، ص228، ح2.

١٠٨

وقال الصادق (عليه السلام): (والله، إنّي لأعلم كتاب الله من أوّله إلى آخِره كأنّه في كفّي، فيه خبر السماء وخبر الأرض، وخبر ما كان وخبر ما هو كائن، فيه تبيان كلّ شيء، كما قال تعالى) (1) .

هل يجب حضور ناقل السبب؟

ذكر الواحدي أنّه لا يحلّ القول في أسباب النزول، إلاّ بالرواية والسماع ممّن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب وبحثوا عن عِلمها (2).

وهذا الاشتراط إنّما هو من أجل الاستيثاق بأنّ ما ينقله حكاية عن حسٍّ مشهود، لا أنّه من اجتهاد أو تخرّص بالغيب، ومن ثمَّ مَن عرفناه صادقاً في لهجته، ثقةً في إخباره، حذراً واعياً يتجنّب الحدَس والتخمين، ولا يخبر إلاّ عن علم، ولا يروي إلاّ عن يقين، فإنّ مِثلَه مُصدَّق ولو كان غائب المشهد، ومن ثمّ نعتمد قول خيار الصحابة ولو لم يصرّح بحضوره المشهد، وكذا إخبار التابعين لهم بإحسان، ومَن بعدهم من أئمّةٍ صادقين.

ولنفس السبب نعتمد أقوال أئمّتنا المعصومين بشأن تفسير القرآن، تنزيله وتأويله؛ لأنّهم أعرَف الخلْق بعلوم القرآن ظاهره وباطنه، سوى أنّ المهمّ هو العلم بصحّة الإسناد إليهم أو تواتر النقل، وقليلٌ ما هو.

العِبرةُ بعموم اللفظ لا بخصوص المورد:

هذه قاعدة أصولية مطّردة في جميع أحكام الشريعة المقدّسة، فما يصدر من منابع الوحي والرسالة بشأن بيان أحكام الله وتكاليفه للعباد، ليس يخصّ مورداً دون مورد، ولم يأتِ الشرع لمعالجة حوادث معاصرة، وإنّما هو شرع للجميع،

____________________

(1) الكافي: ج1، ص229، ح4 / والآية 89 من سورة النحل: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ) .

(2) أسباب النزول للواحدي: ص4.

١٠٩

الأمر الذي دعا بالفقهاء إلى إلغاء الخصوصيات المَوردية والأخْذ بإطلاق الحكم، لفظيّاً أو مقاميّاً، حسب المصطلح.

هذا بالنسبة إلى كافّة أحكام الشريعة، سنّةً وكتاباً، وإن كان في الكتاب آكَد، وقد عرفتَ صريح الروايات بهذا العموم في آيات القرآن، فكلّ ما في القرآن من أحكام وتكاليف واردة في الآيات الكريمة، فإنّما ينظر إليها الفقهاء من الوجه العامّ، ولا يأبهون بخصوص المورد إطلاقاً.

نعم، هناك بعض الخطابات مع فئات معهودة، صدرت على نحو القضية الخارجية (1) ، فإنّها لا تعمّ بلفْظها، وإن كانت قد تعمّ بمِلاكها، إذا كان قد أُحرز يقيناً، وفي القرآن منه كثير.

قال تعالى: ( الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) (2) .

نزلت الآية بشأن المؤمنين بعد منصرفهم من وقعة (أُحُد) وقد أصابهم القرْح الشديد، وكان أبو سفيان حاول الكرّة وتندّم على انصرافه عن القتال، وبلغ الخبر للمسلمين، وكان الذي أشاع الخبر هو نعيم بن مسعود الأشجعي، كما في الحديث عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) (3) ، وقيل: الركْب الذي دسّه أبو سفيان للإرجاف بالمؤمنين، وقيل: هم المنافقون بالمدينة.

لكنّ المؤمنين الصادقين صمدوا على الثبات والإيمان، وعزموا على مجابهة العدوّ بكلّ مجهودهم، وانتدبهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قصداً لإرهاب المشركين، وفي مقدّمة المنتدَبين الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

____________________

(1) من مصطلح عِلم الميزان (المنطق): وهو عبارة عن معهودية الموضوع في القضية، كقولك: أكرِم مَن في المسجد أو في المدرسة، تريد مَن هو في مسجد البلد، أو مدرسته في الحال الحاضر، وليس في كلّ الأزمان، وكلّ المساجد والمدارس على الإطلاق.

(2) آل عمران: 172 و173.

(3) مجمع البيان: ج2، ص541.

١١٠

والشاهد في قوله تعالى: ( قَالَ لَهُمُ النَّاسُ ) إشارة إلى أُناس معهودين أو فردٍ معهود، والمقصود من (الناس) الذين جمعوا لهم، هم: أصحاب أبي سفيان.

نعم، مجموعة هذه الحادثة تفيدنا مسألة الثبات على الإيمان، وأن لا نَهاب عدوّاً، ولا تجمّع الناس ضدّ الحقّ، مادام الله ناصرنا وكافلنا، نِعم المولى ونِعم النصير.

* * *

وقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ) (1) .

إنّما يعني الذين كفروا على عهده (صلّى الله عليه وآله) وعاندوا وأصرّوا على اللُجاج، بعد وضوح الحقّ وسطوع البرهان، وليس مطلق الكفّار على مرّ الزمان، وهذا تيئيس للنبي (صلّى الله عليه وآله)، فلا تذهب نفسه عليهم حسرات.

قال العلاّمة الطباطبائي (قدّس سرّه): ولا يبعد أن يكون المراد هم الكفّار من صناديد قريش وكُبَراء مكّة، الذين عاندوا ولجّوا في أمر الدين ولم يألوا جهداً في ذلك؛ إذ لا يمكن استطراد هذا التعبير في حقّ جميع الكفّار، وإلاّ لانسدّ باب الهداية، فالأشبه أن يكون المراد من ( الَّذِينَ كَفَرُواْ ) هاهنا وفي سائر الموارد من كلامه تعالى هم: كفّار مكّة في أوّل البعثة، إلاّ أن تقوم قرينة على خلافه، نظير ما سيأتي أنّ المراد من قوله: ( الَّذينَ آمَنُوا ) - فيما أُطلق في القرآن من غير قرينة على إرادة الإطلاق - هم: السابقون الأوّلون من المؤمنين، خُصّوا بهذا الخطاب تشريفاً (2) .

وهكذا قال (رحمه الله) في تفسير سورة (الكافرون): هؤلاء قوم معهودون لا كلّ كافر، ويدلّ عليه: أمرُهُ (صلّى الله عليه وآله) أن يخاطبهم ببراءته من دِينهم وامتناعهم من دِينه (3) .

____________________

(1) البقرة: 6 - 7.

(2) تفسير الميزان: ج1، ص50.

(3) تفسير الميزان: ج20، ص526.

١١١

وبذلك تنحلّ مشكلة كثير من الآيات جاءت بهذا التعبير وأشباهه.

نعم، هذا الحكم يسري فيمن شابَه أولئك في العناد واللجاج مع الحقّ بعد الوضوح.

نزلَ القرآن بإيّاك أعْني واسمعي يا جارة:

هكذا روى أبو النضر محمّد بن مسعود العيّاشي بإسناده عن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، فيما رواه عنه عبد الله بن بكير، قال: (نزلَ القرآن بإيّاك أعْني واسمعي يا جارة) (1) ، وهذا مَثلٌ يُضرَب لمَن يخاطب شخصاً أو يتكلّم عن أمرٍ وهو يريد غيره، على سبيل الكناية أو التعريض.

وروى بإسناده عن ابن أبي عمير عمّن حدّثه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ما عاتبَ الله نبيّه فهو يعني به مَن قد مضى في القرآن، مثل قوله: ( وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) (2) عَنى بذلك غيره (صلّى الله عليه وآله)) (3) .

قوله: (مَن قد مضى في القرآن) أي: مضى ذِكره إشارةً أو تلويحاً وربّما نصّاً.

والأكثر أن يراد أُمّته (صلّى الله عليه وآله) بالعتاب، ولاسيّما المؤمنون صدْر الإسلام، كانوا على قلق واضطراب في مواضعهم مع الكفّار.

وبهذا المعنى ورد قولهم (عليهم السلام)، فيما رواه محمّد بن مسلم عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (يا محمّد، إذا سمعتَ الله ذَكر أحداً من هذه الأمّة بخير فنحن هُم، وإذا سمعتَ الله ذكر قوماً بسوء ممّن مضى فهُم عدوّنا) (4) .

(لأنّ القرآن يجري أوّله على آخِره مادامت السماوات والأرض، ولكلّ قومٍ آية يتلونها هُم منها من خير أو شرّ) (5) .

قال (عليه السلام): (ظهْرُ القرآن الذين نزل فيهم،

____________________

(1) تفسير العيّاشي: ج1، ص10، ح4.

(2) الإسراء: 74.

(3) تفسير العيّاشي: ج1، ص10، ح5.

(4) تفسير العيّاشي: ج1، ص13، ح3.

(5) راجع المصدر السابق: ص10، ح7.

١١٢

وبطْنُه الذين عملوا بمِثل أعمالهم) (1) .

كيف الاهتداء إلى معالم القرآن؟

ما في القرآن آية إلاّ ولها ظهْرٌ وبطنٌ، وربّما بطون (2) ، هي حقائقها الراهنة، السارية الجارية مع مختلف الأحوال ومتقلّبات الأزمان، يعرفها الراسخون في العلم، الذين ثبَتوا على الطريقة، فسقاهم ربُّهم شراباً غَدَقاً (3) .

وخير وسيلة لفتح مغالق القرآن هو: اللجوء إلى أبواب رحمة الله ومنابع فَيضه القُدسي، أهل بيت الوحي، الذين هم أدرى بما في البيت؛ فإنّ بيدهم مقاليد هذه المغالق ومفاتيح هذه الأبواب.

فإنّهم عِدل القرآن وأحد الثقلَين، الذين أوصى بهما الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله)، وفي كلماتهم الكثير من الإرشادات إلى معالم القرآن وفَهْم حقائقه الناصعة، وممّا لا تجده في كلام غيرهم على الإطلاق.

من ذلك ما ورد بشأن قوله تعالى: ( أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ) (4) .

وقوله - في آية أخرى -: ( أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ) (5) .

وهذا تهديد ووعيد بالهلاك والدمار إن لم يرضخوا لناموس الشريعة الغرّاء، ولكن كيف هذا التهديد؟ وبمَ كان هذا الوعيد؟.

وقد فسّرها جُلّ المفسّرين بغلَبة الإسلام والتضايق على بلاد الكُفر والإلحاد، قال الثعالبي: إنّا نأتي أرض هؤلاء بالفتح عليك، فننقصها بما يدخل في دينك من

____________________

(1) المصدر السابق: ص11، ح4.

(2) راجع تفسير البرهان: ج1، ص20.

(3) راجع آية 16 من سورة الجنّ.

(4) الرعد: 41.

(5) الأنبياء: 44.

١١٣

القبائل والبلاد المجاورة لهم، فما يؤمّنهم أن نمكنّك منهم أيضاً (1) .

وهكذا رجّحه ابن كثير قال: وهو ظهور الإسلام على الشِرك قريةً بعد قرية، كقوله تعالى: ( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى ) (2) ، وهذا اختيار ابن جرير (3) .

وقد ذهب ابن كثير وغيره - حتى سيّد قطب - إلى أنّ السورة مكّية، ولم يذكر أحدٌ استثناء هذه الآية منها، وسورة الأنبياء مكيّة بلا خلاف ولم يذكروا سنداً لاستثناء الآية منها، الأمر الذي يلتئم مع هذا الاختيار في معنى الآية.

ثمّ الآية صريحة في نقصان أطراف الأرض، ولم يُعهَد اختصاص اسم الأرض بمكّة المكرّمة.

نعم، فتَح هذا المغلاق في وجه الآية، وفسّرها تفسيراً جليّاً، ما جاء في كلام الإمام الصادق (عليه السلام) فيما رواه ابن بابويه الصدوق، قال: سئل الصادق (عليه السلام) عن هذه الآية؟ فقال: (فقْدُ العلماء) (4).

وذلك: أنّ الأرض يراد بها المعمورة منها في أكثر الأحيان، كما في قوله تعالى: ( أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ) (5) ، وقد فهِم منه الفقهاء - في حدّ المحاربين - نفْيَهم من عمارة الأرض، فلا يدخلوا بلداً ولا يحلّوا دياراً إلاّ أُخرجوا.

وإذا كانت عمارة الأرض هي حصيلة جهود العلماء والاختصاصيّين من أهل العلم، فعفوك أنّ خرابها بفقْد العلماء وذهاب الخيار من الصلحاء، فعند ذلك تفسد البلاد وتهلك العباد، والروايات بهذا المعنى كثيرة عن الأئمة (6) .

وقد تنبّه لذلك بعض الأقدَمين، فيما روي عن ابن عبّاس: تُخرّب قرية ويكون العمران في ناحية، والنقصان نقصان أهلها وبركتها... وقال الشعبي: تنقص الأنفس والثمرات. وفي رواية عن ابن عبّاس أيضاً: خرابها بموت علمائها

____________________

(1) تفسير الثعالبي: ج2، ص274.

(2) الأحقاف: 27.

(3) تفسير ابن كثير: ج2، ص520 - 521.

(4) تفسير البرهان: ج2، ص302، ح5.

(5) المائدة: 33.

(6) تفسير البرهان: ج2، ص301 - 302.

١١٤

وفُقهائها وأهل الخير منها. قال مجاهد: هو موت العلماء (1) .

قال تعالى: ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ) (2) .

* * *

وقوله تعالى: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ) (3).

فقد أُشكل على المفسّرين وجه هذا السجود والأمر به، ولا تجوز العبادة لغير الله! ومن ثمّ اختلفوا هل أنّه كان بوضع الجِباه على الأرض، وأنّهم جعلوا آدم قبلةً يسجدون لله تعالى؟.

نعم، ورد الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه كان لآدم سجود طاعة، ولله سجود عبادة (4) ، وهو كناية عن قيامهم بمصالح الإنسان عِبر الحياة، فإنّ قوى الطبيعة بأسرها مسخّرة لهذا الإنسان خاضعة تحت إرادته... والسجود هو الخضوع التامّ، قال الشاعر:

ترى الأُكَم فيها سُجّداً للحوافر

أي: التلال مذلّلة لحوافر الخيول (5).

وهذا نظير قوله تعالى - بشأن يوسف وإخوته -: ( وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً ) (6) أي: وقَعوا على الأرض خضوعاً له - على وجه -.

* * *

____________________

(1) مجمع البيان: ج6، ص300 / تفسير ابن كثير: ج2، ص520.

(2) الأعراف: 96.

(3) البقرة: 34.

(4) عيون الأخبار: ج1، ص263، قطعة من ح 22 / بحار الأنوار: ج11، ص140، ح6.

(5) بحار الأنوار: ج11، ص140.

(6) يوسف: 100.

١١٥

وقوله تعالى: ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) (1) .

فلولا الامتناعية دلّت على أنّ الهمّ من يوسف لم يقع. سوى أنّ الذي منعَه وعَصَمه من هَمّ المعصية ماذا كان؟ فقيل: إنّه رأى صورة أبيه عاضّاً على إصبعه، وقيل غير ذلك - ممّا يتنافى وعصمة مقام النبوّة -.

والصحيح: ما هدانا إليه الأئمّة الراشدون، أنّه الإيمان الصادق الذي هو منشأ العصمة في أنبياء الله (عليهم السلام)؛ بدليل تعقيبه بقوله: ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) إشارة إلى مقام عصمة الأنبياء (2) .

* * *

____________________

(1) يوسف: 24.

(2) راجع تفسير الميزان: ج11، ص141 و 181.

١١٦

4 - كُتّابُ الوحي

- أوّل مَن كتَب بمكّة.

- أوّل مَن كتَب بالمدينة.

- ثلاثة هُم كتَبَة الوحي الرسميّون.

- سائر الكُتّاب غير الرسميّين.

- كيف كُتب القرآن على عهده (صلّى الله عليه وآله)؟

١١٧

كُتّابُ الوحي

كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أُمّياً لا يقرأ ولا يكتب (1) ، وكان في ذلك مصلحة إعجاز القرآن: ( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) (2) ، والآية تدلّ: على أنّه لم يتعارف منه (صلّى الله عليه وآله) قراءةً ولا كتابة، ولم يُعهَد منه ذلك، ولعلّه (صلّى الله عليه وآله) كان يتظاهر بالأمّية؛ حِفظاً على سلامة القرآن من التشكيك فيه، ودعماً لموضع إعجازه، حيث صدر على يد أُمّي لم يُعهَد منه كتابةً ولا قراءة.

إذاً، كان (صلّى الله عليه وآله) بحاجة إلى مَن يكتُب له رسائله إلى جنْب كتابة الوحي القرآني

____________________

(1) لا يستدعي هذا التعبير أنّه (صلّى الله عليه وآله) لم يكن يعرف ذلك، وإنّما المقصود أنّه لم يتحقّق منه قراءةً ولا كتابة، لا قبْل بِعثته ولا بعدها، وذلك في حِكمة القرآن كي لا يرتاب المبطلون.

قال الطوسي: قال المفسّرون: لم يكن يُحسن الكتابة، قال: والآية لا تدلّ على ذلك، بل فيها أنّه (صلّى الله عليه وآله) لم يكن يكتب الكتاب، وقد لا يكتب الكتاب مَن يُحسنه، كما لا يكتب مَن لا يُحسنه. (التبيان ج8، ص193)؛ ذلك لأنّ القدرة على الكتابة والقراءة كمال، ولا يخلو النبيّ من الكمال، كما أنّ الأمّية عيّ ونقص يتحاشاه مقام النبوّة الكريم. وفي تفسير الميزان (ج16، ص145): ظاهر التعبير، نفي العادة، وهو الأنسب بالنسبة إلى سياق الحجّة.

(2) العنكبوت: 48 و 49.

١١٨

النازل عليه، ومن ثمّ استخدم مَن كان بمكّة آنذاك ممّن يعرف الكتابة، وهكذا بعدما هاجر إلى المدينة.

وأوّل مَن كتَب له بمكّة وأدامها له مدّة حياته الكريمة هو: الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، وقد كان النبي (صلّى الله عليه وآله) حريصاً على أن لا يفوت عليّاً شيءٌ من القرآن، فكان إذا نزل عليه الوحي - أحياناً - وهو غائب، دعا بعض كُتّابه ليكتبه، ثمّ إذا حضر عليٌّ أعاده عليه ليكتبه أيضاً، ومن ثمّ لم يكن مِن كتَبَة القرآن أجمع ولا أحفظ من عليّ (عليه السلام).

قال سُليم بن قيس الهلالي - وقد عدّه النجاشي من الطبقة الأُولى (1) من زمرة السلَف الصالح -: جلست إلى عليّ (عليه السلام) بالكوفة في المسجد والناس حوله، فقال: (سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن كتاب الله، فو الله ما نزلت آية من كتاب الله إلاّ وقد أقرأنيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعلّمَني تأويلها، فقال ابن الكوّاء (2) : فما كان ينزل عليه وأنت غائب؟ فقال (عليه السلام): بلى، يحفظ عليَّ ما غبتُ عنه، فإذا قدمتُ عليه قال لي: يا عليّ، أنزلَ الله بعدك كذا وكذا، فيقرأنيه، وتأويله كذا وكذا فيعلّمنيه..) (3) ، والتأويل هنا تفسير مواضع إبهام الآية.

وأوّل مَن كتب الوحي لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) عند مَقدمه المدينة هو: أُبَي بن كعب، الصحابي الجليل، قال ابن سعد: كان أُبَي يكتب في الجاهلية قبل الإسلام، وكانت الكتابة في العرب قليلة، وكان يكتب في الإسلام الوحي لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) (4).

قال ابن عبد البرّ: أوّل مَن كتَب لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) عند مَقدمه المدينة أُبَي بن كعب، وهو أوّل مَن كتَب في آخِر الكتاب: وكتب فلان (5) .

____________________

(1) رجال النجاشي: ص6 في ذكر الطبقة الأُولى.

(2) هو عبد الله بن عمرو اليشكري، عالِم نسّابة، ومساءلته لأمير المؤمنين (عليه السلام) معروفة.

(3) كتاب سُليم بن قيس الهلالي برواية أبان بن أبي البصري التابعي: ص213 - 214.

(4) الطبقات لابن سعد: ج3، ق2، ص59، طبع ليدن.

(5) الإصابة لابن حجر: ج1، ص19. الاستيعاب بهامشه، ج1، ص50 و51.

١١٩

وهو الذي أمر الله رسوله أن يقرأ عليه القرآن ويعرضه عليه، وكان ممّن عُرضت عليه الفرصة الأخيرة، ومن ثمّ تولّى المرجعية الأعلى لِلِجْنة توحيد المصاحف على عهد عثمان، كان هو المُملي عليهم، وكان إذا تدارؤوا في شيء يُصحّحه لهم، وغير ذلك ممّا شرحناه في الجزء الأوّل من التمهيد (1) .

وكان زيد جاراً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالمدينة، كان إذا لم يحضر أُبيّ دعاه ليكتب له، ولاسيّما رسائله بالعِبرية، ثمّ تداوم هو وأُبيّ الكتابة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله).

قال ابن عبد البرّ: كانا يكتبان الوحي بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ويكتبان كُتبه إلى الناس وما يقطع وغير ذلك، قال: وكان زيد ألزم الصحابة لكتابة الوحي، وكان يكتب كثيراً من الرسائل (2) .

أخرج ابن داود السجستاني بإسناده إلى ثابت عن زيد بن ثابت قال، قال النبي (صلّى الله عليه وآله): (أتُحسن السريانية، فإنّها تأتيني كتُب؟) قلت: لا، قال: فتعلّمتها...

وأخرج ابن سعد: أنّه قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لمّا قدِم المدينة: (تعلّم كتاب اليهود، فإنّي والله ما آمِن اليهود على كتابي)، قال: فتعلّمته في أقلّ من نصف شهر. وفي حديثه الآخر: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (يأتيني كتُب من أُناس لا أحبّ أن يقرأها أحد، فهل تستطيع أن تتعلَّم كتاب العبرانية، أو قال: السريانية؟) فقلت: نعم، قال: فتعلّمتها في سبع عشرة ليلة - أو في تسعة عشر يوماً - (3) .

والظاهر أنّ الصحيح هي العِبرية؛ لأنّها كانت لغة اليهود الدارجة، وبها كانت كتاباتهم آنذاك.

* * *

____________________

(1) راجع التمهيد: ج1، ص340 و348 / والمصاحف السجستاني: ص30.

(2) أُسد الغابة لابن الأثير: ج1، ص50 / الاستيعاب بهامش الإصابة: ج1، ص50.

(3) راجع المصاحف للسجستاني: ص3. والطبقات لابن سعد: ج2، ق2، ص115.

والظاهر أنّ تلك المدّة القليلة مُبالغ فيها، أو لعلّه كانت له إلمامة بتلك اللغة فأتقنها في تلك المدّة القصيرة.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459