تلخيص التمهيد الجزء ١

تلخيص التمهيد8%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 459

  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 79898 / تحميل: 11259
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

قال: هذا تقرير ما صدَر عن عمَر، مع ما عُرف من شدّة صلابته في الدين! (١) .

يا للعجَب من عقلية ابن حجَر، كيف يتصوّر من عمَر عملاقاً في فَهْم قضايا الدين والوقوف على مزايا اللغة، ممّا غفَل عنه مثل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، الذي هو مبلِّغ الشريعة وأفصح مَن نطقَ بالضاد؟!.

أمثل مَن لا يَعرف الأَبَّ مِن القَتّ (٢) ، ويجهل الكثير من الآداب والسُنن (٣) ، يقوم بتأنيب ناموس الشريعة وصميم العربية الفصحاء؟! إنْ هذا إلاّ وهْمٌ ناشئ عن عصبية عمياء، أعاذنا الله منها!.

* * *

وبعد، فإذ قد عرفت قيمة ما أُسند من روايات أسباب النزول الواردة في أهمّ الكتُب الحديثية، فكيف بالمقطوع، والمرسَل، والمجهول... الأمر الذي يُنْبئك عن أصالة ما لدينا من صحاح الروايات في هذا الباب، وقد صحّ كلام الإمام أحمد: ثلاثة ليس لها أصل معتمَد: المغازي، والملاحم، والتفسير.

هذا السيوطي يُخرّج لقوله تعالى: ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ) (٤) خمسة أوجه:

الأوّل: إنّه في تحويل القِبلة وارتياب اليهود في ذلك. عن ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.

____________________

(١) فتح الباري: ج ٨ ص ٢٥٢.

(٢) أخرج الطبري في تفسيره (ج ٣٠ ص ٣٨) عن أنس قال: قرأ عمَر سورة عبَس، فلمّا أتى على هذه الآية ( وَفَاكِهَةً وَأَبّاً ) قال: عرفنا الفاكهة فما الأبّ؟.. ثمّ قال: إنّ هذا لهو التكلّف!. وأورده ابن كثير في تفسيره (ج٤ ص ٤٧٣) وصحّحه، ثمّ تعجّب من عدم فَهْم عمَر معنى الأبّ؛ لأنّ الكلّ يعلم أنّه من نبات الأرض ممّا يقتات به البهائم، لقوله تعالى بعد ذلك: ( مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ ) فالأبّ علَف الدوابّ كالقَت.

(٣) راجع نوادر الأثر في علم عُمَر (الغدير: ج ٦ ص ٨٣).

(٤) البقرة: ١١٥.

١٠١

الثاني: أن تصلّي حيثما توجّهتْ به راحلتك. أخرجه الحاكم وغيره عن ابن عمَر.

الثالث: إنّه كان في سفَر ليلةٍ ظلماء، فصلّى كلّ رجُل على حياله لا يدرون أين وجه القِبلة. أخرجه الترمذي من حديث عامر بن ربيعة، وكذا الدارقطني من حديث جابر.

الرابع: لمّا نزلت ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (١) قالوا: إلى أين؟ فنزلت. أخرجه ابن جرير عن مجاهد.

الخامس: عن قتادة أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (إنّ أخاً لكم قد مات فصلّوا عليه) ، فقالوا: إنّه كان لا يصلّي إلى القِبلة، فنزلت.

قال السيوطي - تعقيباً على ذلك -: فهذه خمسة أسباب مختلفة، وأضعفها الأخير لإعضاله، ثمّ ما قبله لإرساله، ثمّ الثالث لضعف رُواته، والثاني صحيح لكنّه قال: قد أُنزلت في كذا، ولم يُصرّح بالسبب، والأوّل صحيح الإسناد، وصُرّح فيه بذِكر السبب فهو المعتمَد (٢) .

* * *

سبب النزول أو شأن النزول:

ما هو الفارق بين قولهم: (سبب النزول) أو (شأن النزول) ؟.

إن كانت هناك مشكلة حاضرة - سواء أكانت حادثة أُبهم أمرُها، أمْ مسألة خفِيَ وجه صوابها، أو واقعة ضلّ سبيل مَخرجِها - فنزلت الآية لتعالج شأنها وتضع حلاً لمشكلتها، فتلك هي أسباب النزول، أي السبب الداعي والعلّة الموجِبة لنزول قرآن بشأنها.

وهذا أخصّ من قولهم: (شأن النزول)؛ لأنّ الشأن أعمّ مورداً من السبب

____________________

(١) غافر: ٦٠.

(٢) الإتقان: ج١، ص٩٣.

١٠٢

- في مصطلحهم - بعد أن كان الشأن يعني: الأمر الذي نزل القرآن - آيةً أو سورة - ليعالج شأنه بياناً وشرحاً، أو اعتباراً بمواضع اعتباره، كما في أكثرية قصص الماضين والإخبار عن أُمم سالِفين، أو عن مواقف أنبياء وقدّيسين كانت مشوّهة، وكادت تمسّ من كرامتهم أو تحطّ من قدسيّتهم؛ فنزل القرآن ليعالج هذا الجانب، ويبيّن الصحيح من حكاية حالهم والواقع من سيرتهم بما يرفع الإشكال والإبهام، وينزّه ساحة قُدس أولياء الله الكرام.

وعليه: فالفارق بين السبب والشأن - اصطلاحاً - أنّ الأوّل يعني مشكلة حاضرة لحادثة عارضة، والثاني مشكلة أمرٍ واقع، سواء أكانت حاضرة أمْ غابرة، وهذا اصطلاح ولا مشاحّة فيه.

* * *

وقولهم: (نزلت في كذا) أعمّ، قد يراد السبب العارض، وقد يراد شأنُ أمرٍ واقع في الغابر، وأحياناً يراد بيان حُكم وتكليف شرعي دائم.

قال الزركشي: وقد عُرف من عادة الصحابة والتابعين أنّ أحدهم إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا، فإنّه يريد بذلك أنّ هذه الآية تتضمّن هذا الحُكم، لا أنّ هذا كان السبب في نزولها (١) .

إلاّ أنّ السيوطي خصّ أسباب النزول بالنوع الأوّل، ورفض أن يكون بيانه قصّة سالفة لنزول سورة أو آية قرآنية، ومن ثمّ اعترض على الواحدي - في أسباب النزول - قوله: نزلت سورة الفيل في قصّة أصحاب أبْرهة الذي جاء لهدْم الكعبة (٢) .

قال: والذي يتحرّر في سبب النزول أنّه ما نزلت الآية أيام وقوعه؛ ليخرج ما ذكره الواحدي في سورة الفيل من أنّ سببها قصّة قدوم الحبشة، فإنّ ذلك ليس من

____________________

(١) البرهان للزركشي: ج١، ص٣١ - ٣٢.

(٢) أسباب النزول للواحدي: ص٢٥٩.

١٠٣

أسباب النزول في شيء، بل هو باب الإخبار عن الوقائع الماضية، كذِكر قصّة قوم نوح وعاد وثمود وبناء البيت ونحو ذلك (١) ، مع أنّ الواحدي لم يصرّح بالسبب، بل ذَكر أنّها نزلت في قصّة أصحاب الفيل.

ولا وجه لِمَا تضايق السيوطي على نفسه وعلى الآخرين، بعد أن كان المصطلح على دواعي النزول هي المناسبات المقتضية لنزول قرآن، سواء أكانت حادثة واقعة، أمْ اختلافاً في مسألة شرعية فرعية أو عقائدية، أمْ قصّة غابرة كانت ذات عِبرة أو موضع اختلاف، فأراد الله تعالى تحريرها وتهذيبها وتطهير ساحة قُدس أوليائه الكرام.

التنزيل والتأويل:

سأل الفُضَيل بن يسار الإمام أبا جعفر الباقر (عليه السلام) عن الحديث المعروف: (ما في القرآن آية إلاّ ولَها ظَهْر وبطْن، فقال (عليه السلام): ظهْره تنزيله وبطْنه تأويله، منه ما قد مضى ومنه ما لم يكن، يجري كما تجري الشمس والقمر) (٢) .

وقال (عليه السلام): (ظَهْر القرآن الذين نزل فيهم، وبطْنه الذين عملوا بمِثل أعمالهم) (٣) .

ذلك أنّ للآية وجهاً مرتبطاً بالحادثة الواقعة - التي استدعَت نزولها - ووجهاً آخر عامّاً، تكون الآية بذلك دستوراً كلّياً يجري عليه المسلمون أبَدياً، وكما أنّ الآية عالجت - بوجهها الخاصّ - مشكلة حاضرة، فإنّها - بوجهها العامّ - سوف تعالج مشاكل الأمّة على مَرّ الأيام.

قال الإمام أبو جعفر (عليه السلام): (ولو أنّ الآية نزلت في قوم، ثمّ مات أولئك القوم ماتت الآية؛ لَمَا بقي من القرآن شيء، ولكنّ القرآن يجري أوّله على آخِره ما دامت السماوات والأرض، ولكلّ قومٍ آية يتلونها هُم من خير أو شرّ) (٤) .

____________________

(١) لباب النقول بهامش الجلالين: ج١، ص٥.

(٢) بصائر الدرجات: ص١٩٦، ح٧.

(٣) تفسير العيّاشي: ج١، ص١١، ح٤.

(٤) تفسير العيّاشي: ج١، ص١٠، ح٧.

١٠٤

نعم، إنّ الحكمة في نزول آية أو سورة ليست بالتي تقتصر على معالجة مشاكل حاضرة، وليست دواءً وقتيّاً لداءٍ عارضٍ وقتيّ، إذاً تنتفي فائدتها بتبدّل الأحوال والأوضاع، بل القرآن - في جميع آياتهِ وسوَرهِ - نزل علاجاً لمشاكل أُمّة بكاملها في طول الزمان وعَرْضه، وإلى ذلك يشير قولهم (عليهم السلام): (نزلَ القرآن بإيّاك أعني واسمعي يا جارة) (١) .

وهذا الوجه العامّ للآية: هو ناموسها الأكبر الكامن وراء ذلك الوجه الخاصّ، وإنّما يلقي بأضوائه على الآفاق من وراء ذلك الستار الظاهري، وتنبعث أنواره من ذلك البطن الكامن وراء هذا الظهْر.

وهذا من اختصاص القرآن في بيان مقاصده من الوجهين الخاصّ والعامّ، ومن ثمّ فإنّ له تنزيلاً (الذين نزل فيهم)، وتأويلاً (الذين عملوا بمثل أعمالهم)، وذلك ظهْره وهذا بطْنه.

غير أنّ الوقوف على تأويل القرآن وفهْم بطون الآيات، إنّما هو من اختصاص الراسخين في العلم، ممّن ثبتوا على الطريقة، فسقاهم ربّهم ماءً غَدَقاً (٢) .

ومن ثمّ قال الإمام أبو جعفر - بعد أن تلا الآية -: (نحن نعلمه) أي التأويل (٣) ، وفي رواية أخرى: (تعرفه الأئمّة) (٤) .

* * *

قال تعالى: ( وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (٥) .

هذه الآية نموذج من الآيات ذوات الوجهَين، لها تنزيل ولها تأويل، ظهْرٌ وبطْنٌ، وإنّّما يَعلم سرّها الكامن العامّ أُولوا البصائر في الدين الأئمّة

____________________

(١) تفسير العيّاشي: ج١، ص١٠، ح٤.

(٢) راجع آية ١٦ من سورة الجنّ.

(٣) بصائر الدرجات: ص١٩٦، ح٧.

(٤) بصائر الدرجات: ص١٩٦، ح٨.

(٥) البقرة: ١١٥.

١٠٥

المعصومون (عليهم السلام).

هذه الآية تبدو - في ظاهرها - متعارضة مع آيات توجِب التوجّه في الصلاة شطْر المسجد الحرام (١) ، ولكن مع ملاحظة سبب النزول، وأنّه دفعٌ لشُبهة اليهود ورفعٌ لارتيابهم في تحويل القِبلة، يتبيّن أن لا معارضة، ويرتفع الإبهام عن وجه الآية؛ ذلك أنّ الاستقبال في الصلاة والعبادات أمرٌ اعتباريّ محض، ينوط باعتبار صاحب الشريعة في مصالح يراها مقتضية حسب الأحوال والأوضاع، وليس وجه الله محصوراً في زاوية القُدس الشريف أو الكعبة المكرّمة.

وبذلك تنحلّ مشكلة الآية ويرتفع إبهامها، وأن ليس ترخيصاً في الاتّجاه بسائر الجهات.

هذا، وقد فهِم الأئمة (عليهم السلام) أمراً آخر أيضاً، استخرجوه من باطن الآية، حيث تأويلها المستمرّ، وأنّها تعني جواز التطوّع بالنوافل إلى حيث توجَّهت به راحلتك... أو اشتبهت القِبلة، فتصلّي إلى أيّ الجهات شئت، هكذا وجدنا صراحة الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) (٢) .

قال سيّدنا الطباطبائي (قدّس سرّه): إنّك إذا تصفّحت كلمات الأئمّة (عليهم السلام) في عموم القرآن وخصوصه ومطلقه ومقيّده؛ لوجدت كثيراً ما استفادةَ حُكمٍ من عموم الآية، ثمّ استفادة حكمٍ آخر مع ملاحظة خصوصها، فقد يستفاد (الاستحباب) من الآية من وجه عمومها، (الوجوب) من وجهها الخاصّ، وهكذا (الحرمة) و(الكراهة) من الوجهين للآية بذاتها.

قال: وعلى هذا المقياس تجد أصولاً هي مفاتيح لكثير من مغالق الآيات، إنّما تجدها في كلماتهم (عليهم السلام) لا غيرهم، قال: ومن هنا يمكنك أن تَستخرج من

____________________

(١) البقرة: ١٤٤ و١٤٩ و١٥٠.

(٢) راج وسائل الشيعة: باب ٨ و ١٥ من أبواب القِبلة ج٣، ص٢٢٥ - ٢٣٩ / وتفسير العيّاشي: ج١، ص٥٦ - ٥٧.

١٠٦

لُباب كلامهم في المعارف القرآنية قاعدتين أساسيّتين:

الأُولى: أنّ كلّ عبارة من عبارات الآية الواحدة، فإنّها لوحدها تفيد معنى وتلقي ضوءً على حُكمٍ من أحكام الشريعة، ثمّ هي مع العبارة التالية لها تفيد حكماً آخر، ومع الثالثة حكماً ثالثاً، وهكذا دواليك.

مثلاً قوله تعالى: ( قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) (١) فقوله: ( قُلِ اللّهُ ) جملة تامّة الإفادة وهي مع قوله: ( ثُمَّ ذَرْهُم ) أيضاً كلام آخر هو تامّ، ومع ( في خوْضِهِمْ ) ، وكذا مع ( يَلْعَبُونَ ) كُلاًّ كلامٌ ذو فائدةٍ تامّة.

واعتبِر نظير ذلك في كلّ آية شئت من آيات القرآن..

الثانية: أنّ القصّتين أو المعنيَين إذا اشتركا في جملة أو نحوها، فهما راجعان إلى مرجعٍ واحد.

قال: وهذان سِرّان، تحتهما أسرار، والله الهادي (٢) .

* * *

وقوله تعالى: ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ) (٣) .

قيل: نزلت بشأن الجِنّ استأذنوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن يشهدوا مسجده، وقد كان صعباً عليهم وهم منتشرون في فِجاج الأرض، فنزلت: أنّ كلّ موضع من الأرض فهو مسجد لله يجوز التعبّد فيه، سوى أنّه يجب الإخلاص في العبادة في أيّ مكان كانت (٤) ، وهكذا روي عن سعيد بن جبير.

هذا إذا أُخذت (المساجد) بمعنى (المعابد): أمكنة العبادة.

وربّما فُسّرت بمعنى المصدر، وأنّ العبادات بأسْرها خاصّة بالله تعالى لا يجوز السجود لغيره، روي ذلك عن الحسن.

____________________

(١) الأنعام: ١١٩.

(٢) تفسير الميزان: ج١، ص٢٦٢.

(٣) الجنّ: ١٨.

(٤) لباب النقول بهامش الجلالين: ج٢، ص١٢١.

١٠٧

وقال جمْع من المفسّرين كسعيد بن جبير، والزجّاج، والفرّاء: إنّها المواضع السبعة حالة السجود، وهي لله، إذ هو خالقها والذي أنعم بها على الإنسان، فلا ينبغي أن يسجد بها لأحد سوى الله تعالى (١) .

وبهذا المعنى الأخير أخذ الإمام أبو جعفر محمّد بن علي الجواد (عليه السلام)، حينما سأله المعتصم العباسي عن هذه الآية، فقال: (هي الأعضاء السبعة التي يُسجَد عليها) (٢) .

وكان هذا الحادث في قصّة سارق جيء به إلى مجلس المعتصم، فاختلف الفقهاء الحضور في موضع القطع من يده، فكان من رأي الإمام (عليه السلام) أن يُقطع من مفصل الأصابع، ولمّا سأله المعتصم عن السبب أجاب بأنّ: (راحة الكفّ هي إحدى مواضع السجود السبعة، وأنّ المساجد لله، فلا تُقطع) (٣) .

وهكذا، وبهذا الأُسلوب البديع استنبط (عليه السلام) من تعبير القرآن دليلاً على حكم شرعيّ، كان حلاًّ قاطعاً لمشكلة الفقهاء حلاًّ أبديّاً.

وهذا من بطن القرآن وتأويله الساري مع كلّ زمان، تعرفه الأئمة، إمام كلّ عصر حسب حاجة ذلك العصر.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ للقرآن تأويلاً، فمنه ما قد جاء ومنه ما لم يجئ، فإذا وقع التأويل في زمان إمام من الأئمّة عرَفَه إمام ذلك الزمان) (٤) .

قال الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام): (ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء) (٥) .

____________________

(١) وهكذا فسّرها الأئمة من أهل البيت فيما ورد من التفسير المأثور (راجع مجمع البيان: ج١٠، ص٣٧٢ / وتفسير البرهان: ج٤، ص٣٩٤ - ٣٩٥).

(٢) مجمع البيان: ج١٠، ص٣٧٢.

(٣) وسائل الشيعة: باب ٤، من أبواب حدّ السرقة ح٥، ج١٨، ص٤٩٠.

(٤) بصائر الدرجات: ص١٩٥، ح٥.

(٥) الكافي: ج١، ص٢٢٨، ح٢.

١٠٨

وقال الصادق (عليه السلام): (والله، إنّي لأعلم كتاب الله من أوّله إلى آخِره كأنّه في كفّي، فيه خبر السماء وخبر الأرض، وخبر ما كان وخبر ما هو كائن، فيه تبيان كلّ شيء، كما قال تعالى) (١) .

هل يجب حضور ناقل السبب؟

ذكر الواحدي أنّه لا يحلّ القول في أسباب النزول، إلاّ بالرواية والسماع ممّن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب وبحثوا عن عِلمها (٢).

وهذا الاشتراط إنّما هو من أجل الاستيثاق بأنّ ما ينقله حكاية عن حسٍّ مشهود، لا أنّه من اجتهاد أو تخرّص بالغيب، ومن ثمَّ مَن عرفناه صادقاً في لهجته، ثقةً في إخباره، حذراً واعياً يتجنّب الحدَس والتخمين، ولا يخبر إلاّ عن علم، ولا يروي إلاّ عن يقين، فإنّ مِثلَه مُصدَّق ولو كان غائب المشهد، ومن ثمّ نعتمد قول خيار الصحابة ولو لم يصرّح بحضوره المشهد، وكذا إخبار التابعين لهم بإحسان، ومَن بعدهم من أئمّةٍ صادقين.

ولنفس السبب نعتمد أقوال أئمّتنا المعصومين بشأن تفسير القرآن، تنزيله وتأويله؛ لأنّهم أعرَف الخلْق بعلوم القرآن ظاهره وباطنه، سوى أنّ المهمّ هو العلم بصحّة الإسناد إليهم أو تواتر النقل، وقليلٌ ما هو.

العِبرةُ بعموم اللفظ لا بخصوص المورد:

هذه قاعدة أصولية مطّردة في جميع أحكام الشريعة المقدّسة، فما يصدر من منابع الوحي والرسالة بشأن بيان أحكام الله وتكاليفه للعباد، ليس يخصّ مورداً دون مورد، ولم يأتِ الشرع لمعالجة حوادث معاصرة، وإنّما هو شرع للجميع،

____________________

(١) الكافي: ج١، ص٢٢٩، ح٤ / والآية ٨٩ من سورة النحل: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ) .

(٢) أسباب النزول للواحدي: ص٤.

١٠٩

الأمر الذي دعا بالفقهاء إلى إلغاء الخصوصيات المَوردية والأخْذ بإطلاق الحكم، لفظيّاً أو مقاميّاً، حسب المصطلح.

هذا بالنسبة إلى كافّة أحكام الشريعة، سنّةً وكتاباً، وإن كان في الكتاب آكَد، وقد عرفتَ صريح الروايات بهذا العموم في آيات القرآن، فكلّ ما في القرآن من أحكام وتكاليف واردة في الآيات الكريمة، فإنّما ينظر إليها الفقهاء من الوجه العامّ، ولا يأبهون بخصوص المورد إطلاقاً.

نعم، هناك بعض الخطابات مع فئات معهودة، صدرت على نحو القضية الخارجية (١) ، فإنّها لا تعمّ بلفْظها، وإن كانت قد تعمّ بمِلاكها، إذا كان قد أُحرز يقيناً، وفي القرآن منه كثير.

قال تعالى: ( الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) (٢) .

نزلت الآية بشأن المؤمنين بعد منصرفهم من وقعة (أُحُد) وقد أصابهم القرْح الشديد، وكان أبو سفيان حاول الكرّة وتندّم على انصرافه عن القتال، وبلغ الخبر للمسلمين، وكان الذي أشاع الخبر هو نعيم بن مسعود الأشجعي، كما في الحديث عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) (٣) ، وقيل: الركْب الذي دسّه أبو سفيان للإرجاف بالمؤمنين، وقيل: هم المنافقون بالمدينة.

لكنّ المؤمنين الصادقين صمدوا على الثبات والإيمان، وعزموا على مجابهة العدوّ بكلّ مجهودهم، وانتدبهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قصداً لإرهاب المشركين، وفي مقدّمة المنتدَبين الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

____________________

(١) من مصطلح عِلم الميزان (المنطق): وهو عبارة عن معهودية الموضوع في القضية، كقولك: أكرِم مَن في المسجد أو في المدرسة، تريد مَن هو في مسجد البلد، أو مدرسته في الحال الحاضر، وليس في كلّ الأزمان، وكلّ المساجد والمدارس على الإطلاق.

(٢) آل عمران: ١٧٢ و١٧٣.

(٣) مجمع البيان: ج٢، ص٥٤١.

١١٠

والشاهد في قوله تعالى: ( قَالَ لَهُمُ النَّاسُ ) إشارة إلى أُناس معهودين أو فردٍ معهود، والمقصود من (الناس) الذين جمعوا لهم، هم: أصحاب أبي سفيان.

نعم، مجموعة هذه الحادثة تفيدنا مسألة الثبات على الإيمان، وأن لا نَهاب عدوّاً، ولا تجمّع الناس ضدّ الحقّ، مادام الله ناصرنا وكافلنا، نِعم المولى ونِعم النصير.

* * *

وقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ) (١) .

إنّما يعني الذين كفروا على عهده (صلّى الله عليه وآله) وعاندوا وأصرّوا على اللُجاج، بعد وضوح الحقّ وسطوع البرهان، وليس مطلق الكفّار على مرّ الزمان، وهذا تيئيس للنبي (صلّى الله عليه وآله)، فلا تذهب نفسه عليهم حسرات.

قال العلاّمة الطباطبائي (قدّس سرّه): ولا يبعد أن يكون المراد هم الكفّار من صناديد قريش وكُبَراء مكّة، الذين عاندوا ولجّوا في أمر الدين ولم يألوا جهداً في ذلك؛ إذ لا يمكن استطراد هذا التعبير في حقّ جميع الكفّار، وإلاّ لانسدّ باب الهداية، فالأشبه أن يكون المراد من ( الَّذِينَ كَفَرُواْ ) هاهنا وفي سائر الموارد من كلامه تعالى هم: كفّار مكّة في أوّل البعثة، إلاّ أن تقوم قرينة على خلافه، نظير ما سيأتي أنّ المراد من قوله: ( الَّذينَ آمَنُوا ) - فيما أُطلق في القرآن من غير قرينة على إرادة الإطلاق - هم: السابقون الأوّلون من المؤمنين، خُصّوا بهذا الخطاب تشريفاً (٢) .

وهكذا قال (رحمه الله) في تفسير سورة (الكافرون): هؤلاء قوم معهودون لا كلّ كافر، ويدلّ عليه: أمرُهُ (صلّى الله عليه وآله) أن يخاطبهم ببراءته من دِينهم وامتناعهم من دِينه (٣) .

____________________

(١) البقرة: ٦ - ٧.

(٢) تفسير الميزان: ج١، ص٥٠.

(٣) تفسير الميزان: ج٢٠، ص٥٢٦.

١١١

وبذلك تنحلّ مشكلة كثير من الآيات جاءت بهذا التعبير وأشباهه.

نعم، هذا الحكم يسري فيمن شابَه أولئك في العناد واللجاج مع الحقّ بعد الوضوح.

نزلَ القرآن بإيّاك أعْني واسمعي يا جارة:

هكذا روى أبو النضر محمّد بن مسعود العيّاشي بإسناده عن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، فيما رواه عنه عبد الله بن بكير، قال: (نزلَ القرآن بإيّاك أعْني واسمعي يا جارة) (١) ، وهذا مَثلٌ يُضرَب لمَن يخاطب شخصاً أو يتكلّم عن أمرٍ وهو يريد غيره، على سبيل الكناية أو التعريض.

وروى بإسناده عن ابن أبي عمير عمّن حدّثه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ما عاتبَ الله نبيّه فهو يعني به مَن قد مضى في القرآن، مثل قوله: ( وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) (٢) عَنى بذلك غيره (صلّى الله عليه وآله)) (٣) .

قوله: (مَن قد مضى في القرآن) أي: مضى ذِكره إشارةً أو تلويحاً وربّما نصّاً.

والأكثر أن يراد أُمّته (صلّى الله عليه وآله) بالعتاب، ولاسيّما المؤمنون صدْر الإسلام، كانوا على قلق واضطراب في مواضعهم مع الكفّار.

وبهذا المعنى ورد قولهم (عليهم السلام)، فيما رواه محمّد بن مسلم عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (يا محمّد، إذا سمعتَ الله ذَكر أحداً من هذه الأمّة بخير فنحن هُم، وإذا سمعتَ الله ذكر قوماً بسوء ممّن مضى فهُم عدوّنا) (٤) .

(لأنّ القرآن يجري أوّله على آخِره مادامت السماوات والأرض، ولكلّ قومٍ آية يتلونها هُم منها من خير أو شرّ) (٥) .

قال (عليه السلام): (ظهْرُ القرآن الذين نزل فيهم،

____________________

(١) تفسير العيّاشي: ج١، ص١٠، ح٤.

(٢) الإسراء: ٧٤.

(٣) تفسير العيّاشي: ج١، ص١٠، ح٥.

(٤) تفسير العيّاشي: ج١، ص١٣، ح٣.

(٥) راجع المصدر السابق: ص١٠، ح٧.

١١٢

وبطْنُه الذين عملوا بمِثل أعمالهم) (١) .

كيف الاهتداء إلى معالم القرآن؟

ما في القرآن آية إلاّ ولها ظهْرٌ وبطنٌ، وربّما بطون (٢) ، هي حقائقها الراهنة، السارية الجارية مع مختلف الأحوال ومتقلّبات الأزمان، يعرفها الراسخون في العلم، الذين ثبَتوا على الطريقة، فسقاهم ربُّهم شراباً غَدَقاً (٣) .

وخير وسيلة لفتح مغالق القرآن هو: اللجوء إلى أبواب رحمة الله ومنابع فَيضه القُدسي، أهل بيت الوحي، الذين هم أدرى بما في البيت؛ فإنّ بيدهم مقاليد هذه المغالق ومفاتيح هذه الأبواب.

فإنّهم عِدل القرآن وأحد الثقلَين، الذين أوصى بهما الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله)، وفي كلماتهم الكثير من الإرشادات إلى معالم القرآن وفَهْم حقائقه الناصعة، وممّا لا تجده في كلام غيرهم على الإطلاق.

من ذلك ما ورد بشأن قوله تعالى: ( أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ) (٤) .

وقوله - في آية أخرى -: ( أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ) (٥) .

وهذا تهديد ووعيد بالهلاك والدمار إن لم يرضخوا لناموس الشريعة الغرّاء، ولكن كيف هذا التهديد؟ وبمَ كان هذا الوعيد؟.

وقد فسّرها جُلّ المفسّرين بغلَبة الإسلام والتضايق على بلاد الكُفر والإلحاد، قال الثعالبي: إنّا نأتي أرض هؤلاء بالفتح عليك، فننقصها بما يدخل في دينك من

____________________

(١) المصدر السابق: ص١١، ح٤.

(٢) راجع تفسير البرهان: ج١، ص٢٠.

(٣) راجع آية ١٦ من سورة الجنّ.

(٤) الرعد: ٤١.

(٥) الأنبياء: ٤٤.

١١٣

القبائل والبلاد المجاورة لهم، فما يؤمّنهم أن نمكنّك منهم أيضاً (١) .

وهكذا رجّحه ابن كثير قال: وهو ظهور الإسلام على الشِرك قريةً بعد قرية، كقوله تعالى: ( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى ) (٢) ، وهذا اختيار ابن جرير (٣) .

وقد ذهب ابن كثير وغيره - حتى سيّد قطب - إلى أنّ السورة مكّية، ولم يذكر أحدٌ استثناء هذه الآية منها، وسورة الأنبياء مكيّة بلا خلاف ولم يذكروا سنداً لاستثناء الآية منها، الأمر الذي يلتئم مع هذا الاختيار في معنى الآية.

ثمّ الآية صريحة في نقصان أطراف الأرض، ولم يُعهَد اختصاص اسم الأرض بمكّة المكرّمة.

نعم، فتَح هذا المغلاق في وجه الآية، وفسّرها تفسيراً جليّاً، ما جاء في كلام الإمام الصادق (عليه السلام) فيما رواه ابن بابويه الصدوق، قال: سئل الصادق (عليه السلام) عن هذه الآية؟ فقال: (فقْدُ العلماء) (٤).

وذلك: أنّ الأرض يراد بها المعمورة منها في أكثر الأحيان، كما في قوله تعالى: ( أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ) (٥) ، وقد فهِم منه الفقهاء - في حدّ المحاربين - نفْيَهم من عمارة الأرض، فلا يدخلوا بلداً ولا يحلّوا دياراً إلاّ أُخرجوا.

وإذا كانت عمارة الأرض هي حصيلة جهود العلماء والاختصاصيّين من أهل العلم، فعفوك أنّ خرابها بفقْد العلماء وذهاب الخيار من الصلحاء، فعند ذلك تفسد البلاد وتهلك العباد، والروايات بهذا المعنى كثيرة عن الأئمة (٦) .

وقد تنبّه لذلك بعض الأقدَمين، فيما روي عن ابن عبّاس: تُخرّب قرية ويكون العمران في ناحية، والنقصان نقصان أهلها وبركتها... وقال الشعبي: تنقص الأنفس والثمرات. وفي رواية عن ابن عبّاس أيضاً: خرابها بموت علمائها

____________________

(١) تفسير الثعالبي: ج٢، ص٢٧٤.

(٢) الأحقاف: ٢٧.

(٣) تفسير ابن كثير: ج٢، ص٥٢٠ - ٥٢١.

(٤) تفسير البرهان: ج٢، ص٣٠٢، ح٥.

(٥) المائدة: ٣٣.

(٦) تفسير البرهان: ج٢، ص٣٠١ - ٣٠٢.

١١٤

وفُقهائها وأهل الخير منها. قال مجاهد: هو موت العلماء (١) .

قال تعالى: ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ) (٢) .

* * *

وقوله تعالى: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ) (٣).

فقد أُشكل على المفسّرين وجه هذا السجود والأمر به، ولا تجوز العبادة لغير الله! ومن ثمّ اختلفوا هل أنّه كان بوضع الجِباه على الأرض، وأنّهم جعلوا آدم قبلةً يسجدون لله تعالى؟.

نعم، ورد الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه كان لآدم سجود طاعة، ولله سجود عبادة (٤) ، وهو كناية عن قيامهم بمصالح الإنسان عِبر الحياة، فإنّ قوى الطبيعة بأسرها مسخّرة لهذا الإنسان خاضعة تحت إرادته... والسجود هو الخضوع التامّ، قال الشاعر:

ترى الأُكَم فيها سُجّداً للحوافر

أي: التلال مذلّلة لحوافر الخيول (٥).

وهذا نظير قوله تعالى - بشأن يوسف وإخوته -: ( وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً ) (٦) أي: وقَعوا على الأرض خضوعاً له - على وجه -.

* * *

____________________

(١) مجمع البيان: ج٦، ص٣٠٠ / تفسير ابن كثير: ج٢، ص٥٢٠.

(٢) الأعراف: ٩٦.

(٣) البقرة: ٣٤.

(٤) عيون الأخبار: ج١، ص٢٦٣، قطعة من ح ٢٢ / بحار الأنوار: ج١١، ص١٤٠، ح٦.

(٥) بحار الأنوار: ج١١، ص١٤٠.

(٦) يوسف: ١٠٠.

١١٥

وقوله تعالى: ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) (١) .

فلولا الامتناعية دلّت على أنّ الهمّ من يوسف لم يقع. سوى أنّ الذي منعَه وعَصَمه من هَمّ المعصية ماذا كان؟ فقيل: إنّه رأى صورة أبيه عاضّاً على إصبعه، وقيل غير ذلك - ممّا يتنافى وعصمة مقام النبوّة -.

والصحيح: ما هدانا إليه الأئمّة الراشدون، أنّه الإيمان الصادق الذي هو منشأ العصمة في أنبياء الله (عليهم السلام)؛ بدليل تعقيبه بقوله: ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) إشارة إلى مقام عصمة الأنبياء (٢) .

* * *

____________________

(١) يوسف: ٢٤.

(٢) راجع تفسير الميزان: ج١١، ص١٤١ و ١٨١.

١١٦

٤ - كُتّابُ الوحي

- أوّل مَن كتَب بمكّة.

- أوّل مَن كتَب بالمدينة.

- ثلاثة هُم كتَبَة الوحي الرسميّون.

- سائر الكُتّاب غير الرسميّين.

- كيف كُتب القرآن على عهده (صلّى الله عليه وآله)؟

١١٧

كُتّابُ الوحي

كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أُمّياً لا يقرأ ولا يكتب (١) ، وكان في ذلك مصلحة إعجاز القرآن: ( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) (٢) ، والآية تدلّ: على أنّه لم يتعارف منه (صلّى الله عليه وآله) قراءةً ولا كتابة، ولم يُعهَد منه ذلك، ولعلّه (صلّى الله عليه وآله) كان يتظاهر بالأمّية؛ حِفظاً على سلامة القرآن من التشكيك فيه، ودعماً لموضع إعجازه، حيث صدر على يد أُمّي لم يُعهَد منه كتابةً ولا قراءة.

إذاً، كان (صلّى الله عليه وآله) بحاجة إلى مَن يكتُب له رسائله إلى جنْب كتابة الوحي القرآني

____________________

(١) لا يستدعي هذا التعبير أنّه (صلّى الله عليه وآله) لم يكن يعرف ذلك، وإنّما المقصود أنّه لم يتحقّق منه قراءةً ولا كتابة، لا قبْل بِعثته ولا بعدها، وذلك في حِكمة القرآن كي لا يرتاب المبطلون.

قال الطوسي: قال المفسّرون: لم يكن يُحسن الكتابة، قال: والآية لا تدلّ على ذلك، بل فيها أنّه (صلّى الله عليه وآله) لم يكن يكتب الكتاب، وقد لا يكتب الكتاب مَن يُحسنه، كما لا يكتب مَن لا يُحسنه. (التبيان ج٨، ص١٩٣)؛ ذلك لأنّ القدرة على الكتابة والقراءة كمال، ولا يخلو النبيّ من الكمال، كما أنّ الأمّية عيّ ونقص يتحاشاه مقام النبوّة الكريم. وفي تفسير الميزان (ج١٦، ص١٤٥): ظاهر التعبير، نفي العادة، وهو الأنسب بالنسبة إلى سياق الحجّة.

(٢) العنكبوت: ٤٨ و ٤٩.

١١٨

النازل عليه، ومن ثمّ استخدم مَن كان بمكّة آنذاك ممّن يعرف الكتابة، وهكذا بعدما هاجر إلى المدينة.

وأوّل مَن كتَب له بمكّة وأدامها له مدّة حياته الكريمة هو: الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، وقد كان النبي (صلّى الله عليه وآله) حريصاً على أن لا يفوت عليّاً شيءٌ من القرآن، فكان إذا نزل عليه الوحي - أحياناً - وهو غائب، دعا بعض كُتّابه ليكتبه، ثمّ إذا حضر عليٌّ أعاده عليه ليكتبه أيضاً، ومن ثمّ لم يكن مِن كتَبَة القرآن أجمع ولا أحفظ من عليّ (عليه السلام).

قال سُليم بن قيس الهلالي - وقد عدّه النجاشي من الطبقة الأُولى (١) من زمرة السلَف الصالح -: جلست إلى عليّ (عليه السلام) بالكوفة في المسجد والناس حوله، فقال: (سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن كتاب الله، فو الله ما نزلت آية من كتاب الله إلاّ وقد أقرأنيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعلّمَني تأويلها، فقال ابن الكوّاء (٢) : فما كان ينزل عليه وأنت غائب؟ فقال (عليه السلام): بلى، يحفظ عليَّ ما غبتُ عنه، فإذا قدمتُ عليه قال لي: يا عليّ، أنزلَ الله بعدك كذا وكذا، فيقرأنيه، وتأويله كذا وكذا فيعلّمنيه..) (٣) ، والتأويل هنا تفسير مواضع إبهام الآية.

وأوّل مَن كتب الوحي لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) عند مَقدمه المدينة هو: أُبَي بن كعب، الصحابي الجليل، قال ابن سعد: كان أُبَي يكتب في الجاهلية قبل الإسلام، وكانت الكتابة في العرب قليلة، وكان يكتب في الإسلام الوحي لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) (٤).

قال ابن عبد البرّ: أوّل مَن كتَب لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) عند مَقدمه المدينة أُبَي بن كعب، وهو أوّل مَن كتَب في آخِر الكتاب: وكتب فلان (٥) .

____________________

(١) رجال النجاشي: ص٦ في ذكر الطبقة الأُولى.

(٢) هو عبد الله بن عمرو اليشكري، عالِم نسّابة، ومساءلته لأمير المؤمنين (عليه السلام) معروفة.

(٣) كتاب سُليم بن قيس الهلالي برواية أبان بن أبي البصري التابعي: ص٢١٣ - ٢١٤.

(٤) الطبقات لابن سعد: ج٣، ق٢، ص٥٩، طبع ليدن.

(٥) الإصابة لابن حجر: ج١، ص١٩. الاستيعاب بهامشه، ج١، ص٥٠ و٥١.

١١٩

وهو الذي أمر الله رسوله أن يقرأ عليه القرآن ويعرضه عليه، وكان ممّن عُرضت عليه الفرصة الأخيرة، ومن ثمّ تولّى المرجعية الأعلى لِلِجْنة توحيد المصاحف على عهد عثمان، كان هو المُملي عليهم، وكان إذا تدارؤوا في شيء يُصحّحه لهم، وغير ذلك ممّا شرحناه في الجزء الأوّل من التمهيد (١) .

وكان زيد جاراً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالمدينة، كان إذا لم يحضر أُبيّ دعاه ليكتب له، ولاسيّما رسائله بالعِبرية، ثمّ تداوم هو وأُبيّ الكتابة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله).

قال ابن عبد البرّ: كانا يكتبان الوحي بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ويكتبان كُتبه إلى الناس وما يقطع وغير ذلك، قال: وكان زيد ألزم الصحابة لكتابة الوحي، وكان يكتب كثيراً من الرسائل (٢) .

أخرج ابن داود السجستاني بإسناده إلى ثابت عن زيد بن ثابت قال، قال النبي (صلّى الله عليه وآله): (أتُحسن السريانية، فإنّها تأتيني كتُب؟) قلت: لا، قال: فتعلّمتها...

وأخرج ابن سعد: أنّه قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لمّا قدِم المدينة: (تعلّم كتاب اليهود، فإنّي والله ما آمِن اليهود على كتابي)، قال: فتعلّمته في أقلّ من نصف شهر. وفي حديثه الآخر: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (يأتيني كتُب من أُناس لا أحبّ أن يقرأها أحد، فهل تستطيع أن تتعلَّم كتاب العبرانية، أو قال: السريانية؟) فقلت: نعم، قال: فتعلّمتها في سبع عشرة ليلة - أو في تسعة عشر يوماً - (٣) .

والظاهر أنّ الصحيح هي العِبرية؛ لأنّها كانت لغة اليهود الدارجة، وبها كانت كتاباتهم آنذاك.

* * *

____________________

(١) راجع التمهيد: ج١، ص٣٤٠ و٣٤٨ / والمصاحف السجستاني: ص٣٠.

(٢) أُسد الغابة لابن الأثير: ج١، ص٥٠ / الاستيعاب بهامش الإصابة: ج١، ص٥٠.

(٣) راجع المصاحف للسجستاني: ص٣. والطبقات لابن سعد: ج٢، ق٢، ص١١٥.

والظاهر أنّ تلك المدّة القليلة مُبالغ فيها، أو لعلّه كانت له إلمامة بتلك اللغة فأتقنها في تلك المدّة القصيرة.

١٢٠

وهؤلاء الثلاثة - عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وأُبَي بن كعب، وزيد بن ثابت - كانوا هم العمدة في كتابة الوحي، وكانوا حضوره (صلّى الله عليه وآله) في جميع أيّامه أو يتناوَبون.

أمّا غيرهم ممّن عدُّوهم في كُتّاب الوحي، فلم يكونوا بتلك المرتبة.

قال ابن الأثير: وكان من المواظبين على كتابة الرسائل: عبد الله بن الأرقم الزهري.

وكان الكاتب لعهود رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذا عاهدَ، وصُلحه إذا صالح: عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) .

قال: وممّن كتب لرسول الله (صلّى الله عليه وآله): الخلفاء الثلاثة، والزبير بن العوّام، وخالد، وأبان ابنا سعيد بن العاص، وحنظلة الأسيدي، والعلاء بن الحضرمي، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن رواحة، ومحمّد بن مسلمة، وعبد الله بن عبد الله بن أبي سلول، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وجهم - أو جهيم - بن الصلت، ومعيقيب بن أبي فاطمة، وشرحبيل بن حسنة، وهكذا ذكر ابن عبد البرّ في الاستيعاب (1) .

والظاهر أنّ هؤلاء كانوا أهل قراءة وكتابة في العرب آنذاك، فكان النبي (صلّى الله عليه وآله) يستخدمهم أحياناً لكتاباته إذا لم يحضر كُتّابه الرسميّون.

وقد عدّ أبو عبد الله الزنجاني أكثر من أربعين شخصاً كانوا يكتبون لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) (2) ، والظاهر أنّهم من هذا القبيل.

قال ابن الأثير: وأوّل مَن كتب له (صلّى الله عليه وآله) من قريش: عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ثمّ ارتدّ ورجع إلى مكّة، فنزل فيه: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ) (3) .

____________________

(1) أُسد الغابة لأبن الأثير: ج1، ص50 / الاستيعاب بهامش الإصابة: ج1، ص50.

(2) تاريخ القرآن للزنجاني: ص20 - 21.

(3) أُسد الغابة: ج1، ص50 / والآية 93 من سورة الأنعام.

١٢١

يقال: إنّه (صلّى الله عليه وآله) أمْلى عليه ذات يوم: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ - إلى قوله - ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ) فجرى على لسان عبد الله بن سعد: ( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (1) فأمْلاه النبي (صلّى الله عليه وآله) كذلك، وقال: هكذا أُنزل، فارتدّ عدوّ الله وشكّ في الأمر، زاعماً أنّه ينزل عليه الوحي كما ينزل على النبي (صلّى الله عليه وآله)، وهدرَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) دمه.

فلمّا كان يوم الفتح جاء به عثمان - وهو أخوه من الرضاعة - مستعفياً له، فسكت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فأعاد عليه فسكت، لعلّه مَن ينتدب فيقتله، حتّى أعفاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعثمان، فلمّا مضَيا قال لأصحابه: (ألم أقُل مَن رآه فليقتله؟ فقال عبّاد بن بشر: كانت عيني إليك يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن تشير إليّ فأقتله، فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): الأنبياء لا يقتلون بالإشارة)، وهكذا في الرواية عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (نزلت في ابن أبي سرح) (2) .

كان الكتَبة على عهده (صلّى الله عليه وآله) يكتبون ما نزل من القرآن على ما تيسّر لهم الكتابة عليه، من: العُسُب (3) ، واللِّخاف (4) ، والرقاع (5) ، وقطع الأديم (6) ، وعظام الأكتاف والأضلاع، وأحيانا القراطيس المهيّأة لهم ذلك العهد.

ثمّ يوضع المكتوب - أيّاً كان - في بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهكذا انقضى العهد النبويّ السعيد والقرآن مجموع على هذا النمط، بيد أنّه لم يُكتب تماماً في صُحف ولا رُتّب في مصاحف، بل كُتب منثوراً على الرقاع وقِطَع الأديم والقراطيس، ممّا ذكرنا.

____________________

(1) المؤمنون: 12 - 14.

(2) راجع مجمع البيان: ج4، ص335 الطبعة الإسلامية.

(3) العُسُب - بضمّتين -: جمع عسيب، وهو جريد النخل، كانوا يكشفون الخوص و يكتبون في الطرف العريض.

(4) اللِخاف - بكسر اللام -: جمع لَخفة - بفتح اللام وسكون الخاء - وهي الحجارة الرقيقة، أو هي صفائح الحجارة.

(5) الرقاع: جمع رقعة، تكون من جِلد، أو ورق، أو كاغد.

(6) الأديم: الجِلْد.

١٢٢

قال زيد بن ثابت: كنّا عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فأُلِّف القرآن من الرقاع (1) ، أي نجمعه في مكان أو في وعاء، وهكذا الصحابة قد يستنسخ بعضهم سورة أو سوَراً من القرآن، ويجعلها في وعاء كان يسمّى الصُحف ويعلّقه في بيته.. كلّ ذلك من غير مراعاة ترتيب بين السوَر كما هو الآن (2) .

نعم، كان التأليف آنذاك - أيّام حياته (صلّى الله عليه وآله) - عبارة عن ترتيب الآيات ضمن السوَر، إمّا حسب النزول - كما هو الأغلب - أو حسب إرشاد النبي (صلّى الله عليه وآله) بتوقيف من جبرائيل، كان يقول: (ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا).

أمّا الصحابة يومذاك، فكانوا يستنسخون القرآن حسبما تيسّر لهم في قرطاس، أو كِنْف، أو عَظْم، أو نحو ذلك بالمقدار الذي يبلغهم عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أو حسبما يريدونه، وكان الأكثر يعتمدون على حِفْظهم، فلا يُكتب جرياً على عادة العرب في حفظ آثارها وأشعارها وخُطَبها ونحو ذلك (3) .

قال سيّدنا الطباطبائي (رحمه الله): لم يكن القرآن مؤلّفاً في زمن النبي (صلّى الله عليه وآله)، ولم يكن منه سوى سِوَر وآيات متفرّقة في أيدي الناس (4) .

* * *

____________________

(1) مناهل العرفان للزرقاني: ج1، ص247.

(2) راجع التمهيد: ج1، ص288.

(3) راجع المناهل: ج1، ص247 و248.

(4) تفسير الميزان: ج3، ص78 و79.

١٢٣

١٢٤

تاريخ القرآن

1 - تأليف القرآن.

2 - توحيد المصاحف.

١٢٥

١٢٦

1 - تأليف القرآن

- نظْمُ كلماته ضمن الآيات.

- تأليف آياته ضمن السوَر.

- ترتيب سوَره بين الدفّتين.

- تمحيص الرأي المعارض.

- جمْع عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

- وصف مصحف عليّ (عليه السلام) وأمَده.

- جمع زيد بن ثابت.

- منهج زيد في جمع القرآن.

- شكوك واعتراضات.

- مصاحف أخرى للصحابة، أمَدُها ووصفها.

- وصف مصحف ابن مسعود.

- وصف مصحف أُبيّ بن كعب.

١٢٧

تأليفُ القرآن

تأليف القرآن في شكله الحاضر - في نظْم آياته وترتيب سوَره، وكذلك في تشكيله وتنقيطه وتفصيله إلى أجزاء ومقاطع - لم يكن وليدَ عاملٍ واحد، ولم يكتمل في فترة الوحي الأُولى، فقد مرّت عليه أدوار وأطوار، ابتدأت بالعهد الرسالي، وانتهت بدَور توحيد المصاحف على عهد عثمان، ثمَّ إلى عهد الخليل بن أحمد النحويّ الذي أكمل تشكيله بالوضع الموجود.

وهو بحث أشبه بمعالجة قضية تاريخية مذيَّلة عن أحوال وأوضاع مرَّت على هذا الكتاب السماويّ الخالد، غير أنَّ مهمَّتنا الآن هي: العناية بدراسة القرآن من زاوية جمْعه وتأليفه مصحفاً بين دفَّتين، والبحث عن الفترة التي حصل فيها هذا الجمْع والتأليف، وعن العوامل التي لعِبَت هذا الدَور الخطير، ومن ثمَّ سنفصِّل الكلام عن القرآن في عهده الأوَّل الذي لم يتجاوز نصف قرن، ثمَّ نوجز الكلام في أحوال مرّت عليه في أدوار متأخِّرة، والبحث الحاضر يكتمل في ثلاث مراحل أساسية:

أوّلاً: نظْم كلمات القرآن بصورة جُمَل و تراكيب كلامية ضمن الآيات.

ثانياً: تأليف الآيات ضمن السوَر قصيرة أمْ طويلة.

١٢٨

ثالثاً: ترتيب السوَر بين دفَّتين على صورة مصحَف كامل.

ونحن إذ نسير على هذا المنهج لا نتغافل صعوبة المسلك الذي نسلكه بهذا الصدد، إنَّه بحث ذو جوانب خطيرة عن كتاب سماويّ احتفظ على أصالته في ذمّة الخلود، وكفَّل سعادةً عُليا للبشريّة كافَّة إذا ما سارت على ضوء برامجه الحكيمة، وتمسَّكت بعُرى حبْلِه الوثيق، ومن ثمَّ فإنَّ الزلَّة في سبيل الوصول إلى حقائقه ومعارفه خطيرة ومخطرة في نفس الوقت، ونسأله تعالى أن يمدَّنا بتوفيقه ويهدينا إلى طريق الحقِّ والصواب، إنَّه قريبٌ مجيب.

نَظْمُ كلماته:

لا شكَّ أنَّ العامل في نظْم كلمات القرآن وصياغتها جُمَلاً وتراكيب كلامية بديعة هو: الوحي السماويّ المعجز، لم يتدخَّل فيه أيّ يد بشرية إطلاقاً، كما ولم يحدث في هذا النظْم الكلِمي أيّ تغيير أو تحريف عِبر العصور: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (1) إذ في ذلك يتجسَّد سرّ ذلك الإعجاز الخالد، الذي لا يزال يتحدّى به القرآن الكريم، ولمزيد التوضيح نعرض ما يلي:

أوّلاً: إسناد الكلام إلى متكلِّم خاصّ، يستدعي أن يكون هو العامل في تنظيم كلماته وتنسيق أسلوبه التعبيري الخاصّ، أمّا إذا كان هو مُنْتقِياً كلمات مفردة، وجاء آخَر فنظّمها في أسلوب كلاميّ خاصّ، فإنَّ هذا الكلام ينسب إلى الثاني لا الأوَّل.

وهكذا القرآن المجيد هو كلام الله العزيز الحميد، فلابدَّ أن يكون الوحي هو العامل الوحيد في تنظيم كلماته جُمَلاً وتراكيب كلامية بديعة، أمّا نفس الكلمات - من غير اعتبار التركيب والتأليف - فكان العرب يتداولونها ليل نهار، إنَّما الإعجاز في نَظْمها جاء مِن قِبل وحي السماء.

____________________

(1) الحجر: 9.

١٢٩

ثانياً: كان القِسط الأوفر من إعجاز القرآن كامناً وراء هذا النَظْم البديع وفي أسلوبه هذا التعبيريّ الرائع، من تناسب نغميّ مرِن، وتناسق شِعريّ عجيب، وقد تحدّى القرآن فُصحاء العرب وأرباب البيان - بصورة عامَّة - لو يأتوا بمِثل هذا القرآن، و ( لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (1) ، فلو جوَّزنا - محالاً - إمكان تدخّل يد بشرية في نظْم القرآن كان بمعنى إبطال ذاك التحدّي الصارخ.

ومن ثمَّ كان ما يُنسَب إلى ابن مسعود: جواز تبديل العِهْن بالصوف في الآية الكريمة (2) ، أو قراءة أبي بكر: (وجاءت سَكْرة الحقّ بالموت) (3) مكذوباً، أو هو اعتبارٌ شخصيٌّ لا يتّسم بالقرآنية في شيء.

ثالثاً: اتّفاق كلمة الأُمّة في جميع أدوار التاريخ: على أنَّ النظْم الموجود والأسلوب القائم في جُمَل وتراكيب الآيات الكريمة، هو من صُنع الوحي السماويّ لا غيره، الأمر الذي التزمت به جميع الطوائف الإسلامية على مختلف نزعاتهم وآرائهم في سائر المواضيع، ومن ثمَّ لم يتردَّد أحد من علماء الأدب والبيان في آية قرآنية جاءت مخالفة لقواعد رَسموها، في أخْذ الآية حجَّة قاطعة على تلك القاعدة وتأويلها إلى ما يلتئم وتركيب الآية، وذلك عِلماً منهم بأنَّ النظْم الموجود في الآية وحي لا يتسرَّب إليه خطأ البتَّة، وإنَّما الخطأ في فهْمِهم هُم، وفيما استنبطوه من قواعد مرسومة.

مثال ذلك قوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ ) (4) فزعموا أنَّ الحال لا تتقدَّم على صاحبها المجرور بحرف، والآية جاءت مخالفة لهذه القاعدة، ومن ثمَّ وقع بينهم جدل عريض، ودار بينهم كلام في صحّة تلك القاعدة وسُقْمها (5) .

____________________

(1) الإسراء: 88.

(2) القارعة: 5 / راجع تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة: ص19.

(3) ق: 19 / راجع تفسير الطبري: ج26، ص100، وأصل الآية ( وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ) .

(4) سبأ: 28.

(5) راجع شرح التوضيح لخالد الأزهري، والكشّاف للزمخشري.

١٣٠

ولجَأ ابن مالك أخيراً إلى نبذ القاعدة بحجَّة أنَّها مخالفة للآية، قال:

وسَبقُ حالٍ ما بحرف جرٍّ قد

أبَوا ولا أمنعه فقد ورَد

تأليف الآيات:

وأمّا تأليف الآيات ضمن كلِّ سورة - على الترتيب الموجود - فهذا قد تحقَّق في الأكثر الساحق وفْق ترتيب نزولها، كانت السورة تبتدأ ببسم الله الرحمن الرحيم فتُسجَّل الآيات التي تنزل بعدها من نفس هذه السورة، واحدة تلو الأُخرى تدريجيّاً حسب النزول، حتَّى تنزل بسْملة أُخرى، فيُعرَف أنَّ السورة قد انتهت وابتدأت سورة أُخرى.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (كان يُعرَف انقضاء سورة بنزول بسم الله الرحمن الرحيم ابتداءً لأخرى) (1) .

قال ابن عباس: كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يعرِف فصْل سورة بنزول بسم الله الرحمن الرحيم، فيعرف أنَّ السورة قد خُتمت وابتدأت سورة أُخرى (2) .

كان كتَبة الوحي يعرفون بوجوب تسجيل الآيات ضمن السورة التي نزلت بسْمَلَتُها، حسب ترتيب نزولها واحدة تلو الأُخرى كما تنزل، من غير حاجة إلى تصريح خاصّ بشأن كلِّ آيةٍ آية.

هكذا ترتَّبت آيات السوَر وفْق ترتيب نزولها، على عهد الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، وهذا ما نسمّيه بـ (الترتيب الطبيعي) ، وهو العامل الأوَّل الأساسي للترتيب الموجود بين الآيات في الأكثرية الغالبة.

والمعروف أنَّ مُصحف عليّ (عليه السلام) وُضِع على دِقَّة كاملة من هذا الترتيب

____________________

(1) تفسير العيّاشي: ج1، ص19.

(2) المستدرك للحاكم: كتاب الصلاة، ج1، ص231. تاريخ اليعقوبي: ج2، ص27، طبع الحيدري.

١٣١

الطبيعي للنزول، الأمر الذي تخلَّفت عنه مصاحف سائر الصحابة، على ما سنشير.

* * *

وهناك عامل آخر عمل في نظْم قِسم من الآيات على خلاف ترتيب نزولها، وذلك بنصٍّ من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وتعيينه الخاصّ، كان يأمر - أحياناً - بثبْت آية في موضعٍ خاصّ من سورة سابقة كانت قد خُتمت من قبْل، ولا شكَّ أنَّه (صلّى الله عليه وآله) كان يرى المناسبة القريبة بين هذه الآية النازلة والآيات التي سبَقَ نزولها، فيأمر بثبْتها معها بإذن الله تعالى.

وهذا جانب استثنائي للخروج عن ترتيب النزول، كان بحاجة إلى تصريح خاصّ: روى أحمد في مسنده عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالساً عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذ شخَصَ ببصرِه ثمَّ صوَّبه، ثمَّ قال: (أتاني جبرائيل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى ) ) (1) فجُعلت في سورة النَحْل بين آيات الاستشهاد وآيات العهد (2) .

وروي أنَّ آخِر آية نزلت قولُهُ تعالى: ( وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللّهِ ) (3) فأشار جبرائيل أن توضع بين آيتَي الرِبا والدَين من سورة البقرة (4) .

وعن ابن عبّاس والسدّي: أنَّها آخِر ما نزلت من القرآن، قال جبرائيل: (ضعْها في رأس الثمانين والمئتين) (5).

وعن ابن عبّاس أيضاً قال: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السوَر ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض مَن كان يكتب

____________________

(1) النحل: 90.

(2) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي: ج1، ص62.

(3) البقرة: 281.

(4) الإتقان: ج1، ص62.

(5) مجمع البيان للطبرسي: ج2، ص394.

١٣٢

فيقول: (ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا) (1) .

هذا ممّا لا خلاف فيه، كما صرَّح بذلك أبو جعفر بن الزبير (2) .

ترتيب السِوَر:

وأمّا جمْع السوَر هو ترتيبها بصورة مصحف مؤلَّف بين دفَّتين، فهذا قد حصل بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله).

انقضى العهد النبوي والقرآن منثور على العُسُب، واللِخاف، والرقاع، وقِطَع الأديم (3) ، وعِظام الأكتاف والأضلاع، وبعض الحرير والقراطيس، وفي صدور الرجال.

كانت السِوَر مكتملة على عهده (صلّى الله عليه وآله) مرتَّبة آياتها وأسماؤها، غير أنَّ جمعها بين دفَّتين لم يكن حصل بعد؛ نظراً لترقّب نزول قرآن على عهده (صلّى الله عليه وآله)، فما دام لم ينقطع الوحي لم يصحّ تأليف السوَر مصحفاً، إلاّ بعد الاكتمال وانقطاع الوحي، الأمر الذي لم يكن يتحقّق إلاّ بانقضاء عهد النبوَّة واكتمال الوحي.

قال جلال الدين السيوطي: كان القرآن كُتب كلّه في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، لكن غير مجموع في موضع واحد ولا مرتَّب السوَر (4) .

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام): يا عليّ، القرآن خلف فِراشي في الصحُف والحرير والقراطيس، فخُذوه واجمَعوه ولا تضيِّعوه) (5) .

وأوَّل مَن قام بجمْع القرآن بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) مباشرة وبوصيّةٍ منه هو:

____________________

(1) أخرجه الترمذي بطريقٍ حسَن والحاكم بطريقٍ صحيح. (راجع البرهان للزركشي: ج1، ص 241. وتاريخ اليعقوبي: ج2، ص36، طبع الحيدري).

(2) الإتقان: ج1، ص60.

(3) العسيب: جريدة النخل إذا كشط خُوصها، واللخف: حجارة بيض رقاق، والأديم: الجِلد المدبوغ، وهكذا ذهب السيد الطباطبائي إلى أنّه لم يُجمع القرآن على عهده (صلّى الله عليه وآله). (راجع الميزان: ج3، ص78).

(4) الإتقان: ج1، ص57. مناهل العرفان للزرقاني: ج1، ص240.

(5) بحار الأنوار: ج92، ص48.

١٣٣

الإمام عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، ثمَّ قام بجمْعه زيد بن ثابت بأمرٍ من أبي بكر، كما قام بجمْعه كلّ من: ابن مسعود، وأُبَي بن كعب، وأبي موسى الأشعري وغيرهم، حتّى انتهى الأمر إلى دَور عثمان، فقام بتوحيد المصاحف وإرسال نُسَخ موحَّدة إلى أطراف البلاد، وحملَ الناس على قراءتها وترْك ما سواها - على ما سنذكر -.

كان جمعُ عليّ (عليه السلام) وفْق ترتيب النزول: المكّي مقدَّم على المدَني، والمنسوخ مقدَّم على الناسخ، مع الإشارة إلى مواقع نزولها ومناسبات النزول.

قال الكلبي: لمّا توفّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قعد عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في بيته، فجمَعه على ترتيب نزوله، ولو وُجِد مصحفُه لكان فيه عِلمٌ كبير (1) .

وقال عكرمة: لو اجتمعت الإنْس والجِنّ على أن يؤلّفوه كتأليف عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ما استطاعوا (2) .

وأمّا جمْع غيره من الصحابة فكان على ترتيبٍ آخر: قدَّموا السوَر الطِوال على القِصار، فقد أثبتوا السبْع الطوال : (البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنعام، الأعراف، يونس) قبل المئين : (الأنفال، براءة، النحل، هود، يوسف، الكهف، الإسراء، الأنبياء، طه، المؤمنون، الشعراء، الصافّات)، ثمَّ المثاني : (هي التي تقلّ آياتها عن مئة، وهي عشرون سورة تقريباً)، ثمَّ الحواميم : (السور التي افتُتحت بـ حم)، ثمَّ ا لمفصَّلات : (ذوات الآيات القِصار) لكثرة فواصلها، وهي السوَر الأخيرة في القرآن.

وهذا يقرب نوعاً ما من الترتيب الموجود الآن - على ما سيأتي -.

نعم، لم يكن جمْع زيد مرتّباً ولا منتظماً كمُصحف، وإنَّما كان الاهتمام في ذلك الوقت على جمع القرآن عن الضياع، وضبط آياته وسوَره حذراً عن التلف بموت حامِليه، فدوّنت في صُحف وجُعلت في إضبارة، وأُودعت عند أبي بكر

____________________

(1) التسهيل لعلوم التنزيل: ج1، ص4.

(2) الإتقان: ج1، ص57.

١٣٤

مدَّة حياته، ثمَّ عند عُمَر بن الخطّاب حتّى توفّاه الله، فصارت عند ابنته حفْصة، وهي النُسخة التي أخذَها عثمان لمقابلة المصاحف عليها، ثمَّ ردّها عليها، وكانت عندها إلى أن ماتت، فاستلَبها مروان من ورَثَتها حينما كان والياً على المدينة من قِبل معاوية، فأمَر بها فشُقَّت، وسنذكر كلَّ ذلك بتفصيل.

تمحيص الرأي المعارض:

ما قدَّمنا هو المعروف عن رواة الآثار، وعند الباحثين عن شؤون القرآن، منذ الصدر الأوَّل فإلى يومنا هذا، ويوشك أن يتَّفق عليه كلمة أرباب السِيَر والتواريخ، ولكن مع ذلك نجد مَن ينكر ذاك التفصيل في جمع القرآن، ويرى أنَّ القرآن بنَظْمه القائم وترتيبه الحاضر، كان قد حصل في حياة الرسول (صلّى الله عليه وآله).

وقد ذهب إلى هذا الرأي جماعة من علماء السلَف: كالقاضي، وابن الأنباري، والكرماني، والطيّبي (1) ، ووافَقهم عَلَم الهدى السيّد المرتضى (قدّس سرّه)، قال: كان القرآن على عهده (صلّى الله عليه وآله) مجموعاً مؤلَّفاً على ما هو عليه الآن، واستدلّ على ذلك: بأنَّ القرآن كان يُدَرَّس ويُحفظ جميعه في ذلك الزمان حتى عُيّن جماعة من الصحابة في حفظِهم له، وأنّه كان يُعرَض على النبي (صلّى الله عليه وآله) ويُتلى عليه، وأنّ جماعة من الصحابة مثل: عبد الله بن مسعود، وأُبيّ بن كعب، وغيرهما ختموا القرآن على النبي - (صلّى الله عليه وآله) - عدَّة ختْمات، وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتّباً غير مبتور ولا مبثوث (2) .

لكن حِفظ القرآن: هو بمعنى حِفظ جميع سوَره التي اكتملت آياتها، سواء أكان بين السوَر ترتيب أمْ لا، وهكذا ختمُ القرآن: هو بمعنى قراءة جميع سوَره من غير لحاظ ترتيب خاصّ بينها، أو الحِفظ كان بمعنى الاحتفاظ على جميع القرآن

____________________

(1) الإتقان: ج1، ص62.

(2) مجمع البيان: ج1، ص15.

١٣٥

النازل لحدّ ذاك، والتحفّظ عليه دون الضياع والتفرقة، الأمر الذي لا يدلّ على وجود ترتيب خاصّ كان بين سوَره كما هو الآن.

هذا، وقد ذهب إلى ترجيح هذا الرأي أيضاً سيدّنا الأستاذ الإمام الخوئي (رحمه الله) نظراً إلى الأمور التالية:

أوّلاً: أحاديث جمْع القرآن بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) بنفسها متناقضة، تتضارب مع بعضها البعض، ففي بعضها تحديد زمن الجمع بعهد أبي بكر، وفي آخر بعهد عمَر، وفي ثالث بعهد عثمان، كما أنَّ البعض ينصّ على أنَّ أوّل مَن جمَع القرآن هو زيد بن ثابت، وآخر ينصّ على أنَّه أبو بكر، وفي ثالث أنَّه عمَر، إلى أمثال ذلك من تناقضات ظاهرة.

ثانياً: معارضتها بأحاديث دلَّت على أنَّ القرآن كان قد جُمع على عهده (صلّى الله عليه وآله)، منها حديث الشعبي، قال: جَمَع القرآن على عهده ستَّة: أُبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وسعد بن عبيد، وأبو زيد. وفي حديث أنَس أنَّهم أربعة: أُبَي، ومعاذ، وزيد، وأبو زيد، وأمثال ذلك.

ثالثاً: منافاتها مع آيات التحدّي، التي هي دالَّة على اكتمال سوَر القرآن وتمايز بعضها عن بعض، ومتنافية أيضاً مع إطلاق لفظ الكتاب على القرآن في لسانه (صلّى الله عليه وآله)، الظاهر في كونه مؤلَّفاً كتاباً مجموعاً بين دفَّتين.

رابعاً: مخالفة ذلك مع حُكم العقل بوجوب اهتمام النبي (صلّى الله عليه وآله) بجمْعه وضبطه عن الضياع والإهمال.

خامساً: مخالفته مع إجماع المسلمين، حيث يَعتبرون النصَّ القرآني متواتراً عن النبيّ نفسه، في حين أنَّ بعض هذه الروايات تشير إلى اكتفاء الجامِعين بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله) بشهادة رجُلين أو رجُل واحد!.

سادساً: استلزام ذلك تحريفاً في نصوص الكتاب العزيز، حيث طبيعة الجمْع المتأخّر تستدعي وقوع نقص أو زيادة في القرآن، وهذا مخالف لضرورة

١٣٦

الدِين (1) .

وزاد بعضهم: أنَّ في المناسبة الموجودة بين كلِّ سورة مع سابقتها ولاحِقتها، لدليلاً على أنَّ نظْمها وترتيبها كان بأمر الرسول (صلّى الله عليه وآله)، إذ لا يَعرِف المناسبة بهذا الشكل المبدع البالغ حدَّ الإعجاز غيرُه (صلّى الله عليه وآله).

* * *

لكن يجب أن يُعلَم: أنَّ قضيَّة جمْع القرآن حدَثٌ من أحداث التاريخ، وليست مسألة عقلانية قابلة للبحث والجدل فيها، وعليه فيجب مراجعة النصوص التاريخية المستندة من غير أن يكون مجال لتجوال الفِكر فيها على أيَّة حال!.

وقد سبَق اتّفاق كلمة المؤرِّخين، ونصوص أرباب السِيَر وأخبار الأمم، ووافَقهم أصحاب الحديث طرّاً، على أنَّ ترتيب السوَر شيء حصل بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ولم يكن بالترتيب الذي نزلتْ عليه السوَر.

وبعد، فلا نرى أيَّ مناقضة بين روايات جمْع القرآن، إذ لا شكَّ أنَّ عمَر هو الذي أشار على أبي بكر بجمْع القرآن، وهذا الأخير أمَر زيداً أن يتصدّى القضية من قِبَلِه، فيصحّ إسناد الجمْع الأوَّل إلى كلٍّ من الثَلاثة بهذا الاعتبار.

نعم، نسبة الجمْع إلى عثمان كانت باعتبار توحيده للمصاحف ونَسْخها في صورة موحَّدة، وأمّا نسبة توحيد المصاحف إلى عُمَر فهو من اشتباه الراوي قطعاً؛ لأنَّ الذي فعَل ذلك هو عثمان بإجماع المؤرِّخين.

وحديث ستَّة أو أربعة جمعوا القرآن على عهده (صلّى الله عليه وآله) فمعناه: الحِفظ عن ظَهْر القلب، حفظوا جميع الآيات النازلة لحدّ ذاك الوقت، أمّا الدلالة على وجود نَظْم كان بين سوَره فلا.

وأمّا حديث التحدّي فكان بنفس الآيات والسوَر، وكلُّ آية أو سورة قرآن، ولم يكن التحدّي يوماً ما بالترتيب القائم بين السوَر؛ كي يتوجَّه الاستدلال المذكور! ز

____________________

(1) راجع البيان في تفسير القرآن للإمام الخوئي: ص257 - 278.

١٣٧

على أنَّ التحدّي وقَع في سوَر مكّية (1) أيضاً، ولم يُجمَع القرآن قبل الهجرة قطعاً.

واهتمام النبي (صلّى الله عليه وآله) بشأن القرآن، شيء لا ينكَر، ومن ثمَّ كان حريصاً على ثبْت الآيات ضمن سوَرها فور نزولها، وقد حصل النَظْم بين آيات كلِّ سورة في حياته (صلّى الله عليه وآله).

أمّا الجمْع بين السوَر وترتيبها كمصحف موحَّد فلم يحصل حينذاك؛ نظراً لترقّب نزول قرآن عليه، فما لم ينقطع الوحي لا يصحّ جمع القرآن بين دفَّتين ككتاب، ومن ثمَّ لمّا أيقن بانقطاع الوحي بوفاته (صلّى الله عليه وآله) أوصى إلى عليّ (عليه السلام) بجمْعه.

ومعنى تواتر النصّ القرآني هو: القطع بكونه وحْياً، الأمر الذي يحصل من كلّ مستند وثيق، وليس التواتر - هنا - بمعناه المصطلح عند الأصوليين.

وأمّا استلزام تأخّر الجمْع تحريفاً في كتاب الله، فهو احتمال مجرَّد لا سنَد له، بعد معرفتنا بضبط الجامِعين وقُرب عهدهم بنزول الآيات، وشدَّة احتياطهم على الوحي، بما لا يدَع مجالاً لتسرّب احتمال زيادة أو نقصان.

وأخيراً، فإنّ قولة البعض الأخيرة فهي لا تعدو خيالاً فارغاً، إذ لا مناسبة ذاتية بين كلِّ سورة وسابقتها أو تالِيَتها، سوى ما زعَمه بعض المفسِّرين المتكلِّفين، وهو تمحّل باطل بعد إجماع الأمّة على أنَّ ترتيب السوَر كان على خلاف ترتيب النزول بلا شكّ.

إذاً لا يملك معارضونا دليلاً يُثنينا عن الذي عزَمْنا عليه من تفصيل حديث الجمْع، وإليك:

جمعُ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام):

أوَّل مَن تصدّى لجمْع القرآن بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) مباشرة وبوصيّةٍ منه (2) هو

____________________

(1) في سورة يونس: 38، وسورة هود: 13، وهما مكّيَّتان.

(2) راجع تفسير القمّي: ص745. وبحار الأنوار: ج92، ص48 و52.

١٣٨

عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، قعَد في بيته مشتغلاً بجمْع القرآن وترتيبه على ما نزل، مع شروح وتفاسير لمواضع مبهمة من الآيات، وبيان أسباب النزول ومواقع النزول بتفصيل حتّى أكمله على هذا النمط البديع.

قال ابن النديم - بسنَدٍ يذكره -: إنَّ عليّاً (عليه السلام) رأى من الناس طَيرة عند وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله)، فأقسَم أن لا يضع رداءه حتّى يجمَع القرآن، فجلس في بيته ثلاثة أيّام (1) حتّى جمَع القرآن، فهو أوّل مُصحف جمع فيه القرآن من قلْبِه (2) ، وكان هذا المصحف عند آل جعفر.

قال: ورأيت أنا في زماننا عند أبي يعلى حمزة الحسني (رحمه الله) مصحفاً قد سقط منه أوراق، بخطّ عليّ بن أبي طالب، يتوارثه بنو حسَن (3) .

وهكذا روى أحمد بن فارس عن السدّي، عن عبد خير، عن عليّ (عليه السلام) (4) .

وروى محمَّد بن سيرين عن عكرمة، قال: لمّا كان بدْء خلافة أبي بكر، قعَد عليّ بن أبي طالب في بيته يجمع القرآن، قال: قلت لعكرمة: هل كان تأليف غيره كما أُنزل الأوَّل فالأوَّل؟ قال: لو اجتمعت الإنس والجنُّ على أن يؤلِّفوه هذا التأليف ما استطاعوا.

قال ابن سيرين: تطلَّبت ذلك الكتاب وكتبت فيه إلى المدينة، فلم أقدر عليه (5) .

قال ابن جزي الكلبي: كان القرآن على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مفرَّقاً في

____________________

(1) ولعلّه سهو من الراوي؛ لأنّ الصحيح أنّه (عليه السلام) أكمل جمع القرآن لمدّة ستة أشهر، كان لا يرتدي خلالها إلاّ للصلاة (راجع المناقب: ج2، ص40).

(2) قال ابن عبّاس: فجمع الله القرآن في قلْب عليّ، وجمعه عليّ بعد موت رسول الله (صلّى الله عليهما وآلهما) بستّة أشهر (نفس المصدر السابق).

(3) الفهرست: ص47 - 48.

(4) في كتابة (الصاحبي): ص169. هامش تأويل مشكل القرآن: ص275 الطبعة الثانية.

(5) الإتقان: ج1، ص57. وراجع الطبقات: ج2، ق2، ص101. والاستيعاب بهامش الإصابة: ج2، ص253.

١٣٩

الصحُف وفي صدور الرجال، فلمّا توفّي جَمَعه عليّ بن أبي طالب على ترتيب نزوله، ولو وجِد مصحفه لكان فيه عِلم كبير، ولكنَّه لم يوجد (1) .

قال الإمام الباقر (عليه السلام): (ما من أحد من الناس يقول إنَّه جَمع القرآن كلَّه كما أنزلَ الله إلاّ كذّاب، وما جمَعه وما حَفظه كما أنزل الله إلاّ عليّ بن أبي طالب) (2) .

قال الشيخ المفيد - في المسائل السروية -: وقد جمَع أمير المؤمنين (عليه السلام) القرآن المُنزَل من أوَّله إلى آخِره، وألَّفه بحسَب ما وجب تأليفه، فقدَّم المكّي على المدَني، والمنسوخ على الناسخ، ووضع كلَّ شيء منه في حقّه (3) .

وقال العلاّمة البلاغي: من المعلوم عند الشيعة أنَّ عليّاً أمير المؤمنين (عليه السلام) - بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) - لم يرتدِ برداء إلاّ للصلاة حتّى جمَع القرآن على ترتيب نزوله، وتقدُّم منسوخه على ناسِخه.

وأخرج ابن سعد، وابن عبد البرّ في الاستيعاب عن محمَّد بن سيرين، قال: نُبِّئت أنَّ عليّاً أبطأ عن بيعة أبي بكر، فقال: أكرهتَ إمارتي؟ فقال: (آليت بيميني أن لا أرتدي برداء إلاّ للصلاة حتّى أجمع القرآن)، قال: فزعموا أنَّه كتبه على تنزيله. قال محمّد: فلو أصبتُ ذلك الكتاب كان فيه عِلم (4) .

قال ابن حجر: وقد ورد أنَّ عليّاً جمَع القرآن على ترتيب النزول عقِب موت النبي (صلّى الله عليه وآله). أخرجه ابن أبي داود (5) .

قال ابن شهرآشوب: ومن عجَب أمرِه في هذا الباب، أنَّه لا شيء من العلوم إلاّ وأهلُه يجعلون عليّاً قُدوة، فصار قوله قِبلةً في الشريعة، فمنه سُمع القرآن.

ذكَر الشيرازي في نزول القرآن عن ابن عبّاس قال: ضمِنَ الله محمَّداً أن يجمَع القرآن

____________________

(1) التسهيل لعلوم التنزيل: ج1، ص4.

(2) بحار الأنوار: ج92، ص88.

(3) نفس المصدر السابق.

(4) آلاء الرحمان: ج1، ص18 بالهامش. وراجع الطبقات: ج2، ق2، ص101. والاستيعاب بهامش الإصابة: ج2، ص253.

(5) الإتقان: ج1، ص71 - 72.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459