تلخيص التمهيد الجزء ١

تلخيص التمهيد0%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 459

تلخيص التمهيد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد هادي معرفة
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 76955
تحميل: 10475


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 76955 / تحميل: 10475
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء 1

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قال: هذا تقرير ما صدَر عن عمَر، مع ما عُرف من شدّة صلابته في الدين! (1) .

يا للعجَب من عقلية ابن حجَر، كيف يتصوّر من عمَر عملاقاً في فَهْم قضايا الدين والوقوف على مزايا اللغة، ممّا غفَل عنه مثل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، الذي هو مبلِّغ الشريعة وأفصح مَن نطقَ بالضاد؟!.

أمثل مَن لا يَعرف الأَبَّ مِن القَتّ (2) ، ويجهل الكثير من الآداب والسُنن (3) ، يقوم بتأنيب ناموس الشريعة وصميم العربية الفصحاء؟! إنْ هذا إلاّ وهْمٌ ناشئ عن عصبية عمياء، أعاذنا الله منها!.

* * *

وبعد، فإذ قد عرفت قيمة ما أُسند من روايات أسباب النزول الواردة في أهمّ الكتُب الحديثية، فكيف بالمقطوع، والمرسَل، والمجهول... الأمر الذي يُنْبئك عن أصالة ما لدينا من صحاح الروايات في هذا الباب، وقد صحّ كلام الإمام أحمد: ثلاثة ليس لها أصل معتمَد: المغازي، والملاحم، والتفسير.

هذا السيوطي يُخرّج لقوله تعالى: ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ) (4) خمسة أوجه:

الأوّل: إنّه في تحويل القِبلة وارتياب اليهود في ذلك. عن ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.

____________________

(1) فتح الباري: ج 8 ص 252.

(2) أخرج الطبري في تفسيره (ج 30 ص 38) عن أنس قال: قرأ عمَر سورة عبَس، فلمّا أتى على هذه الآية ( وَفَاكِهَةً وَأَبّاً ) قال: عرفنا الفاكهة فما الأبّ؟.. ثمّ قال: إنّ هذا لهو التكلّف!. وأورده ابن كثير في تفسيره (ج4 ص 473) وصحّحه، ثمّ تعجّب من عدم فَهْم عمَر معنى الأبّ؛ لأنّ الكلّ يعلم أنّه من نبات الأرض ممّا يقتات به البهائم، لقوله تعالى بعد ذلك: ( مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ ) فالأبّ علَف الدوابّ كالقَت.

(3) راجع نوادر الأثر في علم عُمَر (الغدير: ج 6 ص 83).

(4) البقرة: 115.

١٠١

الثاني: أن تصلّي حيثما توجّهتْ به راحلتك. أخرجه الحاكم وغيره عن ابن عمَر.

الثالث: إنّه كان في سفَر ليلةٍ ظلماء، فصلّى كلّ رجُل على حياله لا يدرون أين وجه القِبلة. أخرجه الترمذي من حديث عامر بن ربيعة، وكذا الدارقطني من حديث جابر.

الرابع: لمّا نزلت ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (1) قالوا: إلى أين؟ فنزلت. أخرجه ابن جرير عن مجاهد.

الخامس: عن قتادة أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (إنّ أخاً لكم قد مات فصلّوا عليه) ، فقالوا: إنّه كان لا يصلّي إلى القِبلة، فنزلت.

قال السيوطي - تعقيباً على ذلك -: فهذه خمسة أسباب مختلفة، وأضعفها الأخير لإعضاله، ثمّ ما قبله لإرساله، ثمّ الثالث لضعف رُواته، والثاني صحيح لكنّه قال: قد أُنزلت في كذا، ولم يُصرّح بالسبب، والأوّل صحيح الإسناد، وصُرّح فيه بذِكر السبب فهو المعتمَد (2) .

* * *

سبب النزول أو شأن النزول:

ما هو الفارق بين قولهم: (سبب النزول) أو (شأن النزول) ؟.

إن كانت هناك مشكلة حاضرة - سواء أكانت حادثة أُبهم أمرُها، أمْ مسألة خفِيَ وجه صوابها، أو واقعة ضلّ سبيل مَخرجِها - فنزلت الآية لتعالج شأنها وتضع حلاً لمشكلتها، فتلك هي أسباب النزول، أي السبب الداعي والعلّة الموجِبة لنزول قرآن بشأنها.

وهذا أخصّ من قولهم: (شأن النزول)؛ لأنّ الشأن أعمّ مورداً من السبب

____________________

(1) غافر: 60.

(2) الإتقان: ج1، ص93.

١٠٢

- في مصطلحهم - بعد أن كان الشأن يعني: الأمر الذي نزل القرآن - آيةً أو سورة - ليعالج شأنه بياناً وشرحاً، أو اعتباراً بمواضع اعتباره، كما في أكثرية قصص الماضين والإخبار عن أُمم سالِفين، أو عن مواقف أنبياء وقدّيسين كانت مشوّهة، وكادت تمسّ من كرامتهم أو تحطّ من قدسيّتهم؛ فنزل القرآن ليعالج هذا الجانب، ويبيّن الصحيح من حكاية حالهم والواقع من سيرتهم بما يرفع الإشكال والإبهام، وينزّه ساحة قُدس أولياء الله الكرام.

وعليه: فالفارق بين السبب والشأن - اصطلاحاً - أنّ الأوّل يعني مشكلة حاضرة لحادثة عارضة، والثاني مشكلة أمرٍ واقع، سواء أكانت حاضرة أمْ غابرة، وهذا اصطلاح ولا مشاحّة فيه.

* * *

وقولهم: (نزلت في كذا) أعمّ، قد يراد السبب العارض، وقد يراد شأنُ أمرٍ واقع في الغابر، وأحياناً يراد بيان حُكم وتكليف شرعي دائم.

قال الزركشي: وقد عُرف من عادة الصحابة والتابعين أنّ أحدهم إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا، فإنّه يريد بذلك أنّ هذه الآية تتضمّن هذا الحُكم، لا أنّ هذا كان السبب في نزولها (1) .

إلاّ أنّ السيوطي خصّ أسباب النزول بالنوع الأوّل، ورفض أن يكون بيانه قصّة سالفة لنزول سورة أو آية قرآنية، ومن ثمّ اعترض على الواحدي - في أسباب النزول - قوله: نزلت سورة الفيل في قصّة أصحاب أبْرهة الذي جاء لهدْم الكعبة (2) .

قال: والذي يتحرّر في سبب النزول أنّه ما نزلت الآية أيام وقوعه؛ ليخرج ما ذكره الواحدي في سورة الفيل من أنّ سببها قصّة قدوم الحبشة، فإنّ ذلك ليس من

____________________

(1) البرهان للزركشي: ج1، ص31 - 32.

(2) أسباب النزول للواحدي: ص259.

١٠٣

أسباب النزول في شيء، بل هو باب الإخبار عن الوقائع الماضية، كذِكر قصّة قوم نوح وعاد وثمود وبناء البيت ونحو ذلك (1) ، مع أنّ الواحدي لم يصرّح بالسبب، بل ذَكر أنّها نزلت في قصّة أصحاب الفيل.

ولا وجه لِمَا تضايق السيوطي على نفسه وعلى الآخرين، بعد أن كان المصطلح على دواعي النزول هي المناسبات المقتضية لنزول قرآن، سواء أكانت حادثة واقعة، أمْ اختلافاً في مسألة شرعية فرعية أو عقائدية، أمْ قصّة غابرة كانت ذات عِبرة أو موضع اختلاف، فأراد الله تعالى تحريرها وتهذيبها وتطهير ساحة قُدس أوليائه الكرام.

التنزيل والتأويل:

سأل الفُضَيل بن يسار الإمام أبا جعفر الباقر (عليه السلام) عن الحديث المعروف: (ما في القرآن آية إلاّ ولَها ظَهْر وبطْن، فقال (عليه السلام): ظهْره تنزيله وبطْنه تأويله، منه ما قد مضى ومنه ما لم يكن، يجري كما تجري الشمس والقمر) (2) .

وقال (عليه السلام): (ظَهْر القرآن الذين نزل فيهم، وبطْنه الذين عملوا بمِثل أعمالهم) (3) .

ذلك أنّ للآية وجهاً مرتبطاً بالحادثة الواقعة - التي استدعَت نزولها - ووجهاً آخر عامّاً، تكون الآية بذلك دستوراً كلّياً يجري عليه المسلمون أبَدياً، وكما أنّ الآية عالجت - بوجهها الخاصّ - مشكلة حاضرة، فإنّها - بوجهها العامّ - سوف تعالج مشاكل الأمّة على مَرّ الأيام.

قال الإمام أبو جعفر (عليه السلام): (ولو أنّ الآية نزلت في قوم، ثمّ مات أولئك القوم ماتت الآية؛ لَمَا بقي من القرآن شيء، ولكنّ القرآن يجري أوّله على آخِره ما دامت السماوات والأرض، ولكلّ قومٍ آية يتلونها هُم من خير أو شرّ) (4) .

____________________

(1) لباب النقول بهامش الجلالين: ج1، ص5.

(2) بصائر الدرجات: ص196، ح7.

(3) تفسير العيّاشي: ج1، ص11، ح4.

(4) تفسير العيّاشي: ج1، ص10، ح7.

١٠٤

نعم، إنّ الحكمة في نزول آية أو سورة ليست بالتي تقتصر على معالجة مشاكل حاضرة، وليست دواءً وقتيّاً لداءٍ عارضٍ وقتيّ، إذاً تنتفي فائدتها بتبدّل الأحوال والأوضاع، بل القرآن - في جميع آياتهِ وسوَرهِ - نزل علاجاً لمشاكل أُمّة بكاملها في طول الزمان وعَرْضه، وإلى ذلك يشير قولهم (عليهم السلام): (نزلَ القرآن بإيّاك أعني واسمعي يا جارة) (1) .

وهذا الوجه العامّ للآية: هو ناموسها الأكبر الكامن وراء ذلك الوجه الخاصّ، وإنّما يلقي بأضوائه على الآفاق من وراء ذلك الستار الظاهري، وتنبعث أنواره من ذلك البطن الكامن وراء هذا الظهْر.

وهذا من اختصاص القرآن في بيان مقاصده من الوجهين الخاصّ والعامّ، ومن ثمّ فإنّ له تنزيلاً (الذين نزل فيهم)، وتأويلاً (الذين عملوا بمثل أعمالهم)، وذلك ظهْره وهذا بطْنه.

غير أنّ الوقوف على تأويل القرآن وفهْم بطون الآيات، إنّما هو من اختصاص الراسخين في العلم، ممّن ثبتوا على الطريقة، فسقاهم ربّهم ماءً غَدَقاً (2) .

ومن ثمّ قال الإمام أبو جعفر - بعد أن تلا الآية -: (نحن نعلمه) أي التأويل (3) ، وفي رواية أخرى: (تعرفه الأئمّة) (4) .

* * *

قال تعالى: ( وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (5) .

هذه الآية نموذج من الآيات ذوات الوجهَين، لها تنزيل ولها تأويل، ظهْرٌ وبطْنٌ، وإنّّما يَعلم سرّها الكامن العامّ أُولوا البصائر في الدين الأئمّة

____________________

(1) تفسير العيّاشي: ج1، ص10، ح4.

(2) راجع آية 16 من سورة الجنّ.

(3) بصائر الدرجات: ص196، ح7.

(4) بصائر الدرجات: ص196، ح8.

(5) البقرة: 115.

١٠٥

المعصومون (عليهم السلام).

هذه الآية تبدو - في ظاهرها - متعارضة مع آيات توجِب التوجّه في الصلاة شطْر المسجد الحرام (1) ، ولكن مع ملاحظة سبب النزول، وأنّه دفعٌ لشُبهة اليهود ورفعٌ لارتيابهم في تحويل القِبلة، يتبيّن أن لا معارضة، ويرتفع الإبهام عن وجه الآية؛ ذلك أنّ الاستقبال في الصلاة والعبادات أمرٌ اعتباريّ محض، ينوط باعتبار صاحب الشريعة في مصالح يراها مقتضية حسب الأحوال والأوضاع، وليس وجه الله محصوراً في زاوية القُدس الشريف أو الكعبة المكرّمة.

وبذلك تنحلّ مشكلة الآية ويرتفع إبهامها، وأن ليس ترخيصاً في الاتّجاه بسائر الجهات.

هذا، وقد فهِم الأئمة (عليهم السلام) أمراً آخر أيضاً، استخرجوه من باطن الآية، حيث تأويلها المستمرّ، وأنّها تعني جواز التطوّع بالنوافل إلى حيث توجَّهت به راحلتك... أو اشتبهت القِبلة، فتصلّي إلى أيّ الجهات شئت، هكذا وجدنا صراحة الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) (2) .

قال سيّدنا الطباطبائي (قدّس سرّه): إنّك إذا تصفّحت كلمات الأئمّة (عليهم السلام) في عموم القرآن وخصوصه ومطلقه ومقيّده؛ لوجدت كثيراً ما استفادةَ حُكمٍ من عموم الآية، ثمّ استفادة حكمٍ آخر مع ملاحظة خصوصها، فقد يستفاد (الاستحباب) من الآية من وجه عمومها، (الوجوب) من وجهها الخاصّ، وهكذا (الحرمة) و(الكراهة) من الوجهين للآية بذاتها.

قال: وعلى هذا المقياس تجد أصولاً هي مفاتيح لكثير من مغالق الآيات، إنّما تجدها في كلماتهم (عليهم السلام) لا غيرهم، قال: ومن هنا يمكنك أن تَستخرج من

____________________

(1) البقرة: 144 و149 و150.

(2) راج وسائل الشيعة: باب 8 و 15 من أبواب القِبلة ج3، ص225 - 239 / وتفسير العيّاشي: ج1، ص56 - 57.

١٠٦

لُباب كلامهم في المعارف القرآنية قاعدتين أساسيّتين:

الأُولى: أنّ كلّ عبارة من عبارات الآية الواحدة، فإنّها لوحدها تفيد معنى وتلقي ضوءً على حُكمٍ من أحكام الشريعة، ثمّ هي مع العبارة التالية لها تفيد حكماً آخر، ومع الثالثة حكماً ثالثاً، وهكذا دواليك.

مثلاً قوله تعالى: ( قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) (1) فقوله: ( قُلِ اللّهُ ) جملة تامّة الإفادة وهي مع قوله: ( ثُمَّ ذَرْهُم ) أيضاً كلام آخر هو تامّ، ومع ( في خوْضِهِمْ ) ، وكذا مع ( يَلْعَبُونَ ) كُلاًّ كلامٌ ذو فائدةٍ تامّة.

واعتبِر نظير ذلك في كلّ آية شئت من آيات القرآن..

الثانية: أنّ القصّتين أو المعنيَين إذا اشتركا في جملة أو نحوها، فهما راجعان إلى مرجعٍ واحد.

قال: وهذان سِرّان، تحتهما أسرار، والله الهادي (2) .

* * *

وقوله تعالى: ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ) (3) .

قيل: نزلت بشأن الجِنّ استأذنوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن يشهدوا مسجده، وقد كان صعباً عليهم وهم منتشرون في فِجاج الأرض، فنزلت: أنّ كلّ موضع من الأرض فهو مسجد لله يجوز التعبّد فيه، سوى أنّه يجب الإخلاص في العبادة في أيّ مكان كانت (4) ، وهكذا روي عن سعيد بن جبير.

هذا إذا أُخذت (المساجد) بمعنى (المعابد): أمكنة العبادة.

وربّما فُسّرت بمعنى المصدر، وأنّ العبادات بأسْرها خاصّة بالله تعالى لا يجوز السجود لغيره، روي ذلك عن الحسن.

____________________

(1) الأنعام: 119.

(2) تفسير الميزان: ج1، ص262.

(3) الجنّ: 18.

(4) لباب النقول بهامش الجلالين: ج2، ص121.

١٠٧

وقال جمْع من المفسّرين كسعيد بن جبير، والزجّاج، والفرّاء: إنّها المواضع السبعة حالة السجود، وهي لله، إذ هو خالقها والذي أنعم بها على الإنسان، فلا ينبغي أن يسجد بها لأحد سوى الله تعالى (1) .

وبهذا المعنى الأخير أخذ الإمام أبو جعفر محمّد بن علي الجواد (عليه السلام)، حينما سأله المعتصم العباسي عن هذه الآية، فقال: (هي الأعضاء السبعة التي يُسجَد عليها) (2) .

وكان هذا الحادث في قصّة سارق جيء به إلى مجلس المعتصم، فاختلف الفقهاء الحضور في موضع القطع من يده، فكان من رأي الإمام (عليه السلام) أن يُقطع من مفصل الأصابع، ولمّا سأله المعتصم عن السبب أجاب بأنّ: (راحة الكفّ هي إحدى مواضع السجود السبعة، وأنّ المساجد لله، فلا تُقطع) (3) .

وهكذا، وبهذا الأُسلوب البديع استنبط (عليه السلام) من تعبير القرآن دليلاً على حكم شرعيّ، كان حلاًّ قاطعاً لمشكلة الفقهاء حلاًّ أبديّاً.

وهذا من بطن القرآن وتأويله الساري مع كلّ زمان، تعرفه الأئمة، إمام كلّ عصر حسب حاجة ذلك العصر.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ للقرآن تأويلاً، فمنه ما قد جاء ومنه ما لم يجئ، فإذا وقع التأويل في زمان إمام من الأئمّة عرَفَه إمام ذلك الزمان) (4) .

قال الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام): (ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء) (5) .

____________________

(1) وهكذا فسّرها الأئمة من أهل البيت فيما ورد من التفسير المأثور (راجع مجمع البيان: ج10، ص372 / وتفسير البرهان: ج4، ص394 - 395).

(2) مجمع البيان: ج10، ص372.

(3) وسائل الشيعة: باب 4، من أبواب حدّ السرقة ح5، ج18، ص490.

(4) بصائر الدرجات: ص195، ح5.

(5) الكافي: ج1، ص228، ح2.

١٠٨

وقال الصادق (عليه السلام): (والله، إنّي لأعلم كتاب الله من أوّله إلى آخِره كأنّه في كفّي، فيه خبر السماء وخبر الأرض، وخبر ما كان وخبر ما هو كائن، فيه تبيان كلّ شيء، كما قال تعالى) (1) .

هل يجب حضور ناقل السبب؟

ذكر الواحدي أنّه لا يحلّ القول في أسباب النزول، إلاّ بالرواية والسماع ممّن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب وبحثوا عن عِلمها (2).

وهذا الاشتراط إنّما هو من أجل الاستيثاق بأنّ ما ينقله حكاية عن حسٍّ مشهود، لا أنّه من اجتهاد أو تخرّص بالغيب، ومن ثمَّ مَن عرفناه صادقاً في لهجته، ثقةً في إخباره، حذراً واعياً يتجنّب الحدَس والتخمين، ولا يخبر إلاّ عن علم، ولا يروي إلاّ عن يقين، فإنّ مِثلَه مُصدَّق ولو كان غائب المشهد، ومن ثمّ نعتمد قول خيار الصحابة ولو لم يصرّح بحضوره المشهد، وكذا إخبار التابعين لهم بإحسان، ومَن بعدهم من أئمّةٍ صادقين.

ولنفس السبب نعتمد أقوال أئمّتنا المعصومين بشأن تفسير القرآن، تنزيله وتأويله؛ لأنّهم أعرَف الخلْق بعلوم القرآن ظاهره وباطنه، سوى أنّ المهمّ هو العلم بصحّة الإسناد إليهم أو تواتر النقل، وقليلٌ ما هو.

العِبرةُ بعموم اللفظ لا بخصوص المورد:

هذه قاعدة أصولية مطّردة في جميع أحكام الشريعة المقدّسة، فما يصدر من منابع الوحي والرسالة بشأن بيان أحكام الله وتكاليفه للعباد، ليس يخصّ مورداً دون مورد، ولم يأتِ الشرع لمعالجة حوادث معاصرة، وإنّما هو شرع للجميع،

____________________

(1) الكافي: ج1، ص229، ح4 / والآية 89 من سورة النحل: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ) .

(2) أسباب النزول للواحدي: ص4.

١٠٩

الأمر الذي دعا بالفقهاء إلى إلغاء الخصوصيات المَوردية والأخْذ بإطلاق الحكم، لفظيّاً أو مقاميّاً، حسب المصطلح.

هذا بالنسبة إلى كافّة أحكام الشريعة، سنّةً وكتاباً، وإن كان في الكتاب آكَد، وقد عرفتَ صريح الروايات بهذا العموم في آيات القرآن، فكلّ ما في القرآن من أحكام وتكاليف واردة في الآيات الكريمة، فإنّما ينظر إليها الفقهاء من الوجه العامّ، ولا يأبهون بخصوص المورد إطلاقاً.

نعم، هناك بعض الخطابات مع فئات معهودة، صدرت على نحو القضية الخارجية (1) ، فإنّها لا تعمّ بلفْظها، وإن كانت قد تعمّ بمِلاكها، إذا كان قد أُحرز يقيناً، وفي القرآن منه كثير.

قال تعالى: ( الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) (2) .

نزلت الآية بشأن المؤمنين بعد منصرفهم من وقعة (أُحُد) وقد أصابهم القرْح الشديد، وكان أبو سفيان حاول الكرّة وتندّم على انصرافه عن القتال، وبلغ الخبر للمسلمين، وكان الذي أشاع الخبر هو نعيم بن مسعود الأشجعي، كما في الحديث عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) (3) ، وقيل: الركْب الذي دسّه أبو سفيان للإرجاف بالمؤمنين، وقيل: هم المنافقون بالمدينة.

لكنّ المؤمنين الصادقين صمدوا على الثبات والإيمان، وعزموا على مجابهة العدوّ بكلّ مجهودهم، وانتدبهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قصداً لإرهاب المشركين، وفي مقدّمة المنتدَبين الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

____________________

(1) من مصطلح عِلم الميزان (المنطق): وهو عبارة عن معهودية الموضوع في القضية، كقولك: أكرِم مَن في المسجد أو في المدرسة، تريد مَن هو في مسجد البلد، أو مدرسته في الحال الحاضر، وليس في كلّ الأزمان، وكلّ المساجد والمدارس على الإطلاق.

(2) آل عمران: 172 و173.

(3) مجمع البيان: ج2، ص541.

١١٠

والشاهد في قوله تعالى: ( قَالَ لَهُمُ النَّاسُ ) إشارة إلى أُناس معهودين أو فردٍ معهود، والمقصود من (الناس) الذين جمعوا لهم، هم: أصحاب أبي سفيان.

نعم، مجموعة هذه الحادثة تفيدنا مسألة الثبات على الإيمان، وأن لا نَهاب عدوّاً، ولا تجمّع الناس ضدّ الحقّ، مادام الله ناصرنا وكافلنا، نِعم المولى ونِعم النصير.

* * *

وقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ) (1) .

إنّما يعني الذين كفروا على عهده (صلّى الله عليه وآله) وعاندوا وأصرّوا على اللُجاج، بعد وضوح الحقّ وسطوع البرهان، وليس مطلق الكفّار على مرّ الزمان، وهذا تيئيس للنبي (صلّى الله عليه وآله)، فلا تذهب نفسه عليهم حسرات.

قال العلاّمة الطباطبائي (قدّس سرّه): ولا يبعد أن يكون المراد هم الكفّار من صناديد قريش وكُبَراء مكّة، الذين عاندوا ولجّوا في أمر الدين ولم يألوا جهداً في ذلك؛ إذ لا يمكن استطراد هذا التعبير في حقّ جميع الكفّار، وإلاّ لانسدّ باب الهداية، فالأشبه أن يكون المراد من ( الَّذِينَ كَفَرُواْ ) هاهنا وفي سائر الموارد من كلامه تعالى هم: كفّار مكّة في أوّل البعثة، إلاّ أن تقوم قرينة على خلافه، نظير ما سيأتي أنّ المراد من قوله: ( الَّذينَ آمَنُوا ) - فيما أُطلق في القرآن من غير قرينة على إرادة الإطلاق - هم: السابقون الأوّلون من المؤمنين، خُصّوا بهذا الخطاب تشريفاً (2) .

وهكذا قال (رحمه الله) في تفسير سورة (الكافرون): هؤلاء قوم معهودون لا كلّ كافر، ويدلّ عليه: أمرُهُ (صلّى الله عليه وآله) أن يخاطبهم ببراءته من دِينهم وامتناعهم من دِينه (3) .

____________________

(1) البقرة: 6 - 7.

(2) تفسير الميزان: ج1، ص50.

(3) تفسير الميزان: ج20، ص526.

١١١

وبذلك تنحلّ مشكلة كثير من الآيات جاءت بهذا التعبير وأشباهه.

نعم، هذا الحكم يسري فيمن شابَه أولئك في العناد واللجاج مع الحقّ بعد الوضوح.

نزلَ القرآن بإيّاك أعْني واسمعي يا جارة:

هكذا روى أبو النضر محمّد بن مسعود العيّاشي بإسناده عن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، فيما رواه عنه عبد الله بن بكير، قال: (نزلَ القرآن بإيّاك أعْني واسمعي يا جارة) (1) ، وهذا مَثلٌ يُضرَب لمَن يخاطب شخصاً أو يتكلّم عن أمرٍ وهو يريد غيره، على سبيل الكناية أو التعريض.

وروى بإسناده عن ابن أبي عمير عمّن حدّثه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ما عاتبَ الله نبيّه فهو يعني به مَن قد مضى في القرآن، مثل قوله: ( وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) (2) عَنى بذلك غيره (صلّى الله عليه وآله)) (3) .

قوله: (مَن قد مضى في القرآن) أي: مضى ذِكره إشارةً أو تلويحاً وربّما نصّاً.

والأكثر أن يراد أُمّته (صلّى الله عليه وآله) بالعتاب، ولاسيّما المؤمنون صدْر الإسلام، كانوا على قلق واضطراب في مواضعهم مع الكفّار.

وبهذا المعنى ورد قولهم (عليهم السلام)، فيما رواه محمّد بن مسلم عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (يا محمّد، إذا سمعتَ الله ذَكر أحداً من هذه الأمّة بخير فنحن هُم، وإذا سمعتَ الله ذكر قوماً بسوء ممّن مضى فهُم عدوّنا) (4) .

(لأنّ القرآن يجري أوّله على آخِره مادامت السماوات والأرض، ولكلّ قومٍ آية يتلونها هُم منها من خير أو شرّ) (5) .

قال (عليه السلام): (ظهْرُ القرآن الذين نزل فيهم،

____________________

(1) تفسير العيّاشي: ج1، ص10، ح4.

(2) الإسراء: 74.

(3) تفسير العيّاشي: ج1، ص10، ح5.

(4) تفسير العيّاشي: ج1، ص13، ح3.

(5) راجع المصدر السابق: ص10، ح7.

١١٢

وبطْنُه الذين عملوا بمِثل أعمالهم) (1) .

كيف الاهتداء إلى معالم القرآن؟

ما في القرآن آية إلاّ ولها ظهْرٌ وبطنٌ، وربّما بطون (2) ، هي حقائقها الراهنة، السارية الجارية مع مختلف الأحوال ومتقلّبات الأزمان، يعرفها الراسخون في العلم، الذين ثبَتوا على الطريقة، فسقاهم ربُّهم شراباً غَدَقاً (3) .

وخير وسيلة لفتح مغالق القرآن هو: اللجوء إلى أبواب رحمة الله ومنابع فَيضه القُدسي، أهل بيت الوحي، الذين هم أدرى بما في البيت؛ فإنّ بيدهم مقاليد هذه المغالق ومفاتيح هذه الأبواب.

فإنّهم عِدل القرآن وأحد الثقلَين، الذين أوصى بهما الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله)، وفي كلماتهم الكثير من الإرشادات إلى معالم القرآن وفَهْم حقائقه الناصعة، وممّا لا تجده في كلام غيرهم على الإطلاق.

من ذلك ما ورد بشأن قوله تعالى: ( أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ) (4) .

وقوله - في آية أخرى -: ( أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ) (5) .

وهذا تهديد ووعيد بالهلاك والدمار إن لم يرضخوا لناموس الشريعة الغرّاء، ولكن كيف هذا التهديد؟ وبمَ كان هذا الوعيد؟.

وقد فسّرها جُلّ المفسّرين بغلَبة الإسلام والتضايق على بلاد الكُفر والإلحاد، قال الثعالبي: إنّا نأتي أرض هؤلاء بالفتح عليك، فننقصها بما يدخل في دينك من

____________________

(1) المصدر السابق: ص11، ح4.

(2) راجع تفسير البرهان: ج1، ص20.

(3) راجع آية 16 من سورة الجنّ.

(4) الرعد: 41.

(5) الأنبياء: 44.

١١٣

القبائل والبلاد المجاورة لهم، فما يؤمّنهم أن نمكنّك منهم أيضاً (1) .

وهكذا رجّحه ابن كثير قال: وهو ظهور الإسلام على الشِرك قريةً بعد قرية، كقوله تعالى: ( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى ) (2) ، وهذا اختيار ابن جرير (3) .

وقد ذهب ابن كثير وغيره - حتى سيّد قطب - إلى أنّ السورة مكّية، ولم يذكر أحدٌ استثناء هذه الآية منها، وسورة الأنبياء مكيّة بلا خلاف ولم يذكروا سنداً لاستثناء الآية منها، الأمر الذي يلتئم مع هذا الاختيار في معنى الآية.

ثمّ الآية صريحة في نقصان أطراف الأرض، ولم يُعهَد اختصاص اسم الأرض بمكّة المكرّمة.

نعم، فتَح هذا المغلاق في وجه الآية، وفسّرها تفسيراً جليّاً، ما جاء في كلام الإمام الصادق (عليه السلام) فيما رواه ابن بابويه الصدوق، قال: سئل الصادق (عليه السلام) عن هذه الآية؟ فقال: (فقْدُ العلماء) (4).

وذلك: أنّ الأرض يراد بها المعمورة منها في أكثر الأحيان، كما في قوله تعالى: ( أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ) (5) ، وقد فهِم منه الفقهاء - في حدّ المحاربين - نفْيَهم من عمارة الأرض، فلا يدخلوا بلداً ولا يحلّوا دياراً إلاّ أُخرجوا.

وإذا كانت عمارة الأرض هي حصيلة جهود العلماء والاختصاصيّين من أهل العلم، فعفوك أنّ خرابها بفقْد العلماء وذهاب الخيار من الصلحاء، فعند ذلك تفسد البلاد وتهلك العباد، والروايات بهذا المعنى كثيرة عن الأئمة (6) .

وقد تنبّه لذلك بعض الأقدَمين، فيما روي عن ابن عبّاس: تُخرّب قرية ويكون العمران في ناحية، والنقصان نقصان أهلها وبركتها... وقال الشعبي: تنقص الأنفس والثمرات. وفي رواية عن ابن عبّاس أيضاً: خرابها بموت علمائها

____________________

(1) تفسير الثعالبي: ج2، ص274.

(2) الأحقاف: 27.

(3) تفسير ابن كثير: ج2، ص520 - 521.

(4) تفسير البرهان: ج2، ص302، ح5.

(5) المائدة: 33.

(6) تفسير البرهان: ج2، ص301 - 302.

١١٤

وفُقهائها وأهل الخير منها. قال مجاهد: هو موت العلماء (1) .

قال تعالى: ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ) (2) .

* * *

وقوله تعالى: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ) (3).

فقد أُشكل على المفسّرين وجه هذا السجود والأمر به، ولا تجوز العبادة لغير الله! ومن ثمّ اختلفوا هل أنّه كان بوضع الجِباه على الأرض، وأنّهم جعلوا آدم قبلةً يسجدون لله تعالى؟.

نعم، ورد الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه كان لآدم سجود طاعة، ولله سجود عبادة (4) ، وهو كناية عن قيامهم بمصالح الإنسان عِبر الحياة، فإنّ قوى الطبيعة بأسرها مسخّرة لهذا الإنسان خاضعة تحت إرادته... والسجود هو الخضوع التامّ، قال الشاعر:

ترى الأُكَم فيها سُجّداً للحوافر

أي: التلال مذلّلة لحوافر الخيول (5).

وهذا نظير قوله تعالى - بشأن يوسف وإخوته -: ( وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً ) (6) أي: وقَعوا على الأرض خضوعاً له - على وجه -.

* * *

____________________

(1) مجمع البيان: ج6، ص300 / تفسير ابن كثير: ج2، ص520.

(2) الأعراف: 96.

(3) البقرة: 34.

(4) عيون الأخبار: ج1، ص263، قطعة من ح 22 / بحار الأنوار: ج11، ص140، ح6.

(5) بحار الأنوار: ج11، ص140.

(6) يوسف: 100.

١١٥

وقوله تعالى: ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) (1) .

فلولا الامتناعية دلّت على أنّ الهمّ من يوسف لم يقع. سوى أنّ الذي منعَه وعَصَمه من هَمّ المعصية ماذا كان؟ فقيل: إنّه رأى صورة أبيه عاضّاً على إصبعه، وقيل غير ذلك - ممّا يتنافى وعصمة مقام النبوّة -.

والصحيح: ما هدانا إليه الأئمّة الراشدون، أنّه الإيمان الصادق الذي هو منشأ العصمة في أنبياء الله (عليهم السلام)؛ بدليل تعقيبه بقوله: ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) إشارة إلى مقام عصمة الأنبياء (2) .

* * *

____________________

(1) يوسف: 24.

(2) راجع تفسير الميزان: ج11، ص141 و 181.

١١٦

4 - كُتّابُ الوحي

- أوّل مَن كتَب بمكّة.

- أوّل مَن كتَب بالمدينة.

- ثلاثة هُم كتَبَة الوحي الرسميّون.

- سائر الكُتّاب غير الرسميّين.

- كيف كُتب القرآن على عهده (صلّى الله عليه وآله)؟

١١٧

كُتّابُ الوحي

كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أُمّياً لا يقرأ ولا يكتب (1) ، وكان في ذلك مصلحة إعجاز القرآن: ( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) (2) ، والآية تدلّ: على أنّه لم يتعارف منه (صلّى الله عليه وآله) قراءةً ولا كتابة، ولم يُعهَد منه ذلك، ولعلّه (صلّى الله عليه وآله) كان يتظاهر بالأمّية؛ حِفظاً على سلامة القرآن من التشكيك فيه، ودعماً لموضع إعجازه، حيث صدر على يد أُمّي لم يُعهَد منه كتابةً ولا قراءة.

إذاً، كان (صلّى الله عليه وآله) بحاجة إلى مَن يكتُب له رسائله إلى جنْب كتابة الوحي القرآني

____________________

(1) لا يستدعي هذا التعبير أنّه (صلّى الله عليه وآله) لم يكن يعرف ذلك، وإنّما المقصود أنّه لم يتحقّق منه قراءةً ولا كتابة، لا قبْل بِعثته ولا بعدها، وذلك في حِكمة القرآن كي لا يرتاب المبطلون.

قال الطوسي: قال المفسّرون: لم يكن يُحسن الكتابة، قال: والآية لا تدلّ على ذلك، بل فيها أنّه (صلّى الله عليه وآله) لم يكن يكتب الكتاب، وقد لا يكتب الكتاب مَن يُحسنه، كما لا يكتب مَن لا يُحسنه. (التبيان ج8، ص193)؛ ذلك لأنّ القدرة على الكتابة والقراءة كمال، ولا يخلو النبيّ من الكمال، كما أنّ الأمّية عيّ ونقص يتحاشاه مقام النبوّة الكريم. وفي تفسير الميزان (ج16، ص145): ظاهر التعبير، نفي العادة، وهو الأنسب بالنسبة إلى سياق الحجّة.

(2) العنكبوت: 48 و 49.

١١٨

النازل عليه، ومن ثمّ استخدم مَن كان بمكّة آنذاك ممّن يعرف الكتابة، وهكذا بعدما هاجر إلى المدينة.

وأوّل مَن كتَب له بمكّة وأدامها له مدّة حياته الكريمة هو: الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، وقد كان النبي (صلّى الله عليه وآله) حريصاً على أن لا يفوت عليّاً شيءٌ من القرآن، فكان إذا نزل عليه الوحي - أحياناً - وهو غائب، دعا بعض كُتّابه ليكتبه، ثمّ إذا حضر عليٌّ أعاده عليه ليكتبه أيضاً، ومن ثمّ لم يكن مِن كتَبَة القرآن أجمع ولا أحفظ من عليّ (عليه السلام).

قال سُليم بن قيس الهلالي - وقد عدّه النجاشي من الطبقة الأُولى (1) من زمرة السلَف الصالح -: جلست إلى عليّ (عليه السلام) بالكوفة في المسجد والناس حوله، فقال: (سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن كتاب الله، فو الله ما نزلت آية من كتاب الله إلاّ وقد أقرأنيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعلّمَني تأويلها، فقال ابن الكوّاء (2) : فما كان ينزل عليه وأنت غائب؟ فقال (عليه السلام): بلى، يحفظ عليَّ ما غبتُ عنه، فإذا قدمتُ عليه قال لي: يا عليّ، أنزلَ الله بعدك كذا وكذا، فيقرأنيه، وتأويله كذا وكذا فيعلّمنيه..) (3) ، والتأويل هنا تفسير مواضع إبهام الآية.

وأوّل مَن كتب الوحي لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) عند مَقدمه المدينة هو: أُبَي بن كعب، الصحابي الجليل، قال ابن سعد: كان أُبَي يكتب في الجاهلية قبل الإسلام، وكانت الكتابة في العرب قليلة، وكان يكتب في الإسلام الوحي لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) (4).

قال ابن عبد البرّ: أوّل مَن كتَب لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) عند مَقدمه المدينة أُبَي بن كعب، وهو أوّل مَن كتَب في آخِر الكتاب: وكتب فلان (5) .

____________________

(1) رجال النجاشي: ص6 في ذكر الطبقة الأُولى.

(2) هو عبد الله بن عمرو اليشكري، عالِم نسّابة، ومساءلته لأمير المؤمنين (عليه السلام) معروفة.

(3) كتاب سُليم بن قيس الهلالي برواية أبان بن أبي البصري التابعي: ص213 - 214.

(4) الطبقات لابن سعد: ج3، ق2، ص59، طبع ليدن.

(5) الإصابة لابن حجر: ج1، ص19. الاستيعاب بهامشه، ج1، ص50 و51.

١١٩

وهو الذي أمر الله رسوله أن يقرأ عليه القرآن ويعرضه عليه، وكان ممّن عُرضت عليه الفرصة الأخيرة، ومن ثمّ تولّى المرجعية الأعلى لِلِجْنة توحيد المصاحف على عهد عثمان، كان هو المُملي عليهم، وكان إذا تدارؤوا في شيء يُصحّحه لهم، وغير ذلك ممّا شرحناه في الجزء الأوّل من التمهيد (1) .

وكان زيد جاراً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالمدينة، كان إذا لم يحضر أُبيّ دعاه ليكتب له، ولاسيّما رسائله بالعِبرية، ثمّ تداوم هو وأُبيّ الكتابة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله).

قال ابن عبد البرّ: كانا يكتبان الوحي بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ويكتبان كُتبه إلى الناس وما يقطع وغير ذلك، قال: وكان زيد ألزم الصحابة لكتابة الوحي، وكان يكتب كثيراً من الرسائل (2) .

أخرج ابن داود السجستاني بإسناده إلى ثابت عن زيد بن ثابت قال، قال النبي (صلّى الله عليه وآله): (أتُحسن السريانية، فإنّها تأتيني كتُب؟) قلت: لا، قال: فتعلّمتها...

وأخرج ابن سعد: أنّه قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لمّا قدِم المدينة: (تعلّم كتاب اليهود، فإنّي والله ما آمِن اليهود على كتابي)، قال: فتعلّمته في أقلّ من نصف شهر. وفي حديثه الآخر: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (يأتيني كتُب من أُناس لا أحبّ أن يقرأها أحد، فهل تستطيع أن تتعلَّم كتاب العبرانية، أو قال: السريانية؟) فقلت: نعم، قال: فتعلّمتها في سبع عشرة ليلة - أو في تسعة عشر يوماً - (3) .

والظاهر أنّ الصحيح هي العِبرية؛ لأنّها كانت لغة اليهود الدارجة، وبها كانت كتاباتهم آنذاك.

* * *

____________________

(1) راجع التمهيد: ج1، ص340 و348 / والمصاحف السجستاني: ص30.

(2) أُسد الغابة لابن الأثير: ج1، ص50 / الاستيعاب بهامش الإصابة: ج1، ص50.

(3) راجع المصاحف للسجستاني: ص3. والطبقات لابن سعد: ج2، ق2، ص115.

والظاهر أنّ تلك المدّة القليلة مُبالغ فيها، أو لعلّه كانت له إلمامة بتلك اللغة فأتقنها في تلك المدّة القصيرة.

١٢٠