تلخيص التمهيد الجزء ١

تلخيص التمهيد8%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 459

  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 78380 / تحميل: 10938
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وهؤلاء الثلاثة - عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وأُبَي بن كعب، وزيد بن ثابت - كانوا هم العمدة في كتابة الوحي، وكانوا حضوره (صلّى الله عليه وآله) في جميع أيّامه أو يتناوَبون.

أمّا غيرهم ممّن عدُّوهم في كُتّاب الوحي، فلم يكونوا بتلك المرتبة.

قال ابن الأثير: وكان من المواظبين على كتابة الرسائل: عبد الله بن الأرقم الزهري.

وكان الكاتب لعهود رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذا عاهدَ، وصُلحه إذا صالح: عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) .

قال: وممّن كتب لرسول الله (صلّى الله عليه وآله): الخلفاء الثلاثة، والزبير بن العوّام، وخالد، وأبان ابنا سعيد بن العاص، وحنظلة الأسيدي، والعلاء بن الحضرمي، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن رواحة، ومحمّد بن مسلمة، وعبد الله بن عبد الله بن أبي سلول، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وجهم - أو جهيم - بن الصلت، ومعيقيب بن أبي فاطمة، وشرحبيل بن حسنة، وهكذا ذكر ابن عبد البرّ في الاستيعاب (١) .

والظاهر أنّ هؤلاء كانوا أهل قراءة وكتابة في العرب آنذاك، فكان النبي (صلّى الله عليه وآله) يستخدمهم أحياناً لكتاباته إذا لم يحضر كُتّابه الرسميّون.

وقد عدّ أبو عبد الله الزنجاني أكثر من أربعين شخصاً كانوا يكتبون لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) (٢) ، والظاهر أنّهم من هذا القبيل.

قال ابن الأثير: وأوّل مَن كتب له (صلّى الله عليه وآله) من قريش: عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ثمّ ارتدّ ورجع إلى مكّة، فنزل فيه: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ) (٣) .

____________________

(١) أُسد الغابة لأبن الأثير: ج١، ص٥٠ / الاستيعاب بهامش الإصابة: ج١، ص٥٠.

(٢) تاريخ القرآن للزنجاني: ص٢٠ - ٢١.

(٣) أُسد الغابة: ج١، ص٥٠ / والآية ٩٣ من سورة الأنعام.

١٢١

يقال: إنّه (صلّى الله عليه وآله) أمْلى عليه ذات يوم: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ - إلى قوله - ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ) فجرى على لسان عبد الله بن سعد: ( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (١) فأمْلاه النبي (صلّى الله عليه وآله) كذلك، وقال: هكذا أُنزل، فارتدّ عدوّ الله وشكّ في الأمر، زاعماً أنّه ينزل عليه الوحي كما ينزل على النبي (صلّى الله عليه وآله)، وهدرَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) دمه.

فلمّا كان يوم الفتح جاء به عثمان - وهو أخوه من الرضاعة - مستعفياً له، فسكت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فأعاد عليه فسكت، لعلّه مَن ينتدب فيقتله، حتّى أعفاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعثمان، فلمّا مضَيا قال لأصحابه: (ألم أقُل مَن رآه فليقتله؟ فقال عبّاد بن بشر: كانت عيني إليك يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن تشير إليّ فأقتله، فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): الأنبياء لا يقتلون بالإشارة)، وهكذا في الرواية عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (نزلت في ابن أبي سرح) (٢) .

كان الكتَبة على عهده (صلّى الله عليه وآله) يكتبون ما نزل من القرآن على ما تيسّر لهم الكتابة عليه، من: العُسُب (٣) ، واللِّخاف (٤) ، والرقاع (٥) ، وقطع الأديم (٦) ، وعظام الأكتاف والأضلاع، وأحيانا القراطيس المهيّأة لهم ذلك العهد.

ثمّ يوضع المكتوب - أيّاً كان - في بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهكذا انقضى العهد النبويّ السعيد والقرآن مجموع على هذا النمط، بيد أنّه لم يُكتب تماماً في صُحف ولا رُتّب في مصاحف، بل كُتب منثوراً على الرقاع وقِطَع الأديم والقراطيس، ممّا ذكرنا.

____________________

(١) المؤمنون: ١٢ - ١٤.

(٢) راجع مجمع البيان: ج٤، ص٣٣٥ الطبعة الإسلامية.

(٣) العُسُب - بضمّتين -: جمع عسيب، وهو جريد النخل، كانوا يكشفون الخوص و يكتبون في الطرف العريض.

(٤) اللِخاف - بكسر اللام -: جمع لَخفة - بفتح اللام وسكون الخاء - وهي الحجارة الرقيقة، أو هي صفائح الحجارة.

(٥) الرقاع: جمع رقعة، تكون من جِلد، أو ورق، أو كاغد.

(٦) الأديم: الجِلْد.

١٢٢

قال زيد بن ثابت: كنّا عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فأُلِّف القرآن من الرقاع (١) ، أي نجمعه في مكان أو في وعاء، وهكذا الصحابة قد يستنسخ بعضهم سورة أو سوَراً من القرآن، ويجعلها في وعاء كان يسمّى الصُحف ويعلّقه في بيته.. كلّ ذلك من غير مراعاة ترتيب بين السوَر كما هو الآن (٢) .

نعم، كان التأليف آنذاك - أيّام حياته (صلّى الله عليه وآله) - عبارة عن ترتيب الآيات ضمن السوَر، إمّا حسب النزول - كما هو الأغلب - أو حسب إرشاد النبي (صلّى الله عليه وآله) بتوقيف من جبرائيل، كان يقول: (ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا).

أمّا الصحابة يومذاك، فكانوا يستنسخون القرآن حسبما تيسّر لهم في قرطاس، أو كِنْف، أو عَظْم، أو نحو ذلك بالمقدار الذي يبلغهم عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أو حسبما يريدونه، وكان الأكثر يعتمدون على حِفْظهم، فلا يُكتب جرياً على عادة العرب في حفظ آثارها وأشعارها وخُطَبها ونحو ذلك (٣) .

قال سيّدنا الطباطبائي (رحمه الله): لم يكن القرآن مؤلّفاً في زمن النبي (صلّى الله عليه وآله)، ولم يكن منه سوى سِوَر وآيات متفرّقة في أيدي الناس (٤) .

* * *

____________________

(١) مناهل العرفان للزرقاني: ج١، ص٢٤٧.

(٢) راجع التمهيد: ج١، ص٢٨٨.

(٣) راجع المناهل: ج١، ص٢٤٧ و٢٤٨.

(٤) تفسير الميزان: ج٣، ص٧٨ و٧٩.

١٢٣

١٢٤

تاريخ القرآن

١ - تأليف القرآن.

٢ - توحيد المصاحف.

١٢٥

١٢٦

١ - تأليف القرآن

- نظْمُ كلماته ضمن الآيات.

- تأليف آياته ضمن السوَر.

- ترتيب سوَره بين الدفّتين.

- تمحيص الرأي المعارض.

- جمْع عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

- وصف مصحف عليّ (عليه السلام) وأمَده.

- جمع زيد بن ثابت.

- منهج زيد في جمع القرآن.

- شكوك واعتراضات.

- مصاحف أخرى للصحابة، أمَدُها ووصفها.

- وصف مصحف ابن مسعود.

- وصف مصحف أُبيّ بن كعب.

١٢٧

تأليفُ القرآن

تأليف القرآن في شكله الحاضر - في نظْم آياته وترتيب سوَره، وكذلك في تشكيله وتنقيطه وتفصيله إلى أجزاء ومقاطع - لم يكن وليدَ عاملٍ واحد، ولم يكتمل في فترة الوحي الأُولى، فقد مرّت عليه أدوار وأطوار، ابتدأت بالعهد الرسالي، وانتهت بدَور توحيد المصاحف على عهد عثمان، ثمَّ إلى عهد الخليل بن أحمد النحويّ الذي أكمل تشكيله بالوضع الموجود.

وهو بحث أشبه بمعالجة قضية تاريخية مذيَّلة عن أحوال وأوضاع مرَّت على هذا الكتاب السماويّ الخالد، غير أنَّ مهمَّتنا الآن هي: العناية بدراسة القرآن من زاوية جمْعه وتأليفه مصحفاً بين دفَّتين، والبحث عن الفترة التي حصل فيها هذا الجمْع والتأليف، وعن العوامل التي لعِبَت هذا الدَور الخطير، ومن ثمَّ سنفصِّل الكلام عن القرآن في عهده الأوَّل الذي لم يتجاوز نصف قرن، ثمَّ نوجز الكلام في أحوال مرّت عليه في أدوار متأخِّرة، والبحث الحاضر يكتمل في ثلاث مراحل أساسية:

أوّلاً: نظْم كلمات القرآن بصورة جُمَل و تراكيب كلامية ضمن الآيات.

ثانياً: تأليف الآيات ضمن السوَر قصيرة أمْ طويلة.

١٢٨

ثالثاً: ترتيب السوَر بين دفَّتين على صورة مصحَف كامل.

ونحن إذ نسير على هذا المنهج لا نتغافل صعوبة المسلك الذي نسلكه بهذا الصدد، إنَّه بحث ذو جوانب خطيرة عن كتاب سماويّ احتفظ على أصالته في ذمّة الخلود، وكفَّل سعادةً عُليا للبشريّة كافَّة إذا ما سارت على ضوء برامجه الحكيمة، وتمسَّكت بعُرى حبْلِه الوثيق، ومن ثمَّ فإنَّ الزلَّة في سبيل الوصول إلى حقائقه ومعارفه خطيرة ومخطرة في نفس الوقت، ونسأله تعالى أن يمدَّنا بتوفيقه ويهدينا إلى طريق الحقِّ والصواب، إنَّه قريبٌ مجيب.

نَظْمُ كلماته:

لا شكَّ أنَّ العامل في نظْم كلمات القرآن وصياغتها جُمَلاً وتراكيب كلامية بديعة هو: الوحي السماويّ المعجز، لم يتدخَّل فيه أيّ يد بشرية إطلاقاً، كما ولم يحدث في هذا النظْم الكلِمي أيّ تغيير أو تحريف عِبر العصور: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (١) إذ في ذلك يتجسَّد سرّ ذلك الإعجاز الخالد، الذي لا يزال يتحدّى به القرآن الكريم، ولمزيد التوضيح نعرض ما يلي:

أوّلاً: إسناد الكلام إلى متكلِّم خاصّ، يستدعي أن يكون هو العامل في تنظيم كلماته وتنسيق أسلوبه التعبيري الخاصّ، أمّا إذا كان هو مُنْتقِياً كلمات مفردة، وجاء آخَر فنظّمها في أسلوب كلاميّ خاصّ، فإنَّ هذا الكلام ينسب إلى الثاني لا الأوَّل.

وهكذا القرآن المجيد هو كلام الله العزيز الحميد، فلابدَّ أن يكون الوحي هو العامل الوحيد في تنظيم كلماته جُمَلاً وتراكيب كلامية بديعة، أمّا نفس الكلمات - من غير اعتبار التركيب والتأليف - فكان العرب يتداولونها ليل نهار، إنَّما الإعجاز في نَظْمها جاء مِن قِبل وحي السماء.

____________________

(١) الحجر: ٩.

١٢٩

ثانياً: كان القِسط الأوفر من إعجاز القرآن كامناً وراء هذا النَظْم البديع وفي أسلوبه هذا التعبيريّ الرائع، من تناسب نغميّ مرِن، وتناسق شِعريّ عجيب، وقد تحدّى القرآن فُصحاء العرب وأرباب البيان - بصورة عامَّة - لو يأتوا بمِثل هذا القرآن، و ( لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (١) ، فلو جوَّزنا - محالاً - إمكان تدخّل يد بشرية في نظْم القرآن كان بمعنى إبطال ذاك التحدّي الصارخ.

ومن ثمَّ كان ما يُنسَب إلى ابن مسعود: جواز تبديل العِهْن بالصوف في الآية الكريمة (٢) ، أو قراءة أبي بكر: (وجاءت سَكْرة الحقّ بالموت) (٣) مكذوباً، أو هو اعتبارٌ شخصيٌّ لا يتّسم بالقرآنية في شيء.

ثالثاً: اتّفاق كلمة الأُمّة في جميع أدوار التاريخ: على أنَّ النظْم الموجود والأسلوب القائم في جُمَل وتراكيب الآيات الكريمة، هو من صُنع الوحي السماويّ لا غيره، الأمر الذي التزمت به جميع الطوائف الإسلامية على مختلف نزعاتهم وآرائهم في سائر المواضيع، ومن ثمَّ لم يتردَّد أحد من علماء الأدب والبيان في آية قرآنية جاءت مخالفة لقواعد رَسموها، في أخْذ الآية حجَّة قاطعة على تلك القاعدة وتأويلها إلى ما يلتئم وتركيب الآية، وذلك عِلماً منهم بأنَّ النظْم الموجود في الآية وحي لا يتسرَّب إليه خطأ البتَّة، وإنَّما الخطأ في فهْمِهم هُم، وفيما استنبطوه من قواعد مرسومة.

مثال ذلك قوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ ) (٤) فزعموا أنَّ الحال لا تتقدَّم على صاحبها المجرور بحرف، والآية جاءت مخالفة لهذه القاعدة، ومن ثمَّ وقع بينهم جدل عريض، ودار بينهم كلام في صحّة تلك القاعدة وسُقْمها (٥) .

____________________

(١) الإسراء: ٨٨.

(٢) القارعة: ٥ / راجع تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة: ص١٩.

(٣) ق: ١٩ / راجع تفسير الطبري: ج٢٦، ص١٠٠، وأصل الآية ( وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ) .

(٤) سبأ: ٢٨.

(٥) راجع شرح التوضيح لخالد الأزهري، والكشّاف للزمخشري.

١٣٠

ولجَأ ابن مالك أخيراً إلى نبذ القاعدة بحجَّة أنَّها مخالفة للآية، قال:

وسَبقُ حالٍ ما بحرف جرٍّ قد

أبَوا ولا أمنعه فقد ورَد

تأليف الآيات:

وأمّا تأليف الآيات ضمن كلِّ سورة - على الترتيب الموجود - فهذا قد تحقَّق في الأكثر الساحق وفْق ترتيب نزولها، كانت السورة تبتدأ ببسم الله الرحمن الرحيم فتُسجَّل الآيات التي تنزل بعدها من نفس هذه السورة، واحدة تلو الأُخرى تدريجيّاً حسب النزول، حتَّى تنزل بسْملة أُخرى، فيُعرَف أنَّ السورة قد انتهت وابتدأت سورة أُخرى.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (كان يُعرَف انقضاء سورة بنزول بسم الله الرحمن الرحيم ابتداءً لأخرى) (١) .

قال ابن عباس: كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يعرِف فصْل سورة بنزول بسم الله الرحمن الرحيم، فيعرف أنَّ السورة قد خُتمت وابتدأت سورة أُخرى (٢) .

كان كتَبة الوحي يعرفون بوجوب تسجيل الآيات ضمن السورة التي نزلت بسْمَلَتُها، حسب ترتيب نزولها واحدة تلو الأُخرى كما تنزل، من غير حاجة إلى تصريح خاصّ بشأن كلِّ آيةٍ آية.

هكذا ترتَّبت آيات السوَر وفْق ترتيب نزولها، على عهد الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، وهذا ما نسمّيه بـ (الترتيب الطبيعي) ، وهو العامل الأوَّل الأساسي للترتيب الموجود بين الآيات في الأكثرية الغالبة.

والمعروف أنَّ مُصحف عليّ (عليه السلام) وُضِع على دِقَّة كاملة من هذا الترتيب

____________________

(١) تفسير العيّاشي: ج١، ص١٩.

(٢) المستدرك للحاكم: كتاب الصلاة، ج١، ص٢٣١. تاريخ اليعقوبي: ج٢، ص٢٧، طبع الحيدري.

١٣١

الطبيعي للنزول، الأمر الذي تخلَّفت عنه مصاحف سائر الصحابة، على ما سنشير.

* * *

وهناك عامل آخر عمل في نظْم قِسم من الآيات على خلاف ترتيب نزولها، وذلك بنصٍّ من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وتعيينه الخاصّ، كان يأمر - أحياناً - بثبْت آية في موضعٍ خاصّ من سورة سابقة كانت قد خُتمت من قبْل، ولا شكَّ أنَّه (صلّى الله عليه وآله) كان يرى المناسبة القريبة بين هذه الآية النازلة والآيات التي سبَقَ نزولها، فيأمر بثبْتها معها بإذن الله تعالى.

وهذا جانب استثنائي للخروج عن ترتيب النزول، كان بحاجة إلى تصريح خاصّ: روى أحمد في مسنده عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالساً عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذ شخَصَ ببصرِه ثمَّ صوَّبه، ثمَّ قال: (أتاني جبرائيل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى ) ) (١) فجُعلت في سورة النَحْل بين آيات الاستشهاد وآيات العهد (٢) .

وروي أنَّ آخِر آية نزلت قولُهُ تعالى: ( وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللّهِ ) (٣) فأشار جبرائيل أن توضع بين آيتَي الرِبا والدَين من سورة البقرة (٤) .

وعن ابن عبّاس والسدّي: أنَّها آخِر ما نزلت من القرآن، قال جبرائيل: (ضعْها في رأس الثمانين والمئتين) (٥).

وعن ابن عبّاس أيضاً قال: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السوَر ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض مَن كان يكتب

____________________

(١) النحل: ٩٠.

(٢) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي: ج١، ص٦٢.

(٣) البقرة: ٢٨١.

(٤) الإتقان: ج١، ص٦٢.

(٥) مجمع البيان للطبرسي: ج٢، ص٣٩٤.

١٣٢

فيقول: (ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا) (١) .

هذا ممّا لا خلاف فيه، كما صرَّح بذلك أبو جعفر بن الزبير (٢) .

ترتيب السِوَر:

وأمّا جمْع السوَر هو ترتيبها بصورة مصحف مؤلَّف بين دفَّتين، فهذا قد حصل بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله).

انقضى العهد النبوي والقرآن منثور على العُسُب، واللِخاف، والرقاع، وقِطَع الأديم (٣) ، وعِظام الأكتاف والأضلاع، وبعض الحرير والقراطيس، وفي صدور الرجال.

كانت السِوَر مكتملة على عهده (صلّى الله عليه وآله) مرتَّبة آياتها وأسماؤها، غير أنَّ جمعها بين دفَّتين لم يكن حصل بعد؛ نظراً لترقّب نزول قرآن على عهده (صلّى الله عليه وآله)، فما دام لم ينقطع الوحي لم يصحّ تأليف السوَر مصحفاً، إلاّ بعد الاكتمال وانقطاع الوحي، الأمر الذي لم يكن يتحقّق إلاّ بانقضاء عهد النبوَّة واكتمال الوحي.

قال جلال الدين السيوطي: كان القرآن كُتب كلّه في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، لكن غير مجموع في موضع واحد ولا مرتَّب السوَر (٤) .

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام): يا عليّ، القرآن خلف فِراشي في الصحُف والحرير والقراطيس، فخُذوه واجمَعوه ولا تضيِّعوه) (٥) .

وأوَّل مَن قام بجمْع القرآن بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) مباشرة وبوصيّةٍ منه هو:

____________________

(١) أخرجه الترمذي بطريقٍ حسَن والحاكم بطريقٍ صحيح. (راجع البرهان للزركشي: ج١، ص ٢٤١. وتاريخ اليعقوبي: ج٢، ص٣٦، طبع الحيدري).

(٢) الإتقان: ج١، ص٦٠.

(٣) العسيب: جريدة النخل إذا كشط خُوصها، واللخف: حجارة بيض رقاق، والأديم: الجِلد المدبوغ، وهكذا ذهب السيد الطباطبائي إلى أنّه لم يُجمع القرآن على عهده (صلّى الله عليه وآله). (راجع الميزان: ج٣، ص٧٨).

(٤) الإتقان: ج١، ص٥٧. مناهل العرفان للزرقاني: ج١، ص٢٤٠.

(٥) بحار الأنوار: ج٩٢، ص٤٨.

١٣٣

الإمام عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، ثمَّ قام بجمْعه زيد بن ثابت بأمرٍ من أبي بكر، كما قام بجمْعه كلّ من: ابن مسعود، وأُبَي بن كعب، وأبي موسى الأشعري وغيرهم، حتّى انتهى الأمر إلى دَور عثمان، فقام بتوحيد المصاحف وإرسال نُسَخ موحَّدة إلى أطراف البلاد، وحملَ الناس على قراءتها وترْك ما سواها - على ما سنذكر -.

كان جمعُ عليّ (عليه السلام) وفْق ترتيب النزول: المكّي مقدَّم على المدَني، والمنسوخ مقدَّم على الناسخ، مع الإشارة إلى مواقع نزولها ومناسبات النزول.

قال الكلبي: لمّا توفّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قعد عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في بيته، فجمَعه على ترتيب نزوله، ولو وُجِد مصحفُه لكان فيه عِلمٌ كبير (١) .

وقال عكرمة: لو اجتمعت الإنْس والجِنّ على أن يؤلّفوه كتأليف عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ما استطاعوا (٢) .

وأمّا جمْع غيره من الصحابة فكان على ترتيبٍ آخر: قدَّموا السوَر الطِوال على القِصار، فقد أثبتوا السبْع الطوال : (البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنعام، الأعراف، يونس) قبل المئين : (الأنفال، براءة، النحل، هود، يوسف، الكهف، الإسراء، الأنبياء، طه، المؤمنون، الشعراء، الصافّات)، ثمَّ المثاني : (هي التي تقلّ آياتها عن مئة، وهي عشرون سورة تقريباً)، ثمَّ الحواميم : (السور التي افتُتحت بـ حم)، ثمَّ ا لمفصَّلات : (ذوات الآيات القِصار) لكثرة فواصلها، وهي السوَر الأخيرة في القرآن.

وهذا يقرب نوعاً ما من الترتيب الموجود الآن - على ما سيأتي -.

نعم، لم يكن جمْع زيد مرتّباً ولا منتظماً كمُصحف، وإنَّما كان الاهتمام في ذلك الوقت على جمع القرآن عن الضياع، وضبط آياته وسوَره حذراً عن التلف بموت حامِليه، فدوّنت في صُحف وجُعلت في إضبارة، وأُودعت عند أبي بكر

____________________

(١) التسهيل لعلوم التنزيل: ج١، ص٤.

(٢) الإتقان: ج١، ص٥٧.

١٣٤

مدَّة حياته، ثمَّ عند عُمَر بن الخطّاب حتّى توفّاه الله، فصارت عند ابنته حفْصة، وهي النُسخة التي أخذَها عثمان لمقابلة المصاحف عليها، ثمَّ ردّها عليها، وكانت عندها إلى أن ماتت، فاستلَبها مروان من ورَثَتها حينما كان والياً على المدينة من قِبل معاوية، فأمَر بها فشُقَّت، وسنذكر كلَّ ذلك بتفصيل.

تمحيص الرأي المعارض:

ما قدَّمنا هو المعروف عن رواة الآثار، وعند الباحثين عن شؤون القرآن، منذ الصدر الأوَّل فإلى يومنا هذا، ويوشك أن يتَّفق عليه كلمة أرباب السِيَر والتواريخ، ولكن مع ذلك نجد مَن ينكر ذاك التفصيل في جمع القرآن، ويرى أنَّ القرآن بنَظْمه القائم وترتيبه الحاضر، كان قد حصل في حياة الرسول (صلّى الله عليه وآله).

وقد ذهب إلى هذا الرأي جماعة من علماء السلَف: كالقاضي، وابن الأنباري، والكرماني، والطيّبي (١) ، ووافَقهم عَلَم الهدى السيّد المرتضى (قدّس سرّه)، قال: كان القرآن على عهده (صلّى الله عليه وآله) مجموعاً مؤلَّفاً على ما هو عليه الآن، واستدلّ على ذلك: بأنَّ القرآن كان يُدَرَّس ويُحفظ جميعه في ذلك الزمان حتى عُيّن جماعة من الصحابة في حفظِهم له، وأنّه كان يُعرَض على النبي (صلّى الله عليه وآله) ويُتلى عليه، وأنّ جماعة من الصحابة مثل: عبد الله بن مسعود، وأُبيّ بن كعب، وغيرهما ختموا القرآن على النبي - (صلّى الله عليه وآله) - عدَّة ختْمات، وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتّباً غير مبتور ولا مبثوث (٢) .

لكن حِفظ القرآن: هو بمعنى حِفظ جميع سوَره التي اكتملت آياتها، سواء أكان بين السوَر ترتيب أمْ لا، وهكذا ختمُ القرآن: هو بمعنى قراءة جميع سوَره من غير لحاظ ترتيب خاصّ بينها، أو الحِفظ كان بمعنى الاحتفاظ على جميع القرآن

____________________

(١) الإتقان: ج١، ص٦٢.

(٢) مجمع البيان: ج١، ص١٥.

١٣٥

النازل لحدّ ذاك، والتحفّظ عليه دون الضياع والتفرقة، الأمر الذي لا يدلّ على وجود ترتيب خاصّ كان بين سوَره كما هو الآن.

هذا، وقد ذهب إلى ترجيح هذا الرأي أيضاً سيدّنا الأستاذ الإمام الخوئي (رحمه الله) نظراً إلى الأمور التالية:

أوّلاً: أحاديث جمْع القرآن بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) بنفسها متناقضة، تتضارب مع بعضها البعض، ففي بعضها تحديد زمن الجمع بعهد أبي بكر، وفي آخر بعهد عمَر، وفي ثالث بعهد عثمان، كما أنَّ البعض ينصّ على أنَّ أوّل مَن جمَع القرآن هو زيد بن ثابت، وآخر ينصّ على أنَّه أبو بكر، وفي ثالث أنَّه عمَر، إلى أمثال ذلك من تناقضات ظاهرة.

ثانياً: معارضتها بأحاديث دلَّت على أنَّ القرآن كان قد جُمع على عهده (صلّى الله عليه وآله)، منها حديث الشعبي، قال: جَمَع القرآن على عهده ستَّة: أُبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وسعد بن عبيد، وأبو زيد. وفي حديث أنَس أنَّهم أربعة: أُبَي، ومعاذ، وزيد، وأبو زيد، وأمثال ذلك.

ثالثاً: منافاتها مع آيات التحدّي، التي هي دالَّة على اكتمال سوَر القرآن وتمايز بعضها عن بعض، ومتنافية أيضاً مع إطلاق لفظ الكتاب على القرآن في لسانه (صلّى الله عليه وآله)، الظاهر في كونه مؤلَّفاً كتاباً مجموعاً بين دفَّتين.

رابعاً: مخالفة ذلك مع حُكم العقل بوجوب اهتمام النبي (صلّى الله عليه وآله) بجمْعه وضبطه عن الضياع والإهمال.

خامساً: مخالفته مع إجماع المسلمين، حيث يَعتبرون النصَّ القرآني متواتراً عن النبيّ نفسه، في حين أنَّ بعض هذه الروايات تشير إلى اكتفاء الجامِعين بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله) بشهادة رجُلين أو رجُل واحد!.

سادساً: استلزام ذلك تحريفاً في نصوص الكتاب العزيز، حيث طبيعة الجمْع المتأخّر تستدعي وقوع نقص أو زيادة في القرآن، وهذا مخالف لضرورة

١٣٦

الدِين (١) .

وزاد بعضهم: أنَّ في المناسبة الموجودة بين كلِّ سورة مع سابقتها ولاحِقتها، لدليلاً على أنَّ نظْمها وترتيبها كان بأمر الرسول (صلّى الله عليه وآله)، إذ لا يَعرِف المناسبة بهذا الشكل المبدع البالغ حدَّ الإعجاز غيرُه (صلّى الله عليه وآله).

* * *

لكن يجب أن يُعلَم: أنَّ قضيَّة جمْع القرآن حدَثٌ من أحداث التاريخ، وليست مسألة عقلانية قابلة للبحث والجدل فيها، وعليه فيجب مراجعة النصوص التاريخية المستندة من غير أن يكون مجال لتجوال الفِكر فيها على أيَّة حال!.

وقد سبَق اتّفاق كلمة المؤرِّخين، ونصوص أرباب السِيَر وأخبار الأمم، ووافَقهم أصحاب الحديث طرّاً، على أنَّ ترتيب السوَر شيء حصل بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ولم يكن بالترتيب الذي نزلتْ عليه السوَر.

وبعد، فلا نرى أيَّ مناقضة بين روايات جمْع القرآن، إذ لا شكَّ أنَّ عمَر هو الذي أشار على أبي بكر بجمْع القرآن، وهذا الأخير أمَر زيداً أن يتصدّى القضية من قِبَلِه، فيصحّ إسناد الجمْع الأوَّل إلى كلٍّ من الثَلاثة بهذا الاعتبار.

نعم، نسبة الجمْع إلى عثمان كانت باعتبار توحيده للمصاحف ونَسْخها في صورة موحَّدة، وأمّا نسبة توحيد المصاحف إلى عُمَر فهو من اشتباه الراوي قطعاً؛ لأنَّ الذي فعَل ذلك هو عثمان بإجماع المؤرِّخين.

وحديث ستَّة أو أربعة جمعوا القرآن على عهده (صلّى الله عليه وآله) فمعناه: الحِفظ عن ظَهْر القلب، حفظوا جميع الآيات النازلة لحدّ ذاك الوقت، أمّا الدلالة على وجود نَظْم كان بين سوَره فلا.

وأمّا حديث التحدّي فكان بنفس الآيات والسوَر، وكلُّ آية أو سورة قرآن، ولم يكن التحدّي يوماً ما بالترتيب القائم بين السوَر؛ كي يتوجَّه الاستدلال المذكور! ز

____________________

(١) راجع البيان في تفسير القرآن للإمام الخوئي: ص٢٥٧ - ٢٧٨.

١٣٧

على أنَّ التحدّي وقَع في سوَر مكّية (١) أيضاً، ولم يُجمَع القرآن قبل الهجرة قطعاً.

واهتمام النبي (صلّى الله عليه وآله) بشأن القرآن، شيء لا ينكَر، ومن ثمَّ كان حريصاً على ثبْت الآيات ضمن سوَرها فور نزولها، وقد حصل النَظْم بين آيات كلِّ سورة في حياته (صلّى الله عليه وآله).

أمّا الجمْع بين السوَر وترتيبها كمصحف موحَّد فلم يحصل حينذاك؛ نظراً لترقّب نزول قرآن عليه، فما لم ينقطع الوحي لا يصحّ جمع القرآن بين دفَّتين ككتاب، ومن ثمَّ لمّا أيقن بانقطاع الوحي بوفاته (صلّى الله عليه وآله) أوصى إلى عليّ (عليه السلام) بجمْعه.

ومعنى تواتر النصّ القرآني هو: القطع بكونه وحْياً، الأمر الذي يحصل من كلّ مستند وثيق، وليس التواتر - هنا - بمعناه المصطلح عند الأصوليين.

وأمّا استلزام تأخّر الجمْع تحريفاً في كتاب الله، فهو احتمال مجرَّد لا سنَد له، بعد معرفتنا بضبط الجامِعين وقُرب عهدهم بنزول الآيات، وشدَّة احتياطهم على الوحي، بما لا يدَع مجالاً لتسرّب احتمال زيادة أو نقصان.

وأخيراً، فإنّ قولة البعض الأخيرة فهي لا تعدو خيالاً فارغاً، إذ لا مناسبة ذاتية بين كلِّ سورة وسابقتها أو تالِيَتها، سوى ما زعَمه بعض المفسِّرين المتكلِّفين، وهو تمحّل باطل بعد إجماع الأمّة على أنَّ ترتيب السوَر كان على خلاف ترتيب النزول بلا شكّ.

إذاً لا يملك معارضونا دليلاً يُثنينا عن الذي عزَمْنا عليه من تفصيل حديث الجمْع، وإليك:

جمعُ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام):

أوَّل مَن تصدّى لجمْع القرآن بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) مباشرة وبوصيّةٍ منه (٢) هو

____________________

(١) في سورة يونس: ٣٨، وسورة هود: ١٣، وهما مكّيَّتان.

(٢) راجع تفسير القمّي: ص٧٤٥. وبحار الأنوار: ج٩٢، ص٤٨ و٥٢.

١٣٨

عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، قعَد في بيته مشتغلاً بجمْع القرآن وترتيبه على ما نزل، مع شروح وتفاسير لمواضع مبهمة من الآيات، وبيان أسباب النزول ومواقع النزول بتفصيل حتّى أكمله على هذا النمط البديع.

قال ابن النديم - بسنَدٍ يذكره -: إنَّ عليّاً (عليه السلام) رأى من الناس طَيرة عند وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله)، فأقسَم أن لا يضع رداءه حتّى يجمَع القرآن، فجلس في بيته ثلاثة أيّام (١) حتّى جمَع القرآن، فهو أوّل مُصحف جمع فيه القرآن من قلْبِه (٢) ، وكان هذا المصحف عند آل جعفر.

قال: ورأيت أنا في زماننا عند أبي يعلى حمزة الحسني (رحمه الله) مصحفاً قد سقط منه أوراق، بخطّ عليّ بن أبي طالب، يتوارثه بنو حسَن (٣) .

وهكذا روى أحمد بن فارس عن السدّي، عن عبد خير، عن عليّ (عليه السلام) (٤) .

وروى محمَّد بن سيرين عن عكرمة، قال: لمّا كان بدْء خلافة أبي بكر، قعَد عليّ بن أبي طالب في بيته يجمع القرآن، قال: قلت لعكرمة: هل كان تأليف غيره كما أُنزل الأوَّل فالأوَّل؟ قال: لو اجتمعت الإنس والجنُّ على أن يؤلِّفوه هذا التأليف ما استطاعوا.

قال ابن سيرين: تطلَّبت ذلك الكتاب وكتبت فيه إلى المدينة، فلم أقدر عليه (٥) .

قال ابن جزي الكلبي: كان القرآن على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مفرَّقاً في

____________________

(١) ولعلّه سهو من الراوي؛ لأنّ الصحيح أنّه (عليه السلام) أكمل جمع القرآن لمدّة ستة أشهر، كان لا يرتدي خلالها إلاّ للصلاة (راجع المناقب: ج٢، ص٤٠).

(٢) قال ابن عبّاس: فجمع الله القرآن في قلْب عليّ، وجمعه عليّ بعد موت رسول الله (صلّى الله عليهما وآلهما) بستّة أشهر (نفس المصدر السابق).

(٣) الفهرست: ص٤٧ - ٤٨.

(٤) في كتابة (الصاحبي): ص١٦٩. هامش تأويل مشكل القرآن: ص٢٧٥ الطبعة الثانية.

(٥) الإتقان: ج١، ص٥٧. وراجع الطبقات: ج٢، ق٢، ص١٠١. والاستيعاب بهامش الإصابة: ج٢، ص٢٥٣.

١٣٩

الصحُف وفي صدور الرجال، فلمّا توفّي جَمَعه عليّ بن أبي طالب على ترتيب نزوله، ولو وجِد مصحفه لكان فيه عِلم كبير، ولكنَّه لم يوجد (١) .

قال الإمام الباقر (عليه السلام): (ما من أحد من الناس يقول إنَّه جَمع القرآن كلَّه كما أنزلَ الله إلاّ كذّاب، وما جمَعه وما حَفظه كما أنزل الله إلاّ عليّ بن أبي طالب) (٢) .

قال الشيخ المفيد - في المسائل السروية -: وقد جمَع أمير المؤمنين (عليه السلام) القرآن المُنزَل من أوَّله إلى آخِره، وألَّفه بحسَب ما وجب تأليفه، فقدَّم المكّي على المدَني، والمنسوخ على الناسخ، ووضع كلَّ شيء منه في حقّه (٣) .

وقال العلاّمة البلاغي: من المعلوم عند الشيعة أنَّ عليّاً أمير المؤمنين (عليه السلام) - بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) - لم يرتدِ برداء إلاّ للصلاة حتّى جمَع القرآن على ترتيب نزوله، وتقدُّم منسوخه على ناسِخه.

وأخرج ابن سعد، وابن عبد البرّ في الاستيعاب عن محمَّد بن سيرين، قال: نُبِّئت أنَّ عليّاً أبطأ عن بيعة أبي بكر، فقال: أكرهتَ إمارتي؟ فقال: (آليت بيميني أن لا أرتدي برداء إلاّ للصلاة حتّى أجمع القرآن)، قال: فزعموا أنَّه كتبه على تنزيله. قال محمّد: فلو أصبتُ ذلك الكتاب كان فيه عِلم (٤) .

قال ابن حجر: وقد ورد أنَّ عليّاً جمَع القرآن على ترتيب النزول عقِب موت النبي (صلّى الله عليه وآله). أخرجه ابن أبي داود (٥) .

قال ابن شهرآشوب: ومن عجَب أمرِه في هذا الباب، أنَّه لا شيء من العلوم إلاّ وأهلُه يجعلون عليّاً قُدوة، فصار قوله قِبلةً في الشريعة، فمنه سُمع القرآن.

ذكَر الشيرازي في نزول القرآن عن ابن عبّاس قال: ضمِنَ الله محمَّداً أن يجمَع القرآن

____________________

(١) التسهيل لعلوم التنزيل: ج١، ص٤.

(٢) بحار الأنوار: ج٩٢، ص٨٨.

(٣) نفس المصدر السابق.

(٤) آلاء الرحمان: ج١، ص١٨ بالهامش. وراجع الطبقات: ج٢، ق٢، ص١٠١. والاستيعاب بهامش الإصابة: ج٢، ص٢٥٣.

(٥) الإتقان: ج١، ص٧١ - ٧٢.

١٤٠

بعده عليّ بن أبي طالب (عليه السلام). قال: فجمَع الله القرآن في قلْب عليّ، وجمَعه عليّ بعد موت رسول الله بستَّة أشهر.

قال: وفي أخبار أبي رافع: أنَّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال في مرضه الذي توفّي فيه لعليّ: (يا عليّ، هذا كتاب الله خُذه إليك)، فجمَعه عليّ في ثوبٍ و مضى إلى منزله، فلمّا قُبض النبي (صلّى الله عليه وآله) جلَس عليّ فألّفه كما أنزل الله، وكان به عالماً.

قال: و حدّثني أبو العلاء العطّار، والموفَّق خطيب خوارزم في كتابيهما بالإسناد عن عليّ بن رباح: أنَّ النبي (صلّى الله عليه وآله) أمر عليّاً بتأليف القرآن فألّفه وكتَبه.

وروى أبو نعيم في الحلية، والخطيب في الأربعين بالإسناد عن السدّي، عن عبد خير، عن عليّ (عليه السلام) قال: (لمّا قُبض رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أقسمتُ أن لا أضع ردائي على ظهري حتّى أجمع ما بين اللوحَين، فما وضعت ردائي حتّى جمعت القرآن).

قال: وفي أخبار أهل البيت (عليهم السلام) أنَّه (عليه السلام): (آلى على نفسه أن لا يضع رداءه على عاتقه إلاّ للصلاة حتّى يؤلِّف القرآن ويجمَعه، فانقطع عنهم مدَّة إلى أن جمَعَه، ثمَّ خرج إليهم به في إزار يحمِلُه وهم مجتمعون في المسجد، فأنكروا مصيره بعد انقطاع مع الإلْبة، فقالوا: لأمرٍ مّا جاء أبو الحسن، فلمّا توسَّطهم وضعَ الكتاب بينهم، ثمَّ قال: إنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: إنّي مخلِّف فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلّوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، وهذا الكتاب، وأنا العترة. فقام إليه الثاني وقال له: إن يكن عندك قرآن فعندنا مثله، فلا حاجة لنا فيكما. فحمل (عليه السلام) الكتاب وعاد به بعد أن ألزمهم الحجَّة).

وفي خبر طويل عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه: (حمَلهُ وولّى راجعاً نحو حُجرته، وهو يقول: ( فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ) ) (1) .

____________________

(1) مناقب ابن شهرآشوب: ج2، ص40 - 41. وراجع بحار الأنوار: ج92، ص51 - 52. والآية 187 من سورة آل عمران.

١٤١

وصفُ مُصحف عليّ (عليه السلام):

امتاز مُصحفُه (عليه السلام):

أوّلاً: بترتيبه الموضوع على ترتيب النزول، الأوَّل فالأوّل في دِقَّة فائقة.

ثانياً: إثبات نصوص الكتاب كما هي من غير تحوير أو تغيير، أو أن تشذّ منه كلمة أو آية.

ثالثاً: إثبات قراءته كما قرأه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حرْفاً بحَرْف.

رابعاً: اشتماله على توضيحات - على الهامش طبعاً - وبيان المناسَبة التي استدعَت نزول الآية، والمكان الذي نزلت فيه، والساعة التي نزلت فيها، والأشخاص الذين نزلت فيهم.

خامساً: اشتماله على الجوانب العامَّة من الآيات، بحيث لا تخصّ زماناً ولا مكاناً ولا شخصاً خاصّاً، فهي تجري كما تجري الشمس والقمر. وهذا هو المقصود من التأويل في قوله (عليه السلام): (ولقد جئتُهم بالكتاب مشتملاً على التنزيل والتأويل) (1) .

فالتنزيل هو: المناسَبة الوقتية التي استدعَت النزول، والتأويل هو: بيان المجرى العامّ.

كان مصحف عليّ (عليه السلام) مشتملاً على كلّ هذه الدقائق التي أخذَها عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، من غير أن ينسى منها شيئاً أو يشتبه عليه شيء.

قال (عليه السلام): (ما نزلت آية على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلاّ أقرأَنيها وأمْلاها عليَّ، فأكتبها بخطّي، وعلَّمني تأويلها وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها، ومُحكَمها ومتشابهها، ودعا الله لي أن يعلِّمني فهْمها وحِفظها، فما نسيت آية من كتاب الله،

____________________

(1) آلاء الرحمان: ج1، ص257.

١٤٢

ولا عِلماً أملاه عليّ فكتبته منذ دعا لي ما دعا) (1) .

وعن الأصبغ بن نباتة، قال: قَدِم أمير المؤمنين (عليه السلام) الكوفة، صلَّى بهم أربعين صباحاً يقرأ بهم (سبّح اسم ربِّك الأعلى)، فقال المنافقون: لا والله ما يُحسن ابن أبي طالب أن يقرأ القرآن، ولو أحسن أن يقرأ القرآن لقرأ بنا غير هذه السورة! قال: فبلَغ ذلك عليّاً (عليه السلام) فقال: (ويلٌ لهم، إنّي لأعرِفُ ناسِخه من منسوخه، ومحكَمه من متشابهه، وفصْله من فِصاله، وحروفه من معانيه، والله ما من حرفٍ نزل على محمَّد (صلّى الله عليه وآله) إلاّ أنّي أعرف فيمن أُنزل، وفي أيِّ يوم وفي أيِّ موضع، ويلٌ لهم أما يقرأون: ( إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ) (2) ؟ والله عندي، ورثتهما من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد أنهى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من إبراهيم وموسى (عليهما السلام)، ويلٌ لهم والله أنا الذي أنزلَ الله فيَّ: ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) (3) ، فإنَّما كنّا عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيُخبرنا بالوحي فأعيَه أنا ومَن يعيَه، فإذا خرجنا قالوا: ماذا قال آنفاً؟) (4) .

هذا، ولليعقوبي وصف غريب عن مصحف عليّ (عليه السلام)، قال: يجزّئه سبعة أجزاء، كلّ جزء يحتوي على ستّ عشرة أو خمس عشرة سورة، لتكون مجموع السور مئة وإحدى عشرة سورة! وكلّ جزء لابدَّ أن تبلغ آياته ثمانمئة وستّاً وثمانين آية، فيكون مجموع آيات المصحف ستَّة آلاف واثنتين ومئتي آية.

ويجعل مبدأ الجزء الأوَّل: سورة البقرة، ثم سورة يوسف، ثمَّ العنكبوت، وينتهي إلى سورة الأعلى والبيّنة، ويسمّيه (جزء البقرة).

ويجعل مبدأ الجزء الثاني: آل عمران، ثمَّ هود، والحجّ، وينتهي إلى سورة الفيل، وقريش، ويسمّيه (جزء آل عمران).

ويجعل مبدأ الجزء الثالث: سورة النساء، وآخِره النَمل، ويسمّيه (جزء النساء).

____________________

(1) تفسير البرهان: ج1، ص16.

(2) الأعلى: 18 و19.

(3) الحاقّة: 12.

(4) تفسير العيّاشي: ج1، ص14.

١٤٣

ومبدأ الجزء الرابع: المائدة، وآخره الكافرون.

ومبدأ الجزء الخامس: الأنعام، ومنتهاه التكاثر.

ومبدأ الجزء السادس: الأعراف، ومنتهاه النصر.

ومبدأ الجزء السابع: الأنفال، وآخره الناس.

وهكذا يوزِّع السوَر الطوال على مبادئ الأجزاء السبعة ويتدرَّج إلى القِصار، ويسمّي كلَّ جزء باسم السورة التي بدأ بها (1) .

وهذا الوصف يخالف تماماً وصف الآخرين: أنّه كان مرتَّباً حسب النزول.

قال جلال الدين: كان أوَّل مصحف عليٍّ (عليه السلام) سورة اقرأ، ثمَّ سورة المدَّثر، ثمَّ نون، ثمَّ المزَّمِّل، ثمَّ تبَّت، ثمَّ التكوير، وهكذا إلى آخر ترتيب السوَر حسب نزولها (2) ، ومن ثمَّ فهذا الوصف مخالف لإجماع أرباب السيَر والتاريخ.

ومن الغريب أنَّه جعلَ: ألم تنزيل والسجدة سورتين، وحم والمؤمن سورتين، وطس والنمل سورتين، وطسم والشعراء سورتين، في حين أنَّ كلاًّ منهما سورة واحدة، وعبَّر عن سورة الأنبياء بسورة اقتربت، في حين أنَّها تبتدئ بقوله تعالى: ( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ) .

وهذه الغفلة من مثل أحمد بن الواضح الكاتب الإخباري غريبة جدّاً!.

* * *

وأمّا مصحف عليّ (عليه السلام)، فقد روى سُليم بن قيس الهلالي عن سلمان الفارسي رضوان الله عليه قال: لمّا رأى أمير المؤمنين صلوات الله عليه غَدْر الناس به لزِم بيته، وأقبل على القرآن يؤلِّفه ويجمعه، فلم يخرج من بيته حتّى جمَعَه، وكان في الصحُف، والشظاظ، والاشار، والرقاع (3) .

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي: ج2، ص113.

(2) الإتقان: ج1، ص62.

(3) الصُحف: جمع صحيفة، وهي الورقة من كتاب أو قرطاس. والشظاظ: خشبة محدَّدة يُجمع على أشظة. والاشار: خشبة أو صفحة أو عَظْمة مرقَّقة مصقولة. والرقاع: جمْع رُقعة، وهي القطعة من الورق يكتَب عليه.

١٤٤

وبعثَ القوم إليه ليبايع فاعتذر باشتغاله بجمْع القرآن، فسكتوا عنه أيّاماً حتّى جمعه في ثوب واحد وختَمه، ثمَّ خرج إلى الناس - وفي رواية اليعقوبي: حمَلهُ على جَمَل وأتى به إلى القوم (1) - وهم مجتمعون حول أبي بكر في المسجد، وخاطبهم قائلاً: (إنّي لم أزل منذ قُبض رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مشغولاً بغُسله وتجهيزه، ثمَّ بالقرآن حتّى جمَعته كلَّه في هذا الثوب الواحد، ولم يُنزل الله على نبيِّه آية من القرآن إلاّ وقد جمعتها، وليس منه آية إلاّ وقد أقرأنيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعلَّمني تأويلها؛ لئلاّ تقولوا غداً: ( إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) )!.

فقام إليه رجُل من كِبار القوم - وفي روايةِ أبي ذر: فنظر فيه فلان وإذا فيه أشياء (2) - فقال: يا عليّ، اردُده فلا حاجة لنا فيه، ما أغنانا بما معَنا من القرآن عمّا تدعونا إليه، فدخل عليّ (عليه السلام) بيته (3) .

وفي رواية: قال علي (عليه السلام): (أمَا والله، ما ترَونه بعد يومكم هذا أبداً، إنّما كان عَليّ أن أُخبركم حين جمعتُه لتقرأوه) (4) .

وقد تقدَّم كلام ابن النديم: كان مصحف عليّ يتوارثه بنو الحسن (5) ، والصحيح عندنا: أنَّ مصحفه (عليه السلام) يتوارثه أوصياؤه الأئمَّة من بعده، واحداً بعد واحد لا يُرونه لأحد (6) .

وفي عهد عثمان - حيث اختلفت المصاحف وأثارت ضجَّة بين المسلمين - سأل طلحة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، لو يُخرج للناس مصحفَه الذي جمعَه بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأتى به إلى القوم فرفضوه، قال: وما يمنعك يرحمك الله أن تُخرج كتاب الله إلى الناس؟! فكفَّ (عليه السلام) عن الجواب أوّلاً، فكرَّر طلحة السؤال فقال: لا

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي: ج2، ص113.

(2) احتجاج الطبرسي: ص82.

(3) كتاب سليم بن قيس: ص72.

(4) تفسير الصافي: ج1، ص25.

(5) الفهرست: ص48.

(6) بحار الأنوار: ج92، ص42 و43.

١٤٥

أراك يا أبا الحسن أجبتني عمّا سألتك من أمْر القرآن أن لا تظهره للناس؟.

قال (عليه السلام): (يا طلحة، عمداً كففتُ على جوابك، فأخبِرني عمّا كتَبه القوم أقرآن كلّه أمْ فيه ما ليس بقرآن؟ قال طلحة: بل قرآن كلّه، قال (عليه السلام): إن أخذتم بما فيه نجَوتم من النار ودخلتم الجنَّة...)، قال طلحة: حَسبي، أمّا إذا كان قرآناً فحَسبي (1).

هكذا حرص الإمام وأوصياؤه (عليهم السلام) على حِفظ وحدة الأمّة، فلا تختلف بعد اجتماعها على ما هو قرآن كلُّه.

جمْعُ زيد بن ثابت:

كان ذاك الرفْض القاسي لمصحف عليّ (عليه السلام) يستدعي التفكير في القيام بمهمَّة جمْع القرآن مهما كلّف الأمر، بعد أن أحسّ الناس بضرورة جمْع القرآن في مكان، ولاسيَّما كانت وصيَّة نبيِّهم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بجمْعه؛ لئلاّ يضيع، كما ضيَّعت اليهود تَوراتَهم (2).

هذا، والقرآن هو المرجع الأوَّل للتشريع الإسلامي، والأساس الركين لبناية صرح الحياة الاجتماعية في كافَّة شؤونها المختلفة آنذاك، ولا يصحّ أن يبقى مفرَّقاً على العُسُب واللِخاف أو في صدور الرجال، ولاسيَّما وقد استحرّ القتل بكثير من حامِليه، ويوشك أن يذهب القرآن بذهاب حامِليه، فقد قتل منهم سبعون في واقعة اليمامة، وفي رواية: أربعمئة (3) .

وهذه الفكرة أبداها عمَر بن الخطّاب، واقترح على أبي بكر - وهو وليّ

____________________

(1) سُليم بن قيس: ص110. بحار الأنوار: ج92، ص42.

(2) تفسير القمّي: ص745.

(3) القسطلاني على البخاري: ج7، ص447. وفي تاريخ الطبري: ج3، ص 296: قُتلَ من المهاجرين والأنصار من قصبة المدينة يومئذٍ ثلاثمئة وستّون، ومن المهاجرين من غير أهل المدينة ثلاثمئة، ومن التابعين ثلاثمئة. وفي كتاب أبي بكر إلى خالد ص 300: دم ألف ومئتي رجُل من المسلمين لم يُجفَّف بعد.

١٤٦

المسلمين يوم ذاك - أن ينتدب لذلك مَن تتوفّر فيه شرائط القيام بهذه المهمَّة الخطيرة، فوقع اختيارهم على زيد بن ثابت، وهو شابّ حدَث فيه مرونة حداثة السِنّ، وله سابقة كتابة الوحي أيضاً، فقد مَلك الجدارة الذاتية من غير أن يُخشى منه على جوانب الخلافة الفتيّة في شيء، كما كان يُخشى من غيره من كِبار الصحابة، وفيهم شيء من المناعة والجموح وعدم الانقياد التامّ لميول السلطة واتّجاهاتها آنذاك.

قال زيد: أرسلَ إليّ أبو بكر بعد مقتل أهل اليمامة - وعُمَر جالس عنده - قال: إنَّ هذا - وأشار إلى عُمَر - أتاني وقال: إنّ القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقُرّاء القرآن، وأخاف أن يستحرّ بهم القتْل في سائر المَواطِن فيذهب كثير من القرآن، وأشار عليَّ بجمْع القرآن، فقلت لعُمَر: كيف نفعل ما لم يفعله رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ فقال: هو والله خير، فلم يزل يراجعني عُمَر حتّى شرح الله صدري لذلك، ورأيت الذي رأى عُمَر!.

قال زيد: قال لي أبو بكر: إنَّك شابٌّ عاقل لا نتَّهمُك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فَتتبَّع القرآن واجمعهُ.

قال زيد: فو الله لو كلَّفوني نقل جبَل من مكانه لم يكن أثقل عليَّ ممّا كلَّفوني به، قلت: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ فلم يزل أبو بكر وعُمَر يلحّان علَيَّ حتّى شرح الله صدري للَّذي شرح له صدر أبي بكر و عُمَر.

قال زيد: فقمت أتتبّع القرآن أجمعه من العُسُب، واللِخاف، وصدور الرجال (1) .

منهجُ زيد في جمْع القرآن:

قام زيد بتنفيذ الفكرة، فجمَع القرآن من العسُب، واللِخاف، والأدم، والقراطيس، وكانت متفرّقة على أيدي الصحابة أو في صدورهم، وعاوَنه على ذلك جماعة.

____________________

(1) صحيح البخاري: ج6، ص225. مصاحف السجستاني: ص6. والكامل في التاريخ: ج3، ص56، وج2، ص247. والبرهان للزركشي: ج1، ص233.

١٤٧

وأوَّل عمل قام به أن وجَّه نداءً عاماً إلى مَلأ الناس: مَن كان تلقّى من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) شيئاً من القرآن فليأتِ به.

وألَّف لِجنة من خمسة وعشرين عضواً - كما جاء في رواية اليعقوبي (1) - وكان عُمَر يُشرف عليهم بنفسه.

وكان اجتماعهم على باب المسجد يومياً، والناس يأتونهم بآيِ القرآن وسوَره، كلٌّ حسَب ما عنده من القرآن.

وكانوا لا يقبلون من أحد شيئاً حتّى يأتي بشاهدَين يشهدان بصحَّة ما عنده من قرآن، سوى خزيمة بن ثابت أتى بآيتَي آخِر سورة براءة، فقبلوهما منه من غير استشهاد؛ لأنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) اعتبر شهادته وحدَه شهادتين (2) .

قال زيد: ووجدت آخِر سورة براءة مع [ أبي ] خزيمة الأنصاري، لم أجده مع أحد غيره (3) . وسنتكلّم عمّا جاء بين المعقوفتَين (4) .

ومن غريب الأمْر: أنَّ عُمَر جاء بآية الرجْم وزعمها من القرآن: (الشيخ والشيخة إذا زنَيا فارجموهما البتَّة نكالاً من الله) لكنَّه وُوجِهَ بالرفض، ولم تُقبَل منه؛ لأنَّه لم يستطع أن يُقيم على ذلك شاهدَين (5)، وبقي أثر ذلك في نفس عُمَر فكان يقول - أيّام خلافته -: لولا أن يقول الناس زاد عُمَر في كتاب الله لكتبتُها بيدي - يعني آية الرجْم - (6) .

* * *

ثمَّ إنَّ زيداً لم يُنظِّم سوَر القرآن ولم يُرَتّبهنَّ كمُصحف، وإنَّما جمَع القرآن في

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي: ج2، ص113.

(2) راجع أُسد الغابة لابن الأثير: ج2، ص114. ومصاحف السجستاني: ص6 - 9.

(3) البخاري: ج6، ص225.

(4) راجع صفحة 159 و160 من هذا الجزء.

(5) تفسير ابن كثير: ج3، ص261. البرهان للزركشي: ج2، ص35. الإتقان: ج2، ص26.

(6) تفسير ابن كثير: ج3، ص261. البرهان للزركشي: ج2، ص35. الإتقان: ج2، ص26.

١٤٨

صُحف، أي أودعَ الآيات والسوَر في صحُف وجعلها في إضبارة، فكان جمْعاً عن التفرقة والضياع، ومن ثمَّ لم يسمَّ جمْعه مصحفاً.

قال المحاسبي: كان القرآن مفرَّقاً في الرقاع، والأكتاف، والعسُب، وإنّما أمرَ الصدّيق بنَسْخها من مكان إلى مكان مجتمعاً، وكان ذلك بمنزلة أوراق فيها القرآن منتشراً، فجمَعها جامع وربطها بخيط؛ حتَّى لا يضيع منها شيء (1) .

وقال ابن حجر: (والفرْق بين الصحُف - التي جاءت في رواية جمْع زيد - والمصحف: أنَّ الصحُف هي الأوراق المجرَّدة التي جُمِع فيها القرآن في عهد أبي بكر، وكانت سوَراً مفرَّقة، كلُّ سورة مرتَّبة بآياتها على حِدة، لكن لم يرتّب بعضها إثر بعض، فلمّا نُسخت ورتِّب بعضها إثر بعض صارت مصحفاً) (2) .

وقال أحمد أمين: وفي عهد أبي بكر أمر بجمع القرآن، لكن لا في مصحفٍ واحد، بل جُمعت الصُّحف المختلفة التي فيها آيات القرآن وسوَره، وأُودِعَت الصحُف الكثيرة التي فيها القرآن عند أبي بكر (3) .

وقال الزرقاني: صحُف أبي بكر كانت مرتَّبة الآيات دون السوَر (4) .

* * *

وهذه الصحُف أُودِعت عند أبي بكر، فكانت عنده مدَّة حياته، ثمَّ صارت عند عمَر، وبعده كانت عند ابنته حفصة، وفي أيّام توحيد المصاحف استعارها عثمان منها ليقابل بها النُسَخ، ثمَّ ردَّها إليها، فلمّا توفّيت أخذَها مروان - يوم كان والياً على المدينة من قِبل معاوية - من ورثتها وأمرَ بها فشُقَّت (5) .

* * *

جاء في نصِّ البخاري: ووجدت آخِر سورة براءة مع أبي خزيمة... ومن ثمَّ يتساءل البعض: مَن هو أبو خزيمة؟

____________________

(1) الإتقان: ج1، ص59.

(2) فتح الباري: ج9، ص16.

(3) فجر الإسلام: ص195.

(4) مناهل العرفان: ج1، ص254.

(5) القسطلاني بشرح البخاري: ج7، ص449.

١٤٩

قال القسطلاني: هو ابن أَوس بن يزيد بن حزام، المشهور بكُنيته من غير أن يُعرَف اسمُه (1) .

واحتمل ابن حجر أنَّه الحرث بن خزيمة، كما جاء في رواية أبي داود (2) .

والصحيح: أنَّه من زيادة الراوي أو الناسخ خطأً، وإنَّما هو خزيمة من غير إضافة الأب إليه؛ بدليل أنَّ زيداً قُبِلت شهادته مكان شهادتين، وليس في الصحابة مَن يتَّسم بهذه السِمة الخاصَّة سواه (3) ، وهكذا جزَم الإمام بدر الدين الزركشي أنَّه خزيمة الذي جعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) شهادته بشهادة رجُلين (4) ، ومن ثمَّ أدرجه في النصّ هكذا بلا إضافة الأب (5) .

أو يقال: إنَّ أبا خزيمة هو خزيمة بن ثابت، كان يقال له: أبو خزيمة أيضاً، كما جاء في نصِّ ابن أشتة: أبو خزيمة بن ثابت (6) .

وفي سائر الروايات - غير رواية البخاري - خزيمة بن ثابت، بلا إضافة الأب (7) ، ومن ثمَّ رجَّحنا خطأ النُسخة.

* * *

وسؤال آخر: ماذا كان يعني بالشاهدَين في جَعلهما شرط قبول النصّ القرآني، كما جاء في نصِّ ابن داود بإسنادٍ معتبَر، وتلقَّته أئمّة الفنِّ بالقبول (8) ؟

قال ابن حجر: (وكأنَّ المراد بالشاهدَين: الحِفظ والكتابة) (9).

وقال السخاوي: شاهدان يشهدان على أنَّ ذلك المكتوب كُتب بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أو المراد أنَّهما يشهدان بصحَّة قراءتها، وأنَّها من الوجوه التي نزل بها القرآن.

____________________

(1) شرح البخاري: ج7، ص447.

(2) فتح الباري: ج9، ص12.

(3) راجع الطبقات لابن سعد: ج4، ق2، ص90.

(4) البرهان للزركشي: ج1، ص234.

(5) نفس المصدر: ص239.

(6) الإتقان: ج1، ص58.

(7) راجع الدرّ المنثور: ج3، ص296.

(8) راجع الإتقان: ج1، ص58.

(9) فتح الباري: ج9، ص12.

١٥٠

قال أبو شامة: وكأنَّ الغرض من ذلك أن لا يكتب إلاّ من عَين ما كُتب بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، لا من مجرَّد الحفظ.

قال جلال الدين: أو المراد أنَّهما يشهدان على أنَّ ذلك ممّا عُرِض على النبي (صلّى الله عليه وآله) عام وَفاتِه، وكانت هي القراءة الأخيرة التي اتَّفق عليها الصحابة، ويقرأها الناس اليوم (1) .

قلت: المراد أنَّ شاهدَين عَدْلين - أحدهما الذي أتى بالآية وعَدْل آخَر - يشهدان بسماعهما قرآناً من النبي (صلّى الله عليه وآله)، بدليل قبول شهادة خزيمة بن ثابت - الّذي جاء بآخِر سورة براءة - مكان شهادة رجُلين، وهكذا جاء في نصِّ ابن أشتة، أخرجه في المصاحف عن الليث بن سعد، قال: وكان الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية إلاّ بشاهدَي عدلٍ، وإنَّ آخر سورة براءة لم يجدها إلاّ مع أبي خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، فقال: اكتبوها؛ فإنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) جعل شهادته بشهادة رجُلين فكُتب، وإنَّ عمَر أتى بآية الرجْم فلم يكتُبها؛ لأنَّه كان وحدَه (2) .

شكوكٌ واعتراضات:

يقول بلاشير: لماذا اختار أبو بكر لهذه المهمَّة الخطيرة مثل زيد، وهو شابّ حدَث لم يتجاوز العشرين، في حين وجود ذوي الكفاءات من كِبار الصحابة؟ ولنفرض عكورة المورد حالت دون اللجوء إلى شخصيَّة كبيرة مثل عليّ بن أبي طالب، فلماذا أغفلوا سائر فُضلاء الصحابة ممَّن لهم سابقة وعهد قديم بنزول القرآن وصُحبة الرسول؟ وهل أنَّ واقعة اليمامة أطاحت بجميع قرّاء الصحابة القدامى، ولم يبقَ سوى زيد وهو حديث العهد بالقراءة وبالقرآن؟ الأمر الذي يثير شكوكنا في القضية، ولا نكاد نصدِّق بأنَّ زيداً هو الذي جمَع القرآن.

____________________

(1) الإتقان: ج1، ص58، وراجع أيضاً ص50.

(2) الإتقان: ج1، ص58.

١٥١

أضِف إلى ذلك: أنَّ التاريخ لم يحدِّد بالضبط بدْء قيامه بهذا العمل، ومتى انتهى منه، فلو صحَّ أنَّه قام بجمع القرآن بعد واقعة اليمامة؛ لكان بقيَ من عُمْر أبي بكر خمسة عشر شهراً، وهذه فترة تضيق بإنجاز هكذا عمل خطير، الذي يتطلّب جهوداً واسعة لجمْع المصادر والالتقاء مع رجال كانت عندهم آيات أو سوَر، وكانوا قد انتشروا في البلاد، فإنَّ هذا وذاك يتطلَّبان وقتاً أوسع وأعواناً كثيرين، ممّا لا يمكن إنجازه في تلك المدَّة القصيرة.

هذا والرواية تقول: إنَّ زيداً جمَع القرآن في صحُف وأودَعها عند أبي بكر، ثمَّ صارت عند عُمَر، ثمَّ ورثتها ابنته حفصة!.

فإذا كانت الغاية من جمْع القرآن هي ملاحظة المصلحة العامَّة - كما ينبِّه على ذلك أنَّ ورثة أبي بكر لم يختصّوا بتلك الصحُف، وإنَّما انتقلت إلى عُمَر، الخليفة بعده - فلماذا خصَّصها عُمَر بابنته حفصة ولم يجعلها في متناول المسلمين عامّاً؟ كما أنّه لِمَ صارت الصحُف وديعة اختصاصية عند أبي بكر من غير أن تُجعَل في مكان هو معرَض عام؟.

وهكذا اعترض المستشرق شفالي على قضيَّة جمْع زيد للقرآن.

والذي يستنتجه بلاشير من شكوكه هذه: أنَّ كبار الصحابة هم الذين قاموا بجمْع القرآن بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ورتَّبوه ورتَّبوا سوَره، الأمر الذي كانت وظيفة الخلافة الإسلامية أن تقوم به ولكنَّها غفلَت عنه، وربَّما أدَّت هذه الغفلة إلى الطعْن في القائمين بأعضادها، ومن ثمَّ أوعَزت إلى شابّ حدَث لا يتَّهموه، أن ينسَخ عن بعض مصاحف الصحابة مصحفاً يمتاز به الخليفة أيضاً، أمّا أصل القيام بجمْع القرآن فلا (1) .

* * *

قلت: إذا كانت شرائط إنجاز عمل - مهما كان ضخماً - متوفّرة وفي المتناول

____________________

(1) مترجَم وملخّص عن مجلّة (خواندنيها) الفارسية في سنتها الثامنة العدد 44، بتاريخ 13 بهمن 1326هـ.ش - طهران.

١٥٢

القريب، فإنَّ انجازه يتحقّق في أقرب وقتٍ ممكن، ولاسيَّما إذا كان العمل فوتيّاً يحاول المتصدّون إنجازه في أقرب فرصة ممكنة، وهكذا كانت قضية جمع القرآن في الصدر الأوَّل.

أمّا المصادر الأوَّلية فكانت متوفِّرة في نفس المدينة، محفوظة على أيدي الصحابة الأُمناء، وكان حَمَلة القرآن وحفظته موجودين لا يفارقون مسجد سيِّدهم الذي ارتحل من بينهم في عهدٍ قريب، ليل نهار، والاتِّصال بهم سهل التناول، لاسيَّما وسوَر القرآن كانت مكتملة، وبقي جمْعها في مكان لا أكثر، إذاً فقد كانت الأسباب مؤاتية والظُّروف مساعدة، أضف إليها أنَّ السلطة - وبيدها القدرة - إذا حاولت إنجاز هكذا عمل متهيّئ الأسباب، فإنَّه لا يستدعي طولاً في مدَّة العمل بعد توفّر هذه الشروط.

هذا، وزيد لم يعمل سوى جمْع القرآن في مكان وحِفظه عن الضياع والانبثاث، ولم يعمل فيه نَظماً ولا ترتيباً، ولا أيّ عمل فكريّ آخَر، فإنَّ هكذا عمل بسيط لا يتطلَّب جهوداً طويلة ولا فراغاً واسعاً.

نعم، كانت الغاية من ذلك هي: مراعاة المصلحة العامَّة (حفظ القرآن عن الضياع)، الأمر الذي تحقَّق بإيداع الصُحف المشتملة على تمام القرآن في مكان أمين، ولم يكن يومذاك احتياج إلى مراجعة تلك الصُحف بعد أن كان حفَظَة القرآن وحامِلوه منتشرين بين أظهر الناس بكثرة، والناس يومذاك حافظون لجُلّ آيات ترتبط والحياة المعيشية والسياسية وما أشبه.

هذا، وفي أواخر عهد عُمَر أصبحت نُسَخ المصاحف - المحتوية على جميع آيِ القرآن وسوَره - كثيرة، ومجموعة على أيدي كبار الصحابة الموثوق بهم، فرأى أنَّ الحاجة العامَّة إلى تلك الصحُف المودَعة عنده هبطت إلى درجة نازلة جدّاً، ومن ثمَّ تملّكها هو، ولم تعد حاجة إليها سوى في دَور توحيد المصاحف على عهد عثمان.

١٥٣

مصاحف أُخرى:

في الفترة بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله)، قامت جماعة من كبار الصحابة بتأليف القرآن وجمع سوَره بين دفَّتين، كلّ بنَظمٍ وترتيب خاصّ، وكان يسمّى (مصحفاً).

يقال: أوَّل مَن جمَع القرآن في مُصحف - أي رتَّب سوَره ككتاب منظَّم - هو: سالم مولى أبي حذيفة، فائتمروا في ما يسمّونه؟ فقال بعضهم: سمّوه السِفر، فقال سالم: ذلك تسمية اليهود، فكرهوه، فقال: رأيت مثله في الحبشة يسمَّى (المصحف)، فاجتمع رأيهم على أن يسمُّوه (المصحف) . أخرجه ابن أشتة في كتاب المصاحف (1) .

وهكذا قام بجمع القرآن: ابن مسعود، وأُبي بن كعب، وأبو موسى الأشعري، وكان سمّى مصحفه (لُباب القلوب) (2) ، والمقداد بن الأسود، ومعاذ بن جبل.

ويبدو من حديث العراقي الذي جاء إلى عائشة يطلب إليها أن تُريَه مصحفها، أنَّ لها أيضاً مصحفاً كان يخصّها، وروى البخاري عن ابن ماهك، قال: إنّي عند عائشة إذ جاءها عراقيٌّ فسألها عن مسائل منها: أنّه طلب أن تُريَه مصحفها، قال: يا أمَّ المؤمنين، أريني مصحفك، قالت: لِمَ؟ قال: لعلّي أُؤلِّف القرآن عليه، فإنَّه يُقرأ غير مؤلَّف - أي غير مرتَّب ولا منظَّم، أو لاختلاف الناس في نظْم آيِهِ وعدَدها (3) - قالت: وما يضرّك أيَّهُ قرأت؟... إلى أن قال: فأخرجَت له مصحفاً وأملَت عليه آيِ السوَر (4) أي: عدد آيِها.

وحاز بعض هذه المصاحف مقاماً رفيعاً في المجتمع الإسلامي آنذاك، فكان أهل الكوفة يقرأون على مصحف عبد الله بن مسعود، وأهل البصرة يقرأون على مصحف أبي موسى الأشعري، وأهل الشام على مصحف أُبَي بن كعب، وأهل

____________________

(1) الإتقان: ج1، ص58. وراجع المصاحف للسجستاني: ص11 - 14.

(2) الكامل في التاريخ: ج3، ص55.

(3) احتمله ابن حجر في فتح الباري: ج9، ص36.

(4) صحيح البخاري: ج6، ص228.

١٥٤

دمشق خاصَّة على مصحف المقداد بن الأسود، وفي رواية الكامل: إنَّ أهل حمْص كانوا على قراءة المقداد (1) .

أمَدُ هذه المصاحف:

كان أمَدُ هذه المصاحف قصيراً جدّاً، انتهى بدَور توحيد المصاحف على عهد عثمان، فذهبت مصاحف الصحابة عُرضَة التمزيق والحرْق.

قال أنس بن مالك: أرسل عثمان إلى كلّ أُفقٍ بمصحف ممّا نسَخوا، وأمَر بما سواه من القرآن في كلِّ صحيفة أو مصحف أن يُحرَق (2) .

نعم، حظِيت بعض هذه المصاحف عُمْراً أطول، كالصُحف التي كانت عند حفصة، طلبها عثمان ليقابل بها نُسَخ المصاحف، فأبت أن تدفعها إليه حتّى عاهدها ليردَّنّها عليها (3) ، ومن ثمَّ ردَّها وبقيت عندها حتّى توفّيت، فأمر بها مروان فشُقَّت.

ويبدو من رواية أبي بكر بن أبي داود: أنَّ وُلد أُبَي بن كعب كانوا قد احتفظوا بنُسخة من مصحف أبيهم بعيداً عن آخرين، قال: قدِم أُناس من العراق يريدون محمَّد بن أُبَي، فطلبوا إليه أن يُخرج لهم مصحف أبيه! فقال: قد قبَضه عثمان، فألحُّوا عليه ولكن من غير جدوى، الأمر الذي كان يدلّ على مبلَغ خوفه من الحُكم القائم، فلم يخرجه للعراقيين (4) .

وفي رواية الطبري: أنَّ ابن عبّاس دفع مصحفاً إلى أبي ثابت، ووصفه بأنَّه على قراءة أُبَيّ بن كعب، وبقي إلى أن انتقل إلى نصير بن أبي الأشعث الأسدي

____________________

(1) الكامل في التاريخ: ج3، ص55. وراجع البخاري: ج6، ص225. والمصاحف لابن أبي داود السجستاني: ص11 - 14. والبرهان للزركشي: ج1، ص239 - 243.

(2) البخاري: ج6، ص226.

(3) مصاحف السجستاني: ص9.

(4) نفس المصدر: ص25.

١٥٥

الكوفي، فأتاه يحيى بن عيسى الفاخوري يوماً وقرأ فيه: (فما استمتعتم به منهنّ إلى أجَل مسمّى) (1) الأمر الذي يدلّ على أنَّ هذا المصحف عاش حتّى أواخر القرن الثاني؛ لأنَّ يحيى بن عيسى توفّي عام 201هـ (2).

قال الفضل بن شاذان: أخبرنا الثقة من أصحابنا، قال: كان تأليف السوَر في قراءة أُبيّ بن كعب بالبصرة في قرية يقال لها (قرية الأنصار)، على رأس فرسخين عند محمَّد بن عبد الملك الأنصاري (توفّي سنة 150 هـ)، أخرج إلينا مصحفاً قال: هو مصحف أُبيّ، رويناه عن آبائنا، فنظرت فيه، فاستخرجت أوائل السوَر وخواتيم الرُسل وعدد الآي... (3) .

وجاء في روايات أهل البيت (عليهم السلام) قول الصادق (عليه السلام): (أمّا نحن فنقرأ على قراءة أُبيّ - أي ابن كعب -) (4).

* * *

أمّا ابن مسعود، فامتنع أن يدفع مصحفه إلى رسول الخليفة، وظلَّ محتفظاً به في صرامة بالِغة أدَّت إلى مشاجرة عنيفة جرت بينه وبين عثمان، كان فيها إبعاده عن عمله وأخيراً حَتْفه.

عندما جاء رسول الخليفة إلى الكوفة لأخذ المصاحف، قام ابن مسعود خطيباً قائلاً: أيُّها الناس إنّي غالّ مصحفي، ومَن استطاع أن يغلّ مصحفاً فليغلُل؛ فإنَّه مَن غلَّ يأت يوم القيامة بما غلَّ ونِعمَ الغلّ المصحف (5) .

وهكذا كان يحرِّض الناس على مخالفة الحُكم القائم، الأمر الذي جرَّ عليه الوَيلات، فأشخَصه الخليفة إلى المدينة، وجرى بينهما كلام عنيف انتهى إلى ضربه

____________________

(1) تفسير الطبري: ج5، ص9.

(2) تهذيب التهذيب: ج11، ص263.

(3) فهرست ابن النديم: ص29.

(4) وسائل الشيعة: ج4، ص821 (الطبعة الإسلامية).

(5) المصاحف للسجستاني: ص15.

١٥٦

وكسر أضلاعه، وإخراجه من المسجد بصورة مزرية.

روى الواقدي بإسناده وغيره: أنَّ ابن مسعود لمّا استقدم المدينة دخلها ليلاً، وكانت ليلة جمعة، فلمّا علم عثمان بدخوله، قال: أيُّها الناس إنَّه قد طرقكم الليلة دُوَيبة، مَن تمشي على طعامه يقيء ويسلُحْ.

قال ابن مسعود: لستُ كذلك ولكنَّني صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم بدْر، وصاحبه يوم أُحُد، وصاحبه يوم بيعة الرضوان، وصاحبه يوم الخندق، وصاحبه يوم حنين....

وصاحت عائشة: يا عثمان، أتقول هذا لصاحب رسول الله؟! فقال عثمان: اُسكتي.

ثمَّ قال لعبد الله بن زمعة بن الأسود: أخرِجه إخراجاً عنيفاً! فأخذه ابن زمعة، فاحتمله حتّى جاء به باب المسجد، فضرب به الأرض، فكسَر ضِلعاً من أضلاعه، فقال ابن مسعود: قتلَني ابن زمعة الكافر بأمْر عثمان.

قال الراوي: فكأنّي أنظر إلى حموشة ساقَي عبد الله بن مسعود، ورجلاه تختلفان على عُنُق مولى عثمان، حتّى أُخرج من المسجد، وهو يقول: أُنشدك الله أن لا تُخرجني من مسجد خليلي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) (1) .

قيل: واعتلّ ابن مسعود فأتاه عثمان يعوده، فقال له: ما كلام بلَغَني عنك؟ قال: ذكرتُ الذي فعلتَه بي، إنّك أمرتَ بي فَوِطئ جَوفي فلم أعقل صلاة الظهر ولا العصر، ومنعتَني عَطائي، قال عثمان: فإنّي أُقيدُك من نفسي، فافعل بي مثل الذي فُعل بك... وهذا عطاؤك فخُذه.

قال ابن مسعود: منعتنيه وأنا محتاجٌ إليه، وتعطيني وأنا غنيّ عنه! لا حاجة لي به، فأقام ابن مسعود مغاضباً لعثمان حتّى توفّي، وصلّى عليه عمّار بن ياسر

____________________

(1) ابن أبي الحديد: شرح النهج، ج3، ص43 - 44.

١٥٧

في ستْرٍ من عثمان، وهكذا لمّا مات المقداد صلَّى عليه عمّار بوصيَّة منه، فاشتدّ غضب عثمان على عمّار، وقال: ويلي على ابن السوداء، أمَا لقد كنت به عليماً! (1).

* * *

هذا، ورغم ذلك كلّه فقد بقي مصحفه متداولاً إلى أيّام متأخّرة.

يقول ابن النديم (297 - 385هـ): رأيت عدَّة مصاحف ذكرَ نسّاخها أنّها مصحف عبد الله بن مسعود، وقد كُتب بعضها منذ مئتي سنة (2) .

وهكذا يبدو من الزمخشري: أنَّ هذا المصحف كان معروفاً حتّى القرن السادس؛ لأنَّه يقول: (وفي مصحف ابن مسعود كذا...)، وظاهر هذه العبارة أنَّه هو وجدها في نفس المصحف، لا أنَّه منقول إليه (3) .

وصفٌ عامٌّ عن مصاحف الصحابة:

كان الطابع العامّ الذي كانت المصاحف آنذاك تتَّسم به هو: تقديم السوَر الطوال على القِصار نوعاً ما في ترتيب منهجيّ خاصّ:

1 - ابتداء من السبْع الطوال: البقرة، آل عمران، النساء، الأعراف، الأنعام، المائدة، يونس (4) .

2 - ثمَّ المئين: وهي السوَر تربو آياتها على المئة، وهي ما تقرب اثنتي عشرة سورة.

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي: ج23، ص160، طبع نجف.

(2) الفهرست: ص46.

(3) راجع الكشّاف: ج2، ص410، آية 71 من سورة هود. وج4، ص490، آية 7 من سورة المجادلة.

(4) تلك السبع الطوال في مصاحف الصحابة، غير أنّ عثمان عمَد إلى تقديم سورة الأنفال فزعمها مع سورة البراءة سورة واحدة، جعلهما من السبع الطوال، وسيأتي الكلام في ذلك (راجع: الإتقان: ج1، ص60. ومستدرك الحاكم: ج2، ص221).

١٥٨

3 - ثمَّ المثاني: وهي السوَر لا تبلغ آياتها المئة، وهي ما تقرب عشرين سورة، وسمِّيت مثاني؛ لأنّها تُثنّى، أي تكرّر قراءتها أكثر ممّا تقرأ غيرها من الطوال والمئين.

4 - ثمَّ الحواميم: وهي السور بَُدئت بـ (حم)، سبْع سوَر.

5 - ثمَّ الممتحنات: وهي تقرب من عشرين سورة.

6 - ثمّ المفصَّلات: تُبتَدأ من سورة الرحمن إلى آخِر القرآن.

وسمِّيت بذلك لقُرب فواصلها وكثرة فصولها.

هذا هو الطابع العامّ لمصاحف الصحابة، والنظر في الأكثر إلى مصحف ابن مسعود، وإن كانت المصاحف تختلف مع بعضها في تقديم بعض السوَر على بعض وتأخيرها عنها، أو يزيد عدد سوَر بعضها على بعض، على تفصيل يأتي.

وصفُ مصحف ابن مسعود:

كان تأليف مصحف عبد الله بن مسعود وفْق الترتيب التالي (1) :

1 - السبع الطوال: البقرة، النساء، آل عمران، الأعراف، الأنعام، المائدة، يونس.

2 - المِئين: براءة، النحل، هود، يوسف، الكهف، الإسراء، الأنبياء، طه، المؤمنون، الشعراء، الصافّات.

3 - المثاني: الأحزاب، الحجّ، القصص، النمل، النور، الأنفال، مريم، العنكبوت، الروم، يس، الفرقان، الحجر، الرعد، سبأ، فاطر، إبراهيم، ص، محمّد (صلّى الله عليه وآله)، لقمان، الزمر.

4 - الحواميم: المؤمن، الزخرف، فصِّلت، الشورى، الأحقاف، الجاثية، الدُخان.

____________________

(1) على ما جاء في نصّ ابن أشتة (الإتقان: ج1، ص64)، وأكملنا ما سقط منه على نصّ ابن النديم (الفهرست ص46)، وأرمزنا له بعلامة (ن).

١٥٩

5 - المُمتحنات: الفتح، الحديد (ن)، الحشر، السجدة، ق (ن)، الطلاق، القلم، الحجُرات، المُلك، التغابن، المنافقون، الجمعة، الصفّ، الجنّ، نوح، المجادلة، الممتحنة، التحريم.

6 - المفصَّلات: الرحمن، النجم، الطور، الذاريات، القمر، الحاقَّة (ن)، الواقعة، النازعات، المعارج، المدَّثِّر، المزمل، المطفّفين، عبس، الإنسان، المرسلات، القيامة، النبأ، التكوير، الانفطار، الغاشية، الأعلى، الليل، الفجر، البروج، الانشقاق، العلق، البلد، الضحى، الطارق، العاديات، الماعون، القارعة، البيِّنة، الشمس، التين، الهُمزة، الفيل، قريش، التكاثر، القدر، الزلزلة، العصر، النصر، الكوثر، الكافرون، المسَد، التوحيد، الانشراح.

تلك مئة وإحدى عشرة سورة، بإسقاط سورة الفاتحة وسورتَي المعوَّذتين، على ما سنذكر.

* * *

(جهة أخرى) - اختصَّ بها مصحف ابن مسعود -: إسقاطه سورة الفاتحة، لا اعتقاداً أنَّها ليست من القرآن؛ بل لأنَّ الثبْت في المصحف كان قيداً للسوَر دون الضياع، وهذه السورة (الفاتحة) مأمونة عن الضياع بذاتها، لا يزال المسلمون يقرأونها كلّ يوم عشر مرّات أو أكثر، ذكره ابن قتيبة فيما يأتي.

أو لعلَّه رآها عِدلاً للقرآن في قوله تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) (1) والسبع المثاني هي: سورة الفاتحة.

وعلى أيِّ تقدير فقد اتَّفق أئمَّة الفنّ على خلوّ مصحفه من سورة الحمْد. نقل ذلك ابن النديم عن الفضل بن شاذان، وقال: إنَّه أحد الأئمَّة في القرآن والروايات، ومن ثمَّ يرجِّح ما ذكره الفضْل على ما شهده بنفسه (2) .

____________________

(1) الحِجر: 87.

(2) الفهرست لابن النديم: ص46.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459