تلخيص التمهيد الجزء ١

تلخيص التمهيد0%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 459

تلخيص التمهيد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد هادي معرفة
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 76952
تحميل: 10475


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 76952 / تحميل: 10475
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء 1

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

واللام إنّما تحرّكت بحركة الهمزة وليس بحركة لازمة (أي ليست هي متحرّكة بذاتها) (1) .

ومن سورة الواقعة:

( يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ - إلى قوله - وَحُورٌ عِينٌ ) (2) .

قرأ حمزة والكسائي (وحورٍ عينٍ) بالخفْض، وقرأ عاصم والباقون بالرفْع، قال الزجّاج: الرفْع أحسن الوجهين.

وقد اختلف الأئمّة في وجه إعراب ذلك خفْضاً ورفْعاً، ولهم في ذلك تفصيل عريض، فليراجع (3) .

ومن سورة المعارج:

( كَلاّ إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى ) (4) .

قرأ حفص وحده (نزّاعةً) بالنصب، وقرأ الباقون (نزّاعةٌ) بالرفع:

فالنصب على أنّه حال، وهو ظاهر معروف.

أمّا الرفع فقد اختلفوا فيه، قال الفرّاء: إنّه بدل من (لظى). وقال الزجّاج: إنّه خبر بعد خبر بلا فصل عاطف، كما تقول: إنّه حلوٌ حامض (5) .

وقد ذكر مكّي للرفع وجوهاً خمسة (6) ، الأمر الذي يُنبئك عن ضعفه.

* * *

____________________

(1) حجّة القراءات: ص 687.

(2) الواقعة: 17 - 22.

(3) مجمع البيان: ج 9 ص 216. والكشف: ج 2 ص 304. وحجّة القراءات: ص 695.

(4) المعارج: 15 - 16.

(5) حجّة القراءات: ص 723 - 724.

(6) الكشف: ج 2 ص 336.

٤٠١

ومن سورة المدّثّر:

( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) (1) .

قرأ حفص وحده (والرُجز) بضمّ الراء، يعني الصنم.

وقرأ الباقون (الرِجز) بالكسر، يعني العذاب (2) أي موجِبه، وهو تكلّف.

ومن سورة القيامة:

( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) (3) .

قرأ ابن كثير (لأقسِمُ) بلام تأكيد، وعليه فيبقى عطف ( وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) عطف نفي على إثبات، وهو كما ترى؟!.

وقرأ عاصم والباقون (لا أُقسم...) كما هو المعروف (4) .

* * *

( وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ) (5) .

وقرأ حفص وحده (مَن راق) بإظهار النون، إعلاماً بانفصالها من الراء... وقرأ الباقون بالإدغام.

* * *

( أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ) (6) .

قرأ حفص وحده (يُمنى) بالياء؛ لأنّ الضمير يعود على المنيّ، وقرأ الباقون بالتاء بالعود على النطفة، وهو بعيد (7) .

____________________

(1) المدّثّر: 5.

(2) حجّة القراءات: ص 733. والكشف: ج 2 ص 347.

(3) القيامة: 1.

(4) حجّة القراءات: ص 735.

(5) القيامة: 27.

(6) القيامة: 37.

(7) حجّة القراءات: ص 737.

٤٠٢

ومن سورة المطفّفين:

( كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (1) .

قرأ حفص وحده (بل ران) بإظهار اللام؛ لأنّها من كلمة، و (ران) كلمة أخرى، وعليه قراءة الجمهور، وأدغمَ الباقون (2) .

* * *

( وَإِذَا انقَلَبُواْ إلى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ ) (3) .

وأيضاً قرأ حفص وحده (فكهين)، وقرأ الباقون (فاكهين).

لكن قياس باب فَعِل يَفعل - كفرِح يفرح - لازماً، هو مجيء الصفة على فَعِل مكسور العين كفَرِح، ولا يقاس على (حَذِر وحاذَر)، أو (طمِع وطامع) (4)؛ لأنّهما متعدّيان.

ومن سورة المَسد:

( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) (5) .

قرأ عاصم وحده بنصب (حمّالةَ) قطعاً على الذمّ؛ لأنّها نكرة لا تقع وصفاً للمعرفة - كما قاله الفرّاء - (6).

وقرأ الباقون بالرفع خبراً أو نعتاً، وفيه ضعف وبحاجة إلى تكلّف، فراجع.

* * *

____________________

(1) المطفّفين: 14.

(2) حجّة القراءات: ص 754.

(3) المطفّفين: 31.

(4) راجع معاني القرآن: ج 3 ص 249. والكشف: ج 2 ص 366، وحجّة القراءات: ص 755.

(5) المسد: 4.

(6) معاني القرآن: ج 3 ص 298.

٤٠٣

ومن سورة الإخلاص:

( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ) (1) .

قرأ حفص وحده (كُفُواً) بضمّتين فالواو المفتوحة، وقرأ حمزة (كُفئا) بالضمّ فالسكون مهموزاً، وقرأ الباقون (كُفُئاً) بضمّتين مع الهمز.

وقراءة حفص هي المتوافقة مع خطّ المصحف الشريف بالواو (2) ، فضلاً عن موافقة الجمهور.

قال أبو زرعة: وتبع في ذلك قول العرب: (ليس لفلان كفوٌ، ولا مِثل، ولا نظير)، والله جلّ وعزّ لا نظير له ولا مِثل (3) .

هذا آخر ما أردنا ثبْته في هذا المجال، ولم تكن الغاية الاستقصاء، والحمد لله وسلام على رسوله والأئمّة الميامين.

* * *

____________________

(1) الإخلاص: 4.

(2) التيسير: ص 226.

(3) حجّة القراءات: ص 777.

٤٠٤

الناسخُ والمنسوخ في القرآن

- النَسْخ والإصلاحات التشريعية.

- سلسلة تدوين هذا العلم.

- خطورة معرفة الناسخ عن المنسوخ.

- التعريف بالنسْخ المصطلح.

- حقيقة النسْخ في التشريع.

- الفرْق بين النسْخ والبَداء.

- الفرْق بين النسْخ والتخصيص.

- شروط النسْخ الخمسة.

- صنوف النسْخ في القرآن.

- شُبهات حول النسْخ في القرآن.

- عَرْضُ آيات منسوخة.

٤٠٥

الناسخُ والمنسوخ في القرآن

النسْخُ والإصلاحات التشريعية:

من طبيعة الحركة الإصلاحية الآخذة إلى التقدّم بوجه عامّ: أن يتوارد على تشريعاتها نسْخٌ متتابع حسب تَدرّجها التصاعدي نحو قمّة الكمال، تلك طبيعة الحركة الإصلاحية محتّمة، ولاسيّما إذا كانت الأمّة - الّتي انبعثت فيها هذه النهضة التقدّمية - أمّة متوغّلة في الضلال وبعيدة عن معالم الحضارة إلى حدٍّ كبير، حيث الانتشال بها من واقعها السحيق والانسجام مع سجيّتها المتوحّشة، لممّا يبدو متعذّراً ويتطلّب طيّ عقَبات ومراحل متلاحقة.

وهكذا استدعَت التشريعات الإسلامية نسْخاً متتالياً منذ أن ظهرت الدعوة في مكّة المكرّمة، وحتّى إلى ما بعد الهجرة إلى المدينة المنوّرة، وقد انتهت شريعة النَسْخ - فيما يخصّ آي الذكر الحكيم - بوفاته (صلّى الله عليه وآله) حيث انقطاع الوحي.

وكانت ظاهرة النسْخ أمراً لابدّ منه في كلّ تشريع يحاول تركيز معالمه في الأعماق، والأخذ بيد أمّة جاهلة إلى مستوى عال من الحضارة الراقية، الأمر الّذي لا يتناسب مع الطفرة المستحيلة، لولا الأناة والسَير التدريجي المستمرّ خطوة بعد خطوة.

ومن ثمّ فإنّ النَسْخ ضرورة واقعية تتطلّبها مصلحة الأمّة ذاتها، ولم يكد ينكر

٤٠٦

ما لهذه الظاهرة الدينية من فائدة وعوائد تعود على الأمّة، وأعظِمْ بها من حِكمة إلهيّة بالغة.

سلسلةُ تدوين هذا العِلم:

ولم يخفَ على العلماء ما لظاهرة النسْخ من حِكمة واقعية وحقيقة ثابتة لا محيص عنها، ومن ثمّ احتفلوا بشأنها وبذلوا عنايتهم البالغة نحو الاهتمام بها، وأخذوا في دراستها والتحقيق من جميع جوانبها المتنوّعة.

وأوّل مَن عالجَ الموضوع ودرَسه دراسة فنّية وجمَع أصوله في تدوينٍ جامع هو: أبو محمّد عبد الله بن عبد الرحمان الأصمّ المسمعي ، من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)، له رسالة في الناسخ والمنسوخ.

ثمّ تصدّى جماعة من أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) للبحث عن ذلك، وثبْت نتائج بحوثهم في رسائل، منهم: دارم بن قبيصة التميمي الدارمي، وأحمد بن محمّد بن عيسى القمّي، والحسن بن عليّ بن فضّال.

وفي القرن الثالث: قام المفسّر الإماميّ الكبير عليّ بن إبراهيم القمّي بتدوين رسالة خاصّة بشأن الناسخ والمنسوخ في القرآن، وكذا محمّد بن العبّاس المعروف بابن الحجّام، وأبو عبيد القاسم بن سلام (ت 225 هـ)، وجعفر بن مبشّر الثقفي (ت 235 هـ)، وأحمد بن حنبل (ت 241 هـ)، وسعد بن إبراهيم الأشعري القمّي (ت 301 هـ).

وفي القرن الرابع: أحمد بن جعفر البغدادي المعروف بابن المنادي (ت 334 هـ)، وأبو جعفر أحمد بن محمّد النحّاس (ت 338 هـ)، ومحمّد بن محمّد النيسابوري (ت 368 هـ)، وأبو سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي (ت 368 هـ)، ومحمّد بن الحسن الشيباني الإمامي، أدرجه في مقدّمة تفسيره (نهج البيان عن كشف معاني القرآن) ، ومحمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي الشهير

٤٠٧

بالصدوق (ت 381 هـ).

وفي القرن الخامس: هبة الله بن سلامة (ت 410 هـ)، وعبد القاهر البغدادي (ت 429 هـ)، ومكّي بن أبي طالب (ت 437 هـ)، وعليّ بن أحمد بن حزم الأندلسي (ت 456 هـ).

وفي القرن السادس: محمّد بن بركات بن هلال السعيدي (ت 520 هـ) صاحب (الإيجاز في ناسخ القرآن ومنسوخه) ، ومحمّد بن عبد الله المعروف بابن العربي (ت 543 هـ)، وأبو الفرج عبن الرحمان ابن الجوزي (ت 597 هـ).

وفي القرن الثامن: يحيى بن عبد الله الواسطي (ت 738 هـ)، وعبد الرحمان بن محمّد العتائقي (ت ح 770 هـ)، ومحمّد بن عبد الله الزركشي (ت 794 هـ) ضمن كتابه (البرهان) .

وفي القرن التاسع: أحمد بن المتوّج البحراني (ت 836 هـ)، وأحمد بن إسماعيل الابشيطي (ت 883 هـ).

وفي القرن العاشر: عبد الرحمان جلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) ضمن كتاب (الإتقان) ، ومحمّد بن عبد الله الاسفراييني.

وفي القرن الثاني عشر: عطيّة الله بن عطيّة الاجهوري (1190 هـ).

وفي هذا القرن الأخير الرابع عشر: كتب سماحة سيّدنا الأستاذ الإمام الخوئي (دام ظلّه) في الناسخ والمنسوخ في دراسة عميقة وافية ضمن مؤلّفه القيّم (البيان) ، وكتب الأستاذ مصطفى زيد (النسْخ في القرآن الكريم) ، والأستاذ علي حسن العريض (فتح المنّان في نسْخ القرآن) ، وغيرهم ممّا يطول.

خطورةُ معرفة الناسخ عن المنسوخ:

فإن دلّ ذلك، فإنّما يدلّ على مبلغ اهتمام علماء الأمّة بشأن وقوع النسْخ في القرآن، وتمييز الناسخ عن المنسوخ بشكل قاطع، علماً منهم بأنّ ذلك هو أُولى مقدّمات فهْم التشريع الإسلامي الثابت المستمرّ، ولا يمكن استنباط حكم شرعيّ

٤٠٨

ما لم يُعرف الناسخ عن المنسوخ، والثابت الباقي عن الزائل المتروك.

وروى أبو عبد الرحمان السلمي أنّ عليّاً (عليه السلام) مرّ على قاضٍ فقال له: (هل تعرف الناسخ عن المنسوخ؟ فقال: لا، فقال: هلكتَ وأهلكتَ، تأويل كلّ حرف من القرآن على وجوه) (1) .

ولعلّ هذا القاضي هو أبو يحيى المعرّف، كما جاء في حديث سعيد بن أبي الحسن، أنّه لقي أبا يحيى هذا فقال له: اعرفوني اعرفوني يا سعيد، إنّي أنا هو، قال سعيد: ما عرفت أنّك هو، قال: فإنّي أنا هو، مرّ بي علي (عليه السلام) وأنا أقضي بالكوفة فقال لي: (مَن أنت؟ فقلت: أنا أبو يحيى، فقال: لست بأبي يحيى، ولكنّك تقول: اعرفوني، ثمّ قال: هل علمتَ بالناسخ والمنسوخ؟ قلت: لا، قال: هلكت وأهلكت)، فما عدتُ بعد ذلك أقضي على أحد، أنافِعُك ذلك يا سعيد (2) ؟

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) لبعض متفقِّهةِ أهل الكوفة: (أنت فقيه أهل العراق؟ قال: نعم، قال: فبِم تُفتيهم؟ قال: بكتاب الله وسنّة نبيّه، فقال له الإمام (عليه السلام): أتعرف كتاب الله حقّ معرفته؟ وتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: نعم، قال: لقد ادّعيت عِلماً، ما جعل الله ذلك إلاّ عند أهله...) (3) .

وفي حديث احتجاجه (عليه السلام) على الصوفية: (ألكُم عِلمٌ بناسخ القرآن ومنسوخه؟ - إلى أن قال: - وكونوا في طلب ناسخ القرآن من منسوخه، ومُحكَمه من متشابهه، وما أحلّ الله فيه ممّا حرّم، فإنّه أقرب لكم من الله وأبعد لكم من الجهل، دعُوا الجهالة لأهلها، فإنّ أهل الجهل كثير وأهل العلم قليل، وقد قال تعالى: ( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ )) (4) .

* * *

____________________

(1) تفسير العيّاشي: ج 1 ص 12 رقم: 9، الإتقان: ج 2 ص 20 الطبعة الأُولى.

(2) رسالة الناسخ والمنسوخ لابن حزم (بهامش الجلالين): ج 2 ص 150.

(3) تفسير الصافي: المقدّمة الثانية ج 1 ص 13.

(4) وسائل الشيعة: ج 18 ص 135 - 136، والآية 76 من سورة يوسف.

٤٠٩

وقد أصبح البحث عن النسْخ في القرآن في هذا العصر مثار جدَلٍ عنيف، من جرّاء طعون وجّهها أعداء الإسلام إلى هذا الكتاب السماوي الخالد: كيف توجد فيه آيات منسوخة الحُكم لا فائدة في ثبْتها سوى القراءة المجرّدة؟ وهم غفَلوا أو تغافلوا عن أنّ الثبْت القرآني لم يقُم على أساس التشريع فحسب، إذ ليس في القرآن من آيات الأحكام سوى ما يقرب من خمسمئة آية، من بضع وستّة آلاف آية، وسنشرح هذه الناحية في حقل ردّ الشُبهات.

وربّما وقف بعض الكتّاب الإسلاميّين عن ردّ هذه الشبهة وأمثالها، فأنكر وجود آية منسوخة في القرآن - على ما نبحث -، ومن ثمّ كان من ضرورة الباحث الإسلامي أن يعالج هذه المسألة معالجة فنّية على أساليب النقد الراهن، بعد أن كانت المسألة ممّا يمسّ أخطر جانب من حياة المسلمين وهو كتابهم المعجز الخالد، فيقوم في وجه المعاندين سدّاً منيعاً، ومدافعاً عن كتاب الله المجيد الّذي ( لاَ رَيْبَ فِيهِ ) (1) و ( لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (2) .

وليكن بحثنا الحاضر مقتصراً على مسألة (النسْخ في القرآن) بصنوفه وشرائطه، وليس بحثاً عن مطلق النسْخ في الشريعة، الّذي هو بحث عام أصولي، خارج - بعض الشيء - عن صبغة البحث القرآني الذي هو موضوع كتابنا هذا، ومن الله التوفيق.

التعريف بالنسْخ:

جاءت تعاريف العلماء للنسْخ مختلفة وفاءً وقصوراً لهذه الظاهرة الدينية، غير أنّها جميعاً تشير إلى حقيقة واحدة نلخّصها فيما يلي:

(هو رفع تشريع سابق - كان يقتضي الدوام حسب ظاهره - بتشريعٍ لاحِق، بحيث لا يمكن اجتماعهما معاً، إمّا ذاتاً إذا كان التنافي بينهما بيّناً، أو بدليل خاصّ من إجماعٍ أو نصٍّ صريح) .

____________________

(1) وردت في عشر مواضع من القرآن.

(2) فصّلت: 42.

٤١٠

بأنْ نسَخَ الله ذلك بعدَه، وألّف بين قلوب الناس على أن ألهمهم ما هو خلاف شريعته، فلصيانة الدين إلى آخر الدهر أخبر الله تعالى أنّه هو الحافظ لِمَا أنزلهُ على رسوله؛ وبه يتبيّن أنّه لا يجوز نسْخ شيء منه بعد وفاته، وما يُنقل من أخبار الآحاد شاذّ لا يكاد يصحّ شيء منها.

قال: وحديث عائشة لا يكاد يصحّ؛ لأنّه (أي الراوي) قال في ذلك الحديث: وكانت الصحيفة تحت السرير، فاشتغلنا بدفْن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فدخل داجن البيت فأكله. ومعلوم أنّ بهذا لا ينعدم حفْظه من القلوب، ولا يتعذّر عليهم إثباته في صحيفة أخرى، فعرفنا أنّه لا أصل لهذا الحديث (1) .

قلت: في كلام هذا المحقّق كفاية في إبطال هذا الزعم، وأن لا حجّية في خبر واحد في هذا الشأن، ولاسيّما جانب مساسه بكرامة القرآن، واستلزام التلاعب بآيه الكريمة بعد وفاته (صلّى الله عليه وآله)، الأمر الّذي تبطله آية الحفظ وضمانه تعالى في حفْظ كتابه عن التحريف والزيادة والنقص؛ لأنّه كلامه المجيد يجب أن يبقى معجزة خالدة لدين الإسلام الخالد مع الأبديّة.

قال الجزيري - ردّاً على الزعم المذكور -: إنّ المسلمين قد أجمعوا على أنّ القرآن هو ما تواتر نقْله، فكيف يمكن الحكم بكون هذا قرآناً، فمن المشكل الواضح ما يذكره المحدّثون من روايات الآحاد المشتملة على أنّ آية كذا كانت قرآناً ونُسخت، على أنّ مثل هذه الروايات قد مهّدت لأعداء الإسلام إدخال ما يوجب الشكّ في كتاب الله من الروايات الفاسدة، فهذه وأمثاله - إشارة إلى حديث عائشة - من الروايات الّتي فيها الحكم على القرآن المتواتر بأخبار الآحاد - فضلاً عن كونه ضارّاً بالدين - فيه تناقض ظاهر (2) .

وقال الأستاذ السايس: ما رواه مالِك وغيره عن عائشة أنّها قالت: كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات... إلخ حديث لا يصحّ الاستدلال به؛ لاتّفاق

____________________

(1) أصول السرخسي: ج 2 ص 78 - 80.

(2) الفقه على المذاهب الأربعة: ج 3 ص 257.

٤١١

الجميع على أنّه لا يجوز نسخ تلاوة شيء من القرآن بعد وفاته (صلّى الله عليه وآله)، وهذا هو الخطأ الصراح (1) .

وقال تلميذه الأستاذ العريض: وهذا هو الصواب الّذي نعتقده وندين الله عليه، حتّى نقفل الباب على الطاعنين في كتاب الله تعالى، من الملاحدة والكافرين، الّذين وجدوا من هذا الباب نقرة يلِجون منها إلى الطعن في القرآن الكريم، وحتّى ننزّه كتاب الله تعالى عن شُبهة الحذف والزيادة بأخبار الآحاد، فما لم يتواتر في شأن القرآن إثباتاً وحذفاً لا اعتداد به، ومن هذا الباب نسْخ القرآن بالسنّة الآحادية، بل حتّى المتواترة عند بعضهم، ونرفض كلّ ما ورد من الروايات في هذا الباب، وما أكثرها، كما ورد في بعض الأقوال عن سورة الأحزاب وبراءة وغيرها (2) .

2 - نسْخ التلاوة دون الحُكم:

بأن تسقط آية من القرآن الحكيم، كانت تقرأ، وكانت ذات حكم تشريعي، ثمّ نُسيت ومُحيَت هي عن صفحة الوجود، لكن حكمها بقي مستمرّاً غير منسوخ.

وهذا النوع من النسْخ أيضاً عندنا مرفوض على غرار النوع الأوّل بلا فرْق؛ لأنّ القائل بذلك إنّما يتمسّك بأخبار آحاد زعَمها صحيحة الإسناد، متغفّلاً عن أنّ نسْخ آية محكَمة شيء لا يمكن إثباته بأخبار آحاد لا تفيد سوى الظنّ، وإنّ الظَنّ لا يُغني عن الحقّ شيئاً.

هذا فضلاً عن منافاته لمصلحة نزول نفس الآية أو الآيات، إذ لو كانت المصلحة الّتي كانت تقتضي نزولها هي اشتمالها على حكم تشريعيّ ثابت، فلماذا تُرفع الآية وحدها، في حين اقتضاء المصلحة بقاءها لتكون سنداً للحكم الشرعيّ

____________________

(1) فتح المنّان لعلي حسن العريض: ص 216 - 217.

(2) المصدر السابق: ص 219.

٤١٢

المذكور.

ومن ثمّ فإنّ القول بذلك استدعى تشنيع أعداء الإسلام وتعييرهم على المسلمين في كتابهم المجيد.

وأخيراً فإنّ الالتزام بذلك - حسب منطوق تلك الروايات - التزام صريح بتحريف القرآن الكريم، وحاشاه من كتاب إلهيّ خالد، مضمون بالحفْظ مع الخلود.

ولذلك فإنّ هذا القول باطل عندنا - معاشر الإمامية - رأساً، لا مبرّر له إطلاقاً، فضلاً عن مساسه بقداسة القرآن المجيد.

قال سيّدنا الأستاذ (دام ظلّه): أجمع المسلمون على أنّ النسْخ لا يثبت بخبر الواحد، كما أنّ القرآن لا يثبت به؛ وذلك لأنّ الأمور المهمّة الّتي جرت العادة بشيوعها بين الناس وانتشار الخبر عنها لا تثبت بخبر الواحد، فإنّ اختصاص نقلها ببعض دون بعض بنفسه دليل على كذِب الراوي أو خطئه، وعلى هذا فكيف يثبت بخبر الواحد أنّ آية الرجْم من القرآن وأنّها نُسخت؟! نعم، جاء عُمَر بآية الرجْم وادّعى أنّها من القرآن، لكنّ المسلمين لم يقبلوا منه؛ لأنّ نقْلها كان منحصراً به، فلم يُثبتوها في المصاحف، لكنّ المتأخّرين التزموا بأنّها كانت آية منسوخة التلاوة باقية الحُكم (1) .

هذا، ولكن جُلّ علماء أهل السنّة - بما فيهم من فقهاء كبار وأئمّة محقّقين - التزموا بهذا القول المستند إلى لفيف من أخبار آحاد زعموها صحيحة الإسناد، وهذا إيثار لكرامة القرآن على حساب روايات لا حجّية فيها في هذا المجال، وإن فُرضت صحيحة الإسناد في مصطلحهم، إذ صحّة السنَد إنّما تُجدي في فروع مسائل فقهية، لا إذا كانت تمسّ كرامة القرآن وتمهّد السبيل لإدخال الشكوك على كتاب المسلمين.

____________________

(1) البيان، ص 304.

٤١٣

هذا الإمام السرخسي - المحقّق الأصوليّ الفقيه - بينما شدّد النكير على القائل بالنسْخ من النوع الأوّل، إذا هو يلتزم به في هذا النوع، في حين عدم فرْق بينهما فيما ذكره من استدلال لبطلان الأوّل.

قال: وأمّا نسْخ التلاوة مع بقاء الحكم فبيانه - فيما قال علماؤنا -: أنّ صوم كفّارة اليمين ثلاثة أيّام متتابعة، بقراءة ابن مسعود (فصيام ثلاثة أيّام متتابعات) ، وقد كانت هذه قراءة مشهورة إلى زمن أبي حنيفة، ولكن لم يوجد فيها النقل المتواتر الّذي يثبت بمثله القرآن، وابن مسعود لا يُشكّ في عدالته وإتقانه، فلا وجه لذلك إلاّ أن نقول: كان ذلك ممّا يتلى في القرآن - كما حَفظَه ابن مسعود - ثمّ انتسخت تلاوته في حياة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بصرْف القلوب عن حفْظها إلاّ قلْب ابن مسعود ليكون الحُكم باقياً بنقْله، فإنّ خبر الواحد موجِب للعمل به، وقراءته لا تكون دون روايته، فكان بقاء هذا الحكم بعد نسْخ التلاوة بهذا الطريق (1) .

قلت: غير خفيّ سخافة هذا الاستدلال وبشاعة هذا التأويل!.

* * *

وفيما يلي عَرْض لِمَا أسهبه ابن حزم الأندلسي بهذا الشأن، وهو الإمام المحقّق صاحب مذهب واختيار، ومن ثمّ فإنّ ذلك منه غريب جدّاً.

قال: فأمّا قول مَن لا يرى الرجْم أصلاً فقول مرغوب عنه؛ لأنّه خلاف الثابت عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد كان نزل به قرآن، ولكنّه نُسِخ لفظُه وبقي حكمُه، ثمّ يروي عن سفيان عن عاصم عن زرّ قال، قال لي أُبيّ بن كعب: كم تعدّون سورة الأحزاب؟ قلت: إمّا ثلاثاً وسبعين آية أو أربعاً وسبعين آية، قال: إن كانت لتقارن سورة البقرة أو لهي أطول منها، وإن كان فيها لآية الرجْم، قلت: أبا المنذر، وما آية الرجْم؟ قال: (إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتّة نكالاً من الله والله عزيزٌ حكيم).

____________________

(1) أصول السرخسي: ج 2 ص 81.

٤١٤

قال: هذا إسناد صحيح كالشمس لا مغمز فيه.

ثمّ روى بطريق آخر عن منصور عن عاصم عن زرّ، وقال: فهذا سفيان الثوري ومنصور شَهدا على عاصم وما كذَبا، فهما الثقتان الإمامان البدران، وما كذبَ عاصم على زرّ، ولا كذبَ زرّ على أُبَيّ.

قال أبو محمّد: ولكنّها نُسِخ لفظُها وبقي حكمُها، ولو لم يُنسخ لفظُها لأقرأها أُبيّ بن كعب زرّاً بلا شكّ، ولكنّه أخبره بأنّها كانت تعدل سورة البقرة ولم يقل له: إنّها تعدل الآن، فصحّ نسْخ لفْظِها.

ثمّ يروي آية الرجْم عن زيد وابن الخطّاب، ويقول: إسناد جيّد.

ويروي عن عائشة، قالت: لقد نزلت آية الرجْم والرضاعة، فكانتا في صحيفة تحت سريري، فلمّا مات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تشاغلنا بموته فدخل داجن فأكلها. قال: وهذا حديث صحيح. وليس هو على ما ظنّوا؛ لأنّ آية الرجْم إذا نزلت حُذفت وعُرفت وعمَل بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، إلاّ أنّه لم يكتبها نسّاخ القرآن في المصاحف، ولا أثبتوا لفْظها في القرآن، وقد سأله عُمَر بن الخطاب ذلك فلم يُجِبه، فصحّ نسْخ لفظها، وبقيت الصحيفة الّتي كُتبت فيها كما قالت عائشة، فأكلها الداجن ولا حاجة بأحد إليها (1) .

قلت: وإنّي لأستغرب هذا التمحّل الفاضح في كلام مثل هذا الرجُل المعروف بالتحقيق، ودقّة النظر والاختيار.

كيف يقول: لا حاجة إليها وهي سنَد حكمٍ تشريعيّ ثابت! ثمّ كيف لا يعلم بالآية أحد من كتَبة الوحي ولم يكتبوها، سوى أنّها كُتبت في صحيفة وأُودعت عند عائشة فحسب، وكيف أنّها تركتها تحت سريرها ليأكلها داجن البيت؟! كلّ ذلك لغريب يستبعده العقل السليم.

____________________

(1) المحلّى: ج 11 ص 234 - 236.

٤١٥

والّذي غرّ هؤلاء: أنّها أحاديث جاءت في الصحاح الستّة وغيرها (1) ، ولابدّ لهم - وهم متعبّدون بما جاء فيها - أن يتقبّلوها على عِلّتها مهما خالفت أساليب النقد والتحقيق.

هذا، وقد أكثر جلال الدين السيوطي من نقل هكذا روايات ساقطة (2)، ومن قبْله شيخه بدر الدين الزركشي، ولكن مع شيء من الترديد (3) ، وقد أخذها بعض الكاتبين المحدّثين أدلّة قاطعة من غير تحقيق، قال - متشدّقاً -: وإذا ثبت وقوع هذين النوعين كما ترى ثبَت جوازهما؛ لأنّ الوقوع أعظم دليل على الجواز كما هو مقرّر، وإذاً بطَل ما ذهب إليه المانعون له من ناحية الشرع كأبي مسلم ومَن لفّ لفّه، ويبطل كذلك ما ذهب إليه المانعون له من ناحية العقل، وهم فريق من المعتزلة شذّ عن الجماعة، فزعم أنّ هذين النوعين الأخيرين مستحيلان عقلاً (4) .

قلت: ما أشرف حكم العقل لولا أنّ أمثال الزرقاني حصروه في أصحاب الاعتزال، وجعلوا من أنفسهم بمعزل عن نور العقل الحكيم.

وأمّا الأستاذ العريض، فقد ذهب هنا مذهباً تحقيقياً وأسهب في الردّ على هذا القول الفاسد دفاعاً عن كرامة القرآن، ونقل عن جماعة من معاصريه مواكبَته على هذا الرأي السديد (5) .

* * *

____________________

(1) راجع صحيح البخاري: ج 8 ص 209 - 210. وصحيح مسلم: ج 5 ص 116 و: ج 4 ص 167. والمستدرك: ج 4 ص 359. ومسند أحمد: ج 1 ص 23 و: ج 2 ص 43. وسنن الترمذي: ج 4 ص 39 و: ج 3 ص 456.

(2) راجع الإتقان: ج 3 ص 72 - 75. وراجع الدرّ المنثور: ج 4 ص 366 في تفسير آية من سورة الحجّ.

(3) راجع البرهان: ج 2 ص 35 - 37.

(4) راجع مناهل العرفان للزرقاني: ج 2 ص 215 - 216.

(5) راجع فتح المنّان: ص 224 - 230.

٤١٦

3 - نسْخ الحُكم دون التلاوة:

بأن تبقى الآية ثابتة في الكتاب يقرأها المسلمون عِبر العصور، سوى أنّها من ناحية مفادها التشريعي منسوخة، لا يجوز العمل بها بعد مجيء الناسخ القاطع لحُكمها.

هذا النوع من النسْخ هو المعروف بين العلماء والمفسّرين، واتّفق الجميع على جوازه إمكاناً، وعلى تحقّقه بالفعل أيضاً، حيث توجد في القرآن الحاضر آيات منسوخة وآيات ناسخة.

نعم، كانت لهذا النوع من النسْخ أنحاء ثلاثة، وقع الكلام في إمكان بعضها، نعرضها فيما يلي:

الأوّل: أن يُنسَخ مفاد آية كريمة بسُنّة قطعية أو إجماع محقّق، كآية الإمتاع إلى الحَول بشأن المتوفّى عنها زوجها (1) ؛ فإنّها - بظاهرها - لا تتنافى وآية العِدد والمواريث، غير أنّ السُنّة القطعية وإجماع المسلمين أثبتا نسخها بآية العدد والمواريث.

واستشكل بعضهم نسْخ القرآن بالسنّة؛ نظراً لأنّ الأوّل قطعي، والثانية ظنيّة. والجواب: أنّ مفروض الكلام ما إذا كانت السنّة متواترة وقطعية الصدور أيضاً، ودَعمها إجماع الأمّة في جميع العصور.

الثاني: أن يُنسخ مفاد آية بآية أخرى، بحيث تكون الثانية ناظرة إلى مفاد الأُولى ورافعة لحُكمها بالتنصيص، ولولا ذلك لم يكن موقع لنزول الثانية وكانت لغواً، وهذا كآية النجوى (2) أوجبت التصدّق بين يدي مناجاة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ونَسخَتها آية الإشفاق: ( أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ) (3) .

____________________

(1) البقرة: 240.

(2) المجادلة: 12.

(3) المجادلة: 13.

٤١٧

وهذا النحو من النسْخ لم يختلف فيه أحد.

الثالث: أن تُنسخ آية بأخرى من غير أن تكون إحداهما ناظرة إلى الأخرى، سوى أنّهم وجدوا التنافي بين الآيتين، بحيث لم يمكن الجمْع بينهما تشريعياً، ومن ثمّ أخذوا من الثانية المتأخّرة نزولاً ناسخة للأُولى.

ويجب أن يكون التنافي بين الآيتين كلّياً - على وجه التباين الكلّي - لا جزئيّاً وفي بعض الوجوه؛ لأنّ الأخير أشبه بالتخصيص منه إلى النسْخ المصطلح، وقد تسامح بعض الباحثين، فأخذ من ظاهر التنافي - ولو جزئيّاً - دليلاً على النسْخ، فقال بنسْخ العامّ بالخاصّ ونسْخ الإطلاق بالتقييد، ولكن عمدة عُذره هبوط مستواه العلمي في مبادئ علم الأصول.

ملحوظة: يشترط في هذا القسم الثالث، وجود نصٍّ صحيح وأثر قطعيّ صريح يدعمه إجماع القدامى، إذ من الصعب جدّاً الوقوف على تاريخ نزول آية في تقدّمها وتأخّرها، ولا عِبرة بثبْت آية قبل أخرى في المصحف، إذ كثير من آيات ناسخة هي متقدّمة في ثبْتها على المنسوخة، كما في آية العِدد (1) وهي ناسخة لآية الإمتاع إلى الحول (2) ، وهذا إجماع.

كما أنّ التنافي - على الوجه الكلّي - لا يمكن القطع به بين آيتين قرآنيّتين سوى عن نصّ معصوم؛ لأنّ للقرآن ظاهراً وباطناً ومحكَماً ومتشابهاً، وليس من السهل الوقوف على كُنه آية مهما كانت محكَمة.

هذا، وقد أخذ سيّدنا الأستاذ (دام ظلّه) من هذا الأخير مستمسكاً لنكران هذا النحو الثالث من النسْخ، قال: والتحقيق أنّ هذا القسم من النسْخ غير واقع في القرآن، كيف وقد قال الله عزّ وجلّ: ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) (3) .

____________________

(1) البقرة: 234.

(2) البقرة: 240.

(3) راجع البيان: ص 306، الطبعة الثانية. والآية 82 من سورة النساء.

٤١٨

لكن سنبيّن: أن لا تنافي بين الناسخ والمنسوخ في متْن الواقع، وإنّما هو تنافٍ ظاهري، إذ الحكم المنسوخ هو في الحقيقة حكم محدود في عِلم الله من أوّل تشريعه، غير أنّ ظاهره الدوام، ومن ثمّ كان التنافي بينه وبين الناسخ المتأخّر شكلياً محْضاً، وسيبدو ذلك بتوضيح أكثر عند الجواب عن الشُبهة الثالثة الآتية.

شُبهات حول النسْخ في القرآن:

وفي وقوع النسْخ في القرآن شُبهات قد تختلج بالبال، أو يُثيرها أصحاب التشكيك في محكَمات الشريعة الطاهرة، منها: شُبهات أوردها ناكروا النسْخ مطلقاً، فزعموا عدم إمكان النسخ في شريعة الله، وبالتالي عدم وقوعه في القرآن الكريم، وهي شُبهات متنوّعة ومختلفة المستوى، غير أنّا نذكر منها الأهمّ:

الأُولى: أنّ النسخ في التشريع كالبَداء في التكوين مستحيل بشأنه تعالى؛ لأنّهما عبارة عن نشأة رأيٍ جديد، وعثور على مصلحة كانت خافية في بدْء الأمر، والحال أنّ عِلمه تعالى أزليّ، لا يتبدّل له رأي ولا يتجدّد له علم، فلا يُعقل وقوفه تعالى على خطئه في تشريعٍ قديم لينسخه بتشريع جديد.

الجواب: أنّ النسْخ كالبَداء ليس على معناه الحقيقي الّذي هو عبارة عن نشأة رأيٍ جديد، وإنّما هو ظهور للناس بعد خفاء عليهم؛ لمصلحة في هذا الإخفاء في بدْء الأمر، حسبما تقدّم تحقيقه.

فالشارع تعالى يشرّع حكماً يكون بظاهره الدوام والاستمرار، حسبما ألِفه الناس من دوام الأحكام المطلقة، لكنّه في الواقع كان من الأوّل محدوداً بأمَد، معلوم لديه تعالى، ولم يظهره للناس إلاّ بعد انتهاء الأمَد المذكور؛ لمصلحة في ذلك الإخفاء وفي هذا الإظهار المتأخّر.

ولعلّ معترضاً يقول: لماذا كان تحديد في الأحكام، فإذا كانت في أصل تشريع الحُكم مصلحة فلتقتضِ الدوام، وإن لم تكن مصلحة فلا مقتضى لأصل التشريع.

٤١٩

قلنا: إنّ المصالح تختلف حسب الظروف والأحوال، كوَصفات طبيبٍ حاذق تختلف حسب اعتوار أحوال المريض واختلاف بيئته والمحيط الّذي يعيش فيه، فربّ مصلحة تستدعي تشريعاً متناسباً مع بيئة خاصّة وفي مستوى خاصّ، فإذا تغيّرت الواقعية فإنّ المصلحة تستدعي تبديل تشريع سابق إلى تشريع لاحِق يلتئم مع هذا الأخير.

وأمّا لماذا لم ينبّه الشارع تعالى على هذا التحديد من أوّل الأمر؟ فلعلّ هناك مصلحة مستدعية لهذا الإخفاء، منها: توطين نفوس مؤمنة وترويضها على الطاعة والانقياد، ولاسيّما إذا كان التشريع الأوّل أشدّ وأصعب، فيتبدّل إلى تشريع أسهل وأخفّ؛ تسهيلاً على الأمّة وتخفيفاً عليهم، رحمة من الله.

الشبهة الثانية: إنّ وجود آية منسوخة في القرآن ربّما يسبّب اشتباه المكلّفين، فيظنّونها آية محكَمة يعملون بها أو يلتزمون بمفادها، الأمر الّذي يكون إغراء الجهْل، وهو قبيح.

الجواب: إنّ مضاعفات جهل كلّ إنسان تعود إلى نفسه، ولم يكن الجهل يوماً ما عُذراً مقبولاً لدى العقلاء، فإذا كانت المصلحة تستدعي نسْخ تشريع سابق بتشريع لاحِق، فعلى المكلّفين أن يتنبّهوا هم إلى هذا الاحتمال في التشريع، ولاسيّما إذا كان التشريع في بدْء حركة إصلاحية آخذة في التدرّج نحو الكمال.

وهكذا كان في القرآن: ناسخ ومنسوخ، وعامّ وخاصّ، وإطلاق وتقييد، ومحكَم ومتشابه، وليس لأحد التسرّع إلى الأخذ بآية حتّى يعرف نوعيّتها، كما ورد التنبيه على ذلك في أحاديث مستفيضة عن أئمّة الدين، قال علي (عليه السلام) لقاضٍ مرّ عليه: (هل تعرف الناسخ من المنسوخ؟ فقال القاضي: لا، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إذاً هلكتَ وأهلكت) (1) .

____________________

(1) الإتقان: ج 2 ص 20. المناهل: ج 2 ص 70. البحار: ج 92 ص 95.

٤٢٠