ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية0%

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 311

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي شمس الدين
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 311
المشاهدات: 56941
تحميل: 7698

توضيحات:

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 311 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56941 / تحميل: 7698
الحجم الحجم الحجم
ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يزيد من هذه القبيلة أيضاً. وقد اعتمد حروبه ومؤامراته على هذه القبيلة وعلى قبائل اليمن الأخرى: عكّ، والسكاسك، والسكون، وغسّان وغيرها، واضطهد مضر الشام فلم يفرض عطاءً لقيس وهي من مضر؛ لثقته العظيمة بكفاءة أنصاره اليمانيين.

وهكذا مسكين الدارمي، وهو شاعر يخشى لسانه ويُرجى، طلب من معاوية أن يفرض له في العطاء فلم يجبه إلى ذلك؛ لأنّه مضري، فقال شعراً يرقق به قلب معاوية فلم يلتفت إليه. وقد سببت هذه المحاباة اعتزاز اليمن، فاشتدّ بأسها، واستطالت على الدولة، وتضعضعت قيس وسائر عدنان.

وسمع معاوية كلمة من بعض أهل اليمن أثارت مخاوفه، فرأى أن يضرب اليمانيين بالمضريِّين، ففرض من وقته لأربعة آلاف من قيس وغيرها من عدنان، وبعث إلى مسكين يقول له: « لقد فرضنا لك وأنت في بلدك؛ فإن شئت أن تقيم بها أو عندنا فافعل؛ فإنّ عطاءك سيأتيك »(1) .

* * *

ولقد كانت سياسة عمّال معاوية على أمصار الدولة هي سياسة معاوية

____________________

(1) انظر: التمدن الإسلامي 4/74 - 75، وقد جنى معاوية من فعله هذا ولاء مسكين الدارمي، وها هو يزين له استخلاف يزيد بقوله:

ألا ليتَ شعري ما يقول ابنُ عامرٍ

ومروانُ أم ماذا يقول سعيدُ

بني خلفاء اللهِ مهلاً فإنّما

يُبوّئها الرحمان حيث يريدُ

إذا المنبرُ الغربيُّ خلاه ربُّه

فإنّ أميرَ المؤمنين يزيدُ

انظر: تأريخ الشعر السياسي/241، الأغاني 8/71، ولا يفوتنا أن نلاحظ أنّ البيت الأوّل يشهد لهذا التناحر الذي كان يعمل عمله في صميم الأسرة الاُمويّة، ويشير إلى الأسماء البارزة في هذا الصراع؛ عبد الله بن عامر، ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص. منهرحمه‌الله .

١٠١

نفسه، فيعمد الوالي إلى إثارة العصبيات القبلية فيما بين القبائل؛ ليشغلها عن مراقبته والاتّحاد ضدّه، بالتناحر عنده فيما بينها.

وقد لاحظ ولهاوزن هذه الظاهرة، وقال عنها: «... وأججّ الولاة نار هذه الخصومة - يعني الخصومة بين القبائل - ولم يكن تحت تصرّف الولاة إلاّ شرطة قليلة، وفيما سوى ذلك كانت فرقهم من مقاتلة المصر، وهي قوّة الدفاع في القبائل، حتّى إذا أحسنوا التصرّف تهيّأ لهم أن يضربوا القبائل بعضها ببعض، وأن يثبتوا مركزهم بينهم.

وكثيراً ما كان يحدث أنّ الوالي يعتمد على إحدى القبائل ضدّ الأخرى، وبوجه عام على قبيلته التي أتى بها معه، حتّى إذا أتى والٍ جديد أتت قبيلة أخرى إلى الحكم، وينتج من ذلك أنّ القبيلة التي نُحّيت عن الحكم تُصبح عدوّاً لدوداً للقبيلة التي تحكم، وهكذا أضحت الميزات القبلية ملطّخة بالسياسة والخصام على الغنائم السياسيّة »(1) .

وقد كان زياد بن سميّة من أبرع عمّال معاوية في هذا الميدان، وممّا يؤثر عنه أنّه عندما همّ القبض على حجر بن عدي الكندي(2) أمر محمد بن الأشعث

____________________

(1) انظر: الدولة العربيّة/58.

(2) هو حجر بن عدي الأبرد الكندي الملقّب بحجر الخير، وكان من فضلاء الصحابة، وفد إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وشهد القادسية، وقد قتله معاوية صبراً، ويُقال: إنّه أوّل مَنْ قُتل صبراً في الإسلام. قُتل معه ستة من أصحابه، وهم: شريك بن شدّاد الحضرمي، وصيفي بن قبيل الشيباني، وقبيصة بن ضيعة العبسي، ومحرز بن شهاب السعدي، وكدام بن حيان العنزي، وعبد الرحمن بن حسّان العنزي.

وكان حجر ثقة =

١٠٢

الكندي بالقبض عليه هادفاً من وراء ذلك إلى زرع بذور الشقاق في كندة، وهي من أقوى قبائل الكوفة؛ ليستريح من وحدتها، ويلهي كلاً من أنصار حجر وأنصار محمد بأعدائه الجدد، ولكنّ يقظة حجر فوّتت على زياد هذه الفرصة، فسلّم نفسه إلى السلطة طوعاً(1) .

وقد قال عنه ولهاوزن: «... ولكنّ الواقع أنّه لم يقض في الكوفة على ثورة الشيعة بواسطة الشرطة، بل بعون من القبائل نفسها... وتمكّنه الغيرة القائمة بين القبائل من أن يضرب بعضها ببعض »(2) .

وقال عنه أيضاً:

____________________

= عيناً، ولم يرو عن غير عليعليه‌السلام شيئاً، وهو الذي افتتح مرج عذراء، وكان شريفاً في قومه مطاعاً، آمراً بالمعروف، صالحاً عابداً يلازم الوضوء، وباراً باُمّه، كثير الصلاة والصيام.

انظر: ترجمته في شرح نهج البلاغة 15/100، طبقات ابن سعد 6/151 و154، المستدرك 3/468، الاستيعاب 1/134 الرقم 548 طبعة حيد آباد، أُسد الغابة 1/385، سير أعلام النبلاء 3/305 الترجمة رقم 314، تاريخ الذهبي 3/276، تاريخ ابن الكثير 8/50، الإصابة 1/315، تأريخ الطبري 2/111 - 149 و5/277، تأريخ ابن الأثير 3/403 و404، وقعة صفّين/103، مروج الذهب 3/3 - 4، تهذيب الكمال 5/485 الرقم 1141، المعارف - لابن قتيبة/334، الأغاني 16/10، تأريخ مدينة دمشق 2/379، مسند أحمد 4/421، والمعجم الكبير - للطبراني 1/427، والعقد الفريد 4/345، وتهذيب ابن عساكر 7/206، وصفوة الصفوة 1/238، وسيرة ابن هشام 4/179.

(1) وترى عند أحد رفقاء حجر، وهو قبيصة بن ربيعة العبسي، تنبّهاً لهذه الأساليب؛ فقد قال لأبي شريف البدري حين قدم ليقتل في مرج عذراء: « إنّ الشرّ بين قومي وقومك آمن، فليقتلني سواك. فقال: برّتك رحم. ثمّ قتله القضاعي ».

(2) انظر: الدولة العربيّة/105 - 106.

١٠٣

«... وعرف زياد كيف يخضع القبائل بأن يضرب إحداها بالأخرى، وكيف يجعلها تعمل من أجله، وأفلح في ذلك »(1) .

وقد سلك ابنه عبيد الله هذا المسلك حين ولاّه معاوية البصرة بعد أبيه، وممّا يؤثر عنه في هذا الباب أنّه أغرى بين صديقيه الشاعرين أنس بن زنيم الليثي وحارثة بن بدر الفداني، وكان يُكره أحدهما على هجاء الآخر وقومه حتّى وقع بينهما شرّ بسبب ذلك، وعبيد الله ماضٍ في الإيقاع بينهما(2) .

وقد كان المغيرة بن شعبة والي الكوفة من قبل معاوية يتّبع نفس هذا الأسلوب، فعندما ولي الكوفة جعل من همّه أن يُفسد ما بين الخوارج والشيعة، وبذلك استطاع أن يشغل الكوفيين عن معارضة الاُمويِّين معارضة فعّالة(3) .

وها هو يصرّ على أن يدفع بصفوة الشيعة في الكوفة والبصرة إلى حرب الخوارج، ويُجهّز جيشاً منهم لهذه الغاية(4) .

وقد كانت عاقبة هذه السياسة أن عادت إلى الاشتعال من جديد تلك العداوات والأحقاد القديمة التي كانت بين القبائل، وكان من نتائجها بعد ذلك ظهور الشعر السياسي الحزبي والقبلي.

فقد شبّت نيران الهجاء بين شعراء الشيعة والخوارج والاُمويِّين، واشتعلت نيران الهجاء والمفاخرات القبلية بين القبائل نفسها، وعاضد الشعراء القبليون الأحزاب بدوافع قبلية، فقد انضمّ الأخطل إلى الاُمويِّين على قيس عيلان أعداء قومه التغلبيين، ثمّ انضمّ إلى الفرزدق على

____________________

(1) انظر: المصدر السابق/207.

(2) انظر: الأغاني/21 - طبعة الساسي.

(3) انظر: تأريخ الشعوب الإسلاميّة 1/146.

(4) انظر: تأريخ الطبري 4/175.

١٠٤

جرير؛ لأنّ جريراً كان لسان القيسية على تغلب، وكان الفرزدق تميمياً، وجرير أخذته قيس عيلان.

وقد تقمصّت هذه العصبية القبلية شكلاً دينياً حينما أخذت القبائل تسعى إلى اختراع الأحاديث في فضلها تنسبها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وذلك إنّ هذه القبائل لمّا كانت تتنازع الرياسة، والفخر، والشرف وجدت في الأحاديث باباً تدخل منه إلى المفاخرة كالذي وجدته في الشعر، فكم من الأحاديث وضعت في فضل قريش، والأنصار، وأسلم، وغفار، والأشعريين، والحميريين، وجهينة، ومزينة(1) .

وسنرى أنّ معاوية قد استأجر بعض تجّار الدين لاختلاق الأحاديث في مديحه ومديح أسرته، ولعلّ مساعيه هذه هي التي حملت الآخرين على اختلاق الأحاديث في تمجيد قبائلهم.

* * *

وهكذا بثّ معاوية روح البغضاء والنفرة بين القبائل العربيّة، فشغلت هذه القبائل بأحقادها الصغيرة عن مقارعة خصمها الحقيقي، الحكم الأموي، وشغل زعماء هذه القبائل بالسعي عند الملوك الاُمويِّين للوقيعة بأعدائهم القبليين، وفاز معاوية - وحلفاؤه من بعد - بكونه حكماً بين أعداءٍ هو الذي أشعل نيران العداء بينهم من حيث لا يشعرون، ووحّدهم في طاعته من حيث لا يدرون.

وقد دفعهم هذا الوضع إلى أن يقفوا دائماً مع الحاكمين ضدّ الثائرين؛ ليحافظوا على الامتيازات الممنوحة لهم، ويخذّلون عنها بل ويتسابقون في استخدام أقصى ما يملكونه من نفوذ ودهاء في هذا السبيل؛ للتأكيد على ولائهم التام للسلطة القائمة.

وقد لاحظ ولهاوزن:

____________________

(1) انظر: فجر الإسلام - أحمد أمين/213.

١٠٥

« إنّ وضعهم - زعماء القبائل - جنح بهم إلى أن يعتصموا بالحِطية والحكم، فلا يشرعون في القيام بثورة لا هدف لها بل يردّون الجماهير عنها عندما ينطلقون فيها، وها هم أولاء باسم الإسلام والنظام يضعون نفوذهم تحت تصرّف الحكومة؛ كيلا يُعرضوا وضعهم للأخطار »(1) .

والشواهد التي تدلّ على صدق هذه الملاحظة عمّا آل إليه أمر المسلمين بسبب استفحال الروح القبلية كثيرة جدّاً، وسيمر بعضها فيما يأتي من هذه الدراسة.

* * *

والعمل الآخر الذي قام به معاوية في هذا المجال هو إثارته للعصبية العنصرية عند العرب عموماً ضدّ المسلمين غير العرب، وقد أغرى هذا الموقف رؤساء القبائل العراقية فاندفعوا ينصحون الإمام علياًعليه‌السلام قائلين: « يا أمير المؤمنين، أعطِ هذه الأموال، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، واستمل مَنْ تخاف خلافه من الناس »(2) .

ناظرين إلى ما يصنع معاوية، ولكنّ الإمام علياًعليه‌السلام أجابهم قائلاً: « أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ؟! وَاللَّهِ لا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً. لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّهِ...؟! »(3) .

____________________

(1) انظر: الدولة العربيّة/52.

(2) انظر: الغارات 1/75، شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد 2/203، الإمامة والسياسة 1/173.

(3) انظر: نهج البلاغة - الخطبة 126.

١٠٦

أمّا السياسة الاُمويّة فلها من الموالي موقف آخر.

« تخاصم عربي ومولى بين يدي عبد الله بن عامر، فقال المولى للعربي: لا أكثر الله فينا مثلك.

فقال العربي: بل كثّر الله فينا مثلك.

فقيل له: يدعو عليك وتدعو له؟!

وقال: نعم، يكسحون طرقنا، ويخرزون خفافنا، ويحوكون ثيابنا »(1) .

وقالوا: لا يصلح للقضاء إلاّ عربي.

واستدعى معاوية بن أبي سفيان الأحنف بن قيس، وسمرة بن جندب، وقال لهما: « إنّي رأيت هذه الحمراء قد كثرت، وأراها قد قطعت على السلف، وكأنّي أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان، فقد رأيت أن أقتل شطراً، وأدع شطراً لإقامة السوق وعمارة الطريق »(2) .

وكان هذا الموقف العدائي من الموالي سبباً في امتهانهم وإرهاقهم بالضرائب، وفرض الجزية والخراج عليهم، وإسقاطهم من العطاء، فكان الجنود الموالي يُقاتلون من غير عطاء.

وكانوا يقولون: لا يقطع الصلاة إلاّ ثلاثة؛ حمار، أو كلب، أو مولى(3) . وكانوا لا يُكنّونهم بالكُنى، ولا يدعونهم إلاّ بالأسماء والألقاب، ولا يمشون في الصف معهم، ولا يُقدّمونهم في الموكب، وإن حضروا طعاماً قاموا على رؤوسهم، وإن أطعموا المولى لسُنّه وفضله وعلمه أجلسوه

____________________

(1) انظر: تأريخ مدينة دمشق 26/10، قريب منه.

(2) انظر: تأريخ مدينة دمشق 24/320، قريب منه.

(3) انظر: العقد الفريد 2/270، طبعة مصر سنة 1935 م، تأريخ التمدن الإسلامي 4/341.

١٠٧

على طريق الخبّاز؛ لئلاّ يخفى على الناظر أنّه ليس من العرب، ولا يدعونهم يُصلّون على الجنائز إذا حضر أحد من العرب وإن كان غَريراً.

وكان الخاطب لا يخطب المرأة منهم إلى أبيها ولا إلى أخيها، إنّما يخطبها إلى مواليها، فإن رضي مولاها زوّجت وإلاّ فلا. وإن زوّجها الأب أو الأخ بغير إذن مواليه فُسخ النكاح، وإن كان قد دخل بها عُدّ ذلك سفاحاً. وإذا أقبل العربي من السوق ومعه شيء فرأى مولىً دفعه إليه ليحمله عنه فلا يمتنع، ولا السلطان يُغيّر عليه، وكان إذا لقيه راكباً وأراد أن ينزل فعل(1) .

وقد سبّب هذا الموقف اللاإنساني من الموالي شقّ عصا المسلمين، وتراكم الأحقاد والعداوات بينهم، وكان سبباً في انعدام الرقابة الشعبية على الحاكمين.

* * *

وقد استمر هذا الداء الوبيل ينخر في جسم الأمّة الإسلاميّة حتّى مزّقها شرّ ممزّق، وقضى على وحدتها التي أنشأها الإسلام وقذف بها في عُباب حروب طاحنة أتت على روابط الألفة والمحبّة، وزرعت بين طوائفها الإحن والبغضاء.

ولقد كانت هذه السياسة التي سنّها معاوية وحلفاؤه لتدعيم سلطانهم بتحطيم وحدة الأمّة سبباً حاسماً في تحطيمهم، وتمكين أعدائهم منهم في نهاية المطاف(2) .

____________________

(1) انظر: العقد الفريد 2/260 - 261، ضحى الإسلام 1/18 - 34، التمدن الإسلامي 4/60 - 64 و91 - 96.

(2) للتوسع في موضوع القبلية انظر: أنساب الأشراف - البلاذري 1/18 - 34، تأريخ العرب - فيليب حنّى 2/350 - 352، تأريخ الشعوب الإسلاميّة - بروكلمان 1/156 - 157، الدولة العربيّة - ولهاوزن/165 - 173 و403 و414 - 415 و418 - 419، تاريخ الإسلام السياسي - حسن إبراهيم حسن 1/337 - 341، مختصر تأريخ العرب - سيد أمير علي /63 - 67 و78 و113 - 114. منهرحمه‌الله .

١٠٨

التحذير باسم الدين وشلّ الروح الثوريّة

« المأخذ الدائم الذي يؤخذ على الاُمويِّين هو أنّهم كانوا اُصولاً وفروعاً أخطر أعداء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّهم اعتنقوا الإسلام في آخر ساعة مرغمين، ثمّ أفلحوا في أن يحوّلوا إلى أنفسهم ثمرة حكم الدين أوّلاً بضعف عثمان، ثمّ بحسن استخدام نتائج قتله، هذا وأصلهم يفقدهم مزية زعامة اُمّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومن المحن التي بُلي بها حكم الدين أنّهم أصبحوا قائمين عليه، مع أنّهم كانوا ومافتئوا مغتصبين لسلطانه، وقوّتهم في جيشهم الذي هو على قدم الاستعداد في الشام، ولكنّ قوّتهم لا يمكن أن تُصبح حقّاً »(1) .

بهذه المشاعر ونظائرها واجه المسلمون الحكم الاُموي، وقد أراد معاوية أن يتغلّب على هذا الشعور العام بسلاح الدين نفسه، كما أراد التوصّل إلى تحطيم ما لأعدائه من سلطان روحي على المسلمين عن هذا الطريق أيضاً، وقد برع في الميدان كلّ البراعة، وواتته الظروف عليه فبلغ منه أقصى ما يرجو.

____________________

(1) انظر: الدولة العربيّة/53، تأريخ الإسلام السياسي 1/278 - 279.

١٠٩

وقد حفظ لنا التأريخ بعض الأسماء البارزة من أعوان معاوية في هذا اللون من النشاط.

قال ابن أبي الحديد: « ذكر شيخنا أبو جعفر الإسكافي إنّ معاوية وضع قوماً من الصحابة، وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في عليعليه‌السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جُعلاً يرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه. منهم؛ أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير »(1) .

وقد استعمل معاوية هؤلاء الأشخاص في سبيل إيجاد تبرير ديني لسلطان بني اُميّة، أو على الأقل لكبح الجماهير عن الثورة برادع داخلي هو الدين نفسه، يعمل مع الروادع الخارجية: التجويع، والإرهاب، والانشقاق القبلي.

هذا بالإضافة إلى مهمّة أساسية أخرى ألقاها معاوية على عاتق هؤلاء الأشخاص، وهي اختلاق « الأحاديث » التي تتضمّن الطعن في عليعليه‌السلام وأهل بيته، ونسبتها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ويوضّح لنا النصّ الآتي مدى اتّساع الشبكة التي كوّنها معاوية، ومدى تجاوبها مع رغباته: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة: « أن برئت الذمّة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته. فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر يلعنون علياً، ويبرؤون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته »(2) .

____________________

(1) انظر: شرح نهج البلاغة 4/61.

(2) معاوية أوّل مَنْ لعن الإمام عليعليه‌السلام على منابر المسلمين. =

١١٠

فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر يلعنون علياً ويبرءون منه... وكتب إلى عمّاله أن لا تقبلوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة(1) .

____________________

= انظر: شواهد التنزيل 2/459، فرائد السمطين 1/155 ب31 ح117 ط بيروت، تأريخ مدينة دمشق 2/348 و443 ح851 الطبعة الثانية ح959، لسان الميزان 1/175، أنساب الأشراف 2/103 و113، أحمد بن حنبل ح72/46 ط قم، كفاية الطالب ب 62/244 و246، كنز الحقائق/82 و92 و131، المناقب - للخوارزمي/62 و187 فصل 17 ح11 فصل 9، نور الأبصار/70 و101، الصواعق المحرقة/96 و161 ولكن زعم أنّه يروي الحديث بلفظ «... قال: ومَنْ عدوّي؟ قال: مَنْ تبرّأ منك ولعنك ».

فقد سبّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وذلك من خلال حبّه - ابن حجر - لمعاوية بن أبي سفيان الذي سبّ علياًعليه‌السلام ، ولعنه في الأقطار الإسلاميّة، وطلب التبرّي منه، وإن لم يكن ذلك فالضرب والشتم والهتك والقتل للمؤمنين. وهذا المشهور لا يحتاج إلى برهان ودليل.

انظر: خصائص الوحي المبين/131 فصل 21 الطبعة الأولى، الدر المنثور 6/89 و319 و7/305، مجمع الزوائد 9/131 و7/17، وبشارة المصطفى/163، تفسير الطبري 6/186 و12/657 ط اُخرى، وذخائر العقبى/88 و102، وروح المعاني 30/207 ط مصر، وتأريخ بغداد 7/421، الأغاني 18/39 الطبعة الأولى بيروت، والمسترشد في إمامة أمير المؤمنين/354، وينابيع المودّة/62 و74 و270 ط إسلامبول و71 و84 و361 و362 ط الحيدرية و1/196 و223 ط أسوة و2/357 و452 ط أسوة، وتذكرة الخواص/18، وفتح القدير - للشوكاني 5/477، إسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار/172، جواهر العقدين 2/219، وفي الصواعق المحرقة/161 ب11 فصل1.

(1) الشيعة أنفسهم اعتزّوا بهذا الاسم؛ فالسيد الحميري يردّ على لسان مَنْ قال له: يا رافضي، في محاولة للحطّ من شأنه، فيقول:

ونحنُ على زعمكَ الرافضو

ن لأهلِ الضلالةِ والمنكرِ

انظر: كتاب الزينة - للرازي (مخطوط)، الفصول - للسيد المرتضى 1/61.

وذُكر أنّ عمّار الدهني شهد شهادة عند ابن أبي ليلى القاضي، فقال له: قم يا عمّار فقد عرفناك، لا تُقبل شهادتك؛ لأنّك رافضي.

فقام عمّار يبكي، فقال ابن أبي ليلى: أنت رجل من أهل العلم والحديث، إن كان يسوءك أن يُقال لك: رافضي، فتبرّأ من الرفض، وأنت من إخواننا.

فقال له عمّار: ما هذا ذهبت والله إلى حيث ذهبت، ولكنّي بكيت عليك وعليّ؛ أمّا بكائي على نفسي فنسبتني إلى رتبة شريفة لستُ من أهلها. انظر: تنبيه الخواطر ونزهة النواظر - للأشتري 2/106.

١١١

وكتب إليهم: « أن انظروا مَنْ قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه، والذين يروون فضائله ومناقبه فادنوا مجالسهم، وقرّبوهم وأكرموهم، واكتبوا إليّ بكلّ ما يروي كلّ رجل منهم، واسمه، واسم أبيه، وعشيرته »(1) .

ففعلوا ذلك حتّى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه؛ لِما كان يبعثه معاوية إليهم من الصلات، والكساء، والحباء، والقطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثُر ذلك في كلّ مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمّال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاّ كتب اسمه وقرّبه وشفّعه، فلبثوا بذلك حيناً.

« ثمّ كتب إلى عمّاله أنّ الحديث في عثمان قد كثُر، وفشا في كلّ مصر، وفي كلّ وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة؛ فإنّ هذا أحبّ إليّ، وأقرّ لعيني، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته »(2) .

فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجدّ الناس في

____________________

(1) انظر: نهج البلاغة - لابن أبي الحديد 11/44، فجر الإسلام - لأحمد أمين/275.

(2) انظر: شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد 11/45، فجر الإسلام - لأحمد أمين/276.

١١٢

رواية ما يجري هذا المجرى حتّى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، وأُلقي إلى معلمي الكتاتيب، فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتّى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن، وحتى علّموا بناتهم ونساءهم وخدمهم [وحشمهم].

فلبثوا بذلك ما شاء الله، فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القُرّاء المراؤون، والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث؛ ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويُقربوا مجالسهم، ويُصيبوا به الأموال والضياع والمنازل... فلم يزل الأمر كذلك حتّى مات الحسن بن عليعليه‌السلام فازداد البلاء والفتنة(1) .

وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه - وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم - في تاريخه ما يناسب هذا الخبر، وقال: « إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني اُميّة؛ تقرّباً إليهم بما يظنّون أنّهم يرغمون به أنوف بني هاشم »(2) .

وقد تجلّى « سخاء » معاوية في هذا الميدان بوضوح؛ فها هو ذا يبذل (للصحابي) سمرة بن جندب أربعمئة ألف درهم على أن يروي أنّ هذه الآية:( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ

____________________

(1) انظر: شرح نهج البلاغة 11/45 - 46.

(2) انظر: شرح نهج البلاغة 11/46.

١١٣

وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) (1) ، قد نزلت في علي بن أبي طالب، وأنّ الآية الثانية نزلت في ابن ملجم وهي قوله تعالى:( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) (2) ، فروى ذلك(3) .

وأمّا أبو هريرة فقد كافأه بولاية المدينة؛ لأنّه روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في شأن عليعليه‌السلام وبني اُميّة ما يلائم ذوق معاوية وأهدافه السياسيّة(4) .

وممّا يتصل بهذا ما تكشف عنه بعض النصوص أنّ من ملامح سياسة معاوية وجهازه إلغاء الرموز ذات المحتوى التأريخي الذي يعبّر عن قيمة دينية معينة ذات أثر اجتماعي، وذلك بما يعكسه الرمز ويثيره في الأذهان من صور تأريخيّة تتّصل بحياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبالكفاح من أجل انتصار الإسلام.

____________________

(1) سورة البقرة/204 - 205.

(2) سورة البقرة/207.

(3) انظر: شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد 1/789 الطبعة الحديثة بيروت و4/73. قال طه حسين: « لو ردّت إلى المسلمين أمورهم، وطلب إليهم أن يختاروا إماماً لما اختاروا معاوية بحال من الأحوال؛ لأنّهم بلوا سياسته، وحبروا عمّاله، فرأوا أنّ أمورهم تصير إلى شرّ عظيم... فهم يحكمون بالخوف لا بالرضا، ويُساسون بالرعب والرهب لا بما ينبغي أن يُساس به المسلمون من كتاب الله وسنّة نبيّه.

وأموالهم العامّة ليست لهم بل إلى ملكهم وولاتهم، يتصرّفون فيها ما يشتهون، لا على ما يقتضيه الحقّ والعدل والمعروف... ودماؤهم ليست حراماً على الملك وعمّاله، وإنّما يستحلّ منها الملك والعمّال ما حرم الله... لا إقامة لحدود الدين، ولكن تثبيتاً لسلطان الملك ». انظر: الفتنة الكبرى - 2 - علي وبنوه - للدكتور طه حسين/131 - 132.

(4) انظر: شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد 4/67 و69 و 73.

١١٤

من هذه السياسة ما يكشف عنه النصّ الذي يتضمّن أنّ معاوية وعمرو بن العاص أرادا أن يختبرا إمكانية إلغاء اسم « الأنصار » الذي اشتهر به الأوس والخزرج منذ عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وورد في القرآن الكريم اسماً لمسلمي المدينة كما كان اسم « المهاجرين » لمسلمي مكة قبل الهجرة(1) .

ولا بدّ أنّ هدف هذه المحاولة هو تجريد الأنصار من القوّة المعنوية التي يسبغها هذا اللقب عليهم. قال عمرو لمعاوية: « ما هذا اللقب يا أمير المؤمنين؟ أردد القوم إلى أنسابهم. فقال معاوية: إنّي أخاف من ذلك الشَّنعة. فقال: هي كلمة تقولها، إن مضت عضّتهم ونقّصتهم ». ولكنّ الأنصار انتبهوا للمحاولة، فردّوها بحزم(2) .

وقد خلقت لنا هذه المدرسة - مدرسة معاوية في الرواية والحديث - ألواناً من الأحاديث النبويّة، منها ما يرجع إلى القدح في علي وآل بيتهعليهم‌السلام ، وقد استفرغ معاوية غاية وسعه في هذا الميدان الذي قدّمنا لك آنفاً تعريفاً بأسلوب معاوية في خوضه(3) .

____________________

(1) ورد لقب الأنصار في القرآن الكريم مرتين مقروناً بالمهاجرين في آيتين من سورة التوبة، تضمّنتا مدح الله تعالى لهم وثناءه عليهم:( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) الآية 100، و( لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) الآية 117. منهرحمه‌الله .

(2) انظر: الأغاني 16/42 - 43 و48، طبعة دار الكتب.

(3) ويظهر أنّ هذا الاتجاه اعتُبر سياسة ثابتة في مهمات الدولة الثقافية، فنجد أنّ هشام بن عبد الملك =

١١٥

ومنها ما يرجع إلى تمجيد بني اُميّة - وعلى الأخص عثمان ومعاوية - ويجعلهم في مرتبة القدّيسين، كهذا الذي رواه أبو هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله ائتمن على وحيه ثلاثاً؛ أنا، وجبرئيل، ومعاوية(1) .

وأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ناول معاوية سهماً، فقال له: خذ هذا حتّى تلقاني في الجنّة(2) ، وأنا مدينة العلم، وعلي بابها، ومعاوية حلقتها(3) ، وتلقون من بعدي اختلافاً وفتنة، فقال له قائل من الناس: فمَنْ لنا يا رسول الله؟ قال: عليكم بالأمين وأصحابه، يشير بذلك إلى عثمان(4) .

____________________

= طلب من ابن شهاب الزهري أن يقول في قوله تعالى:( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) النور/11، أي الذي تولّى كبره هو علي بن أبي طالب، فأبى وقال: هو عبد الله بن أبي سلول. وعندما طلب خالد من عبد الله القسري - والي العراق في عهد هشام بن عبد الملك - من ابن شهاب الزهري أن يكتب سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يقول ابن شهاب: « فقلت له: فإنّه يمرّ بي الشيء من سيرة علي بن أبي طالب فأذكره؟ »، ولكنّ خالداً القسري رفض أن يأذن لابن شهاب في ذكر عليعليه‌السلام إلاّ إذا كان ذكره يتضمّن قدحاً وذمّاً.

انظر: ضحى الإسلام (الطبعة الخامسة) 2/326، نقله عن الأغاني 19/59. منهرحمه‌الله .

(1) انظر: تأريخ مدينة دمشق 59/74، البداية والنهاية 8/120.

(2) انظر: تحف العقول/194.

(3) انظر: كشف الخفاء 1/236.

(4) انظر: مسند أحمد 2/345، البداية والنهاية 6/230، كنز العمّال 13/42، تأريخ مدينة دمشق 29/267، بغية الباحث/294، ولا نريد التعليق على هذه الرواية الموضوعة سنداً ومتناً؛ لأنّه من غير المعقول أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوصي بأصحاب عثمان بن عفّان وهو يعلم سيرة مروان بن الحكم وأمثاله! بل نترك للقارئ المنصف أن يحكم بنفسه على مثل هذه الموضوعات.

١١٦

ومنها ما يُحذّر المسلمين من الثورة، ويزيّن لهم الرضوخ، ويوهمهم أنّ الثورة على الظلم، والسعي نحو إقامة نظام عادل عمل مخالف للدين. وبديهي أنّ شيئاً من ذلك لم يصدر عن الله ولا عن رسوله.

ومن هذه الأحاديث ما عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها. قالوا: فماذا تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدّوا إليهم حقّهم، وسلوا الله حقّكم(1) . و « مَنْ رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه؛ فإنّ مَنْ فارق الجماعة شبراً فمات إلاّ ميتة جاهليّة »(2) ، و « ستكون هنات وهنات، فمَنْ أراد أن يفرّق أمر هذه الأمّة وهي جمع فاضربوه بالسيف كائناً ما كان »(3) .

وحدّث العجّاج(4) قال: قال لي أبو هريرة: مَنْ أنت؟ قال: قالت: من أهل العراق. قال: يوشك أن يأتيك بقعان أهل الشام فيأخذوا صدقتك، فإذا أتوك فتلقّهم بها، فإذا دخلوها فكن في أقاصيها، وخلّ عنهم وعنها. وإيّاك

____________________

(1) انظر: صحيح البخاري 2/837 ح2247، سنن الترمذي 4/482 ح2189، سنن البيهقي الكبرى 8/159.

(2) انظر: صحيح مسلم 3/1447 ح1849، صحيح البخاري 6/2588 ح6646، سنن الدارمي 2/314 ح2519، مسند أحمد 1/275 ح2487.

(3) نجد هذه النصوص وغيرها في البخاري وغيره من كتب الحديث. انظر: صحيح مسلم 3/1479 ح1852، صحيح ابن حبّان 10/255 ح4406، المستدرك على الصحيحين 2/169 ح2665.

(4) هو رؤبة بن العجّاج الباهلي.

١١٧

أن تسبّهم؛ فإنّك إن سببتهم ذهب أجرك وأخذوا صدقتك، وإن صبرت جاءتك في ميزانك يوم القيامة(1) . وما شاكل هذا من الأحاديث التي تدعو المسلمين إلى الخضوع لأمرائهم الظالمين، وتحرّم عليهم الثورة على هؤلاء الأمراء طلباً لحقّهم.

إنّ هذه الأحاديث تدعو إلى الصبر على الظلم والجوع والإرهاب؛ لأنّ استنكار ذلك مخالف للدين.

وينطلق المأجورون من الوعّاظ والمحدّثين فينفثون هذه السموم في قلوب الجماهير المسلمة وعقولها، وبذلك يلجمونها عن التذمّر والثورة بلجام ينسبونه إلى الدين والدين منه بريء، يقعدون بها عن الاحتجاج على سياسة العسف والظلم، ويحجزونها عن محاولة تحسين حياتها.

* * *

هذا لون من ألوان التضليل الديني الذي ابتدعه الاُمويّون لتثبيت ملكهم. وهنا لون آخر من ألوان التضليل الديني استخدموه وبرعوا في استخدامه، وهو تأسيس الفرق الدينية السياسيّة التي تُقدّم للجماهير تفسيرات دينية تخدم سلطة الاُمويِّين وتبرّر أعمالهم.

ومن الأمثلة البارزة في هذا الميدان فرقة المرجئة، فقد كان الاُمويّون يواجهون الشيعة الذين يعتبرون بني اُميّة قتلة غاصبين لتراث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والخوراج الذين يرونهم كفرة تجب الثورة عليهم وإزاحتهم عن الحكم.

____________________

(1) انظر: عيون الأخبار 1/7، الشعر والشعراء - لابن قتيبة/572، شيخ المضيرة أبو هريرة/234، غريب الحديث 4/206، الفائق في الحديث 1/106.

١١٨

وكان كلّ واحد من هذين الفريقين يُقدّم بين يدي دعواه حججاً لا يملك الاُمويّون ما يُقابلها؛ لذلك أنشؤوا فرقة المرجئة التي قدّمت أدلّة مقابلة لأدلّة الشيعة والخوارج، ووقفت ضدّهم في ميدان النضال السياسي الديني.

ويحدّثنا ابن أبي الحديد أنّ معاوية كان يتظاهر بالجبر والإرجاء، وأنّ المعتزلة كفّروه لذلك(1) . لقد اعتبروا المرجئة الإيمان عملاً قلبياً خالصاً لا يحتاج إلى التعبير عنه بفعل من الأفعال، فيكفي الإنسان أن يكون مؤمناً بقلبه ليعصمه الإسلام، ويحرم الاعتداء عليه، وهم ينادون: « لا تضرّ مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة ».

وقالوا: « إنّ الإيمان الاعتقاد بالقلب، وإن أعلن الكفر بلسانه، وعبد الأوثان، ولزم اليهودية، والنصرانية في دار الإسلام، ومات على ذلك فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عزّ وجلّ ولي لله عزّ وجلّ، من أهل الجنّة »(2) . والنتيجة المنطقية لهذا اللون من التفكير هي أنّ الاُمويِّين مؤمنون مهما ارتكبوا من الكبائر(3) .

ومن نتائج ذلك أنّ المرجئة لا يوافقون الخوارج والشيعة شرعية لا يجوز الخروج عليها، ولم يسلّم المرجئة بأنّ انصراف خلفاء بني اُميّة عن تطبيق أحكام الشريعة كافٍ لحرمانهم من حقوقهم كأولياء الأمر في

____________________

(1) انظر: شرح نهج البلاغة 1/340.

(2) انظر: الفصل في الملل والنحل 4/204.

(3) انظر: تأريخ العرب - فيليب حتّي 2/316.

١١٩

الإسلام(1) .

وقد كان المرجئة يبشّرون بهذه الأفكار بين صفوف الأمّة المسلمة؛ لأجل تخديرها وصرفها عن الاستجابة لدعاة الثورة على الاُمويِّين.

وبينما نجد الاُمويِّين يضطهدون كلّ دعوة دينية لا تلائمهم نراهم بالنسبة إلى المرجئة على العكس من ذلك فهم يحتضنون هذه الفرقة ويعطفون على قادتها، وما ذلك إلاّ لأنّ معاوية سيّدهم هو واضع أسسها، وقد عرفت آنفاً إنّه كان يقول بالجبر والإرجاء.

من البيّن أنّ هذا الموقف الذي اتّخذه المرجئة من الاُمويِّين يتعارض تعارضاً مطلقاً مع إدراك اُولئك الذين يؤيّدون مطالب العلويين. ويصوّر لنا هذان البيتان من الهجاء نظرة الشيعة إلى المرجئة:

إذا ما الـمُرجيّ سرّك أن تراه

يموتُ بدائهِ من قبلِ موتهْ

فجدّد عندهُ ذكرى عليٍّ

وصلِّ على النبي وآلِ بيتهْ(2)

____________________

(1) لمّا استخلف يزيد بن عبد الملك بن مروان قال: سيروا بسيرة عمر بن عبد العزيز. فمكث كذلك أربعين ليلة، فأتى بأربعين شيخاً فشهدوا له أنّه ما على الخلفاء من حساب ولا عذاب.

انظر: ابن كثير/232.

« وإنّ قوماً من المرجئة على رأسهم رجل يُقال له: أبو رُوّية، انضموا إلى يزيد بن المهلّب بن أبي صفرة في ثورته على يزيد بن عبد الملك بن مروان، ولمّا جاء مسلمة بن عبد الملك لقمع الثورة، وحرّض يزيد بن المهلّب الناس على القتال، قال ابن رُوّية: إنّا قد دعوناهم إلى كتاب الله، وسنّة نبيّه، وقد زعموا أنّهم قبلوا، فليس لنا أن نمكر ولا نغدر، ولا نريدهم بسوء.

فقال لهم يزيد بن المهلّب: ويحكم! أتصدّقون بني اُميّة؟! إنّهم أرادوا أن يجيبوكم ليكفّوكم منهم حتّى يعملوا في المنكر.

قالوا: لا نرى أن نفعل ذلك حتّى يردّوا علينا ما زعموا أنّهم قبلوه منّا » منهرحمه‌الله . انظر: تأريخ الطبري 6/593.

(2) لاحظ في هذا الموضوع، فجر الإسلام - أحمد أمين/279 - 282 و291 - 294، ضحى الإسلام 3/316 - 329، العقيدة والشريعة في الإسلام - إجناس جولد تسهر/75 - 77 و295 هامش رقم 20، ونسب إلى المأمون هذان البيتان كما جاء في مروج الذهب 3/329.

١٢٠