ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية0%

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 311

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي شمس الدين
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 311
المشاهدات: 56953
تحميل: 7698

توضيحات:

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 311 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56953 / تحميل: 7698
الحجم الحجم الحجم
ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وإلى جانب ما تقدّم أعتمد الاُمويّون أسلوباً آخر من أساليب التضليل الديني لدعم حكمهم وصرف الناس عن الثورة عليهم؛ فقد واجه الاُمويّون خطراً ساحقاً عليهم من عقيدة القدرية القائلين بحرية الإرادة والاختيار، وإنّ الإنسان هو الذي يختار نوع السلوك والعمل الذي يمارسه في حياته، وإذا كان حرّاً فهو مسؤول عن أفعاله؛ لأنّ كلّ حرية تستتبع حتماً المسؤولية.

هذه العقيدة كانت خطراً على الاُمويِّين الذي يفرّقون من رقابة الاُمّة عليهم وعلى تصرّفاتهم؛ ولذلك فقد اضطهدوا هذه العقيدة ودعاتها وتمسّكوا بالعقيدة المضّادة لها (عقيدة الجبر)(1) . فهذه هي العقيدة التي تلائمهم في الميدان السياسي؛ لأنّها توحي إلى الناس بأنّ وجود الاُمويِّين وتصرّفاتهم مهما كانت شاذّة وظالمة ليست سوى قدر مرسوم من الله لا يمكن تغييره ولا تبديله، فلا جدوى من الثورة عليه.

وها هو معاوية يتظاهر بالجبر والإرجاء كما قدّمنا؛ لأجل تبرير أفعاله أمام الملأ بأنّها مقدورة لا سبيل إلى تبديلها، مع كونها في الوقت نفسه غير قادحة فيه باعتباره حاكماً دينياً.

ولا بدّ أنّه قد عهد بإذاعة أفكاره الخاصّة حول هاتين العقيدتين - الجبر والإرجاء - بين المسلمين إلى ولاته وأجهزة الدعاية عنده، ومنها القصّاص.

قال الليث بن سعد:

____________________

(1) انظر: النظم الإسلاميّة موريس غودفردا/39. « في الخلاف الذي قام حول الجبرية ساند الخلفاء الاُمويّون فكرة إنكار الإرادة في أفعال الإنسان ».

١٢١

« وأمّا قصص الخاصّة فهو الذي أوجده معاوية، ولّى رجلاً على القصص فإذا سلّم من صلاة الصبح جلس وذكر الله عزّ وجلّ، وحمده ومجّده، وصلى على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ودعا للخليفة ولأهل بيته، وحشمه وجنوده، ودعا على أهل حربه، وعلى المشركين كافّة »(1) .

وأمر رجلاً يقصّ بعد الصبح، وبعد المغرب يدعو له ولأهل الشام(2) ، ولا بدّ أنّ هذا الدعاء كان استهلالاً يبتدئ به القاصّ، ثمّ يأخذ بعده في قصصه.

ومثل معاوية لا يجعل الفوائد الجليلة التي يمكن أن تُقدّمها له عقيدة الجبر، فهو - وسائر الاُمويِّين - كانوا يعلمون أنّ أُسرتهم غير مُحتلمة من المسلمين، ويعلمون أنّهم في نظر كثير من رعاياهم مُختلسون. وصلوا إلى السلطة بوسائل قهريّة شديدة، وأنّهم أعداء لآل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقتلة لأشخاص مُقدّسين لا ذنب لهم، وإن كان ثمّة عقيدة تمسك الناس عن أن يثوروا عليهم وعلى ولاتهم لكانت عقيدة الجبر، هذه العقيدة التي توحي إلى الناس بأنّ الله قد حكم منذ الأزل أن تصل هذه الأسرة إلى الحكم، فأعمالهم وتصرّفاتهم ليست إلاّ نتيجة لقدر إلهي محكم، من أجل ذلك كان حسناً جدّاً لهم ولدولتهم أن تتأصّل هذه الأفكار في أذهان الاُمّة(3) .

____________________

(1) انظر: فجر الإسلام/159.

(2) انظر: فجر الإسلام/160.

(3) انظر: فجر الإسلام 3/81، يقول الدكتور أحمد أمين: «... وبنو اُميّة - كما يظهر - كانوا يكرهون القول بحرية الإرادة، لا دينياً فقط، ولكن سياسياً كذلك؛ لأنّ الجبر يخدم سياستهم. فالنتيجة للجبر أنّ الله الذي يُسيّر الاُمور قد فرض على الناس بني اُميّة كما فرض كلّ شيء، ودولتهم بقضاء الله وقدره، فيجب الخضوع للقضاء والقدر ». منهرحمه‌الله .

١٢٢

وقد استغل الشعر إلى جانب النصوص الدينية في سبيل تعزيز هذه الأفكار، فقد كان معاوية - كما يقول بروكلمان - قادراً على أن يفيد ممّا لشعراء عصره من تأثير عظيم في الرأي العام بسبيل مصالحه العائلية(1) .

فكان معاوية - وملوك بني اُميّة من بعده - يسعون راضين شعراءهم بل ويحملون هؤلاء الشعراء على أن يقولوا الشعر الذي يُمجّدونهم فيه بنعوت تجعل سلطانهم وسيادتهم قدراً مقدوراً من الله، ومن أجل ذلك لا يمكن أن يثور المؤمن ضدّهم.

فمعاوية عند الأخطل ليس ملكاً كما وصف نفسه في ساعة من ساعات سهوه، بل خليفة الله، والظفر الذي حازه ليس ناشئاً من أسبابه الطبيعية وإنّما هو من صنع الله(2) :

إلى امرئ لا تعدينا نوافلُه

أظفرهُ اللهُ فليهنأ لهُ الظفرُ

الخائضُ الغمرَ والميمونُ طائرُه

خليفةُ اللهِ يُستسقى بهِ المطرُ

ولم يُفضل الاُمويّون غيرهم - عند الأخطل - بماضيهم المجيد في الجاهليّة ولا بسخائهم، ولا بنجدتهم وشجاعتهم، وإنّما فضّلهم الله. ولم يكن رفع المصاحف في صفّين خدعة تفتّق عنها ذهن ابن العاص، وإنّما هو إلهام من الله. وأخيراً فالله هو الذي مكّنهم من الثأر لعثمان حين أوصلهم إلى سدّة الحكم:

تمّت جدودُهمُ واللهُ فضّلهمْ

وجدُّ قومٍ سواهم خاملٌ نكدُ

همُ الذينَ أجابَ اللهُ دعوتهمْ

لما تلاقت نواصي الخيلِ واجتلدوا

____________________

(1) انظر: تأريخ الشعوب الإسلاميّة 1/148.

(2) انظر: لسان العرب 4/138.

١٢٣

ويوم صفّين والأبصارُ خاشعةٌ

أمدّهم إذ دُعوا من ربّهم مددُ

على الاُلى قتلوا عثمانَ مظلمةً

لم ينههم نشدٌ عنهُ وقد نُشدوا

والأخطل كسائر شعراء عصره ذو روح جاهليّة تعرف الفضل بالنسب وما إليه من عنعنات الجاهليّين، لا بالله، وتعرف النصر بالشجاعة والقوّة والكثرة والدهاء، لا بالله.

فهذا النفس الديني الذي يشبه أن يكون صوفيّاً؛ لكثرة ذكر الله فيه ليس من طبيعة الأخطل، وإنّما هو موحى به من ممدوحه، أو من هؤلاء الذين بثّهم معاوية لصوغ أفكاره الخاصّة بما يشيع بين العامّة؛ سواء كان ذلك بالرواية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو بالشعر.

ومسكين الدارمي يقول في شأن عقد ولاية العهد ليزيد:

ألا ليتَ شعري ما يقولُ ابنُ عامرٍ

ومروانُ أم ماذا يقولُ سعيدُ

بني خلفاءِ اللهِ مهلاً فإنّما

يبوّئها الرحمانُ حيثُ يريدُ

إذا المنبرُ الغربي خلاه ربُّه

فإنّ أميرَ المؤمنينَ يزيدُ(1)

وكما أنّ مذهب الجبر استُخدم لتبرير حال الأسرة الاُمويّة على العموم، فقد استخدم أيضاً في تهدئة الشعب حين كان يُبتلى، أو يُغرى بأن يرى في أعمال الحكّام والعمّال الظلم والطغيان(2) .

____________________

(1) انظر: تأريخ الشعر السياسي/241، الأغاني 8/71.

(2) انظر: ضحى الإسلام 3/81 - 82، العقيدة والشريعة في الإسلام/85 - 87.

١٢٤

آثار سياسة معاوية في المجتمع الإسلامي

لقد رأينا أنّ سياسة الاضطهاد والتجويع خنقت نزعة الحرية في النفوس، وحملت الجماهير على أن ترضى بحياة ذليلة مُضطهدة؛ خشية أن تصير إلى لون من الحياة أقسى وأنكد. ورأينا أنّ الروح القبلية حوّلت الإنسان المسلم عن أهدافه العظيمة التي وجّهه إليها الإسلام، وشغلته بأهداف أخرى تتّصل بأفقه القبلي الضيّق وصنمه القبلي الجديد.

فهنا عامل نفسي وهو الخوف، وعامل اجتماعي وهو الوضع القبلي كانا يُقعدان بالإنسان المسلم عن الثورة، ويحملانه على تقبّل حياته على ما فيها من نكد وقسوة وحرمان، ولكنّهما ما كانا ليحملا الرضى الباطني لروحه القلقة المعذّبة، فقد كان يشعر بالإثم لسكوته عن الحكم الأموي، وقد كان يشعر بالإثم؛ لقعوده عن محاولة تطهير المجتمع من المنكرات التي يراها، وقد كان هذا الشعور بالإثم كفيلاً بأن يدفعه في النهاية إلى التغلّب على الخوف في نفسه وإلى تحطيم النطاق القبلي الذي يغلّه.

ولكن هذا الركن الثالث من أركان السياسة الاُمويّة - أعني التضليل الديني - تكفّل بإيجاد تبرير ديني للوضع الاجتماعي الشاذّ الذي كان عليه المجتمع

١٢٥

الإسلامي، واُريد منه حمل الجماهير المسلمة على السكوت عن النقد، والقعود عن محاولة تغيير الوضع إلى مستوى أحسن، وبذلك يختفي الشعور بالإثم من الضمير الجماهيري، هذا الشعور الذي يدفع إلى الثورة حين يبلغ درجة ضغط عالية، وعندما يضمحلّ الشعور بالإثم يستقر المجتمع نهائياً.

فهناك عامل نفسي وديني يدفعه إلى الخضوع، وهناك عامل اجتماعي يجعله حتميّاً، وحينئذ يطمئن الحاكمون إلى أنّ تصرّفاتهم لن تثير أيّ استنكار لدى الجماهير.

كان هذا هو الوضع النفسي لهؤلاء الذين أخذوا بأساليب الاُمويِّين في التحذير الديني، وأمّا اُولئك الذين لم يُؤخذوا بهذا اللون من الدعاية، ولم تنطلِ عليهم أحابيل الاُمويِّين وأكاذيبهم فقد كان لهم وضع آخر لا يقلّ إثارة للأسى عن هذا الوضع.

لقد صار الأمر بهؤلاء الآخرين إلى ازدواج الشخصيّة؛ فقد عملت سياسة معاوية المالية، وأسلوبه الوحشي في التنكيل بأعدائه العزّل من السلاح، وتعليم الناس على الدجل والنفاق، والسكوت عن الحقّ، والتظاهر بخلاف ما يعتقدون توصّلاً إلى دنيا معاوية، وتمسّكاً بروحهم القبلية التي تفرض عليهم أن يتبعوا ساداتهم القبليين دون تروّ أو تفكير.

وهذا الوضع الشاذّ - الوضع الذي يفرض عليهم أن يخفوا دوماً ما يعتقدونه حقّاً واقعاً، وأن يتظاهروا بما تريده السلطة منهم - ولّد عندهم ازدواج الشخصيّة، هذا الازدواج الذي يرجع إليه سرّ المأساة الدامية الطويلة الأمد التي عاشها الثائرون على حكّام الجور من الاُمويِّين والعباسيين، ومَنْ تلاهم من الظالمين، هذا الازدواج الذي كان يعمل عمله في فضّ أعوان الثورة عنها بتأثير الشخصيّة الخارجيّة المُنسجمة الأخرى، الشخصيّة التي تُطاردها السلطة وتُحاربها.

هذا الازدواج الذي صوّره الفرزدق

١٢٦

للحسينعليه‌السلام حين لقيه في بعض الطريق، فسأله عن أهل الكوفة: « قلوبهم معك وسيوفهم عليك »(1) .

* * *

ولقد كانت هذه السياسة خليقة بأن تنتهي بالمجتمع الإسلامي إلى حالة تعسة من الذلّ والخنوع، ومن تفاهة الحياة، وأهداف تلك الحياة.

لقد كانت خليقة بأن تحوّل المسلم من إنسان يستبدّ به القلق لمصير الإنسانيّة كلّها، ويُعبّر عن هذا القلق بالاهتمام المباشر والعمل الإيجابي المؤدّي إلى التخفيف من ويلات الإنسان في كلّ مكان إلى إنسان قبلي ضيّق الأفق، يعيش داخل نطاق قوقعته القبلية التي كانت قبل الإسلام تغل الإنسان العربي داخل إطارها فتعوق شخصيّته عن النمو والامتداد خارج حدود كيانه القبلي، والتي عادت في عهد معاوية تعمل عملها المُدمّر مرّة اُخرى.

ولقد كانت خليقة بأن تُحوّل من إنسان عقائدي تسير حياته على خطّ مستقيم - خطّ النضال من أجل العقيدة التي يحرّر بها غيره من الناس، ويردّ إليهم اعتبارهم الإنساني المسلوب - إلى إنسان لا ترتكز حياته على عقيدة، ولا يحفزه مطمح عظيم، إنسان تستبدّ به النزوات الطارئة، والمنافع القريبة، وتجعله تارة هنا وتارة هناك.

ولقد كانت خليقة بأن تحوّله من إنسان يعي وعياً عميقاً أنّ حياته الشخصيّة ليست ملكاً له بقدر ما هي ملك للجماعة الإنسانيّة، فإذا تعرضت الجماعة لتحدٍّ

____________________

(1) انظر: تأريخ الطبري 4/290 و6/218 و3/296 طبعة اُخرى، الكامل في التاريخ - لابن الأثير 4/16 و2/547، الفتوح - لابن أعثم 3/79، مقتل الحسين للخوارزمي 1/223.

١٢٧

يهددها بذل حياته مغتبطاً في نضال هذا التحدّي إلى إنسان يحرص على هذه حرصاً شديداً مهما كانت ملفّعة بالذلّ، ومجلّلة بالعار، ومهما كانت مزيّفة وناصلة.

ولقد كانت خليقة بأن تحوّله من إنسان يحارب الظلم ويناجزه، ويثور عليه أيّاً كان مصدره - فيكره الظلم من نفسه ويحملها على العدل، ويكره الظلم من غيره، ويحمله على العدل - إلى إنسان يُكافح من أجل أن يكون ظالماً إذا لم تقهره قوّة على أن يكون مظلوماً.

وكانت خليقة بأن تحوّله من إنسان يفهم أنّ الدين لا يجعل من المؤمنين به عبيد الطاغية يحكمهم باسم الدين إلى إنسان يؤيّد الطّغاة الحاكمين. وكانت خليقة بأن تحوّله من إنسان يرى أنّ الثورة على سياسة التجويع والإرهاب حقّ إلى إنسان يُحارب الثائرين.

وتأريخ هذه الفترة من حياة المسلمين حافل بالشواهد على أنّ هذا التحوّل كان قد بدأ يظهر للعيان، ويطبع المجتمع الإسلامي بطابعه، ويمكننا أن نخرج بفكرة واضحة عن أثر هذه السياسة في المجتمع الإسلامي حين نُقارن بين ردّ الفعل الذي واجه به المسلمون سياسة عثمان وعمّاله، وبين موقفهم من سياسة معاوية؛ فقد كان ردّ الفعل لسياسة عثمان وعمّاله ثورة عارمة من معظم أقطار الأمّة المسلمة من المدينة ومكة، والكوفة والبصرة ومصر وغيرها من حواضر المسلمين وبواديهم.

فهل نجد ردّ فعل جماعيّاً كهذا لتحدّيات معاوية في سياسته اللإنسانيّة للجماهير المسلمة، مع ملاحظة أنّ الظلم على عهد معاوية أفدح، والاضطهاد والقتل والإرهاب أعمّ وأشمل، وحرمان الأمّة من حقوقها في ثرواتها وإنتاجها أظهر؟

الحقّ إنّنا لا نجد شيئاً من ذلك أبداً؛ لقد كانت الجماهير خاضعة خضوعاً أعمى.

١٢٨

نعم، كانت ثمّة احتجاجات تنبعث من هنا تارة ومن هناك أخرى، تدلّ على أنّ المجتمع يتململ تحت وطأة الاضطهاد والظلم، كتلك التي عبّر عنها موقف حجر بن عدي، وعمرو بن الحمق الخزاعي وأضرابهما(1) ، ولكنّها لم تأخذ مداها، ولم تُعبّر عن نفسها في حركة فعلية عامّة بل كانت سرعان ما تهمد وتموت في مهدها حين كانت السلطة تأخذ طلائع هذه الحركات فيُقتلون دون أن يُحرك المجتمع ساكناً، وإذا حدث وتحرّك إنسان اشتُري سكوته بالمال(2) .

____________________

(1) انظر: الكامل في التاريخ 3/233 - 243 وغيره.

(2) كما حدث من مالك بن هبيرة السكوني الذي بدا وكأنّه سيثور بسبب قتل حجر وأصحابه؛ فقد أرسل إليه معاوية مئة ألف درهم « فأخذها وطابت نفسه ». انظر: الكامل في التاريخ 3/242.

١٢٩

١٣٠

موقف الحسن والحسينعليهما‌السلام من السياسة الاُمويّة

ومُنذ بدأ الحكّام المسلمون يناوئون الننزعة الإنسانيّة في الإسلام، ليحوّلوه إلى مؤسسة تخدم مآرب فئة خاصة، بدأ علي وأبناؤهعليهم‌السلام وأصحابهم يدافعون عن الإسلام، ويردّون عنه شرّ مَنْ يريد تحريفه وتزويره.

كان هذا هو عمل عليعليه‌السلام طيلة حياته، حتّى إذا استشهد خلفه في الصراع ابنه الحسن، وقضت عليه ظروف المجتمع الإسلامي؛ الاجتماعيّة والنفسية أن يُهيئ هذا المجتمع للثورة على الحكم الأموي حتّى استشهد.

وبقي الحسين وحيداً، وقد عاصر الحركة التي بدأها أعداء الإسلام، الدخلاء فيه، والمستورون والحاقدون، وطلاّب المنافع العاجلة في حربهم ضدّ الإسلام وضدّ مبادئه الإنسانيّة. عاصر هذه الحركة منذ نشوئها؛ عاصرها حيناً مع أبيه وأخيهعليهما‌السلام ، والصفوة من الأصحاب، وعاصرها حيناً آخر مع أخيه، وبقية السيف الاُموي من الأصحاب(*) .

وها هو ذا الآن يقف وحيداً في ساحة الصراع، إنّه يقف وحيداً ضدّ معاوية وجهاز حكمه الإرهابي، ويرى بعينيه كيف يُراد للأمّة المسلمة أن تتحوّل عن الأهداف العظيمة التي كوّنت لأجلها، وكيف تُزيّف حياتها، وكيف يُراد

____________________

(*) هكذا وردت العبارة الأخيرة في الأصل، ولعل هناك سقطاً أو خطأً ما أربكها وجعلها بهذا الشكل الغامض.(موقع معهد الإمامين الحسنين)

١٣١

لوجودها أن يضمر ويضيق لينحصر في لقمة العيش، وفي حفنة من الدراهم يبيع المسلم بها حياته وضميره، وحريته وكرامته الإنسانيّة للحاكمين الظالمين.

وقد رأى منهج معاوية وبطانته الذي اعتمدوه للوصول بالأمّة المسلمة إلى هذا المصير الكالح. رأى كيف يُطارد الناس، ويجوعون ويُضطهدون، ويُنكّل بهم؛ لأنّهم يخالفون السلطة في الهوى السياسي، ورأى كيف يُحرّف الإسلام وتزور مبادئه الإنسانيّة في سبيل المآرب السياسيّة، ورأى حملة التخدير الديني والكذب على الله ورسوله، ورصد عن كثب محاولة إفساد المجتمع بتشجيع الروح القبلية والنزعة العنصرية.

ولقد أراد الاُمويّون من الحسينعليه‌السلام أن يخضع لهم؛ لأنّ خضوعه يؤمن لهم انقياد الأمّة المسلمة كلّها، ويمكّنهم من ممارسة سياستهم دون خشية. أراد ذلك معاوية بن أبي سفيان حين عزم على أخذ البيعة بولاية العهد ليزيد من بعده، وتوسّل إلى ذلك بالشدّة حيناً، وباللين حيناً آخر فما نال بغيته(1) .

وأراد ذلك يزيد حين صار إليه الأمر بعد أبيه، ولكنّ الحسينعليه‌السلام أبى أن يخضع؛ لأنّه كان يعي أعمق الوعي دوره التأريخي الذي يفرض عليه أن يثور؛ لتهزّ ثورته ضمير الأمّة التي اعتادت الانحناء أمام جبروت السلطة الحاكمة. اعتادت ذلك حتّى ليُخشى ألاّ يصلحها شيء. إنّ المجتمع الذي خضع طويلاً لتأثير السياسة الاُمويّة والتوجيه الأموي لا يمكن أن يصلح بالكلام؛ فهو آخر شيء يمكن أن يؤثر فيه.

إنّ الكلمة لا يمكن أن تؤثّر شيئاً في النفس الميّتة، والقلب الخائر، والضمير المخدّر. كان لا بدّ لهذا المجتمع المتخاذل من مثال يهزّه هزّاً عنيفاً، ويظلّ يواليه بإيحاءاته الملتهبة

____________________

(1) انظر: الكامل في التاريخ 3/249 - 252.

١٣٢

ليقتلع الثقافة العفنة التي خدّرته، وقعدت به عن صنع مصير وضّاء.

وهذا الواقع الكالح وضع الإمام الحسينعليه‌السلام وجهاً لوجه أمام دوره التاريخي ورسالته النضالية. هذا الدور الذي يفرض عليه أن يثور، وأن يُعبّر بثورته عن شعور الملايين، وأن يهزّ بثورته هذه الملايين نفسها، ويضرب لها المثل والقدرة في حرب الظالمين.

وقد كان كلّ ذلك، وكانت ثورة الحسينعليه‌السلام .

١٣٣

١٣٤

الفصل الثاني: دوافع الثورة وأسبابها

« إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي؛ اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومَنْ ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يحكم الله بيني وبين القوم بالحقّ، وهو خير الحاكمين »(1) .

الحسين بن عليعليه‌السلام

____________________

(1) انظر: الفتوح - لابن أعثم 5/34، مناقب آل أبي طالب 3/241.

١٣٥

١٣٦

لماذا لم يثر الحسينعليه‌السلام في عهد معاوية

كانت مبررات الثورة على الحكم الاُموي متوفّرة في عهد معاوية، وقد كان الإمام الحسينعليه‌السلام يعرفها، وقد عبّر عنها في عدّة كُتب وجّهها إلى معاوية جواباً عن كُتبه إليه، وهي كثيرة، نقتبس منها قوله في كتاب: « وهيهات هيهات يا معاوية! فضح الصبح فحمة الدُّجى، وبهرت الشمس أنوار السراج. ولقد فضّلت حتّى أفرطت، واستأثرت حتّى أجحفت، ومنعت حتّى بخلت، وجُرت حتّى جاوزت، وما بذلت لذي حقّ من اسم حقّه بنصيب حتّى أخذ الشيطان حظّه الأوفر، ونصيبه الأكمل... »(1) .

وقوله في كتاب آخر: « أمّا بعد، فقد بلغني كتابك تذكر أنّه انتهت إليك عنّي اُمور أنت لي عنها راغب، وأنا بغيرها عندك جدير؛ فإنّ الحسنات لا يهدي إليها ولا يُسدد إليها إلاّ الله تعالى.

____________________

(1) انظر: الإمامة والسياسة 1/195، 196.

١٣٧

وأمّا ما ذكرت أنّه رقى إليك عنّي، فإنّما رقاه إليك الملاّقون، المشّاؤون بالنميم، المفرّقون بين الجمع. وكَذَب الغاوون، ما أرادت لك حرباً، ولا عليك خلافاً، وإنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك، ومن الأعذار فيه إليك، وإلى أوليائك القاسطين الملحدين؛ حزب الظلمة، وأولياء الشياطين.

ألست القاتل حجر بن عدي أخا كندة وأصحابه الصالحين المصلّين العابدين، الذين كانوا ينكرون الظلم، ويستفظعون البدع، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولا يخافون في الله لومة لائم، ثمّ قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلّظة، والمواثيق المؤكّدة ألاّ تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم؛ جرأة على الله، واستخفافاً بعهده؟

أوَلست قاتل ابن الحمق صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، العبد الصالح، فقتلته بعدما آمنته؟

أوَلست المدّعي زياد بن سميّة المولود على فراش عُبيد بن ثقيف، فزعمت أنّه ابن أبيك، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : الولد للفراش، وللعاهر الحجر(1) . فتركت سنّة رسول

____________________

(1) لسنا بصدد بيان كلّ ما قالهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه وفي اُسرته كالحكم بن أبي العاص، وعقبة بن أبي معيط وغيرهما، ونكتفي برواية الطبري من حوادث سنة (51 هـ)، والكامل - لابن الأثير/202 - 209، وابن عساكر 2/379، والشيخ محمود أبو ريّه/184 - 185 ما نقلوه عن الحسن البصري أنّه كان يقول: =

١٣٨

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتبعت هواك بغير هُدى من الله، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام؛ يقتّلهم، ويقطع أيديهم وأرجلهم، ويسمل عيونهم، ويصلبهم على جذوع النخل، كأنّك لست من هذه الأمّة وليسوا منك؟

أوَلست صاحب الحضرمِيين الذين كتب فيهم ابن سميّة أنّهم على دين علي (صلوات الله عليه)، فكتبت إليه أن اقتل كلّ مَنْ كان على دين علي، فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودينُ علي هو دين ابن عمّهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك، وبه جلست مجلسك الذي أنت فيه؟

وقُلت فيما قُلت: انظر لنفسك ولدينك، ولأمّة محمد، واتّقِ شقّ عصا هذه الأمّة، وأن تردهم إلى فتنة. وإنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمّة من ولايتك عليها، ولا أعلم نظراً لنفسي ولديني ولأمّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله من أن اُجاهدك...

وقُلت فيما قُلت: إن أنكرك تنكرني، وإن أكدك تكدني.

____________________

= أربع خصال كنّ في معاوية، ولو لم يكن فيه منهنّ إلاّ واحدة لكانت موبقة؛ انتزاؤه على هذه الأمّة بالسفهاء حتّى ابتزّها أمرها بغير مشورة، وفيهم بقايا وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سكيراً، خمّيراً، يلبس الحرير، ويضرب الطنابير، وادّعاؤه زياداً وقد قال رسول الله: « الولد للفراش، وللعاهر الحجر »، وقتله حجراً وأصحابه، ويل له من حجر وأصحابه! ويل له من حجر وأصحابه!

ومَنْ أراد المزيد فليراجع الطبري 4/202 و11/375، وسير أعلام النبلاء 1/237، ومسند أحمد 4/421، ووقعة صفّين - لنصر بن مزاحم/246، والمعجم الكبير - للطبراني 1/427، والعقد الفريد 4/345، والاستيعاب/412، وأُسد الغابة 3/106، وتهذيب ابن عساكر 7/206، والإصابة 2/260، والطبقات الكبري 4/222، وصفوة الصفوة 1/238، وسيرة ابن هشام 4/179.

١٣٩

فكد ما بدا لك؛ فإنّي أرجو ألاّ يضرّني كيدك، وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك؛ لأنّك قد ركبت جهلك، وتحرّصت على نقض عهدك.

ولعمري ما وفيت بشرط، ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان، والعهود والمواثيق، ولم تفعل ذلك إلاّ لذكرهم فضلنا، وتعظيمهم حقّنا، وليس الله بناس لأخذك بالطنّة، وقتلك أولياءه على التهم، ونفيك أولياءه من دورهم إلى دار الغربة... »(1) .

ولذا، فإنّ الباحث يتساءل عن السرّ في قعود الحسينعليه‌السلام عن الثورة في عهد معاوية مع وجود مبرّرات الثورة في عهده، فلماذا لم تدفعه هذه المبرّرات إلى الثورة في أيّام معاوية، وحملته على الثورة في أيّام يزيد؟

الذي نراه في الجواب على هذا التساؤل: هو أنّ قعود الحسينعليه‌السلام عن الثورة في عهد معاوية كانت له أسباب موضوعية لا يمكن تجاهلها، ويمكن إجمالها فيما يلي:

الوضع النفسي والاجتماعي

لقد كانت حروب الجمل وصفّين والنهروان، والحروب الخاطفة التي نشبت بين القطع السورية وبين مراكز الحدود في العراق والحجاز واليمن بعد

____________________

(1) انظر: الإمامة والسياسة 1/202 - 208، جمهرة الخطب 2/242، جمهرة الرسائل 2/67، مروج الذهب 3/7.

١٤٠