ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية0%

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 311

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي شمس الدين
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 311
المشاهدات: 56951
تحميل: 7698

توضيحات:

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 311 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56951 / تحميل: 7698
الحجم الحجم الحجم
ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

التحكيم قد ولّدت عند أصحاب الإمامعليه‌السلام حنيناً إلى السلم والموادعة؛ فقد مرّت عليهم خمس سنين وهم لا يضعون سلاحهم من حرب إلاّ ليشهروه في حرب أخرى، وكانوا لا يحاربون جماعات غريبة عنهم، وإنّما يحاربون عشائرهم وإخوانهم بالأمس، ومَنْ عرفهم وعرفوه....

وما نشكّ في أنّ هذا الشعور الذي بدأ يظهر بوضوح في آخر عهد عليعليه‌السلام إثر إحساسهم بالهزيمة أمام مراوغة خصمهم في يوم التحكيم، أفاد خصوم الإمامعليه‌السلام من زعماء القبائل ومن إليهم ممّن اكتشفوا أنّ السياسة لا يمكن أن تُلبّي مطامحهم التي تُؤججها سياسة معاوية في المال والولايات فحاولوا إذكاء هذا الشعور والتأكيد عليه.

وقد ساعد على تأثير هؤلاء الزعماء ونفوذهم في أوساط المجتمع الرّوح القبلية التي استفحلت في عهد عثمان بعد أن اُطلقت من عقالها بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فإنّ الإنسان ذا الرّوح القبلية عالمة قبيلته(*) ، فهو ينفعل بانفعالاتها، ويطمح إلى ما تطمح إليه، ويُعادي مَنْ تُعادي، وينظر إلى الأمور من الزاوية التي تنظر منها القبيلة؛ وذلك لأنّه يخضع للقيم القبلية التي تخضع لها القبيلة، وتتركّز مشاعر القبيلة كلّها في رئيسها، فالرئيس في المجتمع القبلي هو المُهيمن، والموجّه للقبيلة كلّها.

وقد عبّر الناس عن رغبتهم في الدّعة وكراهيتهم للقتال؛ بتثاقلهم عن الخروج لحرب الفرق السورية التي كانت تغير على الحجاز، واليمن، وحدود العراق، وتثاقلهم عن الاستجابة للإمامعليه‌السلام حين دعاهم للخروج ثانية إلى صفّين.

فلمّا استشهد الإمام عليعليه‌السلام وبويع الحسنعليه‌السلام بالخلافة برزت هذه الظاهرة على أشدّها، وبخاصّة حين دعاهم الحسنعليه‌السلام للتجهّز لحرب الشام، حيث كانت الاستجابة بطيئة جدّاً.

____________________

(*) هذه العبارة هي الاُخرى التي وردت بهذا الشكل، ولعل هناك سقطاً أو خطأً ما أربكها كما ذكرنا قبل قليل.(موقع معهد الإمامين الحسنين)

١٤١

وبالرغم من أنّ الإمام الحسنعليه‌السلام قد استطاع بعد ذلك أن يجهّز لحرب معاوية جيشاً ضخماً، إلاّ إنّه كان جيشاً كُتبت عليه الهزيمة قبل أن يلاقي العدو بسبب التيارات المتعدّدة التي كانت تتجاذبه؛ فقد « خفّ معه أخلاط من الناس؛ بعضهم شيعة له ولأبيه، وبعضهم محكّمة - أي خوارج - يؤثرون قتال معاوية بكلّ حيلة، وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم، وبعضهم شكّاك وأصحاب عصبية اتّبعوا رؤساء قبائلهم »(1) .

وقد كان رؤساء القبائل هؤلاء قد باعوا أنفسهم من معاوية الذي كتب إلى كثير منهم يُغريهم بالتخلّي عن الحسنعليه‌السلام والالتحاق به، وأكثر أصحاب الحسنعليه‌السلام لم يستطيعوا مقاومة هذا الإغراء، فكاتبوا معاوية واعدين بأن يسلّموه الحسنعليه‌السلام حيّاً أو ميّتاً.

وحين خطبهم الإمام الحسنعليه‌السلام ليختبر مدى إخلاصهم وثباتهم، هتفوا به من كلّ جانب: « البقيّة البقيّة »(2) ، بينما هاجمته طائفة منهم تريد قتله. هذا في الوقت الذي أخذ الزعماء يتسلّلون تحت جنح الليل إلى معاوية بعشائرهم.

ولمّا رأى الإمام الحسنعليه‌السلام - أمام هذا الواقع السيِّئ - أنّ الظروف النفسية والاجتماعيّة في مجتمع العراق جعلت هذا المجتمع عاجزاً عن النهوض بتبعات القتال، وانتزاع النصر، ورأى أنّ الحرب ستكلّفه استئصال المخلصين من أتباعه بينما يتمتّع معاوية بنصر حاسم، حينئذ جنح إلى الصلح بشروطٍ منها ألاّ يعهد

____________________

(1) انظر: الإرشاد - الشيخ المفيد 2/10.

(2) انظر: مقاتل الطالبيِّين/73، شرح النهج - لابن أبي الحديد 16/40، الكامل في التاريخ 3/204 و176 طبعة أخرى، وحماة الإسلام 1/123، المجتني - لابن دريد/36.

١٤٢

معاوية لأحد من بعده، وأن يكون الأمر للحسن، وأن يترك الناس ويُؤمنوا(1) .

____________________

(1) والنتيجة: أنّ وثيقة الصلح تضمّنت خمس موارد هي:

أ - تسليم الأمر إلى معاوية على أن يعمل بكتاب الله، وسُنّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسيرة الخلفاء الصالحين.

ب - ليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد من بعده، والأمر بعده للحسنعليه‌السلام ، فإن حدث به حدث فلأخيه الحسينعليه‌السلام .

ج - أن لا يُسمّيه أمير المؤمنين، وأن يترك سبّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، والقنوت عليه بالصلاة، وأن لا يذكر علياً إلاّ بخير، وأن لا يُقيم عنده شهادة.

د - الأمن العام لعموم الناس الأسود والأحمر منهم سواء فيه، والأمن الخاص لشيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وعدم التعرّض لهم بمكروه.

هـ - استثناء ما في بيت مال الكوفة وهو خمس آلاف، فلا يشمله تسليم الأمر، وأن يُفضّل بني هاشم في العطاء، وأن يُفرّق في أولاد مَنْ قُتل مع أمير المؤمنينعليه‌السلام يوم الجمل، وأولاد مَنْ قُتل معه بصفين ألف ألف درهم، وأن يُوصل إلى كلّ ذي حقّ حقّه.

وممّا يجدر ذكره أنّ بعض المؤرّخين والباحثين أصرّ على المغالطات والمجادلات واللعب بالألفاظ، وأورد أنّ الإمام الحسنعليه‌السلام قد تنازل عن الخلافة لمعاوية بما لكلمة التنازل من المعنى الخاص.

ونحن لو رجعنا إلى التاريخ لم نجد، ولم يرد على لسان أحد ما يشعر من خطبهعليه‌السلام أنّه تنازل عن الخلافة، بل إنّ المصادر تشير إلى أنّهعليه‌السلام سلّم الأمر، أو ترك الأمر لمعاوية؛ وذلك من خلال ملاحظتنا للشروط التي ورد فيها إسقاطه إيّاه عن إمرة المؤمنين، وأنّ الحسنعليه‌السلام عاهده على أن لا يكون عليه أميراً؛ إذ الأمير هو الذي يأمر فيؤتمر له؛ ولذا أسقط الإمام الحسنعليه‌السلام الائتمار لمعاوية، إذ أمره أمراً على نفسه.

والأمير هو الذي أمّره مأمور مَنْ فوقه، فدلّ على أنّ الله عزّ وجلّ لم يؤمّره عليه، ولا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمّره عليه؛ ولذا لا يُقيم عنده شهادة، فكيف يُقيم الشهادة عند مَنْ أزال عنه الحكم؟ لأنّ الأمير هو الحاكم، وهو المُقيم للحاكم، ومَنْ ليس له تأمير، ولا تحاكم فحكمه هدر، ولا تُقام الشهادة عند مَنْ حكمه هدر.

انظر: تاريخ الخلفاء/194، البداية والنهاية - لابن كثير 8/41، الإصابة 2/12 و13، ابن قتيبة في المعارف/150، مقاتل الطالبيِّين/75، الإمامة والسياسة/200، الطبري في تاريخه 6/92، الطبقات الكبرى - للشعراني/23، ابن أبي الحديد في شرح النهج 4/8، حياة الحيوان - للدميري 1/57، تهذيب التهذيب 2/229، تهذيب الأسماء واللغات - للنووي 1/199، ذخائر العقبى/139، ينابيع المودّة/293، عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب - لجمال =

١٤٣

ولقد كان هذا هو الطريق الوحيد الذي يستطيع الحسنعليه‌السلام أن يسلكه باعتباره صاحب رسالة قد اكتنفته هذه الظروف السيئة المُؤيسة. ونحن حين نسمح لأنفسنا أن نندفع وراء العاطفة نحسب أنّه كان على الحسنعليه‌السلام أن يُحارب معاوية ولا يُهادنه، وإنّ ما حدث له لم يكن إلاّ استسلاماً مُذلاً مكّن معاوية من أن يستولي على الحكم بسهولة ما كان يحلم بها.

وقد انزلق في هذا الخطأ كثير من أصحابه المؤمنين المخلصين، وقد عبّر بعضهم عن المرارة التي يحسّ بها بأنّ خاطب الحسنعليه‌السلام بقوله: (يا مُذلّ المؤمنين)(1) .

هذا، ولكن علينا أن نفكّر بمقاييس اُخرى إذا شئنا فهم موقف الإمام الحسنعليه‌السلام الذي يبدو محيّراً لأوّل وهلة، فلا شك أنّ الإمام الحسنعليه‌السلام لم يكن مُغامراً، ولا طالب ملك، ولا زعيماً قبلياً يُفكّر ويعمل بالعقلية القبلية، وإنّما كان صاحب رسالة، وحامل دعوة، وكان عليه أن يتصرّف على هذا الأساس.

ولقد كان الموقف الذي اتّخذه هو الموقف الملائم لأهدافه كصاحب رسالة وإن كان ثقيلاً على نفسه، مؤلماً لمشاعره الشخصيّة.

لقد كان من الممكن بالنسبة لقائد مُحاط بنفس الظروف السيئة التي كان

____________________

الحسني/52، تذكرة الخواص/206، تأريخ مدينة دمشق 4/221، تأريخ دول الإسلام 1/53، جوهرة الكلام في مدح السادة الأعلام/112، تأريخ الخميس 2/323، دائرة المعارف - للبستاني 7/38، الفتوح 2/293.

(1) ولمّا وصل الحسنعليه‌السلام إلى قنطرة ساباط، وثب عليه الجرّاح الأسدي(*) فضربه على فخده بمغول - في خنجر، مِغْوَل، مِعْوَل - كان بيده، وقال له: يا مُذلّ المؤمنين! أتريد أن تُلحد كما ألحد أبوك من قبل؟! ونزل بالمدائن وتداوى للضربة أربعين يوماً. انظر: أنساب الأشراب 2/282.

(*) الجراح بن سنان من بني قبيصة الأسدي كما جاء في تاريخ اليعقوبي 2/215، والإمام الحسن بن علي/18، لكن في الفتوح 2/29 « سنان بن الجرّاح ». انظر: الأخبار الطوال/217، المقاتل/72، مستدرك الحاكم 2/174، وابن الأثير 3/175، وابن خلدون 2/186، والإصابة - ترجمة الحسن بن علي، وابن الوردي 1/166.

١٤٤

الإمام الحسنعليه‌السلام مُحاطاً بها أن يتّخذ من الأحداث أحد ثلاثة مواقف:

الأوّل: أن يُحارب معاوية رغم الظروف السيئة، ورغم النتائج المؤلمة التي تترتّب على هذا الموقف.

الثاني: أن يُسلّم السلطة إلى معاوية، وينفض يده من الأمر، ويتخلّى عن أهدافه، ويقنع بالغنائم الشخصيّة.

الثالث: أن يخضع للظروف المعاكسة فيتخلّى مؤقّتاً عن الصراع الفعلي المسلّح، لكن لا ليرقب الأحداث فقط، وإنّما ليُكافح على صعيد آخر فيُوجّه الأحداث في صالحه وصالح أهدافه.

ما كان للحسنعليه‌السلام باعتباره صاحب رسالة أن يتّخذ الموقف الأوّل؛ لأنّه لو حارب معاوية في ظروفه التي عرضناها، وبقواه المُفككة المُتخاذلة، لكانت نيتجة ذلك أن يُقتل، ويُستأصل المخلصون من أتباعه. ولا شك أنّه حينئذ كان يُحاط بهالة من الإكبار، والإعجاب لبسالته وصموده، ولكنّ النتيجة بالنسبة إلى الدعوة الإسلاميّة ستكون سيئة إلى أبعد حدّ؛ فإنّها كانت ستفقد فريقاً من أخلص حُماتها دون أن تحصل على شيء سوى أسماء جديدة تُضاف إلى قائمة شهدائها.

كذلك ما كان له باعتباره صاحب رسالة أن ينفض يده من كلّ شيء ويسترسل في حياة الدعة والرغد، والخلو من هموم القيادة والتنظيم.

لقد كان الموقف الثالث - وهو الموقف الذي اتّخذه الإمام الحسنعليه‌السلام - هو الموقف الوحيد الصحيح بالنسبة إليه، وذلك أن يعقد مع معاوية هدنة يعدّ فيها المجتمع للثورة؛ وذلك لأنّنا نسمح لأنفسنا أن نقع في خطأ كبير حين ننساق إلى الاعتقاد بأنّ الإمام الحسنعليه‌السلام قد اعتبر الصلح خاتمة مريحة لمتاعبه، فما صالح الإمام الحسنعليه‌السلام

١٤٥

ليستريح، وإنّما ليُكافح من جديد، ولكن على صعيد آخر(1) .

فإذا كان الناس قد كرهوا الحرب لطول معاناتهم لها، ورغبوا في السلم انخداعاً بحملة الدعاية التي بثّها فيهم عملاء معاوية، إذ مَنّوهم بالرخاء والأعطيات الضخمة، والدعة والسكينة، وطاعة لرغبات زعمائهم القبليين، فإنّ عليهم أن يكتشفوا بأنفسهم مدى الخطأ الذي وقعوا فيه حين ضعفوا عن القيام بتبعات القتال، وسمحوا للأماني تخدعهم، ولزعمائهم بأن يظلّلوهم، ولا يمكن أن يكتشفوا ذلك إلاّ إذا عانوا هذا الحكم بأنفسهم.

عليهم أن يكتشفوا طبيعة هذا الحكم وواقعه، وما يقوم عليه من اضطهاد وحرمان، ومُطاردة مُستمرة، وخنق للحريات، وعلى الإمام الحسنعليه‌السلام وأتباعه المخلصين أن يفتحوا أعين الناس على هذا الواقع، وأن يُهيّئوا عقولهم وقلوبهم لاكتشافه، والثورة عليه، والإطاحة به.

ولم يطل انتظار أهل العراق، فقد قال لهم معاوية حين دخل الكوفة:

____________________

(1) ومجمل القول: « إنّ الذين خطّؤوا الإمام الحسنعليه‌السلام في هذا الصلح نظروا إلى ما ينبغي أن يكون، وتجاهلوا الظروف والأحداث التي أحاطت بالحسنعليه‌السلام وفرضت نفسها عليه... اعتمدوا على اللمحة العابرة، أو النظرية المجرّدة عن الزمان والمكان، وصرفوا النظر عمّا يعترض تطبيقها من العقبات.

أمّا قول مَنْ قال: كان على الحسنعليه‌السلام أن يستشهد كما استشهد أخوه الحسينعليه‌السلام ، فإنّما يصح لو أدّى استشهاد الحسنعليه‌السلام إلى نفس النتيجة التي أدّت إليها تضحية الحسينعليه‌السلام من إحياء الدين، وإعلان حقيقة الاُمويِّين. أمّا مع اختلاف النتيجة لاختلاف الظروف والمؤثرات فلا مبرّر للقياس.

قال العقاد: آلت خلافة الإمام إلى ابنه الحسن في معسكر مضطرب بين الخوارج والشيعة، والموالي والأتباع الذين لا يعملون عمل الأتباع طائعين، ولا يعملون عمل الرؤساء مُقتدرين مُضطلعين. وورث الحسن معسكراً لم يطل عليه عهد الولاء لأحد قط ليُناضل به، معسكراً لم يقع فيه خلاف قطّ منذ الفتح الأوّل إلاّ الخلاف الذي كان يريده معاوية ويعمل له؛ حذراً من مغبّة الاتّفاق عليه.

انظر كتابه الموسوم: معاوية بن أبي سفيان/122، طبع بمطابع مؤسسة دار الهلال. ومعنى هذا في واقعه أنّ الحسنعليه‌السلام لو لم يُصالح لقُتل بسيوف معسكره لا بسيوف أعدائه.

١٤٦

« يا أهل الكوفة، أترون أنّي قاتلتكم على الصلاة، والزكاة، والحجّ، وقد علمت أنّكم تُصلّون، وتُزكّون، وتحجّون؟! ولكنّي قاتلتكم لأأتمر عليكم، وألي رقابكم، وقد أتاني الله ذلك وأنتم كارهون. ألا إنّ كلّ دم اُصيب في هذه مطلول، وكلّ شرط شرطته فتحت قدمي هاتين »(1) .

ثمّ اتّبع ذلك طائفة من الإجراءات التي صدمت العراقيين؛ أنقص من أعطيات أهل العراق ليزيد في أعطيات أهل الشام، وحملهم على أن يُحاربوا الخوارج فلم يتح لهم أن ينعموا بالسلم الذي كانوا يحنّون إليه، ثمّ طبّق منهاجه الذي شرحناه في الفصل السابق؛ الإرهاب، التجويع، والمُطاردة، ثمّ أعلن بسبّ أمير المؤمنين عليعليه‌السلام على منابر المسلمين.

وبيّنما راح الزعماء القبليون يجنون ثمرات هذا العهد، بدأ العراقيون العاديون يكشفون رويداً طبيعة هذا الحكم الظالم الشرس الذي سعوا إليه بأنفسهم، وثبّتوه بأيديهم، « وقد جعل أهل العراق يذكرون حياتهم أيام علي فيحزنون عليها، ويندمون على ما كان من تفريطهم في جنب خليفتهم، ويندمون على ما كان من الصلح بينهم وبين أهل

____________________

(1) انظر: البداية والنهاية 6/246، تأريخ مدينة دمشق 52/380، تأريخ ابن الأثير 8/121، الكامل في التاريخ 6/220، مقاتل الطالبيِّين/70، شرح النهج - لابن أبي الحديد 4/16 و16/15، المعرفة والرجال - للبسوي 3/318، شرح الأخبار 2/157، مناقب آل أبي طالب 3/196، المصنف - لابن أبي شيبة الكوفي 7/351 ح23، تأريخ مدينة دمشق 52/380، 59/150، البداية والنهاية 8/140.

١٤٧

الشام، وجعلوا كلّما لقي بعضهم بعضاً تلاوموا فيما كان، وأجالوا الرأي فيما يمكن أن يكون. ولم تكد تمضي أعوام قليلة حتّى جعلت وفودهم تفد إلى المدينة للقاء الحسنعليه‌السلام ، والقول له، والاستماع منه ».

وقد أقبل عليه ذات يوم وفد من أشراف أهل الكوفة فقال له متكلّمهم سليمان بن صرد الخزاعي: « ما ينقضي تعجبنا من بيعتك معاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة كلّهم يأخذ العطاء وهم على أبواب منازلهم، ومعهم مثلهم من أبنائهم وأتباعهم، سوى شيعتك [من] أهل البصرة، وأهل الحجاز، ثمّ لم تأخذ لنفسك ثقة في العقد، ولا حظّاً من العطية!

فلو كنت إذا فعلت ما فعلت أشهدت على معاوية وجوه أهل المشرق والمغرب، وكتبت عليه كتاباً بأنّ الأمر لك بعده، كان الأمر علينا أيسر، ولكنّه أعطاك شيئاً بينك وبينه، ثمّ لم يفِ به، ثمّ لم يلبث أن قال على رؤوس الناس إنّي كنت شرطت شروطاً، ووعدت عدات؛ إرادة لإطفاء نار الحرب، ومداراة لقطع هذه الفتنة، فأمّا إذ جمع الله لنا الكلمة والإلفة، وأمّننا من الفرقة، فإنّ ذلك تحت قدمي.

فوالله، ما اغترّني بذلك إلاّ ما كان بينك وبينه وقد نقض، فإن شئت فأعد الحرب جذعة، وأذّن في تقدمك إلى الكوفة، فأخرج عنها عامله، وأظهر خلعه، وتنبذ

١٤٨

إليهم على سواء إنّ الله لا يحبّ الخائنين »(1) .

وقال الآخرون مثل ما قال سليمان بن صرد... فقال لهم فيما روى البلاذري: « أنتم شيعتنا، وأهل مودّتنا، فلو كنتُ بالحزم في أمر الدنيا أعمل، ولسلطانها أعمل وأنصب ما كان معاوية بأبأس منّي بأساً، ولا أشدّ شكيمة، ولا أمضى عزيمة، ولكنّي أرى غير ما رأيتم؛ وما أردت فيما فعلت إلاّ حقن الدماء، فارضوا بقضاء الله، وسلّموا الأمر، والزموا بيوتكم، وامسكوا، وكفّوا أيديكم حتّى يستريح برّ، ويستراح من فاجر »(2) .

فقد أعطاهم الحسنعليه‌السلام - كما ترى - الرضا حين أعلن إليهم أنّهم شيعة أهل البيت، وذووا مودّتهم، وإذن فمن الحقّ عليهم أن يستمعوا له، ويأتمروا بأمره، ويكونوا عندما يريد منهم.

ثمّ طلب إليهم أن يرضوا بقضاء الله. يطيعوا السلطان، ويكفّوا أيديهم عنه، وأنبأهم بأنّهم لن يفعلوا ذلك آخر الدهر، ولن يستسلموا لعدوهم بغير مقاومة، وإنّما انتظار إلى حين، هو انتظار إلى أن يستريح الأبرار من أهل الحقّ، أو يريح الله من الفجّار من أهل الباطل.

فهو إذن يهيئهم للحرب حين يأتي إبّانها، ويحين حينها، ويأمرهم بالسلم المؤقتة حتّى يستريحوا ويحسنوا الاستعداد.

____________________

(1) انظر: تنزيه الأنبياء - الشريف الرضي/223.

(2) انظر: الإمامة والسياسة 1/186.

١٤٩

ومَنْ يدري لعلّ معاوية أن يريح الله منه، فتستقبل الأمّة أمرها على ما يحبّ لها صالحوا المؤمنين(1) .

ولم يكن سليمان بن صرد ومَنْ معه منفردين في هذه الحركة، فكثيراً ما جاء العراقيون إلى الحسنعليه‌السلام يطلبون منه أن يثور، ولكنّه كان يعدهم المستقبل ويعدّهم للثورة. وها هو يجيب حجر بن عدي الكندي بقوله: « إنّي رأيت هوى عظم الناس في الصلح، وكرهوا الحرب، فلم أحبّ أن أحملهم على ما يكرهون؛ فصالحت بقياً على شيعتنا خاصّة من القتل، ورأيت دفع هذه الحرب إلى يوم ما؛ فإنّ الله كلّ يوم هو في شأن »(2) .

وإذاً، فهذه فترة إعداد وتهيؤ حتّى يأتي اليوم الموعود، حين يكون المجتمع قادراً على الثورة مستعداً لها، أمّا الآن فلم يبلغ المجتمع هذا المستوى من الوعي، بل لا يزال أسير الأماني والآمال.

هذه الأماني والآمال التي بثّت فيه روح الهزيمة التي صوّرها الإمام الحسنعليه‌السلام لعلي بن محمد بن بشير الهمداني حين قال له: « ما أردت بمصالحتي معاوية إلاّ أن أدفع عنكم القتل عندما رأيت من تباطؤ أصحابي عن الحرب، ونكولهم عن القتال. ووالله لئن سرنا إليه بالجبال والشجر ما كان بدّ من إفضاء هذا الأمر إليه »(3) .

وإذاً فقد كان دور الحسنعليه‌السلام أن يُهيئ عقول الناس وقلوبهم للثورة على حكم

____________________

(1) انظر: الفتنة الكبرى - 2 - علي وبنوه - للدكتور طه حسين/206 - 208.

(2) انظر: الأخبار الطوال/220.

(3) انظر: الأخبار الطوال/221.

١٥٠

الاُمويِّين، هذا الحكم الذي كان يشكّل إغراءً قوياً للعرب في عهد أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، والذي غدا فتنة للعراقيين بعده حملتهم على التخلّي عن الإمام الحسنعليه‌السلام في أحلك الساعات، وذلك بأن يدع لهم فرصة اكتشافه بأنفسهم، مع التنبيه على ما فيه من مظالم، وتعدٍّ لحدود الله.

* * *

ولم يكن الحسينعليه‌السلام أقلّ إدراكاً لواقع مجتمع العراق من أخيه الحسنعليه‌السلام ؛ لقد رأى من هذا المجتمع وتخاذله مثل ما رأى أخوه؛ ولذلك فقد آثر أن يعدّ مجتمع العراق للثورة، ويعبّئه لها بدل أن يحمله على القيام بها الآن.

كان هذا رأيه في حياة أخيه الإمام الحسنعليه‌السلام ، فقد قال لعلي بن محمد بن بشير الهمداني حين فاوضه في الثورة بعد أن يئس من استجابة الإمام الحسنعليه‌السلام : « صدق أبو محمد، فليكن كلّ رجل منكم حلساً من إحلاس بيته(1) ما دام هذا الإنسان حيّاً »(2) . يعني معاوية بن أبي سفيان.

وكان هذا رأيه بعد وفاة الإمام الحسنعليه‌السلام ، فقد كتب إليه أهل العراق يسألونه أن يجيبهم إلى الثورة على معاوية، ولكنّه لم يجيبهم إلى ذلك، وكتب إليهم: « أمّا أخي، فأرجو أن يكون الله قد وفّقه وسدّده فيما يأتي، وأمّا أنا فليس رأي اليوم ذلك، فالصقوا رحمكم الله بالأرض، واكمنوا في البيوت، واحترسوا من الظنّة ما دام

____________________

(1) حلس بالمكان حلساً: أي الزمه في الفتنة والهرج لزوم البساط له. انظر: لسان العرب 6/41.

(2) انظر: الأخبار الطوال/221.

١٥١

معاوية حيّاً »(1) .

وإذاً، فقد كان رأي الحسينعليه‌السلام ألاّ يثور في عهد معاوية، وهو يأمر أصحابه بأن يخلدوا إلى السكون والهدوء، وأن يبعدوا عن الشبهات.

وهذا يوحي لنا بأنّ حركة منظمة كانت تعمل ضدّ الحكم الاُموي في ذلك الحين، وأنّ دُعاتها هم هؤلاء الأتباع القليلون المخلصون الذين ضنّ بهم الحسنعليه‌السلام عن القتل فصالح معاوية، وأنّ مهمّة هؤلاء كانت بعث روح الثورة في النفوس عن طريق إظهار المظالم التي حفل بها عهد معاوية؛ انتظاراً لليوم الموعود.

وقد رأينا أنّ هذه الدعوة ضدّ الحكم الاُموي قد بدأت بعد الصلح، وقد كانت في عهد الإمام الحسنعليه‌السلام تسير في رفق وهدوء، نظراً لأنّ المجتمع كان لا يزال مأخوذاً ببريق الحكم الاُموي، ولم يتمثّل بعد طبيعة هذا الحكومة الظالمة الباغية تمثّلاً صحيحاً.

أمّا في عهد الإمام الحسينعليه‌السلام فقد ازدادت الدعوة عنفاً وشدّة واحتداماً، وأخذت تكسب أنصاراً كثيرين في كلّ مكان بعد أن أسفر الحكم الاُموي عن وجهه تماماً، وبعد أن بدا على واقعه الذي سترته الوعود الجذّابة والألفاظ المعسولة.

ولقد كان كلّ حدث من أحداث معاوية يجد صدى مدوّياً في المدينة حيث الإمام الحسينعليه‌السلام ، ويكون مداراً لاجتماعات يعقدها الإمام الحسينعليه‌السلام مع أقطاب الشيعة في العراق، والحجاز وغيرهما من بلاد الإسلام، يدلّنا على ذلك أنّه حين قتل معاوية حجر بن عدي الكندي وأصحابه خرج نفر من أشراف الكوفة إلى الحسينعليه‌السلام فأخبروه الخبر.

____________________

(1) انظر: الأخبار الطوال/222.

١٥٢

ولا بدّ أنّ حركة قويّة دفعت مروان بن الحكم عامل معاوية على المدينة إلى أن يكتب إلى معاوية: « أمّا بعد، فإنّ عمرو بن عثمان ذكر أنّ رجالاً من أهل العراق ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي، وإنّه لا يُؤمن وثُوبه، وقد بحثت عن هذا فبلغني أنّه يُريد الخلاف يومه هذا، فاكتب إليّ برأيك »(1) .

شخصيّة معاوية

وأكبر الظنّ أنّ الحسينعليه‌السلام لو ثار في عهد معاوية لما استطاع أن يسبغ على ثورته هذا الوهج الساطع الذي خلّدها في ضمائر الناس وقلوبهم، والذي ظلّ يدفعهم عبر القرون الطويلة إلى تمثّل أبطالها، واستيحائهم في أعمال البطولة والفداء.

وسرّ ذلك يكمن في شخصيّة معاوية، واُسلوبه الخاصّ في معالجة الأمور؛ فإنّ معاوية لم يكن من الجهل بالسياسة بالمثابة التي يُتيح فيها للحسينعليه‌السلام أن يقوم بالثورة مدوّية، بل الراجح أنّه كان من الحصافة بحيث يُدرك أنّ جهر الحسينعليه‌السلام بالثورة عليه، وتحريضه الناس على ذلك كفيل بزجّه في حروب تُعكّر عليه بهاء النصر الذي حازه بعد صلح الحسنعليه‌السلام ، إن لم يكن كافياً لتفويت ثمرة هذا النصر عليه؛ لأنّه عارف - ولا ريب - بما للحسينعليه‌السلام من منزلة في قلوب المسلمين.

وأقرب الظنون في الاُسلوب الذي يتبعه معاوية في القضاء على ثورة

____________________

(1) انظر: الأخبار الطوال/224.

١٥٣

الحسينعليه‌السلام - لو ثار في عهده - هو أنّه كان يتخلّص منه بالسمّ قبل أن يتمكّن الحسينعليه‌السلام من الثورة، وقبل أن يكون لها ذلك الدوي الذي يُموّج الحياة الإسلاميّة التي يرغب معاوية في بقائها هادئة ساكنة.

والذي يجعل هذا الظنّ قريباً ما نعرفه من اُسلوب معاوية في القضاء على مَنْ يخشى منافستهم له في السلطان، أو تعكير صفو السلطان عليه؛ فإنّ الطريقة المثالية عنده في التخلّص منهم هي القضاء عليهم بأقلّ ما يمكن من الضجيج.

ولقد مارس معاوية هذا الاُسلوب في القضاء على الحسن بن عليعليهما‌السلام ، وسعد بن أبي وقاص(1) ، ومارسه في القضاء على الأشتر لمّا توجّه إلى مصر، ومارسه في القضاء على عبد الرحمن بن خالد بن الوليد لمّا رأى افتتان أهل الشام به(2) .

وقد أوجز هو اُسلوبه هذا في كلمته المأثورة: « إنّ لله جنوداً من العسل »(3) .

____________________

(1) انظر: مقاتل الطالبيِّين/29 « وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد فلم يكن شيء أثقل عليه من أمر الحسنعليه‌السلام ، وسعد بن أبي وقاص، فدسّ إليهما سمّاً فماتا منه »، مختصر تاريخ العرب - سيد أمير علي/62.

(2) انظر: التمدن الإسلامي 4/71.

(3) انظر: عيون الأخبار 1/201، مروج الذهب 2/139 طبعة بيروت، المغتالين من الأشراف/39، وتاريخ اليعقوبي 2/139 طبعة بيروت، شرح النهج - لابن أبي الحديد 2/29، والطبري في تاريخه حوادث سنة (38 - 39 هـ)، تهذيب الكمال 27/126 رقم 5731، التاريخ الكبير - للبخاري 7/311، وتاريخ الصغير 1/87، الثقات - لابن حبّان 2/298، سير أعلام النبلاء 4/35، تأريخ مدينة دمشق 56/376 و391، الأنساب 5/476، نظرات في الكتب الخالدة - لحامد حفني/161، شيخ المضيرة، أبو هريرة - لمحمود أبو ريّة/179، ولكن بعض المصادر نسبت القول إلى عمرو بن العاص.

ويعني العسل الذي كان يدسّ فيه السمّ، وقتل به الإمام الحسنعليه‌السلام ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . انظر: المقاتل/=

١٥٤

____________________

= 43، وأنساب الأشراف 1/404، وابن أبي الحديد في شرح النهج 4/11 و17، ابن كثير 8/41، تأريخ الخلفاء/138، الإصابة ترجمة الحسن، ابن قتيبة/150، الصواعق/81، المسعودي في مروج الذهب بهامش الكامل 2/353، 6/55، وتهذيب تأريخ مدينة دمشق - لابن عساكر 4/226، وأسماء المغتالين من الأشراف/44، وتاريخ اليعقوبي 2/225، وابن الأثير 2/197، وابن شحنة بهامش ابن الأثير 11/132، تأريخ الدول الإسلاميّة 1/53، تذكرة الخواص/62، تأريخ أبي الفداء 1/194، الاستيعاب 1/389، تاريخ الخلفاء - للسيوطي/74، مستدرك الحاكم 3/176، الإرشاد - للشيخ المفيد 3/15، المناقب - لابن شهر آشوب 3/191، كشف الغمّة 1/584.

والأشتر النخعي هو مالك بن الحارث النخعي، أدرك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان رئيس قومه، شُترت عينه في اليرموك فلقّب بالأشتر، وله مواقف شهيرة في الجمل وصفين مع عليعليه‌السلام . وفي سنة (38 هـ) ولاّه على مصر، فأمر معاوية دهقاناً وكان بالعريش - مدينة من أوّل أعمال مصر من ناحية الشام - أن يدسّ له السمّ، فلمّا نزل الأشتر العريش سمّه الدهقان في عسل، فقال معاوية: « لله جنود من العسل ».

وعبد الرحمان بن خالد، هو عبد الرحمان بن خالد بن الوليد المخزومي، وكان ممّن أدرك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو من فرسان قريش وشجعانهم، وكان له فضل وهدى وكرم، إلاّ إنّه كان منحرفاً عن عليعليه‌السلام ، وذكر أنّ أخاه المهاجر كان مع علي بصفين، وذكر أنّ عبد الرحمان مرض فأمر معاوية طبيباً عنده يهودياً أن يأته فيسقيه سقية يقتله بها، فأتاه فسقاه فانخرق بطنه فمات.

وأمر معاوية ابن آثال النصراني أن يحتال في قتله، وضمن له أن يضع عنه خراجه ما عاش، وأن يوليه خراج حمص، فوفى معاوية بما ضمن له.

أمّا المهاجر بن خالد بن الوليد فدخل دمشق مستخفياً هو وغلام له، فرصد ذلك اليهودي، فخرج ليلاً من عند معاوية ومعه قوم، فهربوا عنه، فقتله المهاجر. وكان ابن آثال خبيراً بالأدوية المفردة والمركّبة، وقوّاها، ومنها سموم قواتل، وكان معاوية يقرّبه لذلك كثيراً.

انظر: الاستيعاب 2/396 تحت رقم 1697، اُسد الغابة 3/289، تأريخ الطبري 6/128، وابن الأثير 3/195، المغتالين من الأشراف/47، ابن كثير في البداية والنهاية 8/31، الأغاني 14/13، مختصر ابن شحنة في هامش ابن الأثير 11/133، عيون الأنباء في طبقات الأطباء/171 طبعة بيروت.

وقتل ولده يزيد الإمام الحسينعليه‌السلام ، تقدّم استخراج ذلك، وقد شرحنا ذلك مفصّلاً في تحقيقنا لكتاب الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة - لابن الصباغ الماكي 2/131 وما بعدها. =

١٥٥

والذي يرتفع بهذا الظنّ إلى مرتبة الاطمئنان ما نعلمه من أنّ معاوية كان قد وضع الأرصاد والعيون على الحسينعليه‌السلام وعلى غيره ممّن يخشاهم على سلطانه، وأنّهم كانوا يكتبون إليه بما يفعل هؤلاء، ولا يغفلون عن إعلامه بأيسر الأمور وأبعدها عن إثارة الشكّ والريبة(1) .

فلو تحفّز الحسينعليه‌السلام للثورة في عهد معاوية ثمّ قُضي عليه بهذه الميتة التي يُفضلها معاوية لأعدائه، فماذا كانت تكون جدوى فعله هذا الذي لم يخرج عن حدود الفكرة إلى أن يكون واقعاً بحياة الناس بدمائهم وأعصابهم؟ وما كان يعود على المجتمع الإسلامي من موته وقد قضى كما يقضي سائر الناس بهدوء وبلا ضجيج؟ إنّه لن يكون حينذاك سوى علوي مات حتف أنفه، يُثير موته الأسى في قلوب أهله ومحبيه وشيعة أبيه إلى حين، ثمّ يطوي النسيان ذكراه كما يطوي جميع الذكريات.

وأين هذا ممّا صار إليه أمره وأمر مبدئه حين ثار في عهد يزيد؟

* * *

____________________

= وضرب الكعبة بالمنجنيق. انظر: مروج الذهب 3/79، وأباح المدينة. انظر: تاريخ الخلفاء/209، وحاصر عبد الملك مكة، وهدم الكعبة، وأطلق يد الحجّاج في دماء المسلمين. وبعبد الملك اقتدى أولاده وأحفاده، وزادوا عليه أضعافاً مضاعفة. انظر: الإمامة والسياسة 2/32، مروج الذهب - للمسعودي 3/175، العقد الفريد 3/214، ويقول صاحب مروج الذهب، وصاحب العقد الفريد في أقوال الناس في الحجّاج: أُحصي مَنْ قتلهم الحجّاج صبراً، سواء مَنْ قتل في حروبه، فكانوا (120) ألفاً. وكان في حبسه (50) ألف رجلاً، و(30) ألف امرأة؛ ستة عشر منهنّ عاريات، وكان يطعم المساجين - كما يقول ابن الجوزي في تاريخه - الخبز ممزوجاً بالرماد.

وجاء في العقد الفريد أيضاً على لسان عمر بن العزيز: لو جاء الناس يوم القيامة بفسّاقهم وجئنا بالحجّاج لزدنا عليهم.

(1) كان لمعاوية عين بالمدينة يكتب إليه بما يكون من اُمور الناس، فكتب إليه: إنّ الحسين بن علي أعتق جارية وتزوّجها. انظر: أعيان الشيعة 4/القسم الأوّل.

١٥٦

هذا بالإضافة إلى أنّ معاوية كان يُدرك أنّه ليس ينبغي له - وهو يحكم الناس بسلطان الدين - أن يرتكب من الأعمال ما يراه العامّة تحدّياً للدين يحكم بسلطانه، بل عليه أن يسبغ على أعماله غشاء دينياً لتنسجم هذه الأعمال مع المنصب الذي وصل إليه، أمّا ما لا يمكن تمويهه من التصرّفات فليرتكبه في السرّ(1) .

وقد أظهره سلوكه المحافظ على تعاليم الدين بمظهر لا غبار عليه من الناحية الدينية عند العامّة، على الرغم من بعض الروايات التأريخيّة التي تؤكّد أنّه كان مُلحداً لا يؤمن بشيء؛ ممّا جعل المغيرة بن شعبة وهو في تحلّله يغتمّ لما سمعه منه في بعض مجالسه معه، ويقول عنه أنّه أخبث الناس(2) .

وقد استغل ظروفه لإسباغ صفة الشرعية على منصبه؛ وذلك بدعواه أنّه يطلب بدم عثمان، وبما موّه على الرأي العام في مؤتمر التحكيم بعد صفّين من صلوحه للخلافة، وبصلحه مع الإمام الحسنعليه‌السلام وبيعة الناس له بالخلافة. فلو أفلت من معاوية الزمام، وغفلت عيونه وأرصاده فخرجت الفكرة إلى حيّز الواقع، وتحوّلت إلى دويٍّ عظيم، فهل كانت ثورة الحسينعليه‌السلام تنجح في عهد معاوية؟

والذي نتساءل عنه هنا ليس النجاح العسكري؛ فإنّ ثورته ما كانت لتحوز نصراً عسكرياً آنيّاً يمكّن الحسينعليه‌السلام من الإمساك بالسلطة؛ لأنّه كان ضعيفاً من الناحية الماديّة، ومعاوية أقوى ما يكون، وقد رأينا أنّها أخفقت عسكرياً في عهد يزيد مع أنّ سلطان الاُمويِّين في عهده كان بالغ الضعف؛ بسبب استنكار عامّة

____________________

(1) انظر: تاريخ الإسلام السياسي 1/533.

(2) انظر: شرح نهج البلاغة 2/357، مروج الذهب 2/341.

١٥٧

المسلمين لسلطانه، وبسبب التناحر القبلي الذي كان قد بلغ غايته في الشام(1) .

وإنّما نتساءل عن نجاح ثورته بمعنى تمكّنه من التعبير بها عن أهدافه الاجتماعيّة والإنسانيّة، وإشعار الناس بواقعهم السيِّئ، وكشف الحكم الاُموي على حقيقته لأعينهم، وبعث روح جديدة فيهم، وبث أخلاق جديدة بينهم، على النحو الذي سنرى أنّه تمكّن منه في عهد يزيد.

والجواب الذي لا بدّ منه هنا هو النفي، بل كان مصيره إلى الإخفاق على الصعيد العسكري، وعلى هذا الصعيد الآخر الذي بوّأ ثورته في عهد يزيد منزلة فريدة في تأريخ الثورات.

وإذا بحثنا عن السبب في إخفاق ثورة الحسينعليه‌السلام لو ثار في عهد معاوية لوجدناه في مسحة الدين التي كان معاوية يحرص على إسباغها على سلوكه وسائر تصرّفاته أمام العامّة، وفي صفة الشرعية التي أفلح في أن يسبغها على منصبه لدى جانب كبير من الرأي العام الإسلامي.

فإنّ هذا الواقع كان يُجرّد ثورة الحسينعليه‌السلام - لو ثار - من مبرّرها الوحيد؛ لأنّ الجواب الذي كان سيقدّمه معاوية وأعوانه للناس حيث يتساءلون عمّا حمل الحسينعليه‌السلام على الثورة، أو يجيب به الناس أنفسهم، هو أنّ الحسينعليه‌السلام طالب ملك، ولو قُتل الحسينعليه‌السلام في سبيل ما توهّمه الناس هدفاً من ثورته لما أثار قتله استنكاراً، ولما عاد قتله بشيء على مبادئه ودوافعه الحقيقية للثورة، بل ربّما عدّه فريق من الناس مستحقّاً للقتل.

ولن يجدي الحسينعليه‌السلام وأنصاره أن يعلنوا للناس أنّ ثورتهم

____________________

(1) كان التناحر بين قيس وكلب، أو بين مضر واليمن قد بلغ غايته في عهد يزيد، ثم انفجر [بعد] موته بسبب الاختلاف فيمَنْ يخلف معاوية الثاني الذي تنازل عن الحكم، ونشبت الحروب بين القبائل بسبب ذلك. راجع: ولهاوزن - الدولة العربيّة/165 - 173، وبروكلمان - تأريخ الشعوب الإسلاميّة 1/156 - 157.

١٥٨

لحماية الدين من تحريف وتزييف معاوية، وإنقاذ الأمّة من ظلمه، فلن يصدّقهم الناس؛ لأنّهم لا يرون على الدين من بأس، ولم يُحدث معاوية في الدين حدثاً، ولم يُجاهر بمنكر، بل سيرى الناس أنّ مقالتهم هذه ستار يخفي مقاصدهم الحقيقية.

العهد والميثاق

ولقد كان معاوية خليقاً بأن يستغل في سبيل تشويه ثورة الحسينعليه‌السلام - لو ثار في عهده - هذا الميثاق الذي كان نتيجة صلح الحسنعليه‌السلام مع معاوية، فلقد عرف عامّة الناس أنّ الحسن والحسينعليهما‌السلام قد عاهدا معاوية على السكوت عنه، والتسليم له ما دام حيّاً(1) ، ولو ثار الحسينعليه‌السلام على معاوية لأمكن لمعاوية أن يصوّره بصورة المنتهز الناقض لعهده وميثاقه الذي أعطاه.

ونحن نعلم أنّ الحسينعليه‌السلام ما كان يرى في عهد معاوية عهداً حقيقياً بالرعاية والوفاء؛ فقد كان عهداً تمّ بغير رضاً واختيار، وقد كان عهداً تمّ في ظروف لا بدّ للمرء في تغييرها.

ولقد نقض معاوية هذا العهد، ولم يعرف له حرمة، ولم يحمل نفسه مؤونة الوفاء به، فلو كان عهداً صحيحاً لكان الحسينعليه‌السلام في حلّ منه؛ لأنّ معاوية قد تحلل منه، ولم يأل في نقضه جهداً.

ولكنّ مجتمع الحسينعليه‌السلام ، هذا المجتمع الذي رأينا أنّه لم يكن أهلاً للقيام بالثورة، والذي كان يؤثر السلامة والعافية كان يرى أنّه قد عاهد، وإنّ عليه أن

____________________

(1) انظر: شرح نهج البلاغة « بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم » 4/8.

١٥٩

يفي(1) .

وأكبر الظنّ أنّ ثورته - لو قام بها في عهد معاوية - كانت ستفشل على الصعيد السياسي وعلى الصعيد الاجتماعي حين ينظر إليها المجتمع الإسلامي من الزاوية التي كان معاوية سيسلّط عليها الأضواء، وهي هذا العهد والميثاق الذي نقضه الحسينعليه‌السلام وأنصاره من الثائرين، فيظهرها للرأي العام وكأنّها تمرّد غير مشروع.

ولعلّ هذا هو ما يفسّر جواب الحسينعليه‌السلام لسليمان بن صرد الخزاعي حين فاوضه في الثورة على معاوية، والحسنعليه‌السلام حي، فقد قال له: « فليكن كلّ رجل منكم حلساً من إحلاس بيته ما دام هذا الإنسان حيّاً؛ فإنّها بيعة كنتُ والله لها كارهاً، فإن هلك معاوية نظرنا ونظرتم، ورأينا ورأيتم »(2) .

وجوابه لعدي بن حاتم الطائي وقد فاوضه في الثورة أيضاً بقوله:

____________________

(1) يميل المرحوم الشيخ راضي آل ياسين في كتابه النفيس « صُلح الحسن »/252 - 270 - الطبعة الأولى - إلى التأكيد على أنّ الحسن والحسينعليهما‌السلام لم يبايعا معاوية بالخلافة؛ استناداً إلى نصوص وردت في بعض التي رُوي بها الميثاق بين الإمام الحسنعليه‌السلام ومعاوية، والتي يراها في بعض الصيغ دالّة على إعفاء الحسنعليه‌السلام من كلّ التزام يشعر بأنّه سلّم إلى معاوية - بالإضافة إلى السلطان السياسي - الإمامة الدينية أيضاً.

وهذا رأي لا نملك رفضه، فشيء آخر غير ما ذكر من النصوص، وهو شخصيتا الحسنعليه‌السلام ومعاوية يعزّز هذا الرأي. ولكن هذا الواقع لا يُغيّر من جوهر المسألة شيئاً؛ فقد أظهر معاوية للرأي العام أنّ الحسنعليه‌السلام قد بايع بما لهذه الكلمة من دلالات زمنية ودينية، وقد كان المسلمون ينظرون إلى البيعة على أنّها عهد لا يمكن نقضه ولا الفكاك منه. لاحظ كتابنا « نظام الحكم والإدارة في الإسلام »/48، ففيه شواهد تأريخيّة، ولاحظ أيضاً « الدولة العربيّة وسقوطها » ولهاوزن/115، وسمو المعنى في سمو الذات - للشيخ عبد الله العلايلي/101 - 105. منهرحمه‌الله .

(2) انظر: الأخبار الطوال/221، الإمامة والسياسة 1/173.

١٦٠