ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية0%

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 311

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي شمس الدين
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 311
المشاهدات: 56954
تحميل: 7698

توضيحات:

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 311 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56954 / تحميل: 7698
الحجم الحجم الحجم
ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

كتبهم إليّ ». فأخرج خرجين مملوءين صحفاً فنشرها بين أيديهم(1) .

من هنا نستطيع أن نكوّن فكرة عن ضخامة عدد الكتب التي اُرسلت إلى الحسينعليه‌السلام تدعوه إلى الثورة وتعده بالنصر. ونلاحظ من ناحية اُخرى أنّ هذه الكتب ليست من أفراد؛ فقد كانت كتباً من الرجل والاثنين والأربعة والعشرة(2) ، فلسنا أمام حركة فردية، وإنّما نحن أمام حركة جماعية قام بها المجتمع العراقي، أو الكثرة الساحقة من هذا المجتمع.

وهذا نموذج للكتب التي وردت إليه: « سلام عليكم. أمّا بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوّك وعدوّ أبيك من قبل، الجبّار العنيد، الغشوم الظلوم، الذي انتزى على هذه الأمّة فابتزّها أمرها واغتصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضاً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وعتاتها، فبعداً له

____________________

(1) انظر: تأريخ الطبري 4/303، والكامل في التاريخ 3/280، أعلام الورى/229، الأخبار الطوال/249.

(2) انظر: تأريخ الطبري 4/262، وجاء في أعيان الشيعة: « وأنفذوا قيس بن مسهر الصيداوي، وعبد الرحمن بن عبد الله بن شداد الأرحبي، وعمارة بن عبد الله السلولي إلى الحسينعليه‌السلام ومعهم نحو مئة وخمسين صحيفة من الرجل والاثنين والأربعة والعشرة، وهو مع ذلك يتأبّى ولا يجيبهم، فورد عليه في يوم واحد ستمئة كتاب، وتواترت الكتب حتّى اجتمع عنده في نوّب متفرّقة اثنا عشر ألف كتاب ».

انظر: مقتل الحسين - لأبي مخنف /16 بلفظ: فحملوا معهم نحواً من ثلاثة وخمسين صحيفة، ومثله في تأريخ الطبري 4/262، الكامل في التأريخ - ابن الأثير 4/10 و2/533، سمط النجوم العوالي 3/58، الأخبار الطوال/229، تأريخ اليعقوبي 2/242.

١٨١

كما بعدت ثمود! وإنّه ليس علينا إمام غيرك فأقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ. والنعمان بن بشير في قصر الإمارة، ولسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنّك أقبلت أخرجناه حتّى يلحق بالشام إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته يابن رسول الله »(1) .

هذا نموذج للكتب التي أرسلت إلى الحسينعليه‌السلام تدعوه إلى الثورة، ويبرز العامل الاجتماعي فيه بوضوح عظيم، فسياسة الإرهاب والتجويع هي التي حملت هؤلاء الناس على الثورة، وكان الحسينعليه‌السلام هو الشخصيّة الوحيدة التي يمكن أن تتزعّم ثورة كهذه؛ إذ لم يكن في الزعماء المسلمين زعيم غيره يتجاوب مع آلام الشعب وآماله ومطامحه.

بواعث الثورة لدى الثائرين

فإذا نحن تجاوزنا هؤلاء الداعين إلى الثورة ثمّ المتخاذلين عنها إلى اُولئك الذين ثبتوا ثائرين مع الحسينعليه‌السلام إلى اللحظة الأخيرة. اللحظة التي توّجوا فيها عملهم الثوري بسقوطهم صرعى رأيناهم يحملون نفس الفكرة، ويبرّرون ثورتهم ويدعون الجيش الاُموي إلى تأييدهم بنفس تلك المبرّرات؛ الظلم الاجتماعي، وسياسة الإرهاب، والإذلال التي يمارسها الحاكمون.

هذا زهير بن القين خرج على فرس له في السلاح، فخطب الجيش الاُموي

____________________

(1) انظر: تأريخ الطبري 4/261 - 262، الكامل في التاريخ 3/266.

١٨٢

قائلاً: « يا أهل الكوفة، نذارِ لكم من عذاب الله نذارِ، إنّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتّى الآن إخوة على دين واحد، وملّة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منّا أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنّا نحن اُمّة وأنتم اُمّة.

إنّ الله قد ابتلانا وإيّاكم بذريّة نبيّه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية ابن الطاغية عبيد الله بن زياد؛ فإنّكم لا تدركون منهما إلاّ بسوء عمر سلطانهما كلّه؛ لَيُسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويُمثّلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم، أمثال حجر بن عدي وأصحابه، وهاني بن عروة وأشباهه »(1) .

فسبّوه وأثنوا على ابن زياد، وقالوا: والله لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومَنْ معه، أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله سلماً.

____________________

(1) انظر: تأريخ الطبري 4/324، مقتل الحسين - لأبي مخنف/119.

١٨٣

١٨٤

الفصل الثالث: آثار الثورة في الحياة الإسلاميّة

«... إنّ فاجعة كربلاء قد دخلت في الضمير الإسلامي آنذاك، وانفعل بها المجتمع الإسلامي بصفة عامّة انفعالاً عميقاً. ولقد كان هذا كفيلاً بأن يبثّ في النفس ما يدفعها إلى الدفاع عن كرامتها، وأن يبعث في الروح النضالية الهامدة جذوة جديدة، وأن يرسل في الضمير الشلو هزّة تحييه...».

١٨٥

١٨٦

تمهيد

لقد درسنا فيما تقدّم بعض جوانب ثورة الحسينعليه‌السلام على الحكم الاُموي، فدرسنا ظروفها الاجتماعيّة والنفسية، ودرسنا أسبابها وغاياتها، وفي خلال حديثنا هذا صحبنا الحسينعليه‌السلام وآله وصحبه في كثير من مراحل عملهم الثوري، ولم نتحدّث عن عنصر المأساة حديثاً واسعاً؛ لأنّ ذلك ليس من همّنا كما ذكرنا بين يدي هذه الفصول، واكتفينا من ذلك بالإشارة التي يقتضيها سياق البحث والاستنتاج.

ونريد الآن أن نتحدّث عن نتائج هذه الثورة وعن عطائها الإنساني، هل غيّرت هذه الثورة شيئاً من مواقع المجتمع الذي انفجرت فيه؟ وهل حققت نصراً لصانعيها؟ وهل حطّمت أعداءها؟

هذه أسئلة تثور على شفتي كلّ مَنْ يقرأ أو يسمع عن ثورة من الثورات، ويتوقّف الحكم على الثورة بالنجاح أو الفشل على ما تقدّمه الوثائق من أجوبة على هذا الأسئلة، فهل كانت ثورة الحسينعليه‌السلام ناجحة، أو أنّها كانت ثورة فاشلة ككثير من الثورات التي تشتعل ثمّ تنطفئ، ولا تخلف وراءها إلاّ ذكريات حزينة تراود بين الحين والحين أحبّاء صرعاها؟

قد يُقال: إنّها ثورة فاشلة تماماً؛ فهي لم تحقق نصراً سياسياً آنيّاً يُطوّر الواقع الإسلامي إلى حال أحسن من الحال التي كان عليها قبل هذه الثورة.

لقد بقي

١٨٧

المسلمون بعد الثورة كما كانوا قبلها قطيعاً يُساق بالقوّة إلى حيث يُراد له لا إلى حيث يُريد، ويُساس بالتجويع والإرهاب.

ولقد ازداد أعداء هذه الثورة قوّة على قوّتهم فلم تنل منهم شيئاً، وأمّا صانعوها فقد أكلتهم نارها، وشملت أعقابهم مئات من السنين؛ فحملت إليهم الموت والذلّ، والتشريد والحرمان، فهي فاشلة على الصعيد الاجتماعي، وهي فاشلة على الصعيد الفردي.

ولكنّ الحقّ غير ذلك في عين الباحث البصير، فإنّ علينا لكي نفهم ثورة الحسينعليه‌السلام أن نبحث عن أهدافها ونتائجها في غير النصر الآني الحاسم، وفي غير الاستيلاء على مقاليد الحكم والسلطان، فإنّ ما بين أيدينا من النصوص دالّ على أنّ الحسينعليه‌السلام كان عالماً بالمصير الذي ينتظره وينتظر مَنْ معه.

قال لابن الزبير حين طلب منه إعلان الثورة في مكة: « وأيم الله، لو كنت في جُحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقضوا بي حاجتهم. والله ليعتدنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت »(1) .

وكان يقول: « والله، لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا سلّط الله عليهم مَنْ يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من فرام المرأة »(2) .

وأجمع نصحاؤه - حين شاع نبأ عزمه على المسير إلى العراق - على أنّه

____________________

(1) انظر: تأريخ الطبري 4/289 و296، والكامل في التأريخ 3/275 - 276، والأخبار الطوال/223.

(2) انظر المصادر نفسها.

١٨٨

فاشل حتماً في الوصول إلى نتيجة سريعة من ثورته، فقد كانت قوى المال والسلاح مُتّحدة ضدّه، فكيف ينتصر؟ وفزعوا إليه ينصحونه بالمكوث في مكة، أو الخروج عنها إلى غير العراق من بلاد الله؛ من هؤلاء عمر بن عبد الرحمن المخزومي، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن الحنفيّة، وعبد الله بن جعفر.

ولكنّه أبى عليهم ما أشاروا به، فقال لعبد الرحمن بن الحرث: « جزاك الله خيراً يابن عمّ، فقد والله علمت أنّك مشيت بنصح، وتكلّمت بعقل، ومهما يقضِ الله من أمر يكن، أخذتُ برأيك أو تركته، فأنت عندي أحمد مُشير، وأنصح ناصح »(1) .

وقال لعبد الله بن عباس: « يابن عمّ، إنّي والله لأعلم أنّك ناصح مُشفق، ولكنّي قد أزمعت وأجمعت على المسير »(2) .

وقال في موقف آخر: « لأن اُقتل بمكان كذا أو كذا أحبّ إليّ من أن تُستحلّ حرمتها بي - يعني الحرم - »(3) .

وقال لعبد الله بن عمر وقد نصحه بالصلح والمهادنة مع يزيد:

____________________

(1) انظر: تأريخ الطبري 4/278، والكامل في التأريخ 3/275، والأخبار الطوال/223.

(2) انظر: تأريخ الطبري 4/278، والكامل في التأريخ 3/275 - 276.

(3) انظر: أخبار مكة - محمد بن عبد الله الأزرقي 2/132، طبعة دار الثقافة في مكة المكرمة.

١٨٩

« يا أبا عبد الرحمن، أما علمت أنّ من هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريّا اُهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل؟ اتّق الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدعَن نصرتي »(1) .

وأجاب الفرزدق حين قال له: قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني اُميّة: « صدقت، لله الأمر، والله يفعل ما يشاء، وكلّ يوم ربّنا في شأن. إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد مَنْ كان الحقّ نيّته، والتقوى سريرته »(2) .

وورد إليه كتاب عمر بن سعيد بن العاص عامل المدينة يُمنّيه في الأمان والصلة، والبرّ وحسن الجوار، وأرسله إليه مع أخيه يحيى بن سعيد وعبد الله بن جعفر، فجهدا أن يرجع فلم يفعل، ومضى وهو يقول: « قد غسلت يدي من الحياة، وعزمت على تنفيذ أمر الله ».

وهكذا ما نزل منزلاً إلاّ ولقي مَنْ ينصحه بعدم الخروج إلى العراق، ويذكر له من أنباء أهله ما يكشف عن خذلانهم له وانكفائهم عليه، حتّى أتاه خبر قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وهو بالثعلبية، فأهاب به بعض أصحابه بالرجوع فأبى، فلمّا كان بزُبالة(3) أتاه خبر قتل أخيه من الرضاعة

____________________

(1) انظر: الفتوح - لابن أعثم 5/42، مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام 1/192، اللهوف/12.

(2) انظر: تأريخ الطبري 4/290، والكامل في التأريخ 3/271.

(3) زُبالة (بضم الزاء المعجمة): منزل بطريق مكة من الكوفة، يبعد عن الشقوق أحد وعشرون ميلاً، فيها حصن وجامع لبني أسد، سمّي الموضع باسم زُبالة بنت مسعر، امرأة من العمالقة، ويوم زبالة من أيام =

١٩٠

عبد الله بن يقطر(1) ، فخرج حينذاك إلى مَنْ صحبه من الناس وقال: « أمّا بعد، فإنّه قد أتاني خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة، وعبد الله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا، فمَنْ أحبّ منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج، ليس عليه منّا ذمام ».

فتفرّق عنه الناس تفرّقاً، فأخذوا يميناً وشمالاً حتّى بقي في أصحابه الذي جاؤوا معه من المدينة، وإنّما فعل ذلك لأنّه ظنّ إنّما اتّبعه الأعراب لأنّهم ظنّوا أنّه يأتي بلداً قد استقامت طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون علامَ يقدمون. وقد علم أنّهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلاّ مَنْ يريد مواساته والموت معه(2) .

وأجاب مَنْ نصحه بالرجوع إلى مأمنه من منزله ذاك بعد أن تبيّن له الأمر، فقال له: « يا عبد الله، إنّه ليس يخفى عليّ أنّ الرأي ما رأيت، ولكنّ الله لا يُغلب على أمره »(3) .

* * *

____________________

= العرب، ونسب إلى المكان جماعة من المُحدّثين. انظر: معجم البلدان 3/129 وذكر هذا الموضع الطبري في تأريخه 6/226 و4/300 طبعة اُخرى، ومقتل الحسين - للخوارزمي 1/229، ومقتل الحسين - لأبي مخنف/78، اللهوف/32، عوالم العلوم 17/224.

(1) عبد الله بن يقطر: رضيع الحسينعليه‌السلام ، كان أحد رسله إلى الكوفة، قبض عليه عبيد الله بن زياد ورمى به من فوق القصر فتكسّر، وقام إليه عمرو الأزدي فذبحه، ويُقال: بل فعل ذلك عبد الملك بن عمير اللخمي.

انظر: الإرشاد 2/70، وهو الذي بعثه الإمام الحسينعليه‌السلام إلى أهل الكوفة، علماً بأنّ الشيخ المفيد ذكره بلفظ: بل بعث أخاه من الرضاعة. الطبري في تأريخه 5/398، وقد ضبطه بالباء، وكذلك ابن الأثير في الكامل 4/42، القاموس المحيط/376 مثله، وأبو داود في رجاله/125، 920 أيضاً.

(2) انظر: تاريخ الطبري 4/300، والكامل في التأريخ 3/378.

(3) انظر المصدران نفساهما.

١٩١

هذه النُذر كلّها تشير إلى أنّه كان عالماً بالمصير الذي ينتظره. وإذاً فليس لنا أن نبحث عن أهداف ثورة الحسينعليه‌السلام ونتائجها في الاستيلاء على مقاليد الحكم والسلطان؛ لأنّه لم يستهدف من ثورته نصراً آنيّاً، ولأنّه كان مُدركاً لاستحالة الحصول على نصر آني.

وقد يبدو لنا هذا غريباً جدّاً، فكيف يسير إنسان إلى الموت مع طائفة من أخلص أصحابه طائعاً مختاراً، وكيف يُحارب في سبيل قضية يعلم أنّها خاسرة، وكيف يمكّن لعدوّه من نفسه هذا التمكين؟ هذه علامات استفهام كثيرة نبحث عن أجوبتها.

والذي اعتقده هو أنّ وضع المجتمع الإسلامي إذ ذاك كان يتطلّب القيام بعمل انتحاري فاجع يلهب الروح النضالية في هذا المجتمع، ويتضمّن أسمى مراتب التضحية ونكران الذات في سبيل المبدأ؛ لكي يكون مناراً لجميع الثائرين حين تلوح لهم وعورة الطريق، وتضمحلّ عندهم احتمالات الفوز، وتُرجّح عندهم إمارات الفشل والخذلان.

لقد كان قادة المجتمع وعامّة أفراده إذ ذاك يقعدون عن أي عمل إيجابي لتطوير واقعهم السيِّئ بمجرد أن يلوح لهم ما قد يُعانون في سبيل ذلك من عذاب، وما قد يضطّرون إلى بذله من تضحيات. وكانوا يقعدون عن القيام بأي عمل إيجابي بمجرد أن تُحقّق لهم السلطة الحاكمة بعض المنافع القريبة.

ولم يكن هذا خُلق السادة وحدهم، بل كان خُلق عامّة الناس أيضاً؛ لذا رأينا تخاذل مجتمع بأسره عن نصر قضيته حين أوقع ابن زياد بمسلم بن عقيل، وكيف أخذت المرأة تخذّل ابنها وزوجها وأخاها، وكيف أخذ الرجل يخذّل ابنه وأخاه وأباه.

١٩٢

لقد كان اُولئك الذين قالوا للحسينعليه‌السلام : « قلوبهم معك وسيوفهم عليك »(1) صادقين في تصوير ذلك المجتمع؛ فإنّ قلوب الناس كانت معه لأنّهم يحبّون أن يصيروا إلى حال أحسن من حالهم، ولكنّهم حين علموا أنّ ذلك موقوف على بذل تضحيات قد تصل إلى بذل الحياة، انكمشوا وسلّموا سيوفهم في خدمة الذين يدفعون لهم أجر قتالهم لهذا الذي جاء بدعوة منهم ليحرّرهم.

فحين استيقن ابن زياد أنّ الحسينعليه‌السلام ماضٍ فيما اعتزمه جمع الناس في مسجد الكوفة وخطبهم، ومدح يزيد وأباه وذكر حسن سيرتهما وجميل أثرهما، ووعد الناس بتوفير العطاء لهم وزادهم في اُعطياتهم مئة مئة، وأمرهم بالاستعداد والخروج لحرب الحسينعليه‌السلام (2) . هذا هو موقف الشعب من الحركات العامّة التي يتوقّف نجاحها على التضحيات، وأمّا موقف الزعماء فقد عرفته.

وهذه صورة اُخرى منها قدّمها لنا عمر بن سعد أمير الجيش الاُموي؛ فلقد دار أمره بين أن يُحارب الحسينعليه‌السلام وبين أن يفقد إمرة الرّي، فاختار الأولى على الثانية(3) .

ولقد حاوره الحسينعليه‌السلام في كربلاء، فقال له: « ويلك يابن سعد! أما تتّقي الله الذي إليه معادك؟ أتقاتلني وأنا ابن عمّك؟ ذر هؤلاء القوم وكن معي؛ فإنّه أقرب لك إلى الله ».

فقال ابن سعد: أخاف أن تُهدم داري.

____________________

(1) انظر: تأريخ الطبري 4/290 و6/218 و3/296 طبعة اُخرى، الكامل في التاريخ - لابن الأثير 4/16 و2/547، الفتوح - لابن أعثم 3/79، مقتل الحسين - للخوارزمي 1/223.

(2) انظر: تأريخ الطبري 4/341، الكامل في التاريخ - لابن الأثير 4/554، الفتوح - لابن أعثم 3/179، مقتل الحسين - للخوارزمي 1/323.

(3) انظر: تأريخ الطبري 4/309.

١٩٣

فقال الحسينعليه‌السلام : « أنا أبنيها لك ».

فقال: أخاف أن تؤخذ ضيعتي.

فقال الحسينعليه‌السلام : « أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز ».

فقال: لي عيال وأخاف عليهم.

وهنا اتّضح للحسينعليه‌السلام أنّه رجل ميّت القلب، ميّت الضمير؛ فإنسان يقيس مصير مجتمعه بهذا اللون من القياس ليس إنساناً سوي التكوين النفسي، فقال له الحسينعليه‌السلام : « ما لك! ذبحك الله على فراشك عاجلاً، ولا غفر لك يوم حشرك، فوالله إنّي لأرجو ألاّ تأكل من بُرّ العراق إلاّ يسيراً ».

فقال مستهزئاً: في الشعير كفاية(1) .

هذا هو المجتمع الإسلامي في أيام الحسينعليه‌السلام . مجتمع مريض يُشترى ويُباع بقليل من المال وكثير من العذاب والإرهاب، وما كان من الممكن أن تُردّ إلى هذا المجتمع إنسانيته وكرامته، وما كان من الممكن أن يُنبّه إلى زيف وحقارة وجوده، وما كان من الممكن أن تُوقظ فيه روحه النضالية الهامدة إلاّ بعمل انتحاري فاجع يتضمّن أسمى آيات التضحية والكرامة والدفاع عن المبدأ والموت في سبيله، وهكذا كان.

إنّ الحسينعليه‌السلام لم يكن ذا مال ليُنافس الاُمويِّين وبيدهم خزائن الأموال، ولم يكن ليتجافى عن روح الإسلام وتعاليمه فيجلب الناس إليه بالعنف والإرهاب؛

____________________

(1) انظر: تأريخ الطبري 4/341، الكامل في التاريخ - لابن الأثير 3/283 و4/554، الفتوح - لابن أعثم 5/103، مقتل الحسين - للخوارزمي 1/245، البداية والنهاية 8/189.

١٩٤

ولذا فليس من المعقول أن يطلب نصراً سياسياً آنيّاً في مجتمع لا يُحارب إلاّ في سبيل المال وبالمال، أو بالقسر والإرهاب، ولكن كان في وسعه أن يقوم بعمله الذي قام به ليهزّ أعماق هذا المجتمع، وليُقدّم له مثلاً أعلى طُبع في ضمائر أفراده بدم ونار.

وإذا نحن تقصّينا أسماء مَنْ قُتل مع الحسينعليه‌السلام في كربلاء وجدنا أصحابه ينتمون إلى معظم القبائل العربيّة، فقلّ أن توجد قبيلة عربية لم يُقتل مع الحسينعليه‌السلام منها واحد أو اثنان.

ومن هنا يمكن القول بأنّ فاجعة كربلاء دخلت في الضمير الإسلامي آنذاك، وانفعل بها المجتمع الإسلامي بصفة عامّة انفعالاً عميقاً. ولقد كان هذا كفيلاً بأن يبعث في الروح النضالية الهامدة جذوة جديدة، وأن يبعث في الضمير الشّلو هزّة تُحييه، وأن يبعث في النفس ما يبعثها إلى الدّفاع عن كرامتها.

وهذه الملاحظات تجعل من المعيّن علينا ألاّ نبحث عن نتائج ثورة الحسينعليه‌السلام فيما تعوّدناه في سائر الثورات، وإنّما نلتمس نتائجها في الميادين التالية:

1 - تحطيم الإطار الديني المُزيّف الذي كان الاُمويّون وأعوانهم يُحيطون به سلطانهم، وفضح الرّوح اللادنية الجاهليّة التي كانت تُوجّه الحكم الاُموي.

2 - بثّ الشعور بالإثم في نفس كلّ فرد، وهذا الشعور الذي يتحوّل إلى نقد ذاتي من الشخص لنفسه يقوم على ضوئه موقفه من الحياة والمجتمع.

3 - خلق مناقبية جديدة للإنسان العربي المسلم، وفتح عيني هذا الإنسان على عوالم مضيئة باهرة.

4 - بعث الرّوح النضالية في الإنسان المسلم من أجل إرسال المجتمع على قواعد جديدة، ومن أجل ردّ اعتباره الإنساني إليه.

١٩٥

١٩٦

تحطيم الإطار الديني

قد رأينا في فصل سابق كيف استغل الاُمويّون الدين لإيهام رعاياهم أنّهم يحكمون بتفويض إلهي، وأنّهم خلفاء رسول الله حقّاً، هادفين من وراء ذلك إلى أن يجعلوا من الثورة عليهم عملاً محظوراً وإن ظلموا وجوّعوا وشرّدوا المؤمنين، وأن يجعلوا لأنفسهم باسم الدين الحقّ في قمع أيّ تمرّد تقوم به جماعة من الناس وإن كانت محقّة في طلباتها.

وقد رأينا أنّهم استعانوا على ذلك بطائفة كبيرة من الأحاديث المكذوبة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد وضعها ونسبها إلى النبي اُولئك النفر من تجّار الدين الذين تقدّم ذكر بعضهم والذين كانوا يؤلّفون جهاز الدعاية عند معاوية بن أبي سفيان، واستعان معاوية بهؤلاء وغيرهم في عقد مجالس القصص والوعظ التي دأب القصّاصون والوعّاظ على أن يدسّوا فيها هذه الأحاديث، ويبشّروا فيها بهذه الأفكار فيؤيّدون بها الحكم الاُموي عن طريق الدين.

وقد جعل معاوية القصص عملاً رسميّاً تابعاً للدولة، فرتّب قصّاصاً يومية في المحافل والمساجد، وأنفق عليهم من مال الدولة. قال الليث بن سعد: « وأمّا قصص الخاصّة فهو الذي أوجده معاوية، ولّى

١٩٧

رجلاً على القصص فإذا سلّم من صلاة الصبح، جلس وذكر الله عزّ وجلّ وحمده ومجّده، وصلّى على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ودعا للخليفة ولأهل بيته وحشمه وجنوده، ودعا على أهل حربه وعلى المشركين كافة »(1) .

وعن طريق هذه المؤسسات (الأحاديث النبوية، الشعر، الفرق الدينية، القصص) آمن الناس إيماناً غيبيّاً بالحكم الاُموي، وبحرمة الثورة عليه وإن خرج عن حدود الدين الذي هو المبرّر الوحيد لوجوده.

ولقد عملت هذه المؤسسات عملها السّام، وأعطت ثمارها الخبيثة في صورة تسليم تام، وخضوع أعمى للحكم الاُموي مهما اقترف من مظالم. وهذه بعض الشواهد على ذلك من ثورة الحسينعليه‌السلام نفسها؛ فهذا ابن زياد يقول للناس في خطبته التي خذّل فيها عن مسلم بن عقيل: « اعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمّتكم »(2) .

وهذا مسلم بن عمرو الباهلي - وهو من أصحاب ابن زياد - طلب منه مسلم بن عقيل بعد أن قبض عليه أن يسقيه من جرّة بباب القصر، فقال له: « أتراها ما أبردها؟ والله لا تذوق منها قطرة حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم ».

فقال له مسلم: مَنْ أنت؟

فقال: أنا مَنْ عرف الحقّ إذ تركته، ونصح الاُمّة والإمام إذ غششته، وسمع

____________________

(1) انظر: فجر الإسلام/159.

(2) انظر: تأريخ الطبري 4/275.

١٩٨

وأطاع إذ عصيته(1) .

وهذا عمرو بن الحجاج الزبيدي - من قادة الجيش الاُموي في كربلاء - صاح قائلاً حين رأى بعض أفراد جيشه ينسلّون إلى الحسينعليه‌السلام ويقاتلون دونه: « يا أهل الكوفة، الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل مَنْ مرق من الدين وخالف الإمام »(2) .

هذه الشواهد وغيرها كثير تكشف عن أنّ المسؤولين الاُمويِّين وأعوانهم كانوا يطالبون الناس بالقيام بفرض ديني حين طلبوا منهم أن يحاربوا الحسينعليه‌السلام . ولا بدّ أنّهم استندوا في طلبهم هذا إلى ما عهدوه من السند الديني للحكم الاُموي في نفوس المسلمين.

وقد كان حريّاً بهذه العقيدة - إذا عمّت جميع طبقات المجتمع، واستحكمت في أذهان الناس دون أن تُكافح، ودون أن يظهر في الناس مَنْ يفضح زيفها وبُعدها عن الدين - أن تقضي تماماً على كلّ محاولة مقبلة يُراد منها تطوير الواقع الإسلامي، وتقويض أركان الحكم الفاسد الذي يُمارسه الاُمويّون وأعوانهم.

وكلّما تقدّم الزمن بهذه العقيدة دون أن تجد مُناوئاً تزداد استحكاماً وتأصّلاً في النفوس، وذلك كفيل في النهاية بحمل المجتمع على مُناوئة كلّ حركة تحرّرية.

ويقتضينا الإنصاف للواقع أن نُنبه إلى أنّ دعايات الاُمويِّين الدينية التي هدفوا منها إلى دعم حكمهم الفاسد فشلت في التأثير على الخوارج؛ فقد كان الخوارج يشكّلون القوّة الثورية الوحيدة في المجتمع الإسلامي، وكانوا وحدهم - تقريباً -

____________________

(1) انظر: تأريخ الطبري 4/281 - 282.

(2) انظر: تاريخ الطبري 4/331، الدولة العربيّة وسقوطها؛ فلقد ذكر شواهد من تغلغل هذه الفكرة في المجتمع السوري.

١٩٩

القائمين بجميع الحركات التحرريّة ضدّ الحكم الاُموي منذ استتباب الأمر لمعاوية حتّى ثورة الحسينعليه‌السلام ، إلاّ أنّ حركات الخوارج التمرّدية لم تكن هي تلك الثورة التي يُرجى منها بثّ قوى جديدة ومفاهيم جديدة في المجتمع الإسلامي، ولم تكن هي الثورة التي يُرجى منها تحطيم الإطار الديني للحكم الاُموي، ولم تكن هذه الحركات التمرّدية لتُؤثّر سوى هزّات خفيفة جدّاً في السطح الاجتماعي ولا تصل إلى القاع أبداً.

وكانت هذه الهزّات تحدث في نطاق ضيّق لا يتعدّى حدود المدينة أو القرية التي يحدث فيها التمرّد والاشتباك المسلح بينهم وبين الفرق العسكرية الاُمويّة، ثمّ لا يلبث السطح الاجتماعي أن يعود إلى ما كان عليه دون أن يتغيّر من حياة الناس ومفاهيمهم - حتّى في مركز الحركة - أي شيء. والسبب في ذلك هو أنّ المجتمع الإسلامي لم يكن يتجاوب معهم، بل كان يُحاربهم ويقف ضدّهم.

ويمكن أن نقول بوثوق: إنّ المجتمع الإسلامي لم يُحارب مع حكّامه الاُمويِّين عن رغبة واندفاع إلاّ ضدّ الخوارج. وطبيعي أنّه حين لا يتجاوب المجتمع نفسيّاً وعقائديّاً مع القائمين بالثورة، لا يمكن أن تنجح تلك الثورة مطلقاً على الصعيد الاجتماعي والفكري، فلا يمكن أن تُحدث تغييراً في التركيب الاجتماعي؛ لأنّ المجتمع يخذلها ويُناوئها، ولا يمكن أن تُحدث تغييراً في المفاهيم الثقافية العقائديّة؛ لأنّ المجتمع يرفض تعاليمها ونزعتها العقائديّة.

يُضاف إلى هذا أنّ الخوارج كانوا قُساة جدّاً، وعلى جانب كبير من الرعونة والرغبة في سفك الدم؛ فلم يكونوا يعفون عن قتل أيّ إنسان يُصادفونه دون أن يلقوا بالاً إلى كونه مُحارباً أو مُسالماً، رجلاً أو امرأة أو طفلاً.

٢٠٠