ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية0%

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 311

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي شمس الدين
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 311
المشاهدات: 56934
تحميل: 7698

توضيحات:

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 311 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56934 / تحميل: 7698
الحجم الحجم الحجم
ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

زالوا بجمع آلة الحرب ودعاء الناس في السرّ إلى الطلب بدم الحسينعليه‌السلام ، فكان يجيبهم القوم بعد القوم، والنفر بعد النفر من الشيعة وغيرها، فلم يزالوا كذلك [ حتّى ] مات يزيد، فخرجت طائفة دعاة يدعون الناس، فاستجاب لهم ناس كثير بعد هلاك يزيد أضعاف مَنْ كان استجاب لهم قبل ذلك.

وخرجوا يشترون السلاح ظاهرين، ويجاهرون بجهازهم وما يصلحهم، حتّى إذا كانت ليلة الجمعة لخمس مضين من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين خرجوا وتوجّهوا إلى قبر الحسينعليه‌السلام ، فلمّا وصلوا إليه صاحوا صحية واحدة فما رُئي يوم أكثر باكياً منه، وقالوا: « يا ربّ، إنّا قد خذلنا ابن بنت نبيّنا فاغفر لنا ما مضى وتب علينا إنّك أنت التواب الرحيم، وارحم حسيناً وأصحابه الشهداء الصدّيقين، وإنّا نُشهدك يا ربّ إنّا على مثل ما قُتلوا عليه، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين ».

وغادروا القبر مُستقتلين، فقاتلوا جيوش الاُمويِّين حتّى اُبيدوا جميعاً(1) .

____________________

(1) انظر: تأريخ الطبري 4/426 - 436 و449 - 473. سجل ثورة التوابين، والتي ظهرت سنة (61 هـ) وانتهت بالفشل سنة (65 هـ)، وكان قائد النهضة يلقّب بشيخ الشيعة.

انظر: الصلة بين التصوّف والتشيّع 1/22، وتأريخ العراق - للخربوطلي/123، وتأريخ العرب - فيليب حتّي 2/253، مروج الذهب 3/100، تاريخ الطبري 7/46، ابن الأثير في الكامل 4/58، البلاذري في أنساب الأشراف 5/510.

لقي التوابون الهزيمة في موقعة عين الوردة على يد الجيش الاُموي بقيادة عبيد الله بن زياد سنة 65 هـ انظر: البداية والنهاية 8/322، نظم درر السمطين/219، المعجم الكبير 3/125، مسند أبي يعلى 5/54، مجمع الزوائد 9/196، فرق الشيعة/24، تأريخ ابن الأثير 4/82 - 108، تاريخ الطبري 7/146، الحور العين/182، الأخبار الطوال/282، مروج الذهب 3/98، تأريخ الإسلام - للذهبي 2/369، المصنّف - للكوفي 2/55.

٢٤١

ولقد اعتبر التوابون أنّ المسؤول الأول والأهم عن قتل الحسينعليه‌السلام هو النظام وليس الأشخاص، وكانوا مُصيبين في هذا الاعتقاد؛ ولذا نراهم توجّهوا إلى الشام ولم يلقوا بالاً إلى مَنْ في الكوفة من قتلة الحسينعليه‌السلام .

ونلاحظ هنا أنّ هذه الثورة قد انبعثت عن شعور بالإثم والندم وعن رغبة في التكفير، فمَنْ يقرأ أقوالهم وكتبهم وخطبهم يلمس فيها الشعور العميق بالإثم والندم والرغبة الحارة في التكفير، وكونها صادرة عن هذه البواعث جعلها ثورة انتحارية استشهادية؛ فالثائرون هنا يريدون الانتقام والتكفير ولا يستهدفون شيئاً آخر وراء ذلك، فلا يريدون نصراً ولا ملكاً ولا مغانم، وإنّما يريدون انتقاماً فقط، وقد خرجوا من ديارهم وهم على مثل اليقين بأنّهم لا يرجعون إليها، كانوا يريدون أن يموتوا، ولقد بُذل لهم الأمان فلم يقبلوا(1) .

وإذاً، فلم تكن لهذه الثورة أهداف اجتماعية واضحة ومُحدّدة، لقد كان الهدف الواضح منها هو الانتقام والتكفير. وإنّ الفقرة التي في صدر خطاب سليمان بن صرد لتصوّر لنا بدقة متناهية حالة المجتمع قبل ثورة الحسينعليه‌السلام وموقفه من الحركات الإصلاحية كما عكسه موقف هذا المجتمع من ثورة الحسينعليه‌السلام نفسها.

وإنّ الكلمات في هذه الفقرة لتكاد تختلج حياء بما تحمل من معاني الونى والعجز والإدهان والتربّص والخذلان، كما إنّ بقيّة الخطاب وسائر ما قيل في الحثّ على هذه الثورة يُصوّر كيف كانت ثورة الحسينعليه‌السلام بركاناً عصف بكلّ هذا الركام من معاني العجز والانهيار والتلوّن، وأحلّ محلّه الرغبة العارمة في الثورة والاستشهاد.

وقد رأيت فيما مرّ عليك من نصّ الطبري أنّ الاستجابة للثورة لم تقتصر على الشيعة وحدهم، بل شاركهم فيها

____________________

(1) انظر المصادر السابقة.

٢٤٢

غيرهم ممّن يأملون تغيير الأوضاع عن طريق إزالة النير الاُموي بالثورة.

وكون هذه الثورة انتقامية انتحارية استشهادية لا هدف للقائمين بها إلاّ الانتقام والموت في سبيله يُفسّر لنا قلّة عدد المُستجيبين لها إلى النهاية؛ فقد أحصى ديوان سليمان بن صرد ستة عشر ألف رجل لم يخرج معه منهم أربعة آلاف(1) ، ولم يستجب للدعوة من المدائن إلاّ مئة وسبعون رجلاً، ومن البصرة إلاّ ثلاثمئة رجل(2) ، فالعمل الانتحاري الاستشهادي لا يستهوي إلاّ أفراداً على مستوى عالٍ من التضحية [والتشبّع] بالمبدأ، وهؤلاء قلّة في كلّ زمان.

هذا، ولكنّ الإنصاف للواقع يقتضينا أن نسجّل أنّ هذه الثورة وإن كانت ثورة انتحارية استشهادية ولم تكن لها أهداف اجتماعية واضحة، إلاّ إنّها أثّرت في مجتمع الكوفة تأثيراً عميقاً؛ فقد عبّأت خطب قادات هذه الثورة وشعاراتهم الجماهير في الكوفة للثورة على الحكم الاُموي؛ ولذلك فلم يكد يبلغهم خبر هلاك يزيد حتّى ثاروا على العامل الاُموي عمرو بن حريث فأخرجوه من قصر الإمارة، واصطلحوا على عامر بن مسعود الذي بايع لابن الزّبير(3) ، فكان ذلك مطلع العهد الذي زال فيه سلطان الاُمويِّين عن العراق إلى حين.

____________________

(1) انظر: تأريخ الطبري 4/452.

(2) انظر: تأريخ الطبري 4/466.

(3) انظر: تأريخ الطبري 4/404.

٢٤٣

٢٤٤

ثورة المدينة

وكانت ثورة المدينة ردّ فعل آخر لمقتل الحسينعليه‌السلام ، إلاّ إنّنا هنا نشاهد لوناً آخر من الثورات، ثورة تختلف عن ثورة التوابين في الدوافع والأهداف. لقد كانت الدوافع إلى هذه الثورة شيئاً غير الانتقام، كانت ثورة تستهدف تقويض سلطان الاُمويِّين الظالم الجائر البعيد عن الدين.

وما نشكّ في أنّ شُعلة هذه الثورة كانت مُتأجّجة ولكنّها كانت تبحث عن مُبرّر للانفجار، والذي أجّج شُعلة الثورة أسباب منها مقتل الحسينعليه‌السلام ولعلّه كان أهمّها؛ فإنّ زينب بنت عليعليها‌السلام دأبت بعد وصولها إلى المدينة على العمل للثورة، وعلى تعبئة النفوس لها، وتأليب الناس على حكم يزيد، حتّى لقد خاف عمرو بن سعيد الأشدق والي يزيد على المدينة انتقاض الأمر، فكتب إلى يزيد عن نشاطها كتاباً قال فيه: إنّ وجودها بين أهل المدينة مُهيّج للخواطر، وإنّها فصيحة عاقلة لبيبة، وقد عزمت هي ومَنْ معها على القيام للأخذ بثأر الحسين.

فأتاه كتاب يزيد بأن يُفرّق بينها وبين الناس(1) .

____________________

(1) انظر: زينب الكبرى - جعفر النقدي/120 - 122 نقلاً عن النسابة العبيدلي في (أخبار الزينبات)، والدكتورة بنت الشاطئ في كتابها بطلة كربلاء.

٢٤٥

وقد كان السبب المباشر لاشتعال الثورة هو وفد أهل المدينة إلى يزيد؛ فقد أوفد عثمان بن محمد بن أبي سفيان والي المدينة إلى زيد وفداً من أهلها فيهم عبد الله بن حنظلة الأنصاري غسيل الملائكة، وعبد الله بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي، والمُنذر بن الزّبير، ورجالاً من أشراف أهل المدينة، فقدموا على يزيد فأكرمهم وأحسن إليهم وأعظم جوائزهم، فلمّا رجعوا قدموا المدينة كلّهم إلاّ المنذر بن الزّبير؛ فإنّه قدم العراق.

فلمّا قدم اُولئك النفر الوفد المدينةَ قاموا في أهل المدينة وأظهروا شتم يزيد وعيبه، وقالوا: قدمنا من عند رجل ليس له دين؛ يشرب الخمر، ويضرب بالطنابير، ويعزف عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسعر عنده الحراب - وهم اللصوص - وإنّا نشهدكم أنّا قد خلعناه.

وقام عبد الله بن حنظلة الغسيل، فقال: جئتكم من عند رجل لو لم أجد إلاّ بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم، وقد أعطاني وأكرمني وما قبلت عطاءه إلاّ لأتقوى به. فخلعه الناس وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل على خلع يزيد وولّوه عليهم.

وأمّا المنذر بن الزّبير فقدم المدينة فكان ممّن يُحرّض الناس على يزيد، وقال: « إنّه قد أجازني بمئة ألف، ولا يمنعني ما صنع بي أن أخبركم خبره وأصدقكم عنه؛ والله إنّه ليشرب الخمر، والله إنّه ليسكر حتّى يدع الصلاة ».

وعابه بمثل ما عابه به أصحابه وأشدّ.

٢٤٦

وثارت المدينة على الحكم الاُموي، وطرد الثائرون عامل يزيد والاُمويِّين، وقدرهم ألف رجل، ولم ينفع الوعد ولا الوعيد في ردّهم عن ثورتهم، فقُمعت الثورة بجيش من الشام بوحشيّة متناهية، ودعا القائد الاُموي مسلم بن عقبة المُرّي لبيعة يزيد بن معاوية كما نقل الطبري وغيره: دعا الناس للبيعة على أنّهم خول ليزيد بن معاوية، يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء(1) .

* * *

وهلك يزيد، وقد باشر جيشه بقمع ثورة ابن الزّبير في مكة بعد أن فرغ من قمع ثورة المدينة، وكان ابن الزّبير قد أعلن الخلاف بعد ما بلغه مقتل الحسينعليه‌السلام ، ولا يمكن أن نعتبر ثورة ابن الزّبير امتداداً لثورة الحسينعليه‌السلام ؛ فقد كان ابن الزّبير يعد العدّة للثورة قبل مقتل الحسينعليه‌السلام ، وكانت أطماعه الشخصيّة في الحكم هي بواعثه على الثورة، وكان يرى في الحسينعليه‌السلام منافساً خطيراً كما عرفت.

فلمّا بلغ خبر مقتل الحسينعليه‌السلام أهل مكة وثب إليه أصحابه وقالوا: أظهر بيعتك؛ فإنّه لم يبقَ أحد إذ هلك الحسين ينازعك الأمر، ولكنّه قال لهم: لا تعجلوا. حتّى إذا كانت سنة خمس وستين بُويع له في الحجاز والعراق، والشام والجزيرة(2) .

وما نشكّ في أنّ استجابة الناس للثورة التي دعا لها ابن الزّبير كان مبعثها

____________________

(1) انظر: تأريخ الطبري « ثورة المدينة » 4/366 - 381 و7/13، الفتوح - لابن أعثم 5/300، التنبيه والأشراف/64، ومروج الذهب 3/71، وطبقات ابن سعد 5/215، فتح الباري 13/70، كتاب المحن 1/155.

(2) انظر المصادر السابقة.

٢٤٧

هذه الروح الجديدة التي بثّتها ثورة الحسينعليه‌السلام الدامية في نفوس الجماهير، وقد مرّ عليك آنفاً كيف أثّر التوابون في الكوفة على الحكم الاُموي بحيث أعدّوا الناس لتقبّل حكم ابن الزّبير وطرد عامل بني اُميّة على العراق.

٢٤٨

ثورة المختار الثقفي

ودخلت سنة ست وستين للهجرة، فثار المختار بن أبي عبيدة الثقفي بالعراق طالباً ثأر الحسينعليه‌السلام . ولكي نعرف السرّ في استجابة جماهير العراق لابن الزّبير أوّل الأمر ثمّ انقلابها عليه واستجابتها لدعوة المُختار، لا بدّ أن نلاحظ أنّ مجتمع العراق كان يطلب إصلاحاً اجتماعياً، وكان يطلب الثأر من الاُمويِّين وأعوانهم؛ وعلى أمل الإصلاح الاجتماعي والانتقام استجاب مجتمع العراق لابن الزّبير، فهو عدو الاُمويِّين من جهة، وهو يتظاهر بالإصلاح والزهد والرغبة عن الدنيا من جهة اُخرى، فلعلّ سلطانه أن يُحقّق كلا الأمرين.

ولكنّ سلطان ابن الزّبير لم يكن خيراً من سلطان الاُمويِّين؛ لقد أخرج العراق عن سلطانهم، ولكن قاتلي الحسينعليه‌السلام كانوا مُقرّبين إلى السلطة كما كانوا في عهد الاُمويِّين.

إنّ شمر بن ذي الجوشن، وشبت بن ربعي، وعمر بن سعد، وعمرو بن الحجّاج، وغيرهم كانوا سادة المجتمع في ظلّ سلطان ابن الزّبير، كما كانوا سادته في ظلّ سلطان يزيد. كما إنّه لم يُحقّق لهم العدل الاجتماعي الذي يطلبونه، لقد كانوا يحنّون إلى

٢٤٩

سيرة علي بن أبي طالبعليه‌السلام فيهم، هذه السيرة التي حقّقت لهم أقصى ما يمكن من رفاه وعدل.

هذا عبد الله بن مطيع العدوي عامل ابن الزّبير على الكوفة يقول للناس إنّه أمر أن يسير بسيرة عمر وعثمان، فيقول له المتكلّم بلسان أهل الكوفة: «... أمّا حمل فيئنا برضانا فإنّا نشهد أنّا لا نرضى أن يُحمل عنّا فضله، وألاّ يُقسم إلاّ فينا، وأن لا يُسار فينا إلاّ بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا هذه، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا ولا في أنفسنا، ولا في سيرة عمر بن الخطّاب فينا وإن كانت أهون السيرتين علينا »(1) .

كان هذا أو ذاك سبباً في انخذال الناس عن ابن الزّبير وتأييدهم لثورة المختار عليه، ولقد ربط المختار دعوته بمحمد بن الحنفيّة بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام ، وهذا ما جعلهم يطمئنون إلى عدل السيرة والإصلاح، لقد جعل شعاره « يا لثارات الحسين » وهذا يُحقّق لهم الهدف الثاني.

ولقد حارب عبد الله بن مطيع عامل ابن الزّبير في الكوفة الثائرين مع المختار بالرجال الذين تولّوا قتل الحسينعليه‌السلام . لقد حاربهم بشمر بن ذي الجوشن، وعمرو بن الحجّاج، وشبث بن ربعي وأمثالهم، وكان هذا كافياً في حفز الثائرين على المضي في ثورتهم والتصميم على النصر.

وقد أنصف المختار عندما تولّى الحكم طبقة في المجتمع الإسلامي كانت مُضطهدة في عهد الاُمويِّين واستمر اضطهادها في عهد ابن الزّبير، وهي طبقة

____________________

(1) انظر: أنساب الأشراف 5/220 - 221.

٢٥٠

الموالي « المسلمين غير العرب »، فقد كانت عليهم واجبات المسلمين ولم تكن لهم حقوقهم، فلمّا استتب الأمر للمختار أنصفهم فجعل لهم من الحقوق مثل ما لغيرهم من عامّة المسلمين.

وقد أثار هذا العمل الأشراف وسادة القبائل فتكتّلوا ضدّ المختار، وتآمروا عليه، وأجمعوا على حربه، وكان على رأس هؤلاء المتمردين قتلة الحسينعليه‌السلام ، ولكنّهم فشلوا في حركتهم(1) .

وكانت حركة التمرّد هذه سبباً في حفز المختار على التعجيل بتتبع قتلة الحسينعليه‌السلام وآله في كربلاء وقتلهم؛ فقتل منهم في يوم واحد مئتين وثمانين رجلاً(2) ، ثمّ تتبعهم فقتل كثيراً منهم، ولم يفلت من زعمائهم أحد؛ فقتل شمر بن ذي الجوشن، وعمر بن سعد، وعمرو بن الحجّاج، وشبث بن ربعي، وغيرهم(3) .

____________________

(1) انظر: تأريخ الطبري 4/517.

(2) انظر: تأريخ الطبري 4/424.

(3) انظر: تأريخ الطبري « ثورة المختار » 4/487 - 577.

٢٥١

٢٥٢

ثورة مطرف بن المغيرة

وفي سنة 77 للهجرة ثار مطرف بن المغيرة بن شعبة على الحجّاج بن يوسف وخلع عبد الملك بن مروان. كان هذا الرجل والياً للحجّاج على المدائن، وكان حيّ الضمير، فلم يعمِ عينيه السلطان الذي حباه به الاُمويّون عن إدراك الظلم الفادح الذي ينزلونه بالأمّة المسلمة، وقد اتصل به دعاة الخوارج فأرادوه على أن ينظمّ إليهم ويسلّم بإمرة المؤمنين لزعيمهم شبيب، وأرادهم على أن ينظمّوا إليه ليعيدوا الأمر شورى في المسلمين، فأبى وأبوا، واستشار نصحاءه في الثورة فلم ينصحه بها أحد منهم، ولكنّه ثار بمَنْ أجابه.

وكلّم رؤوس أصحابه، فقال: « أمّا بعد، فإنّ الله كتب الجهاد على خلقه، وأمر بالعدل والإحسان، وقال: فيما أنزل علينا:( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (1) ، وإنّي اُشهد الله أنّي خلعت عبد الملك بن مروان والحجّاج بن يوسف، فمَنْ أحبّ منكم صحبتي

____________________

(1) سورة المائدة/2.

٢٥٣

وكان على مثل رأيي فليبايعني؛ فإنّ له الأسوة وحُسن الصحبة، ومَنْ أبى فليذهب حيث شاء؛ فإنّي لست أحبّ أن يتبعني مَنْ ليس له نيّة في جهاد أهل الفجور. أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه وإلى قتال الظلمة، فإذا جمع الله لنا أمرنا كان هذا الأمر شورى بين المسلمين يرتضون لأنفسهم مَنْ أحبّوا ».

وكتب إلى سويد بن سرحان الثقفي وبُكير بن هارون البجلي: « أمّا بعد، فإنّا ندعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، وإلى جهاد مَنْ عَنِدَ عن الحقّ، واستأثر بالفيء، وترك حكم الكتاب، فإذا ظهر الحقّ ومنع الباطل، وكانت كلمة الله هي العليا، جعلنا هذا الأمر شورى بين الأمّة؛ يرتضي المسلمون لأنفسهم الرضا، فمَنْ قبل هذا منّا كان أخانا في ديننا، وولّينا في محيانا ومماتنا، ومَنْ ردّ ذلك علينا جاهدناه واستنصرنا الله عليه »(1) .

هذا هو منهج ثورة مطرف، وفيه عبير من روح كربلاء.

____________________

(1) انظر: تاريخ الطبري 4/517 « ثورة مطرف ».

٢٥٤

ثورة ابن الأشعث

وفي سنة 81 للهجرة ثار عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على الحجّاج وخلع عبد الملك بن مروان. وسبب هذه الثورة التي هزّت الحكم الاُموي على حدّ تعبير ولهاوزن(1) هو الفتوح الاستعمارية التي أدرك الشعب أنّها ليست في مصلحته؛ فقد أرسل الحجّاج عبد الرحمن إلى سجستان على رأس جيش عراقي في الوقت الذي كان جيش الشام الذي قضى على حركة الخوارج لا يزال مرابطاً في العراق(2) ، وقد أبدى عبد الرحمن مهارة عسكرية فائقة؛ ففتح قسماً من البلاد(3) ، فكتب إلى الحجّاج يُعرّفه ذلك، وأنّ رأيه أن يتركوا التوغّل في بلاد رتبيل حتّى يعرفوا طريقها ويجبوا خراجها.

فكتب إليه الحجّاج يوبّخه على ذلك، ويتّهمه بالعجز، ويأمره بالتوغّل، وكتب إليه بذلك ثانياً وثالثاً. وعرض عبد الرحمن على جنوده أمر الحجّاج بعد أن بيّن لهم رأيه الذي

____________________

(1) انظر: الدولة العربيّة/190.

(2) انظر: الدولة العربيّة/202.

(3) انظر: الدولة العربيّة/190.

٢٥٥

استقر عليه بعد أن استشار قوّاده واُمراء جنده، ثمّ قال: وإنّما أنا رجل منكم؛ أمضي إذا مضيتم، وآبى إذا أبيتم. فثار إليه الناس وقالوا: بل نأبى على عدوّ الله، ولا نسمع له ولا نطيع.

وقام أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني(1) ، وله صحبة، فقال: أمّا بعد، فإنّ الحجّاج يرى بكم ما رأى القائل الأوّل:

____________________

(1) هو الصحابي أبو الطفيل عامر بن واثلة، القائل له معاوية: ألست من قتلة عثمان؟

قال أبو الطفيل: لا، ولكنّي لم أنصره.

قال معاوية: وما منعك من نصره؟

قال: لم ينصره المهاجرون والأنصار.

قال معاوية: كان حقّاً واجباً عليهم أن ينصروه.

قال له أبو الطفيل: وما منعك أن تنصره ومعك أهل الشام؟

قال معاوية: أما طلبي بدمه فنصرة له.

فضحك أبو الطفيل وقال: أنت وعثمان كما قال الشاعر:

لا ألفينّكَ بعدَ الموتِ تندبني

وفي حياتيَ ما زوّدتني زادا

يُنسب هذا الشعر إلى عبيد الله بن الأبرص، والقصّة بذاتها هكذا: قدم أبو الطفيل يوماً على معاوية فقال له: كيف وجدك على خليلك أبي الحسن؟ قال: كوجد اُمّ موسى لموسى، وأشكو إلى الله التقصير.

فقال معاوية: وكنت فيمَنْ حصر عثمان؟ قال: لا، ولكنّي فيمَنْ حضره.

قال: فما منعك من نصره... إلخ. ثم قال له: أنت وعثمان كما قال الشاعر.

انظر: تأريخ الخلفاء/133، الاستيعاب 4/1696، الإمامة والسياسة 1/215، مروج الذهب، ولكن نسب الشعر إلى النابغة الجعدي. ديوان عبيد/63، الشعر والشعراء/269، الأغاني 19/89، الإصابة 1/415، تأريخ ابن عساكر 26/116، الطبقات الكبرى 3/163، فصل المقال/241 الطبعة الثانية. وانظر: كتاب العقاد الموسوم بـ (معاوية بن أبي سفيان)/100، طبع بمطابع مؤسسة دار الهلال.

٢٥٦

احمل عبدك على الفرس، فإن هلك هلك، وإن نجا فلك.

إنّ الحجّاج ما يبالي أن يُخاطر بكم فيُقحمكم بلاداً كثيرة، ويغشي اللهوب واللصوب؛ فإن غنمتم وظفرتم أكل البلاد وحاز المال، وكان ذلك زيادة في سلطانه، وإن ظفر عدوّكم بكم كنتم أنتم الأعداء البُغضاء الذين لا يُبالي عنتهم. اخلعوا عدوّ الله الحجّاج وبايعوا الأمير عبد الرحمن، فإنّي اُشهدكم أنّي أوّل خالع. فنادى الناس من كلّ جانب: فعلنا، فعلنا، قد خلعنا عدوّ الله.

وقال عبد المؤمن بن شبث بن ربعي: « عباد الله، إنّكم إن أطعتم الحجّاج جعل هذه البلاد بلادكم، وجمركم تجمير فرعون الجنود. ولن تعاينوا الأحبّة أو يموت أكثركم فيما أرى، فبايعوا أميركم، وانصرفوا إلى عدوّكم الحجّاج فانفوه عن بلادكم ».

فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه على خلع الحجّاج ونفيه من أرض العراق، وقفلوا راجعين، حتّى إذا بلغوا فارس خلعوا عبد الملك على كتاب الله وسنّة نبيّه، وعلى جهاد أهل الضلالة وخلعهم، وجهاد المُحلّين.

فلمّا بلغ البصرة بايعه جميع أهلها وقرّائها وكهولها، مُستبصرين في قتال الحجّاج ومَنْ معه من أهل الشام وخلع عبد الملك. وسبب إسراع أهل البصرة إلى مساندة الثورة هو الظلم والجوع؛ فقد كتب عمّال الحجّاج إليه أنّ الخراج قد انكسر، وأنّ أهل الذمّة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار.

فكتب إلى البصرة وغيرها: مَنْ كان له أصل في قرية فليخرج إليها، فخرج الناس فعسكروا، فجعلوا يبكون

٢٥٧

وينادون: يا محمداه! يا محمداه! وجعلوا لا يدرون أين يذهبون، فجعل قرّاء أهل البصرة يخرجون إليهم مُتقنّعين فيبكون لما يسمعون منهم ويرون، فقدم ابن الأشعث على مجتمع معبّأ ينتظر قائداً، فاستجاب المجتمع هذه الاستجابة السريعة، واستبصر قرّاء البصرة في قتال الحجّاج مع عبد الرحمن بن الأشعث.

وقد استمرت هذه الثورة من سنة 81 هـ إلى سنة 83 هـ، وأحرزت انتصارات عسكرية، ثمّ قضى عليها الحجّاج بجيوش سورية(1) .

هذه هي ثورة عبد الرحمن بن الأشعث، وهي ثورة قام بها العرب ولم يقم بها الموالي. قام بها العرب العراقيون الذين ساءت حالتهم الاقتصادية إلى حدّ مروّع، والذين استُخدموا في الفتوح الاستعمارية دون أن يحصلوا على غنائمها، والذين كان عليهم أن يُحاربوا مقابل جرايات ضئيلة لا تكفي، بينما يفوز بالمغانم والأعطيات الكثيرة الجنود السوريون الذين تركهم الحجّاج في العراق؛ ليستعين بهم على قمع الثورات التي يقوم بها العراقيون(2) .

____________________

(1) انظر: تأريخ الطبري « ثورة ابن الأشعث ».

(2) كتب ولهاوزن عن هذه الثورة بوعي وفهم. راجع الدولة العربيّة/189 - 203.

٢٥٨

ثورة زيد بن علي بن الحسينعليهم‌السلام

وفي سنة 121 هـ تهيّأ زيد بن علي بن الحسينعليهم‌السلام (1) للثورة في الكوفة، وثار في سنة 122 هـ. وخُنقت الثورة في مهدها بسبب الجيش الاُموي الذي كان مُرابطاً

____________________

(1) ينتسبعليه‌السلام من قبل أبيه إلى الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ابن عمّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإلى فاطمة الزهراء البتول بنت رسول اللهعليها‌السلام ، فهو إذاً ذو نسب رفيع شريف لا يساويه ولا يدانيه نسب؛ فوالده علي زين العابدينعليه‌السلام الذي كان يلهج بذكر الله، وكان ورعاً تقياً كثير العبادة حتّى سُمّي زين العابدين لكثرة عبادته.

انظر: تأريخ الطبري 8/260، خطط المقريزي 4/307، ينابيع المودّة 3/105 طبعة أسوة، الصواعق المحرقة - لابن حجر/200، تهذيب التهذيب - للعسقلاني 7/306، شدرات الذهب - لابن العماد 1/104.

وقد ترعرع الإمام زيدعليه‌السلام بعد استشهاد أبيهعليه‌السلام في كنف العلم، ونبل الهداية، وشدّة الإباء، والشرف الهاشمي، ألا وهو أخوه الإمام محمد الباقرعليه‌السلام ، باقر علوم الأولين والآخرين، ومَنْ هو في زهده وورعه وتقواه ليس له نظير؛ لذا يتّضح أنّ زيداًعليه‌السلام نشأ في أعرق بيوتات العلم والزهد والتقوى؛ حيث ترعرع في كنف الإمام علي بن الحسين، ومحمد الباقرعليهما‌السلام ، فأخذ عنهما معالم الإمامة والقيادة قبل فيض الاُبوّة وسداد الاُخوّة.

انظر: الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير - لشرف الدين الحسين بن أحمد بن صالح السّياغي 1/77، التحفة الاثني عشرية (مخطوط)، حياة الإمام زيد. انظر: تأريخ الطبري 8/194، سر السلسلة العلوية (مخطوط)، حياة الإمام زيد. =

٢٥٩

في العراق.

(يا أهل الكوفة، اخرجوا من الذلّ إلى العزّ، اُخرجوا إلى الدين والدنيا؛ فإنّكم لستم في دين ولا دنيا(*) ...)(1) .

ويبدو أنّ الدعوة إلى الثورة لقيت استجابة واسعة من الجماهير المسلمة في أقطار كثيرة من بلاد الإسلام؛ فقد بويع زيد على الثورة في الكوفة والبصرة، وواسط والموصل، وخراسان والرّي وجرجان. ولقد كان حريّاً بثورته أن تنجح لولا اختلال التوقيت؛ فقد حدث ما دفع زيداً إلى إعلان الثورة قبل الموعد الذي بينه وبين أهل الأمصار(2) .

وقد تكوّن بفضل هذه الثورة جهاز ثوري دائم على استعداد للمساهمة في كلّ عمل ثوري ضدّ السلطة، وهو طائفة الزيدية الذين يرون أنّ الإمام المُفترض الطاعة هو كلّ قائم بالسيف ذوداً عن الدين ضدّ الظالمين.

قال ولهاوزن:

____________________

= اختلفت الروايات في سنة ولادتهعليه‌السلام ، قيل: إنّه ولد بالمدينة المنوّرة بعد طلوع الفجر سنة (66 أو 67 من الهجرة)، وقيل: (سنة 75 هـ)، وقيل: (سنة 78 هـ)، وقيل: (سنة 80 هـ). انظر: الحدائق الوردية في مناقب الأئمّة الزيدية - لأبي عبد الله حميد بن أحمد المحلي التميمي الوادعي 1/143، ومخطوطة مكتبة آل كاشف الغطاء برقم « 713 ».

انظر: تأريخ ابن عساكر 6/18، انظر: تهذيب التهذيب 2/244، بغية الطالب 9/4027، الوافي الوفيات 15/33/مقاتل الطالبيِّين/127، سير أعلام النبلاء 5/389، تأريخ مدينة دمشق 19/450، تاريخ الكوفة/327، فوات الوفيات 1/164، تأريخ الطبري 8/260، تأريخ اليعقوبي 3/66، وكتابنا، الزيدية بين الإمامية وأهل السنة.

(*) هكذا وردت هذه الفقرة هنا، ويبدو أن هناك حلقة مفقودة وقعت سهواً من قِبل الناسخ، وإلاّ فاقحامها في هذا المكان بيّن الغرابة.(موقع معهد الإمامين الحسنين)

(1) انظر: تأريخ الطبري 4/205، أنساب الأشراف 3/203، البداية والنهاية 9/330، الكامل في التأريخ 4/247.

(2) انظر: مقاتل الطالبيِّين/135 - 136.

٢٦٠