ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية0%

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 311

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي شمس الدين
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 311
المشاهدات: 56949
تحميل: 7698

توضيحات:

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 311 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56949 / تحميل: 7698
الحجم الحجم الحجم
ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

هل كان سمرة قتل أحداً؟ « وهل يُحصى مَنْ قتل سمرة بن جندب؟ استخلفه زياد على البصرة وأتى الكوفة، فجاء وقد قتل ثمانية آلاف من الناس، فقال له - يعني زياداً -: هل تخاف أن تكون قتلت أحداً بريئاً؟ فردّ عليه قائلاً: لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت »(1) .

وقال أبو سوار العدوي: « قتل سمرة من قومي في غداة سبعة وأربعين رجلاً قد جمع القرآن »(2) .

واستقام سمرة في المدينة شهراً؛ فهدم دور أهلها، وجعل يستعرض الناس فلا يُقال له عن أحد إنّه شرك في دم عثمان إلاّ قتله(3) ، وسبى نساء همدان - وهمدان من شيعة عليعليه‌السلام - وأقمن في الأسواق، فكنّ أوّل مسلمات أُشترين في الإسلام(4) . وقد فعل ما فعل لدعم ملك معاوية، وقال:« لعن الله معاوية! والله لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذّبني أبداً »(5) .

أمّا زياد بن سميّة فكان يجمع الناس بباب قصره يحرّضهم على لعن علي، فمَنْ أبى عرضه على السيف(6) ، وكان يعذّب بغير القتل من صنوف العذاب، وتقدّمت إشارات إلى ذلك في كلام المدائني.

وهذا ابن الأثير يذكر لنا أنّه قطع

____________________

(1) انظر: تأريخ الطبري 6/132.

(2) انظر: تأريخ الطبري 6/122.

(3) انظر: تأريخ الطبري 6/80.

(4) انظر: الاستيعاب 1/165.

(5) انظر: الكامل في التأريخ - لابن الأثير 3/213.

(6) انظر: مروج الذهب 3/35.

٨١

أيدي ثمانين أو ثلاثين رجلاً من أهل الكوفة(1) ، وقد نوى في آخر أيامه أن يعرض أهل الكوفة أجمعين على البراءة من علي ولعنه، وأن يقتل كلّ مَنْ امتنع من ذلك ويخرب منزله، ولكنّه مات قبل أن يُنفّذ هذه الفكرة(2) .

هذا كلّه بالإضافة إلى سياسة الترحيل والتشريد التي قصد بها إلى إضعاف المعارضة في العراق - وتقدّمت إشارة إليها في نصّ ابن أبي الحديد عن المدائني - فقد أنزل من الكوفيين وأُسرهم - وكانوا أعظم الثوار تشيعاً - خمسين ألفاً في خراسان(3) ، وبذلك حطّم قوّة المعارضة في الكوفة وخراسان معاً.

* * *

هذا عرض موجز للسياسة التي تتناول حياة الناس وأمنهم، وأمّا السياسة التي تتناول أرزاق الناس وموارد عيشهم فلا تقل قتامة وكلوحاً وإيغالاً في الظلم عن سابقتها؛ فإنّ معاوية بعد أن تمّ له السلطان على البلاد الإسلاميّة في عام الجماعة عالن الناس بطبيعة الحكم الجديد في كلمته التالية: « يا أهل الكوفة، أترون أنّي قاتلتكم على الصلاة، والزكاة والحجّ، وقد علمت أنّكم تُصلّون، وتزكون وتحجّون، ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وألي رقابكم، وقد أتاني الله ذلك وأنتم كارهون. ألا إنّ كلّ دم اُصيب في هذه مطلول، وكلّ شرط شرطته فتحت قدَمي هاتين ».

____________________

(1) انظر: الكامل في التاريخ - لابن الأثير 3/73.

(2) انظر: شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد 4/58، مروج الذهب 3/35.

(3) انظر: تأريخ الشعوب الإسلاميّة - بروكلمان 1/128، تأريخ العرب - فليب حتي 2/259 - 260.

٨٢

وكان قد قال قبل ذلك لمّا تمّ الصلح: « رضينا بها ملكاً »(1) . وكان معاوية أميناً لمنهجه هذا، فلم يحد عنه أبداً.

وشهدت الأمّة المسلمة من جوره وعسفه ما لم تعهد مثله في سالف أيّامها. وكان أوفر دهاء من أن يدع للمضطهدين منفذاً للتعبير عن سخطهم واستيائهم، بل كان من البراعة بحيث حمل الكثيرين على وصفه بالحلم والكرم، والإعجاب به لذلك.

وترى كتب التاريخ والأدب حافلة بالحديث عن حلم معاوية وسخائه وبذله الأموال، ولكنّ شيئاً من دقّة الملاحظة يكشف عن حقيقة الحال؛ فإنّ هذا السخاء كان مقصوراً على حفنة من الناس لا يتعدّاها إلى غيرها من العامّة ممّن هم في أمس الحاجة إلى الدرهم.

لقد كان سخاء معاوية مقصوراً على هذه الطبقة الإرستقراطية التي صعد على أكتافها إلى الحكم، والتي استعان بما لها من نفوذ سياسي أو ديني في مؤامراته أو حروبه. وكانت هذه الطبقة مؤلّفة من زعماء القبائل الموالين له، ومن بعض الأشخاص الذين قذفت بهم أحداث الإسلام الأولى مرغمين إلى صحبة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولولا ذلك لفضلوا أن يكونوا في صفوف أعدائه، فتدفّقت الثروات الضخمة، والعطايا الجزيلة على أفراد هذه الطبقة، وحرم سائر الناس من مطالبهم الأساسية، وطفق المحدّثون الرسميون (القُصّاص) يُذيعون في الناس سخاء معاوية وكرمه، مستشهدين بهباته الجزيلة لفلان وفلان. وتناقل الرواة هذه الأحاديث حتّى سجّلها المؤرّخون مفاخر له.

ولا يُغيّر من مغزى هذا شيئاً أنّ معاوية كان يهب بعض أعدائه القدماء أموالاً

____________________

(1) انظر: البداية والنهاية 6/246، تأريخ مدينة دمشق 52/380، تأريخ ابن كثير 8/121، الكامل في التأريخ 6/220، مقاتل الطالبيِّين/70، شرح النهج - لابن أبي الحديد 4/16 و16/15.

٨٣

جزيلة؛ فإنّ الذي ألجأ هؤلاء الأعداء إلى مسالمته وإن كان عجزهم عن المقاومة إلاّ إنّ هذا لا ينفي أنّهم كانوا قادرين على أن يشغبوا عليه إذا لم يستجب لمطالبهم، ولم يكن عسيراً عليه إدراك أنّ من الأفضل له عدم إثارتهم بحرمانهم من الامتيازات الثابتة لهم بحكم كونهم زعماء قبليين.

ويجب علينا حين ندرس سياسة معاوية المالية أن نضع خطّاً فاصلاً بين الشام وبين سائر الولايات الإسلاميّة؛ لأنّ الشام قد تمتّعت برخاء حقيقي؛ والسرّ في ذلك هو أنّ جند الشام كان عماد معاوية في حروبه، فلم يسعه إلاّ أن يسترضيه بالأموال.

ونلاحظ أنّه كان يُنفق على جيشه الذي بلغ ستين ألف جندي، ستين مليون درهم في السنة(1) ، على أنّه لا يفوتنا أن نلاحظ أنّ هذا الرخاء لم يكن من حظّ عرب الشام أجمع، وإنّما كان لقبائل اليمن وحدها، وأمّا قبائل قيس فكانت تُعاني شظف العيش؛ لأنّه لثقته بولاء اليمن له لم يأبه لقيس، فلم يفرض لها في العطاء إلاّ في وقت متأخّر بعد أن خشي على سلطانه من قوّة قبائل اليمن(2) .

وأما سائر الولايات الإسلاميّة فقد ذاقت الطبقات الفقيرة فيها طعم البؤس، وعانت ألواناً من الاستعباد والإفقار، بلا فرق في ذلك بين المسلمين وبين الداخلين في ذمّة الإسلام، فقد اهتمّ معاوية بجمع المال دون أن يهتمّ بمصادره وأساليب جبايته، واتّخذ من هيمنته على مصادر الجباية وبيت المال ذريعة إلى التحكّم في أعدائه المغلوبين على أمرهم، والذين لا يقدرون على إزاحته عن الحكم. وهناك بعض الشواهد على ما نقول.

كتب معاوية إلى عمّاله بعد عام الجماعة:

____________________

(1) انظر: تأريخ الإسلام 1/475.

(2) انظر: التمدن الإسلامي - زيدان 4/74 - 75.

٨٤

«... انظروا إلى مَنْ قامت عليه البيّنة أنّه يُحبّ علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان، واسقطوا عطاءه ورزقه. وشفع ذلك بنسخة أخرى: مَنْ اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به واهدموا داره »(1) . وكثيراً ما كان الأنصار يمكثون بلا عطاء، ولا ذنب لهم إلاّ أنّهم ينصرون أهل البيتعليهم‌السلام (2) .

وكانوا إذا عصاهم أحد من المسلمين قطعوا عطاءه ولو كان العاصون بلداً برمّتها(3) .

وكان من جملة الأساليب التي اتّبعها معاوية لحمل الحسينعليه‌السلام على بيعة يزيد حرمان جميع بني هاشم من عطائهم حتّى يُبايع الحسينعليه‌السلام (4) .

وكتب إلى زياد بن سميّة عامله على العراق: « اصطف لي الصفراء والبيضاء ». فكتب زياد إلى عمّاله بذلك، وأمرهم أن لا يُقسموا بين المسلمين ذهباً ولا فضّة(5) .

وكتب إلى وردان عامله على مصر أن زد على كلّ امرئ من القبط قيراطاً. ولكن وردان كان أعدل من معاوية،

____________________

(1) انظر: شرح نهج البلاغة « بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم » 11/44 - 46.

(2) انظر: التمدن الإسلامي 4/76.

(3) انظر المصدر نفسه.

(4) انظر: الكامل في التاريخ - لابن الأثير 2/252، الإمامة والسياسة 1/200.

(5) انظر: التمدن الإسلامي 4/79.

٨٥

فكتب إليه: « كيف أزيد عليهم وفي عهدهم ألاّ يُزاد عليهم؟ »(1) .

وكان ذلك هو شأنه في تحريض عمّاله على جمع الأموال، وهم يخترعون الطرق للاستكثار منها(2) .

وفرض ضريبة على الأهالي تُقدّم إليه يوم النيروز، فكان يُجبى منها عشرة ملايين درهم(3) ، وهو أوّل مَنْ استصفى أموال الرعية(4) .

وها هو معاوية يُعطي عمرو بن العاص(5) أرض مصر وأموالها وسكّانها المعاهدين ملكاً حلالاً له. وقد جاء في صك هذا العطاء: أنّ معاوية أعطى عمرو بن العاص مصر وأهلها هبة يتصرّف كيف يشاء.

مصر التي كتب علي بن أبي طالب للأشتر عامله عليها وثيقة تُعتبر من أعظم حقوق الإنسان على مدى

____________________

(1) انظر: تأريخ الإسلام السياسي 1/474.

(2) انظر: التمدن الإسلامي 2/19.

(3) انظر المصدر نفسه.

(4) انظر المصدر نفسه.

(5) أبو عبد الله أو أبو محمد عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم القرشي السهمي، واُمّه النابغة بنت حرملة، سُبيت من بني جبلان بن عتيك وبيعت بعكاظ، واشتراها الفاكه بن المغيرة، ثمّ انتقلت إلى عبد الله بن جدعان، ومنه إلى العاص بن وائل فولدت له عمراً.

أرسلته قريش إلى النجاشي ليغيّر رأيه على جعفر بن أبي طالب ومَنْ معه من المهاجرين إلى الحبشة، ويسترجعهم إلى مكة، فردّه النجاشي.

أسلم سنة ثمان، وقبل الفتح بستة أشهر، وافتتح مصر لعمر، ووليها إلى السنة الرابعة من خلافة عثمان، فعزله عنها، فأخذ يؤلّب عليه حتّى قُتل، ثمّ اشترك مع معاوية بصفين مطالباً بثأر عثمان، وأشار برفع المصاحف للصلح فانخدع جيش علي وقبلوا الصلح، وعيّنوا أبا موسى من قبلهم، وعيّن معاوية عمراً، فغدر بأبي موسى وخلعا علياً، ونصب عمرو معاوية وأخذ مصر طعمة من معاوية، ووليها بعد قتل محمد بن أبي بكر حتّى توفي سنة (43 هـ) أو بعدها، ودفن هناك.

راجع ترجمته في جمهرة أنساب العرب - لابن حزم/154، وطبقات ابن سعد 7/ق2/188، المعارف - لابن قتيبة/285، أُسد الغابة 4/420، الكامل في التاريخ 2/232، البداية والنهاية 4/275، شرح النهج - لابن أبي الحديد 1/20 و8/53، مقاتل الطالبيِّين/44.

٨٦

العصور غدت عند معاوية سلعة تُباع وتُشترى.

وهاك نموذجاً من سلوك عمرو بن العاص في مصر: سأله صاحب أخنا بمصر أن يُخبره بمقدار ما عليه من الجزية، فأجابه: « لو أعطيتني من الأرض إلى السقف ما أخبرتك ما عليك، إنّما أنتم خزانة لنا، إن كثر علينا كثرنا عليكم، وإن خفف عنّا خففنا عنكم »(1) .

وحين استولى معاوية على العراق نقل بيت المال من الكوفة إلى دمشق، وزاد في جرايات أهل الشام، وحطّ من جرايات أهل العراق(2) . وقد أوضح فلسفته في جميع المال بقوله: « الأرض لله، وأنا خليفة الله، فما آخذ من مال الله فهو لي، وما تركته كان جائزاً لي ».

وكان معاوية على أن يولي على العراق - موطن الولاء لآل البيت - أشخاصاً من أعداء آل البيتعليهم‌السلام ؛ ليضمن تنفيذ سياسة الإرهاب والإذلال والتجويع في العراق بسهولة، وليستطيع أن يمنح العراقيين امتيازات يعلم أنّ ولاته - بسبب من حقدهم - لا ينفذونها، فيفوز بحسن السمعة دون أن يتخلّى عن مبادئه.

ونذكر نموذجاً لذلك هو أنّه أمر لأهل الكوفة: « بزيادة عشرة دنانير في أعطيتهم، وعامله يومئذ على الكوفة وأرضها النعمان بن بشير(3) ، وكان عثمانياً، وكان يبغض أهل الكوفة لرأيهم في عليعليه‌السلام ،

____________________

(1) انظر: التمدن الإسلامي 4/79 - 80.

(2) انظر: الدولة العربية وسقوطها - بوليوس ولهاوزن/158.

(3) النعمان بن بشير الأنصاري الخزرجي، ولد قبل وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بثماني سنين وسبعة أشهر، وقيل: =

٨٧

فأبى النعمان أن ينفذها لهم، فكلّموه وسألوه بالله فأبى أن يفعل.

ولمّا استرحمه عبد الله بن همام السلولي وطلب إليه في قطعة شعرية مؤثّرة أن ينجز لهم الزيادة، قال: « والله لا اُجيزها ولا اُنفذها أبداً »(1) .

* * *

وهكذا حرم المسلمون من أموالهم لتُنفق هذه الأموال على الزعماء القبليين، والقادة العسكريين، وزمر الكذّابين على الله ورسوله.

وقد طُبّقت هذه السياسة - سياسة الإرهاب والتجويع - بالنسبة إلى

____________________

= بست سنين، وكان هواه مع عثمان،، ثمّ مع معاوية، ثمّ مع يزيد في أيام الفتن خلافاً لقومه، وكان انتهازياً مُرتزقاً، يبيع دينه وضميره لأي شيطان يدفع الثمن، وكان من المتقرّبين عند عثمان.

ولمّا قُتل عثمان أخذ النعمان قميصه، وأصابع زوجته نائلة، وباعهما إلى معاوية، فعلّق معاوية القميص وعليه الأصابع ليستثير أهل الشام.

وقد عمل النعمان أميراً على الكوفة لمعاوية، ومن بعده ليزيد... وفي ذات يوم جهّزه معاوية بالسلاح والرجال وأمره بالغارة على عين التمر في العراق، ولمّا ورد الخبر بذلك إلى الإمامعليه‌السلام استنهض الناس فتثاقلوا وتجاهلوا، فقال: « مُنيت بمَنْ لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت ».

تُفيض هذه الكلمات بالأسى والألم، ومثلها كثير في كلام الإمامعليه‌السلام ؛ وما ذاك إلاّ لأنّه كان يهتمّ برعيّته وبالإنسان أيّما كان أكثر من اهتمامه بنفسه وأهله، ولكن ما يصنع وكلّ ما لاقاه الإمامعليه‌السلام وقاساه من جنده وأصحابه تجمعه وتحكيه كلمة واحدة، وهي قوله: « اُريد أن اُداوي بكم وأنتم دائي، كنافش الشوكة بالشوكة »؟! انظر: شرح النهج - الخطبة (121)، لا شيء أشدّ قسوة من داء دواؤه داء.

وولاّه معاوية الكوفة، ثمّ حمص. وفي زمن معاوية بن يزيد دعا إلى بيعة عبد الله بن الزبير فقتله شيعة بني أميّة بمرج راهط في ذي الحجّة سنة (64 هـ) كما جاء ذلك في ترجمته في أُسد الغابة 5/22، والإصابة 3/529 تحت رقم 8730، والطبري في تأريخه 6/77، وابن الأثير 3/150، وشرح النهج - لابن أبي الحديد 1/212، وابن كثير في تاريخه 7/319.

(1) انظر: الأغاني 16/29 - 32 طبعة دار الكتب.

٨٨

المسلمين عموماً، وبالنسبة إلى كلّ مَنْ اتّهم بحبّ علي وآله على الخصوص. لقد كان حبّ عليعليه‌السلام سرطان الحكم الأموي، فعزموا على قطعه تماماً.

ويُقدّم لنا يوليوس ولهاوزن صورة مُعبّرة عن الآثار السياسيّة والاجتماعيّة التي خلّفتها هذه السياسة في المجتمع العراقي في ذلك الحين: « لقد غُلب أهل العراق في صراعهم مع أهل الشام... وضاع منهم دخل الأراضي التي استولوا عليها، وصار عليهم أن يقبلوا باُجور هي فتات موائد أسيادهم، وكانوا مغلوبين على أمرهم، تغلبهم عليه تلك الصدقات التي هم محتاجون إليها، والتي في يد الاُمويِّين تخفيفها أو إلغاؤها، فلا عجب إذاً في أن يروا في حكم أهل الشام نيراً ثقيلاً، وأن يتأهّبوا لدفعه متى سنحت الفرصة المواتية لهم بذلك.

وازدادت الضغينة على الاُمويِّين بسبب عدائهم للنبي والعقيدة الإسلاميّة بما انظمّ إليها من الشكاوى على السلطان التي أصبحت الآن شكاوى من الاُمويِّين، وهم أصحاب السلطان، وهي النقاط أنفسها تُعاد وتُكرر؛ عمّال يسيئون استعمال سلطانهم، وأموال للدولة تذهب إلى جيوب عدد قليل من الناس، بينما لا يحصل غيرهم على شيء.

وكان زعماء القبائل والأسر في الكوفة يشاركون غيرهم منذ الأصل هذا الشعور، بيد أن وضعهم الذي يُلقي بالمسؤولية على عاتقهم جنح بهم إلى أن يعتصموا بالحيطة والحكمة، فلا يشرعون في القيام بثورة لا هدف لها، بل

٨٩

يردون الجماهير عنها حين ينطلقون فيها، وها هم أولاء باسم السلام والنظام يضعون نفوذهم تحت تصرّف الحكومة؛ كيلا يُعرضوا وضعهم للأخطار، وإذا هم يُصبحون أعداء أكثر فأكثر للشيعة الحقيقيين، وأعداء لهم يشتدّ عداؤهم يوماً بعد يوم، تلك الشيعة التي لم ينقض من تمسكها بورثة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إخفاقها في تحقيق رغباتها... بل زاد فيه. وكانت مقاومتها للإرستقراطية القبلية تُضيق الخناق عليها »(1) .

____________________

(1) انظر: الدولة العربية وسقوطها - يوليوس ولهاوزن/51 - 52 و53 و56.

٩٠

إحياء النزعة القبلية واستغلالها

دعا الإسلام إلى ترك التعصّب للقبيلة والتعصّب للجنس، واعتبر الناس جميعاً سواء من حيث الإنسانيّة المشتركة، وأقام مبادئه وتشريعاته على هذه النظرة الصائبة إلى الجنس البشري. وفي الحديث: « المؤمنون إخوة؛ تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمّتهم أدناهم، وهم يد على مَنْ سواهم »(1) .

وممّا روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال في خطبته في حجّة الوداع: « أيّها الناس، إنّ الله تعالى أذهب عنكم نخوة الجاهليّة وفخرها بالآباء، كلكم لأدم وأدم من تراب، ليس لعربيٍّ على عَجَميٍّ فضل إلاّ بالتقوى »(2) .

وروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

____________________

(1) انظر: مسند أحمد 2/192 ح6797، صحيح ابن حبان 13/341، المستدرك على الصحيحين 2/153 ح2623، مجمع الزوائد 1/283، سنن أبي داود 4/180 ح 4530.

(2) انظر: سنن البيهقي 9/118، سبل الهدى والرشاد 5/242، شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد 17/281، بحار الأنوار 31/35.

٩١

« مَنْ قاتل تحت عَمية، يغضب لعصبيّة، أو يدعو إلى عصبيّةٍ، أو ينصر عصبيّةً، فقُتل، قُتل قتلةً جاهليّة »(1) .

وقال الله تعالى مبيّناً في الكتاب الكريم المقياس الإسلامي في التفاضل:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (2) .

بهذه الروح الإنسانيّة الرحبة الآفاق دعا الإسلام إلى النظر إلى اختلاف القبائل والشعوب، وبهذه الروح الإنسانيّة الرحبة حاول الإسلام أن يجعل من القبائل العربية المسلمة أمّة واحدة لا يمزّقها التناحر القبلي الجاهلي، وإنّما تربط بين أفرادها أخوّة الإسلام، ورسالة الإسلام، وحاول أن يجعل من المسلمين جميعاً - على اختلاف أوطانهم ولغاتهم - أمّة واحدة متماسكة، تجمعها وحدة العقيدة، ووحدة الهدف والمصير.

وقد عمل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله طيلة حياته بأقواله وأعماله على تركيز هذه النظرة الإسلاميّة في وجدان المسلمين، وجعلها حقيقة حيّة في تفكيرهم، وتابعه على ذلك عليعليه‌السلام ؛ فعمل على تركيزها بأعماله وأقواله طيلة حياته، بعد أن شهد عهد عثمان انحرافاً خطيراً عن هذه النظرة الإسلاميّة، واتجاهاً خطيراً نحو الروح الجاهلي والعصبية القبلية التي اتّبعها هو وعمّاله(3) .

ولا نزال حتّى اليوم نحس

____________________

(1) انظر: مسند الروباني 2/141 ح959، صحيح ابن حبان 10/440 ح4579، مجمع الزوائد 5/244.

(2) سورة الحجرات/13.

(3) قد بيّنا في صدر هذه الرسالة أنّ الروح القبلية بُعثت في وقت مبكر جدّاً بالنسبة إلى هذا التاريخ. نعم، يُعتبر عهد عثمان عهد استفحالها وظهور آثارها الوبيلة في المجتمع الإسلامي، وقد ظهرت هذه =

٩٢

بحرارة نضال عليعليه‌السلام في هذا المجال، وإنْ ما سلم من أيدي الحوادث من آثار عليعليه‌السلام الكلامية في هذا الموضوع على قلّته ليدلّنا على عمق النظرة التي نظر بها عليعليه‌السلام إلى التكوين القبلي للمجتمع، ويدلّنا على وعيه لمدى خطر هذا التكوين القبلي على المجتمع الإسلامي.

ومن أبرز الآثار الباقية من كلامه في هذا الموضوع الخطبة القاصعة، وهي وثيقة عظيمة الأهمية في الدلالة على وجهة نظرهعليه‌السلام (1) .

أمّا معاوية فقد استغل هذه الروح في ميدانَين؛ فقد أثار بالقول والفعل

____________________

= العصبيّة من عثمان حينما حكّم بني اُميّة في رقاب الناس، وقد اعتبر كثير من المسلمين في هذا العمل تعصّباً قبلياً مجافياً لروح الإسلام. ومن سعيد بن العاص والي الكوفة يوم قال في ملأ من رجال القبائل ردّاً على أحدهم: « إنّما السواد بستان لقريش ». فردّ عليه الأشتر النخعي قائلاً: « أتزعم أنّ السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا لك ولقومك؟! ». فوقعت الوحشة بين قريش وسائر القبائل من ذلك الحين. انظر: التمدن الإسلامي - زيدان 4/57 - 58.

أضف إلى هذا سلوك معاوية في الشام وعبد الله بن سعد بن أبي شرح في مصر، وعبد الله بن عامر في البصرة. منهرحمه‌الله .

(1) وما كان عليعليه‌السلام ليتعصّب وهو الذي ذمّ العصبية في الخطبة ( القاصعة )، وردّ أصلها إلى تعصّب إبليس للنار ضدّ الطين: « أمّا إبليس فتعصّب على آدم لأصله، وطعن عليه في خلقته فقال: أنا ناري، وأنت طيني. وأمّا الأغنياء من مترفة الأمم فتعصّبوا لآثار مواقع النعم، فقالوا:( نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) . فإن كان لا بدّ من العصبية، فليكن تعصّبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال ». انظر: نهج البلاغة - الخطبة 192.

وليست الدعوة ضدّ العصبية دعوة هيّنة، فالعصبية سبب لمصائب كثيرة كان منها حروب كثيرة أثارها التعصّب للجنس، أو الدين، أو اللون، أو المذهب، أو الوطن، ولعل مما بين كراهتهعليه‌السلام للتعصّب، وهو حقيق أن يكره التعصّب لِما ذاق من تعصّب أهل الشام لمعاوية، قوله: « ليس بلد بأحقّ بك من بلد، خير البلاد ما حملك ». انظر: نهج البلاغة - الخطبة 442.

وانظر: نهج البلاغة (نشر مكتبة الأندلس - بيروت) 3/23 - 48، وراجع للمؤلف: دراسات في نهج البلاغة - طبعة النجف 1956 - في فصلي (المجتمع والطبقات الاجتماعيّة) و(الوعظ) ففيهما دراسة مستوفاة من هذا الموضوع.

٩٣

العصبية القبلية عند القبائل العربية ليضمن ولاءها عن طريق ولاء زعمائها من ناحية، وليضرب بعضها ببعض حين يخشاها على سلطانه من ناحية أخرى. وآثار العصبية العنصرية عند العرب عموماً ضدّ المسلمين غير العرب، وهم الذين يُطلق عليهم المؤرّخون اسم الموالي.

ففي حياة عليعليه‌السلام سلك معاوية سبيل الدسّ والتآمر على حكم عليعليه‌السلام عن طريق إثارة الروح القبلية في سكّان العراق من القبائل العربية، فتارة يُلوّح لزعماء هذه القبائل بالامتيازات الماديّة والاجتماعيّة التي يخصّ بها الزعماء القبليون في الشام؛ ومن هنا صارت الشام ملاذاً لمَنْ يغضب عليه الإمامعليه‌السلام من هؤلاء الزعماء لجناية جناها، أو خيانة خانها في عمله، ومطمحاً لمَنْ يريد الغنى والمنزلة، فيجد عند معاوية الإكرام والعطاء الجزل، والمنزلة الاجتماعيّة الرفيعة.

وقد كتب الإمام عليعليه‌السلام إلى سهل بن حنيف(1) عامله على المدينة في شأن

____________________

(1) سهل بن حنيف الأنصاري، أبو ثابت، وأنّه ممّن ثبت يوم أحد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا انهزم الناس، وبايعه على الموت، وجعل ينضح يومئذ بالنبل مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « نبّلوا سهلاً؛ فإنّه سهل ».

انظر: المستدرك على الصحيحين 3/409، شرح الأخبار 2/53، شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد 14/252، الطبقات الكبرى 3/471، سير أعلام النبلاء 2/328، الإصابة 3/166، تاريخ المدينة 2/490، المنتخب من ذيل المذيل/17.

وكان بدرياً، وشهد المشاهد كلّها مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان من نقباء ليلة العقبة، ثمّ صحب علي بن أبي طالبعليه‌السلام حين بويع بالخلافة، وقد استخلفه على المدينة لمّا سار إلى البصرة، وشهد معه صفين، وولاّه بلاد فارس.

وكان في بدء الإسلام عام الأوّل من الهجرة يكسر أصنام قومه ليلاً، فيحملها إلى امرأة مسلمة من الأنصار لا زوج لها يقول لها: خذي فاحتفظي بهذا. وكان أمير المؤمنينعليه‌السلام يذكر ذلك عنه بعد موته متعجّباً.

وقال عندما توفّي سهل بن حنيف الأنصاري بالكوفة بعد مرجعه معه من صفين، وكان أحبّ الناس إليه: « لو أحبّني جبل لتهافت ». انظر: نهج البلاغة - الحكمة 111، تحف العقول/344، =

٩٤

قوم من أهلها لحقوا بمعاوية: « أمّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالاً مِمَّنْ قِبَلَكَ يَتَسَلَّلُونَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلا تَأْسَفْ عَلَى مَا يَفُوتُكَ مِنْ عَدَدِهِمْ، وَيَذْهَبُ عَنْكَ مِنْ مَدَدِهِمْ؛ فَكَفَى لَهُمْ غَيّاً وَلَكَ مِنْهُمْ شَافِياً فِرَارُهُمْ مِنَ الْهُدَى وَالْحَقِّ، وَإِيضَاعُهُمْ إِلَى الْعَمَى وَالْجَهْلِ؛ فَإِنَّمَا هُمْ أَهْلُ دُنْيَا مُقْبِلُونَ عَلَيْهَا، وَمُهْطِعُونَ إِلَيْهَا، وَقَدْ عَرَفُوا الْعَدْلَ وَرَأَوْهُ، وَسَمِعُوهُ وَوَعَوْهُ، وَعَلِمُوا أَنَّ النَّاسَ عِنْدَنَا فِي الْحَقِّ أُسْوَةٌ فَهَرَبُوا إِلَى الأَثَرَةِ، فَبُعْداً لَهُمْ وَسُحْقاً! إِنَّهُمْ وَاللَّهِ لَمْ يَنْفِرُوا مِنْ جَوْرٍ، وَلَمْ يَلْحَقُوا بِعَدْلٍ، وَإِنَّا لَنَطْمَعُ فِي هَذَا الأَمْرِ أَنْ يُذَلِّلَ اللَّهُ لَنَا صَعْبَهُ، وَيُسَهِّلَ لَنَا حَزْنَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالسَّلامُ »(1) .

وقد كان معاوية يجد دائماً أشخاصاً من هذا النوع في مجتمع العراق، وكان يتخلص بولائهم له، وطمعهم فيما عنده من مآزق حرجة(2) .

وكان يتمتعّ بحس يوفّق به إلى إثارة هذه الروح في الوقت المناسب، وبحيث يبدو فعله منسجماً مع

____________________

= شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد 18/275، شرح نهج البلاغة - لمحمد عبده 4/26.

ولمّا مات سنة (38 هـ) بالكوفة كبّر عليه علي بن أبي طالبعليه‌السلام خمس تكبيرات، ثمّ مشى ساعة فوضعه، ثمّ كبّر عليه خمساً أخرى، فصنع ذلك حتّى كبّر عليه خمساً وعشرين تكبيرة، ثمّ كفّنه في بُرد أحمر حبرة. انظر: تذكرة الفقهاء 1/43، الكافي 3/149 ح9، التهذيب 1/296، وسائل الشيعة 2/726 ح3.

انظر: تهذيب التهذيب 4/220 ح 439، تحف العقول/344، سبل السلام 2/103، كشف القناع 2/139، المحلى 5/126، كتاب الأمّ 1/323 و7/178، المغني 2/393، الشرح الكبير 2/349، تهذيب الأحكام 3/315 ح 977، المعتبر - للعلاّمة الحلّي 2/357، أُسد الغابة 2/364، سير أعلام النبلاء 2/325، الكافي 3/186 ح2، التهذيب 3/325 ح1011، فقه الرضا/188، الاستبصار 1/484 ح1876، المقنعة - للشيخ المفيد/23.

(1) انظر: نهج البلاغة - الرسالة 73.

(2) انظر: كتاب صفّين - نصر بن مزاحم/8، 108، 345 - 346.

٩٥

ما يقتضيه الإنصاف والعدل، كقوله لشبث بن ربعي(1) وقد سفر عنده لعلي مع زعيمين آخرين من أهل العراق في صفين: « أوّل ما عرفت به سفهك، وخفّة حلمك قطْعك على الحسيب الشريف سيد قومه منطقه. يعني سعيد بن العاص الهمداني »(2) .

ومن ذلك ما كان منه في شأن النزاع الذي حدث حول رياسة كندة وربيعة، فقد كانت للأشعث بن قيس الكندي، فعزله عنها عليعليه‌السلام ودفعها لحسّان بن مخدوج من ربيعة، فلمّا بلغ ذلك معاوية أغرى شاعراً كنديّاً يقول شعراً يهيج به الأشعث وقومه، فقال شعراً عظّم به شأن الأشعث وقومه، وهجا به حسّان وربيعة، ولكنّ أهل اليمن فطنوا إلى ما يريد معاوية، فقد قال شريح بن هانئ: « يا أهل اليمن، ما يريد صاحبكم إلاّ أن يُفرّق بينكم وبين ربيعة »(3) .

وهكذا نراه يسعى إلى أن يؤجج القبلية بين القبائل العربية؛ فيلقي بينها العداوة والبغضاء، ويثير فيها إحن الجاهليّة وأحقادها.

____________________

(1) هو أبو عبد القدوس شبث بن ربعي التميمي، كان مع المتنبئة ثمّ أسلم، ثمّ سار مع الخوارج ثمّ تاب، وعمّر إلى ما بعد المختار.

انظر: الجمهرة/216، وابن سعد في طبقاته 6/216، وقعة صفين/97 و98 و187 و195 و197 و199 و205 و294، معجم الفرق الإسلاميّة/214، الملل والنحل - للشهرستاني 1/106 لتجد أنّ شبث بن ربعي من زعماء الخوارج، وكان دينه تكفير علي وعثمان، وأصحاب الجمل والحكمين في صفين.

انظر: المعارف - لابن قتيبة/405، حيث قال: إنّ شبث بن ربعي أذّن لها - أي أذّن لسجاح. والإمامة والسياسة/149 و169 على الرغم من أنّه ذكره باسم شيث بن ربعي. تاريخ الطبري 5/240، الأخبار الطوال/172.

(2) انظر: كتاب صفّين - نصر بن مزاحم/209 - 311.

(3) انظر: كتاب صفّين/153 - 156.

٩٦

وأرسل معاوية في سنة (38) للهجرة ابن الحضرمي إلى البصرة ليضرم الفتنة بين قبائلها بإثارة ذكريات حرب الجمل، وقتل عثمان، وقال له: « فانزل في مضر، واحذر ربيعة، وتودّد الأزد، وانع ابن عثمان، وذكّرهم الوقعة التي أهلكتهم، ومن لمَنْ سمع وأطاع دنياً لا تفنى، وأثرة لا يفقدها »(1) .

وقد وفق ابن الحضرمي إلى حدٍّ ما في إثارة إحن القبائل، وكأنّما سرت هذه النار التي أججها ابن الحضرمي بين قبائل البصرة إلى قبائل الكوفة؛ للقرابة النسبيّة التي بين القبائل هنا وهناك. فقال عليعليه‌السلام يخاطب قبائل الكوفة بهذه المناسبة من جملة كلام له: « وإذا رأيتم الناس بينهم النائرة، وقد تداعوا إلى العشائر والقبائل، فاقصدوا لهامهم ووجوههم بالسيف حتّى يفزعوا إلى الله، وإلى كتابه وسنّة نبيّه؛ فأمّا تلك الحميّة فإنّها من خطرات الشياطين، فانتهوا عنها - لا أباً لكم! - تُفلحوا وتنجحوا »(2) .

* * *

وحينما بويع معاوية بالخلافة لم تخضع له البلاد الإسلاميّة كلّها خضوعاً تامّاً، فقد كان هنالك الشيعة الذين يوالون علياً وأهل بيته، وكان هنالك الخوارج الذين يتّفقون مع الشيعة في عدائهم للاُمويِّين، وكان هنالك قبائل العراق التي لم تنظر بعين الارتياح إلى نقل بيت المال إلى الشام، وإلى تفضيل أهل الشام في العطاء على أهل العراق(3) .

هذا مضافاً إلى أنّ كثيراً من المسلمين كانوا يرون في

____________________

(1) انظر: الغارات 2/378، شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد 4/37.

(2) انظر: تأريخ الطبري 4/84 - 86.

(3) انظر: الدولة العربية/108.

٩٧

انتصار الاُمويِّين انتصاراً للوثنية على الإسلام؛ لذلك كلّه كرهوا الاُمويِّين وغطرستهم، وكبريائهم وإثارتهم للأحقاد القديمة، ونزوعهم للرّوح الجاهليّة(1) .

ولقد واجه معاوية هذه الموجة العارمة من البغضاء التي قوبل بها حكمه بأنماط متعدّدة من السلوك كان منها - ولعلّه أهمّها - ضرب القوى العقائدية المعادية للحكم الأموي بعضها ببعض، وإثارة الرّوح القبلية على نطاق واسع يكفل له انشقاق القبائل بتأثير أحقادها الصغيرة، ويخلق بينها حالة من التوتّر تجعل من المتعذّر عليها أن تتوحّد، وأن تنظر إلى الحكم الأموي نظرة موضوعية، وبذلك فاز معاوية بتفتيت المعارضة بعوامل داخلية تنبع من صميم المعارضة نفسها.

ولم تكن هذه السياسة هي اللون المفضّل عند معاوية بالنسبة إلى سائر القبائل فحسب، بل كانت بهذه المنزلة عنده بالنسبة إلى أسرته الأموية ذاتها أيضاً، ففد كان - كما يقول ولهاوزن - يسعى إلى أن يدخل القطيعة بين مختلف فروع الأسرة الأموية بالمدينة ليقضي بذلك على شوكتهم(2) .

وإذا كانت هذه هي خطّته بالنسبة إلى أسرته ذاتها فليس لنا أن نطمع منه بسلوك أنبل بالنسبة إلى سائر القبائل التي كان يخشاها على سلطانه؛ لأنّ الدوافع المشتركة كانت توحّدها في الوقوف ضدّه.

ولا يجد الباحث صعوبة كبيرة في اكتشاف هذا الخُلق في معاوية؛ فتأريخه مليء بالشواهد عليه.

فبراعته في استغلال ما لشعراء عصره من تأثير عظيم في الرأي العام من

____________________

(1) انظر: تأريخ الإسلام السياسي 1/278 - 279.

(2) انظر: الدولة العربية/112 نقلاً عن الطبري، وفي شرح نهج البلاغة 11/19 نقلاً عن الجاحظ: « وكان معاوية يحبّ أن يغري بين قريش ».

٩٨

أجل مصالحه الخاصّة جعلته يستغل هؤلاء الشعراء في هذا الميدان، فيحرّضهم على القول في موضوعات الفخر والهجاء كالذي كان بين القبائل في الجاهليّة(1) .

ومن ذلك موقف شاعره الأخطل من الأنصار، فقد واصل شعراء الأنصار هجاء معاوية على أساس ديني، فردّ عليهم الأخطل بهجاء قبلي جاهلي، ونظم فيهم قصيدته التي يقول فيها:

ذهبت قريش بالمكارم والعُلا

واللؤم تحت عمائم الأنصارِ(2)

ولا يصعب علينا أن نعرف الدوافع التي دفعت معاوية إلى اتّخاذ هذا الموقف من الأنصار، فقد كانوا يقفون في صف المعارضة للحكم الأموي إلى جانب الأُسر القرشية البارزة التي أحفظها أن تفوز أميّة بالحكم دونها؛ لأنّهم لم ينظروا بعين الارتياح إلى استيلاء أعداء الإسلام ونبيّه على الحكم بهذه السهولة، ولعلّه قدّر أنّ إثارة الأحقاد القديمة التي خلّفتها حروب الإسلام القديمة كفيلة بأن تنال من هذا الاتّحاد بين الأنصار وبين المنافسين لأميّة من قريش.

ومن جهة أخرى نراه يسعى إلى تفتيت وحدة الأنصار بإثارة الأحقاد الجاهليّة التي كانت بين الحيين الأوس والخزرج، فيضرب إحدى القبيلتين بالاُخرى. وقد توصّل إلى ذلك ببراعة؛ فقد كان يوعز إلى المعنيين بإنشاد الشعر الجاهلي الذي تهاجت به القبائل قبل الإسلام.

قال أبو الفرج الأصفهاني:

____________________

(1) انظر: تأريخ الشعوب الإسلاميّة - بروكلمان 1/148، قصة الأدب في العالم - أحمد أمين 1 - 372.

(2) انظر: تأريخ الشعر السياسي - أحمد الشايب/308 - 309، تأريخ مدينة دمشق 34/298، أُسد الغابة 2/381، طبقات الشعراء/392.

٩٩

« كان طويس(1) ولعاً بالشعر الذي قالته الأوس والخزرج في حروبهم، وكان يريد بذلك الإغراء، فقلّ مجلس اجتمع فيه هذان الحيّان فغنى فيه طويس إلاّ وقع فيه شيء... فكان يُبدي السرائر ويُخرج الضغائن »(2) .

وهذا عبد الله بن قيس الغطفاني، من قيس عيلان اعتدى على كثير بن شهاب الحارثي، فكتب ناس من اليمانية إلى معاوية أنّ سيدنا ضربه خسيس من غطفان، فإن رأيت أن تُقيدنا من أسماء بن خارجة. فحمّقهم معاوية.

وقال كثير بن شهاب: والله لا أستقيدها إلاّ من سيد مضر. فغضب معاوية، وأمّن عبد الله وأطلقه، وأبطل ما فعله بابن شهاب فلم يقتصّ ولا أخذ له عقلاً(3) .

وحين تعرف أنّ أشدّ الناس إخلاصاً لعليعليه‌السلام في العراق كانوا من قبائل اليمن، يتّضح لنا لماذا يتعصّب معاوية لمضر العراق على يمن العراق.

هذا بالإضافة إلى أنّ السلطة حين تكفّ عن أن تكون حكماً بين القبائل في منازعاتها تسعى هذه القبائل إلى أن تقتصّ لنفسها، وتتناحر فيما بينها، وهي النتيجة التي يطمح إليها معاوية.

أمّا في الشام فتراه يتعصّب لليمن على مضر؛ فقد تقرّب إلى قبيلة كلب اليمانية فتزوّج ميسون اُمّ يزيد، وهي ابنة بجدل زعيم قبيلة كلب، وزوّج ابنه

____________________

(1) هو عيسى بن عبد الله، مولى بني مخزوم، وهو أوّل مَنْ غنّى بالعربي بالمدينة، وأوّل مَنْ ألقى الخُنث فيها، وهو مشؤوم؛ لأنّه ولد يوم وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفطم يوم موت أبي بكر، وبلغ يوم مقتل عمر، وتزوّج يوم مقتل عثمان، وولد له يوم مقتل علي. انظر: سير أعلام النبلاء 4/364، الأغاني 3/37، تفسير القرطبي 12/236.

(2) انظر: الأغاني 2/170، تأريخ الإسلام السياسي 1/535، فجر الإسلام/280.

(3) انظر: تأريخ الشعر السياسي/160 - 161.

١٠٠