السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام16%

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 343

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 186400 / تحميل: 8251
الحجم الحجم الحجم
السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

عن رأيه الخاص، وإنّما كان عن رأي المسلمين واتّفاقهم.

متى ولا نعلم أنّه حتّى استشار أحداً في تقمّصه للخلافة، ومصادرته لتركة النبي (صلّى الله عليه وآله)، وتأميمه لفدك وغيرها؛ مما أوجب التضييق الاقتصادي على العترة الطاهرة؟!

وعلى أي حال، فقد حفظت السيّدة زينب وهي في عهد الصبا هذا الخطاب الخالد، وهي إحدى رواته، وكان ذلك آية في نبوغها فقد روته بحرفيته، وكانت مع اُمّها حينما أدلت بهذا الخطاب الذي هو أحد الركائز المهمّة في مذهب أهل البيت (عليهم السّلام)، وقد رجعت معها وهي تجرّ أذيال الخيبة، قد مزّق الأسى فؤادها؛ فلم يرع أبو بكر مكانتها، ولم يستجب المسلمون لمطالبها، وقد استولت عليها الآلام والهموم على ما تُمنى به الاُمّة من الكوارث والأزمات من جراء إقصاء أهل البيت (عليهم السّلام) عن القيادة العامة للعالم الإسلامي.

اعتذار مرفوض

وجهد أبو بكر وعمر على إرضاء زهراء الرسول وتطييب خاطرها على ما اقترفاه في حقّها، فاستأذنا بالدخول عليها فأبت أن تأذن لهما، وعرضا على الإمام (عليه السّلام) رغبتهما الملحّة في مقابلة سيّدة النساء، فانطلق الإمام نحو الصدّيقة والتمس منها إجابتهما، فسمحت لهما بالدخول، فلمّا مثلا عندها أشاحت بوجهها عنهما، وقدّما إليها اعتذارهما، فقالت:«أرأيتكما إن حدّثتكما حديثاً عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تعرفانه وتعملان به؟» .

فأجابا: نعم.

فقالت:«نشدتكما الله، ألم تسمعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمَنْ أحبّ فاطمة ابنتي فقد أحبّني، ومَنْ أرضى

١٠١

فاطمة فقد أرضاني، ومَنْ أسخط فاطمة فقد أسخطني؟» .

فقالا: نعم، سمعناه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

فانبرت حبيبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهي مغيظة محنقة، فخاطبت أبا بكر وشاركت معه صاحبه قائلة:«إنّي اُشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي لأشكونّكما إليه» .

وفزع أبو بكر وقال رافعاً عقيرته: أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة. ووجّهت إليه أعنف القول قائلة:«والله، لأدعونّ الله عليك في كلّ صلاة اُصليها» (١) .

وخرج أبو بكر ولم يظفر برضا زهراء الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وكان ذلك من أعظم الصدمات التي واجهها في أيام حكومته. ومن الطبيعي أنّ عقيلة بني هاشم قد شاركت اُمّها البتول في سخطها على أبي بكر، وعدم رضائها عنه.

مآسي البتول (عليها السّلام)

وطافت موجات قاسية من الآلام والأحزان ببضعة الرسول ووديعته؛ فقد استغرق الأسى قلبها الرقيق المعذّب، وغشيتها سُحب قاتمة من اللوعة والحزن على فقد أبيها الذي كان عندها أعزّ من الحياة، وكانت تزور بلهفة جسده الطاهر، فتطوف حوله

____________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٤، الطبعة الأولى.

١٠٢

وهي ذاهلة اللبّ، منهدّة الكيان، فتلقي بنفسها عليه، وتأخذ حفنة من ترابه الطاهر فتضعه على عينيها، وهي تبكي أمرّ البكاء وأقساه، وتقول:

ماذا على مَن شمّ تربةَ أحمدٍ = أن لا يشمَ مدى الزمانِ غواليا

صُبّت عليّ مصائبٌ لو أنّها = صُبّت على الأيام صرنَ لياليا

قل للمغيّبِ تحتَ أطباقِ الثرى = إن كنتَ تسمعُ صرختي و ندائيا

قد كنتُ ذات حمى بظلِ محمّدٍ = لا أختشي ضيماً و كانَ جماليا

فاليوم أخضعُ للذليلِ وأتّقى = ضيمي وأدفعُ ظالمي بردائيا

فإذا بكت قمريةٌ في ليلها = شجناً على غصنٍ بكيتُ صباحيا

فلأجعلنَّ الحزنَ بعدكَ مؤنسي = ولأجعلنّ الدمعَ فيك وشاحيا(١)

وحكت هذه الأبيات ما عانته زهراء الرسول من لوعة وشجون على فراق أبيها الذي استوعب حبّه عواطفها ومشاعرها، وقد بلغ من عظيم حزنها عليه أنّه لو صبّت مصائبها على الأيام لخلعت ضياءها ولبست السواد القاتم.

كما صوّرت هذه الأبيات الرقيقة مدى عزّتها وعظيم مكانتها في أيام أبيها سيّد الكائنات؛ فقد كانت من أعزّ وأمنع نساء المسلمين، ولكنّها بعد فقد أبيها تنكّر لها أصحابه، وأجمعوا على هضمها والغضّ من شأنها حتّى صارت تخضع للذليل، وتتّقي الظالمين لها بردائها، إذ ليس عندها قوّة تحميها ولم تكن تأوي إلى ركن شديد.

وقد خلدت بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ووديعته إلى الأسى والحزن، وقد وجدت في البكاء راحة نفسية لها، وبلغ من عظيم وجدها على أبيها أنّ أنس بن مالك استأذن عليها ليعزّيها بمصاب أبيها، وكان ممّن وسّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مثواه الأخير،

____________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب ٢ / ١٣١.

١٠٣

فقالت له:«هذا أنس بن مالك؟» .

- نعم يا بنت رسول الله.

فانبرت وهي تلفظ قطعاً من قلبها المذاب قائلة:«كيف طابت نفوسكم أن تحثّوا التراب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟!» (١) .

وغرق أنس في البكاء، وانصرف وقد نخب الأسى فؤاده.

وبلغ من عظيم حزن الصدّيقة على أبيها أنّها كانت تُطالب الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) أن يريها القميص الذي غُسّل فيه أباها رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فإذا جاء به إليها تأخذه بلهفة وتوسعه تقبيلاً وشمّاً؛ لأنّها تجد فيه رائحة أبيها الذي غاب في مثواه. وخلدت زهراء الرسول إلى البكاء في وضح النهار وفي غلس الليل، وظلّ شبح أبيها يطاردها في كلّ فترة من حياتها القصيرة الأمد.

وكانت ابنتها الصدّيقة الطاهرة زينب في حزن بهيم، تنظر إلى اُمّها وقد أشرفت على الموت من كثرة البكاء على أبيها، فكانت تشاركها في أحزانها وآلامها ولوعتها.

وثقل على أتباع أبي بكر بكاء الصدّيقة على أبيها، فشكوا ذلك إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وطلبوا منه أن يجعل لبكائها وقتاً خاصاً، فعرض الإمام عليها ذلك فأجابته؛ فكانت في نهارها تمضي إلى خارج المدينة وتصحب معها ولديها الحسن والحسين وزينب (عليهم السّلام)، فتجلس تحت شجرة من الأراك، وتأخذ باللوعة والبكاء على أبيها طيلة النهار، فإذا أوشكت الشمس أن تغرب قفلت مع أبنائها إلى الدار.

وعمد القوم إلى تلك الشجرة فقلعوها، فكانت تبكي في حرّ الشمس، فسارع الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فبنى لها بيتاً سمّاه (بيت الأحزان)، وظل هذا البيت رمزاً لأساها وغضبها على القوم على مرّ العصور.

ويقول الرواة: إنّ الإمام قائم آل محمّد (عجّل الله تعالى فرجه) قال

____________________

(١) سنن ابن ماجة / ١٨، المواهب اللدنية ٢ / ٣٨١.

١٠٤

في هذا البيت:

أم تراني اتخذت لا وعُلاها = بعد بيت الأحزانِ بيتَ سرورِ

وكانت بضعة رسول الله وحبيبته مع أطفالها يمكثون طيلة النهار في ذلك البيت الحزين، وهي تناجي أباها وتندبه وتبكيه، فإذا جاء الليل أقبل الإمام (عليه السّلام) فأرجعها مع أطفالها إلى الدار.

واستولى الحزن على بضعة الرسول وذاب جسمها، وقد فتكت بها الأمراض فلازمت فراشها، ولم تتمكّن من النهوض والقيام، وكانت ابنتها العقيلة إلى جانبها تقوم بخدماتها ورعايتها، وبادرت السيّدات من نساء المسلمين إلى عيادتها، فقلن لها: كيف أصبحت من علّتك يا بنت رسول الله؟

فرمقتهنَّ بطرفها، وأجابتهنَّ بصوتٍ خافت مشفوع بالأسى والحسرات قائلة:«أجدني كارهة لدنياكنَّ، مسرورة لفراقكنَّ، ألقى الله ورسوله بحسرات، فما حُفِظ لي الحق، ولا رُعيت منّي الذمّة، ولا قُبلت الوصية، ولا عُرِفت الحرمة» (١) .

أجل، لم يُحفظ حقّها، ولم تُرعَ ذمّتها؛ فقد أصرّ القوم على هضمها والتنكّر لها، وانصرفن النسوة وقد غامت عيونهنَّ بالدموع، وعرضن على أزواجهن كلمات زهراء الرسول وغضبها عليهم، وقد عرفوا مدى تقصيرهم في حقّها.

وهرعت بعض اُمّهات المؤمنين إلى عيادتها، فقلنَ لها: يا بنت رسول الله، صيّري لنا في حضور غسلك حظّاً(٢) .

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٩٥.

(٢) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ١ / ٢٧.

١٠٥

فلم تجبهنَّ إلى ذلك، وقالت:«لا حاجة لي في حضوركنَّ» .

إلى جنة المأوى

وذوت بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله) كما تذوي الأزهار، ومشى إليها الموت سريعاً وهي في شبابها الغضّ الإهاب، وبدت لها طلائع الرحيل عن هذه الحياة التي استهانت بها، وطلبت حضور ابن عمّها أمير المؤمنين (عليه السّلام)، فعهدت إليه بوصيتها، وأهم ما فيها:

١ - أن يواري جثمانها المقدّس في غلس الليل البهيم.

٢ - أن لا يحضر جنازتها أحد من الذين هضموها وظلموها؛ فإنّهم أعداؤها وأعداء أبيها على حدّ تعبيرها.

٣ - أن يعفي موضع قبرها ويخفيه؛ ليكون رمزاً لغضبها على القوم، غير قابل للتأويل والتصحيح على ممر الأجيال الصاعدة.

وضمن لها الإمام جميع ما عهدت به إليه، وانصرف عنها وهو غارق في الأسى والشجون.

وطلبت بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله) من أسماء بنت عميس أن يُصنع لها سرير يواري جسدها الطاهر؛ فقد كانت العادة بوضع الأموات على لوحة تبدو فيها أجسامهم، وكرهت ذلك سيّدة النساء، فعملت لها أسماء سريراً يُستر مَنْ فيه، كانت قد رأته حينما كانت في الحبشة.

فلمّا نظرت إليه ابتسمت، وهي أوّل ابتسامة شوهدت لها منذ أن لحق أبوها بالرفيق الأعلى(١) .

وفي آخر يوم من حياة الصدّيقة أصبحت وقد ظهر عليها بعض التحسّن، وبدا عليها الفرح والسرور؛ فقد علمت أنّ هذا اليوم هو خاتمة حياتها، وفيه تلتحق بأبيها الذي هو عندها أعزّ من الحياة، وعمدت الصدّيقة إلى أطفالها فغسلتهم،

____________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ / ١٦٢.

١٠٦

وصنعت لهم من الطعام ما يكفيهم يومهم، ثمّ أمرت ولديها الحسن والحسين (عليهما السّلام) أن يخرجا لزيارة قبر جدّهما ولا يشاهدا وفاتها، وألقت عليهما وعلى بنتها زينب نظرة الوداع، وقلبها الزاكي يذوب ألماً وحزناً، وخرج الحسنان وقد هاما في تيارات من الهواجس، وأحسّا ببوادر مخيفة أغرقتهما بالهموم والأحزان.

والتفتت وديعة النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى أسماء بنت عميس، وكانت تتولّى تمريضها وخدمتها، فقالت لها:«يا اُمّاه» .

- نعم يا حبيبة رسول الله.

-«اسكبي لي غسلاً» .

فسارعت أسماء وأتتها بالماء، فاغتسلت فيه، وقالت لها:«ايتيني بثيابي الجدد» . فأحضرتها لها، وقالت لها:«اجعلي فراشي في وسط البيت» .

وذعرت أسماء، وعلمت أنّ الموت قد دنا من وديعة النبي (صلّى الله عليه وآله)، وصنعت لها ما أرادت، فاضطجعت في فراشها، واستقبلت القبلة، ونادت أسماء قائلة بصوت خافت:«يا اُمّاه، إنّي مقبوضة الآن، وقد تطهّرت فلا يكشفني أحد» .

وأخذت تتلو آيات القرآن الكريم حتّى صعدت روحها الطاهرة إلى الله تحفّها ملائكة الرحمن، ويستقبلها أبوها التي كرهت الحياة من بعده.

لقد سمت تلك الروح إلى جنان الخلد فأشرقت الآخرة بقدومها، وأظلمت الأرض لفقدها، فما أضلّت سماء الدنيا مثلها في قداستها وطهرها، وقد انقطع بموتها آخر مَنْ كان في الدنيا من نسل رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

١٠٧

وكانت زينب إلى جانب اُمّها، وقد رأتها جثة هامدة قد انقطعت عنها الحياة، فذابت أسى، وعجّت بالبكاء والعويل.

وقفل الحسنان (عليهما السّلام) من مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى الدار فلم يجدا اُمّهما فيها، فبادرا يسألان أسماء قائلين:«أين اُمّنا؟» .

فأجابتهما، وهي غارقة في البكاء قائلة: يا سيّدي، إنّ اُمّكما قد ماتت، فأخبرا بذلك أباكما.

وكانت هذه المفاجأة كالصاعقة، فهرعا إلى جثمان اُمّهما، فوقع عليها الحسن (عليه السّلام) وهو يقول:«يا اُمّاه، كلّميني قبل أن تفارق روحي بدني» . وألقى الحسين (عليه السّلام) بنفسه عليها وهو يعجّ بالبكاء قائلاً:«يا اُمّاه، أنا ابنك الحسين كلّميني قبل أن ينصدع قلبي» .

وأخذت أسماء توسعهما تقبيلاً، وتواسيهما بمصابهما الأليم، وطلبت منهما أن يُخبرا أباهما بموت سيّدة النساء، وسارعا نحو مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد علا صوتهما بالبكاء، فاستقبلهما المسلمون قائلين: ما يبكيكما يا بني رسول الله، لعلّكما نظرتما قبر جدكما فبكيتما؟

فأجابا:«أوَ ليس قد ماتت اُمّنا فاطمة!» .

وهزّ النبأ المؤلم مشاعرهم؛ فقد ندموا على تقصيرهم تجاه بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله)؛ فقد ماتت وهي ساخطة عليهم؛ لأنّهم لم يحفظوا مكانتها من رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ولمّا علم الإمام (عليه السّلام) بموت الصدّيقة تصدّع قلبه، وودّ مفارقة الحياة، ورفع صوته

١٠٨

قائلاً:«بمَنْ العزاء يا بنت محمّد؟ كنتُ بكِ أتعزّى، ففيم العزاء من بعدك؟!» .

وخفّ مسرعاً نحو البيت وهو يذرف أحرّ الدموع، وألقى نظرة على جثمان حبيبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو يقول:

لكلّ اجتماعٍ من خليلينِ فرقةٌ = وكلّ الذي دونَ الفراقِ قليلُ

وإنّ افتقادي فاطماً بعد أحمدٍ = دليلٌ على أن لا يدومَ خليلُ

وكانت العقيلة زينب إلى جانبها اُمّها وهي تعجّ بالبكاء، قد ذاب قلبها؛ فقد فقدت جميع آمالها، وليس شيء أوجع على الطفل من فراق اُمّه.

وهرع الناس من كلّ صوب نحو بيت الإمام، وقد ساد فيهم وجوم رهيب، وعهد الإمام (عليه السّلام) إلى سلمان الفارسي أن يخبر الجماهير بأنّ مواراة جثمان بضعة الرسول قد اُجّل هذه العشية، فقفلوا إلى منازلهم.

وأقبلت عائشة وهي تريد الدخول إلى بيت الإمام (عليه السّلام) لتشاهد جثمان حبيبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فحجبتها أسماء ومنعتها من الدخول قائلة: قد عهدت إليّ أن لا يدخل عليها أحد(١) .

ولمّا مضى شطر من الليل قام الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فغسّل الجسد الطاهر، ومعه الحسنان (عليهما السّلام)، وأسماء، وزينب وهي تنظر إلى جثمان اُمّها وقد نخب الحزن قلبها، وتبكي عليها كأقسى وأمرّ ما يكون البكاء.

وبعد الفراغ من الغسل أدرجها في أكفانها، ودعا بأطفالها الذين لم ينتهلوا من حنان اُمّهم؛ ليلقوا عليها نظرة الوداع، فألقوا بنفوسهم على جثمان اُمّهم وهم يوسعونها تقبيلاً، وقد مادت الأرض من كثرة صراخهم وبكائهم، وبعد انتهائهم من الوداع عقد الإمام (عليه السّلام) عليها الرداء، ولمّا حلّ

____________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٣ / ٣٦٥.

١٠٩

الهزيع الأخير من الليل قام فصلّى على الجسد الطيب، وعهد إلى مَنْ كان معه من خلّص صحابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أمثال سلمان الفارسي وبني هاشم فحملوا الجثمان المقدّس إلى مثواه الأخير، وأودعها في قبرها، وأهال عليها التراب، وعفى موضع قبرها؛ ليكون دليلاً حاسماً على غضبها ونقمتها على مَنْ غصب حقّها.

ووقف الإمام الثاكل الحزين على حافة القبر وهو يروي ثراه بدموع عينيه، وقد طافت به موجات من الحزن والألم القاسي، فأخذ يؤبّن زهراء الرسول بهذه الكلمات التي تحكي لوعته وأساه على هذا الرزء القاصم، وقد وجّه خطابه إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يعزّيه قائلاً:«السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة في جوارك، السريعة اللحاق بك.

قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري، ورقّ عنها تجلّدي، إلاّ أنّ في التأسّي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تعزٍّ؛ فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك، إنّا لله وإنّا إليه راجعون. لقد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة؛ أمّا حزني فسرمد، وأمّا ليلي فمسهّد إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم، وستنبئك ابنتك بتضافر اُمّتك على هضمها، فأحفها السؤال، واستخبرها الحال، هذا ولم يطل العهد، ولم يخل منك الذكر، والسلام عليكما سلام مودّعٍ لا قالٍ ولا سئم؛ فإن أنصرف فلا عن ملالة، وإن اُقم فلا عن سوء ظنٍ بما وعد الله الصابرين» (١) .

وحكت هذه الكلمات الحزن العميق والألم الممض الذي في نفس الإمام (عليه السّلام)؛ فقد أعلن شكواه إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على ما مُنيت به حبيبته من الخطوب والنكبات، ويطلب منه أن يلحّ في السؤال منها لتخبره بما جرى عليها من الظلم في الفترة القصيرة التي عاشتها بعده.

____________________

(١) نهج البلاغة - محمّد عبده ٢ / ٢٠٧.

١١٠

كما أعلن الإمام عن أساه وشجاه على فقده لبضعة الرسول، فهو في حزن دائم وليل مسهّد، لا تنطفئ عنه نار اللوعة عليها حتّى يلتحق إلى جوار الله، وإنّه إذ ينصرف عن قبرها المقدّس فليس ذلك عن سأم ولا عن ملالة وكراهية، ولكن استجابة لتعاليم الإسلام الآمرة بالخلود إلى الصبر، ولولا ذلك لأقام عنده ولا يريم عنه.

وعاد الإمام إلى داره بعد أن وارى جثمان سيّدة نساء العالمين في مثواها الأخير، وقد نخب الحزن فؤاده ينظر إلى أطفاله وهم يبكون اُمّهم أمرّ البكاء، وأشجاه خصوصاً العقيلة زينب فكادت تندب اُمّها بذوب روحها تبكي عليها صباحاً ومساءً قد خلدت إلى الأسى والحزن.

لقد قطعت عقيلة بني هاشم دور طفولتها الحزينة وقد طافت بها الآلام القاسية والرزايا الموجعة؛ فقد فقدت جدّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي كان يفيض عليها بعطفه وحنانه، ولم تمض بعد وفاته إلاّ أيام يسيرة حتّى فقدت اُمّها الرؤوم التي عاشت في هذه الدنيا وعمرها كعمر الزهور، وفاجأها الموت وهي في شبابها الغضّ الأهاب؛ فقد صُبّت عليها الكوارث والمصائب، والتي كان من أقساها جحد القوم لحقّها، وإجماعهم على هضمها وهي ابنة نبيّهم الذي برّ بدينهم ودنياهم.

لقد وعت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وهي في سنّها الباكر الأهداف الأساسية التي دعت القوم إلى هضم اُمّها وجحد حقوقها وإقصاء أبيها عن قيادة الاُمّة، كلّ ذلك طمعاً بالحكم والظفر بالإمرة والسلطان.

وفاة أبي بكر

ولم يطل سلطان أبي بكر فقد ألمّت به الأمراض بعد مضي ما يزيد على سنتين من حكمه، وقد قلّد صاحبه عمر شؤون الخلافة، وقد لاقى معارضة شديدة من أعلام

١١١

الصحابة، كان من بينهم طلحة؛ فقد قال له: ماذا تقول لربّك وقد ولّيت علينا فظّاً غليظاً، تفرق منه النفوس، وتنفض منه القلوب؟(١) .

وسكت أبو بكر، فاندفع طلحة يشجب عهده لعمر قائلاً: يا خليفة رسول الله، إنّا كنّا لا نحتمل شراسته وأنت حيّ تأخذ على يده، فكيف يكون حالنا معه وأنت ميّت وهو الخليفة؟

وسارع أكثر المهاجرين والأنصار إلى أبي بكر وهم يعلنون رفضهم وسخطهم وكراهيتهم لخلافة عمر، قائلين: نراك استخلفت علينا عمراً وقد عرفته وعلمت بوائقه فينا وأنت بين أظهرنا، فكيف إذا ولّيت عنّا؟! وأنت لاق الله عزّ وجلّ فسائلك، فما أنت قائل؟

فأجابهم أبو بكر: لئن سألني الله لأقولنّ استخلفت عليهم خيرهم من نفسي(٢) .

وكان الأجدر به أن يستجيب لعواطف أكثر المسلمين ورغباتهم إلاّ أنّه لم يحفل بهم، وأقام صاحبه خليفة من بعده، وتوفّي أبو بكر وانتهت بذلك خلافته القصيرة الأمد، وقد حفلت بأحداث رهيبة كان من بينها معاملة العترة الطاهرة التي هي وديعة النبي (صلّى الله عليه وآله) في اُمّته كأشخاص عاديّين؛ فقد جرّد عنها هالة التقديس الذي أضفاه عليها النبي (صلّى الله عليه وآله)، كما فتحت الباب للحكومات التي تلت حكومة الخلفاء إلى ظلم آل البيت (عليهم السّلام) والإمعان في قتلهم تحت كلّ حجر ومدر.

ولعلّ أقسى ما جرى عليهم من الكوارث فاجعة كربلاء الخالدة في دنيا الأحزان؛ فقد استشهد الإمام الحسين

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ٥٥.

(٢) شرح نهج البلاغة ٦ / ٣٤٣، دار إحياء الكتب العربية.

١١٢

ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بصورة مروّعة، ومُثّل بجثمانه المقدّس بوحشية لم يعهد لها مثيل، وسُبيت عائلته ومعها حفيدة الرسول وعقيلة بني هاشم من كربلاء إلى الشام.

كلّ هذه الرزايا كانت ناجمة عن إقصاء أهل البيت (عليهم السّلام) عن مركز القيادة العامة للمسلمين.

في عهد عمر

وتولّى عمر بعد وفاة أبي بكر شؤون الدولة الإسلاميّة، وقد قبض على الحكم بيد من حديد، وساس البلاد بعنفٍ حتّى تحامى لقاءه أكابر الصحابة؛ فإنّ درّته - فيما يقول المؤرّخون - كانت أهيب من سيف الحجّاج، حتّى إنّ ابن عباس مع قربه للنبي (صلّى الله عليه وآله)، ومكانته العلميّة لم يستطع أن يجهر برأيه في حلّية المتعة إلاّ بعد وفاته، كما تحاماه أهله وعياله فلم يستطع أحد منهم أن يجهر برأيه أو يفرض إرادته عليه.

وعلى أيّ حال، فقد نهج عمر في سياسته منهجاً خاصاً لا يتّفق في كثير من بنودها مع سياسيّة أبي بكر، خصوصاً في السياسة المالية؛ فقد كان السائد في سياسة أبي بكر المساواة بين المسلمين إلاّ أنّ عمر عدل عنها، وميّز بعض المسلمين على بعض؛ ففضّل العرب على الموالي، وقريشاً على سائر العرب، وقد أدّى ذلك إلى إيجاد الطبقية بين المسلمين(١) .

اعتزال الإمام (عليه السّلام)

واعتزل الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) عن الحياة الاجتماعية والسياسيّة طيلة خلافة عمر كما اعتزل في أيام أبي بكر، وقد انطوت نفسه على حزن عميق وأسى مرير على

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ١ / ٢٨٤.

١١٣

ضياع حقّه وسلب تراثه؛ فقد جهد القوم على الغضّ من شأنه، وعزله عن جميع ما يتعلّق بأمر الدولة، حتّى ألصق خده بالتراب على حدّ تعبير بعض المؤرّخين.

يقول محمّد بن سليمان في أجوبته عن أسئلة جعفر بن مكي: إنّ عليّاً وضعه الأوّلون - يعني الشيخين - وأسقطاه وكسرا ناموسه بين الناس، فصار نسياً منسيّاً(١) .

وقد صار جليس بيته تساوره الهموم، ويسامر النجوم، ويتوسّد الأرق، ويتجرّع الغصص، قد كظم غيظه، وأسلم أمره إلى الله. وانطوت نفوس أبنائه على حزن لاذع وأسىً عميق على عمر؛ فقد روى المؤرّخون أنّ الحسين (عليه السّلام) خفّ إلى عمر وكان على المنبر يخطب، فصاح به:«انزل، انزل عن منبر أبي واذهب إلى منبر أبيك» .

وبهت عمر، واستولت عليه الحيرة، وراح يقول: صدقت، لم يكن لأبي منبر. وأخذه فأجلسه إلى جنبه، وجعل يفحص عمّن أوعز إليه بذلك قائلاً: مَنْ علّمك؟

-«والله ما علّمني أحد» .

شعور طافح بالأسى والألم انبعث عن إلهام وعبقرية، رأى الإمام الحسين (عليه السّلام) منبر جدّه الملهم الأوّل لقضايا الفكر الإنساني، وأنّه لا يليق أن يرقاه غير أبيه باب مدينة علم النبي (صلّى الله عليه وآله)، ورائد العلم والحكمة في دنيا الإسلام.

وعلى أيّ حال، فقد كان هذا الشعور سائداً عند ذرّية رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولم يقتصر على الإمام الحسين (عليه السّلام) وإنّما كان شاملاً للعقيلة زينب كما يدلّل على ذلك

____________________

(١) نهج البلاغة ٩ / ٢٨.

١١٤

خطابها الرائع في البلاط الاُموي؛ فقد قالت ليزيد: وسيعلم مَنْ سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين... وهذه الكلمات صريحة فيما ذكرناه.

وقد بحثنا عن شؤون عمر وأيام حكومته في كتابنا (حياة الإمام الحسين)، فلا نعيد تلك البحوث.

اغتيال عمر

وبقي عمر على دست الحكم يتصرّف في شؤون الدولة حسب رغباته وميوله، وكان فيما يقول المؤرّخون: شديد البغض والكراهية للفرس، يبغضهم ويبغضونه؛ فقد حظر عليهم دخول يثرب إلاّ مَنْ كان سنّه دون البلوغ(١) .

وتمنّى أن يحول بينهم وبينه جبل من حديد، وأفتى بعدم إرثهم إلاّ مَنْ ولد منهم في بلاد العرب(٢) ، وكان يُعبّر عنهم بالعلوج(٣) .

وقد قام باغتياله أبو لؤلؤة وهو فارسي، أمّا السبب في اغتياله له فهو أنّه كان فتى متحمّساً لوطنه واُمّته، ورأى عمر قد بالغ في احتقار الفرس وإذلالهم، وقد خفّ إليه يشكو ممّا ألمّ به من ضيق وجهد من جرّاء ما فرض عليه المغيرة من ثقل الخراج، وكان مولى له، فزجره عمر وصاح به: ما خراجك بكثير من أجل الحِرف التي تُحسنها.

وألهبت هذه الكلمات قلبه، فأضمر له الشرّ، وزاد في حنقه عليه أنّه اجتاز على عمر فسخر منه، وقال له: بلغني أنّك تقول: لو شئت أن أصنع رحى تطحن بالريح لفعلت.

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ١٨٥.

(٢) الموطّأ ٢ / ١٢.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٢ / ١٨٥.

١١٥

ولذعته هذه السخرية، فخاطب عمر: لأصنعنّ لك رحى يتحدّث الناس بها.

وفي اليوم الثاني قام بعملية الاغتيال(١) ، فطعنه ثلاث طعنات إحداهن تحت السرّة فخرقت الصفاق(٢) ، وهي التي قضت عليه، ثمّ هجم على مَنْ في المسجد فطعن أحد عشر رجلاً، وعمد إلى نفسه فانتحر(٣) ، وحُمل عمر إلى داره وجراحاته تنزف دماً، فقال لمَنْ حوله: مَنْ طعنني؟

- غلام المغيرة.

- ألم أقل لكم: لا تجلبوا لنا من العلوج أحداً فغلبتموني؟(٤) .

وأحضر أهله له طبيباً، فقال له: أيّ الشراب أحبّ إليك؟

- النبيذ.

فسقوه منه فخرج من بعض طعناته صديداً، ثم سقوه لبناً فخرج من بعض طعناته، فيئس منه الطبيب، وقال له: لا أرى أن تُمسي(٥) .

الشورى

ولمّا أيقن عمر بدنوّ الأجل المحتوم منه أخذ يطيل التفكير فيمَنْ يتولّى شؤون

____________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٢١٢.

(٢) الصفاق: الجلد الأسفل الذي تحت الجلد.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٢ / ١٨٥.

(٤) شرح نهج البلاغة ١٢ / ١٨٧.

(٥) الاستيعاب (المطبوع على هامش الإصابة) ٢ / ٤٦١.

١١٦

الحكم من بعده، وقد تذكّر أعضاء حزبه الذين شاركوه في تمهيد الحكم لأبي بكر، فأخذ يُبدي حسراته عليهم؛ لأنّهم جميعاً قد اقتطفتهم المنيّة، فقال بأسى وأسف: لو كان أبو عبيدة حيّاً لاستخلفته؛ لأنّه أمين هذه الاُمّة، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لاستخلفته؛ لأنّه شديد الحبّ لله تعالى.

لقد استعرض الأموات وتمنّى أن يقلّدهم الحكم، ولم يعرض لسيّد العترة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، ولا للصفوة الطاهرة من صحابة النبي (صلّى الله عليه وآله) أمثال عمّار بن ياسر الطيّب ابن الطيّب، ولا لأبي ذرّ، ولا لرؤساء الأنصار من الذين ساهموا في بناء الإسلام واستشهد أبناؤهم في سبيله.

لقد تمنّى حضور أبي عبيدة وسالم يقلّدهما منصب رئاسة الدولة، مع العلم أنّهما لم يكن لهما أيّة سابقة تُذكر في خدمة الإسلام.

لقد رأى عمر أن يجعلها شورى بين المسلمين وانتخب مَنْ يمثّلهم، وهم ستة:

١ - الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام).

٢ - عثمان بن عفان الاُموي.

٣ - طلحة.

٤ - عبد الرحمن بن عوف.

٥ - الزبير.

٦ - سعد بن أبي وقاص.

وقد اختار عمر هؤلاء النفر لصرف الخلافة عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)؛ فقد كان معظم أعضائها من المنحرفين عن الإمام والموالين لبني اُميّة، ولم يكن مع الإمام سوى الزبير، وهو لا يغني شيئاً. وقد جمع عمر أعضاء الشورى، وقدّم في كلّ

١١٧

واحد منهم سوى الإمام، فانصرف عنه، فقال عمر لمَنْ حضر عنده: والله إنّي لأعلم مكان رجل لو ولّيتموه أمركم لحملكم على المحجّة البيضاء.

فقالوا له: مَنْ هو؟

- هذا المولّي من بينكم.

- ما يمنعك من ذلك؟

- ليس إلى ذلك من سبيل(١) .

ودعا عمر بأبي طلحة الأنصاري فعهد إليه بما يحكم أمر الشورى، فقال له: يا أبا طلحة، إنّ الله أعزّ بكم الإسلام، فاختر خمسين رجلاً من الأنصار، فالزم هؤلاء النفر بإمضاء الأمر وتعجيله. والتفت إلى المقداد فعهد إليه بمثل ما عهد إلى أبي طلحة، ثمّ قال له: إذا اتفق خمسة وأبى واحد منهم فاضربوا عنقه، وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضربوا عنقيهما، وإن اتّفق ثلاثة على رجل ورضي ثلاثة منهم برجلٍ آخر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس.

والتاع الإمام (عليه السّلام) وعرف أنّها مكيدة دُبّرت ضدّه؛ فقد قال لعمّه العباس:«يا عمّ، لقد عُدلت عنّا» .

وسارع العباس قائلاً: مَنْ أعلمك بذلك؟

وكشف الإمام (عليه السّلام) الغطاء عمّا دبّره عمر ضدّه قائلاً:«لقد قرن بي عثمان، وقال: كونوا مع الأكثر، ثمّ قال: كونوا مع عبد الرحمن،

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٢ / ١٩٥.

١١٨

وسعد لا يخالف ابن عمّه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر لعثمان، وهم لا يختلفون؛ فإمّا أن يولّيها عبد الرحمن عثمان، أو يولّيها عثمان عبد الرحمن» .

وصدق تفرّس الإمام؛ فقد ولاّها عبد الرحمن لعثمان إيثاراً لمصالحه، وابتغاءً لرجوعها إليه من بعده.

إنّ أدنى تأمّل في وضع الشورى يتّضح منه صرف الخلافة عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، ووضعها عند القوى المنحرفة عنه.

وعلى أيّ حال، فإنّ الشورى بأسلوبها الهزيل قد ألقت الاُمّة في شرّ عظيم، وفرّقت كلمتها، وأشاعت الطمع والتهالك على الحكم والسلطان بين أبنائها، وقد أعلن هذه الظاهرة معاوية بن أبي سفيان؛ فقد قال لأبي الحصين: بلغني أنّ عندك ذهناً وعقلاً، فأخبرني عن شيء أسألك عنه.

- سلني عمّا بدا لك.

- أخبرني ما الذي شتّت شمل أمر المسلمين وملأهم وخالف بينهم؟

- قتل الناس عثمان.

- ما صنعت شيئاً.

- مسير عليّ إليك وقتاله إياك.

- ما صنعت شيئاً.

- مسير طلحة والزبير وعائشة وقتال عليّ إيّاهم.

- ما صنعت شيئاً.

- ما عندي غير هذا.

وطفق معاوية يبيّن أسباب الخلاف والفرقة بين المسلمين قائلاً: أنا اُخبرك؛ إنّه لم يُشتّت بين المسلمين ولا فرّق أهواءهم إلاّ الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر.

وأضاف يقول:

١١٩

ثمّ جعلها - عمر - شورى بين ستّة نفر، فلم يكن رجل منهم إلاّ رجاها لنفسه ورجاها له قومه، وتطلّعت إلى ذلك نفسه(١) .

لقد شاعت الأطماع السياسيّة بشكل سافر عند بعض أعضاء الشورى وغيرهم، فاندفعوا إلى خلق الحزبية في المجتمع الإسلامي للوصول إلى كرسي الحكم والظفر بخيرات البلاد.

وعلى أيّ حال، فقد ذكرنا بصورة موضوعية وشاملة آفات الشورى في كتابنا (حياة الإمام الحسين)، وقد ألمحنا إليها في هذه البحوث؛ وذلك لأنّها تُلقي الأضواء على الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة في ذلك العصر الذي عاشت فيه عقيلة بني هاشم، والتي أدّت إلى ما عانته من الأهوال والكوارث التي تذهل كلّ كائن حيّ.

انتخاب عثمان وحكومته

واجتمع أعضاء الشورى في بيت المال، وقيل في بيت مسرور بن مخرمة، وتداولوا الحديث عمّن أحقّ بأمر المسلمين، وكثر الجدل فيما بينهم، فانبرى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فحذّرهم من الخلاف والفتنة إن استجابوا لعواطفهم، ولم يؤثروا المصلحة العامة للمسلمين، قائلاً:«لم يسرع أحد قبلي إلى دعوة حقّ، وصلة رحم، وعائدة كرم، فاسمعوا قولي وعوا منطقي عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تنتطي فيه السيوف، وتخالف منه العهود، حتّى يكون بعضكم أئمّة لأهل الضلال، وشيعة لأهل الجهالة» .

ولم يعوا منطق الإمام ونصيحته؛ فقد استجابوا لعواطفهم، وكان الاُمويّون قد حفوا بأهل الشورى وهم يقدّمون لهم الوعود المعسولة إن انتخبوا عميدهم عثمان.

____________________

(١) العقد الفريد ٣ / ٧٣ - ٧٤.

١٢٠

إنّ كلمة (الرحمة) التي ذكرت هنا لها مفهوم واسع ، ويدخل ضمنه كل خير وبركة وسعادة ، سواء في هذه الحياة أو في العالم الآخر ، وهذه الجملة في الواقع جاءت مقابلة لحال المنافقين الذين لعنهم الله وأبعدهم عن رحمته.

ولا شك أنّ وعد الله للمؤمنين قطعي ويقيني لأنّ الله قادر وحكيم ، ولا يمكن للحكيم أن يعد بدون سبب ، وليس الله القادر بعاجز عن الوفاء بوعده حين وعد( إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

الآية الثّانية شرحت جانبا من هذه الرحمة الإلهية الواسعة التي تعم المؤمنين في بعديها المادي والمعنوي. فهي أوّلا تقول :( وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) ، ومن خصائص هذه النعمة الكبيرة أنّها لا زوال لها ولا فناء ، بل الخلود الأبدي ، لذا فإن المؤمنين والمؤمنات سيكونون( خالِدِينَ فِيها ) .

ومن المواهب الإلهية الأخرى التي سوف ينعمون بها هي المساكن الجميلة ، والمنازل المرفهة التي أعدها الله لهم وسط الجنان( وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ) .

(عدن) في اللغة تعني الإقامة والبقاء في مكان ما ، ولهذا يطلق على المكان الذي توجد فيه مواد خاصّة اصطلاح (معدن) ، وعلى هذا المعنى فإنّ هناك شبها بين الخلود وعدن ، لكن لما أشارت الجملة السابقة إلى مسألة الخلود ، يفهم من هذه الجملة أن جنات عدن محل خاص في الجنّة يمتاز على سائر حدائق الجنّة.

لقد وردت هذه الموهبة الإلهية بأشكال وتفسيرات مختلفة في الرّوايات وكلمات المفسّرين ، فنطالع في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عدن دار الله التي لم ترها عين ، ولم يخطر على قلب بشر ، لا يسكنها غير ثلاثة : النّبيين ، والصدّيقين ، والشّهداء»(1) .

وفي كتاب الخصال نقل عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من سرّه أن يحيا حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنتي التي واعدني الله ربّي ، جنات عدن فليوال علي بن أبي

__________________

(1) مجمع البيان ، ذيل الآية.

١٢١

طالبعليه‌السلام وذريتهعليهم‌السلام من بعده».(1) ويتّضح من هذا الحديث أن جنات عدن حدائق خاصّة في الجنّة سيستقر فيها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجماعة من خلّص أصحابه وأتباعه. وهذا المضمون قد ورد في حديث آخر عن عليعليه‌السلام ، ويدل على أن جنات عدن مقر إقامة نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

بعد ذلك تشير الآية إلى الجزاء المعنوي المعد لهؤلاء ، وهو رضى الله تعالى عنهم المختص بالمؤمنين الحقيقيين ، وهو أهم وأعظم جزاء ، ويفوق كل النعم والعطايا الأخرى( وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ) .

إنّ اللذة المعنوية والإحساس الروحي الذي يحس ويلتذ به الإنسان عند شعوره برضى الله سبحانه وتعالى عنه لا يمكن أن يصفه أي بشر ، وعلى قول بعض المفسّرين فإنّ نسمة ولحظة من هذه اللذة الروحية تفوق نعم الجنّة كلها ومواهبها المختلفة والمتنوعة واللامتناهية.

من الطبيعي أنّنا لا نستطيع أن نجسم ونرسم صورة في أفكارنا عن أي نعمة من نعم الحياة الأخرى ونحن في قفص الحياة الدنيا وحياتها المحدودة ، فكيف سنصل إلى إدراك هذه النعمة المعنوية والروحية الكبرى؟!

نعم ، يمكن إيجاد تصور ضعيف عن الاختلافات المادية والمعنوية التي نعيشها في هذه الدنيا ، فمثلا يمكن إدراك الاختلاف في اللذة بين اللقاء بصديق عزيز جدا بعد فراق طويل ولذّة الإحساس الروحي الخاص الذي يعتري الإنسان عند إدراكه أو حلّه لمسألة علمية معقدة صرف في تحصيلها والوصول إلى دقائقها الشهور ، بل السنين ، أو الانشداد الروحي الذي يبعث على النشاط والجد في لحظات خلوص العبادة ، أو النشوة عند توجه القلب وحضوره في مناجاة تمتزج بهذا الحضور ، وبين اللذة التي نحس بها من تناول طعام لذيذ وأمثالها من اللذائذ ، ومن الطبيعي أن هذه اللذائذ المادية لا يمكن مقارنتها باللذائذ المعنوية ، ولا يمكن

__________________

(1) كتاب الخصال ، على ما نقل في نور الثقلين ، ج 2 ، ص 241.

١٢٢

أن تصل إلى مصافها.

من هنا يتّضح التصور الخاطئ لمن يقول بأن القرآن الكريم عند ما يتحدث عن الجزاء والعطاء الإلهي الذي سيناله المؤمنون الصالحون يؤكّد على النعم المادية ، ولا يتطرق إلى النواحي المعنوية ، لأن الجملة أعلاه ـ أي : رضوان من الله أكبر ـ ذكرت أن رضوان الله أكبر من كل النعم ، خاصّة وأنّها وردت بصيغة النكرة ، وهي تدل على أن قسما من رضوان الله أفضل من كل النعم المادية الموجودة في الجنّة ، وهذا يبيّن القيمة السامية لهذا العطاء المعنوي.

إن الدليل على أفضلية الجزاء المعنوي واضح أيضا ، لأنّ الروح في الواقع بمثابة (الجوهر) والجسم بمكان (الصدف) ، فالروح كالآمر والقائد ، والجسم كالجندي المطيع والمنفذ ، فالتكامل الروحي هو الهدف ، والجسم وسيلة ولهذا السبب فإن إشعاعات الروح وآفاقها أوسع من الجسم واللذائذ الروحية لا يمكن قياسها ومقارنتها باللذائذ المادية والجسمية ، كما أن الآلام الروحية أشدّ ألما من الآلام الجسمية.

وفي نهاية أشارت الآية إلى جميع هذه النّعم المادية والمعنوية ، وعبرت عنها بأنّ( ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

* * *

١٢٣

الآية

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) )

التّفسير

جهاد الكفار والمنافقين :

وأخيرا ، صدر القرار الإلهي للنّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وجوب جهاد الكفار والمنافقين بكل قوّة وحزم( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ) ولا تأخذك بهم رأفة ورحمة ، بل شدد( وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) . وهذا العقاب هو العقاب الدنيوي ، أمّا في الآخرة فإن محلهم( وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

إن طريقة جهاد الكفار واضحة ومعلومة ، فإنّ جهادهم يعني التوسل بكل الطرق والوسائل في سبيل القضاء عليهم ، وبالذات الجهاد المسلح والعمل العسكري ، لكن البحث في أسلوب جهاد المنافقين ، فمن المسلم أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يجاهدهم عسكريا ولم يقابلهم بحد السيف ، لأنّ المنافق هو الذي أظهر الإسلام ، فهو يتمتع بكل حقوق المسلمين وحماية القانون الإسلامي بالرغم من أنّه يسعى لهدم الإسلام في الباطن فكم من الأفراد لا حظّ لهم من الإيمان ، ولا يؤمنون حقيقة بالإسلام ، غير أنّنا لا نستطيع أن نعاملهم معاملة غير المسلمين.

اذن ، فالمستفاد من الرّوايات وأقوال المفسّرين هو أنّ المقصود من جهاد

١٢٤

المنافقين هو الاشكال والطرق الأخرى للجهاد غير الجهاد الحربي والعسكري ، كالذم والتوبيخ والتهديد والفضيحة ، وربّما تشير جملة( وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) إلى هذا المعنى.

ويحتمل في تفسير هذه الآية : أنّ المنافقين يتمتعون بأحكام الإسلام وحقوقه وحمايته ما دامت أسرارهم مجهولة ، ولم يتّضح وضعهم على حقيقته ، أمّا إذا تبيّن وضعهم وانكشفت خبيئة أسرارهم فسوف يحكمون بأنّهم كفار حربيون ، وفي هذه الحالة يمكن جهادهم حتى بالسيف.

لكن الذي يضعف هذا الاحتمال أنّ إطلاق كلمة المنافقين على هؤلاء لا يصح في مثل هذه الحالة ، بل إنّهم يعتبرون من جملة الكفار الحربيين ، لأنّ المنافق ـ كما قلنا سابقا ـ هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر.

* * *

١٢٥

الآية

( يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) )

سبب النّزول

ذكرت في سبب نزول هذه الآيات أقوال وآراء مختلفة ، وكلّها تتفق على أن بعض المنافقين قد تحدثوا بأحاديث سيئة وغير مقبولة حول الإسلام والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعد أن فشا أمرهم وانتشرت أسرارهم أقسموا كذبا بأنّهم لم يتفوهوا بشيء ، وكذلك فإنّهم قد دبروا مؤامرة ضد النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، غير أنّها قد أحبطت.

ومن جملتها : أنّ أحد المنافقين ـ واسمه جلاس ـ سمع بعضا من خطب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّام غزوة تبوك ، وأنكرها بشدّة وكذبها ، وبعد رجوع المسلمين إلى المدينة حضر رجل يقال له : عامر بن قيس ـ كان قد سمع جلاس ـ عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبلغه كلام جلاس ، فلما حضر جلاس وسأله النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك أنكر ، فأمرهما

١٢٦

النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقسما بالله ـ في المسجد عند المنبر ـ أنّهما لا يكذبان ، فاقتربا من المنبر في المسجد وأقسما ، إلّا أن عامرا دعا بعد القسم وقال : اللهم أنزل على نبيّك آية تعرّف الصادق ، فأمّن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون على دعائه. فنزل جبرئيل بهذه الآية ، فلمّا بلغ قوله تعالى :( فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ ) قال جلاس : يا رسول الله ، إنّ الله اقترح عليّ التوبة ، وإنّي قد ندمت على ما كان منّي ، وأتوب منه ، فقبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توبته.

وكما أشرنا سابقا فقد ذكر أن جماعة من المنافقين صمموا على قتل النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طريق عودته من غزوة تبوك ، فلمّا وصل إلى العقبة نفروا بعيره ليسقط في الوادي، إلّا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أطلع بنور الوحي على هذه النّية الخبيثة ، فرد كيدهم في نحورهم وأبطل مكرهم. وكان زمام الناقة بيد عمار يقودها ، وكان حذيفة يسوقها لتكون الناقة في مأمن تام ، وأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين أن يسلكوا طريقا آخر حتى لا يخفي المنافقون أنفسهم بين المسلمين وينفّذوا خطتهم.

ولما وصل إلى سمع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقع أقدام هؤلاء أو حوافر خيولهم أمر بعض أصحابه أن يدفعوهم ويبعدوهم ، وكان عدد هؤلاء المنافقين اثني عشر أو خمسة عشر رجلا ، وكان بعضهم قد أخفى وجهه ، فلمّا رأوا أن الوضع لا يساعدهم على تنفيذ ما اتفقوا تواروا عن الأنظار ، إلّا أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرفهم وذكر أسماءهم واحدا واحدا لبعض أصحابه(1) .

لكن الآية ـ كما سنرى ـ تشير إلى خطتين وبرنامجين للمنافقين : إحداهما : أقوال هؤلاء السيئة. والأخرى : المؤامرة والخطة التي أحبطت ، وعلى هذا الأساس فإنا نعتقد أن كلا سببي النزول صحيحان معا.

__________________

(1) ما ذكرناه اقتباس من تفسير مجمع البيان والمنار وروح المعاني وتفاسير أخر.

١٢٧

التّفسير

مؤامرة خطرة :

إنّ ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة واضح جدّا ، لأنّ الكلام كان يدور حول المنافقين ، غاية ما في الأمر أنّ هذه الآية تزيح الستار عن عمل آخر من أعمال المنافقين ، وهو أن هؤلاء عند ما رأوا أن أمرهم قد انكشف ، أنكروا ما نسب إليهم بل أقسموا باليمين الكاذبة على مدّعاهم.

في البداية تذكر الآية أن هؤلاء المنافقين لا يرتدعون عن اليمين الكاذبة في تأييد إنكارهم ، ولدفع التهمة فإنّهم( يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا ) في الوقت الذي يعلمون أنّهم ارتكبوا ما نسب إليهم من الكفر( وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ ) وعلى هذا فإنّهم قد اختاروا طريق الكفر بعد إعلانهم الإسلام( وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ) ومن البديهي أن هؤلاء لم يكونوا مسلمين منذ البداية ، بل إنّهم أظهروا الإسلام فقط ، وعلى هذا فإنّهم بإظهارهم الكفر قد هتكوا ومزّقوا حتى هذا الحجاب المزيف الذي كانوا يتسترون به.

وفوق كل ذلك فقد صمّموا على أمر خطير لم يوفقوا لتحقيقه( وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ) ويمكن أن يكون هذا إشارة إلى تلك المؤامرة لقتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلة العقبة ، والتي مرّ ذكرها آنفا ، أو أنّه إشارة إلى كل أعمال المنافقين التي يسعون من خلالها إلى تحطيم المجتمع الإسلامي وبثّ بذور الفرقة والفساد والنفاق بين أوساطه ، لكنّهم لن يصلوا إلى أهدافهم مطلقا.

ممّا يستحق الانتباه أن يقظة المسلمين تجاه الحوادث المختلفة كانت سببا في معرفة المنافقين وكشفهم ، فقد كان المسلمون ـ دائما ـ يرصدون هؤلاء ، فإذا سمعوا منهم كلاما منافيا فإنّهم يخبرون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به من أجل منعهم وتلقي الأوامر فيما يجب عمله تجاه هؤلاء. إنّ هذا الوعي والعمل المضاد المؤيّد بنزول الآيات أدى إلى فضح المنافقين وإحباط مؤامراتهم وخططهم الخبيثة.

١٢٨

الجملة الأخرى تبيّن واقع المنافقين القبيح ونكرانهم للجميل فتقول الآية : إنّ هؤلاء لم يروا من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي خلاف أو أذى ، ولم يتضرروا بأي شيء نتيجة للتشريع الإسلامي، بل على العكس ، فإنّهم قد تمتعوا في ظل حكم الإسلام بمختلف النعم المادية والمعنوية( وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (1) وهذه قمة اللؤم.

ولا شك أنّ إغناءهم وتأمين حاجاتهم في ظل رحمة الله وفضله وكذلك بجهود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يستحق أن ينقم من جرائه هؤلاء المنافقون ، بل إنّ حقّه الشكر والثناء ، إلّا أنّ هؤلاء اللؤماء المنكرين للجميل والمنحرفي السيرة والسلوك قابلوا الإحسان بالإساءة.

ومثل هذا التعبير الجميل يستعمل كثيرا في المحادثات والمقالات ، فمثلا نقول للذي أنعمنا عليه سنين طويلة وقابل إحساننا بالخيانة : إنّ ذنبنا وتقصيرنا الوحيد أنّنا آويناك ودافعنا عنك وقدّمنا لك منتهى المحبّة على طبق الإخلاص.

غير أنّ القرآن ـ كعادته ـ رغم هذه الأعمال لم يغلق الأبواب بوجه هؤلاء ، بل فتح باب التوبة والرجوع إلى الحق على مصراعيه إن أرادوا ذلك ، فقال :( فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ ) . وهذه علامة واقعية الإسلام واهتمامه بمسألة التربية ، ومعارضته لاستخدام الشدّة في غير محلّها وهكذا فتح باب التوبة حتى بوجه المنافقين الذين طالما كادوا للإسلام وتآمروا على نبيّه وحاكوا الدسائس والتهم ضده ، بل إنّه دعاهم إلى التوبة أيضا.

هذه في الحقيقة هي الصورة الواقعية للإسلام ، فما أظلم هؤلاء الذين يرمون

__________________

(1) ممّا يستحق الانتباه أن الجملة أعلاه بالرغم من أنّها تتحدث عن فضل الله ورسوله ، إلّا أن الضمير في( مِنْ فَضْلِهِ ) جاء مفردا لا مثنى ، والسبب في ذلك هو ما ذكرناه قبل عدة آيات من أن أمثال هذه التعبيرات لأجل إثبات حقيقة التوحيد ، وأن كل الأعمال بيد الله سبحانه ، وأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا ما عمل عملا فهو بأمر الله سبحانه ، ولا ينعزل عن إرادته سبحانه.

١٢٩

الإلام بأنّه دين القوة والإرهاب والخشونة

هل توجد في عالمنا المعاصر دولة مستعدة لمعاملة من يسعى لإسقاطها وتحطيمها كما رأينا في تعامل الإسلام السامي مع مناوئيه ، مهما ادّعت أنّها من أنصار المحبة والسلام؟! وكما مرّ علينا في سبب نزول الآية ، فإنّ أحد رؤوس النفاق والمخططين له لما سمع هذا الكلام تاب ممّا عمل ، وقبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توبته.

وفي نفس الوقت ومن أجل أن لا يتصور هؤلاء أن هذا التسامح الإسلامي صادر من منطق الضعف ، حذّرهم بأنّهم إن استمروا في غيهم وتنكّروا لتوبتهم ، فإنّ العذاب الشديد سينالهم في الدّارين( وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) وإذا كانوا يظنون أنّ أحدا يستطيع أن يمدّ لهم يد العون مقابل العذاب ا لإلهي فإنّهم في خطأ كبير ، فإنّ العذاب إذا نزل بهم فساء صباح المنذرين :( وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) .

من الواضح بديهة أنّ عذاب هؤلاء في الآخرة معلوم ، وهو نار جهنم ، أمّا عذابهم في الدنيا فهو فضيحتهم ومهانتهم وتعاستهم وأمثال ذلك.

* * *

١٣٠

الآيات

( وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) )

سبب النّزول

المعروف بين المفسّرين أنّ هذه الآيات نزلت في رجل من الأنصار يدي ثعلبة بن حاطب ، وكان رجلا فقيرا يختلف إلى المسجد دائما ، وكان يصر على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدعو له بأن يرزقه الله مالا وفيرا ، فقال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» أو ليس الأولى لك أن تتأسى بنبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتحيا حياة بسيطة وتقنع بها؟ لكن ثعلبة لم يكف ولم يصرف النظر عن أمله ، وأخيرا قال للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والّذي بعثك بالحق نبيّا ، لئن رزقني الله لأعطين كل الحقوق وأؤدي كل الواجبات ، فدعا له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فلم يمض زمان ـ وعلى رواية ـ حتى توفي ابن عم له ، وكان غنيّا جدّا ،

١٣١

فوصلت إليه ثروة عظيمة ، وعلى رواية أخرى أنّه اشترى غنما ، فلم تزل تتوالد حتى أصبح حفظها ورعايتها في المدينة أمرا غير ممكن ، فاضطر أن يخرج إلى أطراف المدينة ، فألهته أمواله عن حضور الجماعة ، بل وحتى الجمعة.

وبعد مدّة أرسل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاملا إلى ثعلبة ليأخذ الزكاة منه ، غير أن هذا الرجل البخيل الذي عاش لتوّه حياة الرفاه امتنع من أداء حقوق الله تعالى ، ولم يكتف بذلك ، بل اعترض على حكم الزّكاة وقال : إنّ حكم الزكاة كالجزية ، أي أنّنا أسلمنا حتى لا نؤدي الجزية ، فإذا وجبت علينا الزكاة فأي فرق بيننا وبين غير المسلمين؟

قال هذا في الوقت الذي لم يفهم معنى الجزية ولا معنى الزكاة ، أو أنّه فهمه ، إلّا أن حبّ الدنيا وتعلقه بها لم يسمح له ببيان الحقيقة وإظهار الحق ، فلمّا بلغ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قاله قال : «يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة» ، فنزلت هذه الآيات.

وقد ذكرت أسباب أخر لنزول هذه الآيات تشابه قصّة ثعلبة مع اختلاف يسير.

ويفهم من أسباب النزول المذكورة ومن مضمون الآيات أنّ هذا الشخص ـ أو الأشخاص المذكورين ـ لم يكونوا من المنافقين في بداية الأمر ، لكنّهم لهذه الأعمال ساروا في ركابهم.

التّفسير

المنافقون وقلّة الاستيعاب :

هذه الآيات في الحقيقة تضع إصبعها على صفة أخرى من صفات المنافقين السيّئة ، وهي أنّ هؤلاء إذا مسّهم البؤس والفقر والمسكنة عزفوا على وتر الإسلام بشكل لا يصدق معه أحد أنّ هؤلاء يمكن أن يكونوا يوما من جملة المنافقين ، بل ربّما ذمّوا ولاموا الذين يمتلكون الثروات والقدرات الواسعة على عدم استثمارها في خدمة المحرومين ومساعدة المحتاجين!

١٣٢

إلّا أنّ هؤلاء أنفسهم ، إذا تحسّن وضعهم المادي فإنّهم سينسون كل عهودهم ومواثيقهم مع الله والناس ، ويغرقون في حبّ الدنيا ، وربّما تغيّرت كل معالم شخصياتهم ، ويبدؤون بالتفكير بصورة أخرى وبمنظار مختلف تماما ، وهكذا يؤدي ضعف النفس هذا إلى حبّ الدنيا والبخل وعدم الإنفاق وبالتالي يكرّس روح النفاق فيهم بشكل يوصد أمامهم أبواب الرجوع إلى الحق.

فالآية الأولى تتحدث عن بعض المنافقين الذين عاهدون الله على البذل والعطاء لخدمة عباده إذا ما أعطاهم الله المال الوفير( وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

إلّا أنّهم يؤكّدون هذه الكلمات والوعود ما دامت أيديهم خالية من الأموال( فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) غير أن عملهم هذا ومخالفتهم للعهود التي قطعوها على أنفسهم بذرت روح النفاق في قلوبهم وسيبقى إلى يوم القيامة متمكنا منهم( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ) وإنّما استحقوا هذه العاقبة السيئة غير المحمودة( بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ ) .

وفي النهاية وبّخت الآية هؤلاء النفر ولامتهم على النوايا السيئة التي يضمرونها ، وعلى انحرافهم عن الصراط المستقيم ، واستفهمت بأنّهم( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) .

* * *

ملاحظات

وهنا يجب الانتباه إلى عدّة ملاحظات :

1 ـ يمكن أن نرى بوضوح تام من خلال جملة( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ ) أنّ النسبة والعلاقة بين الكثير من الذنوب والصفات السيئة ، بل وحتى بين الكفر

١٣٣

والنفاق ، هي نسبة وعلاقة العلة والمعلول ، لأنّ الجملة الآنفة الذكر تبيّن وتقول بصراحة : إنّ سبب النفاق الذي نبت في قلوبهم وحرفهم عن الجادة هو بخلهم ونقضهم لعهودهم ، وكذلك الذنوب والمخالفات الأخرى التي ارتكبوها ، ولهذا فإنّنا نقرأ في بعض العبارات أن الكبائر في بعض الأحيان تكون سببا في أن يموت الإنسان وهو غير مؤمن ، إذ ينسلخ منه روح الإيمان بسببها.

2 ـ إنّ المقصود من( يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ) والذي يعود ضميره إلى الله سبحانه وتعالى هو يوم القيامة ، لأن تعبير( لِقاءَ رَبِّهِ ) وأمثاله في القرآن يستعمل عادة في موضوع القيامة. صحيح أن فترة العمل ـ التي هي الحياة الدنيا ـ تنتهي بموت الإنسان ، وبموته يغلق ملف أعماله الصالحة والطالحة ، إلّا أن آثار تلك الأعمال تبقى تؤثر في روح الإنسان إلى يوم القيامة.

وقد احتمل جماعة أنّ ضمير (يلقونه) يعود إلى البخل ، فيكون المعنى : حتى يلاقوا جزاء بخلهم وعقابه. ويحتمل كذلك أن يكون المراد من لقاء الله : لحظة الموت. إلّا أن جميع هذه خلاف ظاهر الآية ، والظاهر ما قلناه.

ولنا بحث في أنّه ما هو المقصود من لقاء الله في ذيل الآية (64) من سورة البقرة.

3 ـ ويستفاد أيضا ـ من الآيات أعلاه ـ أنّ نقض العهود والكذب من صفات المنافقين ، فهؤلاء سحقوا جميع العهود المؤكدة مع ربّهم ولم يعيروها أية أهمية ، فإنّهم يكذبون حتى على ربّهم ، والحديث المعروف المنقول عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤكّد هذه الحقيقة ، حيث

يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «للمنافق ثلاث علامات : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان»(1) .

ومن الملفت للنظر وجود هذه العلامات الثلاث مجتمعة في القصّة المذكورة ـ قصّة ثعلبة ـ فإنّه كذب ، وأخلف وعده ، وخان أمانة الله ، وهي الأموال التي رزقه الله

__________________

(1) مجمع البيان ، ذيل الآية.

١٣٤

إيّاها ، وهي في الحقيقة أمانة الله عنده.

وقد ورد الحديث المذكور في الكافي بصورة أشد تأكيدا عن الإمام الصادقعليه‌السلام عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «ثلاث من كن فيه كان منافقا ، وإن صام وصلى وزعم أنّه مسلم : من إذا ائتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف»(1) .

نذكر هنا أن من الممكن أن تصدر الذنوب المذكورة من المؤمنين ، إلّا أنّها نادرة ، أمّا استمرار صدورها فهو علامة روح النفاق في ذلك الشخص.

4 ـ وهنا ملاحظة أخرى ينبغي أن ننبه عليها ، وهي أن ما قرأناه في هذه الآيات ليس بحثا تاريخيا مختصا بحقبة مضت من الزمان ، بل هو بيان واقع أخلاقي واجتماعي يوجد في كل عصر وزمان ، وفي كل مجتمع ـ بدون استثناء ـ توجد نماذج كثيرة تمثل هذا الواقع.

إذا لا حظنا واقعنا الذي نعيشه ودققنا فيه ـ وربّما إذا نظرنا إلى أنفسنا ـ فسنكتشف نماذج من أعمال ثعلبة بن حاطب ، وطريقة تفكيره في صور متعددة وأشخاص مختلفين ، فإنّ الكثيرين في الأوضاع العادية أو عند إعسارهم وفقرهم يكونون من المؤمنين المتحرقين على دينهم والثابتين على عهدهم حيث يحضرون في الحلقات الدينية ، وينضوون تحت كل لواء يدعو إلى الإصلاح وإنقاذ المجتمع ، ويضمون أصواتهم إلى كل مناد الحق والعدالة ، ولا يألون جهدا في سبيل أعمال الخير ، ويصرخون ويقفون بوجه كل فساد.

أمّا إذا فتحت أمامهم أبواب الدنيا ونالوا بعض العناوين والمراكز القيادية أو تسلطوا على رقاب الناس ، فستتغير صورهم وسلوكهم ، والأدهى من كل ذلك أن تتبدل ماهيتهم ، وعندئذ سيخمد لهيب عشقهم لله ، ويهدأ ذلك الهيجان والتحرق على دين الله ، وتفتقدهم تلك الحلقات والجلسات الدينية ، فلا يساهمون في أية خطة إصلاحية ولا يسعون من أجل ذلك الحق ، ولا تثبت لهم قدم في مواجهة

__________________

(1) سفينة البحار ، ج 2 ، ص 607.

١٣٥

الباطل.

هؤلاء وقبل أن يصلوا الى مآربهم لم يكن لهم محل من الإعراب ، أو أثر في المجتمع ، لذا سيعاهدون الله وعباده بألف عهد وميثاق بأنّهم إن تمكنوا من الأمر ، أو امتلأت أياديهم من القدرات والأموال فسيفعلون كذا وكذا ، ويتوسلون للوصول الى أهدافهم بطرح آلاف الإشكالات والانتقادات فى حق المتصدين ويتهمونهم بعدم معرفتهم بإدارة الأمور ، وعدم إحاطتهم بوظائفهم وواجباتهم ، أمّا إذا وصلوا الى ما يرومونه وتمكنوا من الأمر ، فسينسون كل تلك الوعود والعهود ويتنكرون لها ، وستتبخر كل تلك الإيرادات والانتقادات وتذوب كما يذوب الجليد في حرارة الصيف.

نعم ، إنّ ضعف النفس هذا واحدة من العلامات البارزة والواضحة للمنافقين ، وهل النفاق إلّا كون صاحبه ذا وجهين ، وبتعبير آخر : هل هو إلّا ازدواج الشخصية؟ إن سيرة هكذا أفراد وتأريخهم نموذج للشخصية المزدوجة ، لأن الإنسان الأصيل ذو الشخصية المتينة لا يكون مزدوج الشخصية.

ولا شك أنّ للنفاق درجات مختلفة ، كالإيمان ، تماما ، فالبعض قد ترسخت فيهم هذه الخصلة الخبيثة الى درجة اقتلعت كل زهور الإيمان بالله من قلوبهم ، ولم تبق لها أثرا ، بالرغم من أنّهم ألصقوا أنفسهم بالمؤمنين وادعوا أنّهم منهم.

لكن البعض الآخر مع أنّهم يملكون إيمانا ضعيفا ، وهم مسلمون بالفعل ، إلّا أنّهم يرتكبون أعمالا تتفق مع سلوك المنافقين ، وتفوح منها رائحة الازدواجية ، فهؤلاء ديدنهم الكذب ، إلّا أن ظاهرهم الصدق والصلاح ، ومثل هؤلاء يصدق عليهم أيضا أنّهم منافقون وذوو وجهين.

أليس الذي عرف بالأمانة لظاهره الصالح ، واستطاع بذلك أن يكسب ثقة واطمئنان الناس فأودعوه أماناتهم ، إلّا أنّه يخونهم في أماناتهم ، هو في واقع الحال مزدوج الشخصية؟

١٣٦

وكذلك الذين يقطعون العهود والمواثيق ، لكنّهم لا يفون بها مطلقا ، ألا يعتبر عملهم عمل المنافقين؟

إن من أكبر الأمراض الاجتماعية ، ومن أهم عوامل تخلف المجتمع وجود أمثال هؤلاء المنافقين في المجتمعات البشرية ونحن نستطيع أن نحصي الكثير منهم في مجتمعاتنا الاسلامية إذا كنّا واقعيين ولم نكذب على أنفسنا. والعجب أنّنا رغم كل هذه العيوب والمخازي والبعد عن روح التعليمات والقوانين الإسلامية ، فإننا نحمّل الإسلام تبعة تخلفنا عن الركب الحضاري الأصيل!

* * *

١٣٧

الآيتان

( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) )

سبب النّزول

وردت عدّة روايات في سبب نزول هذه الآيات في كتب التّفسير والحديث ، يستفاد من مجموعها أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد صمّم على إعداد جيش المسلمين لمقابلة العدو ـ وربّما كان ذلك في غزوة تبوك ـ وكان محتاجا لمعونة الناس في هذا الأمر ، فلما أخبرهم بذلك سارع الأغنياء إلى بذل الكثير من أموالهم ، سواء كان هذا البذل من باب الزكاة أو الإنفاق ، ووضعوا هذه الأموال تحت تصرف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أمّا الفقراء ، كأبي عقيل الأنصاري أو سالم بن عمير الأنصاري ، لما لم يجدوا ما ينفقونه لمساعدة جنود الإسلام ، فقد عمدوا إلى مضاعفة عملهم ، واستقاء الماء

١٣٨

ليلا ، فحصلوا على صاعين من التمر ، فادخروا منه صاعا لمعيشتهم ومعيشة أهليهم ، وأتوا بالآخر إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقدموه ، وشاركوا بهذا الشيء اليسير ـ الذي لا قيمة له ظاهرا ـ في هذا المشروع الإسلامي الكبير.

غير أنّ المنافقين الذين لا همّ لهم إلّا تتبع ما يمكن التشهير به بدلا من التفكير بالمساهمة الجدية فإنّهم عابوا كلا الفريقين ، أمّا الأغنياء فاتهموهم بأنّهم إنّما ينفقون رياء وسمعة، وأمّا الفقراء الذين لا يستطيعون إلّا جهدهم ، والذين قدموا اليسير وهو عند الله كثير ، فإنهم سخروا منهم بأن جيش الإسلام هل يحتاج إلى هذا المقدار اليسير؟ فنزلت هذه الآيات ، وهددتهم تهديدا شديدا وحذرتهم من عذاب الله.

التّفسير

خبث المنافقين :

في هذه الآيات إشارة إلى صفة أخرى من الصفات العامّة للمنافقين ، وهي أنّهم أشخاص لجوجون معاندون وهمهم التماس نقاط ضعف في أعمال الآخرين واحتقار كل عمل مفيد يخدم المجتمع ومحاولة إجهاضه بأساليب شيطانية خبيثة من أجل صرف الناس عن عمل الخير وبذلك يزرعون بذور النفاق وسوء ظن في أذهان المجتمع ، وبالتالي إيقاف عجلة الإبداع وتطور المجتمع وخمول الناس وموت الفكر الخلّاق.

لكن القرآن المجيد ذم هذه الطريقة غير الإنسانية التي يتبعها هؤلاء ، وعرّفها للمسلمين لكي لا يقعوا في حبائل مكر المنافقين ومن ناحية أخرى أراد أن يفهم المنافقون أن سهمهم لا يصيب الهدف في المجتمع الإسلامي.

ففي البداية يقول : إنّ هؤلاء( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ

١٣٩

أَلِيمٌ ) .

«يلمزون» مأخوذة من مادة (لمز) بمعنى تتبع العيوب والعثرات ، و «المطوّعين» مأخوذة من مادة (طوع) على وزن (موج) بمعنى الطاعة ، لكن هذه الكلمة تطلق عادة على الأفراد الذين دأبهم عمل الخيرات ، وهم يعملون بالمستحبات علاوة على الواجبات.

ويستفاد من الآية أعلاه أنّ المنافقين كانوا يعيبون جماعة ، ويسخرون من الأخرى ، ومن المعلوم أن السخرية كانت تنال الذين يقدمون الشيء القليل ، والذين لا يجدون غيره ليبذلوه في سبيل الإسلام ، وعلى هذا لا بدّ أن يكون لمزهم وطعنهم مرتبطا بأولئك الذين قدموا الأموال الطائلة في سبيل خدمة الإسلام العزيز ، فكانوا يرمون الأغنياء بالرياء ، ويسخرون من الفقراء لقلّة ما يقدمونه.

ونلاحظ في الآية التي تليها تأكيدا أشد على مجازاة هؤلاء المنافقين ، وتذكر آخر تهديد بتوجيه الكلام وتحويله من الغيبة إلى الخطاب ، والمخاطب هذه المرّة هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت :( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ) .

وإنّما لن يغفر الله لهم لأنّهم قد أنكروا الله ورسالة رسوله ، واختاروا طريق الكفر ، وهذا الإختيار هو الذي أرداهم في هاوية النفاق وعواقبه المشؤومة( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) . ومن الواضح أن هداية الله تشمل السائرون في طريق الحق وطلب الحقيقة ، أمّا الفساق والمجرمون والمنافقون فإنّ الآية تقول :( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) .

* * *

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343