السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام0%

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 343

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
تصنيف:

الصفحات: 343
المشاهدات: 175941
تحميل: 7624

توضيحات:

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 175941 / تحميل: 7624
الحجم الحجم الحجم
السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف:
العربية

وانقضت الثلاثة أيام التي حدّدها عمر ولم ينتخب أعضاء الشورى أحداً منهم، فحذّرهم أبو طلحة الأنصاري وجعل يتهدّهم ويتوعدّهم إن لم ينتخبوا أحداً منهم، انبرى طلحة فوهب حقّه لعثمان؛ لأنّه كان شديد الكراهية للإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)؛ لأنّه نافس ابن عمّه أبا بكر على الخلافة.

ووهب سعد بن أبي وقّاص حقّه لابن عمّه عبد الرحمن بن عوف، وأصبح رأيه هو الفيصل؛ لأنّ عمر وضع ثقته به، وكان رأيه مع عثمان؛ لأنّه صهره، وقد زهّده القرشيون في الإمام وحرّضوه على انتخاب عثمان؛ لأنّه يحقّق رغباتهم وأطماعهم.

وأمر عبد الرحمن مسوراً بإحضار أمير المؤمنين (عليه السّلام) وعثمان بن عفان، فلمّا حضرا عنده في الجامع النبوي التفت إلى الحاضرين فقال لهم: أيّها الناس، إنّ الناس قد اجتمعوا على أن يرجع أهل الأمصار إلى أمصارهم، فأشيروا عليّ.

وانبرى الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر فأشار عليه بما يضمن للاُمّة مصالحها ويصونها من الاختلاف والفرقة قائلاً: إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع علياً.

وأيّد المقداد مقالة صاحبه عمّار، فقال: صدق عمّار، إن بايعت علياً سمعنا وأطعنا.

وشجبت الاُسر القرشيّة المعادية للإسلام والحاقدة عليه مقالة عمار، ورشحّت عميد الاُمويِّين عثمان بن عفان، وقد كان الممثل لها عبد الله بن أبي سرح فخاطب ابن عوف قائلاً: إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان.

وكأنّ شؤون الخلافة ومصير المسلمين موكول إلى قريش وهي التي حاربت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وناهضت دعوته، وعذّبت أنصاره حتّى هرب منها، وتابعته إلى يثرب

١٢١

بجيوش مكثفة لاستئصال دعوته ومحو دينه، ولكنّ الله تعالى ردّ كيدهم وأفشل خططهم، ونصر نبيّه العظيم، ولولا سماحة النبي (صلّى الله عليه وآله) ورأفته لأجرى عليهم حكم بني قريضة، ولكنّه عفا عنهم وجعلهم من الطلقاء.

وعلى أيّ حال، فقد اندفع عبد الله بن أبي ربيعة فأيّد مقالة ابن سرح قائلاً: إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا. وانبرى الصحابي الجليل عمّار بن ياسر فردّ على ابن أبي سرح قائلاً: متى كنت تنصح للمسلمين؟

وصدق عمّار، فمتى كان ابن أبي سرح ينصح المسلمين وهو من ألدّ أعداء رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد أمر بقتله ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة(١) ؟

واحتدم الجدال بين الهاشميين وخصومهم الاُمويِّين، وانبرى ابن الإسلام البار عمّار بن ياسر فجعل يدعو لصالح المسلمين قائلاً: أيّها الناس، إنّ الله أكرمنا بنبيّه، وأعزّنا بدينه، فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم؟

وانبرى رجل من مخزوم فقطع على عمّار كلامه قائلاً: لقد عدوت طورك يابن سميّة، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها!

وطفحت الروح الجاهليّة على هذه الكلمات، فليس فيها إلاّ الدعوة إلى الباطل؛ فقد اعتبر المخزومي أمر الخلافة وشؤونها إلى قريش التي ما آمنت بالله وكفرت بقيم الإسلام، فأيّ حقّ لها في خلافة المسلمين؟ وقبله أعلن أحد أعلام القرشيين: أبت قريش أن تجتمع النبوّة والإمامة في بيت واحد.

إنّ أمر الخلافة بيد جميع المسلمين يشترك فيه ابن سميّة وغيره من الضعفاء

____________________

(١) الاستيعاب ٢ / ٣٧٥.

١٢٢

الذين أعزّهم الله بدينه، وليس لأيّ قرشي الحقّ في التدخّل بشؤون المسلمين لو كان هناك منطق وحساب.

وعلى أيّ حال، فقد احتدم النزاع بين القوى الإسلاميّة وبين القرشيّين، فخاف سعد أن يفلت الأمر من أيديهم وتفوز الاُسرة النبويّة بالحكم فالتفت إلى عبد الرحمن قائلاً له: يا عبد الرحمن، افرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس.

والتفت عبد الرحمن إلى الإمام (عليه السّلام) فقال له: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه، وفعل أبي بكر وعمر؟

فرمقه الإمام بطرفه وأجابه بمنطق الإسلام قائلاً:«بل على كتاب الله وسنّة رسوله، واجتهاد رأيي» .

إنّ ابن عوف يعلم علماً جازماً أنّ الإمام لا يسوس المسلمين بسيرة الشيخين، ولا يحفل بها، وإنّما يسوسهم بكتاب الله وسنّة نبيّه، ورأيه المشرق الذي هو امتداد ذاتي لرأي النبي (صلّى الله عليه وآله)، وإنّما شرط عليه ذلك لصرف الخلافة عنه.

ولو كان الإمام ممّن يبغي الحكم والسلطان لوافق على هذا الشرط ثمّ خالفه، ولكنّه (سلام الله عليه) في جميع أدوار حياته واكب الصدق والحقّ، ولم يحد عنهما مهما كانت الظروف.

وعلى أيّ حال، فإنّ عبد الرحمن لمّا يئس من إجابة الإمام اتّجه صوب عثمان فعرض عليه شروطه فأجابه بلا تردّد، فصفق بكفّه على يده وقال له: اللّهمّ إنّي قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان.

والتاع الإمام فخاطب ابن عوف:«والله، ما فعلتها إلاّ لأنّك رجوت منه ما رجا صاحبها من صاحبه، دقّ الله بينكما عطر منشم» .

١٢٣

لقد رجا ابن عوف من بيعته لعثمان أن يكون خليفة من بعده كما كان ذلك بالنسبة للشيخين، واتّجه الإمام صوب القرشيّين فقال لهم:«ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون» .

ولذع منطق الإمام ابن عوف فراح يهدّده: يا عليّ، لا تجعل على نفسك سبيلاً. وغادر الإمام المظلوم قاعة الاجتماع وهو يقول:«سيبلغ الكتاب أجله» .

والتفت الصحابي العظيم عمّار بن ياسر فخاطب ابن عوف: يا عبد الرحمن، أما والله لقد تركته، وإنّه من الذين يقضون بالحقّ وبه كانوا يعدلون.

وانبرى المقداد فرفع صوته قائلاً: تالله، ما رأيت مثل ما أُتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم! وا عجباً لقريش! لقد تركت رجلاً ما أقول ولا أعلم أنّ أحداً أقضى بالعدل، ولا أعلم ولا ولا أتقى منه! أما والله لو أجد أعواناً!

وصاح به عبد الرحمن: اتّق الله يا مقداد؛ فإنّي خائف عليك الفتنة.

وانتهت بذلك مأساة الشورى التي وضعها عمر لصرف الخلافة عن أهل بيت النبوّة ومنحها لبني اُميّة، وقد رأت عقيلة الوحي السيدة زينب (عليها السّلام) أضغان القرشيّين وحقدهم على أبيها، وأنّهم قد عملوا جاهدين على إطفاء نور الله، والإجهاز على رسالة الإسلام الهادفة لتطوير الوعي الاجتماعي، وإشاعة الخير والهدى بين الناس.

١٢٤

لقد خلقت الشورى العمرية الفتن والضغائن بين المسلمين، وحجبت الاُسرة النبويّة عن القيادة العامة للعالم الإسلامي، وسلّطت عليهم شرار خلق الله؛ فأمعنوا في ظلمهم والتنكيل بهم.

وما كارثة كربلاء وما عانته عقيلة بني هاشم السيّدة زينب (عليها السّلام) من صنوف الظلم والكوارث التي هي - من دون شك - من النتائج المباشرة لأحداث الشورى والسقيفة، فإنّهما الأساس لكلّ ما لحق بآل النبي (صلّى الله عليه وآله) من الكوارث والخطوب.

حكومة عثمان

وتسلّم عثمان قيادة الاُمّة، وقد احتفّ به بنو اُميّة وآل أبي معيط، وأخذوا يتصرّفون في شؤون الدولة حسب رغباتهم وميولهم، ولا شأن لعثمان في جميع المناحي السياسيّة والاقتصادية؛ فقد كان بمعزل عنها، وقد سيطر عليها وتسلّم قيادتها مروان بن الحكم الوزغ بن الوزغ، والذي يسمّيه معاصروه بالخيط الباطل؛ وذلك لخبثه وسوء سريرته، فكان وزيره ومستشاره. وقد هام عثمان بحبّ اُسرته، وتفانى في الولاء لهم فكان يقول: لو كانت مفاتيح الجنّة بيدي لأعطيتها لبني اُميّة(١) .

وقد أسند مناصب الدولة لهم، كما عيّنهم ولاة في معظم الأقاليم الإسلاميّة، ووهبهم الثراء العريض فكانوا في طليعة الرأسماليين في العالم الإسلامي، وقد عرضنا في بعض كتبنا(٢) بصورة موضوعية وشاملة إلى الهبات المالية الهائلة التي منحها عثمان لاُسرته، كما عرض لها الحجّة الأميني، والدكتور طه حسين، والعقّاد وغيرهم.

وقد أدّت هباته ومنحه الامتيازات الخاصة لهم إلى نقمة المسلمين،

____________________

(١) مسند أحمد ١ / ٦٢.

(٢) حياة الإمام الحسن، وحياة الإمام الحسين (عليهما السّلام).

١٢٥

وشيوع السخط والتذمّر عليه في معظم الأقاليم الإسلاميّة.

الجبهة المعارضة

ونقمت على عثمان وسخطت على سياسته معظم الصحابة وأعلام الإسلام، وفي طليعتهم:

١ - أبو ذرّ الغفاري

٢ - عمّار بن ياسر

٣ - السيّدة عائشة

٤ - طلحة

٥ - الزبير

٦ - عبد الرحمن بن عوف

٧ - عبد الله بن مسعود، وغيرهم من أقطاب الإسلام وحماته

وقد نكّل عثمان بالكثيرين من معارضيه؛ فقد نفى الصحابي العظيم أبا ذرّ الغفاري إلى الشام، ثمّ نفاه إلى الربذة، وهي صحراء قاحلة خالية من جميع مقوّمات الحياة، وقد أنهكه الجوع حتّى توفي غريباً جائعاً مظلوماً، كما نكّل بالصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، وقطع عنه مرتبه فلم يسعفه شيء حتّى أهلكه الفقر وفي يد عثمان ذهب الأرض وخيراتها.

كما نكّل بأعظم صحابي وأجلّ مجاهد إسلامي، وهو الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر؛ فقد ضربه ضرباً مبرحاً حتّى أصابه فتق واُغمي عليه.

وقد رفعت السيدة عائشة قميص رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهي تقول: هذا قميص رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يبلَ وعثمان قد أبلى سنّته! كما أفتت بحلّية قتله فقالت: اقتلوا نعثلاً فقد كفر.

وقد اشتدّت عليه المعارضة وقويت وامتدّت إلى معظم الأقاليم الإسلاميّة، وقد استجارت المعارضة بالعراق ومصر وغيرها لإنقاذ المسلمين من

١٢٦

عثمان وبطانته، فخفّت بعض الكتائب العسكريّة فزحفت إلى يثرب، وأحاطت بدار عثمان وطلبت منه إبعاد مروان وإقصاء بني اُميّة عنه، أو الاستقالة من منصبه، فوعدهم بتنفيذ أهم متطلباتهم، وهي إقصاء بني اُميّة، إلاّ أنّه خان بوعده، وكتب إلى ولاته على الأقطار بالتنكيل بمَنْ استجاب للمعارضة ممّن قدموا إلى يثرب.

وقبض الثوار في أثناء رجوعهم إلى مدنهم على رسائله التي بعثها إلى ولاته في التنكيل بهم، ففزعوا وقفلوا راجعين إلى يثرب، وعرضوا عليه رسائله وطالبوه بالاستقالة الفورية من منصبه فلم يستجب لهم، وأصرّ على الاحتفاظ بكرسي الحكم، فعمدوا إلى الإجهاز عليه فقتلوه شرّ قتلة، وتركوا جسده مرمياً على مزبلة من مزابل يثرب؛ استهانة به، ولم يسمحوا بمواراته إلاّ أنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) توسّط في دفنه، فاستجاب له الثوار على كره، فدفنوه في حش كوكب.

لقد انتهت حكومة عثمان، وقد أخلدت للمسلمين المصاعب والفتن وألقتهم في شرّ عظيم؛ فقد اتّخذت عائشة قتله وسيلة لتحقيق مآربها وأطماعها السياسيّة، فراحت تُطالب الإمام بدمه، وهي التي أفتت بقتله وكفره، كما اتّخذ الذئب الجاهلي معاوية بن هند قتل عثمان ورقة رابحة للتمرّد على حكومة الإمام والمطالبة بدمه.

وعلى أيّ حال، فقد رأت حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله) السيّدة زينب (عليها السّلام) هذه الأحداث الجسام ووعت أهدافها السياسيّة، فكان لها أعمق الأثر في نفسها؛ فقد كان لها من المضاعفات السيئة ما اهتز من هولها العالم الإسلامي، والتي كان من نتائجها كارثة كربلاء التي رُزئت فيها السيدة زينب؛ فقد عانت من الكوارث والخطوب ما تذوب من هولها الجبال.

حكومة الإمام (عليه السّلام)

وبعدما أطاح الثوار بحكومة عثمان أحاطوا بالإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وهم يهتفون

١٢٧

بحياته، ويعلنون ترشيحه لقيادة الاُمّة فليس غيره أولى وأحق بهذا المركز الخطير، فهو ابن عمّ النبي (صلّى الله عليه وآله) وأبو سبطيه، ومَنْ كان منه بمنزل هارون من موسى، وهو صاحب المواقف المشهورة في نصرة الإسلام والذبّ عنه، وليس في المسلمين مَنْ يساويه في فضائله وعلومه وعبقرياته، إلاّ أنّ الإمام رفض دعوتهم ولم يستجب لهم؛ لعلمه بما سيواجهه من الأزمات السياسيّة، فإنّ منهجه في عالم الحكم يتصادم مع رغبات الاُسر القرشيّة التي تريد السيطرة على السلطة وإخضاعها لرغباتها الخاصة.

فقال (عليه السّلام) للثوار:«لا حاجة لي في أمركم، فمَنْ اخترتم رضيت به» .

فهتفوا بلسان واحد: ما نختار غيرك.

وعقدت القوات المسلحة مؤتمراً خاصاً عرضت فيه ما تواجهه الاُمّة من الأخطار إن بقيت بلا إمام يدير شؤونها، وقد قرّرت إحضار المدنيّين وإرغامهم على انتخاب إمام المسلمين، فلمّا حضروا هدّدوهم بالتنكيل إن لم ينتخبوا إماماً وخليفة للمسلمين، ففزعوا إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وأحاطوا به رافعين عقيرتهم: البيعة، البيعة.

فامتنع الإمام (عليه السّلام) من إجابتهم، فأخذوا يتضرّعون إليه قائلين: أما ترى ما نزل بالإسلام، وما ابتلينا به من أبناء القرى؟!

فأجابهم الإمام بالرفض الكامل قائلاً:«دعوني والتمسوا غيري» . ثمّ أعرب لهم الإمام (عليه السّلام) عمّا ستعانيه الاُمّة من الأزمات قائلاً:«أيّها الناس، إنّا مستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان، لا تقوم به القلوب، ولا تثبت له العقول» .

١٢٨

لقد كشف الإمام عمّا سيواجهه المسلمون من الأحداث المروّعة التي تعصف بالحلم وتميد بالصبر، الناجمة من الحكم المباد الذي عاث فساداً في الأرض؛ فقد أقام عثمان اُسرته حكّاماً وولاةً على الأقاليم الإسلاميّة فاستأثروا بأموال المسلمين واحتكروها لأنفسهم، وإنّهم حتماً سيقاومون كلّ مَنْ يريد الإصلاح الاجتماعي؛ فلذلك امتنع الإمام من إجابة القوم.

ثمّ عرض الإمام على القوات المسلحة وعلى الصحابة وغيرهم منهجه فيما إذا ولي اُمورهم قائلاً:«إنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني فإنّما أنا كأحدكم، ألا وإنّي من أسمعكم وأطوعكم لمَنْ ولّيتموه» . واستجاب الجميع لما عرضه الإمام عليهم قائلين: ما نحن بمفارقيك حتّى نبايعك.

وأجّلهم الإمام إلى الغد لينظر في الاُمور، ولمّا أصبح الصبح هرعت الجماهير إلى الجامع الأعظم، فأقبل الإمام (عليه السّلام) فاعتلى أعواد المنبر فخطب الناس، وكان من جملة خطابه:«أيّها الناس، إنّ هذا أمركم ليس لأحد فيه حقّ إلاّ مَنْ أمّرتم، وقد افترقنا بالأمس وكنت كارهاً لأمركم فأبيتم إلاّ أن أكون عليكم، ألا وإنّه ليس لي أن آخذ درهماً دونكم، فإن شئتم قعدت لكم، وإلاّ فلا آخذ على أحد» .

وتعالى هتاف الجماهير بالتأييد والرضا قائلين: نحن على ما فارقناك عليه بالأمس. وطفق الإمام قائلاً:«اللّهمّ اشهد عليهم» .

وقد اتّجهت الناس كالموج صوب الإمام لتبايعه، وأوّل مَنْ بايعه طلحة، فبايعه

١٢٩

بيده الشلاّء التي سرعان ما نكث بها عهد الله، فتطيّر منها الإمام وقال:«ما أخلفه أن ينكث» (١) .

ثمّ بايعه الزبير وهو ممّن نكث بيعته، وبايعته القوات العسكريّة، كما بايعه مَنْ بقي من أهل بدر والمهاجرين والأنصار كافة(٢) .

ولم يظفر أحد من خلفاء المسلمين بمثل هذه البيعة في شمولها، وقد فرح بها المسلمون وابتهجوا، ووصف الإمام (عليه السّلام) مدى سرورهم بقوله:«وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن ابتهج بها الصغير، وهدج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وحسرت إليها الكعاب» .

لقد ابتهج المسلمون، وعمّت الفرحة الكبرى جميع الأوساط الإسلاميّة بخلافة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) رائد العدالة الاجتماعيّة، والمتبنّي لحقوق الإنسان الذي شارك البؤساء والمحرومين في سغبهم ومحنهم، القائل:«أأقنع من نفسي بأن يُقال: أمير المؤمنين، ولا اُشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون اُسوة لهم في جشوبة العيش؟!» .

وجوم القرشيّين

واستقبلت قريش خلافة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بكثير من الوجوم والقلق والاضطراب كما استقبلوا نبوّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ فإنّ الروح الجاهليّة بما تحمل من عادات وتقاليد وكراهية للحقّ لم تزل مائلة فيهم، ولم يغيّر الإسلام من طباعهم أيّ شيء.

وقريش تعرف الإمام جيداً؛ فهو الذي حصد رؤوس أعلامهم بسيفه، ومحق

____________________

(١) العقد الفريد ٣ / ٩٣.

(٢) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ٣٧٦.

١٣٠

كبرياءهم في سبيل الإسلام الذي ناهضوه، وقد خفّ إليه الاُمويّون وفي طليعتهم الوليد فقال للإمام: إنّك قد وترتنا جميعاً؛ أمّا أنا فقتلت أبي صبراً يوم بدر، وأمّا سعيد فقتلت أباه يوم بدر، وكان أبوه من نور قريش، وأمّا مروان فشتمت أباه، وعبت على عثمان حين ضمّه إليه، فنبايع على أن تضع عنّا ما أصبنا، وتعفو عنّا عمّا في أيدينا، وتقتل قتلة صاحبنا.

فردّ الإمام عليه مقالته التي لا بصيص فيها من نور الحقّ قائلاً:«أمّا ما ذكرت من وتري إيّاكم فالحقّ وتركم؛ وأمّا وضعي عنكم عمّا في أيديكم فليس لي أن أضع حقّ الله؛ وأمّا إعفائي عمّا في أيديكم فما كان لله وللمسلمين فالعدل يسعكم؛ وأمّا قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتالهم اليوم لزمني قتالهم غداً، ولكن لكم أن أحملكم على كتاب الله وسنّة نبيّه، فمَنْ ضاق عليه الحقّ فالباطل عليه أضيق، وإن شئتم فالحقوا بملاحقكم» (١) .

إنّ الاُمويِّين أرادوا المساومة فيما نهبوه من أموال المسلمين وما اختلسوه من بيت المال، وهيهات أن يستجيب لهم رائد الحقّ والعدالة في دنيا الإسلام الذي لا تساوي السلطة عنده قيمة حذائه الذي كان من ليف، وقد انصرفوا عنه وقلوبهم مترعة بالحقد والكراهية له.

وعلى أيّ حال، فقد فزع القرشيّون من حكومة الإمام (عليه السّلام) وخافوا على مصالحهم ونفوذهم وامتيازاتهم التي ظفروا بها في عهد الخلفاء.

لقد أيقنوا أنّ الإمام سيعاملهم معاملة عادية، ولا يميّزهم على أيّ أحد من المسلمين، وقد كان سيء الظنّ بهم، وقد أعرب عن مدى استيائه منهم بقوله:«ما لي ولقريش! لقد قاتلتهم كافرين، ولأقتلنهم مفتونين. والله لأبقرنّ الباطل

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٥٥.

١٣١

حتى يظهر الحقّ من خاصرته، فقل لقريش فليضج ضجيجها» .

لقد حقدت قريش على الإمام كما حقدت على ابن عمّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد صرفت الخلافة تارة عنه إلى تيم، وإلى عدي اُخرى، وإلى بني اُميّة ثالثة.

وقد جهدت على محاربته وإشاعة التمرّد في أيام خلافته، وقد ظهرت بوادر ذلك في حرب الجمل وصفين.

إجراءات حاسمة

وقام الإمام رائد العدالة الاجتماعيّة بإجراءات حاسمة ضدّ الحكم المباد كان منها:

١ - مصادرة الأموال المنهوبة

وأوّل عمل قام به الإمام أنّه أصدر أوامره بمصادرة القطائع التي اقتطعها عثمان، وباسترجاع الأموال التي استأثر بها لنفسه، والأموال التي منحها لبني اُميّة وآل أبي معيط؛ لأنّها أُخذت بغير وجه مشروع، وقد صودرت أموال عثمان حتّى سيفه ودرعه.

وقد كتب عمرو بن العاص إلى معاوية رسالة جاء فيها: ما كنت صانعاً فاصنع إذا قشّرك ابن أبي طالب من كلّ مال تملكه كما تُقشّر عن العصا لحاها.

وعمّ الذعر والخوف جميع الرأسماليين القرشيّين الذين أقطعهم عثمان ووهبهم الثراء العريض؛ فقد خافوا من مصادرتها وتأميمها للدولة كما صنع الإمام بأموال عثمان؛ فلذا أعلنوا التمرّد والبغي على حكومة الإمام (عليه السّلام).

٢ - عزل الولاة

وقام رائد العدالة الاجتماعيّة بعزل ولاة عثمان؛ لأنّهم أظهروا الجور والفساد

١٣٢

في الأرض؛ فقد عزل معاوية بن هند، وقد نصحه جماعة من المخلصين له وطلبوا منه إبقاء معاوية، فأبى وامتنع من المداهنة في دينه، وكيف يُبقي الإمام في جهاز حكمه هذا الذئب الجاهلي، ويقرّه على عمله وهو رأس المنافقين ومصدر قوّتهم.

وكذلك عزل غير معاوية من ولاة عثمان، ولم يُبقِ واحداً منهم والياً على قطر من الأقطار.

٣ - المساواة بين المسلمين

وأعلن الإمام (عليه السّلام) المساواة العادلة بين جميع المسلمين، مساواة في العطاء، ومساواة في الحقوق وغيرهما من الشؤون الاجتماعيّة، وقد عوتب على مساواته في العطاء، فأجاب:«أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ؟! وَاللَّهِ لا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً. لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّهِ؟ أَلا وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ، وَهُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا وَيَضَعُهُ فِي الآخِرَةِ، وَيُكْرِمُهُ فِي النَّاسِ وَيُهِينُهُ عِنْدَ اللَّهِ...» .

وهكذا سلك عليّ في أيام حكومته مسلكاً مشرقاً لا التواء ولا منعطف فيه؛ فطبّق العدل ونشر المساواة، فلم يؤثر أيّ أحد من أبنائه وأرحامه على غيرهم، ولم يمنحهم أيّ امتياز في دولته.

وكان من بوادر عدله أنّه دخل بيت المال فقسّمه، فجاءت طفلة إمّا للحسن أو للحسين، فتناولت منه شيئاً، فلمّا بصر بها أسرع إليها فأخذه منها وأرجعه إلى بيت المال، فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين، إنّ لها فيه حقّاً.

فأنكر عليهم ذلك، وقال:

١٣٣

«إذا أخذ أبوها منه فليعطها منه ما شاء» (١) .

لقد تحرّج في سلوكه كأشدّ وأقسى ما يكون التحرّج، وأرهق نفسه إرهاقاً شديداً، فلم يرَ الناس مثل عدله في جميع فترات التاريخ.

على خطّة العدل والشرف غذّى أبناءه، وقد رأت ابنته حفيدة الرسول زينب (عليها السّلام) هذه السيرة المشرقة التي تأخذ بأعماق القلوب قد سار عليها أبوها، فكانت من عناصر تربيتها ومن مقوّمات ذاتها، وهي التي خلقت له الخصوم والأعداء.

____________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ١٦٠، القسم الأوّل.

١٣٤

التمرّد على حكومة الإمام (عليه السّلام)

وثارت القوى المنحرفة عن الحقّ والمعادية للإصلاح الاجتماعي على حكومة الإمام رائد الحقّ والعدالة في دنيا الإسلام، وقد أرادوا منه أن يعدل عن منهجه، ويسير وفق مخطّطاتهم الهادفة إلى ضمان مصالحهم، ومنحهم الامتيازات الخاصة فأبى (عليه السّلام) إلاّ أن يسير بسيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ويطبّق قانون الإسلام وتعاليم القرآن.

ونشير إلى بعض هؤلاء المتمرّدين الذين شقّوا صفوف المسلمين، وأغرقوا البلد في المحن والاضطراب، وأشاعوا بين المسلمين الحزن والحداد، وهم:

طلحة والزّبير

وبايع طلحة والزّبير الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وانعقدت بيعته في أعناقهما، ولكنّ الأطماع السياسيّة والشورى العمرية التي نفخت فيهما روح الطموح، وساوت بينهما وبين بطل الإسلام وأخي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هي التي دفعتهما إلى إعلان التمرّد، وقد خفّا إلى الإمام (عليه السّلام) وقد أترعت نفوسهما بالأطماع والكيد للإسلام، فقالا للإمام: هل تدري على ما بايعناك يا أمير المؤمنين؟

فأسرع الإمام قائلاً:«نعم، على السمع والطاعة، وعلى ما بايعتم عليه أبا بكر وعمر وعثمان» .

فرفضا ذلك، وقالا:

١٣٥

لا، ولكن بايعناك على أنّا شريكاك في الأمر.

فرمقهما الإمام بطرفه، وأوضح لهما ما ينبغي أن يكونا شريكين له قائلاً:«لا، ولكنّكما شريكان في القول والاستقامة، والعون على العجز والأولاد» .

لقد أعربا عن أطماعهما وأنّ بيعتهما للإمام لم تكن من أجل صالح المسلمين وجمع كلمتهم، وقاما مغضبين، فقال الزّبير في ملأ من قريش: هذا جزاؤنا من عليّ، قمنا له في أمر عثمان حتّى أثبتنا عليه الذنب، وسبّبنا له القتل وهو جالس في بيته، وكُفي الأمر، فلمّا نال بنا ما أراد جعل دوننا غيرنا.

وقال طلحة: ما اللوم إلاّ أنّا كنّا ثلاثة من أهل الشورى كرهه أحدنا(١) وبايعناه، وأعطيناه ما في أيدينا ومنعنا ما في يده، فأصبحنا قد أخطأنا ما رجونا.

والشيء المؤكّد أنّهما لم يعرفا عليّاً، ولم يعيا أهدافه في عالم الحكم، ولو عرفاه ما نازعاه، أو أنّهما عرفاه وحالت أطماعهما وجشعهما على منازعته، وانتهى حديثهما إلى الإمام (عليه السّلام)، فاستدعى مستشاره عبد الله بن عباس فقال له:«بلغك قول الرجلين؟» .

- نعم، أرى أنّهما أحبّا الولاية فولّ البصرة الزّبير، وولّ طلحة الكوفة.

ولم يرتضِ الإمام رأي ابن عباس، فقال مفنّداً لرأيه:«ويحك! إنّ العراقين - البصرة والكوفة - بهما الرجال والأموال، ومتى تملّكا رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع، ويضربا الضعيف بالبلاء، ويقويا على القوي بالسلطان. ولو كنت مستعملاً أحداً لضرّه ونفعه لاستعملت معاوية على الشام،

____________________

(١) يريد به سعد بن أبي وقّاص، فإنّه امتنع عن بيعة الإمام (عليه السّلام)، والذي دفعه على ذلك حقده له.

١٣٦

ولولا ما ظهر لي من حرصهما على الولاية لكان لي فيهما رأي» .

لقد كان الإمام (عليه السّلام) عالماً بأطماعهما وما انطوت عليه نفوسهما من التهالك على الإمرة والسلطان، ولو كان يعلم نزاهتهما واستقامتهما لولاّهما البصرة والكوفة.

ولمّا علم طلحة والزّبير أنّ الإمام لا يولّيهما على قطر من أقطار المسلمين خفّا إليه طالبين منه الإذن بالخروج قائلين: ائذن لنا يا أمير المؤمنين.

-((إلى أين؟)) .

- نريد العمرة.

فرمقهما الإمام بطرفه، وعرّفهما ما يريدان قائلاً لهما:«والله ما العمرة تريدان، بل الغدرة ونكث البيعة» . فأقسما له بالأيمان المغلّظة أنّهما لا يخلعان بيعته، وأنّهما يريدان أن يعتمرا بالبيت الحرام، وطلب منهما الإمام أن يُعيدا له البيعة ثانياً ففعلا دون تردد، ومضيا منهزمين إلى مكة يثيرا الفتنة، ويلحقا بعائشة ليتّخذوها واجهة لتمرّدهما على الحقّ وشقّ كلمة المسلمين.

تمرّد عائشة

ويجمع المؤرّخون على أنّ عائشة في طليعة مَنْ أشعل نار الثورة على عثمان؛ فقد أفتت بقتله ومروقة من الدين، وكانت تسمّيه نعثلاً، ولمّا أحاط به الثوار خرجت إلى مكة، وبعد أدائهما لمناسك الحج قفلت راجعة إلى يثرب، وهي تجدّ في السير لتنظر ما آل إليه أمر عثمان، فلمّا انتهت إلى سرف لقيها رجل من أخوالها كان قادماً من المدينة، فأسرعت قائلة: مهيم(١) .

____________________

(١) مهيم: كلمة استفهام، من معانيها: ما وراؤك.

١٣٧

- قتلوا عثمان.

وأسرعت قائلة: ثمّ صنعوا ماذا؟

- واجتمعوا على بيعة عليّ فجازت بهم إلى خير مجاز.

ولمّا سمعت أنّ الخلافة قد آلت إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) انهارت أعصابها، وتحطّمت قواها، وهتفت وهي حانقة، وبصرها يشير إلى السماء ثمّ ينخفض فيشير إلى الأرض، قائلة: والله، ليت هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لابن أبي طالب! قُتل عثمان مظلوماً، والله لأطلبنّ بدمه.

وبُهر عبيد من منطقها، فقال لها باستهزاء وسخرية: ولِمَ؟ فوالله إنّ أوّل مَنْ أمال حرفه لأنت، ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلاً فقد كفر!

وانبرت عائشة تبرّر هذا التناقض في كلامها وسلوكها، فقالت له: إنّهم استتابوه ثمّ قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأوّل.

وهي حجّة واهية لا واقع لها، فهل أنّها كانت حاضرة حينما أحاط الثوار بعثمان فأعلن لهم توبته فلم يحفلوا بها، وعدوا عليه فقتلوه كما تقول؟!

ولم يخفَ على ابن خالها هذا التناقض الصريح في قولها، فراح يردّ عليها:

فمنكِ البداء ومنكِ الغِيَرْ = ومنكِ الرياح ومنكِ المطرْ

وأنتِ أمرتِ بقتلِ الإمام = وقُلتِ لنا إنّه قد كفرْ

فهبنا(١) أطعناكِ في قتلِه = وقاتِلُه عندنا مَنْ أمرْ

____________________

(١) في رواية: (ونحن).

١٣٨

ولم يسقُطِ السقفُ من فوقنا = ولم تنكسف شمسُنا والقمرْ

وقد بايعَ الناسُ ذا تُدرَأٍ(١) = يُزيلُ الشبا ويقيمُ الصَّعرْ

و يلبسُ للحربِ أثوابها = وما مَنْ وفى مثلُ مَنْ قد غدرْ

وغاظها قوله فأعرضت عنه، وقفلت راجعة إلى مكة(٢) وهي كئيبة حزينة؛ لأنّ الخلافة آلت إلى باب مدينة علم النبي (صلّى الله عليه وآله) وأبي سبطيه، وراحت تندب عثمان؛ فقد اتّخذت قتله ورقة رابحة للإطاحة بحكم الإمام، يقول شوقي:

أثأرُ عثمانَ الذي شجاها = أم غصّةٌ لم ينتزع شجاها

ذلك فتقٌ لم يكن بالبالِ = كيدُ النساءِ موهنُ الجبالِ

إنّ دم عثمان لا يصلح بأيّ حال من الأحوال أن يكون من بواعث ثورتها على حكومة الإمام؛ فقد كانت هناك أسباب وثيقة دعتها إلى هذا الموقف الذي لا تُحمد عليه، وقد ذكرناها بالتفصيل في كتابنا (حياة الإمام الحسن).

الزحف إلى البصرة

وانضمّ طلحة والزّبير إلى عائشة ومعهما جميع رجال الحكم المُباد من ولاة عثمان وغيرهم من المعادين لحكومة الإمام (عليه السّلام)، وقد قرّر زعماء الفتنة الزحف إلى البصرة لاحتلالها، ونادى المنادي في مكة: أيّها الناس، إنّ اُمّ المؤمنين وطلحة والزّبير شاخصون إلى البصرة، فمَنْ كان يريد إعزاز الإسلام، وقتال المحلّين، والطلب بدم عثمان، ولم يكن عنده مركب

____________________

(١) ذو تُدرأٍ: أي ذو عزيمة ومنعة. الشبا: المكرون. الصعر: ميل في الوجه أو في أحد الشفتين، والمراد أنّه يقيم الشيء الملتوي.

(٢) تاريخ الطبري ٣ / ٤٥٤، وغيره.

١٣٩

ولا جهاز، فهذا جهازه وهذه نفقته.

وزوّدوا الجند بالسلاح والعتاد والأموال، وقد كان قسم من النفقات من يعلي بن اُمية والي عثمان؛ فقد أعان بأربعمئة ألف، وحمل سبعين رجلاً(١) .

واعتلت عائشة على جملها ولم ترغب فيه، وصادفوا في الطريق العرني، وكان عنده جمل اُعجب به أتباع عائشة، فقالوا للعرني: يا صاحب الجمل، تبيع جملك؟

- نعم.

- بِكَم؟

- بألف درهم.

- مجنون أنت، جمل يباع بألف درهم!

- نعم، جملي هذا.

- وممّ ذلك؟

- ما طلبت عليه أحداً إلاّ أدركته، ولا طلبني وأنا عليه قطّ إلاّ فتّه.

- لو تعلم لمَنْ نريده لأحسنت بيعنا.

- لمَنْ تريده؟

- لاُمّك.

- قد تركت اُمّي في بيتها قاعدة ما تريد براحاً.

- إنّما نريده لاُمّ المؤمنين عائشة.

- هو لكم، خذوه بغير ثمن.

- لا، ارجع معنا إلى الرحل نعطيك ناقة ونزيدك دراهم.

____________________

(١) تاريخ الطبري ٣ / ٤٥٤، وغيره.

١٤٠