السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام22%

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 343

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 186397 / تحميل: 8251
الحجم الحجم الحجم
السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

إنّ كلمة (الرحمة) التي ذكرت هنا لها مفهوم واسع ، ويدخل ضمنه كل خير وبركة وسعادة ، سواء في هذه الحياة أو في العالم الآخر ، وهذه الجملة في الواقع جاءت مقابلة لحال المنافقين الذين لعنهم الله وأبعدهم عن رحمته.

ولا شك أنّ وعد الله للمؤمنين قطعي ويقيني لأنّ الله قادر وحكيم ، ولا يمكن للحكيم أن يعد بدون سبب ، وليس الله القادر بعاجز عن الوفاء بوعده حين وعد( إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

الآية الثّانية شرحت جانبا من هذه الرحمة الإلهية الواسعة التي تعم المؤمنين في بعديها المادي والمعنوي. فهي أوّلا تقول :( وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) ، ومن خصائص هذه النعمة الكبيرة أنّها لا زوال لها ولا فناء ، بل الخلود الأبدي ، لذا فإن المؤمنين والمؤمنات سيكونون( خالِدِينَ فِيها ) .

ومن المواهب الإلهية الأخرى التي سوف ينعمون بها هي المساكن الجميلة ، والمنازل المرفهة التي أعدها الله لهم وسط الجنان( وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ) .

(عدن) في اللغة تعني الإقامة والبقاء في مكان ما ، ولهذا يطلق على المكان الذي توجد فيه مواد خاصّة اصطلاح (معدن) ، وعلى هذا المعنى فإنّ هناك شبها بين الخلود وعدن ، لكن لما أشارت الجملة السابقة إلى مسألة الخلود ، يفهم من هذه الجملة أن جنات عدن محل خاص في الجنّة يمتاز على سائر حدائق الجنّة.

لقد وردت هذه الموهبة الإلهية بأشكال وتفسيرات مختلفة في الرّوايات وكلمات المفسّرين ، فنطالع في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عدن دار الله التي لم ترها عين ، ولم يخطر على قلب بشر ، لا يسكنها غير ثلاثة : النّبيين ، والصدّيقين ، والشّهداء»(1) .

وفي كتاب الخصال نقل عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من سرّه أن يحيا حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنتي التي واعدني الله ربّي ، جنات عدن فليوال علي بن أبي

__________________

(1) مجمع البيان ، ذيل الآية.

١٢١

طالبعليه‌السلام وذريتهعليهم‌السلام من بعده».(1) ويتّضح من هذا الحديث أن جنات عدن حدائق خاصّة في الجنّة سيستقر فيها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجماعة من خلّص أصحابه وأتباعه. وهذا المضمون قد ورد في حديث آخر عن عليعليه‌السلام ، ويدل على أن جنات عدن مقر إقامة نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

بعد ذلك تشير الآية إلى الجزاء المعنوي المعد لهؤلاء ، وهو رضى الله تعالى عنهم المختص بالمؤمنين الحقيقيين ، وهو أهم وأعظم جزاء ، ويفوق كل النعم والعطايا الأخرى( وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ) .

إنّ اللذة المعنوية والإحساس الروحي الذي يحس ويلتذ به الإنسان عند شعوره برضى الله سبحانه وتعالى عنه لا يمكن أن يصفه أي بشر ، وعلى قول بعض المفسّرين فإنّ نسمة ولحظة من هذه اللذة الروحية تفوق نعم الجنّة كلها ومواهبها المختلفة والمتنوعة واللامتناهية.

من الطبيعي أنّنا لا نستطيع أن نجسم ونرسم صورة في أفكارنا عن أي نعمة من نعم الحياة الأخرى ونحن في قفص الحياة الدنيا وحياتها المحدودة ، فكيف سنصل إلى إدراك هذه النعمة المعنوية والروحية الكبرى؟!

نعم ، يمكن إيجاد تصور ضعيف عن الاختلافات المادية والمعنوية التي نعيشها في هذه الدنيا ، فمثلا يمكن إدراك الاختلاف في اللذة بين اللقاء بصديق عزيز جدا بعد فراق طويل ولذّة الإحساس الروحي الخاص الذي يعتري الإنسان عند إدراكه أو حلّه لمسألة علمية معقدة صرف في تحصيلها والوصول إلى دقائقها الشهور ، بل السنين ، أو الانشداد الروحي الذي يبعث على النشاط والجد في لحظات خلوص العبادة ، أو النشوة عند توجه القلب وحضوره في مناجاة تمتزج بهذا الحضور ، وبين اللذة التي نحس بها من تناول طعام لذيذ وأمثالها من اللذائذ ، ومن الطبيعي أن هذه اللذائذ المادية لا يمكن مقارنتها باللذائذ المعنوية ، ولا يمكن

__________________

(1) كتاب الخصال ، على ما نقل في نور الثقلين ، ج 2 ، ص 241.

١٢٢

أن تصل إلى مصافها.

من هنا يتّضح التصور الخاطئ لمن يقول بأن القرآن الكريم عند ما يتحدث عن الجزاء والعطاء الإلهي الذي سيناله المؤمنون الصالحون يؤكّد على النعم المادية ، ولا يتطرق إلى النواحي المعنوية ، لأن الجملة أعلاه ـ أي : رضوان من الله أكبر ـ ذكرت أن رضوان الله أكبر من كل النعم ، خاصّة وأنّها وردت بصيغة النكرة ، وهي تدل على أن قسما من رضوان الله أفضل من كل النعم المادية الموجودة في الجنّة ، وهذا يبيّن القيمة السامية لهذا العطاء المعنوي.

إن الدليل على أفضلية الجزاء المعنوي واضح أيضا ، لأنّ الروح في الواقع بمثابة (الجوهر) والجسم بمكان (الصدف) ، فالروح كالآمر والقائد ، والجسم كالجندي المطيع والمنفذ ، فالتكامل الروحي هو الهدف ، والجسم وسيلة ولهذا السبب فإن إشعاعات الروح وآفاقها أوسع من الجسم واللذائذ الروحية لا يمكن قياسها ومقارنتها باللذائذ المادية والجسمية ، كما أن الآلام الروحية أشدّ ألما من الآلام الجسمية.

وفي نهاية أشارت الآية إلى جميع هذه النّعم المادية والمعنوية ، وعبرت عنها بأنّ( ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

* * *

١٢٣

الآية

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) )

التّفسير

جهاد الكفار والمنافقين :

وأخيرا ، صدر القرار الإلهي للنّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وجوب جهاد الكفار والمنافقين بكل قوّة وحزم( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ) ولا تأخذك بهم رأفة ورحمة ، بل شدد( وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) . وهذا العقاب هو العقاب الدنيوي ، أمّا في الآخرة فإن محلهم( وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

إن طريقة جهاد الكفار واضحة ومعلومة ، فإنّ جهادهم يعني التوسل بكل الطرق والوسائل في سبيل القضاء عليهم ، وبالذات الجهاد المسلح والعمل العسكري ، لكن البحث في أسلوب جهاد المنافقين ، فمن المسلم أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يجاهدهم عسكريا ولم يقابلهم بحد السيف ، لأنّ المنافق هو الذي أظهر الإسلام ، فهو يتمتع بكل حقوق المسلمين وحماية القانون الإسلامي بالرغم من أنّه يسعى لهدم الإسلام في الباطن فكم من الأفراد لا حظّ لهم من الإيمان ، ولا يؤمنون حقيقة بالإسلام ، غير أنّنا لا نستطيع أن نعاملهم معاملة غير المسلمين.

اذن ، فالمستفاد من الرّوايات وأقوال المفسّرين هو أنّ المقصود من جهاد

١٢٤

المنافقين هو الاشكال والطرق الأخرى للجهاد غير الجهاد الحربي والعسكري ، كالذم والتوبيخ والتهديد والفضيحة ، وربّما تشير جملة( وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) إلى هذا المعنى.

ويحتمل في تفسير هذه الآية : أنّ المنافقين يتمتعون بأحكام الإسلام وحقوقه وحمايته ما دامت أسرارهم مجهولة ، ولم يتّضح وضعهم على حقيقته ، أمّا إذا تبيّن وضعهم وانكشفت خبيئة أسرارهم فسوف يحكمون بأنّهم كفار حربيون ، وفي هذه الحالة يمكن جهادهم حتى بالسيف.

لكن الذي يضعف هذا الاحتمال أنّ إطلاق كلمة المنافقين على هؤلاء لا يصح في مثل هذه الحالة ، بل إنّهم يعتبرون من جملة الكفار الحربيين ، لأنّ المنافق ـ كما قلنا سابقا ـ هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر.

* * *

١٢٥

الآية

( يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) )

سبب النّزول

ذكرت في سبب نزول هذه الآيات أقوال وآراء مختلفة ، وكلّها تتفق على أن بعض المنافقين قد تحدثوا بأحاديث سيئة وغير مقبولة حول الإسلام والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعد أن فشا أمرهم وانتشرت أسرارهم أقسموا كذبا بأنّهم لم يتفوهوا بشيء ، وكذلك فإنّهم قد دبروا مؤامرة ضد النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، غير أنّها قد أحبطت.

ومن جملتها : أنّ أحد المنافقين ـ واسمه جلاس ـ سمع بعضا من خطب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّام غزوة تبوك ، وأنكرها بشدّة وكذبها ، وبعد رجوع المسلمين إلى المدينة حضر رجل يقال له : عامر بن قيس ـ كان قد سمع جلاس ـ عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبلغه كلام جلاس ، فلما حضر جلاس وسأله النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك أنكر ، فأمرهما

١٢٦

النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقسما بالله ـ في المسجد عند المنبر ـ أنّهما لا يكذبان ، فاقتربا من المنبر في المسجد وأقسما ، إلّا أن عامرا دعا بعد القسم وقال : اللهم أنزل على نبيّك آية تعرّف الصادق ، فأمّن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون على دعائه. فنزل جبرئيل بهذه الآية ، فلمّا بلغ قوله تعالى :( فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ ) قال جلاس : يا رسول الله ، إنّ الله اقترح عليّ التوبة ، وإنّي قد ندمت على ما كان منّي ، وأتوب منه ، فقبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توبته.

وكما أشرنا سابقا فقد ذكر أن جماعة من المنافقين صمموا على قتل النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طريق عودته من غزوة تبوك ، فلمّا وصل إلى العقبة نفروا بعيره ليسقط في الوادي، إلّا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أطلع بنور الوحي على هذه النّية الخبيثة ، فرد كيدهم في نحورهم وأبطل مكرهم. وكان زمام الناقة بيد عمار يقودها ، وكان حذيفة يسوقها لتكون الناقة في مأمن تام ، وأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين أن يسلكوا طريقا آخر حتى لا يخفي المنافقون أنفسهم بين المسلمين وينفّذوا خطتهم.

ولما وصل إلى سمع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقع أقدام هؤلاء أو حوافر خيولهم أمر بعض أصحابه أن يدفعوهم ويبعدوهم ، وكان عدد هؤلاء المنافقين اثني عشر أو خمسة عشر رجلا ، وكان بعضهم قد أخفى وجهه ، فلمّا رأوا أن الوضع لا يساعدهم على تنفيذ ما اتفقوا تواروا عن الأنظار ، إلّا أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرفهم وذكر أسماءهم واحدا واحدا لبعض أصحابه(1) .

لكن الآية ـ كما سنرى ـ تشير إلى خطتين وبرنامجين للمنافقين : إحداهما : أقوال هؤلاء السيئة. والأخرى : المؤامرة والخطة التي أحبطت ، وعلى هذا الأساس فإنا نعتقد أن كلا سببي النزول صحيحان معا.

__________________

(1) ما ذكرناه اقتباس من تفسير مجمع البيان والمنار وروح المعاني وتفاسير أخر.

١٢٧

التّفسير

مؤامرة خطرة :

إنّ ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة واضح جدّا ، لأنّ الكلام كان يدور حول المنافقين ، غاية ما في الأمر أنّ هذه الآية تزيح الستار عن عمل آخر من أعمال المنافقين ، وهو أن هؤلاء عند ما رأوا أن أمرهم قد انكشف ، أنكروا ما نسب إليهم بل أقسموا باليمين الكاذبة على مدّعاهم.

في البداية تذكر الآية أن هؤلاء المنافقين لا يرتدعون عن اليمين الكاذبة في تأييد إنكارهم ، ولدفع التهمة فإنّهم( يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا ) في الوقت الذي يعلمون أنّهم ارتكبوا ما نسب إليهم من الكفر( وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ ) وعلى هذا فإنّهم قد اختاروا طريق الكفر بعد إعلانهم الإسلام( وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ) ومن البديهي أن هؤلاء لم يكونوا مسلمين منذ البداية ، بل إنّهم أظهروا الإسلام فقط ، وعلى هذا فإنّهم بإظهارهم الكفر قد هتكوا ومزّقوا حتى هذا الحجاب المزيف الذي كانوا يتسترون به.

وفوق كل ذلك فقد صمّموا على أمر خطير لم يوفقوا لتحقيقه( وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ) ويمكن أن يكون هذا إشارة إلى تلك المؤامرة لقتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلة العقبة ، والتي مرّ ذكرها آنفا ، أو أنّه إشارة إلى كل أعمال المنافقين التي يسعون من خلالها إلى تحطيم المجتمع الإسلامي وبثّ بذور الفرقة والفساد والنفاق بين أوساطه ، لكنّهم لن يصلوا إلى أهدافهم مطلقا.

ممّا يستحق الانتباه أن يقظة المسلمين تجاه الحوادث المختلفة كانت سببا في معرفة المنافقين وكشفهم ، فقد كان المسلمون ـ دائما ـ يرصدون هؤلاء ، فإذا سمعوا منهم كلاما منافيا فإنّهم يخبرون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به من أجل منعهم وتلقي الأوامر فيما يجب عمله تجاه هؤلاء. إنّ هذا الوعي والعمل المضاد المؤيّد بنزول الآيات أدى إلى فضح المنافقين وإحباط مؤامراتهم وخططهم الخبيثة.

١٢٨

الجملة الأخرى تبيّن واقع المنافقين القبيح ونكرانهم للجميل فتقول الآية : إنّ هؤلاء لم يروا من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي خلاف أو أذى ، ولم يتضرروا بأي شيء نتيجة للتشريع الإسلامي، بل على العكس ، فإنّهم قد تمتعوا في ظل حكم الإسلام بمختلف النعم المادية والمعنوية( وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (1) وهذه قمة اللؤم.

ولا شك أنّ إغناءهم وتأمين حاجاتهم في ظل رحمة الله وفضله وكذلك بجهود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يستحق أن ينقم من جرائه هؤلاء المنافقون ، بل إنّ حقّه الشكر والثناء ، إلّا أنّ هؤلاء اللؤماء المنكرين للجميل والمنحرفي السيرة والسلوك قابلوا الإحسان بالإساءة.

ومثل هذا التعبير الجميل يستعمل كثيرا في المحادثات والمقالات ، فمثلا نقول للذي أنعمنا عليه سنين طويلة وقابل إحساننا بالخيانة : إنّ ذنبنا وتقصيرنا الوحيد أنّنا آويناك ودافعنا عنك وقدّمنا لك منتهى المحبّة على طبق الإخلاص.

غير أنّ القرآن ـ كعادته ـ رغم هذه الأعمال لم يغلق الأبواب بوجه هؤلاء ، بل فتح باب التوبة والرجوع إلى الحق على مصراعيه إن أرادوا ذلك ، فقال :( فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ ) . وهذه علامة واقعية الإسلام واهتمامه بمسألة التربية ، ومعارضته لاستخدام الشدّة في غير محلّها وهكذا فتح باب التوبة حتى بوجه المنافقين الذين طالما كادوا للإسلام وتآمروا على نبيّه وحاكوا الدسائس والتهم ضده ، بل إنّه دعاهم إلى التوبة أيضا.

هذه في الحقيقة هي الصورة الواقعية للإسلام ، فما أظلم هؤلاء الذين يرمون

__________________

(1) ممّا يستحق الانتباه أن الجملة أعلاه بالرغم من أنّها تتحدث عن فضل الله ورسوله ، إلّا أن الضمير في( مِنْ فَضْلِهِ ) جاء مفردا لا مثنى ، والسبب في ذلك هو ما ذكرناه قبل عدة آيات من أن أمثال هذه التعبيرات لأجل إثبات حقيقة التوحيد ، وأن كل الأعمال بيد الله سبحانه ، وأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا ما عمل عملا فهو بأمر الله سبحانه ، ولا ينعزل عن إرادته سبحانه.

١٢٩

الإلام بأنّه دين القوة والإرهاب والخشونة

هل توجد في عالمنا المعاصر دولة مستعدة لمعاملة من يسعى لإسقاطها وتحطيمها كما رأينا في تعامل الإسلام السامي مع مناوئيه ، مهما ادّعت أنّها من أنصار المحبة والسلام؟! وكما مرّ علينا في سبب نزول الآية ، فإنّ أحد رؤوس النفاق والمخططين له لما سمع هذا الكلام تاب ممّا عمل ، وقبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توبته.

وفي نفس الوقت ومن أجل أن لا يتصور هؤلاء أن هذا التسامح الإسلامي صادر من منطق الضعف ، حذّرهم بأنّهم إن استمروا في غيهم وتنكّروا لتوبتهم ، فإنّ العذاب الشديد سينالهم في الدّارين( وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) وإذا كانوا يظنون أنّ أحدا يستطيع أن يمدّ لهم يد العون مقابل العذاب ا لإلهي فإنّهم في خطأ كبير ، فإنّ العذاب إذا نزل بهم فساء صباح المنذرين :( وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) .

من الواضح بديهة أنّ عذاب هؤلاء في الآخرة معلوم ، وهو نار جهنم ، أمّا عذابهم في الدنيا فهو فضيحتهم ومهانتهم وتعاستهم وأمثال ذلك.

* * *

١٣٠

الآيات

( وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) )

سبب النّزول

المعروف بين المفسّرين أنّ هذه الآيات نزلت في رجل من الأنصار يدي ثعلبة بن حاطب ، وكان رجلا فقيرا يختلف إلى المسجد دائما ، وكان يصر على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدعو له بأن يرزقه الله مالا وفيرا ، فقال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» أو ليس الأولى لك أن تتأسى بنبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتحيا حياة بسيطة وتقنع بها؟ لكن ثعلبة لم يكف ولم يصرف النظر عن أمله ، وأخيرا قال للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والّذي بعثك بالحق نبيّا ، لئن رزقني الله لأعطين كل الحقوق وأؤدي كل الواجبات ، فدعا له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فلم يمض زمان ـ وعلى رواية ـ حتى توفي ابن عم له ، وكان غنيّا جدّا ،

١٣١

فوصلت إليه ثروة عظيمة ، وعلى رواية أخرى أنّه اشترى غنما ، فلم تزل تتوالد حتى أصبح حفظها ورعايتها في المدينة أمرا غير ممكن ، فاضطر أن يخرج إلى أطراف المدينة ، فألهته أمواله عن حضور الجماعة ، بل وحتى الجمعة.

وبعد مدّة أرسل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاملا إلى ثعلبة ليأخذ الزكاة منه ، غير أن هذا الرجل البخيل الذي عاش لتوّه حياة الرفاه امتنع من أداء حقوق الله تعالى ، ولم يكتف بذلك ، بل اعترض على حكم الزّكاة وقال : إنّ حكم الزكاة كالجزية ، أي أنّنا أسلمنا حتى لا نؤدي الجزية ، فإذا وجبت علينا الزكاة فأي فرق بيننا وبين غير المسلمين؟

قال هذا في الوقت الذي لم يفهم معنى الجزية ولا معنى الزكاة ، أو أنّه فهمه ، إلّا أن حبّ الدنيا وتعلقه بها لم يسمح له ببيان الحقيقة وإظهار الحق ، فلمّا بلغ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قاله قال : «يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة» ، فنزلت هذه الآيات.

وقد ذكرت أسباب أخر لنزول هذه الآيات تشابه قصّة ثعلبة مع اختلاف يسير.

ويفهم من أسباب النزول المذكورة ومن مضمون الآيات أنّ هذا الشخص ـ أو الأشخاص المذكورين ـ لم يكونوا من المنافقين في بداية الأمر ، لكنّهم لهذه الأعمال ساروا في ركابهم.

التّفسير

المنافقون وقلّة الاستيعاب :

هذه الآيات في الحقيقة تضع إصبعها على صفة أخرى من صفات المنافقين السيّئة ، وهي أنّ هؤلاء إذا مسّهم البؤس والفقر والمسكنة عزفوا على وتر الإسلام بشكل لا يصدق معه أحد أنّ هؤلاء يمكن أن يكونوا يوما من جملة المنافقين ، بل ربّما ذمّوا ولاموا الذين يمتلكون الثروات والقدرات الواسعة على عدم استثمارها في خدمة المحرومين ومساعدة المحتاجين!

١٣٢

إلّا أنّ هؤلاء أنفسهم ، إذا تحسّن وضعهم المادي فإنّهم سينسون كل عهودهم ومواثيقهم مع الله والناس ، ويغرقون في حبّ الدنيا ، وربّما تغيّرت كل معالم شخصياتهم ، ويبدؤون بالتفكير بصورة أخرى وبمنظار مختلف تماما ، وهكذا يؤدي ضعف النفس هذا إلى حبّ الدنيا والبخل وعدم الإنفاق وبالتالي يكرّس روح النفاق فيهم بشكل يوصد أمامهم أبواب الرجوع إلى الحق.

فالآية الأولى تتحدث عن بعض المنافقين الذين عاهدون الله على البذل والعطاء لخدمة عباده إذا ما أعطاهم الله المال الوفير( وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

إلّا أنّهم يؤكّدون هذه الكلمات والوعود ما دامت أيديهم خالية من الأموال( فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) غير أن عملهم هذا ومخالفتهم للعهود التي قطعوها على أنفسهم بذرت روح النفاق في قلوبهم وسيبقى إلى يوم القيامة متمكنا منهم( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ) وإنّما استحقوا هذه العاقبة السيئة غير المحمودة( بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ ) .

وفي النهاية وبّخت الآية هؤلاء النفر ولامتهم على النوايا السيئة التي يضمرونها ، وعلى انحرافهم عن الصراط المستقيم ، واستفهمت بأنّهم( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) .

* * *

ملاحظات

وهنا يجب الانتباه إلى عدّة ملاحظات :

1 ـ يمكن أن نرى بوضوح تام من خلال جملة( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ ) أنّ النسبة والعلاقة بين الكثير من الذنوب والصفات السيئة ، بل وحتى بين الكفر

١٣٣

والنفاق ، هي نسبة وعلاقة العلة والمعلول ، لأنّ الجملة الآنفة الذكر تبيّن وتقول بصراحة : إنّ سبب النفاق الذي نبت في قلوبهم وحرفهم عن الجادة هو بخلهم ونقضهم لعهودهم ، وكذلك الذنوب والمخالفات الأخرى التي ارتكبوها ، ولهذا فإنّنا نقرأ في بعض العبارات أن الكبائر في بعض الأحيان تكون سببا في أن يموت الإنسان وهو غير مؤمن ، إذ ينسلخ منه روح الإيمان بسببها.

2 ـ إنّ المقصود من( يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ) والذي يعود ضميره إلى الله سبحانه وتعالى هو يوم القيامة ، لأن تعبير( لِقاءَ رَبِّهِ ) وأمثاله في القرآن يستعمل عادة في موضوع القيامة. صحيح أن فترة العمل ـ التي هي الحياة الدنيا ـ تنتهي بموت الإنسان ، وبموته يغلق ملف أعماله الصالحة والطالحة ، إلّا أن آثار تلك الأعمال تبقى تؤثر في روح الإنسان إلى يوم القيامة.

وقد احتمل جماعة أنّ ضمير (يلقونه) يعود إلى البخل ، فيكون المعنى : حتى يلاقوا جزاء بخلهم وعقابه. ويحتمل كذلك أن يكون المراد من لقاء الله : لحظة الموت. إلّا أن جميع هذه خلاف ظاهر الآية ، والظاهر ما قلناه.

ولنا بحث في أنّه ما هو المقصود من لقاء الله في ذيل الآية (64) من سورة البقرة.

3 ـ ويستفاد أيضا ـ من الآيات أعلاه ـ أنّ نقض العهود والكذب من صفات المنافقين ، فهؤلاء سحقوا جميع العهود المؤكدة مع ربّهم ولم يعيروها أية أهمية ، فإنّهم يكذبون حتى على ربّهم ، والحديث المعروف المنقول عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤكّد هذه الحقيقة ، حيث

يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «للمنافق ثلاث علامات : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان»(1) .

ومن الملفت للنظر وجود هذه العلامات الثلاث مجتمعة في القصّة المذكورة ـ قصّة ثعلبة ـ فإنّه كذب ، وأخلف وعده ، وخان أمانة الله ، وهي الأموال التي رزقه الله

__________________

(1) مجمع البيان ، ذيل الآية.

١٣٤

إيّاها ، وهي في الحقيقة أمانة الله عنده.

وقد ورد الحديث المذكور في الكافي بصورة أشد تأكيدا عن الإمام الصادقعليه‌السلام عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «ثلاث من كن فيه كان منافقا ، وإن صام وصلى وزعم أنّه مسلم : من إذا ائتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف»(1) .

نذكر هنا أن من الممكن أن تصدر الذنوب المذكورة من المؤمنين ، إلّا أنّها نادرة ، أمّا استمرار صدورها فهو علامة روح النفاق في ذلك الشخص.

4 ـ وهنا ملاحظة أخرى ينبغي أن ننبه عليها ، وهي أن ما قرأناه في هذه الآيات ليس بحثا تاريخيا مختصا بحقبة مضت من الزمان ، بل هو بيان واقع أخلاقي واجتماعي يوجد في كل عصر وزمان ، وفي كل مجتمع ـ بدون استثناء ـ توجد نماذج كثيرة تمثل هذا الواقع.

إذا لا حظنا واقعنا الذي نعيشه ودققنا فيه ـ وربّما إذا نظرنا إلى أنفسنا ـ فسنكتشف نماذج من أعمال ثعلبة بن حاطب ، وطريقة تفكيره في صور متعددة وأشخاص مختلفين ، فإنّ الكثيرين في الأوضاع العادية أو عند إعسارهم وفقرهم يكونون من المؤمنين المتحرقين على دينهم والثابتين على عهدهم حيث يحضرون في الحلقات الدينية ، وينضوون تحت كل لواء يدعو إلى الإصلاح وإنقاذ المجتمع ، ويضمون أصواتهم إلى كل مناد الحق والعدالة ، ولا يألون جهدا في سبيل أعمال الخير ، ويصرخون ويقفون بوجه كل فساد.

أمّا إذا فتحت أمامهم أبواب الدنيا ونالوا بعض العناوين والمراكز القيادية أو تسلطوا على رقاب الناس ، فستتغير صورهم وسلوكهم ، والأدهى من كل ذلك أن تتبدل ماهيتهم ، وعندئذ سيخمد لهيب عشقهم لله ، ويهدأ ذلك الهيجان والتحرق على دين الله ، وتفتقدهم تلك الحلقات والجلسات الدينية ، فلا يساهمون في أية خطة إصلاحية ولا يسعون من أجل ذلك الحق ، ولا تثبت لهم قدم في مواجهة

__________________

(1) سفينة البحار ، ج 2 ، ص 607.

١٣٥

الباطل.

هؤلاء وقبل أن يصلوا الى مآربهم لم يكن لهم محل من الإعراب ، أو أثر في المجتمع ، لذا سيعاهدون الله وعباده بألف عهد وميثاق بأنّهم إن تمكنوا من الأمر ، أو امتلأت أياديهم من القدرات والأموال فسيفعلون كذا وكذا ، ويتوسلون للوصول الى أهدافهم بطرح آلاف الإشكالات والانتقادات فى حق المتصدين ويتهمونهم بعدم معرفتهم بإدارة الأمور ، وعدم إحاطتهم بوظائفهم وواجباتهم ، أمّا إذا وصلوا الى ما يرومونه وتمكنوا من الأمر ، فسينسون كل تلك الوعود والعهود ويتنكرون لها ، وستتبخر كل تلك الإيرادات والانتقادات وتذوب كما يذوب الجليد في حرارة الصيف.

نعم ، إنّ ضعف النفس هذا واحدة من العلامات البارزة والواضحة للمنافقين ، وهل النفاق إلّا كون صاحبه ذا وجهين ، وبتعبير آخر : هل هو إلّا ازدواج الشخصية؟ إن سيرة هكذا أفراد وتأريخهم نموذج للشخصية المزدوجة ، لأن الإنسان الأصيل ذو الشخصية المتينة لا يكون مزدوج الشخصية.

ولا شك أنّ للنفاق درجات مختلفة ، كالإيمان ، تماما ، فالبعض قد ترسخت فيهم هذه الخصلة الخبيثة الى درجة اقتلعت كل زهور الإيمان بالله من قلوبهم ، ولم تبق لها أثرا ، بالرغم من أنّهم ألصقوا أنفسهم بالمؤمنين وادعوا أنّهم منهم.

لكن البعض الآخر مع أنّهم يملكون إيمانا ضعيفا ، وهم مسلمون بالفعل ، إلّا أنّهم يرتكبون أعمالا تتفق مع سلوك المنافقين ، وتفوح منها رائحة الازدواجية ، فهؤلاء ديدنهم الكذب ، إلّا أن ظاهرهم الصدق والصلاح ، ومثل هؤلاء يصدق عليهم أيضا أنّهم منافقون وذوو وجهين.

أليس الذي عرف بالأمانة لظاهره الصالح ، واستطاع بذلك أن يكسب ثقة واطمئنان الناس فأودعوه أماناتهم ، إلّا أنّه يخونهم في أماناتهم ، هو في واقع الحال مزدوج الشخصية؟

١٣٦

وكذلك الذين يقطعون العهود والمواثيق ، لكنّهم لا يفون بها مطلقا ، ألا يعتبر عملهم عمل المنافقين؟

إن من أكبر الأمراض الاجتماعية ، ومن أهم عوامل تخلف المجتمع وجود أمثال هؤلاء المنافقين في المجتمعات البشرية ونحن نستطيع أن نحصي الكثير منهم في مجتمعاتنا الاسلامية إذا كنّا واقعيين ولم نكذب على أنفسنا. والعجب أنّنا رغم كل هذه العيوب والمخازي والبعد عن روح التعليمات والقوانين الإسلامية ، فإننا نحمّل الإسلام تبعة تخلفنا عن الركب الحضاري الأصيل!

* * *

١٣٧

الآيتان

( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) )

سبب النّزول

وردت عدّة روايات في سبب نزول هذه الآيات في كتب التّفسير والحديث ، يستفاد من مجموعها أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد صمّم على إعداد جيش المسلمين لمقابلة العدو ـ وربّما كان ذلك في غزوة تبوك ـ وكان محتاجا لمعونة الناس في هذا الأمر ، فلما أخبرهم بذلك سارع الأغنياء إلى بذل الكثير من أموالهم ، سواء كان هذا البذل من باب الزكاة أو الإنفاق ، ووضعوا هذه الأموال تحت تصرف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أمّا الفقراء ، كأبي عقيل الأنصاري أو سالم بن عمير الأنصاري ، لما لم يجدوا ما ينفقونه لمساعدة جنود الإسلام ، فقد عمدوا إلى مضاعفة عملهم ، واستقاء الماء

١٣٨

ليلا ، فحصلوا على صاعين من التمر ، فادخروا منه صاعا لمعيشتهم ومعيشة أهليهم ، وأتوا بالآخر إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقدموه ، وشاركوا بهذا الشيء اليسير ـ الذي لا قيمة له ظاهرا ـ في هذا المشروع الإسلامي الكبير.

غير أنّ المنافقين الذين لا همّ لهم إلّا تتبع ما يمكن التشهير به بدلا من التفكير بالمساهمة الجدية فإنّهم عابوا كلا الفريقين ، أمّا الأغنياء فاتهموهم بأنّهم إنّما ينفقون رياء وسمعة، وأمّا الفقراء الذين لا يستطيعون إلّا جهدهم ، والذين قدموا اليسير وهو عند الله كثير ، فإنهم سخروا منهم بأن جيش الإسلام هل يحتاج إلى هذا المقدار اليسير؟ فنزلت هذه الآيات ، وهددتهم تهديدا شديدا وحذرتهم من عذاب الله.

التّفسير

خبث المنافقين :

في هذه الآيات إشارة إلى صفة أخرى من الصفات العامّة للمنافقين ، وهي أنّهم أشخاص لجوجون معاندون وهمهم التماس نقاط ضعف في أعمال الآخرين واحتقار كل عمل مفيد يخدم المجتمع ومحاولة إجهاضه بأساليب شيطانية خبيثة من أجل صرف الناس عن عمل الخير وبذلك يزرعون بذور النفاق وسوء ظن في أذهان المجتمع ، وبالتالي إيقاف عجلة الإبداع وتطور المجتمع وخمول الناس وموت الفكر الخلّاق.

لكن القرآن المجيد ذم هذه الطريقة غير الإنسانية التي يتبعها هؤلاء ، وعرّفها للمسلمين لكي لا يقعوا في حبائل مكر المنافقين ومن ناحية أخرى أراد أن يفهم المنافقون أن سهمهم لا يصيب الهدف في المجتمع الإسلامي.

ففي البداية يقول : إنّ هؤلاء( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ

١٣٩

أَلِيمٌ ) .

«يلمزون» مأخوذة من مادة (لمز) بمعنى تتبع العيوب والعثرات ، و «المطوّعين» مأخوذة من مادة (طوع) على وزن (موج) بمعنى الطاعة ، لكن هذه الكلمة تطلق عادة على الأفراد الذين دأبهم عمل الخيرات ، وهم يعملون بالمستحبات علاوة على الواجبات.

ويستفاد من الآية أعلاه أنّ المنافقين كانوا يعيبون جماعة ، ويسخرون من الأخرى ، ومن المعلوم أن السخرية كانت تنال الذين يقدمون الشيء القليل ، والذين لا يجدون غيره ليبذلوه في سبيل الإسلام ، وعلى هذا لا بدّ أن يكون لمزهم وطعنهم مرتبطا بأولئك الذين قدموا الأموال الطائلة في سبيل خدمة الإسلام العزيز ، فكانوا يرمون الأغنياء بالرياء ، ويسخرون من الفقراء لقلّة ما يقدمونه.

ونلاحظ في الآية التي تليها تأكيدا أشد على مجازاة هؤلاء المنافقين ، وتذكر آخر تهديد بتوجيه الكلام وتحويله من الغيبة إلى الخطاب ، والمخاطب هذه المرّة هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت :( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ) .

وإنّما لن يغفر الله لهم لأنّهم قد أنكروا الله ورسالة رسوله ، واختاروا طريق الكفر ، وهذا الإختيار هو الذي أرداهم في هاوية النفاق وعواقبه المشؤومة( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) . ومن الواضح أن هداية الله تشمل السائرون في طريق الحق وطلب الحقيقة ، أمّا الفساق والمجرمون والمنافقون فإنّ الآية تقول :( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) .

* * *

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

«لقد جئت شيئاّ إدّاً، وأمراً عظيماً! ألم أشفق عليك واُقدّمك على غيرك في العطاء، فلماذا تجازيني بهذا الجزاء؟» .

والتفت الإمام (عليه السّلام) إلى ولده الحسن (عليه السّلام) فأوصاه بالبرّ والإحسان بابن ملجم قائلاً:«يا بُني، ارفق بأسيرك وارحمه، واشفق عليه» .

فبُهر الحسن (عليه السّلام) وقال:«يا أبتاه، قتلك هذا اللعين، وفجعنا بك، وأنت تأمرنا بالرفق به!» . فأجابه الإمام (عليه السّلام) بما انطوت عليه نفسه من المُثل العليا قائلاً:«يا بُني، نحن أهل بيت الرحمة والمغفرة؛ أطعمه ممّا تأكل، واسقه ممّا تشرب، فإن أنا متّ فاقتصّ منه بأن تقتله، ولا تمثّل بالرجل؛ فإنّي سمعت جدّك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: إيّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور. وإن أنا عشت فأعلم ما أفعله به، وأنا أولى بالعفو؛ فنحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا إلاّ عفواً وكرماً» .

أيّ نفس ملائكية هذه النفس التي توصي بالبرّ والإحسان لقاتلها؟!

السيّدة اُمّ كلثوم مع ابن ملجم

وبكت السيّدة اُمّ كلثوم، وأخذت تندب أباها بأشجى ما تكون الندبة، وأكبر الظنّ أنّها العقيلة الزينب، فقالت للباغي الأثيم ابن ملجم: يا عدو الله، قتلت أمير المؤمنين! فردّ عليها الباغي الزنيم: لم أقتل أمير المؤمنين، ولكن قتلت أباك. فردّت عليه: والله، إنّي لأرجو أن لا يكون عليه بأس. فأجابها ابن ملجم بصلف وشماتة:

١٦١

فلِمَ تبكين إذاً؟ عليَّ تبكين؟! والله لقد أرهقت السيف، ونفيت الخوف، وخسئت الأجل، وقطعت الأمل، وضربته ضربة لو كانت بأهل عكاظ - وقيل: بربيعة أو مضر - لأتت عليهم. والله، لقد سممته شهراً، فإن أخلفني فأبعده سيفاً وأسحقه(١) !

لك الويل أيّها الأثيم! فقد عمدت لاغتيال أقدس إنسان بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله)، أراد أن يُقيم الحقّ ويوزّع خيرات الله في الأرض على المحرومين والمضطهدين، لقد خسرت صفقتك وبئت بغضب الله وعذابه الدائم.

العقيلة مع أبيها

وهرعت عقيلة بني هاشم السيدة زينب (عليها السّلام) إلى أبيها وهي تبكيه وتندبه، وقد ذابت نفسها حزناً وألماً، وطلبت منه أن يحدّثها بالحديث الذي سمعته من المرأة الصالحة اُمّ أيمن عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عمّا يجري عليها من الكوارث والخطوب، ولم يكن عند الإمام (عليه السّلام) قوّة على الكلام، فقال لها:«الحديث كما حدّثتك اُمّ أيمن، وكأنّي بك وبنساء أهلك سبايا بهذا البلد، أذلاّء خاشعين، تخافون أن يتخطفكم الناس، فصبراً صبراً؛ فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، ما لله على ظهر الأرض يومئذ وليّ غيركم وغير محبّيكم وشيعتكم.

ولقد قال لنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين أخبرنا بهذا الخبر: إنّ إبليس (لعنه الله) في ذلك اليوم - أي يوم قتل الحسين -يطير فرحاً، فيجول الأرض كلّها بشياطينه وعفاريته، فيقول: يا معاشر الشياطين، قد أدركنا من ذرّيّة آدم الطلبة، وبلغنا في هلاكهم الغاية، وأورثناهم النار، ألا مَنْ اعتصم بهذه العصابة فاجعلوا شغلكم بتشكيك الناس فيهم، وحملهم على عداوتهم، وإغرائهم بهم وأوليائهم حتّى تستحكم ضلالة الخلق

____________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ٢١٦، القسم الأوّل.

١٦٢

وكفرهم، ولا ينجو منهم ناج. ولقد صدّق عليهم إبليس - وهو كذوب - أنّه لا ينفع مع عداوتكم عمل صالح، ولا يضرّ مع محبّتكم وموالاتكم ذنب غير الكبائر)) (١) .

وصاياه

وجعل الإمام (عليه السّلام) وهو في الساعات الأخيرة من حياته يوصي أبناءه، وفي طليعتهم سيّدا شباب أهل الجنّة الإمام الحسن والحسين (عليهما السّلام) بمكارم الأخلاق والزهد في الدنيا.

ومن بنود وصيّته هذه الوصايا الخالدة، قال (عليه السّلام):«اُوصيكما بتقوى الله، وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شيء زُوي عنكما، وقولا للحقّ، واعملا للأجر، وكونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً.

اُوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومَنْ بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم، وصلاح ذات بينكم؛ فإنّي سمعت جدّكما (صلّى الله عليه وآله) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام.

الله الله في الأيتام فلا تغبّوا أفواههم (٢) ، ولا يضيعوا بحضرتكم. الله الله في جيرانكم؛ فإنّهم وصيّة نبيّكم، ما زال يوصي بهم حتّى ظننا أنّه سيورّثهم. والله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم. الله الله في الصلاة؛ فإنّها عمود دينكم. الله الله في بيت ربّكم لا تخلوه ما بقيتم؛ فإنّه إن تُرك لم تُناظروا - أي لم ينظر إليكم بالكرامة -.الله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله، وعليكم بالتواصل والتباذل (٣) ، وإيّاكم والتدابر والتقاطع، لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فيتولّى عليكم شرارُكم ثمّ تدعون فلا يُستجاب لكم» .

ثمّ وجّه وصيته إلى آله وذويه قائلاً:

____________________

(١) كامل الزيارات / ٢٦٦.

(٢) لا تغبوا أفواههم: أي لا تقطعوا صلتكم عنهن، وصلوا أفواههم بالطعام دوماً.

(٣) التباذل: العطاء والصلة.

١٦٣

«يا بني عبد المطلب، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون: قُتل أمير المؤمنين، قُتل أمير المؤمنين (١) ؛ألا لا تقتلنَّ بي إلاّ قاتلي. انظروا إذا أنا متّ من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا يُمثّل بالرجل؛ فإنّي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: إيّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور» (٢) .

وحفلت هذه الوصية بالقيم الخالدة التي هي من أروع ما خلّفه الأنبياء والمصلحون لاُممهم وشعوبهم.

إقامة الحسن (عليه السّلام) من بعده

وأقام الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) خليفة على المسلمين من بعده ولده الأكبر سبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الإمام الحسن (عليه السّلام)، وأجمعت الشيعة على ذلك.

وذهب بعض أهل السُنّة إلى أنّ الإمام (عليه السّلام) لم يستخلف أحداً من بعده، مستدلّين على ذلك بما رواه شعيب بن ميمون الواسطي أنّه قيل لعليّ: ألا تستخلف؟ فقال: إن يرد الله بالاُمّة خيراً يجمعهم على خيرهم. وهذه الرواية من موضوعات شعيب ومن مناكيره كما نصّ على ذلك ابن حجر(٣) .

إنّ الإمام الحسن (عليه السّلام) هو أفضل إنسان في المجتمع الإسلامي، فهو سيّد شباب أهل الجنّة، وإمام إن قام أو قعد على حدّ تعبير رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد توفّرت فيه جميع الصفات الكريمة والنزعات الرفيعة، فكيف لا يُرشّحه الإمام لهذا المنصب الخطير؟ ومَنْ هو أحقّ به منه؟!

____________________

(١) يشير بذلك إلى مصرع عثمان الذي اتّخذ الاُمويّون دمّه ورقة رابحة في سبيل أطماعهم السياسيّة.

(٢) نهج البلاغة ٣ / ٨٥.

(٣) تهذيب التهذيب ٤ / ٣٥٧.

١٦٤

الوصية الأخيرة للإمام (عليه السّلام)

أمّا الوصية الأخيرة للإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فقد روتها عقيلة بني هاشم السيّدة زينب (عليها السّلام)، قالت: كان آخر عهد أبي إلى أخوي الحسن والحسين (عليهما السّلام)، أنّه قال لهما:«يا بنيَّ، إذا أنا متّ فغسّلاني، ثمّ نشّفاني بالبردة التي نُشّف بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفاطمة (عليها السّلام)، وحنّطاني وسجّياني على سريري، ثمّ انظروا حتّى إذا ارتفع لكما مقدّم السرير فاحملا مؤخّره» (١) .

إلى جنّة المأوى

ولمّا أدلى الإمام (عليه السّلام) بوصاياه أخذ يُعاني آلام الموت وهو يتلو آيات الذكر الحكيم، ويُكثر من الدعاء والاستغفار، ولمّا دنا منه الأجل المحتوم كان آخر ما نطق به:«لمثل هذا فليعمل العاملون» (٢) . ثمّ فاضت روحه الزكية إلى جنّة المأوى.

لقد ارتفع ذلك اللطف الإلهي الذي أضاء الدنيا بعدله وعمله وكماله، فما أظلّت سماء الدنيا قطّ أفضل ولا أسمى منه ما عدا أخاه وابن عمّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

لقد مادت أركان العدل، وانطمست معالم الحقّ، ومات أبو الغرباء والبؤساء.

سيّدي أبا الحسن، لقد مضيت إلى عالم الخلود، وأنت مكدود مجهود، قد جُهل حقّك، واُبعدت عن مقامك الذي أقامك فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد تظافرت الاُسر القرشيّة على حربك، ووضعت الحواجز والسدود أمام مخطّطاتك الإصلاحية، كما فعلت مثل ذلك مع ابن عمّك رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

____________________

(١) زينب الكبرى / ٣٨.

(٢) سورة الصافات / ٦١.

١٦٥

تجهيزه ودفنه (عليه السّلام)

وقام الإمام الحسن (عليه السّلام) مع بقية إخوانه بتجهيز أبيه، فغسّلوا الجسد الطاهر وأدرجوه في أكفانه وصلّوا عليه، وفي الهزيع الأخير من الليل حملوا الجثمان المقدّس إلى مقرّه الأخير، وكانت معهم العقيلة زينب(١) وهي تذرف الدموع، وقد نخب الحزن فؤادها، ودفنوا الجثمان المعظّم في النجف الأشرف حيث مقرّه الآن كعبة للوافدين، وجامعة من أهم الجامعات في الإسلام.

لقد شاهدت السيّدة زينب الكوارث والخطوب التي أحاطت بأبيها، فملأت قلبها الزاكي أسى وحزناً، وعرفتها بما تكنّه قريش من الحقد والحسد لأبيها، وسائر أبناء الاُسرة النبويّة.

عهد الإمام الحسن (عليه السّلام)

وفي صبيحة اليوم الذي وارى فيه الإمام الحسن (عليه السّلام) جثمان أبيه انبرى إلى جامع الكوفة يحفّ به إخوته وسائر بني هاشم، وقد اكتظّ الجامع بمعظم قطعات الجيش وقادة الفرق والوجوه والأشراف، فاعتلى المنبر فابتدأ خطابه بتأبين أبيه عملاق الفكر الإسلامي، وكان تأبينه منسجماً تمام الانسجام مع سموّ شخصية أبيه؛ فقد وصفه بأبلغ وأروع ما يكون الوصف.

وصفه بهذه الكلمات الذهبية:«لقد قُبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون بعمل، ولم يُدركه الآخرون بعمل» .

ومعنى ذلك أنّ أباه نسخة فريدة لا مثيل لها في تأريخ الإنسانيّة في جميع الأزمان والآباد؛ فإنّ من المحقّق أنّه ليس في ميدان الإصلاح الاجتماعي والسياسي زعيم كالإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في نزاهته وتجرّده من جميع النزعات المادية؛ فقد

____________________

(١) زينب الكبرى / ٣٨.

١٦٦

تقلّد زمام الحكم وكان معظم الشقّ خاضعاً لحكمه، وكانت الأموال تُجبى له كالسيل فلم يؤثر نفسه وأهله بشيء منها، ولم يخلّف صفراء ولا بيضاء سوى سبعمئة درهم كان قد ادّخرها من راتبه ليشتري بها عبداً يستعين به أهله في حاجاتهم إلاّ أنّه عدل عن ذلك، وأمر ولده الحسن (عليه السّلام) بإرجاعها إلى بيت المال، كما أعلن ذلك الإمام الحسن (عليه السّلام) في خطابه.

استمعوا له، قال (عليه السّلام):«وما خلّف صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمئة درهم فضلت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله، وقد أمرني أن أردّها إلى بيت المال» .

وكان ذلك حقّاً هو منتهى السموّ والعظمة، ومنتهى التجرّد عن الدنيا والزهد في جميع مظاهرها وملاذّها.

ولمّا أنهى الإمام الحسن (عليه السّلام) خطابه الرائع بايعه الجمهور، وكانوا أصنافاً، وهم:

١ - قادة الفرق والزعماء، وهؤلاء كان معظمهم مع معاوية؛ فقد استمالهم بأمواله وذهبه، ووعدهم بالمناصب العالية إن انضموا إليه.

٢ - الخوارج، وهم من ألدّ أعدائه وأعداء أبيه، وكانوا يكيدون له في وضح النهار وغلس الليل.

٣ - المؤمنون من شيعته ممّن عرفوا حقّه، ودانوا له بالولاء والطاعة، وهم قلّة قليلة.

وعلى أيّ حال، فقد علم معاوية ما مُني به جيش الإمام الحسن (عليه السّلام) من الضعف والانحلال والتمرّد على قيادته، فكتب إلى الإمام (عليه السّلام) يستنجزه الحرب، وزحف بجيوشه الذين تسودهم الطاعة والإخلاص له، فانتهى إلى المدائن فعسكر فيها.

ولمّا اُذيع ذلك سرت أوبئة الرعب والخوف في نفوس جيش الإمام (عليه السّلام)، وقد دعاهم إلى مناجزة معاوية فلم يستجب له سوى بعض المؤمنين من أصحابه، وجعل يستحثّ الناس على الخروج لحرب معاوية، وبعد جهد شاق خرج معه أخلاط من الناس - على حدّ تعبير الشيخ المفيد - متباينون في أفكارهم وميولهم، وأخذوا

١٦٧

يجدّون في السير لا يلوون على شيء حتّى انتهوا إلى المدائن فعسكروا فيها.

حوادث رهيبة

ومُني الإمام الحسن (عليه السّلام) بحوادث مروّعة حينما كان في مسكن، كان من أقساها وأفجعها ما يلي:

١ - خيانة القائد العام

وكان عبيد الله بن العباس قائداً لجميع القوات المسلّحة في جيش الإمام (عليه السّلام)، ولمّا تيقّن أنّ الدنيا قد تنكّرت للإمام انحرف عنه ومال إلى معسكر معاوية بعد أن تسلّم الرشوة منه، وقد اضطرب جيش الإمام (عليه السّلام) وماج بالفتن، وكانت خيانته من أفجع النكبات التي مُني بها الإمام (عليه السّلام).

٢ - تسلل الوجوه إلى معاوية

وتسلّل الوجوه والأشراف في جيش الإمام (عليه السّلام) إلى معاوية بعد أن تسلّموا منه الأموال.

٣ - خيانة ثمانية آلاف

والتحق بمعسكر معاوية ثمانية آلاف جندي مع قادتهم، وأكبر الظنّ أنّهم من أتباع الخائن العميل الأشعث بن قيس، وقد بان الانكسار والضعف بجيش الإمام (عليه السّلام) بعد خيانة هذا العدد الكبير منهم.

٤ - خيانة ربيعة

وتعتبر قبائل ربيعة العمود الفقري في جيش الإمام (عليه السّلام)؛ فقد أقبل زعيمها خالد بن معمر إلى معاوية فقال له: اُبايعك عن ربيعة كلّها. فبايعه على ذلك.

وفيه يقول الشاعر مخاطباً معاوية:

معاوي أكرم خالدَ بن معمّرٍ = فإنّك لولا خالدٌ لم تؤمّرِ

ولمّا انتهى الخبر إلى الإمام الحسن (عليه السّلام) انهارت قواه، واتّجه صوب الجيش

١٦٨

فقال لهم:«يا أهل العراق، أنتم الذين أكرهتم أبي على القتال والحكومة ثمّ اختلفتم عليه، وقد أتاني أنّ أهل الشرف منكم قد أتوا معاوية فبايعوه، فحسبي منكم! لا تغرّوني في نفسي وديني» (١) .

وكذلك بايع معاوية سرّاً عثمان بن شرحبيل زعيم بني تميم(٢) .

٥ - نهب أمتعة الإمام (عليه السّلام)

وعمدت تلك العصابة التي انمحت عن نفوسها جميع أفانين الشرف والكرامة إلى نهب أمتعة الإمام (عليه السّلام) وأجهزته، وأكبر الظنّ أنّ للخوارج ضلعاً كبيراً في هذه الجريمة.

٦ - محاولة اغتيال الإمام (عليه السّلام)

ولم تقف محنة الإمام الحسن (عليه السّلام) في جيشه عند حدّ؛ فقد عظم بلاؤه إلى أكثر من ذلك؛ فقد قدم المرتشون والخوارج على اغتياله وذلك في عدّة محاولات، وهي:

١ - إنّه كان يصلّي فرماه شخص بسهم

٢ - طعنه الجرّاح بن سنان في فخذه

٣ - طعنه بخنجر في أثناء الصلاة

واتّضحت للإمام (عليه السّلام) بعد هذه الاعتداءات الصارخة على حياته أنّه ليس عنده جيش يركن إليه لمناجزة معاوية.

٧ - الحكم عليه بالكفر

ومن بين المحن الشاقة التي امتحن بها الإمام الحسن (عليه السّلام) أنّ بعض العناصر في جيشه حكموا عليه بالشرك والإلحاد، وأكبر الظنّ أنّهم الخوارج الذين لا نصيب لهم

____________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ٢٢٣، القسم الأوّل.

(٢) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ٢ / ١٢٧.

١٦٩

من الإيمان والإسلام.

وعلى أيّ حال، فقد انبرى الجرّاح بن سنان نحو الإمام وهو رافع صوته قائلاً: أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل!

إنّ مجتمعاً يضمّ أمثال هؤلاء الأوغاد لهو مجتمع غير سليم.

ضرورة الصلح

ودرس الإمام الحسن (عليه السّلام) الموقف من جميع جوانبه ووجوهه، ورأى أنّه بين محذورين؛ وهما:

الأول: أن يناجز معاوية ويفتح معه باب الحرب، وهذا ما يطلبه ويبغيه لإنقاذ العالم الإسلامي من هذا العدو الظالم الذي يكيد له في الليل إذا يغشى، وفي النهار إذا تجلّى؛ فحربه أمر لازم وضروري، ولكن ذلك لا سبيل له، ولا تساعده الحكمة وعمق النظر؛ وذلك لما يلي:

١ - إنّه ليس عند الإمام (عليه السّلام) قوّة عسكرية يستطيع أن يخوض بها الحرب؛ فإنّ الأكثرية الساحقة من جيشه قد استجابت لمعاوية، وآثرت السلم والعافية.

٢ - إنّ معاوية قد أرشى معظم قادة الفرق في جيش الإمام (عليه السّلام)، فصاروا طوع إرادته، وضمنوا إنجاز ما يريد من اغتيال الإمام (عليه السّلام) أو تسليمه له أسيراً.

٣ - إنّ من المؤكد أنّ معاوية هو الذي ينجح في الحرب - حسب الفنون العسكريّة - فإذا استشهد الإمام (عليه السّلام) فإنّه لا يستشهد وحده، وإنّما يستشهد معه جميع أفراد اُسرته وخلّص شيعته، ولا تستفيد القضية الإسلاميّة من تضحيتهم شيئاً؛ فإنّ دهاء معاوية وما يتمتّع به من وسائل المكر والخداع يجعل تبعة ذلك على الإمام (عليه السّلام)، وبذلك يخسر العالم الإسلامي أهم رصيد روحي وفكري.

٤ - إنّ الإمام إذا لم يستشهد واُخذ أسيراً لمعاوية، فإنّ من المحقّق أنّه يمنّ عليه ويوصمه مع بقية أهل البيت (عليهم السّلام) بالطلقاء، ويسجّل له بذلك يداً على العلويِّين،

١٧٠

ويمحو عنه وعن الاُمويِّين وصمة الطلقاء التي أسداها عليهم النبي (صلّى الله عليه وآله) حينما فتح مكة.

الثاني: أن يصالح معاوية على ما في الصلح من قذى العين وشجى الحلق، وهذا هو المتعيّن في عرف السياسة وقوانين الحكمة، وله مرجّحاته الواقعية والظاهرية التي أشرنا إليها.

وكان من أعظم فوائد الصلح ومن أهم ثمراته إبراز الواقع الاُموي الذي خفي على المسلمين؛ فقد تظاهر الاُمويِّين بالإسلام، وأشاعوا أنّهم حماة الدين، وأقرب الناس إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) وأمسّهم رحماً به، وبعد الصلح انكشف زيفهم، وظهر واقعهم الجاهلي؛ فقد تفجّرت سياسة معاوية بكلّ ما خالف كتاب الله وسنّة نبيّه؛ فقد أعلن بعد الصلح مباشرة أمام الحشود فخاطب أهل العراق قائلاً: إنّي ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتزكّوا ولا لتحجّوا وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم وقد أعطاني الله ذلك، وإنّي قد أعطيت الحسن بن عليّ شروطاً لا أفي بواحد منها وها هي تحت قدمي.

ولو لم يكن للصلح من فائدة إلاّ إبراز حقيقة معاوية وتجريده من كلّ إطار ديني لكفى؛ فقد أبرز معاوية واقعه بهذا الخطاب، فهو لم يُقاتل أهل العراق من أجل الطلب بدم عثمان، ولا من أجل ظاهرة إسلاميّة، وإنّما قاتلهم من أجل الإمرة والسلطان، ولو كان يملك ذرّة من الشرف والكرامة لما فاه بذلك، ولما أعلن نقضه للعهود والمواثيق التي أعطاها للإمام الحسن (عليه السّلام).

وعلى أيّ حال، فإنّا قد بسطنا القول بصورة موضوعية وشاملة في بيان ضرورة الصلح، وإنّه هو المتعيّن على الإمام (عليه السّلام) شرعاً وسياسة في كتابنا (حياة الإمام الحسن (عليه السّلام))، كما استوفينا البحث من الشروط التي شرطها الإمام (عليه السّلام) على معاوية والتي لم يفِ بشيء منها، فمَنْ أراد الإلمام بهذه البحوث عليه بمراجعة هذا الكتاب.

١٧١

السفر إلى يثرب

وأخذ الإمام الحسن (عليه السّلام) يتهيّأ للسفر إلى يثرب، ويترك البلد الذي خذله وخذل أباه من قبل، ولمّا تمّت وسائل النقل خرج أهل الكوفة إلى توديعه وهم ما بين باك وآسف يندبون حظّهم التعيس؛ فقد أصبحت بلدهم مصراً من الأمصار بعد أن كانت عاصمة الدولة الإسلاميّة، وأصبحت القطع السورية من الجيش تدخل مصرهم وتسيطر عليهم، ويُقام في بلدهم حكم إرهابي لا يعرف الرحمة ولا الرأفة.

وعلى أيّ حال، فقد انتهى الإمام (عليه السّلام) إلى يثرب فخفّ أهلها إلى استقباله؛ فقد أقبل إليهم الخير وحلّت في ديارهم السعادة.

وعلى أيّ حال، فقد أفلت دولة الحقّ وقامت على أنقاضها دولة الباطل، وكان ذلك من أعظم النكبات التي عانتها حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وعقيلة بني هاشم السيّدة زينب، فكانت عالمة بمجريات الأحداث ونتائجها التي كان منها ما عانته من الرزايا والخطوب في كربلاء.

١٧٢

حكومة معاوية

واستقبل المسلمون حكومة معاوية بكثير من الوجوم والقلق والاضطراب واعتبروها نكسة للإسلام، ونصراً حاسماً للقوى المعادية له والحاقدة عليه، وفي طليعتها الاُسرة الاُمويّة ومَنْ شايعها من القبائل القرشيّة؛ فقد انتعشت الأفكار الجاهليّة وعادت لها الحياة من جديد، وانطوت الديمقراطية الإسلاميّة وما تنشده من التقدّم والتطوّر للإنسان في مجالاته الاجتماعيّة والاقتصادية والسياسيّة.

يقول السيد مير علي الهندي: ومع ارتقاء معاوية الخلافة في الشام عاد حكم التوليغارشية الوثنية السابقة، فاحتلّ موقع ديمقراطية الإسلام، وانتعشت الوثنية بكلّ ما يرافقها من خلاعات، وكأنّها بُعثت من جديد، كما وجدت الرذيلة والتبذّل الخُلقي لنفسها متّسعاً في كلّ مكان ارتادته رايات حكم الاُمويِّين من جند الشام(١) .

لقد وقعت الاُمّة فريسة تحت أنياب معاوية فساسها سياسة سوداء تفجّرت بكلّ ما خالف كتاب الله وسنّة نبيّه، فأشاع فيها البؤس والحرمان والقتل والدمار.

ونعرض - بإيجاز - لبعض نزعاته وصورة عن سياسته:

عداؤه للنبيّ (صلّى الله عليه وآله)

وورث معاوية عداءه للرسول (صلّى الله عليه وآله) من أبيه أبي سفيان الذي هو من ألدّ أعدائه

____________________

(١) روح الإسلام / ٢٩٦.

١٧٣

وخصومه، وقد ناجزه الحرب في بدر واُحد وغيرهما، وقد حاول جاهداً أن يلفّ لواء الإسلام ويُطفئ نور الله، ولكنّ الله تعالى ردّ كيده ونصر رسوله وأعزّ جنده.

وأمّا اُمّ معاوية فهي الباغية هند، وهي التي عُرفت بالعداء العارم للاُسرة العلوية، وهي التي حرّضت وحشيّاً على قتل سيّد الشهداء حمزة فقتله، وبعد قتله مثّلت به شرّ تمثيل.

ولا يقلّ معاوية في عدائه للنبيّ (صلّى الله عليه وآله) عن أبويه؛ فقد اُترع بالكراهية والبغض له، وكان من حقده له أنّه سمع المؤذّن يؤذّن: أشهد أنّ محمداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فلم يملك إهابه واندفع قائلاً: لله أبوك يابن عبد الله! لقد كنت عالي الهمّة، ما رضيت لنفسك إلاّ أن يُقرن اسمك باسم ربّ العالمين(١) .

وكان من حقده على النبي (صلّى الله عليه وآله) ما حدّث به مطرف بن المغيرة و قال: وفدت مع أبي على معاوية، فكان يتحدّث عنده ثم ينصرف إليّ وهو يذكر معاوية وعقله، ويعجب بما يرى منه. وأقبل ذات ليلة وهو غضبان، فأمسك عن العشاء، فانتظرته ساعة وقد ظننت أنّه شيء حدث فينا أو في عملنا، فقلت له: ما لي أراك مغتماً هذه الليلة؟

- يا بُني، جئتك من أخبث الناس.

- ما ذاك؟

- خلوت بمعاوية فقلت له: إنّك قد بلغت مُناك يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلاً، وبسطت خيراً؛ فإنّك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه.

فثار معاوية وقال:

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٠ / ١٠١.

١٧٤

هيهات، هيهات! ملك أخو تيم فعدل، وفعل ما فعل، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل: أبو بكر، ثمّ ملك أخو عدي فاجتهد وعمره عشر سنين، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل: عمر، ثمّ ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه، فعمل به ما عمل، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، وإنّ أخا هاشم يصرخ به في كلّ يوم خمس مرّات أشهد أنّ محمّداً رسول الله، فأيّ عمل يبقى بعد هذا - لا اُمّ لك - إلاّ دفناً دفناً؟!(١)

وتحكي هذه البادرة مدى حقده وبغضه للنبي (صلّى الله عليه وآله)، وأنّه يسعى جاهداً لمحو ذكره وإطفاء نوره.

بغضه لآل النبيّ (صلّى الله عليه وآله)

وكان معاوية من أبغض الناس وأحقدهم على آل النبي (صلّى الله عليه وآله)، وقد قام بما يلي:

١ - ستر فضائلهم

وأوعز معاوية إلى جميع عمّاله وولاته بستر فضائل آل النبي (صلّى الله عليه وآله) وحجبها عن الناس، وقد حجّ بيت الله الحرام بعد عام الصلح، فقام إليه جماعة من الناس سوى ابن عباس، فبادره معاوية قائلاً: يابن عباس، ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلاّ لموجدة عليّ بقتالي إيّاكم يوم صفّين. يابن عباس، إنّ ابن عمّي عثمان قُتل مظلوماً.

فردّ عليه ابن عباس: فعمر بن الخطاب قُتل مظلوماً، فسلّم الأمر إلى ولده؟ وهذا ابنه - وأشار إلى عبد الله بن عمر -.

فأجابه معاوية:

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٩٧.

١٧٥

إنّ عمر قتله مشرك.

فانبرى ابن عباس قائلاً: فمَنْ قتل عثمان؟

- قتله المسلمون.

وامسك ابن عباس بزمامه قائلاً: فذلك أدحض لحجّتك؛ إن كان المسلمون قتلوه وخذلوه فليس إلاّ بحقّ.

ووجم معاوية ثمّ قال: إنّا كتبنا إلى الآفاق ننهى عن ذكر مناقب عليّ وأهل بيته، فكفّ لسانك يابن عباس.

فأجابه ابن عباس ببليغ منطقه: أفتنهانا عن قراءة القرآن؟

- لا.

- أفتنهانا عن تأويله؟

- نعم.

- فنقرأه ولا نسأل عمّا عنى الله به؟

- نعم.

- فأيّهنّ أوجب علينا قراءته أو العمل به؟

- العمل به.

- فكيف نعمل به حتّى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا؟

- سل عن ذلك مَنْ يتأوّله على غير ما تتأوّله أنت وأهل بيتك.

- إنّما نزل القرآن على أهل بيتي، فأسأل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط؟

- فاقرؤوا القرآن، ولا ترووا شيئاً ممّا أنزل الله فيكم، وممّا قاله رسول الله فيكم، وارووا ما سوى ذلك.

١٧٦

وسخر منه ابن عباس، وتلا قوله تعالى:( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (١) .

وصاح به معاوية: اكفف نفسك، وكفّ عنّي لسانك، وإن كنت فاعلاً فليكن سرّاً، ولا تسمعه أحداً علانية.

لقد جهد معاوية في ستر فضائل أهل البيت (عليهم السّلام) ومحو ذكرهم حتّى لا يبقى لهم أيّ رصيد شعبي في الأوساط الإسلاميّة.

٢ - اضطهاد الشيعة

واضُطهدت الشيعة اضطهاداً مريراً وقاسياً في أيام معاوية؛ فقد انتقم منهم كأقسى وأشدّ ما يكون الانتقام، وكان ما عانوه منه لا يُوصف لشدّة قسوته ومرارته.

وهذه صورة موجزة لما عانوه:

أ - القتل الجماعي

وعهد معاوية إلى الجلاّدين من شرطته بقتل الشيعة وإبادتهم؛ فقتل المجرم بسر بن أرطأة بعد التحكيم ثلاثين ألفاً عدا مَنْ أحرقهم بالنار(٢) ، وقتل سمرة بن جندب ثمانية آلاف من أهل البصرة(٣) ، وأمّا زياد ابن أبيه فقد اقترف أفظع الجرائم؛ فقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وأنزل بالشيعة جميع صنوف العذاب.

كما صفّى معاوية جميع العناصر الواعية من الشيعة، وكان منهم:

____________________

(١) سورة التوبة / ٣٢.

(٢) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ٢ / ٣٤٣.

(٣) شرح نهج البلاغة ٢ / ٦.

١٧٧

١ - حجر بن عدي وجماعته

٢ - عمرو بن الحمق الخزاعي

٣ - رشيد الهجري

٤ - أوفى بن حصن

٥ - عبد الله الحضرمي وجماعته

٦ - جويرية العبدي

٧ - عبد الرحمن العنزي

٨ - صيفي بن فسيل.

وقد ذكرنا بصورة مفصّلة كيفية شهادتهم، وما لاقوه من التنكيل من معاوية؛ لمحبّتهم لأهل البيت (عليهم السّلام).

ب - ترويع النساء

وروّع معاوية جمهرة من سيّدات نساء الشيعة، كان من بينهنّ:

١ - الزرقاء بنت عدي

٢ - اُمّ الخير البارقية

٣ - سودة بنت عمارة

٤ - اُمّ البراء بنت صفوان

٥ - بكارة الهلالية

٦ - أروى بنت الحارث

٧ - عكرشة بنت الأطرش

٨ - الدرامية الحجونية

لقد لاقين هذه السيّدات التوهين والتقريع والترويع من معاوية؛ لولائهنّ لأهل البيت (عليهم السّلام).

١٧٨

جـ - هدم دور الشيعة

وأوعز معاوية إلى عمّاله بهدم دور الشيعة فقاموا بهدمها(١) ، وتركوهم بلا مأوى يأوون إليه.

د - حرمان الشيعة من العطاء

وكتب معاوية إلى عمّاله نسخة واحدة بحرمان الشيعة من العطاء، وهذا نصها: وانظر إلى مَنْ قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ عليّاً وأهل بيته فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه(٢) .

وقام عملاؤه بالفحص في سجلاتهم، فمَنْ وجدوه يتعاطف مع أهل البيت (عليهم السّلام) محوا اسمه، وأسقطوا عطاءه.

هـ - رفض شهادة الشيعة

وعمد معاوية إلى إذلال الشيعة وتجريحهم فأوعز إلى ولاته بعدم قبول شهادة الشيعة في دور القضاء وغيره(٣) ؛ مبالغة في التوهين بهم.

و - إبعاد الشيعة إلى خراسان

ومن الإجراءات القاسية التي اتّخذها زياد بن أبيه عمدة ولاة معاوية، وأخوه اللاّشرعي ضدّ شيعة أهل البيت (عليهم السّلام)، وكسر شوكتهم أنّه أجلى خمسين ألفاً منهم من الكوفة إلى خراسان، المقاطعة الشرقية في فارس(٤) .

وقد عمل المبعدون على نشر التشيّع

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ١١ / ٤٤.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ٢ / ١٧٨.

(٤) تاريخ الشعوب الإسلاميّة ١ / ١٤٧.

١٧٩

في تلك البلاد حتّى تحوّلت إلى جبهة قوية للمعارضة ضدّ الحكم الاُموي، وقد استغلّها أبو مسلم الخراساني فجنّدها وحارب بها الاُمويِّين حتّى أطاح بدولتهم.

هذه بعض الإجراءات الرهيبة التي اتّخذها معاوية ضدّ الشيعة، وهي تمثّل مدى حقده وعدائه لأهل البيت (عليهم السّلام).

أمّا البحث عن نزعاته الشريرة وسائر أعماله المجافية لروح الإسلام والقانون فقد ذكرناها بصورة مفصّلة في الجزء الثاني من كتابنا (حياة الإمام الحسن (عليه السّلام)) فلا حاجة لذكرها.

اغتيال الإمام الحسن (عليه السّلام)

وأكبر موبقة اقترفها معاوية ضدّ الإسلام والمسلون اغتياله لسبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الإمام الحسن (عليه السّلام)، الذي أعطاه عهداً بأن تكون الخلافة له من بعده إلاّ أنّه خان بعهده، وراح يُنشئ دولة اُمويّة تنتقل بالوراثة إلى أبنائه وأعقابه.

وقد وصفه (الميجر أوزبورن) بأنّه مخادع، وذو قلب خال من كلّ شفقة، وأنّه كان لا يتهيّب من الإقدام على أيّة جريمة من أجل أن يضمن مركزه؛ فالقتل إحدى وسائله لإزالة خصومه، وهو الذي دبّر تسميم حفيد الرسول (صلّى الله عليه وآله)، كما تخلّص من مالك الأشتر قائد عليّ بنفس الطريقة(١) .

واستعرض الطاغية السفّاك المجرمين ليعهد إلى أخسّهم باغتيال ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فلم يجد أحداً خليقاً باقتراف هذه الجريمة سوى جعدة بنت الأشعث، فهي من بيت جُبل على الجريمة، وطُبع على الغدر والخيانة؛ فأرسل إلى مروان بن الحكم سمّاً فاتكاً كان قد جلبه من ملك الروم، وأمره بإغراء جعدة بالأموال وزواج ولده يزيد إن استجابت له، وعرض عليها مروان ذلك فاستجابت له،

____________________

(١) روح الإسلام / ٢٩٥.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343