السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام11%

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 343

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 186874 / تحميل: 8255
الحجم الحجم الحجم
السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

واستجاب يزيد لرأي مستشار أبيه، فعهد بولاية الكوفة إلى ابن زياد.

ولاية ابن زياد على الكوفة

وكان يزيد ناقماً على ابن زياد، وأراد عزله عن ولاية البصرة(١) ؛ وذلك لموقف أبيه زياد من يزيد؛ فقد عذل أباه معاوية عن ترشيحه للخلافة من بعده.

وعلى أيّ حال، فقد عهد يزيد بولاية البصرة والكوفة إلى ابن زياد، وبذلك فقد خضع العراق بأسره لحكمه، وكتب إليه ما يلي: أمّا بعد، فقد كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتّى تثقفه فتوثقه، أو تقتله أو تنفيه، والسّلام(٢) .

وبعث إليه برسالة اُخرى يطلب فيها الإسراع منه إلى الكوفة، وقد جاء فيها: إن كان لك جناحان فطر إلى الكوفة(٣) .

وحمل رسالة يزيد مسلم بن عمرو الباهلي إلى ابن زياد، وأخذ يجدّ في السير حتّى انتهى إلى البصرة، فسلّم الرسالة إلى ابن زياد وقد طار فرحاً؛ فقد تمّ له الحكم على جميع العراق بعدما كان مهدّداً بالعزل عن ولاية البصرة.

ابن زياد في الكوفة

وسار ابن زياد إلى الكوفة وقد قطع الطريق بسرعة خاطفة فكان يسير ليلاً ونهاراً؛ مخافة أن يسبقه الحسين إليها، وقد صحب معه خمسمئة رجل من أهل البصرة كان

____________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٥٢.

(٢) حياة الإمام الحسين (عليه السلام) ٢ / ٣٥٤.

(٣) سير أعلام النبلاء ٣ / ٢٠١.

٢٠١

فيهم شريك بن الأعور الحارثي، وهو من خلّص أصحاب الإمام الحسين (عليه السّلام)(١) .

وقد لبس ثياباً يمانية وعمامة سوداء ليوهم مَنْ رآه أنّه الحسين (عليه السّلام)، ودخل الكوفة ممّا يلي النجف، وأسرع نحو قصر الإمارة وهو فزع مذعور؛ مخافة أن يعرفه الناس، وساءه كأشدّ ما يكون الاستياء من تباشير الناس بقدومه ظانّين أنّه الحسين (عليه السّلام).

وانتهى ابن مرجانة إلى باب القصر فوجده مغلقاً، والنعمان بن بشير حاكم الكوفة قد أشرف من أعلى القصر، وقد توهّم أنّ القادم هو الحسين (عليه السّلام)؛ لأنّ أصوات الجماهير قد تعالت بالترحيب به والهتاف بحياته.

فانبرى مخاطباً له: ما أنا بمؤدّ إليك أمانتي يابن رسول الله، وما لي في قتالك من إرب.

ولمس ابن مرجانة الضعف والانهيار في كلام النعمان، فصاح به: افتح لا فتحت! فقد طال ليلك. ولمّا تكلّم عرفه الناس، فصاحوا: إنّه ابن مرجانة وربّ الكعبة! وجفل الناس وخافوا وهربوا مسرعين إلى دورهم.

وبادر ابن زياد في ليلته فاستولى على المال والسلاح، وأنفق ليله ساهراً قد جمع حوله عملاء الحكم الاُموي، وهم يحدّثونه عن الثورة ويعرّفونه بأعضائها البارزين، ويضعون أمامه المخطّطات الرهيبة للقضاء عليها.

وقام ابن زياد في الصباح الباكر فأمر عملاءه بجمع الناس في المسجد الأعظم، فاجتمعت الجماهير الحاشدة وقد خيّم عليها الذعر والخوف، وخرج ابن زياد متقلّداً سيفه، ومعتمّاً بعمامة، فاعتلى المنبر وخطب الناس.

وكان من جملة خطابه: أمّا بعد، فإنّ أمير المؤمنين يزيد - أصلحه الله - ولاّني مصركم وثغركم وفيئكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم، وإعطاء محرومكم، والإحسان إلى سامعكم

____________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ١٩٩.

٢٠٢

ومطيعكم، وبالشدّة على مريبكم، فأنا لمطيعكم كالوالد البارّ الشفيق، وسيفي وسوطي على مَنْ ترك أمري وخالف عهدي، فليبق امرؤ على نفسه، الصدق يُنبئ عنك لا الوعيد(١) .

وقام بنشر الإرهاب وإشاعة الخوف بين الناس، ويقول بعض المؤرّخين: إنّه لمّا أصبح ابن زياد - بعد قدومه إلى الكوفة - صال وجال، وأرعد وأبرق، وأمسك جماعة من أهل الكوفة فقتلهم في الساعة(٢) .

وفي اليوم الثاني أمر بجمع الناس وخرج إليهم بزيّ غير ما كان يخرج به، فخطب خطاباً عنيفاً تهدّد فيه وتوعد، وقال: أمّا بعد، فإنّه لا يصلح هذا الأمر إلاّ في شدّة من غير عنف، ولين من غير ضعف، وأن آخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب، والولي بالولي.

فردّ عليه رجل من أهل الكوفة يُقال له أسد بن عبد الله المرّي قائلاً: أيّها الأمير، إنّ الله تبارك وتعالى يقول:( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ، إنّما المرء بجده، والفرس بشدّه، وعليك أن تقول وعلينا أن نسمع، فلا تقدم فينا السيّئة قبل الحسنة.

واُفحم ابن زياد، فنزل عن المنبر ودخل قصر الإمارة(٣) .

مسلم في بيت هانئ

وبعدما كان مسلم في بيت المختار اضطر إلى تغيير مقرّه؛ فقد شعر بالخطر الذي داهمه بقدوم الطاغية ابن مرجانة، فهو يعلم أنّ هذا الوغد لا يتحرّج من اقتراف أيّ جريمة في سبيل الوصول إلى أهدافه.

____________________

(١) مقاتل الطالبيّين / ٩٧.

(٢) الفصول المهمّة / ١٩٧.

(٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ١٦٠.

٢٠٣

والتجأ مسلم إلى دار الزعيم الكبير زعيم الكوفة هانئ بن عروة فهو سيّد مراد، وعنده من القوّة ما يضمن حماية مسلم، فاتّخذ داره معقلاً للثورة ومركزاً للدعوة، وقد قابله هانئ بمزيد زائد من الحفاوة والتكريم، وأخذ الكوفيون يتوافدون على مسلم زرافات ووحداناً، وهم يلحّون عليه أن يكتب إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) بالمجيء إليهم.

التجسّس على مسلم (عليه السّلام)

وأوّل بادرة وأخطرها قام بها ابن زياد هي التجسّس على مسلم (عليه السّلام)، ومعرفة نشاطاته السياسيّة، والوقوف على نقاط القوّة والضعف عنده.

وقد اختار للقيام بهذه المهمّة معقلاً مولاه، وكان فطناً ذكياً، فأعطاه ثلاثة آلاف درهم وأمره أن يتّصل بالشيعة ويعرّفهم أنّه من أهل الشام، وأنّه من موالي ذي الكلاع الحميري، وإنّما أمره بالانتساب للموالي؛ لأنّ الصبغة السائدة لهم هي الولاء لأهل البيت (عليهم السّلام)، وقال له: إذا التقيت بأحد من الشيعة فقل له: إنّه ممّن أنعم الله عليه بحبّ أهل البيت، وقد سمع أنّه قدم رجل منهم إلى الكوفة يدعو للإمام الحسين، وعنده مال يريد أن يلقاه ليوصله إليه حتّى يستعين به على حرب عدوّه.

ومضى معقل في مهمّته، فدخل الجامع الأعظم وجعل يسأل عمّن له معرفة بمسلم، فأرشدوه إلى مسلم بن عوسجة، وهو من ألمع شخصيات الشيعة في الكوفة، فانبرى إليه يُظهر الإخلاص والولاء لأهل البيت (عليهم السّلام) قائلاً: إنّي أتيتك لتقبض منّي هذا المال، وتدلّني على صاحبك لاُبايعه، وإن شئت أخذت بيعتي قبل لقائي إيّاه.

وخدع مسلم بقوله، فقال له: لقد سرّني لقاؤك إيّاي لتنال الذي تنال، والذي تحبّ، وينصر الله بك أهل نبيّه، وقد ساءني معرفة الناس إيّاي من قبل أن يتمّ؛ مخافة هذا الطاغية وسطوته. ثمّ أخذ منه البيعة والمواثيق المغلّظة على النصيحة

٢٠٤

وكتمان الأمر(١) .

وفي اليوم الثاني أدخله على مسلم، فبايعه وأخذ منه المال وأعطاه إلى أبي ثمامة الصائدي، وكان موكّلاً بقبض المال ليشتري به السّلاح والكلاع.

وكان هذا الجاسوس الخطير معقل أوّل داخل على مسلم وآخر خارج منه، وقد أحاط بجميع أسرار الثورة، ونقلها إلى ابن زياد حتّى وقف على جميع مخطّطات الثورة وأعضائها.

اعتقال هانئ

وعرف ابن زياد أنّ أهم أعضاء الثورة هانئ بن عروة الزعيم الكبير، وفي بيته مسلم بن عقيل، فأرسل وفداً خلفه كان منهم حسّان بن أسماء بن خارجة زعيم فزارة، ومحمّد بن الأشعث زعيم كندة، وعمرو بن الحجّاج وهو من زعماء مذحج، ولمّا التقوا به قالوا له: ما يمنعك من لقاء الأمير؛ فإنّه قد ذكرك وقال: لو علم أنّه شاكٍ لعدته.

فاعتذر لهم وقال: الشكوى تمنعني. فلم يقنعوا بذلك، وأخذوا يلحّون عليه في زيارته، فاستجاب لهم على كره وسار معهم، فلمّا كان قريباً من القصر أحسّت نفسه بالشرّ، فقال لحسان بن أسماء: يابن الأخ، إنّي والله لخائف من هذا الرجل، فما ترى؟

فقال له حسان: يا عمّ، والله ما أتخوّف عليك شيئاً، ولم تجعل على نفسك سبيلاً. وأخذ القوم يلحّون عليه بمقابلة ابن مرجانة فاستجاب لهم، ولمّا مثل أمامه استقبله ابن مرجانة بعنف، وقال له: أتتك بخائن رجلاه.

وذعر هانئ فقال له:

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦٩.

٢٠٥

ما ذاك أيها الأمير؟

فصاح به الطاغية: إيه يا هانئ! ما هذه الأمور التي تتربّص في دارك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك، وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك، وظننت أنّ ذلك يخفى عليّ؟

فأنكر هانئ وقال: ما فعلت ذلك، وما مسلم عندي.

- بلى، قد فعلت.

وطال النزاع واحتدم الجدال بينهما، فرأى ابن زياد أن يحسم النزاع، فدعا الجاسوس معقلاً، فلمّا مثل أمامه قال لهانئ: أتعرف هذا؟

- نعم.

وأسقط ما في يدي هانئ، وأطرق برأسه إلى الأرض، ولكن سرعان ما سيطر على الموقف، فقال لابن مرجانة: قد كان الذي بلغك، ولن أضيع يدك عندي(١) ؛ تشخص لأهل الشام أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم؛ فإنّه جاء حقّ مَنْ هو أحقّ من حقّك وحقّ صاحبك(٢) .

وثار ابن زياد فرفع صوته: والله، لا تفارقني حتّى تأتيني به - أي بمسلم -.

وسخر منه هانئ، وردّ عليه: لا آتيك بضيفي أبداً.

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١.

(٢) مروج الذهب ٣ / ٧.

٢٠٦

وطال الجدال بين هانئ وبين ابن مرجانة، فانبرى مسلم بن عمر الباهلي وهو من خدام السلطة إلى ابن زياد طالباً منه أن يتخلّى بهانئ ليقنعه، فسمح له بذلك، فاختلى به وقال له: يا هانئ، اُنشدك الله أن لا تقتل نفسك وتدخل البلاء على قومك؛ إنّ هذا الرجل - يعني مسلماً - ابن عمّ القوم، وليسوا بقاتليه ولا ضائريه، فادفعه إليه، فليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة، إنّما تدفعه إلى السلطان.

ولم يحفل هانئ بهذا المنطق الرخيص؛ فهو على علم لا يخامره شكّ أنّ ابن زياد لو ظفر بمسلم لقطّعه إرباً، ومن الطبيعي أنّ ذلك يعود بالعار والخزي على هانئ، فكيف يسلّم وافد آل محمّد إلى هذا الإنسان الممسوخ؟

وقال هانئ: بلى والله، عليَّ في ذلك أعظم العار أن يكون مسلم في جواري وضيفي وهو رسول ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنا حيّ صحيح الساعدين، كثير الأعوان، والله لو لم أكن إلاّ وحدي لمّا سلّمته أبداً.

وحفل كلام هانئ بمنطق الأحرار الذين وهبوا حياتهم للمُثل العليا والقيم الكريمة. ولمّا يئس الباهلي من هانئ قال لابن زياد: أيّها الأمير، قد أبى أن يسلّم مسلماً أو يُقتل(١) .

والتفت الطاغية إلى هانئ فصاح به: أتأتيني به أو لأضربنّ عنقك.

فلم يعبأ به هانئ، وقال: إذن تكثر البارقة حولك(٢) .

فثار ابن مرجانة وقال:

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٣٧٥.

(٢) البارقة: السيوف.

٢٠٧

والهفا عليك! أبالبارقة تخوّفني؟

وصاح بغلامه مهران وقال له: خذه. فأخذ بضفيرتي هانئ، وأخذ ابن زياد القضيب فاستعرض به وجهه، وضربه ضرباً قاسياً حتّى كسر أنفه، ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته حتّى تحطّم القضيب، وسالت الدماء على ثيابه، وعمد هانئ إلى قائم سيف شرطي محاولاً اختطافه ليدافع به عن نفسه فمنعه منه، فصاح به ابن زياد: أحروري أحللت بنفسك، وحلّ لنا قتلك؟!

ثمّ أمر ابن زياد باعتقاله في أحد بيوت القصر(١) ، وانتهى خبره إلى اُسرته من مذحج، وهي من أكثر قبائل الكوفة عدداً إلاّ أنّها لم تكن متماسكة، وقد شاعت الانتهازية في جميع أفرادها.

وعلى أيّ حال، فقد سارعت مذحج بقيادة العميل الخائن عمرو بن الحجّاج وقد رفع عقيرته لتسمعه السلطة قائلاً: أنا عمرو بن الحجّاج، وهذه فرسان مذحج ووجوهها، لم نخلع طاعة ولم نفارق جماعة.

ولم يعنَ به ابن زياد ولا بقومه، فالتفت إلى شريح القاضي فقال له: ادخل على صاحبهم فانظر إليه ثمّ اخرج إليهم فأعلمهم أنّه حيّ. وخرج شريح فدخل على هانئ، فلمّا نظر إليه صاح مستجيراً: يا للمسلمين! أهلكت عشيرتي! أين أهل الدين؟ أين أهل المصر؟ والتفت هانئ إلى شريح فقال له: يا شريح، إنّي لأظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين، إنّه إن دخل عليّ عشرة أنفر أنقذوني.

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١.

٢٠٨

[ ولم ] يحفل شريح بكلام هانئ، وإنّما مضى منفّذاً لأمر سيّده ابن مرجانة، فخاطب مذحج قائلاً: قد نظرتُ إلى صاحبكم وإنّه حيّ لم يُقتل.

وبادر عمرو بن الحجّاج قائلاً: إذا لم يُقتل فالحمد لله(١) .

وولّوا منهزمين كأنّما اُتيح لهم الخلاص من سجن، وقد صحبوا معهم الخزي والعار، وانطلقت الألسنة بذمّهم. وقد ذمّهم شاعر أخفى اسمه حذراً من بطش الاُمويِّين ونقمتهم، قال:

فإن كنتِ لا تدرينَ ما الموت فانظري = إلى هانئٍ في السوقِ وابنِ عقيلِ

إلى بطلٍ قد هشّمَ السيفُ وجههُ = وآخر يهوى من طمارِ قتيلِ(٢)

أصابهما فرخُ البغيّ فأصبحا = أحاديثَ مَنْ يسيري بكلّ سبيلِ

ترى جسداً قد غيّرَ الموتُ لونهُ = ونضحُ دمٍ قد سالَ كلّ مسيلِ

فتىً كان أحيا من فتاةٍ حييَّةٍ = وأقطع من ذي شفرتينِ صقيلِ

أيركبُ أسماءُ الهماليجَ آمناً = وقد طلبتهُ مذحجٌ بذحولِ(٣)

تطوفُ حواليهِ مرادٌ وكلّهم = على رقبةٍ من سائلٍ ومسولِ

فإن أنتمُ لم تثأروا بأخيكمُ = فكونوا بغايا أُرضيت بقليلِ(٤)

لقد تنكّرت مذحج لزعيمها الكبير فلم تفِ له حقوقه ومعروفه الذي أسداه عليها، وتركته أسيراً بيد ابن مرجانة يمعن في إرهاقه والتنكيل به حتّى أعدمه في

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١.

(٢) الطمار: اسم لغرفة شيّدت فوق قصر الإمارة وفي أعلاها قُتل مسلم.

(٣) الهماليج: جمع هملاج، نوع من البرذون.

(٤) مروج الذهب ٢ / ٧٠، والشاعر مجهول.

٢٠٩

وضح النهار بمرأى ومسمع منهم.

ثورة مسلم (عليه السّلام)

ولمّا علم مسلم بما جرى على هانئ بادر لإعلان الثورة على ابن زياد، فأوعز إلى عبد الله بن حازم أن ينادي في أصحابه وقد ملأ بهم الدور، فاجتمع إليه أربعة آلاف، وقيل: أربعون ألفاً(١) ، وكانوا ينادون بشعار المسلمين يوم بدر: (يا منصور أمت).

وأسند القيادات العامة في جيشه إلى أحبّ الناس لأهل البيت (عليهم السّلام)، وهم:

١ - عبد الله بن عزيز الكندي، جعله على ربع كندة.

٢ - مسلم بن عوسجة، جعله على ربع مذحج.

٣ - أبو ثمامة الصائدي، جعله على ربع قبائل بني تميم وهمدان.

٤ - العباس بن جعدة الجدلي، جعله على ربع المدينة.

واتّجه مسلم بجيشه نحو قصر الإمارة فأحاطوا به(٢) .

وكان ابن مرجانة قد خرج من القصر ليخطب في الناس على أثر اعتقاله لهانئ، ولمّا دخل الجامع الأعظم قام خطيباً فقال: أمّا بعد يا أهل الكوفة، فاعتصموا بطاعة الله ورسوله، وطاعة أئمّتكم، ولا تختلفوا ولا تفرّقوا فتهلكوا وتُذلّوا، وتندموا وتُقهروا، فلا يجعلنَّ أحد على نفسه سبيلاً، وقد اُعذر مَنْ أنذر.

وما أتمّ الطاغية خطابه حتّى سمع الصيحة وأصوات الناس قد علت، فسأل عن ذلك فقيل له: الحذر الحذر! هذا مسلم بن عقيل قد أقبل في جميع مَنْ بايعه.

____________________

(١) تهذيب التهذيب ٢ / ٣٥١.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١.

٢١٠

واختطف الرعب لونه فأسرع الجبان يلهث كالكلب من شدّة الخوف، فدخل القصر وأغلق عليه أبوابه(١) .

وامتلأ المسجد والسوق من أصحاب مسلم، وضاقت الدنيا على ابن زياد، وأيقن بالهلاك؛ إذ لم تكن عنده قوّة تحميه سوى ثلاثين رجلاً من الشرطة، وعشرين رجلاً من الأشراف والوجوه الذين هم عملاء السلطة(٢) .

حرب الأعصاب

ولم يجد الطاغية وسيلة يلجأ إليها لإنقاذه سوى حرب الأعصاب، فأوعز إلى عملائه بإشاعة الخوف والرعب بين أصحاب مسلم، وانبرى للقيام بهذه المهمة مَنْ يلي من عملائه، وهم:

١ - كثير بن شهاب الحارثي

٢ - القعقاع بن شور الذهلي

٣ - شبث بن ربعي التميمي

٤ - حجّار بن أبجر.

٥ - شمر بن ذي الجوشن الضبابي(٣)

وأسرع هؤلاء العملاء إلى صفوف جيش مسلم فأخذوا ينشرون الخوف والأراجيف، ويظهرون لهم الحرص والولاء لهم.

وكان ممّا قاله كثير بن شهاب: أيّها الناس، الحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا بالشرّ، ولا تعرّضوا أنفسكم للقتل؛ فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين - يعني يزيد - قد أقبلت، وقد أعطى الله الأمير

____________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٥٤.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١.

(٣) المصدر السابق ٣ / ٢٧٢.

٢١١

- يعني ابن زياد - العهد لئن أقمتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيّتكم أن يحرم ذرّيتكم العطاء، ويفرّق مقاتلكم في مغازي أهل الشام من غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب حتّى لا تبقى فيكم بقيّة من أهل المعصية إلاّ أذاقها وبال ما جنت أيديها(١) .

وكان هذا الكلام كالصاعقة على رؤوس أهل الكوفة؛ فقد سرت فيهم أوبئة الخوف وانهارت معنوياتهم، وجعل بعضهم يقول لبعض: ما نصنع بتعجيل الفتنة، وغداً تأتينا جموع أهل الشام؟! ينبغي لنا أن نُقيم في منازلنا، وندع هؤلاء القوم حتّى يصلح الله ذات بينهم(٢) .

وكانت المرأة تأتي ابنها أو أخاها أو زوجها وهي مصفرّة الوجه من الخوف فتخذّله وتقول له: الناس يكفونك(٣) . وقد نجح ابن زياد في هذه الخطّة إلى حدّ بعيد.

هزيمة جيش مسلم (عليه السّلام)

ومُني جيش مسلم بهزيمة ساحقة بعد حرب الأعصاب والدعايات المضلّلة، لقد انهزم جيشه من دون أن يكون قباله أيّة قوّة عسكرية.

ويقول المؤرّخون: إنّ مسلماً كلّما انتهى إلى زقاق انهزم جماعة من أصحابه، وهم يقولون: ما لنا والدخول بين السلاطين(٤) .

ولم يمضِ قليل من الوقت حتّى انهزم معظمهم يصحبون الخزي والعار، وصلّى ابن عقيل صلاة العشاء في الجامع الأعظم، فكان مَنْ بقي من جيشه يفرّون

____________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٠٨.

(٢) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٣٨٤.

(٣) تاريخ أبي الفداء ١ / ٣٠٠.

(٤) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٣٨٥.

٢١٢

في أثناء الصلاة، وما أنهى مسلم صلاة العشاء حتّى انهزموا جميعاً قادةً وجنوداً، ولم يبقَ منهم أحد يدلّه على الطريق، وبقي حيراناً لا يدري إلى أين مسراه ومولجه؛ فقد أمسى طريداً مشرّداً، لا مأوى يأوي إليه، ولا قلب يعطف عليه.

في ضيافة طوعة (رضي الله عنها)

وسار مسلم في أزقة الكوفة وشوارعها، ومضى هائماً على وجهه في جهة كندة يلتمس داراً ليبقى فيها بقيّة الليل، وقد خلت المدينة من المارة؛ فقد أسرع جنده إلى دورهم وأغلقوا عليهم الأبواب؛ مخافة أن تعرفهم مباحث الأمن وعيون ابن زياد فتخبر السلطة بأنّه كان مع ابن عقيل فتلقي عليه القبض.

وسار مسلم وهو خائر القوى، قد أحاطت به تيارات مذهلة من الهموم والأفكار، وقد انتهى في مسيرته إلى باب سيّدة يُقال لها: (طوعة)، وهي سيّدة مَنْ في المصر رجالاً ونساءً؛ وذلك بما تملكه من شرف ونبل، وكانت اُمّ ولد للأشعث بن قيس، أعتقها فتزوّجها أسيد الحضرمي فولدت له ولداً يُقال له: بلال، وكانت طوعة تنتظره خوفاً عليه من الأحداث الرهيبة، ولمّا رآها مسلم بادر إليها فسلّم عليها فردّت عليه السّلام، وقالت له: ما حاجتك؟

- اسقني ماءً.

فبادرت المرأة إلى دارها وجاءته بالماء فشرب منه ثمّ جلس، فارتابت منه، وقالت له: ألم تشرب الماء؟

- بلى.

- اذهب إلى أهلك، إنّ مجلسك مجلس ريبة(١) .

____________________

(١) تهذيب التهذيب ١ / ١٥١.

٢١٣

وسكت مسلم، فأعادت عليه القول وهو ساكت فلم يجبها، فذعرت منه وقالت له: سبحان الله! إنّي لا اُحلّ لك الجلوس على باب داري.

ولمّا حرّمت عليه الجلوس لم يجد بُدّاً من الانصراف عنها، فقال بصوت خافت حزين النبرات: ليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة، فهل لك في أجر ومعروف، ولعلّي مكافئك بعد هذا اليوم؟

وشعرت المرأة بأنّ الرجل غريب، وأنّه على شأن كبير يستطيع أن يُجازيها على معروفها وإحسانها، فقالت له: وما ذاك؟

- أنا مسلم بن عقيل، كذّبني القوم وغرّوني.

فدهشت المرأة وقالت له: أنت مسلم!

- نعم(١) .

وانبرت السيّدة بكلّ خضوع وتقدير، فسمحت لضيفها الكبير بالدخول إلى دارها، وقد حازت الشرف والفخر، وعرضت عليه الطعام فأبى أن يأكل؛ فقد مزّق الأسى قلبه، وتمثّلت أمامه الأحداث الرهيبة التي سيواجهها، وكان أهمّ ما شغل فكره كتابه إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) بالقدوم إلى الكوفة.

ولم يمضِ قليل من الوقت حتّى جاء بلال ابن السيّدة طوعة، فرأى اُمّه تكثر الدخول والخروج إلى البيت الذي فيه مسلم، فاستراب من ذلك، فسألها عنه فلم تجبه، فألحّ عليها فأخبرته بالأمر بعد أن أخذت عليه العهود والمواثيق بكتمان الأمر.

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧٢.

٢١٤

وطارت نفس الخبيث فرحاً وسروراً، وقد أنفق ليله ساهراً يترقّب طلوع الشمس ليخبر السلطة بمقام مسلم عندهم، وقد تنكّر هذا الوغد الخبيث للأخلاق العربية التي تلزم بقرى الضيف وحمايته من كلّ سوء، ولكن هذا القزم على غرار أهل الكوفة الذين طلّقوا المعروف ثلاثاً، راح مسرعاً وقد ملك الفرح فؤاده نحو قصر الإمارة، وكان بحالة من الارتباك تلفت النظر، فلمّا دخل القصر بادر إلى عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث، وهو من أخبث اُسرة عرفها التأريخ، فأعلمه بمكان مسلم، فأمره بالسكوت لئلاّ يفشي بالخبر فينقله غيره إلى ابن مرجانة فتفوت جائزته.

وأسرع عبد الرحمن إلى أبيه محمّد بن الأشعث فأخبره بالأمر، وفطن ابن زياد إلى خطورة الأمر، فالتفت إلى ابن الأشعث فقال له: ما قال لك عبد الرحمن؟

- أصلح الله الأمير، البشارة العظمى.

- ما ذاك؟ مثلك مَنْ بشّر بخير.

- إنّ ابني هذا يخبرني أنّ مسلم بن عقيل في دار طوعة.

وفرح ابن مرجانة، وتمّت بوارق آماله وأحلامه، فراح يمدّ الأشعث بالمال والجاه قائلاً: قم فآتني به، ولك ما أردت من الجائزة والحظّ الأوفى.

لقد تمكّن ابن مرجانة سليل البغايا والأدعياء من الظفر بفخر هاشم ومجد عدنان ليجعله قرباناً إلى اُمويّته اللصيقة.

الهجوم على مسلم (عليه السّلام)

وندب ابن مرجانة لحرب مسلم، عمرو بن الحرث المخزومي صاحب شرطته ومحمّد بن الأشعث، وضمّ إليهما ثلاثمئة رجل من صناديد الكوفة وفرسانها، وأقبلت تلك الوحوش الكاسرة مسرعة لحرب القائد العظيم الذي أراد أن يحرّرهم

٢١٥

من الذلّ والعبودية، ويُقيم فيهم عدالة الإسلام وحكم القرآن.

ولمّا سمع مسلم حوافر الخيل وزعقات الرجال علم أنّه قد اُتي إليه، فبادر إلى فرسه فأسرجه وألجمه، وصبّ عليه درعه وتقلّد سيفه، وشكر السيّدة طوعة على حسن ضيافتها ورعايتها له.

واقتحم الجيش عليه الدار فشدّ عليهم يضربهم بسيفه ففرّوا منهزمين، ثمّ عادوا عليه فأخرجهم منها، وانطلق نحوهم في السكة شاهراً سيفه لم يختلج في قلبه خوف ولا رعب، وقد أبدى من البطولات النادرة ما لم يشاهد مثله في جميع فترات التأريخ، وقد قتل منهم واحداً وأربعين رجلاً(١) ، وكان من قوّته النادرة أن يأخذ الرجل بيده ويرمي به من فوق البيت(٢) ، وليس في تاريخ الإنسانيّة مثل هذه البطولة، ولا مثل هذه القوّة الخارقة.

وجعل أنذال أهل الكوفة يصعدون فوق بيوتهم ويرمونه بالحجارة وقذائف النار(٣) ، وفشلت جيوش ابن مرجانة من مقاومة البطل العظيم؛ فقد أشاع فيهم القتل، وطلب محمّد بن الأشعث من سيّده ابن مرجانة أن يمدّه بالخيل والرجال، فلامه الطاغية وقال: سبحان الله! بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به فثلم في أصحابك هذه الثلمة العظيمة(٤) !

وثقل ذلك على ابن الأشعث، وقال لابن مرجانة: أتظنّ أنّك أرسلتني إلى بقّال من بقّالي الكوفة، أو إلى جرمقاني من جرامقة

____________________

(١) الدرّ النضيد / ١٦٤.

(٢) المحاسن والمساوئ - البيهقي ١ / ٤٣.

(٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٣٩٤.

(٤) الفتوح ٥ / ٦٣.

٢١٦

الحيرة؟(١) وإنّما بعثتني إلى أسد ضرغام، وسيف حسام، في كفّ بطل همام، من آل خير الأنام(٢) .

وأمدّه ابن مرجانة بقوى مكثّفة، فجعل البطل العظيم يحصد رؤوسهم بسيفه، وهو يرتجز:

أقسمتُ لا أُقتل إلاّ حرّا = وإن رأيتُ الموتَ شيئاًً نُكرا

أو يُخلطُ الباردُ سخناً مرّا = ردّ شعاعُ الشمسِ فاستقرا

كلّ امرئٍ يوماً يُلاقي شرّا = أخافُ أن أُكذب أو اُغرّا(٣)

ولمّا سمع الخائن العميل محمّد بن الأشعث هذا الشعر من مسلم رفع صوته قائلاً: إنّك لا تُكذب ولا تُخدع، إنّ القوم بنو عمّك، وليسوا بقاتليك ولا ضارّيك.

فلم يحفل به مسلم، ومضى يُقاتلهم أعنف القتال وأشدّه، ففرّوا منهزمين لا يلوون على شيء، واعتلوا فوق منازلهم يرمونه بالحجارة، فأنكر عليهم مسلم قائلاً: ويلكم! ما لكم ترمونني بالحجارة كما تُرمى الكفار، وأنا من أهل بيت الأبرار؟ ويلكم! أما ترعون حقّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وذريّته؟

وضاق بابن الأشعث أمر مسلم، فصاح بالجيش: ذروه حتّى اُكلّمه. فدنا منه، وقال له: يابن عقيل، لا تقتل نفسك، أنت آمن، ودمك في عنقي.

ولم يعنَ به مسلم؛ فقد عرفه وعرف قومه أنّهم لا وفاء ولا دين لهم،

____________________

(١) الجرامقة: قوم من العجم صاروا إلى الموصل.

(٢) الفتوح ٥ / ٩٣.

(٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٣٩٥، نقلاً عن الطبري / ٦٣، الفتوح ٥ / ٩٤ - ٩٥.

٢١٧

وأجابه: يابن الأشعث، لا اُعطي بيدي أبداً وأنا أقدر على القتال، والله لا كان ذلك أبداً.

وحمل مسلم على ابن الأشعث فولّى منهزماً يُطارده الرعب والخوف، واشتدّ العطش بمسلم فجعل يقول: اللّهمّ إنّ العطش قد بلغ منّي.

وتكاثرت عليه الجموع، فصاح بهم ابن الأشعث: إنّ هذا هو العار والفشل أن تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع! احملوا عليه بأجمعكم حملة واحدة. فحملوا عليه ضرباً بأسيافهم وطعناً برماحهم، وضربه الوغد الأثيم بكر بن حمران ضربة منكرة على شفته العليا، وأسرع السيف إلى الأسفل، وضربه مسلم ضربة أردته إلى الأرض.

أسره (عليه السّلام)

وبعدما أثخن مسلم بالجراح وأعياه نزف الدم انهارت قواه وضعف عن المقاومة، فوقع أسيراً بأيدي اُولئك الفجرة الكفّار، وانتزعوا منه سيفه، وحملوه أسيراً إلى ابن مرجانة.

وكان من أعظم ما رُزئ به مسلم أن يدخل أسيراً على أقذر إرهابي عرفه التأريخ، ولمّا دخل لم يسلّم عليه بالإمرة وإنّما سلّم على الجميع، فأنكر عليه بعض خدّام السلطة ذلك، فأجابه أنّه ليس لي بأمير.

فتميّز ابن مرجانة غيظاً وغضباً، وقال له: سلّمت أو لم تسلّم فإنّك مقتول.

فردّ عليه مسلم بجواب أخرجه من إهابه، وجرت مناورات كلامية بينهما، وكانت أجوبة مسلم كالسهام على ابن مرجانة، فلجأ إلى سبّه وسبّ العترة الطاهرة والافتراء عليهم، ثمّ أمر أن يُصعد به من أعلى القصر ويُنفّذ فيه حكم الإعدام، وقد استقبل مسلم الموت بثغر باسم، وكان يُسبّح الله ويستغفره.

وأشرف به الجلاّد على موضع الحذائيّين فضرب عنقه،

٢١٨

ورمى برأسه وجسده إلى الأرض، وانتهت بذلك حياة هذا المجاهد العظيم الذي وهب حياته لله، واستشهد دفاعاً عن الحقّ ودفاعاً عن حقوق المظلومين والمضطهدين.

ثمّ أمر الطاغية السفّاك بإعدام الزعيم الكبير هانئ بن عروة، فأُخرج من السجن في وضح النهار، وجعل يستنجد باُسرته، وكانوا بمرأى ومسمع منه فلم يستجب له أحد منهم، وضربه الجلاّد بالسيف فلم يصنع به شيئاً، فرفع هانئ صوته قائلاً: اللّهمّ إلى رحمتك ورضوانك، اللّهمّ اجعل هذا اليوم كفارة لذنوبي؛ فإنّي إنّما تعصّبت لابن بنت نبيّك محمّد (صلّى الله عليه وآله).

وضربه الجلاّد ضربة اُخرى فهوى إلى الأرض وجعل يتخبّط بدمه الزاكي، ولم يلبث قليلاً حتّى فارق الحياة وقد مضى شهيداً دون مبادئه وعقيدته.

وعهد الطاغية الجلاّد إلى زبانيته بسحل جثة مسلم وهانئ في الشوارع والأسواق، فعمدوا إلى شدّ أرجلهما بالحبال وأخذوا يسحلونهما في الطرق(١) ؛ وذلك لنشر الخوف والإرهاب، وليكونا عبرةً لكلّ مَنْ تحدّثه نفسه بالخروج على حكم يزيد.

ثمّ قام ابن مرجانة باعتقالات واسعة لجميع العناصر الموالية لأهل البيت (عليهم السّلام)، كما أعدم جاعة منهم، وذكرنا تفصيل ذلك في كتابنا (حياة الإمام الحسين (عليه السّلام)).

لقد سمعت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) السيّدة زينب (عليها السّلام) هذه المآسي المروّعة التي جرت على ابن عمّها مسلم، فكوت قلبها وأضافتها إلى همومها ومصائبها، وأيقنت أنّ شقيقها وبقيّة أهلها سيواجهون المصير الذي واجهه ابن عمّها.

____________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ١٥٥، القسم الأوّل.

٢١٩

٢٢٠

إلى العراق

ورافقت عقيلة بني هاشم أخاها أبا الأحرار في مسيرته الخالدة؛ لتكون معه في خندق واحد، وتشاركه في جهوده وجهاده لحماية الإسلام، وإنقاذ المسلمين من جور الاُمويِّين وظلمهم.

وقبل أن تُغادر العقيلة الحجاز استأذنت من زوجها عبد الله بن جعفر أن يسمح لها بالسفر مع شقيقها سيّد الشهداء، فأذن لها في ذلك، وقبل أن يسافر الإمام دخل عليه عبد الله بن عباس ليعدله عن السفر إلى العراق، فقال له الإمام (عليه السّلام):«يابن عباس، ما تقول في قوم أخرجوا ابن بنت نبيّهم من وطنه وداره، وقراره وحرم جدّه، وتركوه خائفاً مرعوباً، لا يستقر في قرار، ولا يأوي إلى جوار، يريدون بذلك قتله وسفك دمه، ولم يشرك بالله شيئاً، ولم يرتكب منكراً ولا إثماً؟» .

فأجابه ابن عباس بصوت حزين النبرات قائلاً: جُعلت فداك يا حسين! إن كان لا بدّ لك من المسير إلى الكوفة فلا تسري بأهلك ونسائك.

فقال له الإمام الحسين (عليه السّلام):«يابن العمّ، إنّي رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في منامي وقد أمرني بأمر لا أقدر على خلافه؛ إنّه أمرني بأخذهنَّ معي. يابن العمّ، إنّهنَّ ودائع رسول الله، ولا آمن عليهن أحداً» .

ويقول بعض الرواة: إنّ حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) السيدة زينب قالت لابن عباس

٢٢١

وهي باكية العين: يابن عباس، تشير على شيخنا وسيّدنا أن يخلّفنا هاهنا ويمضي وحده؟! لا والله، بل نحيا معه ونموت معه، وهل أبقى الزمان لنا غيره؟

وأجهش ابن عباس في البكاء وجعل يقول: يعزّ والله عليَّ فراقك يابن العمّ(١) .

لقد كان من أروع ما خطّطه الإمام في ثورته الكبرى حمله عقيلة بني هاشم وسائر مخدّرات الرسالة معه إلى العراق؛ فقد كان على علم بما يجري عليهنَّ من النكبات والخطوب، وما يقمنَ به من دور مشرّف في إكمال نهضته، وإيضاح تضحيته وإشاعة مبادئه وأهدافه.

وقد قمنَ حرائر النبوّة بإيقاظ المجتمع من سباته، وأسقطنَ هيبة الحكم الاُموي، وفتحنَ باب الثورة عليه؛ فقد ألقين من الخطب الحماسية ما زعزع كيان الدولة الاُمويّة.

لقد كان خروج العقيلة وسائر بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ضرورة ملحّة لا غنى عنها؛ فقد أخلدنَ نهضة أبي الأحرار.

يقول الإمام كاشف الغطاء: وهل تشكّ وترتاب في أنّ الحسين لو قُتل هو وولده، ولم يتعقّبه قيام تلك الحرائر في تلك المقامات بتلك التحدّيات لذهب قتله جباراً، ولم يطلب به أحد ثأراً، ولضاع دمه هدراً؟

فكان الحسين يعلم أنّ هذا عمل لا بدّ منه، وأنّه لا يقوم به إلاّ لتلك العقائل، فوجب عليه حتماً أن يحملهنَّ معه لا لأجل المظلومية بسبيهنَّ فقط، بل لنظر سياسي وفكر عميق، وهو تكميل الغرض، وبلوغ الغاية من قلب الدولة على يزيد، والمبادرة إلى القضاء عليها قبل أن تقضي على الإسلام، ويعود الناس إلى جاهليتهم الأولى(٢) .

ويقول الدكتور أحمد محمود صبحي: ثمّ رفض - يعني الحسين (عليه السّلام) - إلاّ أن

____________________

(١) زينب الكبرى / ٩٤.

(٢) السياسة الحسينيّة / ٤٦ - ٤٧.

٢٢٢

يصحب معه أهله؛ ليُشهد الناس على ما يقترفه أعداؤه ممّا لا يبرّره دين، ولا وازع من إنسانيّة، فلا تضيع قضيّته مع دمه المراق في الصحراء، فيُفترى عليه أشدّ الافتراء حين يعدم الشاهد العادل على ما جرى بينه وبين أعدائه.

تقول الدكتورة بنت الشاطئ: أفسدت زينب اُخت الحسين على ابن زياد وبني اُمية لذّة النصر، وسكبت قطرات من السمّ الزعاف في كؤوس الظافرين، وإنّ كلّ الأحداث السياسيّة التي ترتّبت بعد ذلك من خروج المختار، وثورة ابن الزّبير، وسقوط الدولة الاُمويّة، وقيام الدولة العباسية، ثمّ تأصّل مذهب الشيعة إنّما كانت زينب هي باعثة ذلك ومثيرته(١) .

اُريد أن أقول: ماذا يكون الحال لو قُتل الحسين (عليه السّلام) ومَنْ معه جميعاً من الرجال إلاّ أن يسجّل التأريخ هذه الحادثة الخطيرة من وجهة نظر أعدائه؟ فيضيع كلّ أثر لقضيته مع دمه المسفوك في الصحراء(٢) .

إنّ من ألمع الأسباب في استمرار خلود مأساة الإمام الحسين (عليه السّلام) واستمرار فعالياتها في نشر الإصلاح الاجتماعي هو حمل عقيلة الوحي وبنات الرسول (صلّى الله عليه وآله) مع الإمام الحسين (عليه السّلام)؛ فقد قمنَ ببلورة الرأي العام، ونشرنَ مبادئ الإمام الحسين وأسباب نهضته الكبرى، وقد قامت السيدة زينب (عليها السّلام) بتدمير ما أحرزه يزيد من الانتصارات، وألحقت به الهزيمة والعار.

وسنوضح ذلك بمزيد من البيان في البحوث الآتية:

خطاب الحسين (عليه السّلام) في مكة

وأمر الإمام الحسين (عليه السّلام) بجمع الناس من أهالي مكة ومن المعتمرين والحجّاج فيها،

____________________

(١) بطلة كربلاء / ١٧٦ - ١٨٠.

(٢) نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثنى عشرية / ٣٤٣.

٢٢٣

فقام فيهم خطيباً فقال:«الحمد لله، وما شاء الله ولا قوّة إلاّ بالله، وصلّى الله على رسوله وسلّم. خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخُيّر لي مصرع أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسلان (١) الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأنّ منّي أكراشاً جُوفاً، وأجربةً سغباً، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويُوفّينا أجر الصابرين.

لن تَشُذّ عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينه وينجز بهم وعده. مَنْ كان باذلاً فينا مهجته، ومُوَطّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا؛ فإنّني راحل مُصبحاً إن شاء الله تعالى» (٢) .

ونعى الإمام نفسه في هذا الخطاب التأريخي الخالد، واعتبر الشهادة في سبيل الله زينة للإنسان كالقلادة التي تكون زينة للفتاة، كما أعلن عن شوقه العارم لملاقاة الله تعالى، وأنّ اشتياقه للذين استشهدوا في سبيل الله كاشتياق يعقوب إلى يوسف. وأخبر (عليه السّلام) عن البقعة الطاهرة التي يستشهد فيها، وهي ما بين النواويس وكربلاء، فيها تُقطّع أوصاله ويُراق دمه الزاكي.

وعلى أيّ حال، فقد حلّلنا هذا الخطاب وذكرنا أبعاده في كتابنا (حياة الإمام الحسين).

____________________

(١) العسلان: هي الذئاب.

(٢) كشف الغمّة ٢ / ٢٤١.

٢٢٤

السفر إلى العراق

وقبل أن يغادر الإمام (عليه السّلام) مكة مضى إلى البيت الحرام فأدّى له التحية بطوافه وصلاته، وبقي فيه حتّى أدّى صلاة الظهر ثمّ خرج مودّعاً له(١) .

وخرج الإمام (عليه السّلام) من مكة وهو يحمل معه مخدّرات الرسالة وعقائل النبوّة، وكان خروجه في اليوم الثامن من ذي الحجّة سنة ستّين من الهجرة(٢) ، وخيّم الحزن والأسى على أهل مكة وعلى حجاج بيت الله الحرام، وكان الإمام لا ينزل منزلاً إلاّ حدّث أهل بيته عن مقتل يحيى بن زكريا(٣) .

وسار موكب الإمام لا يلوي على شيء حتّى انتهى إلى موضع يُسمّى بـ «الصفاح»، فالتقى بالشاعر الكبير الفرزدق فسلّم على الإمام، وقال له: بأبي أنت واُمّي يابن رسول الله! ما أعجلك عن الحج؟

فأجابه الإمام عن سبب خروجه:«لو لم أعجل لأُخذت» .

إنّ السبب في خروج الإمام (عليه السّلام) قبل أن يتمّ العمرة هو أنّ السلطة قد عهدت إلى عصابة منها باغتيال الإمام ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة؛ فلذا سارع الإمام بالخروج من مكة.

وبادر الإمام (عليه السّلام) فسأل الفرزدق، فقال له:«من أين أقبلت يا أبا فراس؟» .

- من الكوفة.

-«بيّن لي خبر الناس؟» .

- على الخبير سقطت؛ قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني اُميّة، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء، وربّنا كلّ يوم هو في شأن(٤) .

____________________

(١) و (٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٥٣ - ٥٤.

(٢) خطط المقريزي ٢ / ٢٨٦.

(٤) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٦٠.

٢٢٥

واستصوب الإمام (عليه السّلام) كلام الفرزدق، فقال له:«صدقت، لله الأمر من قبل ومن بعد، يفعل الله ما يشاء وكلّ يوم ربّنا في شأن؛ إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعدّ مَنْ كان الحقّ نيّته والتقوى سريرته» (١) .

وواصل الإمام مسيرته الخالدة بعزم وثبات، لم يثنه عن عزيمته قول الفرزدق في تخاذل الناس عنه وتجاوبهم مع بني اُميّة.

مع أبي هرّة

وسار الإمام (عليه السّلام) مع موكبه حتّى انتهى إلى ذات عرق، فخفّ إليه أبو هرّة فقال له: يابن رسول الله، ما الذي أخرجك من حرم الله وحرم جدّك رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟

فأجابه الإمام بتأثّر قائلاً:«ويحك يا أبا هرّة! إنّ بني اُميّة أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عِرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت. وأيم الله، لتقتلني الفئة الباغية، وليلبسنّهم الله ذُلاّ شاملاً، وسيفاً قاطعاً، وليسلّطنّ الله عليهم مَنْ يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة منهم فحكمت في أموالهم ودمائهم» (٢) .

وانصرف الإمام (عليه السّلام) وهو حزين من هؤلاء الناس الذين لا يملكون وعياً لنصرة الحقّ والدفاع عن الإسلام.

فزع السيدة زينب (عليه السّلام)

وكانت السيدة زينب (عليها السّلام) فزعة حزينة قد ذابت نفسها أسى وحسرات؛ فقد علمت

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٦٠.

(٢) المصدر السابق ٥ / ٦٤.

٢٢٦

ما سيجري على أهلها من القتل، فخفّت إلى أخيها حينما كانوا في الخزيمية، وهي تقول له بنبرات مشفوعة بالبكاء: يا أخي، إنّي سمعت هاتفاً يقول:

ألا يا عين فاحتفلي بجهد = فمَنْ يبكي على الشهداءِ بعدي

على قومٍ تسوقهمُ المنايا = بمقدارٍ إلى إنجازِ وعدي

فأجابها أبيّ الضيم (عليه السّلام) غير حافل بما سيلقاه من النكبات والخطوب:«يا اُختاه، كلّ الذي قضى فهو كائن» (١) .

لقد أراد الإمام (عليه السّلام) من شقيقته أن تتسلّح بالصبر، وأن تقابل الرزايا والمصائب برباطة جأش وعزم حتّى تقوى على أداء رسالته.

النبأ المروّع بشهادة مسلم (عليه السّلام)

وانتهى النبأ المروّع بشهادة البطل مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) حينما كان في زرود؛ فقد أقبل رجل من أهل الكوفة، فلمّا رأى الحسين (عليه السّلام) عدل عن الطريق، فتبعه بعض أصحاب الإمام فالتقيا به وانتسبا له، وسألاه عن خبر الكوفة، فقال: إنّه لم يخرج منها حتّى قُتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، ورآهما يُجرّان بأرجلهما في الأسواق.

وأسرعا إلى الإمام (عليه السّلام) فقالا له: رحمك الله، إنّ عندنا خبراً إن شئت حدّثناك به علانية وإن شئت سرّاً.

ونظر الإمام إلى أصحابه فقال:«ما دون هؤلاء سرّاً» . وأخبراه بما سمعاه من الرجل من شهادة مسلم وهانئ، فكان هذا النبأ كالصاعقة على العلويِّين، فانفجروا بالبكاء على فقيدهم العظيم حتّى ارتجّ الموضع من شدّة البكاء، والتفت الإمام إلى بني عقيل فقال لهم:

____________________

(١) المناقب - لابن شهرآشوب ٥ / ١٢٧.

٢٢٧

«ما ترون؟ فقد قُتل مسلم» .

ووثبت الفتية كالأسود الضاربة، وهم يعلنون استهانتهم بالموت، وتصميمهم على الشهادة قائلين: لا والله، لا نرجع حتّى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق مسلم.

وراح الإمام (عليه السّلام) يقول:«لا خير في العيش بعد هؤلاء» .

وتمثّل (عليه السّلام) بهذين البيتين:

سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى = إذا ما نوى حقّاً و جاهد مسلما

فإن متُّ لم أندم وإنْ عشت لم أُلمْ = كفى بكَ عاراً أن تذلَّ وتُرغما(١)

لقد مضى إلى ساحات الجهاد مرفوع الرأس، وهو على يقين لا يخامره شكّ في أنّه يسير إلى الفتح الذي لا فتح ولا ظفر مثله.

رؤيا الإمام الحسين (عليه السّلام)

وخفق الإمام الحسين (عليه السّلام) وقت الظهيرة فرأى رؤياً أفزعته، فانتبه مذعوراً، فأسرع إليه ولده مفخرة الإسلام علي الأكبر قائلاً: يا أبتِ، ما لي أراك فزعاً؟

-«رأيت رؤيا أفزعتني» .

- خيراً رأيت.

-((رأيت فارساً وقف عليَّ وهو يقول: أنتم تسرعون والمنايا تسرع بكم إلى الجنّة. فعلمت أنّ أنفسنا نُعيت إلينا)) (٢) .

____________________

(١) الدرّ النظيم / ١٦٧.

(٢) تاريخ الإسلام - الذهبي ٢ / ٣٤٦.

٢٢٨

وبادر عليّ قائلاً: ألسنا على الحقّ؟

أجل يا فخر هاشم أنتم معدن الحقّ، وأصله ومنتهاه، وأجابه أبوه قائلاً:«بلى والذي إليه مرجع أمر العباد» .

وطفق عليّ يلقي كلمته الذهبية الخالدة قائلاً: يا أبتِ، لا نبالي الموت.

ووجد الإمام الحسين (عليه السّلام) في ولده البارّ خير عون له على أداء رسالته الكبرى، فشكره على ذلك قائلاً:«جزاك الله يا بُني خير ما جزى به ولداً عن والده» (١) .

الالتقاء بالحرّ

وانتهى ركب الإمام إلى شراف وفيها عين للماء، فأمر الإمام فتيانه أن يستقوا من الماء ويكثروا منه ففعلوا ذلك، ثمّ سارت قافلة الإمام (عليه السّلام) تطوي البيداء، فبادر رجل من أصحاب الإمام فكبّر، فاستغرب الإمام (عليه السّلام) وقال له:«لِمَ كبّرت؟» .

- رأيت النخل.

وأنكر عليه رجل ممّن خبر الطريق وعرفه، فقال له: ليس ها هنا نخل، ولكنّها أسنة الرماح وآذان الخيل.

وتأمّلها الإمام الحسين (عليه السّلام) فقال:«وأنا أرى ذلك» .

وعرف الإمام أنّها طلائع الجيش الاُموي جاءت لإلقاء القبض عليه، فقال لأصحابه:«أما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟» .

____________________

(١) مقاتل الطالبيّين / ١١١.

٢٢٩

فقال له بعض أصحابه: هذا ذو حسم(١) إلى جنبك تميل إليه عن يسارك، فإن سبقت له فهو كما تريد.

ومال ركب الإمام (عليه السّلام) إليه، فلم يسيروا إلاّ قليلاً حتّى أدركهم جيش مكثّف بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي، وكان ابن مرجانة قد عهد إليه أن يجوب في صحراء الجزيرة للتفتيش عن الإمام (عليه السّلام)، وكان عدد ذلك الجيش ألف فارس بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي، ووقفوا قبال الإمام (عليه السّلام)، وكان الوقت شديد الحرّ، وقد أشرفوا على الهلاك من شدّة العطش، فرقّ عليهم الإمام (عليه السّلام) وغضّ نظره من أنّهم جاؤوا لقتاله وسفك دمه، فأمر أصحابه وأهل بيته أن يسقوهم الماء، ويرشفوا خيولهم.

وقام أصحاب الإمام فسقوا القوم عن آخرهم، ثمّ انعطفوا إلى الخيل فجعلوا يملؤون القصاع والطساس فإذا عبّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت وسقي الآخر حتّى سقوها جميعاً(٢) .

لقد تكرّم الإمام (عليه السّلام) بإنقاذ هذا الجيش الذي جاء لحربه، ولم تهزّ هذه الأريحية ولا هذا النبل نفس هذا الجيش، ولم يتأثّروا بهذا الخلق الرفيع؛ فقد أحاطوا بالفرات في كربلاء وحرموا ذرّية نبيّهم من الماء، ولم يسقوهم قطرة حتّى توفّوا عطاشى.

خطاب الإمام (عليه السّلام)

وخطب الإمام (عليه السّلام) في قطعات ذلك الجيش، فقال بعد حمد الله والثناء عليه:«أيّها الناس، إنّها معذرة إلى الله عزّ وجلّ إليكم. إنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم، وقدمت بها عليَّ رسلكم، أن أقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام، ولعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى؛ فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فأعطوني ما اطمئن به

____________________

(١) ذو حسم (بضمّ الحاء وفتح السين): جبل هناك.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٢٦.

٢٣٠

من عهودكم ومواثيقكم، وإن كنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم» .

وأحجموا عن الجواب؛ فإنّ الأكثرية الساحقة منهم قد كاتبوا الإمام (عليه السّلام) وبايعوه على يد سفيره مسلم بن عقيل (عليه السّلام).

وحلّ وقت الصلاة فأمر الإمام مؤذّنه الحجّاج بن مسروق أن يؤذّن ويقيم لصلاة الظهر، وبعد فراغه قال الإمام (عليه السّلام) للحرّ:«أتريد أن تصلّي بأصحابك؟» .

فقال: بل نصلّي بصلاتك.

وأتمّوا بالإمام (عليه السّلام) فصلّى بهم صلاة الظهر، وبعد أدائه للصلاة قام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:«أيّها الناس، إنّكم إن تتّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، فإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقّنا، وكان رأيكم الآن على غير ما أتتني به كتبكم انصرفت عنكم» .

ولم يعلم الحرّ بشأن الكتب التي بعثها أهل الكوفة للإمام (عليه السّلام)، فقال له: ما هذه الكتب التي تذكرها؟

فأمر الإمام (عليه السّلام) عقبة بن سمعان بإحضارها، وكانت قد ملئت خرجين، فنثرها بين يدي الحرّ فبُهر منها، وقال: لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك.

وأراد الإمام (عليه السّلام) أن يتّجه إلى يثرب، فقال له الحرّ: قد اُمرت أن لا اُفارقك إذا لقيتك حتّى اُقدمك الكوفة على ابن زياد.

وتأثّر الإمام (عليه السّلام) وصاح به:«الموت أدنى إليك من ذلك» .

وجرت مشادّة عنيفة بين الإمام والحرّ؛ فقد حال الحرّ من توجّه الإمام إلى يثرب، وكان الوضع أن ينفجر باندلاع نار الحرب، إلاّ أنّ الحرّ ثاب إلى الهدوء وقال للإمام (عليه السّلام): إنّما لم اُؤمر بقتالك، وإنّما اُمرت أن لا اُفارقك حتّى اُقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يردّك إلى المدينة.

واتّفقا على ذلك، فتياسر

٢٣١

الإمام (عليه السّلام) عن طريق العذيب والقادسية(١) . وأخذت قافلة الإمام (عليه السّلام) تطوي البيداء، وكان الحرّ يُتابعه عن كثب، ويراقبه كأشدّ ما تكون المراقبة.

وفزعت حفيدة الرسول كأشدّ ما يكون الفزع وأيقنت بنزول الرزء القاصم، وأنّ أخاها مصمّم على الشهادة ومناجزة الحكم الاُموي.

خطبة الإمام (عليه السّلام)

ولمّا انتهى موكب الإمام إلى (البيضة) ألقى الإمام خطاباً على الحرّ وأصحابه، وقال فيه:«أيّها الناس، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: مَنْ رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر ما هو عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله.

ألا إنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ ممّنْ غيَّر. وقد أتتني كتبكم، وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم أنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني؛ فإن أقمتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، وأنا الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، ولكم فيَّ اُسوة.

وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي، فلعمري ما هي لكم بنكر؛ لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم، فالمغرور مَنْ اغترّ بكم، فحظّكم أخطأتم، ونصيبكم ضيّعتم، ومَنْ نكث فإنّما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم» .

وحفل هذا الخطاب الرائع باُمور بالغة الأهمية ذكرناها في كتابنا (حياة الإمام الحسين).

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٨٠.

٢٣٢

ولمّا سمع الحرّ خطاب الإمام (عليه السّلام) ووعاه أقبل عليه، فقال له: إنّي اُذكّرك الله في نفسك؛ فإنّي أشهد لئن قاتلت لتقتلن.

فأجابه الإمام (عليه السّلام):«أبالموت تخوّفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟! وما أدري ما أقول لك، ولكنّي أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه وهو يريد نصرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أين تذهب فإنّك مقتول. فقال له:

سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى = إذا ما نوى خيراً وجاهدَ مسلما

وواسى الرجالَ الصالحينَ بنفسهِ = وخالفَ مثبوراً و فارقَ مجرما

فإن عشتُ لم أندم و إن متُّ لم أُلمْ = كفى بكَ ذلاً أن تعيشَ وتُرغما))

ولمّا سمع الحرّ مقالة الإمام (عليه السّلام) عرف أنّه مصمّم على الشهادة في سبيل أهدافه النبيلة. والتاعت السيّدة زينب (عليها السّلام) حينما سمعت مقالة أخيها، وأيقنت أنّه مصمّم على الموت والشهادة في سبيل الله.

مع الطرمّاح

وصحب الطرمّاح الإمام (عليه السّلام) في أثناء الطريق، وأقبل الإمام على أصحابه فقال لهم:«هل فيكم أحد يخبر الطريق على غير الجادة؟» .

فقال له الطرماح: أنا أخبر الطريق.

فقال (عليه السّلام) له:«سر بنا» .

فسار بهم الطرماح وجعل يحدو بالإبل بصوت حزين قائلاً:

يا ناقتي لا تذعري من زجري = وامضي بنا قبلَ طلوعِ الفجرِ

بخيرِ فتيانٍ وخيرِ سفرِ = آلِ رسولِ اللهِ أهلِ الفخرِ

السادةِ البيض الوجوهِ الزهرِ = الطاعنينَ بالرماحِ السمرِ

٢٣٣

الضاربينَ بالسيوفِ البترِ = حتى تحلّى بكريمِ النجرِ

بماجدِ الجدِّ رحيبِ الصدرِ = أتى بهِ اللهُ لخيرِ أمرِ

عمّرهُ اللهُ بقاءَ الدهرِ = يا مالكَ النفعِ معاً و الضرِّ

أمدد حسيناً سيّدي بالنصرِ = على الطغاةِ من بقايا الكفرِ

على اللعينينِ سليلَي صخرِ = يزيد لا زالَ حليفَ الخمرِ

والعودِ والصنجِ معاً والزمرِ = وابن زيادِ العهرِ وابنِ العهرِ(١)

وأسرعت الإبل في سيرها على نغمات هذا الشعر الحزين، وقد فاضت عيون السيّدات من بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفي طليعتهن السيدة زينب بالبكاء، وهنّ يدعون للإمام (عليه السّلام) بالنصر والتأييد على أعدائه.

رسالة ابن زياد للحرّ

وسارت قافلة الإمام تطوي البيداء، وهي تارة تتيامن واُخرى تتياسر، وجنود الحرّ يذودون الركب عن البادية ويدفعونه تجاه الكوفة والركب يمتنع عليهم، وإذا براكب قد أقبل وهو رسول من قِبل ابن زياد إلى الحرّ، فسلّم الخبيث الدنس على الحرّ ولم يسلّم على الحسين (عليه السّلام)، وناول الحرّ رسالة من ابن مرجانة جاء فيها: أمّا بعد، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلاّ بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء، وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يُفارقك حتّى يأتيني بإنفاذك أمري، والسّلام(٢) .

وقرأ الحرّ الكتاب على الإمام الحسين (عليه السّلام)، وقد أراد أن يستأنف سيره متّجهاً صوب قرية أو ماء، فمنعه الحرّ. وانبرى زهير بن القين وهو من أفذاذ أصحاب الإمام (عليه السّلام)، فقال له: يابن رسول الله، إنّ قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال مَنْ يأتينا

____________________

(١) مقاتل الطالبيّين / ١١١.

(٢) أنساب الأشراف / ٢٤٠.

٢٣٤

من بعدهم ما لا قِبل لنا به.

فقال له الحسين (عليه السّلام):«ما كنت لأبدأهم بقتال» .

وتابع زهير حديثه قائلاً: سر بنا إلى هذه القرية حتّى ننزلها فإنّها حصينة، وهي على شاطئ الفرات، فإن منعونا قاتلناهم؛ فقتالهم أهون علينا من قتال من يجيء بعدهم.

ولكنّ الحرّ أصرّ على الإمام (عليه السّلام) أن ينزل في ذلك المكان ولا يتجاوزه، ولم يجد الإمام بدّاً من النزول فيه، والتفت إلى أصحابه فقال لهم:«ما اسم هذا المكان؟» .

فقالوا له: كربلاء.

وفاضت عيناه بالدموع وقال:«اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء» (١) .

وطافت به الذكريات، ومثل أمامه ما قاله جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأبوه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) من أنّ دمه الزاكي سيُراق في هذه الأرض، وفيها تتقطّع أوصاله، وتُسفك دماء أهل بيته وأصحابه، وخلد الإمام إلى الصبر واستسلم لقضاء الله.

ونهض أصحاب الإمام (عليه السّلام) وأهل بيته فنصبوا الخيام لمخدّرات الرسالة وعقائل الوحي كما نصبوا الخيام لهم، وأسرع فتيان بني هاشم وأمامهم سيّدهم أبو الفضل العباس فأنزلوا السيّدات من المحامل وجاؤوا بهنَّ إلى خيامهن، وقد أحسّت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) السيدة زينب (عليها السّلام) بالأخطار الهائلة والكوارث التي ستجري عليها وعلى أهلها في هذه الأرض.

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٩١.

٢٣٥

٢٣٦

في كربلاء

وذاب قلب الصدّيقة الطاهرة زينب أسى وحسرات، واستولى عليها الألم العاصف؛ فقد أيقنت أنّها ستُشاهد في هذه الأرض مصرع أخيها وأهل بيته، وستجري عليها من النكبات والخطوب ما تذوب من هولها الجبال، وقد خلدت إلى الصبر وسلّمت أمرها إلى الله تعالى.

وحينما استقرّ الإمام الحسين (عليه السّلام) في كربلاء جمع أهل بيته وأصحابه فألقى عليهم نظرة حنان وعطف، ورفع يديه بالدعاء يناجي ربّه، ويشكو إليه ما ألمّ به من المحن والخطوب قائلاً:«اللّهمّ إنّا عترة نبيّك محمّد (صلّى الله عليه وآله)، قد اُخرجنا وطُردنا وأُزعجنا عن حرم جدّنا، وتعدّت بنو اُميّة علينا، اللّهمّ فخذ لنا بحقّنا وانصرنا على القوم الظالمين» .

ثمّ أقبل على تلك الصفوة فقال لهم:«الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديّانون» .

وحكت هذه الكلمات الذهبية واقع الناس واتّجاهاتهم، فهم في جميع مراحل التأريخ عبيد الدنيا، أمّا الدين فإنّما يجري على ألسنتهم، فإذا محّصوا بالبلاء مالوا عنه وتنكّروا له.

ثمّ خاطب أصحابه قائلاً:«أمّا بعد، فقد نزل بنا ما قد ترون، وأنّ الدنيا قد تغيّرت وتنّكرت، وأدبر

٢٣٧

معروفها، ولم يبقَ منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل(١) .

ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً» (٢) .

والتاعت سيدة النساء زينب حينما سمعت خطاب أخيها وهو مصمّم على الموت، فقد اعتبره سعادة، واعتبر الحياة والعيش مع الظالمين برماً.

وحينما أنهى الإمام (عليه السّلام) خطابه هبّ أصحابه وأهل بيته وهم يعلنون الدعم الكامل له، ويهزؤون بالحياة، ويسخرون من الموت من أجله، فشكرهم الإمام (عليه السّلام) وأثنى عليهم.

خطبة ابن مرجانة

وحينما انتهى النبأ بنزول الإمام في كربلاء وإحاطة الحرّ به، دعا ابن مرجانة الناس إلى الجامع الأعظم فامتلأ منهم، فقام فيها خطيباً فقال: أيّها الناس، إنّكم بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبّون، وهذا أمير المؤمنين يزيد قد عرفتموه؛ حسن السيرة، محمود الطريقة، محسناً إلى الرعية، يُعطي العطاء في حقّه، وقد أمنت السبل على عهده، وكذلك كان أبوه معاوية في عصره.

وهذا ابنه يزيد يُكرم العباد، ويغنيهم بالأموال، وقد زادكم في أرزاقكم مئة مئة، وأمرني أن اُوفّرها عليكم، واُخرجكم إلى حرب عدوّه الحسين، فاسمعوا له وأطيعوا(٣) .

لقد منّاهم بالأموال التي يعبدونها من دون الله فاستجابوا له، وخرجوا

____________________

(١) المرعى الوبيل: هو الطعام الوخيم الذي يخاف وباله.

(٢) تاريخ ابن عساكر ١٣ / ٧٤، من مصوّرات مكتبة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام).

(٣) الأخبار الطوال / ٢٥٣.

٢٣٨

كالكلاب لحرب ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسيّد شباب أهل الجنة.

انتخاب ابن سعد للقيادة العامة

وانتخب الوغد الأثيم عبيد الله بن زياد عمر بن سعد قائداً عامّاً لقوّاته المسلّحة، وكان ابن سعد من أخسّ الناس ومن أرذلهم، ولا يملك أيّ رصيد من الشرف والكرامة، وكان ضعيف النفس، خائر العزيمة، لقد انتخبه ابن زياد لأفظع جريمة منذ خلق الله الأرض.

فقاد الجيوش لحرب ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأحاط به من كلّ جانب، وفرض عليه الحصار، فاستولى على جميع الطرق مخافة أن يصل إليه أيّ إمداد من الخارج. كما عهد إلى أربعة آلاف فارس بقيادة المجرم عمرو بن الحجّاج فاحتلوا نهر الفرات وجميع الشرائع والأنهر المتفرّعة منه، وقد حيل بين الإمام الحسين (عليه السّلام) وبين الماء قبل قتله بثلاثة أيام(١) .

وقد عانت العقيلة أعظم المحن؛ فقد أحاطت بها الأطفال وحرائر الرسالة وهم يعجّون من ألم الظمأ، وهي تصبّرهم وتمنّيهم بوصول الماء إليهم. لقد ذاب قلبها رحمةّ وحناناً على أطفال أخيها الذين ذبلت شفاههم وذوى عودهم.

يقول أنور الجندي:

و ذئابُ الشرورِ تنعمُ بالما = ءِ وأهلُ النبي من غيرِ ماءِ

يا لظلمِ الأقدارِ يظمأ قلب ال = -ليثِ و الليثُ موثقُ الأعضاءِ

وصغارُ الحسينِ يبكونَ في الصحرا = ء يا ربِّ أينَ غوثُ القضاءِ

إنّ جميع الشرائع والمذاهب لا تُبيح منع الماء عن الأطفال والنساء؛ فالناس جميعاً شركاء فيه، ولكن شريعة آل أبي سفيان التي تحكي طباع الاُسر القرشيّة التي أبت أن تجتمع الخلافة والنبوّة في بيت واحد هي التي حرّمت الماء على آل الرسول (صلّى الله عليه وآله).

____________________

(١) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان / ٨٩.

٢٣٩

الإمام (عليه السّلام) مع ابن سعد

وطلب الإمام (عليه السّلام) من ابن سعد الاجتماع به، فأجابه الباغي اللئيم على كره، وعقد الإمام (عليه السّلام) معه اجتماعاً مغلقاً حضره أبو الفضل العباس وعلي الأكبر، ومع ابن سعد ابنه حفص وغلام له، فقال له الإمام (عليه السّلام):«يابن سعد، أتقاتلني؟ أما تتقي الله الذي إليه معادك؛ فإنّي ابن مَنْ قد علمت؟ ألا تكون معي وتدع هؤلاء فإنّه أقرب إلى الله تعالى؟» .

وألقى ابن سعد معاذيره الواهية قائلاً: أخاف أن تُهدم داري.

-«أنا أبنيها» .

- أخاف أن تؤخذ ضيعتي.

-«أنا أخلف عليك خيراً منها» .

- إنّ لي بالكوفة عيالاً، وأخاف عليهم من القتل مع ابن زياد.

ولمّا رأى الإمام (عليه السّلام) إصراره على الغيّ والعدوان، ولا ينفع معه النصح والإرشاد، راح يدعو عليه قائلاً:«ما لك؟ ذبحك الله على فراشك، ولا غفر لك يوم حشرك، فوالله إنّي لأرجو أن لا تأكل من برّ العراق إلاّ يسيراً» .

وولّى ابن سعد وهو يقول للإمام بسخرية: إنّ في الشعير كفاية.

واستجاب الله دعاء الإمام المظلوم في هذا الوضر الخبيث؛ فقد ذبحته جنود البطل العظيم المختار بن يوسف (نضّر الله مثواه) وهو على فراشه، وسيقت روحه الخبيثة إلى نار جهنم خالداً فيها مع أمثاله من المجرمين وأسياده الاُمويِّين.

وكانت العقيلة على علم بجميع ما يجري من الأحداث، وأيقنت أنّ أخاها سيلاقي حتفه على يد هذه العصابة المجرمة التي لم تؤمن بالله، والتي ساقتها الأطماع إلى اقتراف أفظع جريمة في الأرض.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343