السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام16%

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 343

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 186396 / تحميل: 8251
الحجم الحجم الحجم
السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

إنّ كلمة (الرحمة) التي ذكرت هنا لها مفهوم واسع ، ويدخل ضمنه كل خير وبركة وسعادة ، سواء في هذه الحياة أو في العالم الآخر ، وهذه الجملة في الواقع جاءت مقابلة لحال المنافقين الذين لعنهم الله وأبعدهم عن رحمته.

ولا شك أنّ وعد الله للمؤمنين قطعي ويقيني لأنّ الله قادر وحكيم ، ولا يمكن للحكيم أن يعد بدون سبب ، وليس الله القادر بعاجز عن الوفاء بوعده حين وعد( إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

الآية الثّانية شرحت جانبا من هذه الرحمة الإلهية الواسعة التي تعم المؤمنين في بعديها المادي والمعنوي. فهي أوّلا تقول :( وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) ، ومن خصائص هذه النعمة الكبيرة أنّها لا زوال لها ولا فناء ، بل الخلود الأبدي ، لذا فإن المؤمنين والمؤمنات سيكونون( خالِدِينَ فِيها ) .

ومن المواهب الإلهية الأخرى التي سوف ينعمون بها هي المساكن الجميلة ، والمنازل المرفهة التي أعدها الله لهم وسط الجنان( وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ) .

(عدن) في اللغة تعني الإقامة والبقاء في مكان ما ، ولهذا يطلق على المكان الذي توجد فيه مواد خاصّة اصطلاح (معدن) ، وعلى هذا المعنى فإنّ هناك شبها بين الخلود وعدن ، لكن لما أشارت الجملة السابقة إلى مسألة الخلود ، يفهم من هذه الجملة أن جنات عدن محل خاص في الجنّة يمتاز على سائر حدائق الجنّة.

لقد وردت هذه الموهبة الإلهية بأشكال وتفسيرات مختلفة في الرّوايات وكلمات المفسّرين ، فنطالع في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عدن دار الله التي لم ترها عين ، ولم يخطر على قلب بشر ، لا يسكنها غير ثلاثة : النّبيين ، والصدّيقين ، والشّهداء»(1) .

وفي كتاب الخصال نقل عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من سرّه أن يحيا حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنتي التي واعدني الله ربّي ، جنات عدن فليوال علي بن أبي

__________________

(1) مجمع البيان ، ذيل الآية.

١٢١

طالبعليه‌السلام وذريتهعليهم‌السلام من بعده».(1) ويتّضح من هذا الحديث أن جنات عدن حدائق خاصّة في الجنّة سيستقر فيها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجماعة من خلّص أصحابه وأتباعه. وهذا المضمون قد ورد في حديث آخر عن عليعليه‌السلام ، ويدل على أن جنات عدن مقر إقامة نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

بعد ذلك تشير الآية إلى الجزاء المعنوي المعد لهؤلاء ، وهو رضى الله تعالى عنهم المختص بالمؤمنين الحقيقيين ، وهو أهم وأعظم جزاء ، ويفوق كل النعم والعطايا الأخرى( وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ) .

إنّ اللذة المعنوية والإحساس الروحي الذي يحس ويلتذ به الإنسان عند شعوره برضى الله سبحانه وتعالى عنه لا يمكن أن يصفه أي بشر ، وعلى قول بعض المفسّرين فإنّ نسمة ولحظة من هذه اللذة الروحية تفوق نعم الجنّة كلها ومواهبها المختلفة والمتنوعة واللامتناهية.

من الطبيعي أنّنا لا نستطيع أن نجسم ونرسم صورة في أفكارنا عن أي نعمة من نعم الحياة الأخرى ونحن في قفص الحياة الدنيا وحياتها المحدودة ، فكيف سنصل إلى إدراك هذه النعمة المعنوية والروحية الكبرى؟!

نعم ، يمكن إيجاد تصور ضعيف عن الاختلافات المادية والمعنوية التي نعيشها في هذه الدنيا ، فمثلا يمكن إدراك الاختلاف في اللذة بين اللقاء بصديق عزيز جدا بعد فراق طويل ولذّة الإحساس الروحي الخاص الذي يعتري الإنسان عند إدراكه أو حلّه لمسألة علمية معقدة صرف في تحصيلها والوصول إلى دقائقها الشهور ، بل السنين ، أو الانشداد الروحي الذي يبعث على النشاط والجد في لحظات خلوص العبادة ، أو النشوة عند توجه القلب وحضوره في مناجاة تمتزج بهذا الحضور ، وبين اللذة التي نحس بها من تناول طعام لذيذ وأمثالها من اللذائذ ، ومن الطبيعي أن هذه اللذائذ المادية لا يمكن مقارنتها باللذائذ المعنوية ، ولا يمكن

__________________

(1) كتاب الخصال ، على ما نقل في نور الثقلين ، ج 2 ، ص 241.

١٢٢

أن تصل إلى مصافها.

من هنا يتّضح التصور الخاطئ لمن يقول بأن القرآن الكريم عند ما يتحدث عن الجزاء والعطاء الإلهي الذي سيناله المؤمنون الصالحون يؤكّد على النعم المادية ، ولا يتطرق إلى النواحي المعنوية ، لأن الجملة أعلاه ـ أي : رضوان من الله أكبر ـ ذكرت أن رضوان الله أكبر من كل النعم ، خاصّة وأنّها وردت بصيغة النكرة ، وهي تدل على أن قسما من رضوان الله أفضل من كل النعم المادية الموجودة في الجنّة ، وهذا يبيّن القيمة السامية لهذا العطاء المعنوي.

إن الدليل على أفضلية الجزاء المعنوي واضح أيضا ، لأنّ الروح في الواقع بمثابة (الجوهر) والجسم بمكان (الصدف) ، فالروح كالآمر والقائد ، والجسم كالجندي المطيع والمنفذ ، فالتكامل الروحي هو الهدف ، والجسم وسيلة ولهذا السبب فإن إشعاعات الروح وآفاقها أوسع من الجسم واللذائذ الروحية لا يمكن قياسها ومقارنتها باللذائذ المادية والجسمية ، كما أن الآلام الروحية أشدّ ألما من الآلام الجسمية.

وفي نهاية أشارت الآية إلى جميع هذه النّعم المادية والمعنوية ، وعبرت عنها بأنّ( ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

* * *

١٢٣

الآية

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) )

التّفسير

جهاد الكفار والمنافقين :

وأخيرا ، صدر القرار الإلهي للنّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وجوب جهاد الكفار والمنافقين بكل قوّة وحزم( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ) ولا تأخذك بهم رأفة ورحمة ، بل شدد( وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) . وهذا العقاب هو العقاب الدنيوي ، أمّا في الآخرة فإن محلهم( وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

إن طريقة جهاد الكفار واضحة ومعلومة ، فإنّ جهادهم يعني التوسل بكل الطرق والوسائل في سبيل القضاء عليهم ، وبالذات الجهاد المسلح والعمل العسكري ، لكن البحث في أسلوب جهاد المنافقين ، فمن المسلم أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يجاهدهم عسكريا ولم يقابلهم بحد السيف ، لأنّ المنافق هو الذي أظهر الإسلام ، فهو يتمتع بكل حقوق المسلمين وحماية القانون الإسلامي بالرغم من أنّه يسعى لهدم الإسلام في الباطن فكم من الأفراد لا حظّ لهم من الإيمان ، ولا يؤمنون حقيقة بالإسلام ، غير أنّنا لا نستطيع أن نعاملهم معاملة غير المسلمين.

اذن ، فالمستفاد من الرّوايات وأقوال المفسّرين هو أنّ المقصود من جهاد

١٢٤

المنافقين هو الاشكال والطرق الأخرى للجهاد غير الجهاد الحربي والعسكري ، كالذم والتوبيخ والتهديد والفضيحة ، وربّما تشير جملة( وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) إلى هذا المعنى.

ويحتمل في تفسير هذه الآية : أنّ المنافقين يتمتعون بأحكام الإسلام وحقوقه وحمايته ما دامت أسرارهم مجهولة ، ولم يتّضح وضعهم على حقيقته ، أمّا إذا تبيّن وضعهم وانكشفت خبيئة أسرارهم فسوف يحكمون بأنّهم كفار حربيون ، وفي هذه الحالة يمكن جهادهم حتى بالسيف.

لكن الذي يضعف هذا الاحتمال أنّ إطلاق كلمة المنافقين على هؤلاء لا يصح في مثل هذه الحالة ، بل إنّهم يعتبرون من جملة الكفار الحربيين ، لأنّ المنافق ـ كما قلنا سابقا ـ هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر.

* * *

١٢٥

الآية

( يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) )

سبب النّزول

ذكرت في سبب نزول هذه الآيات أقوال وآراء مختلفة ، وكلّها تتفق على أن بعض المنافقين قد تحدثوا بأحاديث سيئة وغير مقبولة حول الإسلام والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعد أن فشا أمرهم وانتشرت أسرارهم أقسموا كذبا بأنّهم لم يتفوهوا بشيء ، وكذلك فإنّهم قد دبروا مؤامرة ضد النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، غير أنّها قد أحبطت.

ومن جملتها : أنّ أحد المنافقين ـ واسمه جلاس ـ سمع بعضا من خطب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّام غزوة تبوك ، وأنكرها بشدّة وكذبها ، وبعد رجوع المسلمين إلى المدينة حضر رجل يقال له : عامر بن قيس ـ كان قد سمع جلاس ـ عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبلغه كلام جلاس ، فلما حضر جلاس وسأله النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك أنكر ، فأمرهما

١٢٦

النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقسما بالله ـ في المسجد عند المنبر ـ أنّهما لا يكذبان ، فاقتربا من المنبر في المسجد وأقسما ، إلّا أن عامرا دعا بعد القسم وقال : اللهم أنزل على نبيّك آية تعرّف الصادق ، فأمّن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون على دعائه. فنزل جبرئيل بهذه الآية ، فلمّا بلغ قوله تعالى :( فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ ) قال جلاس : يا رسول الله ، إنّ الله اقترح عليّ التوبة ، وإنّي قد ندمت على ما كان منّي ، وأتوب منه ، فقبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توبته.

وكما أشرنا سابقا فقد ذكر أن جماعة من المنافقين صمموا على قتل النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طريق عودته من غزوة تبوك ، فلمّا وصل إلى العقبة نفروا بعيره ليسقط في الوادي، إلّا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أطلع بنور الوحي على هذه النّية الخبيثة ، فرد كيدهم في نحورهم وأبطل مكرهم. وكان زمام الناقة بيد عمار يقودها ، وكان حذيفة يسوقها لتكون الناقة في مأمن تام ، وأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين أن يسلكوا طريقا آخر حتى لا يخفي المنافقون أنفسهم بين المسلمين وينفّذوا خطتهم.

ولما وصل إلى سمع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقع أقدام هؤلاء أو حوافر خيولهم أمر بعض أصحابه أن يدفعوهم ويبعدوهم ، وكان عدد هؤلاء المنافقين اثني عشر أو خمسة عشر رجلا ، وكان بعضهم قد أخفى وجهه ، فلمّا رأوا أن الوضع لا يساعدهم على تنفيذ ما اتفقوا تواروا عن الأنظار ، إلّا أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرفهم وذكر أسماءهم واحدا واحدا لبعض أصحابه(1) .

لكن الآية ـ كما سنرى ـ تشير إلى خطتين وبرنامجين للمنافقين : إحداهما : أقوال هؤلاء السيئة. والأخرى : المؤامرة والخطة التي أحبطت ، وعلى هذا الأساس فإنا نعتقد أن كلا سببي النزول صحيحان معا.

__________________

(1) ما ذكرناه اقتباس من تفسير مجمع البيان والمنار وروح المعاني وتفاسير أخر.

١٢٧

التّفسير

مؤامرة خطرة :

إنّ ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة واضح جدّا ، لأنّ الكلام كان يدور حول المنافقين ، غاية ما في الأمر أنّ هذه الآية تزيح الستار عن عمل آخر من أعمال المنافقين ، وهو أن هؤلاء عند ما رأوا أن أمرهم قد انكشف ، أنكروا ما نسب إليهم بل أقسموا باليمين الكاذبة على مدّعاهم.

في البداية تذكر الآية أن هؤلاء المنافقين لا يرتدعون عن اليمين الكاذبة في تأييد إنكارهم ، ولدفع التهمة فإنّهم( يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا ) في الوقت الذي يعلمون أنّهم ارتكبوا ما نسب إليهم من الكفر( وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ ) وعلى هذا فإنّهم قد اختاروا طريق الكفر بعد إعلانهم الإسلام( وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ) ومن البديهي أن هؤلاء لم يكونوا مسلمين منذ البداية ، بل إنّهم أظهروا الإسلام فقط ، وعلى هذا فإنّهم بإظهارهم الكفر قد هتكوا ومزّقوا حتى هذا الحجاب المزيف الذي كانوا يتسترون به.

وفوق كل ذلك فقد صمّموا على أمر خطير لم يوفقوا لتحقيقه( وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ) ويمكن أن يكون هذا إشارة إلى تلك المؤامرة لقتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلة العقبة ، والتي مرّ ذكرها آنفا ، أو أنّه إشارة إلى كل أعمال المنافقين التي يسعون من خلالها إلى تحطيم المجتمع الإسلامي وبثّ بذور الفرقة والفساد والنفاق بين أوساطه ، لكنّهم لن يصلوا إلى أهدافهم مطلقا.

ممّا يستحق الانتباه أن يقظة المسلمين تجاه الحوادث المختلفة كانت سببا في معرفة المنافقين وكشفهم ، فقد كان المسلمون ـ دائما ـ يرصدون هؤلاء ، فإذا سمعوا منهم كلاما منافيا فإنّهم يخبرون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به من أجل منعهم وتلقي الأوامر فيما يجب عمله تجاه هؤلاء. إنّ هذا الوعي والعمل المضاد المؤيّد بنزول الآيات أدى إلى فضح المنافقين وإحباط مؤامراتهم وخططهم الخبيثة.

١٢٨

الجملة الأخرى تبيّن واقع المنافقين القبيح ونكرانهم للجميل فتقول الآية : إنّ هؤلاء لم يروا من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي خلاف أو أذى ، ولم يتضرروا بأي شيء نتيجة للتشريع الإسلامي، بل على العكس ، فإنّهم قد تمتعوا في ظل حكم الإسلام بمختلف النعم المادية والمعنوية( وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (1) وهذه قمة اللؤم.

ولا شك أنّ إغناءهم وتأمين حاجاتهم في ظل رحمة الله وفضله وكذلك بجهود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يستحق أن ينقم من جرائه هؤلاء المنافقون ، بل إنّ حقّه الشكر والثناء ، إلّا أنّ هؤلاء اللؤماء المنكرين للجميل والمنحرفي السيرة والسلوك قابلوا الإحسان بالإساءة.

ومثل هذا التعبير الجميل يستعمل كثيرا في المحادثات والمقالات ، فمثلا نقول للذي أنعمنا عليه سنين طويلة وقابل إحساننا بالخيانة : إنّ ذنبنا وتقصيرنا الوحيد أنّنا آويناك ودافعنا عنك وقدّمنا لك منتهى المحبّة على طبق الإخلاص.

غير أنّ القرآن ـ كعادته ـ رغم هذه الأعمال لم يغلق الأبواب بوجه هؤلاء ، بل فتح باب التوبة والرجوع إلى الحق على مصراعيه إن أرادوا ذلك ، فقال :( فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ ) . وهذه علامة واقعية الإسلام واهتمامه بمسألة التربية ، ومعارضته لاستخدام الشدّة في غير محلّها وهكذا فتح باب التوبة حتى بوجه المنافقين الذين طالما كادوا للإسلام وتآمروا على نبيّه وحاكوا الدسائس والتهم ضده ، بل إنّه دعاهم إلى التوبة أيضا.

هذه في الحقيقة هي الصورة الواقعية للإسلام ، فما أظلم هؤلاء الذين يرمون

__________________

(1) ممّا يستحق الانتباه أن الجملة أعلاه بالرغم من أنّها تتحدث عن فضل الله ورسوله ، إلّا أن الضمير في( مِنْ فَضْلِهِ ) جاء مفردا لا مثنى ، والسبب في ذلك هو ما ذكرناه قبل عدة آيات من أن أمثال هذه التعبيرات لأجل إثبات حقيقة التوحيد ، وأن كل الأعمال بيد الله سبحانه ، وأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا ما عمل عملا فهو بأمر الله سبحانه ، ولا ينعزل عن إرادته سبحانه.

١٢٩

الإلام بأنّه دين القوة والإرهاب والخشونة

هل توجد في عالمنا المعاصر دولة مستعدة لمعاملة من يسعى لإسقاطها وتحطيمها كما رأينا في تعامل الإسلام السامي مع مناوئيه ، مهما ادّعت أنّها من أنصار المحبة والسلام؟! وكما مرّ علينا في سبب نزول الآية ، فإنّ أحد رؤوس النفاق والمخططين له لما سمع هذا الكلام تاب ممّا عمل ، وقبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توبته.

وفي نفس الوقت ومن أجل أن لا يتصور هؤلاء أن هذا التسامح الإسلامي صادر من منطق الضعف ، حذّرهم بأنّهم إن استمروا في غيهم وتنكّروا لتوبتهم ، فإنّ العذاب الشديد سينالهم في الدّارين( وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) وإذا كانوا يظنون أنّ أحدا يستطيع أن يمدّ لهم يد العون مقابل العذاب ا لإلهي فإنّهم في خطأ كبير ، فإنّ العذاب إذا نزل بهم فساء صباح المنذرين :( وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) .

من الواضح بديهة أنّ عذاب هؤلاء في الآخرة معلوم ، وهو نار جهنم ، أمّا عذابهم في الدنيا فهو فضيحتهم ومهانتهم وتعاستهم وأمثال ذلك.

* * *

١٣٠

الآيات

( وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) )

سبب النّزول

المعروف بين المفسّرين أنّ هذه الآيات نزلت في رجل من الأنصار يدي ثعلبة بن حاطب ، وكان رجلا فقيرا يختلف إلى المسجد دائما ، وكان يصر على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدعو له بأن يرزقه الله مالا وفيرا ، فقال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» أو ليس الأولى لك أن تتأسى بنبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتحيا حياة بسيطة وتقنع بها؟ لكن ثعلبة لم يكف ولم يصرف النظر عن أمله ، وأخيرا قال للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والّذي بعثك بالحق نبيّا ، لئن رزقني الله لأعطين كل الحقوق وأؤدي كل الواجبات ، فدعا له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فلم يمض زمان ـ وعلى رواية ـ حتى توفي ابن عم له ، وكان غنيّا جدّا ،

١٣١

فوصلت إليه ثروة عظيمة ، وعلى رواية أخرى أنّه اشترى غنما ، فلم تزل تتوالد حتى أصبح حفظها ورعايتها في المدينة أمرا غير ممكن ، فاضطر أن يخرج إلى أطراف المدينة ، فألهته أمواله عن حضور الجماعة ، بل وحتى الجمعة.

وبعد مدّة أرسل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاملا إلى ثعلبة ليأخذ الزكاة منه ، غير أن هذا الرجل البخيل الذي عاش لتوّه حياة الرفاه امتنع من أداء حقوق الله تعالى ، ولم يكتف بذلك ، بل اعترض على حكم الزّكاة وقال : إنّ حكم الزكاة كالجزية ، أي أنّنا أسلمنا حتى لا نؤدي الجزية ، فإذا وجبت علينا الزكاة فأي فرق بيننا وبين غير المسلمين؟

قال هذا في الوقت الذي لم يفهم معنى الجزية ولا معنى الزكاة ، أو أنّه فهمه ، إلّا أن حبّ الدنيا وتعلقه بها لم يسمح له ببيان الحقيقة وإظهار الحق ، فلمّا بلغ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قاله قال : «يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة» ، فنزلت هذه الآيات.

وقد ذكرت أسباب أخر لنزول هذه الآيات تشابه قصّة ثعلبة مع اختلاف يسير.

ويفهم من أسباب النزول المذكورة ومن مضمون الآيات أنّ هذا الشخص ـ أو الأشخاص المذكورين ـ لم يكونوا من المنافقين في بداية الأمر ، لكنّهم لهذه الأعمال ساروا في ركابهم.

التّفسير

المنافقون وقلّة الاستيعاب :

هذه الآيات في الحقيقة تضع إصبعها على صفة أخرى من صفات المنافقين السيّئة ، وهي أنّ هؤلاء إذا مسّهم البؤس والفقر والمسكنة عزفوا على وتر الإسلام بشكل لا يصدق معه أحد أنّ هؤلاء يمكن أن يكونوا يوما من جملة المنافقين ، بل ربّما ذمّوا ولاموا الذين يمتلكون الثروات والقدرات الواسعة على عدم استثمارها في خدمة المحرومين ومساعدة المحتاجين!

١٣٢

إلّا أنّ هؤلاء أنفسهم ، إذا تحسّن وضعهم المادي فإنّهم سينسون كل عهودهم ومواثيقهم مع الله والناس ، ويغرقون في حبّ الدنيا ، وربّما تغيّرت كل معالم شخصياتهم ، ويبدؤون بالتفكير بصورة أخرى وبمنظار مختلف تماما ، وهكذا يؤدي ضعف النفس هذا إلى حبّ الدنيا والبخل وعدم الإنفاق وبالتالي يكرّس روح النفاق فيهم بشكل يوصد أمامهم أبواب الرجوع إلى الحق.

فالآية الأولى تتحدث عن بعض المنافقين الذين عاهدون الله على البذل والعطاء لخدمة عباده إذا ما أعطاهم الله المال الوفير( وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

إلّا أنّهم يؤكّدون هذه الكلمات والوعود ما دامت أيديهم خالية من الأموال( فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) غير أن عملهم هذا ومخالفتهم للعهود التي قطعوها على أنفسهم بذرت روح النفاق في قلوبهم وسيبقى إلى يوم القيامة متمكنا منهم( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ) وإنّما استحقوا هذه العاقبة السيئة غير المحمودة( بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ ) .

وفي النهاية وبّخت الآية هؤلاء النفر ولامتهم على النوايا السيئة التي يضمرونها ، وعلى انحرافهم عن الصراط المستقيم ، واستفهمت بأنّهم( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) .

* * *

ملاحظات

وهنا يجب الانتباه إلى عدّة ملاحظات :

1 ـ يمكن أن نرى بوضوح تام من خلال جملة( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ ) أنّ النسبة والعلاقة بين الكثير من الذنوب والصفات السيئة ، بل وحتى بين الكفر

١٣٣

والنفاق ، هي نسبة وعلاقة العلة والمعلول ، لأنّ الجملة الآنفة الذكر تبيّن وتقول بصراحة : إنّ سبب النفاق الذي نبت في قلوبهم وحرفهم عن الجادة هو بخلهم ونقضهم لعهودهم ، وكذلك الذنوب والمخالفات الأخرى التي ارتكبوها ، ولهذا فإنّنا نقرأ في بعض العبارات أن الكبائر في بعض الأحيان تكون سببا في أن يموت الإنسان وهو غير مؤمن ، إذ ينسلخ منه روح الإيمان بسببها.

2 ـ إنّ المقصود من( يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ) والذي يعود ضميره إلى الله سبحانه وتعالى هو يوم القيامة ، لأن تعبير( لِقاءَ رَبِّهِ ) وأمثاله في القرآن يستعمل عادة في موضوع القيامة. صحيح أن فترة العمل ـ التي هي الحياة الدنيا ـ تنتهي بموت الإنسان ، وبموته يغلق ملف أعماله الصالحة والطالحة ، إلّا أن آثار تلك الأعمال تبقى تؤثر في روح الإنسان إلى يوم القيامة.

وقد احتمل جماعة أنّ ضمير (يلقونه) يعود إلى البخل ، فيكون المعنى : حتى يلاقوا جزاء بخلهم وعقابه. ويحتمل كذلك أن يكون المراد من لقاء الله : لحظة الموت. إلّا أن جميع هذه خلاف ظاهر الآية ، والظاهر ما قلناه.

ولنا بحث في أنّه ما هو المقصود من لقاء الله في ذيل الآية (64) من سورة البقرة.

3 ـ ويستفاد أيضا ـ من الآيات أعلاه ـ أنّ نقض العهود والكذب من صفات المنافقين ، فهؤلاء سحقوا جميع العهود المؤكدة مع ربّهم ولم يعيروها أية أهمية ، فإنّهم يكذبون حتى على ربّهم ، والحديث المعروف المنقول عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤكّد هذه الحقيقة ، حيث

يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «للمنافق ثلاث علامات : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان»(1) .

ومن الملفت للنظر وجود هذه العلامات الثلاث مجتمعة في القصّة المذكورة ـ قصّة ثعلبة ـ فإنّه كذب ، وأخلف وعده ، وخان أمانة الله ، وهي الأموال التي رزقه الله

__________________

(1) مجمع البيان ، ذيل الآية.

١٣٤

إيّاها ، وهي في الحقيقة أمانة الله عنده.

وقد ورد الحديث المذكور في الكافي بصورة أشد تأكيدا عن الإمام الصادقعليه‌السلام عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «ثلاث من كن فيه كان منافقا ، وإن صام وصلى وزعم أنّه مسلم : من إذا ائتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف»(1) .

نذكر هنا أن من الممكن أن تصدر الذنوب المذكورة من المؤمنين ، إلّا أنّها نادرة ، أمّا استمرار صدورها فهو علامة روح النفاق في ذلك الشخص.

4 ـ وهنا ملاحظة أخرى ينبغي أن ننبه عليها ، وهي أن ما قرأناه في هذه الآيات ليس بحثا تاريخيا مختصا بحقبة مضت من الزمان ، بل هو بيان واقع أخلاقي واجتماعي يوجد في كل عصر وزمان ، وفي كل مجتمع ـ بدون استثناء ـ توجد نماذج كثيرة تمثل هذا الواقع.

إذا لا حظنا واقعنا الذي نعيشه ودققنا فيه ـ وربّما إذا نظرنا إلى أنفسنا ـ فسنكتشف نماذج من أعمال ثعلبة بن حاطب ، وطريقة تفكيره في صور متعددة وأشخاص مختلفين ، فإنّ الكثيرين في الأوضاع العادية أو عند إعسارهم وفقرهم يكونون من المؤمنين المتحرقين على دينهم والثابتين على عهدهم حيث يحضرون في الحلقات الدينية ، وينضوون تحت كل لواء يدعو إلى الإصلاح وإنقاذ المجتمع ، ويضمون أصواتهم إلى كل مناد الحق والعدالة ، ولا يألون جهدا في سبيل أعمال الخير ، ويصرخون ويقفون بوجه كل فساد.

أمّا إذا فتحت أمامهم أبواب الدنيا ونالوا بعض العناوين والمراكز القيادية أو تسلطوا على رقاب الناس ، فستتغير صورهم وسلوكهم ، والأدهى من كل ذلك أن تتبدل ماهيتهم ، وعندئذ سيخمد لهيب عشقهم لله ، ويهدأ ذلك الهيجان والتحرق على دين الله ، وتفتقدهم تلك الحلقات والجلسات الدينية ، فلا يساهمون في أية خطة إصلاحية ولا يسعون من أجل ذلك الحق ، ولا تثبت لهم قدم في مواجهة

__________________

(1) سفينة البحار ، ج 2 ، ص 607.

١٣٥

الباطل.

هؤلاء وقبل أن يصلوا الى مآربهم لم يكن لهم محل من الإعراب ، أو أثر في المجتمع ، لذا سيعاهدون الله وعباده بألف عهد وميثاق بأنّهم إن تمكنوا من الأمر ، أو امتلأت أياديهم من القدرات والأموال فسيفعلون كذا وكذا ، ويتوسلون للوصول الى أهدافهم بطرح آلاف الإشكالات والانتقادات فى حق المتصدين ويتهمونهم بعدم معرفتهم بإدارة الأمور ، وعدم إحاطتهم بوظائفهم وواجباتهم ، أمّا إذا وصلوا الى ما يرومونه وتمكنوا من الأمر ، فسينسون كل تلك الوعود والعهود ويتنكرون لها ، وستتبخر كل تلك الإيرادات والانتقادات وتذوب كما يذوب الجليد في حرارة الصيف.

نعم ، إنّ ضعف النفس هذا واحدة من العلامات البارزة والواضحة للمنافقين ، وهل النفاق إلّا كون صاحبه ذا وجهين ، وبتعبير آخر : هل هو إلّا ازدواج الشخصية؟ إن سيرة هكذا أفراد وتأريخهم نموذج للشخصية المزدوجة ، لأن الإنسان الأصيل ذو الشخصية المتينة لا يكون مزدوج الشخصية.

ولا شك أنّ للنفاق درجات مختلفة ، كالإيمان ، تماما ، فالبعض قد ترسخت فيهم هذه الخصلة الخبيثة الى درجة اقتلعت كل زهور الإيمان بالله من قلوبهم ، ولم تبق لها أثرا ، بالرغم من أنّهم ألصقوا أنفسهم بالمؤمنين وادعوا أنّهم منهم.

لكن البعض الآخر مع أنّهم يملكون إيمانا ضعيفا ، وهم مسلمون بالفعل ، إلّا أنّهم يرتكبون أعمالا تتفق مع سلوك المنافقين ، وتفوح منها رائحة الازدواجية ، فهؤلاء ديدنهم الكذب ، إلّا أن ظاهرهم الصدق والصلاح ، ومثل هؤلاء يصدق عليهم أيضا أنّهم منافقون وذوو وجهين.

أليس الذي عرف بالأمانة لظاهره الصالح ، واستطاع بذلك أن يكسب ثقة واطمئنان الناس فأودعوه أماناتهم ، إلّا أنّه يخونهم في أماناتهم ، هو في واقع الحال مزدوج الشخصية؟

١٣٦

وكذلك الذين يقطعون العهود والمواثيق ، لكنّهم لا يفون بها مطلقا ، ألا يعتبر عملهم عمل المنافقين؟

إن من أكبر الأمراض الاجتماعية ، ومن أهم عوامل تخلف المجتمع وجود أمثال هؤلاء المنافقين في المجتمعات البشرية ونحن نستطيع أن نحصي الكثير منهم في مجتمعاتنا الاسلامية إذا كنّا واقعيين ولم نكذب على أنفسنا. والعجب أنّنا رغم كل هذه العيوب والمخازي والبعد عن روح التعليمات والقوانين الإسلامية ، فإننا نحمّل الإسلام تبعة تخلفنا عن الركب الحضاري الأصيل!

* * *

١٣٧

الآيتان

( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) )

سبب النّزول

وردت عدّة روايات في سبب نزول هذه الآيات في كتب التّفسير والحديث ، يستفاد من مجموعها أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد صمّم على إعداد جيش المسلمين لمقابلة العدو ـ وربّما كان ذلك في غزوة تبوك ـ وكان محتاجا لمعونة الناس في هذا الأمر ، فلما أخبرهم بذلك سارع الأغنياء إلى بذل الكثير من أموالهم ، سواء كان هذا البذل من باب الزكاة أو الإنفاق ، ووضعوا هذه الأموال تحت تصرف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أمّا الفقراء ، كأبي عقيل الأنصاري أو سالم بن عمير الأنصاري ، لما لم يجدوا ما ينفقونه لمساعدة جنود الإسلام ، فقد عمدوا إلى مضاعفة عملهم ، واستقاء الماء

١٣٨

ليلا ، فحصلوا على صاعين من التمر ، فادخروا منه صاعا لمعيشتهم ومعيشة أهليهم ، وأتوا بالآخر إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقدموه ، وشاركوا بهذا الشيء اليسير ـ الذي لا قيمة له ظاهرا ـ في هذا المشروع الإسلامي الكبير.

غير أنّ المنافقين الذين لا همّ لهم إلّا تتبع ما يمكن التشهير به بدلا من التفكير بالمساهمة الجدية فإنّهم عابوا كلا الفريقين ، أمّا الأغنياء فاتهموهم بأنّهم إنّما ينفقون رياء وسمعة، وأمّا الفقراء الذين لا يستطيعون إلّا جهدهم ، والذين قدموا اليسير وهو عند الله كثير ، فإنهم سخروا منهم بأن جيش الإسلام هل يحتاج إلى هذا المقدار اليسير؟ فنزلت هذه الآيات ، وهددتهم تهديدا شديدا وحذرتهم من عذاب الله.

التّفسير

خبث المنافقين :

في هذه الآيات إشارة إلى صفة أخرى من الصفات العامّة للمنافقين ، وهي أنّهم أشخاص لجوجون معاندون وهمهم التماس نقاط ضعف في أعمال الآخرين واحتقار كل عمل مفيد يخدم المجتمع ومحاولة إجهاضه بأساليب شيطانية خبيثة من أجل صرف الناس عن عمل الخير وبذلك يزرعون بذور النفاق وسوء ظن في أذهان المجتمع ، وبالتالي إيقاف عجلة الإبداع وتطور المجتمع وخمول الناس وموت الفكر الخلّاق.

لكن القرآن المجيد ذم هذه الطريقة غير الإنسانية التي يتبعها هؤلاء ، وعرّفها للمسلمين لكي لا يقعوا في حبائل مكر المنافقين ومن ناحية أخرى أراد أن يفهم المنافقون أن سهمهم لا يصيب الهدف في المجتمع الإسلامي.

ففي البداية يقول : إنّ هؤلاء( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ

١٣٩

أَلِيمٌ ) .

«يلمزون» مأخوذة من مادة (لمز) بمعنى تتبع العيوب والعثرات ، و «المطوّعين» مأخوذة من مادة (طوع) على وزن (موج) بمعنى الطاعة ، لكن هذه الكلمة تطلق عادة على الأفراد الذين دأبهم عمل الخيرات ، وهم يعملون بالمستحبات علاوة على الواجبات.

ويستفاد من الآية أعلاه أنّ المنافقين كانوا يعيبون جماعة ، ويسخرون من الأخرى ، ومن المعلوم أن السخرية كانت تنال الذين يقدمون الشيء القليل ، والذين لا يجدون غيره ليبذلوه في سبيل الإسلام ، وعلى هذا لا بدّ أن يكون لمزهم وطعنهم مرتبطا بأولئك الذين قدموا الأموال الطائلة في سبيل خدمة الإسلام العزيز ، فكانوا يرمون الأغنياء بالرياء ، ويسخرون من الفقراء لقلّة ما يقدمونه.

ونلاحظ في الآية التي تليها تأكيدا أشد على مجازاة هؤلاء المنافقين ، وتذكر آخر تهديد بتوجيه الكلام وتحويله من الغيبة إلى الخطاب ، والمخاطب هذه المرّة هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت :( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ) .

وإنّما لن يغفر الله لهم لأنّهم قد أنكروا الله ورسالة رسوله ، واختاروا طريق الكفر ، وهذا الإختيار هو الذي أرداهم في هاوية النفاق وعواقبه المشؤومة( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) . ومن الواضح أن هداية الله تشمل السائرون في طريق الحق وطلب الحقيقة ، أمّا الفساق والمجرمون والمنافقون فإنّ الآية تقول :( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) .

* * *

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

واستجاب يزيد لرأي مستشار أبيه، فعهد بولاية الكوفة إلى ابن زياد.

ولاية ابن زياد على الكوفة

وكان يزيد ناقماً على ابن زياد، وأراد عزله عن ولاية البصرة(١) ؛ وذلك لموقف أبيه زياد من يزيد؛ فقد عذل أباه معاوية عن ترشيحه للخلافة من بعده.

وعلى أيّ حال، فقد عهد يزيد بولاية البصرة والكوفة إلى ابن زياد، وبذلك فقد خضع العراق بأسره لحكمه، وكتب إليه ما يلي: أمّا بعد، فقد كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتّى تثقفه فتوثقه، أو تقتله أو تنفيه، والسّلام(٢) .

وبعث إليه برسالة اُخرى يطلب فيها الإسراع منه إلى الكوفة، وقد جاء فيها: إن كان لك جناحان فطر إلى الكوفة(٣) .

وحمل رسالة يزيد مسلم بن عمرو الباهلي إلى ابن زياد، وأخذ يجدّ في السير حتّى انتهى إلى البصرة، فسلّم الرسالة إلى ابن زياد وقد طار فرحاً؛ فقد تمّ له الحكم على جميع العراق بعدما كان مهدّداً بالعزل عن ولاية البصرة.

ابن زياد في الكوفة

وسار ابن زياد إلى الكوفة وقد قطع الطريق بسرعة خاطفة فكان يسير ليلاً ونهاراً؛ مخافة أن يسبقه الحسين إليها، وقد صحب معه خمسمئة رجل من أهل البصرة كان

____________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٥٢.

(٢) حياة الإمام الحسين (عليه السلام) ٢ / ٣٥٤.

(٣) سير أعلام النبلاء ٣ / ٢٠١.

٢٠١

فيهم شريك بن الأعور الحارثي، وهو من خلّص أصحاب الإمام الحسين (عليه السّلام)(١) .

وقد لبس ثياباً يمانية وعمامة سوداء ليوهم مَنْ رآه أنّه الحسين (عليه السّلام)، ودخل الكوفة ممّا يلي النجف، وأسرع نحو قصر الإمارة وهو فزع مذعور؛ مخافة أن يعرفه الناس، وساءه كأشدّ ما يكون الاستياء من تباشير الناس بقدومه ظانّين أنّه الحسين (عليه السّلام).

وانتهى ابن مرجانة إلى باب القصر فوجده مغلقاً، والنعمان بن بشير حاكم الكوفة قد أشرف من أعلى القصر، وقد توهّم أنّ القادم هو الحسين (عليه السّلام)؛ لأنّ أصوات الجماهير قد تعالت بالترحيب به والهتاف بحياته.

فانبرى مخاطباً له: ما أنا بمؤدّ إليك أمانتي يابن رسول الله، وما لي في قتالك من إرب.

ولمس ابن مرجانة الضعف والانهيار في كلام النعمان، فصاح به: افتح لا فتحت! فقد طال ليلك. ولمّا تكلّم عرفه الناس، فصاحوا: إنّه ابن مرجانة وربّ الكعبة! وجفل الناس وخافوا وهربوا مسرعين إلى دورهم.

وبادر ابن زياد في ليلته فاستولى على المال والسلاح، وأنفق ليله ساهراً قد جمع حوله عملاء الحكم الاُموي، وهم يحدّثونه عن الثورة ويعرّفونه بأعضائها البارزين، ويضعون أمامه المخطّطات الرهيبة للقضاء عليها.

وقام ابن زياد في الصباح الباكر فأمر عملاءه بجمع الناس في المسجد الأعظم، فاجتمعت الجماهير الحاشدة وقد خيّم عليها الذعر والخوف، وخرج ابن زياد متقلّداً سيفه، ومعتمّاً بعمامة، فاعتلى المنبر وخطب الناس.

وكان من جملة خطابه: أمّا بعد، فإنّ أمير المؤمنين يزيد - أصلحه الله - ولاّني مصركم وثغركم وفيئكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم، وإعطاء محرومكم، والإحسان إلى سامعكم

____________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ١٩٩.

٢٠٢

ومطيعكم، وبالشدّة على مريبكم، فأنا لمطيعكم كالوالد البارّ الشفيق، وسيفي وسوطي على مَنْ ترك أمري وخالف عهدي، فليبق امرؤ على نفسه، الصدق يُنبئ عنك لا الوعيد(١) .

وقام بنشر الإرهاب وإشاعة الخوف بين الناس، ويقول بعض المؤرّخين: إنّه لمّا أصبح ابن زياد - بعد قدومه إلى الكوفة - صال وجال، وأرعد وأبرق، وأمسك جماعة من أهل الكوفة فقتلهم في الساعة(٢) .

وفي اليوم الثاني أمر بجمع الناس وخرج إليهم بزيّ غير ما كان يخرج به، فخطب خطاباً عنيفاً تهدّد فيه وتوعد، وقال: أمّا بعد، فإنّه لا يصلح هذا الأمر إلاّ في شدّة من غير عنف، ولين من غير ضعف، وأن آخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب، والولي بالولي.

فردّ عليه رجل من أهل الكوفة يُقال له أسد بن عبد الله المرّي قائلاً: أيّها الأمير، إنّ الله تبارك وتعالى يقول:( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ، إنّما المرء بجده، والفرس بشدّه، وعليك أن تقول وعلينا أن نسمع، فلا تقدم فينا السيّئة قبل الحسنة.

واُفحم ابن زياد، فنزل عن المنبر ودخل قصر الإمارة(٣) .

مسلم في بيت هانئ

وبعدما كان مسلم في بيت المختار اضطر إلى تغيير مقرّه؛ فقد شعر بالخطر الذي داهمه بقدوم الطاغية ابن مرجانة، فهو يعلم أنّ هذا الوغد لا يتحرّج من اقتراف أيّ جريمة في سبيل الوصول إلى أهدافه.

____________________

(١) مقاتل الطالبيّين / ٩٧.

(٢) الفصول المهمّة / ١٩٧.

(٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ١٦٠.

٢٠٣

والتجأ مسلم إلى دار الزعيم الكبير زعيم الكوفة هانئ بن عروة فهو سيّد مراد، وعنده من القوّة ما يضمن حماية مسلم، فاتّخذ داره معقلاً للثورة ومركزاً للدعوة، وقد قابله هانئ بمزيد زائد من الحفاوة والتكريم، وأخذ الكوفيون يتوافدون على مسلم زرافات ووحداناً، وهم يلحّون عليه أن يكتب إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) بالمجيء إليهم.

التجسّس على مسلم (عليه السّلام)

وأوّل بادرة وأخطرها قام بها ابن زياد هي التجسّس على مسلم (عليه السّلام)، ومعرفة نشاطاته السياسيّة، والوقوف على نقاط القوّة والضعف عنده.

وقد اختار للقيام بهذه المهمّة معقلاً مولاه، وكان فطناً ذكياً، فأعطاه ثلاثة آلاف درهم وأمره أن يتّصل بالشيعة ويعرّفهم أنّه من أهل الشام، وأنّه من موالي ذي الكلاع الحميري، وإنّما أمره بالانتساب للموالي؛ لأنّ الصبغة السائدة لهم هي الولاء لأهل البيت (عليهم السّلام)، وقال له: إذا التقيت بأحد من الشيعة فقل له: إنّه ممّن أنعم الله عليه بحبّ أهل البيت، وقد سمع أنّه قدم رجل منهم إلى الكوفة يدعو للإمام الحسين، وعنده مال يريد أن يلقاه ليوصله إليه حتّى يستعين به على حرب عدوّه.

ومضى معقل في مهمّته، فدخل الجامع الأعظم وجعل يسأل عمّن له معرفة بمسلم، فأرشدوه إلى مسلم بن عوسجة، وهو من ألمع شخصيات الشيعة في الكوفة، فانبرى إليه يُظهر الإخلاص والولاء لأهل البيت (عليهم السّلام) قائلاً: إنّي أتيتك لتقبض منّي هذا المال، وتدلّني على صاحبك لاُبايعه، وإن شئت أخذت بيعتي قبل لقائي إيّاه.

وخدع مسلم بقوله، فقال له: لقد سرّني لقاؤك إيّاي لتنال الذي تنال، والذي تحبّ، وينصر الله بك أهل نبيّه، وقد ساءني معرفة الناس إيّاي من قبل أن يتمّ؛ مخافة هذا الطاغية وسطوته. ثمّ أخذ منه البيعة والمواثيق المغلّظة على النصيحة

٢٠٤

وكتمان الأمر(١) .

وفي اليوم الثاني أدخله على مسلم، فبايعه وأخذ منه المال وأعطاه إلى أبي ثمامة الصائدي، وكان موكّلاً بقبض المال ليشتري به السّلاح والكلاع.

وكان هذا الجاسوس الخطير معقل أوّل داخل على مسلم وآخر خارج منه، وقد أحاط بجميع أسرار الثورة، ونقلها إلى ابن زياد حتّى وقف على جميع مخطّطات الثورة وأعضائها.

اعتقال هانئ

وعرف ابن زياد أنّ أهم أعضاء الثورة هانئ بن عروة الزعيم الكبير، وفي بيته مسلم بن عقيل، فأرسل وفداً خلفه كان منهم حسّان بن أسماء بن خارجة زعيم فزارة، ومحمّد بن الأشعث زعيم كندة، وعمرو بن الحجّاج وهو من زعماء مذحج، ولمّا التقوا به قالوا له: ما يمنعك من لقاء الأمير؛ فإنّه قد ذكرك وقال: لو علم أنّه شاكٍ لعدته.

فاعتذر لهم وقال: الشكوى تمنعني. فلم يقنعوا بذلك، وأخذوا يلحّون عليه في زيارته، فاستجاب لهم على كره وسار معهم، فلمّا كان قريباً من القصر أحسّت نفسه بالشرّ، فقال لحسان بن أسماء: يابن الأخ، إنّي والله لخائف من هذا الرجل، فما ترى؟

فقال له حسان: يا عمّ، والله ما أتخوّف عليك شيئاً، ولم تجعل على نفسك سبيلاً. وأخذ القوم يلحّون عليه بمقابلة ابن مرجانة فاستجاب لهم، ولمّا مثل أمامه استقبله ابن مرجانة بعنف، وقال له: أتتك بخائن رجلاه.

وذعر هانئ فقال له:

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦٩.

٢٠٥

ما ذاك أيها الأمير؟

فصاح به الطاغية: إيه يا هانئ! ما هذه الأمور التي تتربّص في دارك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك، وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك، وظننت أنّ ذلك يخفى عليّ؟

فأنكر هانئ وقال: ما فعلت ذلك، وما مسلم عندي.

- بلى، قد فعلت.

وطال النزاع واحتدم الجدال بينهما، فرأى ابن زياد أن يحسم النزاع، فدعا الجاسوس معقلاً، فلمّا مثل أمامه قال لهانئ: أتعرف هذا؟

- نعم.

وأسقط ما في يدي هانئ، وأطرق برأسه إلى الأرض، ولكن سرعان ما سيطر على الموقف، فقال لابن مرجانة: قد كان الذي بلغك، ولن أضيع يدك عندي(١) ؛ تشخص لأهل الشام أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم؛ فإنّه جاء حقّ مَنْ هو أحقّ من حقّك وحقّ صاحبك(٢) .

وثار ابن زياد فرفع صوته: والله، لا تفارقني حتّى تأتيني به - أي بمسلم -.

وسخر منه هانئ، وردّ عليه: لا آتيك بضيفي أبداً.

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١.

(٢) مروج الذهب ٣ / ٧.

٢٠٦

وطال الجدال بين هانئ وبين ابن مرجانة، فانبرى مسلم بن عمر الباهلي وهو من خدام السلطة إلى ابن زياد طالباً منه أن يتخلّى بهانئ ليقنعه، فسمح له بذلك، فاختلى به وقال له: يا هانئ، اُنشدك الله أن لا تقتل نفسك وتدخل البلاء على قومك؛ إنّ هذا الرجل - يعني مسلماً - ابن عمّ القوم، وليسوا بقاتليه ولا ضائريه، فادفعه إليه، فليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة، إنّما تدفعه إلى السلطان.

ولم يحفل هانئ بهذا المنطق الرخيص؛ فهو على علم لا يخامره شكّ أنّ ابن زياد لو ظفر بمسلم لقطّعه إرباً، ومن الطبيعي أنّ ذلك يعود بالعار والخزي على هانئ، فكيف يسلّم وافد آل محمّد إلى هذا الإنسان الممسوخ؟

وقال هانئ: بلى والله، عليَّ في ذلك أعظم العار أن يكون مسلم في جواري وضيفي وهو رسول ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنا حيّ صحيح الساعدين، كثير الأعوان، والله لو لم أكن إلاّ وحدي لمّا سلّمته أبداً.

وحفل كلام هانئ بمنطق الأحرار الذين وهبوا حياتهم للمُثل العليا والقيم الكريمة. ولمّا يئس الباهلي من هانئ قال لابن زياد: أيّها الأمير، قد أبى أن يسلّم مسلماً أو يُقتل(١) .

والتفت الطاغية إلى هانئ فصاح به: أتأتيني به أو لأضربنّ عنقك.

فلم يعبأ به هانئ، وقال: إذن تكثر البارقة حولك(٢) .

فثار ابن مرجانة وقال:

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٣٧٥.

(٢) البارقة: السيوف.

٢٠٧

والهفا عليك! أبالبارقة تخوّفني؟

وصاح بغلامه مهران وقال له: خذه. فأخذ بضفيرتي هانئ، وأخذ ابن زياد القضيب فاستعرض به وجهه، وضربه ضرباً قاسياً حتّى كسر أنفه، ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته حتّى تحطّم القضيب، وسالت الدماء على ثيابه، وعمد هانئ إلى قائم سيف شرطي محاولاً اختطافه ليدافع به عن نفسه فمنعه منه، فصاح به ابن زياد: أحروري أحللت بنفسك، وحلّ لنا قتلك؟!

ثمّ أمر ابن زياد باعتقاله في أحد بيوت القصر(١) ، وانتهى خبره إلى اُسرته من مذحج، وهي من أكثر قبائل الكوفة عدداً إلاّ أنّها لم تكن متماسكة، وقد شاعت الانتهازية في جميع أفرادها.

وعلى أيّ حال، فقد سارعت مذحج بقيادة العميل الخائن عمرو بن الحجّاج وقد رفع عقيرته لتسمعه السلطة قائلاً: أنا عمرو بن الحجّاج، وهذه فرسان مذحج ووجوهها، لم نخلع طاعة ولم نفارق جماعة.

ولم يعنَ به ابن زياد ولا بقومه، فالتفت إلى شريح القاضي فقال له: ادخل على صاحبهم فانظر إليه ثمّ اخرج إليهم فأعلمهم أنّه حيّ. وخرج شريح فدخل على هانئ، فلمّا نظر إليه صاح مستجيراً: يا للمسلمين! أهلكت عشيرتي! أين أهل الدين؟ أين أهل المصر؟ والتفت هانئ إلى شريح فقال له: يا شريح، إنّي لأظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين، إنّه إن دخل عليّ عشرة أنفر أنقذوني.

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١.

٢٠٨

[ ولم ] يحفل شريح بكلام هانئ، وإنّما مضى منفّذاً لأمر سيّده ابن مرجانة، فخاطب مذحج قائلاً: قد نظرتُ إلى صاحبكم وإنّه حيّ لم يُقتل.

وبادر عمرو بن الحجّاج قائلاً: إذا لم يُقتل فالحمد لله(١) .

وولّوا منهزمين كأنّما اُتيح لهم الخلاص من سجن، وقد صحبوا معهم الخزي والعار، وانطلقت الألسنة بذمّهم. وقد ذمّهم شاعر أخفى اسمه حذراً من بطش الاُمويِّين ونقمتهم، قال:

فإن كنتِ لا تدرينَ ما الموت فانظري = إلى هانئٍ في السوقِ وابنِ عقيلِ

إلى بطلٍ قد هشّمَ السيفُ وجههُ = وآخر يهوى من طمارِ قتيلِ(٢)

أصابهما فرخُ البغيّ فأصبحا = أحاديثَ مَنْ يسيري بكلّ سبيلِ

ترى جسداً قد غيّرَ الموتُ لونهُ = ونضحُ دمٍ قد سالَ كلّ مسيلِ

فتىً كان أحيا من فتاةٍ حييَّةٍ = وأقطع من ذي شفرتينِ صقيلِ

أيركبُ أسماءُ الهماليجَ آمناً = وقد طلبتهُ مذحجٌ بذحولِ(٣)

تطوفُ حواليهِ مرادٌ وكلّهم = على رقبةٍ من سائلٍ ومسولِ

فإن أنتمُ لم تثأروا بأخيكمُ = فكونوا بغايا أُرضيت بقليلِ(٤)

لقد تنكّرت مذحج لزعيمها الكبير فلم تفِ له حقوقه ومعروفه الذي أسداه عليها، وتركته أسيراً بيد ابن مرجانة يمعن في إرهاقه والتنكيل به حتّى أعدمه في

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١.

(٢) الطمار: اسم لغرفة شيّدت فوق قصر الإمارة وفي أعلاها قُتل مسلم.

(٣) الهماليج: جمع هملاج، نوع من البرذون.

(٤) مروج الذهب ٢ / ٧٠، والشاعر مجهول.

٢٠٩

وضح النهار بمرأى ومسمع منهم.

ثورة مسلم (عليه السّلام)

ولمّا علم مسلم بما جرى على هانئ بادر لإعلان الثورة على ابن زياد، فأوعز إلى عبد الله بن حازم أن ينادي في أصحابه وقد ملأ بهم الدور، فاجتمع إليه أربعة آلاف، وقيل: أربعون ألفاً(١) ، وكانوا ينادون بشعار المسلمين يوم بدر: (يا منصور أمت).

وأسند القيادات العامة في جيشه إلى أحبّ الناس لأهل البيت (عليهم السّلام)، وهم:

١ - عبد الله بن عزيز الكندي، جعله على ربع كندة.

٢ - مسلم بن عوسجة، جعله على ربع مذحج.

٣ - أبو ثمامة الصائدي، جعله على ربع قبائل بني تميم وهمدان.

٤ - العباس بن جعدة الجدلي، جعله على ربع المدينة.

واتّجه مسلم بجيشه نحو قصر الإمارة فأحاطوا به(٢) .

وكان ابن مرجانة قد خرج من القصر ليخطب في الناس على أثر اعتقاله لهانئ، ولمّا دخل الجامع الأعظم قام خطيباً فقال: أمّا بعد يا أهل الكوفة، فاعتصموا بطاعة الله ورسوله، وطاعة أئمّتكم، ولا تختلفوا ولا تفرّقوا فتهلكوا وتُذلّوا، وتندموا وتُقهروا، فلا يجعلنَّ أحد على نفسه سبيلاً، وقد اُعذر مَنْ أنذر.

وما أتمّ الطاغية خطابه حتّى سمع الصيحة وأصوات الناس قد علت، فسأل عن ذلك فقيل له: الحذر الحذر! هذا مسلم بن عقيل قد أقبل في جميع مَنْ بايعه.

____________________

(١) تهذيب التهذيب ٢ / ٣٥١.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١.

٢١٠

واختطف الرعب لونه فأسرع الجبان يلهث كالكلب من شدّة الخوف، فدخل القصر وأغلق عليه أبوابه(١) .

وامتلأ المسجد والسوق من أصحاب مسلم، وضاقت الدنيا على ابن زياد، وأيقن بالهلاك؛ إذ لم تكن عنده قوّة تحميه سوى ثلاثين رجلاً من الشرطة، وعشرين رجلاً من الأشراف والوجوه الذين هم عملاء السلطة(٢) .

حرب الأعصاب

ولم يجد الطاغية وسيلة يلجأ إليها لإنقاذه سوى حرب الأعصاب، فأوعز إلى عملائه بإشاعة الخوف والرعب بين أصحاب مسلم، وانبرى للقيام بهذه المهمة مَنْ يلي من عملائه، وهم:

١ - كثير بن شهاب الحارثي

٢ - القعقاع بن شور الذهلي

٣ - شبث بن ربعي التميمي

٤ - حجّار بن أبجر.

٥ - شمر بن ذي الجوشن الضبابي(٣)

وأسرع هؤلاء العملاء إلى صفوف جيش مسلم فأخذوا ينشرون الخوف والأراجيف، ويظهرون لهم الحرص والولاء لهم.

وكان ممّا قاله كثير بن شهاب: أيّها الناس، الحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا بالشرّ، ولا تعرّضوا أنفسكم للقتل؛ فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين - يعني يزيد - قد أقبلت، وقد أعطى الله الأمير

____________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٥٤.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١.

(٣) المصدر السابق ٣ / ٢٧٢.

٢١١

- يعني ابن زياد - العهد لئن أقمتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيّتكم أن يحرم ذرّيتكم العطاء، ويفرّق مقاتلكم في مغازي أهل الشام من غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب حتّى لا تبقى فيكم بقيّة من أهل المعصية إلاّ أذاقها وبال ما جنت أيديها(١) .

وكان هذا الكلام كالصاعقة على رؤوس أهل الكوفة؛ فقد سرت فيهم أوبئة الخوف وانهارت معنوياتهم، وجعل بعضهم يقول لبعض: ما نصنع بتعجيل الفتنة، وغداً تأتينا جموع أهل الشام؟! ينبغي لنا أن نُقيم في منازلنا، وندع هؤلاء القوم حتّى يصلح الله ذات بينهم(٢) .

وكانت المرأة تأتي ابنها أو أخاها أو زوجها وهي مصفرّة الوجه من الخوف فتخذّله وتقول له: الناس يكفونك(٣) . وقد نجح ابن زياد في هذه الخطّة إلى حدّ بعيد.

هزيمة جيش مسلم (عليه السّلام)

ومُني جيش مسلم بهزيمة ساحقة بعد حرب الأعصاب والدعايات المضلّلة، لقد انهزم جيشه من دون أن يكون قباله أيّة قوّة عسكرية.

ويقول المؤرّخون: إنّ مسلماً كلّما انتهى إلى زقاق انهزم جماعة من أصحابه، وهم يقولون: ما لنا والدخول بين السلاطين(٤) .

ولم يمضِ قليل من الوقت حتّى انهزم معظمهم يصحبون الخزي والعار، وصلّى ابن عقيل صلاة العشاء في الجامع الأعظم، فكان مَنْ بقي من جيشه يفرّون

____________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٠٨.

(٢) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٣٨٤.

(٣) تاريخ أبي الفداء ١ / ٣٠٠.

(٤) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٣٨٥.

٢١٢

في أثناء الصلاة، وما أنهى مسلم صلاة العشاء حتّى انهزموا جميعاً قادةً وجنوداً، ولم يبقَ منهم أحد يدلّه على الطريق، وبقي حيراناً لا يدري إلى أين مسراه ومولجه؛ فقد أمسى طريداً مشرّداً، لا مأوى يأوي إليه، ولا قلب يعطف عليه.

في ضيافة طوعة (رضي الله عنها)

وسار مسلم في أزقة الكوفة وشوارعها، ومضى هائماً على وجهه في جهة كندة يلتمس داراً ليبقى فيها بقيّة الليل، وقد خلت المدينة من المارة؛ فقد أسرع جنده إلى دورهم وأغلقوا عليهم الأبواب؛ مخافة أن تعرفهم مباحث الأمن وعيون ابن زياد فتخبر السلطة بأنّه كان مع ابن عقيل فتلقي عليه القبض.

وسار مسلم وهو خائر القوى، قد أحاطت به تيارات مذهلة من الهموم والأفكار، وقد انتهى في مسيرته إلى باب سيّدة يُقال لها: (طوعة)، وهي سيّدة مَنْ في المصر رجالاً ونساءً؛ وذلك بما تملكه من شرف ونبل، وكانت اُمّ ولد للأشعث بن قيس، أعتقها فتزوّجها أسيد الحضرمي فولدت له ولداً يُقال له: بلال، وكانت طوعة تنتظره خوفاً عليه من الأحداث الرهيبة، ولمّا رآها مسلم بادر إليها فسلّم عليها فردّت عليه السّلام، وقالت له: ما حاجتك؟

- اسقني ماءً.

فبادرت المرأة إلى دارها وجاءته بالماء فشرب منه ثمّ جلس، فارتابت منه، وقالت له: ألم تشرب الماء؟

- بلى.

- اذهب إلى أهلك، إنّ مجلسك مجلس ريبة(١) .

____________________

(١) تهذيب التهذيب ١ / ١٥١.

٢١٣

وسكت مسلم، فأعادت عليه القول وهو ساكت فلم يجبها، فذعرت منه وقالت له: سبحان الله! إنّي لا اُحلّ لك الجلوس على باب داري.

ولمّا حرّمت عليه الجلوس لم يجد بُدّاً من الانصراف عنها، فقال بصوت خافت حزين النبرات: ليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة، فهل لك في أجر ومعروف، ولعلّي مكافئك بعد هذا اليوم؟

وشعرت المرأة بأنّ الرجل غريب، وأنّه على شأن كبير يستطيع أن يُجازيها على معروفها وإحسانها، فقالت له: وما ذاك؟

- أنا مسلم بن عقيل، كذّبني القوم وغرّوني.

فدهشت المرأة وقالت له: أنت مسلم!

- نعم(١) .

وانبرت السيّدة بكلّ خضوع وتقدير، فسمحت لضيفها الكبير بالدخول إلى دارها، وقد حازت الشرف والفخر، وعرضت عليه الطعام فأبى أن يأكل؛ فقد مزّق الأسى قلبه، وتمثّلت أمامه الأحداث الرهيبة التي سيواجهها، وكان أهمّ ما شغل فكره كتابه إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) بالقدوم إلى الكوفة.

ولم يمضِ قليل من الوقت حتّى جاء بلال ابن السيّدة طوعة، فرأى اُمّه تكثر الدخول والخروج إلى البيت الذي فيه مسلم، فاستراب من ذلك، فسألها عنه فلم تجبه، فألحّ عليها فأخبرته بالأمر بعد أن أخذت عليه العهود والمواثيق بكتمان الأمر.

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧٢.

٢١٤

وطارت نفس الخبيث فرحاً وسروراً، وقد أنفق ليله ساهراً يترقّب طلوع الشمس ليخبر السلطة بمقام مسلم عندهم، وقد تنكّر هذا الوغد الخبيث للأخلاق العربية التي تلزم بقرى الضيف وحمايته من كلّ سوء، ولكن هذا القزم على غرار أهل الكوفة الذين طلّقوا المعروف ثلاثاً، راح مسرعاً وقد ملك الفرح فؤاده نحو قصر الإمارة، وكان بحالة من الارتباك تلفت النظر، فلمّا دخل القصر بادر إلى عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث، وهو من أخبث اُسرة عرفها التأريخ، فأعلمه بمكان مسلم، فأمره بالسكوت لئلاّ يفشي بالخبر فينقله غيره إلى ابن مرجانة فتفوت جائزته.

وأسرع عبد الرحمن إلى أبيه محمّد بن الأشعث فأخبره بالأمر، وفطن ابن زياد إلى خطورة الأمر، فالتفت إلى ابن الأشعث فقال له: ما قال لك عبد الرحمن؟

- أصلح الله الأمير، البشارة العظمى.

- ما ذاك؟ مثلك مَنْ بشّر بخير.

- إنّ ابني هذا يخبرني أنّ مسلم بن عقيل في دار طوعة.

وفرح ابن مرجانة، وتمّت بوارق آماله وأحلامه، فراح يمدّ الأشعث بالمال والجاه قائلاً: قم فآتني به، ولك ما أردت من الجائزة والحظّ الأوفى.

لقد تمكّن ابن مرجانة سليل البغايا والأدعياء من الظفر بفخر هاشم ومجد عدنان ليجعله قرباناً إلى اُمويّته اللصيقة.

الهجوم على مسلم (عليه السّلام)

وندب ابن مرجانة لحرب مسلم، عمرو بن الحرث المخزومي صاحب شرطته ومحمّد بن الأشعث، وضمّ إليهما ثلاثمئة رجل من صناديد الكوفة وفرسانها، وأقبلت تلك الوحوش الكاسرة مسرعة لحرب القائد العظيم الذي أراد أن يحرّرهم

٢١٥

من الذلّ والعبودية، ويُقيم فيهم عدالة الإسلام وحكم القرآن.

ولمّا سمع مسلم حوافر الخيل وزعقات الرجال علم أنّه قد اُتي إليه، فبادر إلى فرسه فأسرجه وألجمه، وصبّ عليه درعه وتقلّد سيفه، وشكر السيّدة طوعة على حسن ضيافتها ورعايتها له.

واقتحم الجيش عليه الدار فشدّ عليهم يضربهم بسيفه ففرّوا منهزمين، ثمّ عادوا عليه فأخرجهم منها، وانطلق نحوهم في السكة شاهراً سيفه لم يختلج في قلبه خوف ولا رعب، وقد أبدى من البطولات النادرة ما لم يشاهد مثله في جميع فترات التأريخ، وقد قتل منهم واحداً وأربعين رجلاً(١) ، وكان من قوّته النادرة أن يأخذ الرجل بيده ويرمي به من فوق البيت(٢) ، وليس في تاريخ الإنسانيّة مثل هذه البطولة، ولا مثل هذه القوّة الخارقة.

وجعل أنذال أهل الكوفة يصعدون فوق بيوتهم ويرمونه بالحجارة وقذائف النار(٣) ، وفشلت جيوش ابن مرجانة من مقاومة البطل العظيم؛ فقد أشاع فيهم القتل، وطلب محمّد بن الأشعث من سيّده ابن مرجانة أن يمدّه بالخيل والرجال، فلامه الطاغية وقال: سبحان الله! بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به فثلم في أصحابك هذه الثلمة العظيمة(٤) !

وثقل ذلك على ابن الأشعث، وقال لابن مرجانة: أتظنّ أنّك أرسلتني إلى بقّال من بقّالي الكوفة، أو إلى جرمقاني من جرامقة

____________________

(١) الدرّ النضيد / ١٦٤.

(٢) المحاسن والمساوئ - البيهقي ١ / ٤٣.

(٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٣٩٤.

(٤) الفتوح ٥ / ٦٣.

٢١٦

الحيرة؟(١) وإنّما بعثتني إلى أسد ضرغام، وسيف حسام، في كفّ بطل همام، من آل خير الأنام(٢) .

وأمدّه ابن مرجانة بقوى مكثّفة، فجعل البطل العظيم يحصد رؤوسهم بسيفه، وهو يرتجز:

أقسمتُ لا أُقتل إلاّ حرّا = وإن رأيتُ الموتَ شيئاًً نُكرا

أو يُخلطُ الباردُ سخناً مرّا = ردّ شعاعُ الشمسِ فاستقرا

كلّ امرئٍ يوماً يُلاقي شرّا = أخافُ أن أُكذب أو اُغرّا(٣)

ولمّا سمع الخائن العميل محمّد بن الأشعث هذا الشعر من مسلم رفع صوته قائلاً: إنّك لا تُكذب ولا تُخدع، إنّ القوم بنو عمّك، وليسوا بقاتليك ولا ضارّيك.

فلم يحفل به مسلم، ومضى يُقاتلهم أعنف القتال وأشدّه، ففرّوا منهزمين لا يلوون على شيء، واعتلوا فوق منازلهم يرمونه بالحجارة، فأنكر عليهم مسلم قائلاً: ويلكم! ما لكم ترمونني بالحجارة كما تُرمى الكفار، وأنا من أهل بيت الأبرار؟ ويلكم! أما ترعون حقّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وذريّته؟

وضاق بابن الأشعث أمر مسلم، فصاح بالجيش: ذروه حتّى اُكلّمه. فدنا منه، وقال له: يابن عقيل، لا تقتل نفسك، أنت آمن، ودمك في عنقي.

ولم يعنَ به مسلم؛ فقد عرفه وعرف قومه أنّهم لا وفاء ولا دين لهم،

____________________

(١) الجرامقة: قوم من العجم صاروا إلى الموصل.

(٢) الفتوح ٥ / ٩٣.

(٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٣٩٥، نقلاً عن الطبري / ٦٣، الفتوح ٥ / ٩٤ - ٩٥.

٢١٧

وأجابه: يابن الأشعث، لا اُعطي بيدي أبداً وأنا أقدر على القتال، والله لا كان ذلك أبداً.

وحمل مسلم على ابن الأشعث فولّى منهزماً يُطارده الرعب والخوف، واشتدّ العطش بمسلم فجعل يقول: اللّهمّ إنّ العطش قد بلغ منّي.

وتكاثرت عليه الجموع، فصاح بهم ابن الأشعث: إنّ هذا هو العار والفشل أن تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع! احملوا عليه بأجمعكم حملة واحدة. فحملوا عليه ضرباً بأسيافهم وطعناً برماحهم، وضربه الوغد الأثيم بكر بن حمران ضربة منكرة على شفته العليا، وأسرع السيف إلى الأسفل، وضربه مسلم ضربة أردته إلى الأرض.

أسره (عليه السّلام)

وبعدما أثخن مسلم بالجراح وأعياه نزف الدم انهارت قواه وضعف عن المقاومة، فوقع أسيراً بأيدي اُولئك الفجرة الكفّار، وانتزعوا منه سيفه، وحملوه أسيراً إلى ابن مرجانة.

وكان من أعظم ما رُزئ به مسلم أن يدخل أسيراً على أقذر إرهابي عرفه التأريخ، ولمّا دخل لم يسلّم عليه بالإمرة وإنّما سلّم على الجميع، فأنكر عليه بعض خدّام السلطة ذلك، فأجابه أنّه ليس لي بأمير.

فتميّز ابن مرجانة غيظاً وغضباً، وقال له: سلّمت أو لم تسلّم فإنّك مقتول.

فردّ عليه مسلم بجواب أخرجه من إهابه، وجرت مناورات كلامية بينهما، وكانت أجوبة مسلم كالسهام على ابن مرجانة، فلجأ إلى سبّه وسبّ العترة الطاهرة والافتراء عليهم، ثمّ أمر أن يُصعد به من أعلى القصر ويُنفّذ فيه حكم الإعدام، وقد استقبل مسلم الموت بثغر باسم، وكان يُسبّح الله ويستغفره.

وأشرف به الجلاّد على موضع الحذائيّين فضرب عنقه،

٢١٨

ورمى برأسه وجسده إلى الأرض، وانتهت بذلك حياة هذا المجاهد العظيم الذي وهب حياته لله، واستشهد دفاعاً عن الحقّ ودفاعاً عن حقوق المظلومين والمضطهدين.

ثمّ أمر الطاغية السفّاك بإعدام الزعيم الكبير هانئ بن عروة، فأُخرج من السجن في وضح النهار، وجعل يستنجد باُسرته، وكانوا بمرأى ومسمع منه فلم يستجب له أحد منهم، وضربه الجلاّد بالسيف فلم يصنع به شيئاً، فرفع هانئ صوته قائلاً: اللّهمّ إلى رحمتك ورضوانك، اللّهمّ اجعل هذا اليوم كفارة لذنوبي؛ فإنّي إنّما تعصّبت لابن بنت نبيّك محمّد (صلّى الله عليه وآله).

وضربه الجلاّد ضربة اُخرى فهوى إلى الأرض وجعل يتخبّط بدمه الزاكي، ولم يلبث قليلاً حتّى فارق الحياة وقد مضى شهيداً دون مبادئه وعقيدته.

وعهد الطاغية الجلاّد إلى زبانيته بسحل جثة مسلم وهانئ في الشوارع والأسواق، فعمدوا إلى شدّ أرجلهما بالحبال وأخذوا يسحلونهما في الطرق(١) ؛ وذلك لنشر الخوف والإرهاب، وليكونا عبرةً لكلّ مَنْ تحدّثه نفسه بالخروج على حكم يزيد.

ثمّ قام ابن مرجانة باعتقالات واسعة لجميع العناصر الموالية لأهل البيت (عليهم السّلام)، كما أعدم جاعة منهم، وذكرنا تفصيل ذلك في كتابنا (حياة الإمام الحسين (عليه السّلام)).

لقد سمعت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) السيّدة زينب (عليها السّلام) هذه المآسي المروّعة التي جرت على ابن عمّها مسلم، فكوت قلبها وأضافتها إلى همومها ومصائبها، وأيقنت أنّ شقيقها وبقيّة أهلها سيواجهون المصير الذي واجهه ابن عمّها.

____________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ١٥٥، القسم الأوّل.

٢١٩

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343