السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام11%

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 343

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 186331 / تحميل: 8248
الحجم الحجم الحجم
السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

مصرع أبي الفضل (عليه السّلام)

وكان أبو الفضل العباس (عليه السّلام) من أحبّ الناس وأخلصهم للإمام الحسين (عليه السّلام)، فقد ربّاه وغذّاه بمكارم أخلاقه ومحاسن صفاته، وعلّمه أحكام الدين حتّى صار من أفاضل العلماء. وكان ملازماً لأخيه في حلّه وترحاله، وواساه في أقسى المحن والخطوب، وكانت أُخوّته لأبي عبد الله مضرب المثل عند جميع الناس.

وكانت أسارير النور بادية على وجهه الكريم حتّى لُقّب بقمر بني هاشم، وكان من الأبطال البارزين في الإسلام، فكان إذا ركب الفرس المطهّم تخطّان رجلاه في الأرض، وقد أسند إليه الإمام الحسين (عليه السّلام) يوم الطفّ قيادة جيشه ودفع إليه رايته.

وكان أبو الفضل هو المتعهّد لرعاية الصدّيقة سيدة النساء زينب (عليها السّلام)، وقد احتلّ قلبها فكانت تكنّ له أعمق الودّ والولاء. ولمّا رأى قمر بني هاشم وحدة أخيه وقتل أصحابه وأهل بيته الذين قدّموا أرواحهم قرابين للإسلام انبرى يطلب الرخصة من أخيه ليلاقي مصيره المشرق، فقال له الإمام (عليه السّلام) بصوت خافت:«أنت صاحب لوائي» .

لقد كان الإمام يشعر بالقوّة والمنعة ما دام أبو الفضل حيّاً، وألحّ عليه أبو الفضل قائلاً: لقد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين، واُريد أن آخذ ثأري منهم.

وطلب منه الإمام (عليه السّلام) أن يسعى لتحصيل الماء إلى الأطفال الذين صرعهم العطش، فانعطف فخر بني هاشم نحو اُولئك الأنذال فجعل يعظهم ويطلب منهم أن يرفعوا الحصار عن الماء؛ فقد أشرفت عائلة آل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على الموت.

فأجابه الرجس الأثيم شمر بن ذي الجوشن قائلاً:

٢٦١

يابن أبي تراب، لو كان وجه الأرض كلّه ماءً وهو تحت أيدينا لما سقيناكم منه قطرة إلاّ أن تدخلوا في بيعة يزيد.

وقفل أبو الفضل راجعاً إلى أخيه فأخبره بعتوّ القوم وإجماعهم على حرمان أهل البيت (عليهم السّلام) من الماء، وسمع الأبيّ الشهم صراخ الأطفال وهم ينادون: العطش، العطش! الماء، الماء!

وذاب قلب أبي الفضل حينما رأى الأطفال قد ذبلت شفاههم وأشرفوا على الهلاك، فسرى الألم العاصف في محيّاه، واندفع ببسالة لإغاثتهم، فركب جواده وأخذ معه القربة، فاقتحم الفرات غير حافل بالقوى المكثفة التي تقدّر بأربعة آلاف جندي مسلّح قد احتلّوا حوض الفرات، فانهزموا من بين يديه؛ فقد ذكّرهم ببطولات أبيه فاتح خيبر ومحطّم أوثان القرشيّين.

وانتهى إلى الماء وكان قلبه الشريف قد تفتّت من العطش، فاغترف من الماء ليشرب منه إلاّ أنّه تذكّر عطش أخيه ومَنْ معه من النساء والأطفال، فرمى الماء من يده، فامتنع أن يروي غليله من الماء.

وقد سجّل بذلك شرفاً للعلويّين تردّده الأجيال مقروناً بالإكبار والتعظيم لهذه الأُخوّة النادرة التي لم يحدّث التأريخ بمثلها. لقد رمى أبو الفضل الماء من يده وهو يقول:

يا نفسُ من بعدِ الحسينِ هوني = وبعدهُ لا كنتِ أن تكوني

هذا الحسينُ واردُ المنونِ = وتشربينَ باردَ المعينِ

تالله ما هذا فعالُ ديني

إنّ الإنسانيّة بكلّ إجلال وإكبار لتحيّي هذه الروح العظيمة التي تألّقت في دنيا الإسلام وهي تلقي على الأجيال أسمى أمثلة للكرامة الإنسانيّة. أي إيثار أنبل من هذا الإيثار؟ أيّ اُخوّة أسمى من هذه الاُخوّة؟

٢٦٢

واتّجه فخر هاشم بعد أن ملأ القربة نحو المخيّم والتحم مع الأرجاس؛ فقد أحاطوا به من كلّ جانب ليمنعوه من إيصال الماء إلى عطاشى أهل البيت (عليهم السّلام)، وقد أشاع فيهم بطل الإسلام القتل وهو يرتجز:

لا أرهب الموتَ إذا الموتُ زقا = حتى أوارى في المصاليتِ لقى

نفسي لسبطِ المصطفى الطهرِ وقى = إنّي أنا العباس أغدوا بالسقا

ولا أخاف الشرَّ يوم الملتقى

لقد أعلن قمر الهاشميّين عن بطولاته النادرة، فهو لا يرهب الموت، ويسخر من الحياة دفاعاً عن الحقّ، ودفاعاً عن إمام المسلمين وريحانة الرسول (صلّى الله عليه وآله).

وانهزمت جيوش الاُمويِّين أمامه، ولكن الوضر الجبان زيد بن الرقّاد الجهني كمن له من وراء نخلة، ولم يستقبله بوجهه، فضربه على يده فقطعها، فلم يحفل بها أبو الفضل وراح يرتجز:

واللهِ إن قطعتمُ يميني = إنّي اُحامي أبداً عن ديني

وعن إمامٍ صادقِ اليقينِ = نجلِ النبيّ الطاهرِ الأمينِ

ودلّل بهذا الرجز عن الأهداف العظيمة التي ناضل من أجلها وهي الدفاع عن الدين، والدفاع عن إمام المسلمين وريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولم يبعد قمر بني هاشم وفخر عدنان حتّى كمن له من وراء نخلة رجس من أرجاس المجرمين، وهو الحكيم بن الطفيل الطائي، فضربه على يساره فبراها، وحمل الشهم النبيل القربة بأسنانه، وجعل يركض بالماء إلى عطاشى آل النبي غير حافل بما كان يعانيه من نزف الدماء وآلام الجروح وشدّة الظمأ.

وهذا منتهى ما وصلت إليه الإنسانيّة في جميع أدوارها من الرحمة والحنان والوفاء، وبينما هو يركض إذ أصاب القربة سهم غادر فاُريق ماؤها، ووقف البطل حزيناً؛ فقد كان إراقة الماء أشدّ عليه من ضرب السيوف وطعن الرماح.

٢٦٣

وشدّ عليه رجس فعلاه بعمود من حديد على هامة رأسه ففلق هامته فهوى إلى الأرض، وهو يؤدي تحيّته ووداعه الأخير إلى أخيه قائلاً: عليك منّي السّلام أبا عبد الله.

وحمل الأثير كلماته إلى أخيه فمزّقت أحشاءه، وانطلق وهو خائر القوى، منهدّ الركن حتّى انتهى إلى أخيه وهو يعاني آلام الاحتضار، فألقى بنفسه عليه وجعل يوسعه تقبيلاً قائلاً:«الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي» .

وجعل أبو الأحرار يطيل النظر في أخيه وهو شاحب اللون وتمثّلت أمامه مُثل أبي الفضل التي لا ندّ لها في جميع مراحل التأريخ؛ فليس هناك اُخوّة تضارع اُخوّة أبي الفضل لأخيه أبي الأحرار؛ فقد أبدى من الوفاء والولاء لأخيه ما يفوق حدّ الوصف. وقام الثاكل الحزين عن أخيه بعد ما فارقته الحياة وهو لا يتمكّن أن يقلّ قدميه من الأسى والحزن، وقد بان عليه الانكسار، واتّجه صوب المخيّم وهو يكفكف دموعه، فاستقبلته سكينة بلهفة قائلة: أين عمي؟

فأجابها بنبرات مشفوعة بالبكاء والعبرات بشهادته، وذعرت حفيدة الرسول سيدة النساء زينب (عليها السّلام)، فوضعت يدها على قلبها الذي مزّقته كوارث كربلاء، وصاحت: وا أخاه! وا عباساه! وا ضيعتنا بعدك!

وشارك الإمام (عليه السّلام) شقيقته في النياحة على أخيه، ورفع صوته:«وا ضيعتنا بعدك يا أبا الفضل!» . لقد شعر الإمام وشقيقته بالضياع والغربة بعد أن فقد أبا الفضل، وكانت هذه الكارثة من أفجع الكوارث التي رُزئت بها حفيدة الرسول.

٢٦٤

فسلام عليك يا أبا الفضل يوم ولدت، ويوم استشهدت، ويوم تبعث حيّاً.

مصرع الرضيع (عليه السّلام)

ومن الفجائع التي مُنيت بها سيدة النساء مصرع الرضيع؛ فقد اُغمي عليه من شدّة الظمأ، فجاءت به اُمّه إلى السيّدة زينب مستجيرة بها، وعرضته على أخيها فأخذه وجعل يوسعه تقبيلاً، وقد غارت عيناه وذبلت شفتاه من شدّة العطش، فحمله الإمام (عليه السّلام) إلى الجيش الاُموي لعلّهم يسقونه جرعة من الماء، فلم ترقَّ قلوب اُولئك الممسوخين، وانبرى إليه الرجس الخبيث حرملة بن كاهل، فسدّد له سهماً وجعل يفتخر أمام أصحابه قائلاً: خذ هذا فاسقه.

واخترق السهم - يالله - رقبة الطفل، فلمّا أحسَّ بحرارة السهم أخرج يديه من القماط، وجعل يُرفرف على صدر أبيه كالطير المذبوح، وانحنى رافعاً رأسه إلى السماء فمات على ذراع أبيه.

أيّ صبر كان صبر أبي عبد الله! كيف استطاع أن يتحمّل هذه الرزايا والكوارث التي تميد من هولها الجبال؟!

والتفت الإمام إلى شقيقته فناولها ولده المذبوح(١) ، ورفع الإمام (عليه السّلام) يديه وكانتا مملوءتين من دم طفله، فرمى به إلى السماء وقال:«هوّن ما نزل بي إنّه بعين الله» . ولم تسقط من ذلك الدم الطاهر قطرة واحدة إلى الأرض كما روى ذلك الإمام الباقر (عليه السّلام).

الفاجعة الكبرى

ووقف أبو الأحرار في الميدان وقد أحاطت به جيوش الاُمويِّين، وهو ثابت الجنان،

____________________

(١) اللهوف / ٥٠.

٢٦٥

لم يوهن عزيمته مصارع أصحابه وأهل بيته، وكان كالطود الشامخ، وقد روى الإمام زين العابدين (عليه السّلام) صمود أبيه قال:«كان كلّما يشتدّ الأمر يشرق لونه، وتطمئن جوارحه» .

فقال بعضهم: انظروا كيف لا يُبالي بالموت! وقال عبد الله بن عمّار: فوالله ما رأيت مكثوراً قط قد قُتل ولده وأصحابه أربط جأشاً منه، ولا أمضى جناناً منه! ووالله ما رأيت قبله ولا بعده مثله(١) .

وحمل أبيّ الضيم على أرجاس البشرية فجعل يُقاتلهم أعنف قتال وأشدّه، وحمل على الميمنة وهو يرتجز:

القتل أولى من ركوبِ العارِ = والعارُ أولى من دخولِ النارِ

وحمل على الميسرة وهو يرتجز:

أنا الحسين بن علي = آليت أن لا أنثني

أحمي عيالات أبي = أمضي على دين النبي

أجل أنت الحسين (عليه السّلام)، وأنت ملأت فم الدنيا شرفاً ومجداً، فلم تُشاهد اُمم العالم وشعوب الأرض مثلك يا مفخرة الإسلام؛ فقد صمدت أمام الأهوال والكوارث التي لا يطيق حملها أيّ مصلح على وجه الأرض، وقد مضيت على دين جدّك الرسول مُجدداً له، ولولاك لما أبقى الاُمويّون والقرشيون أيّ ظلّ لدين الله.

وداعه لعقائل الوحي

ومضى الحسين (عليه السّلام) يودّع عقائل النبوّة، وسيّدات نساء الدنيا، ويأمرهنَّ بالخلود إلى الصبر، ونظر إلى شقيقته زينب وهي غارقة بالدموع فعزّاها وأمرها بالصبر، وأن

____________________

(١) تاريخ ابن كثير ٨ / ١٨٨.

٢٦٦

تقوم برعاية أطفاله، ولمّا أراد الخروج أحطنَ به السيدات ليتزوّدن منه، وهنّ يذرفن أحرّ الدموع، والتفت الإمام زين العابدين (عليه السّلام) إلى عمّته زينب، فقال لها:«عليَّ بالعصا والسيف» .

- ما تصنع بهما؟

-«أمّا العصا فأتوكّأ عليها، وأمّا السيف فأذبّ به عن ابن رسول الله» . وكانت الأمراض قد ألّمت به، فنهاه الإمام الحسين (عليه السّلام) وأمسكته عمّته زينب.

وأمر الإمام (عليه السّلام) حرم الرسالة بلبس الاُزر، والاستعداد للبلاء، والتسليم لقضاء الله، وقال لهن:«استعدوا للبلاء، واعلموا أنّ الله تعالى حاميكم وحافظكم، وسينجيكم من شرّ الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذّب عدوّكم بأنواع العذاب، ويعوّضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة، فلا تشكّوا، ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم» .

إنّه هذا الإيمان، وهذا الصبر أجدر بالخلود من هذا الكوكب الذي نعيش عليه. إنّ هذه الرزايا تتصدّع من هولها الجبال، وتميد بحلم أيّ مصلح كان، وقد تجرّعها أبيّ الضيم من أجل رفع كلمة التوحيد التي جهدت الاُسر القرشيّة على إطفاء نورها.

مناجاته مع الله

واتّجه الإمام العظيم في تلك اللحظات الحاسمة من حياته إلى الله تعالى، فأخذ يناجيه ويتضرّع إليه، ويشكو إليه ما ألمّ به من الخطوب قائلاً:«صبراً على قضائك يا رب، لا إله سواك، يا غياث المستغيثين ما لي ربّ سواك، ولا معبود غيرك، صبراً على حكمك. يا غياث مَنْ لا غياث له، يا دائماً

٢٦٧

لا نفاد له، يا محيي الموتى، يا قائماً على كلّ نفس، احكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين» (١) .

أرأيتم هذا الإيمان الذي تفاعل مع شعور الإمام وعواطفه؟ فقد صبر على قضائه، وفوّض إليه جميع ما نزل به من الخطوب. يقول الدكتور الشيح أحمد الوائلي:

يا أبا الطفّ و ازدهى بالضحايا = من أديمِ الطفوفِ روضٌ خميلُ

نخبةٌ من صحابةٍ و شقيقٌ = و رضيعٌ مطوّقٌ وشبولُ

والشبابُ الفتيان جفّ ففاضت = طلعةٌ حلوةٌ ووجهٌ جميلُ

و توغلتَ تستبينَ الضحايا = وزواكي الدماءِ منها تسيلُ

و مشت في شفاهكَ الغرِّ نجوى = نمَّ عنها التحميدُ والتهليلُ

لكَ عتبي يا ربّ إن كانَ يرضيـ = ـك فهذا إلى رضاكَ قليلُ

الهجوم عليه

وهجمت على سبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله) العصابة المجرمة التي تحمل رجس الأرض وخبث اللئام، فحملوا عليه من كلّ جانب ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح.

ويقول بعض المؤرخين: إنّه لم يُضرب أحد في الإسلام كما ضُرب الحسين؛ فقد وجد به مئة وعشرون جراحة، ما بين ضربة سيف، وطعنة رمح، ورمية سهم(٢) .

ومكث أبو الأحرار مدّة من الزمن على وجه الأرض وقد فتكت الجراحات بجسمه، وقد هابه الجميع ونكصوا من الإجهاز عليه.

يقول السيّد حيدر:

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٨٨.

(٢) الحدائق الوردية ١ / ١٢٦.

٢٦٨

فما أجلت الحربُ عن مثله = صريعاً يُجبِّن شجعانَها

خروج العقيلة (عليها السّلام)

وخرجت حفيدة الرسول من خبائها وهي تندب أخاها بأشجى ما تكون الندبة، وتقول بذوب روحها: ليت السماء وقعت على الأرض! وصاحت بالخبيث الدنس عمر بن سعد قائلة: يا عمر، أرضيت أن يُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟! فأشاح الخبيث بوجهه عنها ودموعه تسيل على لحيته المشؤومة(١) .

ولم تعد العقيلة الطاهرة تقوى على النظر إلى أخيها وهو بتلك الحالة، فانصرفت إلى خبائها لترعى المذاعير من النساء والأطفال.

الإجهاز على الإمام (عليه السّلام)

أحاط أعداء الله بالإمام من كلّ جانب وهم يوسعونه ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح ورمياً بالحجارة، فصاح بهم:«أعلى قتلي تجتمعون؟! أما والله لا تقتلون بعدي عبداً من عباد الله. وأيم الله، إنّي لأرجو أن يُكرمني الله بهوانكم ثمّ ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون» .

والتفت الخبيث عمر بن سعد إلى شبث بن ربعي فقال: انزل فجئني برأسه. فامتنع وقال: أنا بايعته ثمّ غدرت به، ثمّ أنزل فأحتز رأسه! لا والله لا أفعل ذلك. فأنكر ابن سعد كلامه وقال:

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٩٠.

٢٦٩

إذاً أكتب إلى ابن زياد. ولم يعتن شبث بذلك، وقال: اكتب له(١) .

وبادر المجرم الخبيث شمر بن ذي الجوشن، وكان من أعدى المجرمين على الإمام (عليه السّلام)، فاحتز رأسه الشريف كما في بعض الروايات(٢) .

لقد استشهد الإمام العظيم من أجل أن يرفع كلمة الله في الأرض ويطيح بدولة الظلم والبغي التي أقامتها الأحقاد القرشيّة على الإسلام. لقد قدّم الإمام (عليه السّلام) روحه ثمناً للقرآن، وثمناً لكلّ ما تسمو به الإنسانيّة من شرف وعزّ وإباء.

لقد رفع الإمام (عليه السّلام) راية الإسلام عالية خفّاقة وهي ملطّخة بدمه ودم الشهداء من أهل بيته وأصحابه الممجّدين، وهي تضيء في رحاب الكون وتفتح الآفاق الكريمة لشعوب العالم واُمم الأرض.

العقيلة (عليها السّلام) أمام الجثمان المقدّس

وانبرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلى جثمان أخيها، وقد رأت - ويا لهول ما رأت - رأت الجثمان المقدّس وقد مزّقته سيوف البغاة ورماحهم، وقد مُثِّل به كأفظع وأقسى ما يكون التمثيل، لقد كان منظراً تلجم منه الألسن، وتجمد منه الدماء، وتهلع منه القلوب.

لقد وقفت العقيلة أمامه بجلال وحشمة وقد أحاط بها الأعداء، فرمقت السماء بطرفها وقالت هذه الكلمات التي ارتسمت مع الفلك ثمّ دارت فيه، وهي تشعّ بروح الإيمان والإخلاص إلى الله تعالى قائلة: اللّهمّ تقبّل منّا هذا القربان.

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٩١.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢ / ٣٦، وغيره.

٢٧٠

لقد رضيت بما عانته حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) من أهوال هذه الكارثة التي تذوب من هولها الجبال؛ لأنّها في ذات الله تعالى الذي هامت في الإنابة إليه.

لقد تجلّت معاني الوراثة النبويّة في سيدة النساء زينب (عليها السّلام)، وبرزت في شخصيتها معالم شخصية جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ووصيّة أبيها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام).

حرق الخيام

وأوعزت القيادة العامة إلى الجند بحرق خيام آل النبي (صلّى الله عليه وآله)، فحملوا أقبسة من النار وهم ينادون: احرقوا بيوت الظالمين(١) .

لقد كان بيت الإمام (عليه السّلام) - حسب ما يزعمون - بيت الظلم، وبيت ابن مرجانة وسيده يزيد حفيد أبي سفيان بيت العدل! فيالله أمام هذا الظلم الذي لم يقع نظيره في تأريخ الاُمم والشعوب!

وتنصّ بعض المصادر إلى أنّ عمر بن سعد أمر بحرق الخيام بما فيها من النساء والأطفال، وقد حاول الشمر ذلك، إلاّ أنّ شبث بن ربعي عذله ومنعه عن ذلك.

وعلى أيّ حال، فحينما التهبت النار في خيم آل النبي فررن بنات الرسالة وعقائل الوحي من خباء إلى خباء، أمّا اليتامى فقد علا صراخهم وتعلّق بعضهم بأذيال عمّته الحوراء لتحميه من النار، وهام بعضهم على وجهه لا يلوي على شيء.

لقد كان ذلك المنظر من أفجع وأقسى ما مرّ على آل النبي (صلّى الله عليه وآله)، ولم يغب عن

____________________

(١) التاريخ المظفري / ٢٢٨.

٢٧١

ذهن الإمام زين العابدين (عليه السّلام) طيلة المدّة التي عاشها بعد أبيه، وكان يذكره مشفوعاً بالأسى والحزن، وهو يقول:«والله ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلاّ وخنقتني العبرة، وتذكّرت فرارهنَّ يوم الطفّ من خيمة إلى خيمة، ومن خباء إلى خباء، ومنادي القوم ينادي: احرقوا بيوت الظالمين» .

سلب حرائر الوحي

وعمد أراذل أهل الكوفة، وعبيد ابن مرجانة إلى سلب حرائر النبوّة وعقائل الوحي؛ فسلبوا ما عليهنَّ من حلي وحلل، وعمد بعض الأنذال إلى السيدة اُمّ كلثوم فسلب قرطيها، وأسرع وغد خبيث نحو السيدة فاطمة بنت الحسين فانتزع خلخالها وهو يبكي، فقالت له السيدة: ما لك تبكي؟

- كيف لا أبكي وأنا أسلب ابنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ولمّا رأت ذلك أنكرت عليه، وطلبت منه أن لا يسلبها، فأجابها: أخاف أن يأخذه غيري(١) .

وعمد الأرجاس إلى نهب جميع ما في الخيام من ثقل ومتاع، كما عمدوا إلى ضرب بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بكعوب رماحهم وهنَّ يلذن بعضهنَّ ببعض من الرعب، وقد سقطت السيدة فاطمة بنت الإمام الحسين مغشياً عليها من شدّة الضرب، فلمّا أفاقت رأت عمّتها السيدة اُمّ كلثوم تبكي عند رأسها(٢) .

إنّ مأساة بنات الوحي وعقائل الرسالة تذوب من هولها الجبال.

____________________

(١) مسير أعلام النبلاء ٣ / ٢٠٤.

(٢) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٠٢.

٢٧٢

إنقاذ العقيلة لزين العابدين (عليه السّلام)

وهجم الفجرة الجفاة على الإمام زين العابدين (عليه السّلام)، وكان مريضاً قد أنهكته العلّة، فأراد الخبيث الأبرص شمر بن ذي الجوشن قتله، فنهره حميد بن مسلم وقال له: سبحان الله! أتقتل الصبيان؟ إنّما هو مريض.

فلم يعنَ به الخبيث، ورام قتل الإمام (عليه السّلام) إلاّ أنّ العقيلة سارعت نحوه فتعلّقت به، وقالت: لا يُقتل حتّى اُقتل دونه(١) .

فكفّ اللئيم عنه، ولولا السيدة زينب لمُحيت ذرّية أخيها الحسين (عليه السّلام).

ليلة الحادي عشر

وأقسى ليلة مرّت على حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) هي ليلة الحادي عشر من المحرّم؛ فقد أحاطت بها جميع رزايا الدنيا ومصائب الأيام؛ فقد تسلّحت بالصبر وقامت برعاية أيتام أخيها؛ فقد سارعت تلتقط الأطفال الذين هاموا على وجوههم من الخوف، وتجمّع العيال في تلك البيداء الموحشة وهي تسلّيهم وتصبّرهم على تحمل تلك الرزايا، وأمامها الأشلاء الطاهرة قد تناثرت في البيداء، واُحرقت أخبيتها، وقد أحاط بها أرجاس البشرية ووحوش الأرض.

العقيلة تؤدّي صلاة الشكر

وقامت العقيلة في تلك الليلة القاسية فأدّت صلاة الشكر لله تعالى على ما حلّ بها وبأهلها من الكوارث والخطوب، طالبة من الله أن يتقبّل ما مُنيت به من الرزايا، وأن

____________________

(١) تاريخ القرماني / ١٠٨.

٢٧٣

يثيبها على ذلك، ويتقبّل ما جرى عليها وعلى أخيها من المصائب(١) . كما أدّت وردها من صلاة الليل، وقد استولى عليها الضعف فأدّت الصلاة من جلوس(٢) .

العقيلة (عليها السّلام) تندب أخاها

ونظرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلى جثمان أخيها وهو مقطّع الأعضاء قد فُصل عنه الرأس الشريف، فلم تملك نفسها، وصاحت بصوت يُذيب القلوب: يا محمّداه! هذا حسين بالعراء، مرمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء، وبناتك سبايا، وذرّيتك مقتّلة(٣) .

ووجم القوم مبهوتين، وفاضت دموعهم، وبكى العدو والصديق(٤) ؛ فقد استبان عظم الجريمة التي اقترفوها، وودّوا أنّ الأرض قد خاست بهم.

العقيلة (عليها السّلام) تخفّف لوعة زين العابدين (عليه السّلام)

وجزع الإمام زين العابدين (عليه السّلام) كأشدّ ما يكون الجزع حينما رأى جثمان أبيه وجثت أهل بيته وأصحابه منبوذة بالعراء، لم ينبرِ أحد إلى مواراتها، وبصرت به العقيلة وهو يجود بنفسه، فقالت له: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وإخوتي؟ فوالله إنّ هذا لعهد من الله إلى جدّك وأبيك، ولقد أخذ الله ميثاق اُناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات، إنّهم يجمعون هذه الأعضاء المُقطّعة والجسوم

____________________

(١) زينب الكبرى / ٦٢.

(٢) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٠٩.

(٣) خطط المقريزي ٢ / ٢٨٠، البداية والنهاية ٨ / ١٩٣.

(٤) جواهر المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب / ١٤٠.

٢٧٤

المضرّجة فيوارونها، وينصبون بهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء، لا يُدرس أثره، ولا يُمحى رسمه على كرور الليالي والأيام، وليجهدنَّ أئمّة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه فلا يزداد أثره إلى علوّاً(١) .

وأزالت سيّدة النساء ما ألمّ بابن أخيها من الحزن العميق؛ فقد أحاطته علماً بما سمعته من جدّها وأبيها من قيام جماعة من المؤمنين بمواراة الجثث الطاهرة، وسينصب لها علم لا يُمحى أثره حتّى يرث الله الأرض ومَنْ عليها. وقد جدّ الأقزام من ملوك الاُمويِّين وإخوانهم العباسيّين على محو تلك المراقد العظيمة فلم تزدد إلاّ علوّاً، وبقيت شامخة على الدهر كأعزّ مرقد على وجه الأرض.

لقد مضت ذكرى أبي الأحرار تملأ الدنيا إشراقاً وفخراً كأسمى ذكرى تعتزّ بها الإنسانيّة في جميع أدوارها.

____________________

(١) كامل الزيارات / ٢٢١.

٢٧٥

٢٧٦

سبايا آل البيت (عليهم السّلام) في الكوفة

وحُملت عقائل النبوّة وحرائر الوحي سبايا إلى الكوفة ومعهنَّ الأيتام، وقد ربطوا بالحبال، وحملوا على جمال بغير وطاء، وقد عزفت أبواق الجيش وخفقت راياتهم، وكان منظراً رهيباً تهلع منه القلوب.

وقد وصفه مسلم الجصّاص يقول: دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة، فبينما أُجصص الأبواب، وإذا بالزعقات قد ارتفعت من جميع الكوفة، فقلت لأحد خدام القصر: ما لي أرى الكوفة تضجّ؟

- الساعة يأتون برأس خارجي خرج على يزيد.

- مَنْ هذا الخارجي؟

- الحسين بن عليّ.

وكان هذا النبأ كالصاعقة على رأسه؛ فقد أخذ يلطم على وجهه حتّى خشي على عينيه أن تذهبا، وغسل يديه من الجص وخرج من القصر.

يقول: فبينما أنا واقف والناس يتوقّعون وصول السبايا والرؤوس إذ أقبل أربعون جملاً تحمل النساء والأطفال، وإذا بعلي بن الحسين على بعير بغير غطاء، وأوداجه تشخب دماً، وهو يبكي ويقول:

يا اُمةَ السوءِ لا سقياً لربعكمُ = يا اُمةً لم تراعِ جدّنا فينا

لو أنّنا ورسول اللهِ يجمعنا = يوم القيامة ما كنتم تقولونا

٢٧٧

تسيّرونا على الأقتابِ عاريةً = كأنّنا لم نشيّد فيكمُ دينا(١)

وتحدّث حذيم بن شريك الأسدي عن ذلك المنظر المؤلم، [حيث] يقول: قدمت إلى الكوفة سنة (٦١هـ) عند مجيء علي بن الحسين من كربلاء إلى الكوفة، ومعه النسوة وقد أحاطت بهم الجنود، وقد خرج الناس ينظرون إليهم، وكانوا على جمال بغير غطاء، فجعلت نساء أهل الكوفة يبكين ويندبن، ورأيت عليّ بن الحسين قد أنهكته العلّة وفي عنقه الجامعة، ويده مغلولة إلى عنقه، وهو يقول بصوت ضعيف:«إنّ هؤلاء يبكون وينوحون من أجلنا، فمَنْ قتلنا؟!» .

وانبرت إحدى السيدات، فسألت إحدى العلويات وقالت لها: من أيّ الأسارى أنتن؟ فأجابتها العلوية: نحن اُسارى أهل البيت.

وكان هذا النبأ كالصاعقة عليها، فصرخت وصرخت اللاتي كنّ معها، ودوّى صراخهن في أرجاء الكوفة، وبادرت المرأة إلى بيتها فجمعت ما فيه من اُزر ومقانع فجعلت تناولها إلى العلويات ليتسترنَ بها عن أعين الناس، كما بادرت سيدة اُخرى فجاءت بطعام وتمر، وأخذت تلقيه على الصبية التي أضناها الجوع، ونادت السيدة اُمّ كلثوم من خلف الركب: إنّ الصدقة حرام علينا أهل البيت(٢) .

ولمّا سمعت الصبية التي تربّت بآداب أهل البيت مقالة عمّتهم رمى كلّ واحد ما في يده أو ما في فمه من الطعام، وراح يقول لمَنْ معه: إنّ عمّتي تقول: الصدقة حرام علينا أهل البيت.

____________________

(١) مقتل الحسين (عليه السّلام) - عبد الله نور الله، (مخطوط).

(٢) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٣٥.

٢٧٨

خطاب العقيلة زينب (عليها السّلام)

وحينما رأت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) زينب الجموع الزاخرة التي ملأت الشوارع والأزقة، وقد أحاطت بها، اندفعت إلى الخطابة لبلورة الرأي العام، وإظهار المصيبة الكبرى التي داهمت العالم الإسلامي بقتل ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وتحميل الكوفيّين مسؤولية هذه الجريمة النكراء؛ فهم الذين نقضوا ما عاهدوا الله عليه من نصرة الإمام الحسين (عليه السّلام) والذبّ عنه، ولكنّهم خسروا ذلك، وقتلوه ثمّ راحوا ينوحون ويبكون كأنّهم لم يقترفوا هذا الإثم العظيم.

وهذا نصّ خطابها: الحمد لله، والصلاة على جدّي محمّد وآله الطيّبين الأخيار. أمّا بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل(١) والغدر، أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة، إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم. ألا وهل فيكم إلاّ الصلف والنطف، والصدر الشيف، وملق الإماء، وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنة، أو كفضّة على ملحودة، ألا ساء ما قدّمتم لأنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون!

أتبكون وتنتحبون؟! إي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً؛ فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً، وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنّة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار

____________________

(١) في نسخة: (الغدر).

٢٧٩

حجّتكم، ومدرة سنّتكم؟! ألا ساء ما تزرون، وبعداً لكم وسحقاً! فلقد خاب السعي، وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضُربت عليكم الذلّة والمسكنة.

ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أيّ كبد لرسول الله فريتم، وأيّ كريمة له أبرزتم، وأيّ دم له سفكتم، وأيّ حرمة له انتهكتم؟! لقد جئتم بها صلعاء عنقاء، سوداء فقماء - وفي بعضها: خرقاء شوهاء - كطلاع الأرض وملء السماء. أفعجبتم أن مطرت السماء دماً، ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تُنصرون؟ فلا يستخفنّكم المهل؛ فإنّه لا يحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثار، وإنّ ربّكم لبالمرصاد(١) .

لقد قرعتهم عقيلة الرسول بخطابها البليغ، وعرّفتهم زيف إسلامهم، وكذب دموعهم، وأنّهم من أحطّ المجرمين؛ فقد اقترفوا أفضع جريمة وقعت في الأرض؛ فقد قتلوا المنقذ والمحرّر الذي أراد لهم الخير، وفروا بقتله كبد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وانتهكوا حرمته، وسبوا عياله، فأيّ جريمة أبشع من هذه الجريمة؟!

اضطراب الرأي العام

واضطرب أهل الكوفة من خطاب سليلة النبوّة، ووصف حذيم الأسدي مدى الأثر البالغ الذي أحدثته العقيلة في خطابها، يقول:

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٣٥.

٢٨٠

لم أرَ والله خفرة أنطق منها، كأنّما تُفرغ عن لسان الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، ورأيت الناس بعد خطابها حيارى، واضعي أيديهم على أفواههم، ورأيت شيخاً قد دنا منها يبكي حتّى اخضبّت لحيته، وهو يقول: بأبي أنتم واُمّي! كهولكم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونسلكم لا يبور ولا يخزى أبداً(١) .

ورأى الإمام زين العابدين (عليه السّلام) الوضع الراهن لا يساعد على استمرارها في الخطاب، فقطع عليها خطبتها قائلاً:«اسكتي يا عمّة، فأنت بحمد الله عالمة غير معلّمة، وفهمة غير مفهمة» (٢) .

خطاب السيدة فاطمة (عليها السّلام)

وانبرت السيدة فاطمة بنت الإمام الحسين (عليه السّلام) فخطبت أبلغ خطاب وأروعه، وكانت طفلة، وقد برزت فيها معالم الوراثة النبويّة، فقالت: الحمد لله عدد الرمل والحصى، وزنة العرش إلى الثرى، أحمده واُؤمن به وأتوكّل عليه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله) عبده ورسوله، وأنّ ذرّيّته ذُبحوا بشطّ الفرات، بغير ذخل ولا ترات.

اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب، وأن أقول عليك خلاف ما أنزلت من أخذ العهود لوصيّة عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، المسلوب حقّه، المقتول بغير ذنب - كما قُتل ولده بالأمس - في بيتٍ من بيوت الله، فيه معشر مسلمة بألسنتهم.

تعساً لرؤوسهم!

____________________

(١) نور الأبصار / ٢٧٦.

(٢) الاحتجاج - الطبرسي ٢ / ٣٠٤ - ٣٠٥.

٢٨١

ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته، حتّى قبضته إليك محمود النقيبة، طيّب العريكة، معروف المناقب، مشهور المذاهب، لم تأخذه اللّهمّ فيك لومة لائم، ولا عذل عاذل.

هديته يا ربّ للإسلام صغيراً، وحمدت مناقبه كبيراً، ولم يزل ناصحاً لك ولرسولك صلواتك عليه وآله حتّى قبضته إليك، زاهداً في الدنيا غير حريص عليها، راغباً في الآخرة، مجاهداً لك في سبيلك، رضيته فاخترته وهديته إلى صراط مستقيم.

أمّا بعد يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر والخُيَلاء، فإنّا أهل بيت ابتلانا الله بكم، وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسناً، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا، فنحن عيبة علمه، ووعاء فهمه وحكمته، وحجّته على أهل الأرض في بلاده لعباده؛ أكرمنا الله بكرامته، وفضّلنا بنبيّه محمّد (صلّى الله عليه وآله) على كثير ممّن خلق تفضيلاً بيّناً.

فكذّبتمونا وكفّرتمونا، ورأيتم قتالنا حلالاً، وأموالنا نهباً، كأنّنا أولاد ترك أو كابل، كما قتلتم جدّنا بالأمس، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت؛ لحقد متقدّم، قرّت لذلك عيونكم، وفرحت قلوبكم؛ افتراء على الله ومكراً مكرتم والله خير الماكرين.

فلا تدعُوَنّكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا، ونالت أيديكم من أموالنا؛ فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة( فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) .

٢٨٢

تبّاً لكم! فانتظروا اللعنة والعذاب، فكأنّ قد حلّ بكم، وتواترت من السماء نقمات، فيسحتكم بعذاب، ويذيق بعضكم بأس بعض، ثمّ تخلّدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة الله على الظالمين.

ويلكم! أتدرون أيّة يدٍ طاعنتنا منكم، وأيّة نفس نزعت إلى قتالنا؟! أم بأيّة رجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا؟! قست والله قلوبكم، وغلظت أكبادكم، وطُبع على أفئدتكم، وخُتم على أسماعكم وأبصاركم [سوّل لكم الشيطان وأملى لكم، وجعل على بصركم] غشاوةً فأنتم لا تهتدون.

فتبّاً لكم يا أهل الكوفة! أيّ ترات لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) قِبَلكم، وذحول له لديكم بما غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب (عليه السّلام) جدّي وبنيه وعترة النبيّ الأخيار صلوات الله وسلامه عليهم؟!

وافتخر بذلك مفتخركم فقال:

نحن قتلنا عليّاً وبني علي = بسيوف هنديّة ورماحِ

وسبَينا نساءهم سبيَ تركٍ = و نطحناهم فأيّ نطاحِ

بفيك أيّها القاتل الكثكث والأثلب(١) ، افتخرت بقتل قوم زكّاهم الله وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً! فاكظم واقع كما

____________________

(١) الكثكث: التراب. الأثلب: فتات الحجارة والتراب.

٢٨٣

أقعى أبوك، فإنّما لكلّ امرئ ما اكتسب وما قدّمت يداه. أحسدتمونا - ويلاً لكم! - على ما فضّلنا الله!

فما ذنبنا إن جاش دهراًً بحورنا = وبحرُك ساجٍ لا يواري الدعامصا

( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ) (١) .

تحدّثت سليلة النبوّة في خطابها الرائع البليغ عن اُمور بالغة الأهمية ذكرناها بالتفصيل في كتابنا (حياة الإمام الحسين).

صدى خطابها

وأثّر خطاب السيدة الزكية فاطمة في نفوس الجماهير؛ فقد وجلت منه عيونهم، ووجلت قلوبهم، وعرفوا عظيم ما اقترفوه من الإثم، فاندفعوا ببكاء قائلين: حسبك يابنة الطاهرين؛ فقد أحرقت قلوبنا، وأنضجت نحورنا، وأضمرت أجوافنا.

وأمسكت السيدة عن الكلام، وتركت جماهير الكوفيّين في محنتهم وشقائهم.

خطاب السيّدة اُمّ كلثوم (عليها السّلام)

وانبرت حفيدة الرسول السيدة اُمّ كلثوم(٢) إلى الخطابة، فأومأت إلى الناس

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٣٩.

(٢) ذهب السيد المقرّم وغيره إلى أنّ السيّدة اُمّ كلثوم هي السيدة زينب (عليها السّلام).

٢٨٤

بالسكوت، فلمّا سكنت الأنفاس بدأت بحمد الله والثناء عليه، ثمّ قالت: مه يا أهل الكوفة، سوءاً لكم! ما لكم خذلتم حسيناً وقتلتموه، وانتهبتم أمواله وورثتموه، وسبيتم نساءه ونكبتموه؟! فتبّاً لكم وسحقاً!

ويلكم! أتدرون أيّ دواه دهتكم، وأيّ وزر على ظهوركم حملتم، وأيّ دماء سفكتموها؟! قتلتم خير رجالات بعد النبي (صلّى الله عليه وآله)، ونُزِعت الرحمة من قلوبكم، ألا إنّ حزب الله هم الغالبون، وحزب الشيطان هم الخاسرون.

واضطرب الكوفيّون من خطابها، فنشرت النساء شعورهن، ولطمن الخدود، ولم يرَ أكثر باكٍ ولا باكية مثل ذلك اليوم.

خطاب الإمام زين العابدين (عليه السّلام)

وانبرى إلى الخطاب الإمام زين العابدين (عليه السّلام)، فقال بعد حمد الله والثناء عليه:«أيّها الناس، مَنْ عرفني فقد عرفني، ومَنْ لم يعرفني فأنا أُعَرِّفه بنفسي؛ أنا علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، أنا ابن المذبوح بشطّ الفرات من غير ذحل ولا ترات (١) ، أنا ابن مَنْ انتُهك حريمه، وسُلب نعيمه، وانتُهب ماله، وسُبي عياله، أنا ابن مَنْ قُتل صبراً وكفى بذلك فخراً.

أيّها الناس، ناشدتكم الله هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي

____________________

(١) الترات: هو مَنْ ظلم حقّه.

٢٨٥

وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه وخذلتموه؟! فتبّاً لِما قدّمتم لأنفسكم، وسوءاً لرأيكم! بأيّة عين تنظرون إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذ يقول لكم: قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي فلستم من أُمّتي؟!» .

وجرّدهم بهذه الكلمات من الإسلام، ودلّهم على جرائمهم وآثامهم التي سوّدت وجه التأريخ، وقد علت أصواتهم بالبكاء، ونادى مناد منهم: هلكتم وما تعلمون.

واستمر الإمام في خطابه قائلاً:«رحم الله امرأً قَبِل نصيحتي وحفظ وصيّتي في الله وفي رسوله وأهل بيته؛ فإنّ لنا في رسول الله أُسوة حسنة» .

فهتفوا قائلين: نحن يابن رسول الله سامعون مطيعون، حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك، ولا راغبين عنك، فمرنا بأمرك يرحمك الله؛ فإنّا حرب لحربك وسلم لسلمك، نبرأ ممّن ظلمك وظلمنا.

وردّ الإمام عليهم هذا الولاء الكاذب قائلاً:«هيهات هيهات أيّتها الغدرة المكرة! حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم، أتريدون أن تأتوا إليّ كما أتيتم إلى أبي من قبل؟ كلا وربّ الراقصات (١) ؛ فإنّ الجرح لمّا يندمل، قُتل أبي صلوات الله عليه بالأمس وأهل بيته معه، ولم يُنس ثكل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وثكل أبي وبني أبي، ووجده بين لهاتي، ومرارته بين حناجري وحلقي،

____________________

(١) الراقصات: هي النجوم.

٢٨٦

وغصصه تجري في فراش صدري» (١) .

وأمسك الإمام (عليه السّلام) عن الكلام، وتركهم حيارى يندبون حظّهم التعيس.

في مجلس ابن زياد

وأُدخلت عقائل الوحي ومخدّرات النبوّة وهنَّ في ذلّ الأسر، قد شُهرت على رؤوسهنَّ سيوف الكافر ابن مرجانة سليل الأرجاس والخيانة، وهو في قصر الإمارة وقد امتلأ القصر بالسفكة المجرمين من جنوده، وهم يهنّئونه بالظفر، ويحدّثونه بجرائمهم التي اقترفوها يوم الطفّ، وهو جذلان مسرور يهزّ أعطافه فرحاً وسروراً، وبين يديه رأس زعيم الاُمّة وريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ فجعل الخبيث يعبث بالرأس الشريف وينكته بمخصرته، وهو يقول متشمّتاً: ما رأيت مثل هذا الوجه قطّ.

إنّه وجه النبوة والإمامة، ووجه الإسلام بجميع مبادئه وقيمه.

ولم ينه ابن مرجانة كلامه حتّى سدّد له الصحابي أنس بن مالك سهماً، فقال له: إنّه كان يشبه النبي(٢) .

والتاع الخبيث من كلامه، ولم يجد أيّ مجال للردّ عليه.

الطاغية مع عقيلة الوحي (عليها السّلام)

ولمّا روى المجرم الخبيث ابن مرجانة أحقاده من رأس ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، التفت إلى عائلة الإمام الحسين (عليه السّلام)، فرأى سيدة منحازة في ناحية من مجلسه، وعليها أرذل

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٤٢.

(٢) أنساب الأشراف / ٢٢٢.

٢٨٧

الثياب، وقد حفّت بها المهابة والجلال، فانبرى ابن مرجانة سائلاً عنها، فقال: مَنْ هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها؟

فأعرضت عنه احتقاراً واستهانة به، وكرّر السؤال فلم تجبه، فانبرت إحدى السيّدات فأجابته: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

فالتاع الخبيث الدنس من احتقارها له، واندفع يظهر الشماتة بلسانه الألكن قائلاً: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم، وأبطل اُحدوثتكم.

فثارت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأجابته بشجاعة أبيها، محتقرة له قائلة: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه، وطهّرنا من الرجس تطهيراً، إنّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا يابن مرجانة(١) .

وكانت هذه الكلمات كالصاعقة على رأس هذا الوضر الخبيث، لقد قالت هذا القول الصارم وهي مع بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في قيد الأسر، قد نُصبت فوق رؤوسهنَّ حراب الظالمين، وشُهرت عليهن سيوف الشامتين.

ولم يجد ابن مرجانة كلاماً يُجيب به سوى التشفّي قائلاً: كيف رأيت صنع الله بأخيك؟

فأجابته حفيدة الرسول ومفخرة الإسلام بكلمات الظفر والنصر لها ولأخيها قائلة: ما رأيت إلاّ جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينكم وبينهم، فتُحاجّ وتُخاصم، فانظر لمَنْ الفلج يومئذ، ثكلتك اُمّك يابن مرجانة!

____________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٣.

٢٨٨

وفقد الحقير الدنس إهابه من هذا التبكيت والاحتقار اللاذع، فهمّ أن يضرب العقيلة، فنهاه عمرو بن حريث وقال له: إنّها امرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها.

يالله! يا للمسلمين! ابن مرجانة يروم أن يعتدي على عقيلة بني هاشم وحفيدة الرسول! إنّ المسؤول عن هذا الاعتداء الصارخ على الأُسرة النبويّة وعلى عقائل الوحي مؤتمر السقيفة والشورى؛ فهم الذين سلّطوا على المسلمين الاُمويِّين، خصوم الإسلام وأعداء البيت العلوي، وحجبوا آل البيت عن القيادة الروحية لهذه الاُمّة.

وعلى أيّ حال، فإنّ ابن مرجانة التفت إلى العقيلة مظهراً لها التشفّي بقتل أخيها قائلاً: لقد شفى الله قلبي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك.

وغلب الأسى والحزن على العقيلة (عليها السّلام) من هذا التشفّي الآثم، وتذكّرت حماتها الصفوة من الاُسرة النبويّة، فأدركتها لوعة الأسى، وقالت: لعمري لقد قتلت كهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن كان هذا شفاؤك فقد اشتفيت.

وتهافت غيظ ابن مرجانة، وراح يقول: هذه سجّاعة، لعمري لقد كان أبوها سجّاعاً شاعراً. فردّت عليه العقيلة: إنّ لي عن السجاعة لشغلاً، ما للمرأة والسجاعة(١) !

ما أخسّ هذه الحياة وما ألأمها التي جعلت حفيدة الرسول أسيرة عند

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٤٤.

٢٨٩

ابن مرجانة، وهو يبالغ في احتقارها!

إنقاذ العقيلة للإمام زين العابدين (عليه السّلام)

وأدار ابن مرجانة بصره في بقية الأسرى من أهل البيت (عليهم السّلام)، فوقع بصره على الإمام زين العابدين (عليه السّلام)، وقد أنهكته العلّة، فسأله: مَنْ أنت؟

-«عليّ بن الحسين» .

فصاح به الرجس الخبيث: أوَ لم يقتل الله علي بن الحسين؟

فأجابه الإمام (عليه السّلام) بأناة:«قد كان لي أخ يُسمّى عليّ بن الحسين قتلتموه، وإنّ له منكم مطالباً يوم القيامة» .

فثار ابن مرجانة، ورفع صوته قائلاً: الله قتله.

فأجابه الإمام (عليه السّلام) بكلّ شجاعة وثبات:( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ، ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّه ) .

ودارت الأرض بابن مرجانة ولم يعرف ما يقول، وغاظه أن يتكلّم هذا الغلام الأسير بقوّة الحجّة، والاستشهاد بالقرآن الكريم، فرفع عقيرته قائلاً: وبك جرأة على ردّ جوابي! وفيك بقية للردّ عليّ! والتفت إلى بعض جلاديه فقال له: خذ هذا الغلام واضرب عنقه.

وطاشت أحلام العقيلة (عليها السّلام)، وانبرت بشجاعة لا يرهبها سلطان، فاحتضنت ابن أخيها وقالت لابن مرجانة:

٢٩٠

حسبك يابن زياد ما سفكت من دمائنا! إنّك لم تُبقِ منّا أحداً، فإن كنت عزمت على قتله فاقتلني معه.

وبُهر الطاغية وانخذل، وقال متعجّباً: دعوه لها، عجباً للرحم ودّت أن تُقتل معه!

ولولا موقف العقيلة (عليها السّلام) لذهبت البقيّة من نسل أخيها التي هي مصدر الخير والفضيلة في دنيا العرب والإسلام. لقد أنجا الله زين العابدين (عليه السّلام) من القتل المحتّم ببركة العقيلة (عليها السّلام)؛ فهي التي أنقدته من هذا الطاغية الجبّار(١) .

حبس عقائل الوحي

وأمر ابن مرجانة بحبس مخدّرات الرسالة وعقائل الوحي فاُدخلنّ في سجن يقع إلى جانب المسجد الأعظم، وقد ضيّق عليهنَّ أشدّ التضييق، فكان يجري على كلّ واحدة في اليوم رغيفاً واحداً من الخبز، وكانت العقيلة تؤثر أطفال أخيها برغيفها وتبقى ممسكة حتّى بان عليها الضعف فلم تتمكّن من النهوض، وكانت تُصلّي من جلوس، وفزع الإمام زين العابدين (عليه السّلام) من حالتها، فأخبرته بالأمر.

ورفضت عقيلة بني هاشم مقابلة أيّة امرأة من الكوفيات، وقالت: لا يدخلنّ علينا إلاّ أُمّ ولد، أو مملوكة؛ فإنّهنّ سُبين كما سُبينا.

واُلقي على بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حجر قد ربط فيه كتاب جاء فيه: إنّ البريد قد سار بأمركم إلى يزيد، فإن سمعتم التكبير فأيقنوا بالهلاك، وإن لم تسمعوا بالتكبير فهو الأمان. وحدّدوا لمجيء الكتاب وقتاً، وفزعت العلويات وذُعرن، وقبل قدوم البريد بيومين اُلقي عليهم حجر آخر فيه كتاب جاء فيه: أوصوا واعهدوا فقد قارب

____________________

(١)

٢٩١

وصول البريد. وبعد انتهاء المدّة جاء أمر يزيد بحمل الأسرى إلى دمشق(١) .

وصرّح بعض المؤرّخين أنّ يزيد كان عازماً على استئصال نسل الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، إلاّ أنّه بعد ذلك عدل عن نيّته.

وبقيت العائلة النبويّة في السجن، فلمّا جاءت أوامر يزيد بحملهم إلى دمشق لتعرض على أهل الشام كما عرضت على أهل الكوفة فقد حُملت السبايا، وأمّا رؤوس العترة الطاهرة الذين أرادوا أن يقيموا في هذا الشرق حكومة الإسلام والقرآن فقد حُملت ليراها أهل الشام، ويتلذّذ بمنظرها يزيد.

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٣٧.

٢٩٢

سبايا آل النبي (عليهم السّلام) في دمشق

وعانت عقائل الوحي ومخدّرات النبوّة والإمامة جميع ضروب المحن والبلاء أيام مكثهنَّ في الكوفة؛ فقد عانينَ مرارة السجن، وشماتة الأعداء، وذلّ الأسر. وبعدما صدرت الأوامر من دمشق بحملهن إلى يزيد أمر ابن مرجانة بتسيير رؤوس أبناء النبي (صلّى الله عليه وآله) وأصحابهم إلى الشام لتُعرض على الشاميّين كما عرضت على الكوفيّين؛ حتّى تمتلأ قلوب الناس فزعاً وخوفاً، وتظهر مقدرة الاُمويِّين وغلبتهم على آل الرسول.

وقد سُيّرت رؤوس العترة الطاهرة مع الأثيم زهير بن قيس الجعفي، كما سُيّرت العائلة النبويّة مع محفر بن ثعلبة من عائدة قريش، وشمر بن ذي الجوشن، وقد أوثقت بالحبال، وأُركبت على أقتاب الجمال، وهنَّ بحالة تقشعر منها ومن ذكرها الأبدان، وترتعد لها فرائص كلّ إنسان(١) .

وسارت قافلة الأسرى لا تلوي على شيء حتّى انتهت إلى القرب من دمشق، فاُقيمت هناك حتّى تتزيّن البلد بمظهر الزهو والأفراح.

ومن الجدير بالذكر أنّ مخدّرات النبوّة وباقي الأسرى قد التزموا جانب الصمت، فلم يطلبوا أيّ شيء من اُولئك الأنذال الموكّلين بهم؛ وذلك لعلم العلويات بعدم الاستجابة لأيّ شيء من مطالبهنَّ.

____________________

(١) تحفة الأنام في مختصر الإسلام / ٨٤.

٢٩٣

تزيين الشام

وأمرت حكومة دمشق الدوائر الرسمية وشبه الرسمية بإظهار الزينة والفرح للنصر الذي أحرزته بقتل أبناء النبي (صلّى الله عليه وآله).

ووصف بعض المؤرّخين تلك الزينة بقوله: ولمّا بلغوا - أي أُسارى أهل البيت (عليهم السّلام) - ما دون دمشق بأربعة فراسخ استقبلهم أهل الشام وهم ينثرون النثار فرحاً وسروراً حتّى بلغوا بهم قريب البلد، فوقفوهم عن الدخول ثلاثة أيام وحبسوهم هناك حتّى تتوفّر زينة الشام وتزويقها بالحليّ والحلل، والحرير والديباج، والفضة والذهب وأنواع الجواهر، على صفة لم يرَ الراؤون مثلها لا قبل ذلك اليوم ولا بعده.

ثمّ خرج الرجال والنساء، والأصاغر والأكابر، والوزراء والأمراء، واليهود والمجوس والنصارى وسائر الملل إلى التفرّج، ومعهم الطبول والدفوف، والبوقات والمزامير، وسائر آلات اللهو والطرب، وقد كحّلوا العيون وخضّبوا الأيدي، ولبسوا أفخر الملابس، وتزيّنوا أحسن الزينة، ولم يرَ الراؤون أشدّ احتفالاً ولا أكثر اجتماعاً منه، حتّى كأن الناس كلّهم حشروا جميعاً في صعيد دمشق(١) .

لقد أبدى ذلك المجتمع الذي تربّى على بغض أهل البيت (عليهم السّلام) جميع ألوان الفرح والسرور بإبادة العترة الطاهرة وسبي حرائر النبوّة.

وروى سهل بن سعد الساعدي ما رآه من استبشار الناس بقتل الحسين (عليه السّلام)، يقول: خرجت إلى بيت المقدس حتّى توسّطت الشام، فإذا أنا بمدينة مطّردة الأنهار، كثيرة الأشجار، قد علّقت عليها الحجب والديباج، والناس فرحون مستبشرون، وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول، فقلت في نفسي: إنّ لأهل الشام عيداً لا نعرفه؟!

فرأيت قوماً يتحدّثون، فقلت لهم: ألكم بالشام عيد لا نعرفه؟

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٦٩.

٢٩٤

- نراك يا شيخ غريباً؟

- أنا سهل بن سعد قد رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

- يا سهل، ما أعجبك أن السماء لا تمطر دماً، والأرض لا تنخسف بأهلها!

- وما ذاك؟

- هذا رأس الحسين يُهدى من أرض العراق.

- وا عجباً! يُهدى رأس الحسين والناس يفرحون! من أيّ باب يدخل؟

وأشاروا إلى باب الساعات، فأسرع سهل إليها، وبينما هو واقف وإذا بالرايات يتبع بعضها بعضاً، وإذا بفارس بيده لواء منزوع السنان وعليه رأس من أشبه الناس وجهاً برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهو رأس أبي الأحرار، وخلفه السبايا محمولة على جمال بغير وطاء.

وبادر سهل إلى إحدى السيّدات فسألها: مَنْ أنتِ؟

- أنا سكينة بنت الحسين.

- ألك حاجة؛ فأنا سهل صاحب جدّك رسول الله؟

- قل لصاحب هذا الرأس أن يقدّمه أمامنا حتّى يشتغل الناس بالنظر إليه، ولا ينظرون إلى حرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وأسرع سهل إلى حامل الرأس فأعطاه أربعمئة درهم فباعد الرأس عن النساء(١) .

الشامي مع زين العابدين (عليه السّلام)

وانبرى شيخ هرم يتوكّأ على عصاه ليمتّع نظره بالسبايا، فدنا من الإمام زين العابدين (عليه السّلام)، فرفع عقيرته قائلاً:

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٧٠.

٢٩٥

الحمد لله الذي أهلككم وأمكن الأمير منكم.

وبصر به الإمام (عليه السّلام) فرآه مخدوعاً قد ضلّلته الدعاية الاُمويّة، فقال له:«يا شيخ، أقرأت القرآن؟» .

فبُهت الشيخ من أسير مكبول، فقال له بدهشة: بلى!

-«أقرأت قوله تعالى: ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ، وقوله تعالى: ( وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) ، وقوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) ؟» .

وبُهر الشيخ وتهافت فقال: نعم، قرأت ذلك!

فقال له الإمام (عليه السّلام):«نحن والله القربى في هذه الآيات. يا شيخ، أقرأت قوله تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ؟» .

- بلى.

-«نحن أهل البيت الذين خصّهم الله بالتطهير» .

ولمّا سمع الشيخ ذلك من الإمام (عليه السّلام) ذهبت نفسه حسرات على ما فرّط في أمر نفسه، وتلجلج وقال للإمام (عليه السّلام) بنبرات مرتعشة: بالله عليكم أنتم هم؟!

-«وحقّ جدّنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إنّا لنحن هم من غير شكّ» .

وودّ الشيخ أنّ الأرض قد وارته ولم يجابه الإمام بتلك الكلمات القاسية، وألقى بنفسه على الإمام وهو يوسع يديه تقبيلاً، ودموعه تجري على سحنات وجهه قائلاً: أبرأ إلى الله ممّن قتكلم.

٢٩٦

وطلب من الإمام (عليه السّلام) أن يمنحه العفو والرضا، فعفا الإمام عنه(١) .

سرور يزيد (لعنه الله)

وغمرت يزيد موجات من الفرح حينما جيء له بسبايا أهل البيت (عليهم السّلام)، وكان مطلاّ على منظر في جيرون، فلمّا نظر إلى الرؤوس والسبايا قال:

لمّا بدت تلكَ الحمول وأشرقتْ = تلكَ الرؤوس على شفا جيرونِ

نعبَ الغرابُ فقلت قل أو لا تقل = فقد اقتضيت من الرسولِ ديوني(٢)

لقد أخذ ابن هند ثأره من ابن فاتح مكة ومحطّم أوثان قريش؛ فقد أباد العترة الطاهرة، وسبى ذراريها؛ تشفّياً وانتقاماً من الرسول الذي قتل أعلام الاُمويِّين.

رأس الإمام (عليه السّلام) عند يزيد (لعنه الله)

وحمل الخبيث الأبرص شمر بن ذي الجوشن ومحفر بن ثعلبة العائدي رأس ريحانة رسول الله وسيّد شباب أهل الجنّة هدية إلى الفاجر يزيد بن معاوية، فسرّ بذلك سروراً بالغاً؛ فقد استوفى ثأره وديون الاُمويِّين من ابن رسول الله، وقد أذن للناس إذناً عاماً ليظهر لهم قدرته وقهره لآل النبي (صلّى الله عليه وآله).

وازدحم الأوباش والأنذال من أهل الشام على البلاط الاُموي وهم يعلنون فرحتهم الكبرى، ويهنّئون يزيد بهذا النصر الكاذب(٣) ، وقد وضع الرأس الشريف بين يدي سليل الخيانة فجعل ينكثه بمخصرته، ويقرع ثناياه اللتين كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يرشفهما، وجعل يقول: لقد لقيت بغيك يا حسين(٤) .

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٧١.

(٢) مقتل الحسين (عليه السّلام) - المقرّم / ٤٣٧.

(٣) البداية والنهاية ٨ / ١٩٨.

(٤) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٧٤.

٢٩٧

ثمّ التفت إلى عملائه وأذنابه فقال لهم: ما كنت أظنّ أبا عبد الله قد بلغ هذا السنّ، وإذا لحيته ورأسه قد نصلا من الخضاب الأسود(١) .

وتأمّل في وجه الإمام (عليه السّلام) فغمرته هيبته، وراح يقول: ما رأيت مثل هذا الوجه حسناً قطّ(٢) !

أجل، إنّه كوجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي تحنو له الوجوه والرقاب، والذي يشعّ بروح الإيمان.

وراح ابن معاوية يوسع ثغر الإمام (عليه السّلام) بالضرب وهو يقول: إنّ هذا وإيّانا كما قال الحصين بن الحمام:

أبى قومنا إن ينصفونا فانصفت = قواضب في إيماننا تقطر الدما

نُفلِّقنَ هاماً من رجالٍ أعزّةٍ = علينا و هم كانوا أعقّ وأظلما

ولم يتم الخبيث كلامه حتّى أنكر عليه أبو برزة الأسلمي، فقال له: أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين؟! أما لقد أخذ قضيبك في ثغره مأخذاً لربّما رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يرشفه! أما إنّك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك، ويجيء هذا ومحمد (صلّى الله عليه وآله) شفيعه.

ثمّ قام منصرفاً عنه(٣) .

السبايا في مجلس يزيد (لعنه الله)

وعمد الأنذال من جلاوزة الخبيث ابن الخبيث يزيد بن معاوية إلى عقائل الوحي وسائر الصبية، فربقوهم بالحبال كما تربق الأغنام، فكان الحبل في عنق الإمام زين العابدين (عليه السّلام) إلى عنق العقيلة زينب (عليها السّلام) وباقي بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكانوا كلّما قصّروا عن

____________________

(١) تاريخ الإسلام - الذهبي ٢ / ٣٥١.

(٢) تاريخ القضاعي / ٧٠.

(٣) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٣٩٨.

٢٩٨

المشي أوسعوهم ضرباً بالسياط، وجاؤوا بهم على مثل هذه الحالة التي تتصدّع من هولها الجبال، وهم يكبّرون ويهلّلون بسبيهم لبنات رسول الله وإبادتهم لعترته.

وأوقفت مخدّرات الرسالة بين يدي يزيد (لعنه الله)، فالتفت إليه الإمام زين العابدين (عليه السّلام) فقال له:«ما ظنّك برسول الله (صلّى الله عليه وآله) لو رآنا على هذه الصِفة؟» .

فتأثّر يزيد، ولم يبق أحد في مجلسه إلاّ بكى، وكان منظر العلويات مثيراً للعواطف، فقال يزيد (لعنه الله): قبّح الله ابن مرجانة! لو كان بينكم وبينه قرابة لما فعل بكم هذا.

إنّه لم يصنع بالسيّدات العلويات بمثل هذه الأعمال إلاّ بأمر يزيد، وإرضاءً لعواطفه ورغباته، واستجابة لعواطف القرشيّين الذين ما آمنوا بالإسلام، وكانت نفوسهم مترعة بالحقد لرسول الله (صلّى الله عليه وآله).

والتفت الطاغية إلى الإمام زين العابدين (عليه السّلام) فقال له: إيه يا عليّ بن الحسين، أبوك الذي قطع رحمي، وجهل حقّي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما رأيت.

فأجابه شبل الحسين بكلّ طمأنينة وهدوء بقوله تعالى:( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) .

وثار الطاغية وقال للإمام:( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) .

فردّ عليه الإمام (عليه السّلام):«هذا في حقّ مَنْ ظلم لا في حقّ مَنْ ظُلِم» .

٢٩٩

وزوى الإمام بوجهه عنه ولم يكلّمه؛ استهانة به(١) .

خطاب العقيلة (عليها السّلام)

وأظهر الطاغية الآثم فرحته الكبرى بإبادته لعترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقد صفا له الملك، واستوسقت له الاُمور، وأخذ يهزّ أعطافه جذلاناً متمنّياً حضور القتلى من أهل بيته ببدر؛ ليريهم كيف أخذ بثارهم من النبي (صلّى الله عليه وآله) في ذرّيته، وراح يترنّم بأبيات ابن الزبعري قائلاً أمام الملأ بصوت يسمعه الجميع:

ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدوا = جزعَ الخزرجِ من وقعِ الأسلْ

فأهلّوا واستهلّوا فرحاً = ثمّ قالوا يا يزيدَ لا تُشلْ

قد قتلنا القومَ من ساداتهمْ = و عدلناه ببدرٍ فاعتدلْ

لعبت هاشمُ بالمُلكِ فلا = خبرٌ جاءَ و لا وحيٌ نزلْ

لستُ من خندف إن لم أنتقمْ = من بني أحمدَ ما كان فَعَلْ

ولمّا سمعت العقيلة (عليها السّلام) هذه الأبيات التي أظهر فيها التشفّي بقتل عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) انتقاماً منهم لقتلى بدر، وثبت كالأسد، فسحقت جبروته وطغيانه، فكأنّها هي الحاكمة والمنتصرة، والطاغية هو المخذول والمغلوب على أمره، وقد خطبت هذه الخطبة التي هي من متمّمات النهضة الحسينيّة.

قالت (عليها السّلام): الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وآله أجمعين، صدق الله كذلك يقول:( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) (٢) .

أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا

____________________

(١) الإرشاد / ٢٧٦.

(٢) سورة الروم / ١٠.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343