السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام0%

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 343

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
تصنيف:

الصفحات: 343
المشاهدات: 175951
تحميل: 7624

توضيحات:

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 175951 / تحميل: 7624
الحجم الحجم الحجم
السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف:
العربية

معه طوال المدّة التي اعتقلتهم فيها طغاة قريش في (الشِّعب)، وكانت تهوّن على النبي (صلّى الله عليه وآله) المصاعب والمصائب التي كان يعانيها من جهّال قريش وأوغادها.

وكان النبي (صلّى الله عليه وآله) يشكر أياديها البيضاء، وما أسدته عليه من عظيم اللطف والفضل؛ فكان يذكرها دوماً بعد وفاتها ويترحّم عليها، وكان إذا ذبح شاة بعث بأطيب ما فيها إلى صديقاتها؛ وفاءً لها.

وكانت عائشة يثقل عليها ذلك، فكانت تندّد بها وتقول لرسول الله (صلّى الله عليه وآله): ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين قد أبدلك الله خيراً منها؟! فيردّ النبي (صلّى الله عليه وآله) ويقول:«ما أبدلني الله خيراً منها؛ آمنت بي حين كفر بي الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورُزقتُ منها الولد وقد حُرمته من غيرها» .

لقد رزقه الله منها سيّدة نساء العالمين الصدّيقة فاطمة الزهراء (عليها السّلام) التي هي نفحة من روح الله تعالى. إنّ السيّدة خديجة أسمى امرأة مجاهدة في الإسلام، هي جدّة الصدّيقة زينب (عليها السّلام).

وقد ورثت صفات جدّتها التي منها الاندفاع في نصرة الحقّ، والذبّ عن المثل العليا، وقد ظهرت هذه الصفات بوضوح عند العقيلة؛ فقد وقفت إلى جانب أخيها الإمام الحسين (عليه السّلام)، فهي شريكته في نهضته وجهاده، وهي التي أمدّت ثورته الجبّارة الخالدة بعناصر البقاء والخلود.

الاُمّ

أمّا اُمّ السيدة زينب فهي البتول الطاهرة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، سيّدة نساء العالمين في فضلها وعفّتها وطهارتها من الزيغ والرجس، وهي بضعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وريحانته، وأعزّ أبنائه وبناته عنده.

وبلغ من عظيم حبّه لها أنّه إذا سافر جعلها آخر مَنْ يودّعها؛ لتكون صورتها ماثلة أمامه، كما أنّه إذا قدِم من سفره كان أوّل مَنْ يستقبلها(١) ؛ وذلك لسموّ مكانتها وعظيم شأنها.

وقد عنى بها عناية بالغة، فغذّاها

____________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ٥ / ٢٧٥، مستدرك الصحيحين ٣ / ١٥٦، سنن البيهقي ١ / ٢٦.

٢١

بمكرماته، وأفاض عليها أشعة من روحه التي ملأ سناها الكون، وغرس في نفسها عناصر حكمته وفضائله، فكانت صورة تحكيه ومثالاً صادقاً عنه، ويقول الرواة: إنّها كانت من أشبه الناس به هدياً وحديثاً ومنطقاً(١) .

وكانت فيما أجمع عليه الرواة من أشفق الناس وأخلصهم لأبيها وأبرّهم به؛ فإذا رأته متأثراً أو حزيناً ذابت أسى وموجدة.

ومن أمثلة ذلك ما رواه أبو نعيم بسنده عن أبي ثعلبة، قال: قَدِم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من غزاة له المسجد، فصلّى فيه ركعتين - وكان يعجبه إذا قَدِم أن يدخل المسجد فيصلّي فيه ركعتين - ثمّ خرج فأتى فاطمة (عليها السّلام)، فبدأ بها قبل بيوت أزواجه، فجعلت تقبّل وجهه وعينيه وتبكي، فقال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله):«ما يبكيك؟» .

قالت:«أراك قد شحب لونك» .

فقال لها:«يا فاطمة، إنّ الله عزّ وجلّ بعث أباك بأمر لم يبقَ على ظهر الأرض مدر ولا شعر إلاّ أدخله به عزّاً أو ذلاً (٢) ، حيث سطع الليل» (٣) .

تكريم وتعظيم

وأحاط النبي (صلّى الله عليه وآله) بضعته الطاهرة بهالة من التقديس والتكريم؛ إظهاراً لعظيم شأنها، وسموّ مكانتها عند الله تعالى وعنده، وقد نقل الرواة عنه كوكبة من الأحاديث في ذلك، كان منها ما يلي:

____________________

(١) صحيح الترمذي ٢ / ٣١٩ رواه بسنده عن عائشة، ورواه الحاكم في مستدرك الصحيحين بسنده عنها ٣ / ١٥٤، ورواه البخاري في الأدب المفرد / ١٤١، ورواه أبو عمرو في الاستيعاب ٢ / ٧٥١.

(٢) معنى الحديث أنّ البيوت التي دخلها العزّ هي التي آمنت بالإسلام، وأمّا البيوت التي دخلها الذلّ فهي التي لم تؤمن بالإسلام وبقيت على كفرها وضلالها.

(٣) حلية الأولياء ٢ / ٣٠، كنز العمّال ١ / ٧٧، مجمع الزوائد ٨ / ٢٦٢.

٢٢

١ - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):«يا فاطمة، إنّ الله عزّ وجلّ يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك» (١) .

٢ - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لفاطمة:«إنّ الربّ يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك» (٢) .

٣ - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):«يا فاطمة، إنّ الله ليغضب لغضبك ويرضى لرضاك» (٣) .

ومعنى هذه الأحاديث التي تقاربت في مؤدّاها أنّ لسيّدة النساء (سلام الله عليها) منزلة سامية عند الله؛ فقد أناط رضاه برضاها، وأناط غضبه بغضبها، وهذه أسمى وأرفع منزلة يصل إليها القدّيسون من عباد الله. لقد انتهت سيّدة النساء إلى هذه المكانة عند الله تعالى؛ وذلك لِما تتمتّع به من طاقات هائلة من الإيمان والتقوى حتّى كان ذلك من عناصرها ومقوماتها.

٤ - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):«فاطمة بضعة منّي، فمَنْ أغضبها أغضبني» (٤) .

٥ - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):«فاطمة بضعة منّي، يؤذيني ما آذاها، ويصيبني ما أصابها» (٥) .

٦ - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):«فاطمة بعضة منّي، يريبني ما أرابها، ويؤذيني ما

____________________

(١) ذخائر العقبى / ٣٩، ومثله رواه الحاكم في مستدرك الصحيحين وعلّق عليه: (هذا حديث صحيح الإسناد) كما جاء في اُسد الغابة ٥ / ٥٢٢، الإصابة ٨ / ١٥٩.

(٢) ميزان الاعتدال - الذهبي ٢ / ٧٢.

(٣) كنز العمال ٦ / ٢١٩.

(٤) صحيح البخاري - كتاب بدء الخلق في باب مناقب قرابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ٣ / ١٣٦١، ح ٣٥١٠، ط ٥.

(٥) صحيح الترمذي ٢ / ٣١٩، مسند أحمد بن حنبل ٤ / ٥.

٢٣

آذاها» (١) .

٧ - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):«إنّ فاطمة شجن منّي، يبسطني ما يبسطها، ويقبضني ما يقبضها» (٢) .

وحكت هذه الأحاديث بصورة واضحة أنّ مَنْ يخدش عاطفة الزهراء (عليها السّلام)، أو يُسيء إليها بأيّ لون من ألوان الإساءة فقد واجه أباها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بذلك؛ لأنّها كنفسه، وأنّها بمقتضى هذه الأحاديث نسخة لا ثاني لها في فضائلها ومواهبها.

٨ - روت عائشة أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال في مرضه الذي توفّي فيه لفاطمة (عليها السّلام):«يا فاطمة، ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء العالمين، وسيدة نساء هذه الاُمّة، وسيّدة نساء المؤمنين؟» (٣) .

٩ - روى عمران بن حصين أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال:«ألا تنطلق بنا نعود فاطمة؛ فإنّها تشتكي؟».

فقلت: بلى. فانطلقنا حتّى إذا انتهينا إلى بابها فسلّم واستأذن، فقال:«أدخل أنا ومَنْ معي؟» .

قالت:«نعم. ومَنْ معك يا أبتاه، فوالله ما عليّ إلاّ عباءة؟» .

فقال:«اصنعي بها كذا» . فعلّمها كيف تستتر، فقالت:«والله ما على رأسي من خمار» . فأخذ ملاءة كانت عليه فقال:«اختمري بها» .

ثمّ أذنت لهما فدخلا، فقال:«كيف تجدينك يا بُنيّة؟» . قالت:«إنّي لوجعة، وإنّه ليزيدني أنّه ما لي طعام آكله» .

قال:«يا بُنيّة، أما ترضين إنّك سيدة نساء العالمين؟» .

قالت:«يا أبتِ، فأين مريم ابنة عمران؟» .

قال:«تلك سيدة نساء عالمها، وأنت سيّدة نساء العالمين. أما والله زوّجتك سيّداً في الدنيا والآخرة» (٤) .

____________________

(١) صحيح الترمذي ٢ / ٣١٩. صحيح مسلم.

(٢) كنز العمّال ٦ / ٢١٩. مستدرك الصحيحين ٣ / ١٥٤.

(٣) مستدرك الصحيحين ٣ / ١٥٦.

(٤) حلية الأولياء ٢ / ٤٢. مشكل الآثار ١ / ٥٠. ذخائر العقبى / ٤٣.

٢٤

١٠ - روى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال لفاطمة (سلام الله عليها):«ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء أهل الجنّة، وابنيك سيّدا شباب أهل الجنّة؟» (١) .

١١ - روى أنس بن مالك أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال:«خير نساء العالمين أربع؛ مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد (صلّى الله عليه وآله)» (٢) .

وكثير من أمثال هذه الروايات دُوّنت في الصحاح والسنن وغيرهما، وهي تشيد بفضل سيّدة النساء، وأنّ الله تعالى قد قلّدها أسمى أوسمة الشرف، وفضّلها على جميع نساء العالمين.

وهذه البتول سيّدة نساء العالمين هي اُمّ السيّدة زينب (سلام الله عليها)، وهي التي تولّت تربيتها ونشأتها؛ فغذّتها بمعارف الإسلام وحكمه وآدابه، وغرست في أعماق نفسها الإيمان بالله والانقطاع إليه حتّى صار ذلك من مقوّماتها وذاتياتها، فكانت نسخة لا ثاني لها في فضائلها وصفاتها، فلم يُرَ مثلها في نساء المسلمين وغيرهم في كمالها وآدابها وسائر نزعاتها.

الأب

أمّا أبو الصدّيقة الطاهرة زينب (عليها السّلام) فهو الإمام أمير المؤمنين، رائد الحكمة والعدالة في الإسلام، أخو النبي (صلّى الله عليه وآله)، وباب مدينة علمه، ومَن كان منه بمنزلة هارون من موسى، وهو - فيما أجمع عليه الرواة - أوّل مَنْ آمن برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، واعتنق مبادئه

____________________

(١) كنز العمّال ٧ / ١١١.

(٢) تفسير ابن جرير ٣ / ١٨٠.

٢٥

وأهدافه، وقام إلى جانبه قوّة ضاربة يحمي دعوته ويصون رسالته، ويخمد بسيفه نار الحروب التي أشعلتها قريش لتطفئ نور الله، وتقضي على الإسلام في مهده، فوهب (سلام الله عليه) روحه لله تعالى، فحصد ببتّاره رؤوس الطغاة من القرشيّين وأنصارهم المشركين.

لقد كان الإمام أبرز بطل في جيوش المسلمين نازل ببسالة وصمود قوى الكفر والإلحاد، وأنزل بها الخسائر حتّى فُلّت وشُلّت جميع فعاليتها العسكرية، وباءت بالهزيمة والخسران. ولولا جهاد الإمام وكفاحه لما قام الإسلام على سوقه عبل الذراع، مفتول الساعد، فما أعظم عائدته على الإسلام والمسلمين!

وكان من عظيم إيمان الإمام ونصرته للإسلام مبيته على فراش النبي (صلّى الله عليه وآله) ووقايته له بنفسه حينما أجمعت قريش على قتله، وكانت هذه المواساة الرائعة أعظم نصر للإسلام؛ فقد نجا النبي (صلّى الله عليه وآله) من أقسى مؤامرة دُبّرت لاغتياله، فقد فشلت وأنقذ الله تعالى نبيّه من تلك الوحوش الكاسرة التي أرادت أن تطفئ نور الإسلام وتعيد الظلام للأرض.

لقد صحب الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) منذ نعومة أظفاره النبي (صلّى الله عليه وآله)، وتخلّق بطباعه وأفكاره، وتغذّى بحِكَمه وعلومه، فكان باب مدينة علمه، وقد أثرت عنه من العلوم ما يبهر العقول.

يقول العقاد: إنّه فتح ما يربو على ثلاثين علماً لم تكن معروفة قبله؛ كعلم الكلام والفلسفة والقضاء والحساب وغيرها، وهو القائل:«سلوني قبل أن تفقدوني» . ولم يفه أحدٌ بمثل هذه الكلمة غيره.

وقد أخبر عن علمه وإحاطته بأسرار الكون والفضاء، فقال:«سلوني عن طرق السماء، فإنّي أعرف بها من طرق الأرض» . كما تحدّث عن درايته بما احتوت عليه الكتب السماويّة من أحكام قائلاً:«لو ثُنيت لي الوسادة لأفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم، وأهل الزبور بزبورهم، وأهل الفرقان بفرقانهم،

٢٦

وأهل القرآن بقرآنهم)) .

لقد كان الإمام (عليه السّلام) أعظم عملاق في الميادين العلميّة عرفته الإنسانيّة بعد النبي (صلّى الله عليه وآله)، ويدلّ على طاقاته العلميّة الهائلة كتابه نهج البلاغة الذي هو من أعظم ما تملكه الإنسانيّة من تراثٍ بعد القرآن الكريم.

ومن مظاهر شخصيّة الإمام (عليه السّلام) زهده في الدنيا وعدم احتفائه بأيّ زينةٍ من زينة الحياة، فقد تقلّد الحكم وتشرفت الدولة الإسلاميّة بقيادته، فزهد في جميع مظاهر السلطة، وجعل الحكم وسيلة لإقامة الحقّ والعدل ونشر المساواة بين الناس، ولم يستخدم السلطة لتنفيذ رغباته والظفر بالثراء العريض.

ومن المقطوع به إنّه ليس في تأريخ الشرق العربي وغيره حاكم كالإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) قد عنى بالصالح العام، وتجرّد عن كلّ منفعة شخصية له، وهو القائل لابن عباس، وكان يصلح نعله الذي هو من ليف:«يابن عباس، ما قيمة هذا النعل؟» .

[ قال ابن عباس: ] لا قيمة له يا أمير المؤمنين.

[ فقال الإمام (عليه السّلام) ]:«والله، لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلاّ أن اُقيم حقّاً، أو أدفع باطلاً» .

لقد تبنّى العدل الخالص والحقّ المحض في جميع مراحل حكمه؛ فالقريب والبعيد عنده سواء، والقوي عنده ضعيف حتّى يأخذ منه الحقّ، والضعيف عنده قوي حتّى يأخذ له بحقّه. وقد أوجد في أيام خلافته وعياً سياسياً أصيلاً وهو التمرّد على الظلم، ومقارعة الجبابرة والطغاة.

وكان أبرز مَنْ تغذّى بهذا الوعي ولده أبو الأحرار الإمام الحسين (عليه السّلام)، وبطلة الإسلام ابنته سيدة النساء زينب (عليها السّلام)، وكوكبة من مشاهير أصحابه؛ كحجر بن عدي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وميثم التمّار، وغيرهم من بُناة المجد الإسلامي الذين ثاروا على الظالمين.

وعلى أي حال، فهذا العملاق العظيم هو أبو الصدّيقة الطاهرة زينب (عليها السّلام)، فقد غذّاها بمثله ومكوّناته النفسية، وأفرغ عليها أشعة من روحه الثائرة على الظلم

٢٧

والطغيان، فكانت تحكيه في انطباعاته واتجاهاته، فقارعت الظالمين، وناجزت الطغاة المستبدّين، وأذلّت الجبابرة المتكبّرين وألحقت بهم الخزي والدمار.

لقد وقفت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ومفخرة الإسلام إلى جانب أخيها أبي الأحرار حينما فجّر ثورته الكبرى التي هي أعظم ثورة إصلاحية عرفها التأريخ الإنساني. وقد شابهت بذلك أباها رائد العدالة الاجتماعية حينما وقف إلى جانب جدّها الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) حينما أعلن دعوته الخالدة الهادفة إلى تحرير الفكر البشري من عوامل الانحطاط والتأخّر، وإنارته بالعلوم والعرفان، ودفعه إلى إقامة مجتمع متوازن في سلوكه وإرادته.

لقد كانت هذه السيّدة العظيمة في سيرتها وسلوكها من أشبه الناس بأبيها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)؛ فقد تبنّت بصورة إيجابية جميع أهدافه ومخطّطاته ومواقفه التي منها نصرته للإسلام في أيام محنته وغربته.

وكذلك هذه السيّدة العملاقة نصرت الإسلام حينما عاد غريباً في ظلّ الحكم الاُموي الذي استهدف قلع جذور الإسلام ولفّ لوائه، وإعادة الحياة الجاهليّة بأوثانها وأصنامها، ولكنّها مع أخيها (سلام الله عليها) قد أفسدت مخطّطات الاُمويِّين، وأعادت للإسلام نضارته ومجده.

جدّها لأبيها

أمّا جدّ السيدة الزكية زينب لأبيها فهو حامي الإسلام وبطل الجهاد المقدّس، أبو طالب (مؤمن قريش) الذي نافح عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وجاهد في سبيله كأعظم ما يكون الجهاد، ولولا حمايته للنبي وقيامه بدور مشرق في الذبّ عنه لأتت عليه قريش وقضت على الدعوة في مهدها.

لقد كان أبو طالب من أوثق المسلمين إيماناً، ومن أكثرهم إخلاصاً لدين

٢٨

التوحيد، وهو القائل:

ولقد علمتُ بأنّ دينَ محمّدٍ = من خيرِ أديانِ البريةِ دينا

وحكى هذا البيت إيمانه العميق بأنّ دين النبي (صلّى الله عليه وآله) من خير أديان البرية؛ ولهذا اندفع كأعظم قوّة ضاربة إلى حماية النبي (صلّى الله عليه وآله) وحراسته من ذئاب الاُسر القرشية التي أجمعت أن تلفّ لواء الإسلام وتطوي رسالته.

لقد وقف هذا العملاق العظيم محامياً عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهو القائل:

واللهِ لن يصلوا إليكَ بجمعهم = حتى أُوسّد في الترابِ دفينا

وظلّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تحت حراسة أبي طالب وحمايته ينشر دعوته ويذيع مبادئه آمناً عزيزاً مُهاباً، وقد جنّد أولاده لخدمة النبي (صلّى الله عليه وآله) وألزمهم بالذبّ عنه، فكان ولده الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) من أقوى حرسه، ومن أكثرهم دفاعاً عنه، فخاض أعنف الحروب وأقساها لحمايته ونشر مبادئه وأهدافه.

ولمّا انتقل هذا الصرح العظيم إلى حضيرة القدس حزن عليه النبي (صلّى الله عليه وآله) كأعظم ما يكون الحزن؛ فلقد فَقَدَ بموته المحامي والناصر، وأعزّ ما كان يحنو عليه ويعطف، وأطلق على العام الذي توفي فيه مع اُمّ المؤمنين خديجة (عام الحزن)(١) .

وقد أجمعت قريش بعد موت أبي طالب على قتل النبي (صلّى الله عليه وآله)،

____________________

(١) من العجيب ما ذكره بعض السذّج من المؤلّفين أنّ أبا طالب حامي الإسلام مات غير مسلم، وليس ذلك إلاّ من وضع الاُمويّين الذين كادوا للإسلام وطعنوا في أعظم حماته ورجاله. ولو مات غير مسلم لما حزن عليه النبي (صلّى الله عليه وآله)؛ فإنّه لا يخضع بأيّ حالٍ من الأحوال لأي مؤثّر لا يمتّ إلى الحقّ والواقع بصلة. فحزنه عليه مع كونه غير مسلم موجب للطعن بشخصيّة النبي (صلّى الله عليه وآله)، ولولاه لأقبرت قريش الدعوة الإسلاميّة من أوّل بزوغها، فجزاه الله عن الإسلام خيراً، وأجزل له المزيد من رحمته.

٢٩

فاضطر (صلّى الله عليه وآله) إلى [الخروج] من مكّة في غلس الليل البهيم بعد أن ترك أخاه وابن عمّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في فراشه، فرحم الله أبا طالب، فما أعظم عائدته على الإسلام والمسلمين، وما أكثر ألطافه وأياديه على النبي (صلّى الله عليه وآله)!

إنّ هذا العملاق العظيم هو جدّ سيّدة النساء زينب (عليها السّلام) لأبيها، وقد ورثت منه خصائصه وذاتياته التي من أبرزها التفاني في الحق ونكران الذات.

جدّتها لأبيها

وجدّة السيدة زينب (عليها السّلام) لأبيها هي السيدة الزكية فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف زوجة أبي طالب، وهي من سيّدات النساء في إيمانها وطهارتها، وقد برّت بالنبي (صلّى الله عليه وآله)، وتولّت تربيته، وكانت ترعاه وتعطف عليه أكثر ممّا تعطف على أبنائها، وقدّمت له أعظم الخدمات.

وقد قطع (صلّى الله عليه وآله) شوطاً من حياته تحت رعاية هذه السيدة الزكية التي ما تركت لوناً من ألوان الرعاية والبرّ إلاّ قدّمتها إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وكانت من أعزّ الناس عنده، ولمّا فُجع بوفاتها ألبسها قميصه واضطجع معها في قبرها، فبُهر أصحابه وقالوا له: يا رسول الله، ما رأيناك صنعت بأحدٍ ما صنعت بهذه؟!

فأخبرهم النبي (صلّى الله عليه وآله) عن عظيم برّها ومعروفها قائلاً:«إنّه لم يكن أحدٌ بعد أبي طالب أبرّ بي منها، إنّما ألبستها قميصي لتُكسى من حلل الجنّة، واضطجعت معها في قبرها ليهوّن عليها» (١) .

هذه الاُصول العملاقة التي اتّسمت بالإيمان والشرف والكرامة، وبكلّ ما

____________________

(١) توجد ترجمتها في طبقات ابن سعد، الاستيعاب، أعيان الشيعة، أعلام النساء، تنقيح المقال، وغيرها.

٣٠

يسمو به الإنسان من القيم والمبادئ الكريمة، قد تفرّعت منها بطلة الإسلام وصانعة التأريخ زينب (عليها السّلام)، فقد ورثت جميع نزعات آبائها وخصائصهم وصفاتهم حتّى صارت صورة مشرقة عنهم.

إخوانها

ويجدر بنا بعد هذا العرض الموجز لشؤون الاُسرة الكريمة التي تفرّعت منها سيّدة النساء زينب (عليها السّلام) أن نذكر - بإيجاز - إخوانها الذين عاشرتهم، وهم الذين ملؤوا فم الدنيا بفضائلهم ومآثرهم، وفيما يلي ذلك:

١ - الإمام الحسن (عليه السّلام)

هو ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسيّد شباب أهل الجنّة وسبطه الأوّل، وكانت ولادته في النصف من شهر رمضان المبارك للسنة الثالثة من الهجرة(١) ، وقد شوهدت في طلعته شمائل النبوّة وأنوار الإمامة، وهو أوّل مولود سعدت به الاُسرة النبوية، فقد عمّها السرور بهذا المولود المبارك.

وقد سارع النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى بيت بضعته وحبيبته السيدة فاطمة الزهراء (عليها السّلام) فهنّأها بوليدها، وأجرى عليه مراسيم الولادة الشرعيّة فأذّن في اُذنه اليمنى وأقام في اليسرى، فكان أوّل صوت اخترق سمعه صوت جدّه العظيم داعية الله في الأرض، واُنشودة ذلك الصوت:«الله أكبر، لا إله إلاّ الله» .

وهل في دنيا الوجود كلمات هي أسمى وأعظم من هذه الكلمات، وقد غرسها النبي (صلّى الله عليه وآله) في قلب وليده لتكون منهجاً له في حياته؟

وفي اليوم السابع من ولادته عقّ عنه النبي (صلّى الله عليه وآله) بكبش، وحلق رأسه،

____________________

(١) الإصابة ١ / ٣٣٨، الاستيعاب ١ / ٣٦٨، حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ٥٩.

٣١

وتصدّق بزنة شعره فضّة على المساكين(١) ، وكان ذلك سنّة في الإسلام لكلّ وليد.

تسميته

وأقبل النبي (صلّى الله عليه وآله) على الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، فقال له:«هل سمّيت الوليد المبارك؟» .

فأجابه الإمام بأدبٍ واحترام قائلاً:«ما كنت لأسبقك يا رسول الله..» . وانبرى النبي (صلّى الله عليه وآله) قائلاً:«ما كنت لأسبق ربّي» .

وهبط الوحي على النبي (صلّى الله عليه وآله) وهو يحمل تسميته من السماء، قائلاً:«سمّه حسناً» (٢) .

وكفى بهذا الاسم جمالاً وعظمةً أنّ الخالق العظيم هو الذي اختاره لسبط النبي وريحانته.

كنيته وألقابه

وكنّاه النبي (صلّى الله عليه وآله) (أبا محمّد)، ولا كنية له غيرها. أمّا ألقابه فهي: السبط، الزكي، المجتبى، السيّد، التقي(٣) .

ملامحه

أمّا ملامحه فكانت تحكي ملامح جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله)، تقول عائشة: مَنْ أحبّ

____________________

(١) حياء الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ٦٤.

(٢) تأريخ الخميس ١ / ٤٧.

(٣) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ٦٥.

٣٢

أن ينظر إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلينظر إلى هذا الغلام، يعني الحسن (عليه السّلام)(١) .

ويقول أنس بن مالك: لم يكن أحد أشبه بالنبي (صلّى الله عليه وآله) من الحسن بن علي(٢) .

لقد كان الإمام الحسن (عليه السّلام) صورة مشرقة عن جدّه الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) لا في ملامحه وصورته فحسب، وإنّما كان يحكيه في نزعاته وصفاته، ومعالي أخلاقه التي امتاز بها على سائر النبيّين.

مظاهر شخصيّته

ونتحدّث - بإيجاز - عن بعض مظاهر شخصية الإمام الحسن (عليه السّلام)، وهي:

الحلم: من ذاتيات الإمام السبط (الحلم)، فقد كان من أحلم الناس، وقد تعرّض لموجات عاتية من الإساءة من الاُسرة الاُمويّة التي اُترعت نفوسها بالحقد والكراهية لآل النبي (صلّى الله عليه وآله)، فما قابل الإمام أحداً بإساءة، وإنّما كظم غيظه.

وقد شهد مروان بن الحكم وهو من أخبث الناس وأشدّهم عداوة للإمام الحسن (عليه السّلام) بعظيم حلمه، فقد أسرع بعد وفاته إلى حمل جثمانه، فقيل له: أتحمل جثمانه وكنت تجرّعه الغصص؟! فأجاب: إنّي أحمل جثمان مَنْ كان يوازي حلمه الجبال.

لقد كان الحلم من أبرز عناصره النفسيّة، وقد أجمع الرواة على أنّه كان من أوسع الناس صدراً، وأنّه ما جازى مَنْ أذنب في حقّه، وإنّما قابله بالبرّ والإحسان؛ شأنه في ذلك [شأن] جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) الذي وسع الناس جميعاً بمعالي أخلاقه.

الجود: وكان الإمام السبط من أندى الناس كفاً، ومن أكثرهم برّاً وإحساناً للفقراء، وكان لا يرى للمال قيمة سوى ما يرد به جوع جائع أو يكسو عريانَ.

وقد حفلت مصادر التأريخ والتراجم بذكر بوادر كثيرة من كرمه وسخائه، وقد لُقّب (عليه السّلام)

____________________

(١) الفتوح ٢ / ٣٤٠.

(٢) فضائل الأصحاب / ١٢٦، حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ٦٦.

٣٣

بـ (كريم أهل البيت)، وهم من معادن الكرم والجود.

سمو الأخلاق: ومن عناصر الإمام الحسن (عليه السّلام) سمو الأخلاق، فكان آية من آيات الله العظام في هذه الظاهرة الفذة.

ومن معالي أخلاقه أنّه كان يوقّر ويحترم كلّ مَنْ قصده، ولا يُفرّق بين القريب والبعيد، وكان يواسي الناس في مصائبهم، ويشاركهم في مسرّاتهم، ويوقّر الكبير، ويحنو على الصغير، ويعطف على الضعيف، وكان للمسلمين أباً رؤوفاً، وكهفاً حصيناً، يلجأ إليه غارمهم، ويفزع إليهم مظلومهم.

وقد شابه جدّه الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) في سموّ أخلاقه التي مدحه الله تعالى بها، قال الله عزّ وجلّ:( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (١) .

هذه بعض صفات الإمام الحسن (عليه السّلام)، وقد ألمحنا إلى الكثير منها في كتابنا (حياة الإمام الحسن).

مع السيدة زينب (عليها السّلام)

نشأت سيدة النساء زينب (عليها السّلام) مع أخيها الإمام الحسن (عليه السّلام)، وقطعت شوطاً من حياتها مع هذا الإمام العظيم ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسيّد شباب أهل الجنّة، وتطبّعت بأخلاقه وآدابه، وكان يجلّها كثيراً، ويحدب عليها ويقابلها بمزيد من الرعاية والعناية؛ فقد رأى جدّه وأبويه قد أحاطوها بكلّ تبجيل واحترام، وأشادوا بمواهبها وفضائلها، وقدّموها على بقيّة السيّدات من نساء أهلها وقومها.

هذه لمحة موجزة عن علاقة الإمام الحسن بشقيقته السيدة زينب (عليها السّلام).

٢ - الإمام الحسين (عليه السّلام)

أمّا الإمام الحسين فهو الشقيق الثاني لسيّدة النساء زينب (عليها السّلام)، وقد نشأت معه وتطبّعت بطباعه، وكانت بينهما أعمق المودّة، وهو عندها أعزّ من الحياة، وكانت تشاركه في آماله وآلامه، وهي من أبرّ أهله به، وقد احتلت عواطفه

____________________

(١) سورة القلم / ٤.

٣٤

ومشاعره؛ وذلك بما تملكه من أصالة الرأي، وسمو الآداب، ومعالي الأخلاق؛ فقد تجسّدت فيها مواريث النبوّة والإمامة، وكانت صورة صادقة لاُمّها بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وسيّدة نساء العالمين السيدة الزكية فاطمة الزهراء (سلام الله عليها).

لقد كانت سيدة النساء زينب (عليها السّلام) موضع أسرار أخيها الإمام الحسين (عليه السّلام)، والعالمة بجميع شؤونه، وكان يستشيرها في جميع اُموره. وقد رافقته في ثورته الخالدة وأمدّتها بعناصر البقاء والخلود، ولولا جهادها وجهودها ومواقفها المشرّفة في أروقة بلاط الحكم الاُموي لضاعت ثورة أخيها وذهبت أدراج الرياح.

وبلغ من سموّ مكانتها عند الحسين (عليه السّلام) أنّه لمّا ودّعها الوداع الأخير يوم الطفّ طلب منها أن لا تنساه من الدعاء في نافلة الليل(١) .

٣ - العباس (عليه السّلام)

هو (قمر بني هاشم)، وفخر الإسلام، ومجد المسلمين، وهو أخو سيّدة النساء زينب لأبيها، واُمّه: اُمّ البنين، وهي من سيّدات نساء المسلمين في فضلها وشرفها وطهارتها، تزوّجها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بعد وفاة الصدّيقة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها).

وقد قامت بدور إيجابي في خدمة السبطين وشقيقتهما السيّدة زينب؛ فكانت تقدّمهم في الرعاية والعطف على أبنائها؛ لأنّهم ذرية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي ألزم الله المسلمين بمودّتهم ومحبّتهم.

وكان أوّل مولود لها أبو الفضل العباس (عليه السّلام)، وقد ترعرع ونشأ مع أخويه سيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين (عليهما السّلام)، فغذّياه بالفضائل والآداب، وغرسا في نفسه تقوى الله، فكان من أروع أمثلة الإيمان.

وكانت علاقته مع أخيه الإمام الحسين (عليه السّلام) وثيقة للغاية؛ فكان منذ نعومه أظفاره يتسابق لخدمته، ويبادر لقضاء حوائجه، ولا يُفارقه في حلّه وترحاله، وكان من أشفق الناس عليه وأبرّهم به.

____________________

(١) زينب الكبرى / ٦٠.

٣٥

وكان العباس (عليه السّلام) من أحبّ الناس لاُخته العقيلة زينب (عليها السّلام)؛ فقد وجدت فيه من الرعاية والبرّ والعطف ما لم تجده في السادة من إخوتها لأبيها؛ فقد كان ملازماً لخدمتها كما كان ملازماً لخدمة أخيه الإمام الحسين (عليه السّلام)، وقد قدّم لها جميع ألوان البرّ والإحسان.

ولمّا ارتحلت مع أخيها أبي الشهداء من المدينة إلى مكة ثمّ إلى كربلاء كان العباس (عليه السّلام) هو الذي يقوم بخدمتها، ولم يدع أحداً من السادة العلويِّين أن يتولّى رعايتها سواه. ولمّا استشهد (سلام الله عليه) في كربلاء ذابت نفسها عليه أسىً وحسرات، وودّت أنّ المنية قد وافتها قبله، وشعرت بالوحدة والضياع من بعده.

٤ - محمّد بن الحنفيّة

ومحمد ابن الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) هو المعروف بـ (ابن الحنفيّة)(١) ، وكان من أفذاذ العلويِّين ومن ساداتهم، وكان يجلّ ويعظّم السيدة زينب (عليها السّلام)؛ لأنّها حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله)، و [ابنة] سيّدة نساء العالمين، كما كانت تُكنّ له أعظم الودّ والإخلاص.

وكان محمّد من المعارضين لابن الزبير والناقمين عليه، ولا يراه أهلاً لقيادة الاُمّة، فامتنع عن بيعته، وتبعه على ذلك بقيّة الهاشميّين، فأمر بحبسهم في (قبة زمزم)، وضرب لهم أجلاً مسمّى فإن لم يبايعوه فيه وإلاّ أحرقهم بالنار. ودلّ ذلك على تجرّده من كلّ نزعة إسلاميّة وإنسانيّة، وقد شابه بذلك قرينه يزيد بن معاوية، ولو تمّ له الأمر لزاد على جرائمه.

وأرسل محمّد رسالة إلى المجاهد العظيم بطل الإسلام المختار الثقفي عرّفه

____________________

(١) اسم اُمّه خولة بنت جعفر بن حنفيّة، ولد في خلافة أبي بكر، وقيل: في خلافة عمر. يُكنّى أبا القاسم. روى عن أبيه وعن جماعة من الصحابة، وذهب فريق من المسلمين إلى إمامته، كان منهم كثير عزّة، وله فيه أشعار. وقال بإمامته السيد الحميري، إلاّ أنه عدل عنه وقال بإمامة الإمام الصادق (عليه السّلام). توفّي سنة ٧٣ هـ، وقيل: سنة ثمانين، وقيل غير ذلك. تهذيب التهذيب ٩ / ٣٥٤.

٣٦

فيها بما جرى عليه من ابن الزبير، وكتب في آخرها: يا أهل الكوفة، لا تخذلونا كما خذلتم حسيناً.

ولمّا انتهت إليه أجهش بالبكاء وقرأها على أهل الكوفة وخاطبهم قائلاً: هذا كتاب مهديّكم وسيّد أهل بيت نبيّكم، وقد تركهم الرسول ينتظرون القتل والحريق. وأخذ يتهدّد ابن الزبير قائلاً: لستُ أبا إسحاق إن لم أنصرهم، وأسرب الخيل إثر الخيل كالسيل حتّى يحلّ بابن الكاهلية الويل.

وجهّز جيشاً قوامه ألف فارس بقيادة عبد الله الجدلي، ثمّ أتبعه بثلاثة آلاف فارس، وأخذوا يجدّون السير حتّى انتهوا إلى (مكة) وهم ينادون: (يا لثارات الحسين).

وهجموا على (قبة زمزم)، فرأوا الحطب قد وضع عليها، ولم يبق من الأجل الذي حدّده الطاغية لإحراقهم سوى يومين، فأخرجوهم من القبّة وطلبوا من محمّد أن يناجزوا ابن الزبير الحرب، فأعرب له محمّد عن سموّ ذاته وطهارة نفسه قائلاً: لا أستحلّ القتال في حرم الله.

ويقول كثير عزّة - وهو من الكيسانيّة - يخاطب ابن الزبير:

يخبّرُ مَنْ لاقيت أنّك عائذٌ = بل العائذُ المظلومُ في حبسِ عارمِ

ومَنْ يرَ هذا الشيخَ في الخيفِ من منى = من الناسِ يعلم أنّه غيرُ ظالمِ

سميُّ نبي اللهِ وابنُ وصيِّهِ = وفكّاكُ أغلالٍ وأقضى المغارمِ

وتعتقد الكيسانيّة إمامته، وأنّه مقيم بجبل (رضوى). [و] إلى هذا أشار كثير عزّة بقوله:

وسبط لا يذوق الموتَ حتّى = يقود الخيلَ يقدمها اللواءُ

تغيّب لا يُرى فيهم زماناً = برضوى عندهُ عسلٌ وماءُ

توفي سنة (٨١ هـ)، وقيل غير ذلك(١) . وبهذا ينتهي بنا المطاف عن بعض أشقّاء العقيلة.

____________________

(١) وفيات الأعيان ٣ / ١١٠ - ١١٣، طبقات ابن سعد، حلية الأولياء، الأعلام - الزركلي.

٣٧

٣٨

ولادتها ونشأتها

ازدهرت حياة الاُسرة النبويّة بالسبطين الكريمين الإمامين الحسن والحسين (عليهما السّلام)، فكانا كالقمرين في ذلك البيت الكريم الذي أذن الله أن يرفع ويُذكر فيه اسمه. وقد استوعبا قلب جدّهما الرسول (صلّى الله عليه وآله) مودّةً ورحمةً وحناناً، فكان يرعاهما برعايته، ويغدق عليهما بإحسانه، ويفيض عليهما من مكرمات نفسه التي استوعب شذاها جميع آفاق الوجود.

لقد كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يكنّ في دخائل نفسه أعمق الودّ لسبطيه، فكان يقول:«هما ريحانتي من الدنيا» (١) .

وبلغ من عظيم حبّه لهما أنّه كان على المنبر يخطب، فأقبل الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران، وهما يمشيان ويعثران، فنزل عن المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه، وقال:«صدق الله إذ يقول: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) (٢) . لقد نظرت إلى هذين الصبيِّين وهما يمشيان ويعثران فلم أصبر حتّى قطعت حديثي ورفعتهما» (٣) .

____________________

(١) كنز العمّال ٧ / ١١٠، صحيح البخاري - كتاب الأدب، مجمع الزوائد ٩ / ١٨١. تأريخ ابن عساكر ١٣ / ٣٩.

(٢) سورة الأنفال / ٢٨.

(٣) صحيح الترمذي ٢ / ٣٠٦، مسند أحمد بن حنبل ٥ / ٣٥٤، اُسد الغابة ٢ / ١٢، صحيح النسائي ١ / ٢٠١، سنن البيهقي ٣ / ٢١٨.

٣٩

وكان يقول لسيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام):«ادعي ابنيَّ» . فيشمّهما، ويضمّهما إليه(١) .

وفي تلك الفترة السعيدة التي عاشتها الاُسرة النبويّة وهي مترعة بالولاء والعطف من الرسول (صلّى الله عليه وآله) عَرَضَ للصدّيقة الطاهرة سيدة نساء العالمين فاطمة (عليها السّلام) حملٌ، فأخذ النبي (صلّى الله عليه وآله) ينتظره بفارغ الصبر ليبارك به لحبيبته فاطمة، ولباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام). أمّا ذلك الحمل فهو:

الوليدة المباركة

ووضعت الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام) وليدتها المباركة التي لم تولد مثلها امرأة في الإسلام إيماناً وشرفاً وطهارةً وعفةً وجهاداً، وقد استقبلها أهل البيت وسائر الصحابة بمزيدٍ من الابتهاج والفرح والسرور، وأجرى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) على وليدته المراسيم الشرعيّة؛ فأذّن في أذنها اليمنى، وأقام في اليسرى.

لقد كان أوّل صوت قرع سمعها هو:«الله أكبر، لا إله إلا الله» ، وهذه الكلمات اُنشودة الأنبياء، وجوهر القيم العظيمة في الأكوان.

وانطبعت هذه الاُنشودة في أعماق قلب حفيدة الرسول فصارت عنصراً من عناصرها، ومقوّماً من مقوّماتها.

وجوم النبي (صلّى الله عليه وآله) وبكاؤه

وحينما علم النبي (صلّى الله عليه وآله) بهذه المولودة المباركة سارع إلى بيت بضعته، وهو خائر القوى حزين النفس فأخذها ودموعه تتبلور على سحنات وجهه الكريم، وضمّها إلى صدره وجعل يوسعها تقبيلاً، وبهرت سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) من بكاء أبيها،

____________________

(١) تيسير الوصول - ابن الدبيغ ٣ / ٢٧٦.

٤٠