السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام0%

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 343

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
تصنيف:

الصفحات: 343
المشاهدات: 175954
تحميل: 7624

توضيحات:

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 175954 / تحميل: 7624
الحجم الحجم الحجم
السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف:
العربية

فانبرت قائلةً:«ما يبكيك يا أبتي، لا أبكى الله لك عيناً؟» .

فأجابها بصوت خافت حزين النبرات:«يا فاطمة، اعلمي أنّ هذه البنت بعدي وبعدك سوف تنصبّ عليها المصائب والرزايا» (١) .

لقد استشفّ النبي (صلّى الله عليه وآله) ما يجري على حفيدته من الرزايا القاصمة التي تذوب من هولها الجبال، وسوف تُمتحن بما لم تمتحن به أيّ سيّدة من بنات حواء.

ومن الطبيعي أنّ بضعته وباب مدينة علمه قد شاركا النبي في آلامه وأحزانه، وأقبل سلمان الفارسي الصديق الحميم للاُسرة النبويّة يُهنئ الإمام أمير المؤمنين بوليدته المباركة، فألفاه حزيناً واجماً، وهو يتحدّث عمّا تعانيه ابنته من المآسي والخطوب(٢) ، وشارك سلمان أهل البيت في آلامهم وأحزانهم.

تسميتها

وحملت زهراء الرسول وليدتها المباركة إلى الإمام فأخذها وجعل يقبّلها، والتفتت إليه فقالت له:«سمّ هذه المولودة» .

فأجابها الإمام بأدبٍ وتواضع:«ما كنت لأسبق رسول الله» .

وعرض الإمام على النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يسمّيها، فقال:«ما كنت لأسبق ربّي» .

____________________

(١) الطراز المذهّب / ٣٨.

(٢) بطلة كربلاء / ٢١.

٤١

وهبط رسول السماء على النبي (صلّى الله عليه وآله)، فقال له: سمّ هذه المولودة (زينب)؛ فقد اختار الله لها هذا الاسم. وأخبره بما تعانيه حفيدته من أهوال الخطوب والكوارث، فأغرق هو وأهل البيت في البكاء(١) .

كُنيتها

وكُنّيت الصديقة الطاهرة زينب بـ (اُمّ كلثوم)، وقيل: إنّها تُكنى بـ (اُمّ الحسن)(٢) .

ألقابها

أمّا ألقابها فإنّهم تنّم عن صفاتها الكريمة، ونزعاتها الشريفة، وهي:

عقيلة بني هاشم

و(العقيلة): هي المرأة الكريمة على قومها، والعزيزة في بيتها. والسيّدة زينب أفضل امرأة وأشرف سيّدة في دنيا العرب والإسلام، وكان هذا اللقب وساماً لذريّتها؛ فكانوا يلقّبون بـ (بني العقيلة).

العالمة

وحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) من السيدات العالمات في الاُسرة النبويّة، فكانت - فيما يقول بعض المؤرّخين - مرجعاً للسيّدات من نساء المسلمين، يرجعنَ إليها في شؤونهنَّ الدينية.

عابدة آل علي

وكانت زينب من عابدات نساء المسلمين، فلم تترك نافلة من النوافل

____________________

(١) زينب الكبرى / ١٦ - ١٧.

(٢) المصدر السابق / ١٧.

٤٢

الإسلاميّة إلاّ أتت بها.

ويقول بعض الرواة: إنّها صلّت النوافل في أقسى ليلة وأمرّها وهي ليلة الحادي عشر من المحرّم.

الكاملة

وهي أكمل امرأة في الإسلام في فضلها وعفّتها، وطهارتها من الرجس والزيغ.

الفاضلة

وهي من أفضل نساء المسلمين في جهادها وخدمتها للإسلام، وبلائها في سبيل الله.

هذه بعض ألقابها التي تدلّل على سموّ ذاتها وعظيم شأنها.

سنة ولادتها

أمّا السنة التي وُلدت فيها عقيلة آل أبي طالب، فقد اختلف المؤرّخون والرواة فيها، وهذه بعض أقوالهم:

١ - السنة الخامسة من الهجرة في شهر جمادى الأولى.

٢ - السنة السادسة من الهجرة.

٣ - السنة التاسعة من الهجرة.

وفنّد هذا القول [الأخير] الشيخ جعفر نقدي، فقال: وهذا القول غير صحيح؛ لأنّ فاطمة (عليها السّلام) توفيت بعد والدها في السنة العاشرة أو الحادية عشر على اختلاف الروايات، فإذا كانت ولادة السيّدة زينب في السنة التاسعة وهي كبرى بناتها، فمتى كانت ولادة اُمّ كلثوم؟ ومتى حملت بالمحسن واسقطته لستة أشهر؟

وقال: والذي يترجّح عندنا هو أنّ ولادة زينب كانت في السنة الخامسة من الهجرة. وذكر مؤيدات اُخرى لِما ذهب إليه(١) .

نشأتها

نشأت الصدّيقة الطاهرة زينب (عليها السّلام) في بيت النبوّة ومهبط الوحي والتنزيل، وقد

____________________

(١) زينب الكبرى / ١٨.

٤٣

غذّتها اُمّها سيّدة نساء العالمين بالعفّة والكرامة ومحاسن الأخلاق والآداب، وحفّظتها القرآن، وعلّمتها أحكام الإسلام، وأفرغت عليها أشعة من مُثُلها وقيمها حتّى صارت صورة صادقة عنها.

لقد قطعت شوطاً من طفولتها في بيت الشرف والكرامة والرحمة والمودّة، فقد شاهدت أباها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) يشارك أمّها زهراء الرسول في شؤون البيت، ويعينها في مهامه، ولم تتردّد في أجواء البيت أيّة كلمة من مرّ القول وهجره.

وشاهدت جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) يغدق عليهم بفيض من تكريمه وتبجيله، وعطفه وحنانه، كما شاهدت الانتصارات الباهرة التي أحرزها الإسلام في الميادين العسكرية، والقضاء على خصومه القرشيّين وأتباعهم من عبدة الأوثان والأصنام؛ فقد ساد الإسلام، وارتفعت كلمة الله عاليةً في الأرض، ودخل الناس في دين الله أفواجاً أفواجاً.

لقد ظفرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بأروع وأسمى ألوان التربية الإسلاميّة؛ فقد شاهدت أخاها الإمام الحسين (عليه السّلام) يعظّم أخاه الإمام الحسن (عليه السّلام) ويبجّله، فلم يتكلّم بكلمة قاسية معه، ولم يرفع صوته عليه، ولم يجلس إلى جانبه.

وشاهدت إخوتها من أبيها وهم يعظّمون أخويها الحسن والحسين (عليهما السّلام)، ويقدّمون لهما آيات التكريم والتبجيل، وكانت هي بالذّات موضع احترام إخوتها، فكانت إذا زارت أخاها الإمام الحسين (عليه السّلام) قام لها إجلالاً وإكباراً، وأجلسها في مكانه.

وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة قبر جدّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خرج معها أبوها الإمام أمير المؤمنين، وأخوها الحسنان، ويبادر الإمام أمير المؤمنين إلى إخماد ضوء القناديل التي على المرقد المعظّم، فسأله الإمام الحسن (عليه السّلام) عن ذلك، فقال له:«أخشى أن ينظر أحد إلى شخص اُختك الحوراء» (١) .

____________________

(١) زينب الكبرى / ٢٢.

٤٤

لقد اُحيطت عقيلة بني هاشم بهالة من التعظيم والتبجيل من أبيها وإخوتها؛ فهي حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله)، ووريثة مُثُله وقيمه وآدابه، كما كانت لها المكانة الرفيعة عند العلماء والرواة، فكانوا إذا رووا حديثاً عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في أيام الحكم الاُموي يقولون: روى أبو زينب، ولم يقولوا: روى أبو الحسنين؛ وذلك إشادة بفضلها وعظيم منزلتها(*) .

قدرتها العلميّة

كانت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) في فجر الصبا آيةً في ذكائها وعبقرياتها؛ فقد حفظت القرآن الكريم، كما حفظت أحاديث جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) فيما يتعلّق بأحكام الدين وقواعد التربية واُصول الأخلاق، وقد حفظت الخطاب التأريخي الخالد الذي ألقته اُمّها سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) في (الجامع النبوي) احتجاجاً على أبي بكر لتقمّصه للخلافة، ومصادرته لـ (فدك) التي أنحلها إيّاها أبوها رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وقد روت خطبة اُمّها التي ألقتها على السيّدات من نساء المسلمين حينما عُدنها في مرضها الذي توفّيت فيه، كما روت عنها كوكبة من الأحاديث.

قد بُهر الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) من شدّة ذكائها، فقد قالت له: أتحبّنا يا أبتاه؟ فأسرع الإمام قائلاً:«وكيف لا اُحبّكم وأنتم ثمرة فؤادي؟!» .

فأجابته بأدب واحترام: يا أبتاه، إنّ الحبّ لله تعالى، والشفقة لنا(١) .

وعجب الإمام (عليه السّلام) من فطنتها، فقد أجابته جواب العالم المنيب إلى الله تعالى.

____________________

(*) لا يخفى ما في هذا الرأي والتحليل من مسامحة؛ ذلك أنّ الرواة حينما يطلقون كنية (أبو زينب) بدلاً من (أبو الحسَنين) هو تمويهاً منهم أمام السلطة الاُمويّة الحاكمة التي منعت الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وتوعّدت بمعاقبة الراوي بأقسى العقوبات وأشدّها إذا ما علمت أنّه يروي عنه (عليه السّلام). انظر في ذلك: الإرشاد للشيخ المفيد ١ / ٣١٠، أمالي المرتضى ١ / ١١٢ وغيرهما من اُمّهات المصادر المعتبرة.(موقع معهد الإمامين الحسنين)

(١) زينب الكبرى / ٣٥.

٤٥

وكان من فضلها واعتصامها بالله تعالى أنّها قالت: مَنْ أراد أن لا يكون الخلق شفعاءه إلى الله فليحمده؛ ألم تسمع إلى قوله: سمع الله لمَنْ حمده؟ فخف الله لقدرته عليك، واستحِ منه لقربه منك(١) .

وممّا يدلّ على مزيد فضلها أنّها كانت تنوب عن أخيها الإمام الحسين (عليه السّلام) في حال غيابه، فيرجع إليها المسلمون في المسائل الشرعيّة؛ ونظراً لسعة معارفها كان الإمام زين العابدين (عليه السّلام) يروي عنها، وكذلك كان يروي عنها عبد الله بن جعفر، والسيّدة فاطمة بنت الإمام الحسين (عليه السّلام).

ولمّا كانت في الكوفة في أيام أبيها كان لها مجلس خاص تزدحم عليها السيّدات، فكانت تلقي عليهنَّ محاضرات في تفسير القرآن الكريم، كما كانت المرجع الأعلى للسيّدات من نساء المسلمين، فكنّ يأخذنَ منها أحكام الدين وتعاليمه وآدابه.

ويكفي للتدليل على فضلها أنّ ابن عباس حبر الاُمّة كان يسألها عن بعض المسائل التي لا يهتدي لحلّها، كما روى عنها كوكبة من الأخبار، وكان يعتزّ بالرواية عنها، ويقول: حدّثتنا عقيلتنا زينب بنت علي.

وقد روى عنها الخطاب التأريخي الذي ألقته اُمّها سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) في جامع أبيها (صلّى الله عليه وآله).

وقد نابت عن ابن أخيها الإمام زين العابدين (عليه السّلام) في أيام مرضه، فكانت تجيب عمّا يرد عليه من المسائل الشرعيّة، وقد قال (عليه السّلام) في حقها:«إنّها عالمة غير معلّمة» .

وكانت ألمع خطيبة في الإسلام؛ فقد هزّت العواطف، وقلبت الرأي العام وجنّدته للثورة على الحكم الاُموي، وذلك في خطبها التأريخية الخالدة التي ألقتها في الكوفة ودمشق، وهي تدلّل على مدى ثرواتها الثقافية والأدبية.

لقد نشأت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) في بيت الوحي ومركز العلم والفضل، فنهلت من نمير علوم جدّها وأبيها وأخويها، فكانت من أجلّ العالمات، ومن أكثرهنَّ

____________________

(١) أعيان الشيعة ٧ / ١٤٠.

٤٦

إحاطة بشؤون الشريعة وأحكام الدين.

اقترانها بابن عمّها

ولمّا تقدّمت سيّدة النساء زينب في السن، انبرى الأشراف والوجوه إلى خطبتها والتشرّف بالاقتران بها، فامتنع الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) من إجابتهم، وتقدّم لخطبتها فتىً من أنبل فتيان بني هاشم وأحبّهم إلى الإمام وأقربهم إليه، وهو ابن أخيه (عبد الله بن جعفر)، من أعلام النبلاء والكرماء في دنيا العرب والإسلام، فأجابه الإمام إلى ذلك ورحّب به.

ونعرض - بإيجاز - إلى بعض شؤونه:

أبوه جعفر

أمّا جعفر فقد كان - فيما يقول الرواة - من أشبه الناس خلقاً وخُلقاً بالنبي (صلّى الله عليه وآله)(١) . يقول فيه أبو هريرة: ما احتذى النعال، ولا ركب المطايا، ولا وطئ التراب بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أفضل من جعفر بن أبي طالب(٢) .

وهو من السابقين للإسلام، وقد رآه أبوه أبو طالب يُصلّي مع أخيه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) خلف النبي (صلّى الله عليه وآله)، فقال له: صل جناح ابن عمّك، وصلِّ عن يساره. وكان علي يصلّي عن يمينه(٣) . وله هجرتان؛ هجرة إلى الحبشة، وهجرة إلى المدينة(٤) .

وكان من أبرّ الناس بالفقراء والضعفاء، وقد برّ بأبي هريرة وأحسن إليه أيام بؤسه وفقره، وقد تحدّث عن ذلك، قال: كنت لألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية وهي معي كي ينقلب بي فيطعمني.

وكان أبرّ الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب؛ كان ينقلب فيطعمنا ما كان في بيته، حتّى كان ليخرج

____________________

(١) الاستيعاب ١ / ٢٤٢، وجاء فيه: أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال له:((أشبهت خَلقي وخُلُقي يا جعفر)) .

(٢) الاستيعاب ١ / ٢٤٣.

(٣، ٤) اُسد الغابة ١ / ٢٨٧.

٤٧

إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقّها فنلعق ما فيها(١) .

وقدم إلى المدينة من هجرته إلى الحبشة، فاستبشر به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفرح؛ فقد صادف قدومه فتح خيبر، فقال (صلّى الله عليه وآله):«ما أدري بأيّهما أنا أشدّ فرحاً؛ أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر؟» (٢) .

واختطّ له النبي (صلّى الله عليه وآله) داراً إلى جنب المسجد، وكان أثيراً عنده؛ لا لأنّه ابن عمّه فحسب، وإنّما لإيمانه الوثيق وتفانيه في نشر كلمة الإسلام، وإشاعة مبادئه وأحكامه. بعثه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في جيش إلى مؤتة في السنة الثامنة من الهجرة فاستشهد فيها.

ويقول الرواة: إنّ اللواء كان بيده اليمنى، فقطعت، فرفعه بيده اليسرى، فلمّا قطعت رفعه بيديه، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):«وإنّ الله عزّ وجلّ أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنّة حيث شاء» (٣) ؛ ولهذا لقّب بـ (ذي الجناحين)، وبـ (الطيار).

وحزن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على جعفر، فقصد داره ليواسي زوجته وأبناءه بمصابهم الأليم، فقال لزوجته أسماء:«ائتيني ببني جعفر» . فأتته بهم، فجعل يوسعهم تقبيلاً ودموعه تتبلور على سحنات وجهه الكريم، وفهمت أسماء نبأ شهادة زوجها، فقالت له: يا رسول الله، أبَلَغك عن جعفر وأصحابه شيء.

فأجابها بنبراتٍ تقطر أسىً وحزناً قائلاً:«نعم، اُصيب هذا اليوم» .

____________________

(١) المصدر السابق.

(٢) الاستيعاب ١ / ٢٤٢، كان قدوم جعفر إلى يثرب في السنة السابعة من الهجرة.

(٣) الاستيعاب ١ / ٢٤٢.

٤٨

وأخذت أسماء تنوح على زوجها، وأقبلت السيّدات من نساء المسلمين يعزينها بمصابها الأليم، وأمر النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يُصنع طعام لآل جعفر(١) ، وأقبلت سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام) على أسماء تعزّيها وهي باكية العين، وقد رفعت صوتها قائلة:«وا عمّاه!» .

وطفق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول:«على مثل جعفر فلتبك البواكي» (٢) .

لقد كانت شهادة جعفر من أقسى النكبات على النبي (صلّى الله عليه وآله)؛ فقد فَقَدَ بشهادته أعزّ أبناء عمومته وأخلصهم إليه.

الاُمّ أسماء

أمّا اُمّ عبد الله فهي السيّدة الشريفة أسماء بنت عميس، وهي من السابقات إلى اعتناق الإسلام، هاجرت مع زوجها الشهيد الخالد جعفر الطيار إلى الحبشة، وقد ولدت فيها عبد الله وعوناً ومحمداً، ثمّ هاجرت إلى المدينة. ولمّا استشهد جعفر تزوّجها أبو بكر فولدت له محمداً، وهو من أعلام الإسلام، ثمّ توفي أبو بكر فتزوّجها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فولدت له يحيى(٣) .

وقد أخلصت لأهل البيت (عليهم السّلام) فكانت من حزبهم، ولها علاقة وثيقة مع سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام)؛ فقد قامت بخدمتها، وقد عهدت إليها في مرضها أن لا تدخل عليها عائشة بنت أبي بكر، فجاءت عائشة عائدة لها فمنعتها أسماء، فاغتاظت وشكتها إلى أبي بكر، فعاتبها، فأخبرته بعدم رضاء الزهراء في زيارتها(٤) .

لقد كانت أسماء من خيرة نساء المسلمين في عفّتها وطهارتها وولائها لأهل

____________________

(١) (٢) اُسد الغابة ١ / ٢٨٩.

(٣) المصدر السابق ٥ / ٣٩٥.

(٤) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ١ / ٢٧١.

٤٩

بيت النبوّة، كما كانت من الراويات للحديث، ويقول المؤرّخون: إنّها روت عن النبي (صلّى الله عليه وآله) ستّين حديثاً.

وعلى أيّ حال، فإنّ أسماء حينما تزوّجها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) قامت بخدمة الحسنين واُختهما زينب (عليها السّلام)، وصارت لهم اُمّاً رؤوماً، ترعاهم كما ترعى أبناءها؛ لأنّهم البقية الباقية من ذرية رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد أخلصوا لها كأعظم ما يكون الإخلاص، وشكروا لها رعايتها وعطفها.

عبد الله

ونعود للحديث عن عبد الله بن جعفر، فقد كان فذّاً من أفذاذ الإسلام وسيّداً من سادات بني هاشم، يقول فيه معاوية: هو أهلٌ لكلّ شرفٍ، والله ما سبقه أحدٌ إلى شرف إلاّ وسبقه(١) .

وكان يُسمّى (بحر الجود)(٢) ، ويُقال: لم يكن في الإسلام أسخى منه(٣) . مدحه نصيب فأجزل له في العطاء، فقيل له: تُعطي لهذا الأسود مثل هذا؟! فقال: إن كان أسود فشِعره أبيض، ولقد استحق بما قال أكثر ممّا نال. وهل أعطيناه إلاّ ما يبلى، وأعطانا مدحاً يروى وثناءً يبقى(٤) !

وعوتب على كثرة برّه وإحسانه إلى الناس، فقال: إنّ الله عوّدني عادة، وعوّدت الناس عادة، فأخاف إن قطعتها قُطعت عني(٥) . وأنشد:

لستُ أخشى قلّةَ العدمِ = ما اتّقيتُ اللهَ في كرمي

كلّما أنفقتُ يخلفهُ = ليَ ربُّ واسعُ النعمِ(٦)

ونقل الرواة بوادر كثيرة من كرمه وسخائه، وقد وسع الله عليه لدعاء

____________________

(١) تهذيب التهذيب ٥ / ١٧١.

(٢) اُسد الغابة ٣ / ١٣٤.

(٣ - ٥) الاستيعاب ٣ / ٨٨١، ٨٨٢، ٢٨٨.

(٦) عمدة الطالب / ٣٧ - ٣٨.

٥٠

النبي (صلّى الله عليه وآله) له، فكان من أثرى أهل المدينة، ومضافاً إلى سخائه فقد كان من ذوي الفضيلة؛ فقد روى عن عمّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وعن الحسن والحسين (عليهما السّلام).

أبناؤه

ورُزق هذا السيد الجليل من سيدة النساء زينب (عليها السّلام) كوكبة من السادة الأجلاء، وهم:

١ - عون

وكان من أبرز فتيان بني هاشم في فضله وكماله، صحب خاله الإمام الحسين (عليه السّلام) حينما هاجر من يثرب إلى العراق، ولازمه في رحلته، فلمّا كان يوم العاشر من المحرّم، اليوم الخالد في دنيا الأحزان، تقدّم إلى الشهادة بين يدي خاله، فبرز إلى حومة الحرب وهو يرتجز:

إن تنكروني فأنا ابنُ جعفرْ = شهيدُ صدق في الجنانِ أزهرْ

يطيرُ فيها بجناحٍ أخضرْ = كفى بهذا شرفاً من محشرْ(١)

لقد عرّف نفسه بهذا الرجز؛ فقد انتسب إلى جدّه الشهيد العظيم جعفر الذي قُطعت يداه في سبيل الإسلام، ويكفيه بذلك شرفاً وفخراً، وجعل الفتى يُقاتل قتال الأبطال غير حافل بتلك الوحوش الكاسرة، فحمل عليه وغد خبيث هو عبد الله الطائي فقتله(٢) .

ورثاه سليمان بن قتّة بقوله:

واندبي إن بكيتِ عوناً أخاهُ = ليس فيما ينوبهم بخذولِ

فلعمري لقد أصبتِ ذوي القر = بى فبّكي على المصابِ الطويلِ(٣)

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٥٨، نقلاً عن الفتوح.

(٢) الإرشاد / ٢٦٨.

(٣) مقاتل الطالبيّين / ٩١.

٥١

٢ - علي الزينبي

٣ - محمّد

٤ - عباس

٥ - السيدة اُمّ كلثوم(١)

وبلغت هذه السيدة [أي اُمّ كلثوم] مبلغ النساء، وكانت فريدة في جمالها وعفافها واحترامها عند أهلها وعامّة بني هاشم، وأراد معاوية أن يتقرّب إلى بني هاشم، ويعزّز مكانته في نفوس المسلمين في أن يخطبها لولده يزيد، فكتب إلى واليه على يثرب مروان بن الحكم كتاباً جاء فيه:

أمّا بعد، فإنّ أمير المؤمنين أحبّ أن يردّ الإلفة، ويسلّ السخيمة، ويصل الرحم؛ فإذا وصل إليك كتابي فاخطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته اُمّ كلثوم على يزيد ابن أمير المؤمنين، وارغب إليه في الصداق...

وظنّ معاوية أنّ سلطته المزيّفة وما يبذله من الأموال الطائلة تُغري السادة العلويِّين الذين تربّوا على الكرامة والشرف وكلِّ ما يسمو به الإنسان، ولم يعلم أنّ سلطته وأمواله لا تساوي عندهم قلامة أظفر.

ولمّا انتهى كتاب معاوية إلى مروان خاف جانب الإمام الحسين (عليه السّلام)؛ لأنّه يعلم أنّه يفسد عليه الأمر، وسافر الحسين فاغتنم مروان فرصة سفره فبادر مسرعاً إلى عبد الله بن جعفر، فعرض عليه كتاب معاوية وجعل يحبّذ له الأمر، ويطالبه بالإسراع فيه؛ لأنّ في ذلك إصلاحاً لذات البين، واجتماعاً للكلمة.

ولم يخف عن عبد الله الأمر، فقال لمروان: إنّ خالها الحسين في ينبع(٢) ، وليس لي من سبيل أن

____________________

(١) زينب الكبرى / ١٢٦.

(٢) ينبع: تبعد عن المدينة بسبع مراحل، فيها عيون ماء عذب غزيرة، قيل: إنّها لبني الحسن، وقيل: إنّها حصن به نخيل وزرع، وبها وقوف الإمام عليّ (عليه السّلام) يتولاّها ولده، جاء ذلك في معجم البلدان ٥ / ٤٥.

٥٢

أقدم على هذا الأمر من دون أخذ رأيه وموافقته.

ولمّا رجع الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى يثرب خفّ إليه عبد الله بن جعفر مسرعاً، فعرض عليه الأمر وما أجاب به مروان، فالتاع الإمام الحسين (عليه السّلام) من ذلك؛ إذ كيف تكون ابنة اُخته عند فاجر بني أُميّة، حفيد أبي سفيان!

فانطلق الإمام (عليه السّلام) إلى شقيقته زينب (عليها السّلام) وأمرها بإحضار ابنتها اُمّ كلثوم، فلمّا مثلت أمامه قال لها: إن ابن عمّك القاسم بن محمّد بن جعفر أحقّ بك، ولعلك ترغبين في كثرة الصداق.

واستجابت الفتاة لرأي خالها، ورحّبت اُمّها العقيلة بذلك، ورضي أبوها عبد الله برغبة الإمام الحسين، وقدّم لها الإمام مهراً كثيراً.

وكتم الإمام الأمر، فلمّا كانت ليلة الزواج أقام دعوة عامّة دعا فيها جمهرة كبيرة من أبناء المدينة، وكان من جملة المدعوين مروان، وقد ظنّ أنّه دُعي لتلبية ما رغب فيه معاوية من زواج السيّدة اُمّ كلثوم بابنه يزيد، فقام خطيباً فأثنى على معاوية وما قصده من جمع الكلمة وصلة الرحم، ولمّا أنهى كلامه قام الإمام الحسين (عليه السّلام) فأعلن أنّه زوّج السيّدة اُمّ كلثوم بابن عمّها القاسم بن محمّد بن جعفر.

ولمّا سمع مروان تميّز غيظاً وغضباً، وفقد صوابه، فقد أفشل الإمام رغبته، فرفع عقيرته قائلاً: أغدراً يا حسين!(١)

وخرج مروان يتعثّر بأذياله، وانتهى الأمر إلى معاوية فحقد على الحسين (عليه السّلام)، وساءه ذلك؛ فقد فشلت محاولاته في خداع العلويِّين، وخداع المسلمين بمصاهرة ولده للاُسرة النبويّة.

____________________

(١) زينب عقيلة بني هاشم / ٢٧.

٥٣

٥٤

عناصرها النفسيّة

وما من صفةٍ كريمةٍ أو نزعةٍ شريفةٍ يفتخر بها الإنسان، ويسمو بها على غيره من الكائنات الحيّة إلاّ وهي من عناصر عقيلة بني هاشم. وسيّدة النساء زينب (عليها السّلام) قد تحلّت بجميع الفضائل التي وهبها الله تعالى لجدّها الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، وأبيها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، واُمّها سيّدة نساء العالمين (عليها السّلام)، وأخويها الحسن والحسين (عليهما السّلام) سيدي شباب أهل الجنّة وريحانتي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ فقد ورثت خصائصهم، وحكت مميّزاتهم، وشابهتهم في سموّ ذاتهم ومكارم أخلاقهم.

لقد كانت حفيدة الرسول بحكم مواريثها وخصائصها أعظم وأجلّ سيّدة في دنيا الإسلام؛ فقد أقامت صروح العدل، وشيّدت معالم الحق، وأبرزت قيم الإسلام ومبادئه على حقيقتها النازلة من ربّ العالمين، فقد جاهدت هي واُمّها زهراء الرسول كأعظم ما يكون الجهاد، ووقفتا بصلابة لا يُعرف لها مثيل أمام التيارات الحزبية التي حاولت بجميع ما تملك من وسائل القوة أن تلقي الستار على قادة الاُمّة وهداتها الواقعيين الذين أقامهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) أعلاماً لاُمّته، وخزنة لحكمته وعلومه.

فقد أظهرت زهراء الرسول بقوّة وصلابة عن حقّ سيد العترة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، رائد العدالة الاجتماعية في الإسلام، فناهضت حكومة أبي بكر في خطابها التأريخي الخالد، وسائر مواقفها المشرّفة التي وضعت فيها الأساس المشرق لمبادئ شيعة أهل البيت (عليهم السّلام)؛ فهي المؤسّسة الأولى بعد أبيها (صلّى الله عليه وآله) لمذهب أهل البيت (عليهم السّلام).

وكذلك وقفت ابنتها العقيلة أمام الحكم الاُموي الأسود الذي

٥٥

استهدف قلع الإسلام من جذوره ومحو سطوره، وإقصاء أهل البيت (عليهم السّلام) عن واقعهم الاجتماعي والسياسي، وإبعادهم عن المجتمع الإسلامي؛ فوقفت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) مع أخيها أبي الأحرار في خندق واحد، فحطّم أخوها بشهادته، وهي بخطبها في أروقة بلاط الحكم الاُموي، ذلك الكابوس المظلم الذي كان جاثماً على رقاب المسلمين.

وعلى أي حال، فإنّا نعرض بصورة موجزة لبعض العناصر النفسيّة لحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وما تتمتّع به من القابليات الفذة التي جعلتها في طليعة نساء المسلمين، وفيما يلي ذلك:

الإيمان الوثيق

وتربّت عقيلة بني هاشم في بيت الدعوة إلى الله تعالى، ذلك البيت الذي كان فيه مهبط الوحي والتنزيل، ومنه انطلقت كلمة التوحيد وامتدت أشعتها المشرقة على جميع شعوب العالم واُمم الأرض، وكان ذلك أهمّ المعطيات لرسالة جدّها العظيم.

لقد تغذّت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)بجوهر الإيمان وواقع الإسلام، وانطبع حبّ الله تعالى في عواطفها ومشاعرها حتّى صار ذلك من مقوّماتها وذاتياتها، وقد أحاطت بها المحن والخطوب منذ نعومة أظفارها، وتجرّعت أقسى وأمرّ ألوان المصائب، كلّ ذلك من أجل رفع كلمة الله عالية خفّاقة.

إنّ الإيمان الوثيق بالله تعالى والانقطاع الكامل إليه كانا من ذاتيات الاُسرة النبويّة ومن أبرز خصائصهم.

ألم يقل سيد العترة الطاهرة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في دعائه:«ما عبدتك طمعاً (*) في جنّتك، ولا خوفاً من نارك، ولكنّي وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك» ؟

____________________

(*) ورد كلام الإمام (عليه السّلام) هنا بهذا النحو (عبدتك لا طمعاً في...)، وما أثبتناه فهو من جلّ المصادر الاُخرى.(موقع معهد الإمامين الحسنَين)

٥٦

وهو القائل:«لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً» .

أمّا سيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين (عليه السّلام)، فقد أخلص لله تعالى كأعظم ما يكون الإخلاص، وذاب في محبّته، وقد قدّم نفسه والكواكب المشرقة من أبنائه وإخوته وأبناء عمومته قرابين خالصة لوجه الله، وقد طافت به المصائب والأزمات التي يذوب من هولها الجبال، وامتحن بما لم يمتحن به أحدٌ من أنبياء الله وأوليائه، كلّ ذلك في سبيل الله تعالى.

فقد رأى أهل بيته وأصحابه الممجّدين صرعى، ونظر إلى حرائر النبوّة وعقائل الوحي وهنّ بحالة تميد من هولها الجبال، وقد أحاطت به أرجاس البشرية وهم يوسعونه ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح؛ ليتقرّبوا بقتله إلى سيّدهم ابن مرجانة. لقد قال وهو بتلك الحالة كلمته الخالدة، قال:«لك العتبى يا ربّ، إن كان يرضيك هذا فهذا إلى رضاك قليل» .

ولمّا ذُبح ولده الرضيع بين يديه قال:«هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله» (١) . أرأيتم هذا الإيمان الذي لا حدود له؟ أرأيتم هذا الانقطاع والتبتل إلى الله؟

وكانت حفيدة الرسول زينب (سلام الله عليها) كأبيها وأخيها في عظيم إيمانها وانقطاعها إلى الله؛ فقد وقفت على جثمان شقيقها الذي مزّقته سيوف الشرك وهو جثة هامدة بلا رأس، فرمقت السماء بطرفها وقالت كلمتها الخالدة التي دارت مع الفلك وارتسمت فيه: اللّهمّ تقبّل منّا هذا القربان(٢) .

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٧٦.

(٢) المصدر السابق / ٣٠٤.

٥٧

إنّ الإنسانيّة تنحني إجلالاً وخضوعاً أمام هذا الإيمان الذي هو السرّ في خلودها وخلود أخيها. لقد تضرّعت بطلة الإسلام بخشوع إلى الله تعالى أن يتقبّل ذلك القربان العظيم الذي هو ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فأيّ إيمان يُماثل هذا الإيمان؟ وأيّ تبتّل إلى الله تعالى يُضارع هذا التبتّل؟

لقد أظهرت حفيدة الرسول بهذه الكلمات الخالدة معاني الوراثة النبويّة، وأظهرت الواقع الإسلامي وأنارت السبيل أمام كلّ مصلح اجتماعي، وأنّ كلّ تضحية تُؤدّى للاُمّة يجب أن تكون خالصة لوجه الله غير مشفوعة بأيّ غرض من أغراض الدنيا.

ومن عظيم إيمانها الذي يبهر العقول ويحيّر الألباب أنّها أدّت صلاة الشكر إلى الله تعالى ليلة الحادي عشر من المحرّم على ما وفّق أخاها ووفّقها لخدمة الإسلام ورفع كلمة الله. لقد أدّت الشكر في أقسى ليلة وأفجعها، والتي لم تمرّ مثلها على أيّ أحدٍ من بني الإنسان.

لقد أحاطت بها المآسي التي تذوب من هولها الجبال؛ فالجثث الزواكي من أبناء الرسول وأصحابهم أمامها لا مغسّلين ولا مكفّنين، وخيام العلويات قد أحرقها الطغاة اللئام، وسلبوا ما على بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من حُلي وما عندهنّ من أمتعة، وهنَّ يعجنَ بالبكاء لا يعرفنَ ماذا يجري عليهنَّ من الأسر والذلّ، إلى غير ذلك من المآسي التي أحاطت بحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وهي تؤدّي صلاة الشكر لله تعالى على هذه النعمة التي أضفاها عليها وعلى أخيها.

تدول الدول وتفنى الحضارات وهذا الإيمان العلوي أحقّ بالبقاء، وأجدر بالخلود من هذا الكوكب الذي نعيش فيه.

٥٨

الصبر

من النزعات الفذّة التي تسلّحت بها مفخرة الإسلام وسيّدة النساء زينب (عليها السّلام) هي الصبر على نوائب الدنيا وفجائع الأيام، فقد تواكبت عليها الكوارث منذ فجر الصبا، فرُزئت بجدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) الذي كان يحدب عليها، ويفيض عليها بحنانه وعطفه، وشاهدت الأحداث الرهيبة المروعة التي دهمت أباها واُمّها بعد وفاة جدّها؛ فقد اُقصي أبوها عن مركزه الذي أقامه فيه النبي (صلّى الله عليه وآله)، وأجمع القوم على هضم اُمّها حتّى توفيت وهي في روعة الشباب وغضارة العمر، وقد كوت هذه الخطوب قلب العقيلة إلاّ أنّها خلدت إلى الصبر.

وتوالت بعد ذلك عليها المصائب، فقد رأت شقيقها الإمام الحسن الزكي (عليه السّلام) قد غدر به أهل الكوفة حتّى اضطر إلى الصلح مع معاوية الذي هو خصم أبيها وعدوّه الألدّ، ولم تمض سنين يسيرة حتّى اغتاله بالسمّ، وشاهدته وهو يتقيأ دماً من شدّة السمّ حتّى لفظ أنفاسه الأخيرة.

وكان من أقسى ما تجرّعته من المحن والمصاعب يوم الطفّ؛ فقد رأت شقيقها الإمام الحسين (عليه السّلام) قد استسلم للموت لا ناصر له ولا معين، وشاهدت الكواكب المشرقة من شباب العلويِّين صرعى قد حصدتهم سيوف الاُمويِّين، وشاهدت الأطفال الرضّع يُذبحون أمامها.

إنّ أي واحدة من رزايا سيّدة النساء زينب لو ابتُلي بها أيّ إنسان مهما تدرّع بالصبر وقوّة النفس لأوهنت قواه، واستسلم للضعف النفسي، وما تمكن على مقاومة الأحداث، ولكنّها (سلام الله عليها) قد صمدت أمام ذلك البلاء العارم، وقاومت الأحداث بنفس آمنة مطمئنة راضية بقضاء الله تعالى، وصابرة على بلائه، فكانت من أبرز المعنيين بقوله تعالى:( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * اُولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ) (١) .

____________________

(١) سورة البقرة / ١٥٥ - ١٥٧.

٥٩

وقال تعالى:( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (١) ، وقال تعالى:( وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٢) .

لقد صبرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأظهرت التجلّد وقوّة النفس أمام أعداء الله، وقاومتهم بصلابة وشموخ، فلم يشاهد في جميع فترات التأريخ سيّدة مثلها في قوّة عزيمتها وصمودها أمام الكوارث والخطوب.

يقول الحجّة الشيخ هادي آل كاشف الغطاء في صبرها وعظيم محنتها:

للهِ صبرُ زينبَ العقيلهْ = كم شاهدت مصائباً مهولهْ

رأت مِنَ الخطوبِ والرزايا = أمراً تهونُ دونهُ المنايا

رأت كرامَ قومِها الأماجد = مجزّرينَ في صعيدٍ واحد

تسفي على جسومِها الرياحُ = وهي لذؤبانِ الفلا تُباحُ

رأت رؤوساً بالقنا تُشالُ = وجثثاً أكفانُها الرمالُ

رأت رضيعاً بالسهامِ يفطمُ = و صبيةً بعدَ أبيهم اُيتموا

رأت شماتةَ العدو فيها = وصنعهُ ما شاءَ في أخيها

وإنّ من أدهى الخطوبِ السودِ = وقوفها بين يدي يزيدِ

وقال السيد حسن البغدادي:

يا قلبَ زينبَ ما لاقيتَ من محنٍ = فيكَ الرزايا وكلّ الصبرِ قد جمعا

لو كانَ ما فيكَ من صبرٍ ومن محنٍ = في قلبِ أقوى جبالِ الأرضِ لانصدعا

يكفيكَ صبراً قلوبَ الناسِ كلّهمُ = تفطّرت للذي لاقيتهُ جزعا

لقد قابلت العقيلة ما عانته من الكوارث المذهلة والخطوب السود بصبر يذهل كلّ كائن حي.

____________________

(١) سورة الزمر / ١٠.

(٢) سورة النحل / ٩٦.

٦٠