السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام0%

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 343

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
تصنيف:

الصفحات: 343
المشاهدات: 175939
تحميل: 7624

توضيحات:

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 175939 / تحميل: 7624
الحجم الحجم الحجم
السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف:
العربية

العزّة والكرامة

من أبرز الصفات النفسيّة الماثلة في شخصية سيدة النساء زينب (عليها السّلام) هي العزّة والكرامة؛ فقد كانت من سيّدات نساء الدنيا في هذه الظاهرة الفذّة، فقد حُملت بعد مقتل أخيها من كربلاء إلى الكوفة سبيّة، ومعها بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد نُهب جميع ما عليهنّ من حُلي وما عندهنّ من أمتعة، وقد أضرّ الجوع بأطفال أهل البيت وعقائلهم، فترفّعت العقيلة أن تطلب من اُولئك الممسوخين - من شرطة ابن مرجانة - شيئاً من الطعام لهم.

ولمّا انتهى موكب السبايا إلى الكوفة، وعلمنَ النساء أنّ السبايا من أهل بيت النبوّة، سارعنَ إلى تقديم الطعام إلى الأطفال الذين ذوت أجسامهم من الجوع، فانبرت السيّدة زينب مخاطبة نساء أهل الكوفة قائلة: الصدقة محرّمة علينا أهل البيت.

ولمّا سمع أطفال أهل البيت (عليهم السّلام) من عمّتهم ذلك ألقوا ما في أيديهم وأفواههم من الطعام، وأخذ بعضهم يقول لبعض: إنّ عمّتنا تقول: الصدقة حرام علينا أهل البيت.

أيّ تربية فذّة تربّى عليها أطفال أهل البيت (عليهم السّلام)! إنّها تربية الأنبياء والصدّيقين التي تسمو بالإنسان فترفعه إلى مستوى رفيع يكون من أفضل خلق الله.

ولمّا سُيّرت سبايا أهل البيت (عليهم السّلام) من الكوفة إلى الشام لم تطلب السيدة زينب طيلة الطريق أيّ شيء من الإسعافات إلى الأطفال والنساء مع شدّة الحاجة إليها؛ فقد أنفت أن تطلب أيّ مساعدة من اُولئك الجفاة الأنذال الذين رافقوا الموكب.

لقد ورثت عقيلة بني هاشم من جدّها وأبيها العزّة والكرامة، والشرف والإباء، فلم تخضع لأيّ أحدٍ مهما قست الأيام وتلبّدت الظروف، إنّها لم تخضع إلاّ إلى الله تعالى.

الشجاعة

ولم يشاهد الناس في جميع مراحل التأريخ أشجع ولا أربط جأشاً ولا أقوى جناناً من

٦١

الاُسرة النبويّة الكريمة؛ فالإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه) عميد العترة الطاهرة كان من أشجع خلق الله، وهو القائل:«لو تضافرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها» .

وقد خاض أعنف المعارك وأشدّها قسوة، فجندل الأبطال وألحق بجيوش الشرك أفدح الخسائر، وقد قام الإسلام عبل الذراع مفتول الساعد بجهاده وجهوده، فهو معجزة الإسلام الكبرى، وكان ولده أبو الأحرار الإمام الحسين (عليه السّلام) مضرب المثل في بسالته وشجاعته؛ فقد حيّر الألباب وأذهل العقول بشجاعته وصلابته وقوّة بأسه.

فقد وقف يوم العاشر من المحرّم موقفاً لم يقفه أيّ أحدٍ من أبطال العالم؛ فإنّه لم ينهار أمام تلك النكبات المذهلة التي تعصف بالحلم والصبر، فكان يزداد انطلاقاً وبشراً كلّما ازداد الموقف بلاءً ومحنةً. فإنّه بعدما صُرعَ أصحابه وأهل بيته زحف عليه الجيش بأسره - وكان عدده فيما يقول الرواة ثلاثين ألفاً - فحمل عليهم وحده، وقد طارت أفئدتهم من الخوف والرعب، فانهزموا أمامه كالمعزى إذا شدّ عليها الذئب - على حدّ تعبير بعض الرواة - وبقي صامداً كالجبل يتلقى الطعنات والسهام من كلّ جانب، لم يوهن له ركن ولم تضعف له عزيمة.

يقول العلوي السيّد حيدر:

فتلقّى الجموعَ فرداً = ولكن كلُّ عضو في الروعِ منهُ جموعُ

رمحهُ من بنانهِ و كأنّ من = عزمهِ حدُّ سيفهِ مطبوعُ

زوّج السيفَ بالنفوسِ و لكن = مهرُها الموت والخضابُ النجيعُ

ولمّا سقط (سلام الله عليه) على الأرض جريحاً قد أعياه نزف الدماء تحامى الجيش الاُموي من الإجهاز عليه؛ خوفاً ورعباً منه. يقول السيد حيدر:

عفيراً متى عاينتهُ الكماة = يختطف الرعبُ ألوانَها

فما أجلت الحربُ عن مثلهِ = صريعاً يجبّنُ شجعانَها

٦٢

وتمثّلت هذه البطولة العلوية بجميع صورها وألوانها عند حفيدة الرسول وعقيلة بني هاشم السيدة زينب (سلام الله عليها)؛ فإنّها لمّا مثلت أمام الإرهابي المجرم سليل الأدعياء ابن مرجانة احتقرته واستهانت به، فاندفع الأثيم يظهر الشماتة بلسانه الألكن قائلاً: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم، وكذّب اُحدوثتكم.

فانبرت حفيدة الرسول بشجاعة وصلابة قائلة: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه، وطهّرنا من الرجس تطهيراً، إنّما يُفتضح الفاسق ويُكذب الفاجر، وهو غيرنا يابن مرجانة...(١) .

لقد قالت هذا القول الصارم الذي هو أمض من السلاح، وهي والمخدّرات من آل محمّد في قيد الأسر، وقد رفعت فوق رؤوسهنَّ رؤوس حماتهنَّ، وشهرت عليهنَّ سيوف الملحدين. لقد أنزلت العقيلة - بهذه الكلمات - الطاغية من عرشه إلى قبره، وعرّفته أمام خدمه وعبيده أنّه المفتضح والمنهزم، وأنّ أخاها هو المنتصر.

ولم يجد ابن مرجانة كلاماً يقوله سوى التشفّي بقتل عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، قائلاً: كيف رأيت صنع الله بأخيك(٢) ؟

وانطلقت عقيلة بني هاشم ببسالة وصمود، فأجابت بكلمات الظفر والنصر لها ولأخيها قائلة: ما رأيت إلاّ جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتُحاجّ وتُخاصم، فانظر لمَنْ الفلج يومئذ، ثكلتك أُمّك يابن مرجانة!

أرأيتم هذا التبكيت الموجع؟ أرأيتم هذه الشجاعة العلوية؟ فقد سجّلت

____________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٣.

(٢) زينب الكبرى / ٦١.

٦٣

حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بموقفها وكلماتها فخراً للإسلام وعزّاً للمسلمين، ومجداً خالداً للاُسرة النبويّة.

أمّا موقفها في بلاط يزيد، وموقفها مع الشامي وخطابها الثوري الخالد فقد هزّ العرش الاُموي، وكشف الواقع الجاهلي ليزيد ومن مكّنه من رقاب المسلمين، وسنعرض لخطابها وسائر مواقفها المشرّفة في البحوث الآتية.

الزهد في الدنيا

ومن عناصر سيّدة النساء زينب (عليها السّلام) الزهد في الدنيا؛ فقد بذلت جميع زينتها ومباهجها مقتدية بأبيها الذي طلّق الدنيا ثلاثاً لا رجعة له فيها، ومقتدية باُمّها سيّدة نساء العالمين، زهراء الرسول.

فقد كانت - فيما رواه المؤرّخون - لا تملك في دارها سوى حصير من سعف النخل، وجلد شاة، وكانت تلبس الكساء من صوف الإبل، وتطحن بيدها الشعير، إلى غير ذلك من صنوف الزهد والإعراض عن الدنيا. وقد تأثّرت عقيلة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بهذه الروح الكريمة فزهدت في جميع مظاهر الدنيا، وكان من زهدها أنّها ما ادّخرت شيئاً من يومها لغدها حسب ما رواه عنها الإمام زين العابدين (عليه السّلام)(١) .

وقد طلقت الدنيا وزهدت فيها وذلك بمصاحبتها لأخيها أبي الأحرار؛ فقد علمت أنّه سيستشهد في كربلاء، أخبرها بذلك أبوها، فصحبته وتركت زوجها الذي كان يرفل بيته بالنعيم ومتع الحياة، رفضت ذلك كلّه وآثرت القيام مع أخيها لنصرة الإسلام والذبّ عن مبادئه وقيمه، وهي على علم بما تشاهده من مصرع أخيها، وما يجري عليها بالذّات من الأسر والذلّ.

لقد قدّمت على ذلك خدمة لدين الله تعالى.

____________________

(١) صحيح الترمذي ٢ / ٣١٩، وقريب منه رواه الحاكم في مستدركه ٣ / ١٤٩، وابن الأثير في اُسد الغابة ٥ / ٥٢٣، والخطيب في تأريخ بغداد ٧ / ٣٦، وغيرهم.

٦٤

أحداث مروّعة(*)

وقطعت عقيلة بني هاشم شوطاً من حياة الصبا في كنف جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وفي ذرى عطفه، وهي ناعمة البال قريرة العين، يتلقّاها بمزيدٍ من الحفاوة والتكريم، وترى أبويها وقد غمرتهما المودّة والاُلفة والتعاون، فكانت حياتهما أسمى مثل للحياة الزوجية في الإسلام.

وقد نشأت في ذلك البيت الذي سادت فيه تلاوة كتاب الله العزيز، وآداب الإسلام وأحكامه وتعاليمه؛ فكان مركزاً للتقوى ومعهداً لمعارف الإسلام. كما شاهدت الانتصارات الرائعة التي أحرزها الإسلام في الميادين العسكرية، واندحار القبائل القرشية التي ناهضت الإسلام وناجزته بجميع ما تملك من قوّة؛ فقد اندحرت وأذلّها الله؛ فقد فتحت مكة وطُهّر بيتها الحرام من الأصنام والأوثان التي كانت تُعبد من دون الله تعالى.

ولعلّ من أهمّ ما شاهدته العقيلة في أدوار طفولتها هو احتفاء جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) بأبيها واُمّها وأخويها؛ فقد كانوا موضع اهتمامه وعنايته.وقد أثرت عنه كوكبة من الروايات أجمع المسلمون على صحتها، وهذه بعضها:

١ - روى زيد بن أرقم: أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال لعليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السّلام):«أنا حربٌ لمَنْ حاربتم، وسلم لمَنْ سالمتم» (١) .

____________________

(*) يبدو أنّ هذا العنوان قد وقع هنا سهواً من قِبل المؤلِّف أو الناسخ؛ إذ لا توجد بينه وبين الموضوع الذي تصدّره أيّةُ علاقة؛ اللهمَّ إلاّ إذا قلنا بشموليّته للعنوان وموضوعه الذي يأتي في أواخر الصفحة (٦٧) وإن كان هذا بعيداً عنه.(موقع معهد الإمامين الحسنَين)

(١) مسند أحمد ١ / ٧٧، صحيح الترمذي ٢ / ٣٠١، تهذيب التهذيب ١٠ / ٤٣٠، وجاء فيه أنّ نصر بن عليّ حدّث بهذا الحديث، فأمر المتوكّل بضربه ألف سوط، فكلّمه فيه جعفر بن عبد الواحد، وجعل يقول له: إنّه من أهل السنّة. فلم يزل يترجّاه حتّى تركه.

٦٥

٢ - روى أحمد بن حنبل بسنده: أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) أخذ بيد الحسن والحسين، وقال:«مَنْ أحبّني وأحبّ هذين وأباهما واُمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة» (١) .

٣ - روى أبو بكر قال: رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خيّم خيمة، وهو متكئ على قوس عربية، وفي الخيمة عليّ وفاطمة والحسن والحسين، فقال:«معاشر المسلمين، أنا سلم لمَنْ سالم أهل الخيمة، وحرب لمَنْ حاربهم، ووليّ لمَنْ والاهم، لا يحبّهم إلاّ سعيد الجدّ، ولا يبغضهم إلاّ شقي الجدّ، ردئ الولادة» (٢) .

٤ - روى ابن عباس أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال:«النجوم أمانٌ لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لاُمّتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس» (٣) .

٥ - روى زيد بن أرقم أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال:«إنّي تاركٌ فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر؛ كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما» (٤) .

٦ - روى أبو سعيد الخدري، قال: سمعت النبي (صلّى الله عليه وآله) يقول:«إنّما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح؛ مَن ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق. وإنّما مثل أهل بيتي

____________________

(١) الرياض النضرة ٢ / ٢٥٢.

(٢) مستدرك الحاكم ٣ / ١٤٩، كنز العمال ٦ / ١١٦، الصواعق المحرقة / ١١١. نصّ الحديث:((النجوم أمان لأهل الأرض، وأهل بيتي أمان لاُمّتي)) .

(٣) صحيح الترمذي ٢ / ٣٠٨، اُسد الغابة ٢ / ١٢، وما يقرب من هذا الحديث روي في كنز العمّال ١ / ٤٨، مجمع الهيثمي ٩ / ١٦٣.

(٤) مجمع الزوائد ٩ / ١٦٨، مستدرك الحاكم ٢ / ٤٣، تأريخ بغداد ٢ / ١٩، ذخائر العقبى / ٢٠.

٦٦

فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل؛ مَن دخله غفر له» (١) .

٧ - روى أبو برزة، قال: صلّيت مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سبعة أشهر، فإذا خرج من بيته، أتى باب فاطمة (عليها السّلام)، فقال:«السلام عليكم، ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) » (٢) .

رأت العقيلة هذا الاحتفاء البالغ من جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) لأبيها واُمّها وأخويها، ووعت الغاية من صنوف هذا التكريم والتعظيم، وأنّه ليس مجرّد عاطفة وولاء لهذه الاُسرة الكريمة، وإنّما هو للإشادة بما تتمتّع به من الصفات الفاضلة، والقابليات الفذّة التي ترشّحهم لقيادة الاُمّة، وتطويرها فكرياً واجتماعياً.

وأنّه لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تحتلّ اُمّته مركزاً كريماً تحت الشمس، وتكون رائدة لاُمم العالم وشعوب الأرض إلاّ بقيادة السادة من عترته الذين وعوا الإسلام، والتزموا بحرفية الرسول (صلّى الله عليه وآله).

خطوب مروّعة

ولم تدم الحالة الهانئة للاُسرة النبويّة، فقد دهمتهم كارثة مروّعة؛ فقد بدت على الرسول (صلّى الله عليه وآله) طلائع الرحيل عن هذه الدنيا تلوح أمامه، فكان القرآن الكريم قد نزل عليه مرتين، فاستشعر بدنوّ الأجل المحتوم منه(٣) ، وأخبر بضعته الزهراء (عليها السّلام)، فقال لها:

____________________

(١) ذخائر العقبى / ٢٤، روى أنس بن مالك: أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) كان يمرّ ببيت فاطمة ستّة أشهر إذا خرج إلى الفجر، ويقول:((الصلاة يا أهل البيت)) ، ويتلو الآية الكريمة. جاء ذلك في مجمع الزوائد ٩ / ١٦٩، أنساب الأشراف ١ / ١٥٧، القسم الأوّل.

(٢) الخصائص الكبرى ٢ / ٣٦٨.

(٣) تأريخ ابن كثير ٥ / ٢٢٣.

٦٧

«إنّ جبرئيل كان يعارضني بالقرآن في كلّ سنة مرّة، وأنّه عارضني بهذا العام مرّتين، وما أرى ذلك إلاّ اقتراب أجلي» (١) .

وتقطّع قلب زهراء الرسول ألماً وحزناً، وشاعت الكآبة والحزن عند أهل البيت وذوت عقيلة بني هاشم من هذا النبأ المريع، وطافت بها وهي في فجر الصبا تيارات من الأسى.

ونزلت على النبي (صلّى الله عليه وآله) سورة النصر، فكان يسكت بين التكبير والقراءة، ويقول:«سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه» .

وذهل المسلمون، وفزعوا إليه يسألونه عن هذه الحالة الراهنة، فأجابهم:«إنّ نفسي قد نُعيت إليّ» (٢) .

وكادت نفوس المسلمين أن تزهق من هذا النبأ المريع؛ فقد وقع عليهم كالصاعقة، فلا يدرون ماذا سيجري عليهم لو خلت الدنيا من منقذهم ومعلّمهم وقائدهم.

رؤيا العقيلة

ورأت العقيلة في منامها رؤياً أفزعتها وأذهلتها، فأسرعت إلى جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) تقصّها عليه، ولمّا مثلت عنده أجلسها في حجره، وجعله يوسعها تقبيلاً، فقالت له: يا جدّاه، رأيت رؤياً البارحة.

-«قصّيها عليّ» .

- رأيت ريحاً عاصفاً اسودّت الدنيا منها وأظلمت، ففزعتُ إلى شجرة عظيمة فتعلّقت بها من شدّة العاصفة، فقلعتها الرياح وألقتها على الأرض، فتعلّقت بغصنٍ

____________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب ١ / ١٦٧.

(٢) زينب الكبرى / ١٩.

٦٨

قويّ من تلك الشجرة فقطعتها الرياح، فتعلّقت بفرع آخر فكسرته الرياح أيضاً، وسارعت فتعلّقت بأحد فرعين من فروعها فكسرته العاصفة أيضاً، ثمّ استيقظت من نومي.

فأجهش النبي (صلّى الله عليه وآله) بالبكاء، وفسّر لها رؤياها قائلاً:«أمّا الشجرة فجدّك، وأمّا الفرع الأوّل فاُمّك، والثاني أبوك عليّ، والفرعان الآخران هما أخواك الحسنان، تسودّ الدنيا لفقدهم، وتلبسين لباس الحداد في رزيتهم» (١) .

وساد الحزن والأسى في البيت النبوي، وصدقت رؤيا العقيلة، فلم تمض أيام حتّى رُزئت بجدّها واُمّها، وتتابعت عليها بعد ذلك الرزايا، فقد استشهد أبوها وأخواها، ولبست عليهم لباس الحزن والحداد.

حجة الوداع

ولمّا علم النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّ لقاءه بربّه قريب، رأى أن يحجّ إلى بيت الله الحرام ليلتقي بالمسلمين ويضع لهم الخطوط السليمة لنجاتهم، ويقيم فيهم القادة والمراجع الذين يقيمون فيهم الحقّ والعدل.

وحجّ النبي (صلّى الله عليه وآله) لهذا الغرض، وهي حجّته الأخيرة الشهيرة بـ (حجّة الوداع)، وقد أشاع بين حجّاج بيت الله أنّ التقاءه بهم في هذا العام هو آخر التقاء بهم، وأنّه سيسافر إلى الفردوس الأعلى، وجعل يطوف بين الجماهير ويعرّفهم سبل النجاة، ويرشدهم إلى ولاة اُمورهم من بعده قائلاً:«أيّها الناس، إنّي تركت فيكم الثقلين؛ كتاب الله، وعترتي أهل بيتي» (٢) .

____________________

(١) صحيح الترمذي ٢ / ٣٠٨.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٩١ - ٩٢.

٦٩

ثمّ وقف النبي (صلّى الله عليه وآله) عند بئر زمزم، وخطب خطاباً رائعاً وحافلاً بما تحتاج إليه الاُمّة في مجالاتها الاجتماعية والسياسيّة، وقال فيما يخصّ القيادة الروحية والزمنية للاُمّة:«إنّي خلّفت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا؛ كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ألا هل بلّغت» .

فانبرت الجماهير بصوتٍ واحدٍ قائلين: اللهمّ نعم(١) .

لقد عيّن الرسول (صلّى الله عليه وآله) القيادة العامّة لاُمّته، وجعلها مختصة بأهل بيته؛ فهم ورثة علومه، وخزنة حكمته الذين يعنون بالإصلاح الاجتماعي، ويؤثرن مصلحة الاُمّة على كلّ شيء.

مؤتمر غدير خم

وقفل النبي (صلّى الله عليه وآله) بعد أداء مراسيم الحج إلى يثرب، وحينما انتهى موكبه إلى (غدير خم) نزل عليه الوحي برسالةٍ من السماء أن ينصب الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) خليفةً من بعده، ومرجعاً عاماً للاُمّة. لقد نزل عليه الوحي بهذه الآية:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (٢) .

ففي هذه الآية إنذار خطير إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله)؛ إذ إنّه إن لم يقم بهذه المهمة فما بلّغ رسالة ربّه، وضاعت جميع جهوده وأتعابه في سبيل هذا الدين. فانبرى (صلّى الله عليه وآله) فحطّ أعباء المسير، ووضع رحله في رمضاء الهجير، وأمر قوافل الحجّ أن تفعل مثل ذلك، وكان الوقت قاسياً في حرارته، فكان الرجل يضع طرف ردائه تحت قدميه

____________________

(١) الغدير ٢ / ٣٤.

(٢) سورة المائدة / ٦٧. نصّ على نزول هذه الآية في يوم الغدير الواحدي في أسباب النزول، والرازي في تفسيره، وغيرهما.

٧٠

ليتّقي به حرارة الأرض، وقام النبي (صلّى الله عليه وآله) فصلّى بالناس، وبعد أداء فريضة الصلاة أمر بأن يوضع له منبر من حدائج الإبل، فصُنع له ذلك فاعتلى عليه، واتّجهت الجماهير بعواطفها وقلوبها نحو النبي (صلّى الله عليه وآله)، فخطب خطاباً مهمّاً أعلن فيه ما لاقه من عناء شاق في سبيل هدايتهم، وتحرير إرادتهم، وإنقاذهم من خرافات الجاهليّة وعاداتها.

ثم ذكر طائفة من أحكام الإسلام وتعاليمه، وألزمهم بتطبيقها على واقع حياتهم، ثمّ التفت إليهم فقال:«انظروا كيف تخلفوني في الثقلين» .

فناداه منادٍ من القوم: ما الثقلان يا رسول الله؟

فأجابه:«الثقل الأكبر: كتاب الله، طرف بيد الله عزّ وجلّ وطرف بأيديكم، فتمسّكوا به لا تضلّوا، والآخر الأصغر: عترتي، وإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فسألت ذلك لهما ربّي، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا» .

ثمّ أخذ بيد وصيّه وباب مدينة علمه وناصر دعوته الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ليفرض ولايته على جميع المسلمين، فرفعها حتّى بان بياض إبطيهما، ونظر إليهما القوم، ورفع النبي (صلّى الله عليه وآله) صوته قائلاً:«أيّها الناس، مَنْ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟» . فانبرت قوافل الحجّاج رافعة عقيرتها: الله ورسوله أعلم.

ووضع النبي (صلّى الله عليه وآله) القاعدة الأصلية التي تصون المسلمين من الانحراف قائلاً:«إنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمَنْ كنت مولاه فعليّ مولاه» .

٧١

وكرّر هذا القول ثلاث مرّات أو أربع، ثمّ قال:«اللّهمّ وال مَنْ والاه، وعاد مَنْ عاداه، وأحبّ مَنْ أحبّه، وأبغض مَنْ أبغضه، وانصر مَنْ نصره، واخذل مَنْ خذله، وأدر الحقّ معه حيث دار. ألا فليبلغ الشاهد الغائب» .

لقد أدّى النبي (صلّى الله عليه وآله) رسالة ربّه؛ فنصب الإمام أمير المؤمنين خليفةً من بعده، وقلّده منصب الإمامة والمرجعية العامة، وأقبل المسلمون يهرعون صوب الإمام وهم يبايعونه بالخلافة، ويهنئونه بإمرة المسلمين وقيادتهم، وأمر النبيّ اُمّهات المؤمنين أن يهنئنَ الإمام بهذا المنصب العظيم ففعلنَ، وأقبل عمر بن الخطاب نحو الإمام فصافحه وهنّأه، وقال له: هنيئاً يابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة(١) .

وفي ذلك اليوم الخالد نزلت الآية الكريمة:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً ) (٢) .

قد تمّت نعمة الله الكبرى على المسلمين بولاية بطل الإسلام ورائد العدالة الاجتماعية في الأرض الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وقد خطا النبي (صلّى الله عليه وآله) الخطوة الأخيرة في أداء رسالته، فصان اُمّته من الزيغ والانحراف؛ فنصب لها القائد والموجّه، ولم يتركها فوضى - كما يزعمون - تتلاعب بها الفتن والأهواء، وتتقاذفها أمواج من الضلال.

إنّ وثيقة الغدير من أروع الأدلّة وأوثقها على اختصاص الخلافة والإمامة بباب مدينة علم النبي الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وهي جزء من رسالة الإسلام وبند من أهم بنوده؛ لأنّها تبنّت القضايا المصيرية للعالم الإسلامي على امتداد التأريخ.

____________________

(١) مسند أحمد ٤ / ٢٨١.

(٢) سورة المائدة / ٣. نصّ على نزول هذه الآية في يوم الغدير الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ٨ / ٢٩، السيوطي في الدر المنثور، وغيرهما من أعلام أهل السنّة.

٧٢

لقد وعت سيّدة النساء زينب (عليها السّلام) وهي في فجر الصبا هذه البيعة لأبيها، وأنّ جدّها قد قلّده بهذا المنصب الخطير لسلامة الاُمّة وتطورها، والبلوغ بها إلى أعلى المستويات من التقدّم، والقيادة العامة لشعوب العالم واُمم الأرض، ولكنّ القوم قد سلبوا أباها هذا المنصب، وجعلوه في معزل عن الحياة الاجتماعية والسياسيّة، وقد أخلدوا بذلك للاُمّة المحن والخطوب، وتجرّعت حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله) بالذّات أهوالاً من المصائب والكوارث كانت ناجمة - من دون شك - عن هذه المؤامرة التي حيكت ضدّ أبيها، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

مرض النبي (صلّى الله عليه وآله)

ولمّا قفل النبي (صلّى الله عليه وآله) بعد حجة الوداع راجعاً إلى يثرب بدأت صحّته تنهار يوماً بعد يوم، فقد ألمّ به المرض، وأصابته حمّى مبرحة حتّى كأنّ به لهباً منها، وكانت عليه قطيفة فإذا وضع أزواجه وعوّاده عليها أيديهم شعروا بحرّها(١) .

وقد وضعوا إلى جواره إناءً فيه ماء بارد، فكان يضع يده فيه ويمسح به وجهه الشريف، وكان (صلّى الله عليه وآله) يقول:«ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلته بـ (خيبر)، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم» (٢) ؛ فقد قدّمت له امرأة يهودية في خيبر ذلك الطعام الذي سمّته فأثّر فيه.

ولمّا اُشيع مرض النبي (صلّى الله عليه وآله) هرع المسلمون إلى عيادته، وقد خيّم عليهم الأسى والذهول، فنعى (صلّى الله عليه وآله) إليهم نفسه، وأوصاهم بما يسعدون ويفلحون به قائلاً:«أيّها الناس، يوشك أن اُقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي، وقدّمت إليكم القول

____________________

(١) البداية والنهاية ٥ / ٢٢٦.

(٢) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ١ / ٢٠٢.

٧٣

معذرة إليكم، ألا إنّي مخلّفٌ فيكم كتاب الله عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي» .

ثمّ أخذ بيد وصيّه وخليفته الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، فقال لهم:«هذا علي مع القرآن، والقرآن مع علي لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض» (١) .

لقد قرّر النبي (صلّى الله عليه وآله) أهم القضايا المصيرية لاُمّته، فعيّن لها القائد العظيم الذي يحقّق لها جميع أهدافها وما تصبو إليه في حياتها.

سرية اُسامة

ورأى النبي (صلّى الله عليه وآله) وهو في المرحلة الأخيرة من حياته التيارات الحزبية التي صمّمت على إقصاء عترته عن قيادة الاُمّة، فرأى أنّ خير وسيلة يتدارك بها الموقف أن يزجّ بجميع أصحابه في بعثة عسكرية، حتّى إذا وافاه الأجل المحتوم تكون عاصمته خالية من العناصر المضادّة لوليّ عهده؛ فأسند قيادة البعثة إلى اُسامة بن زيد، وهو شاب في مقتبل العمر، وكان من بين الجنود أبو بكر وعمر، وأبو عبيدة الجراح وبشير بن سعد(٢) .

وقال النبي (صلّى الله عليه وآله) لاُسامة:«سِر إلى موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل؛ فقد ولّيتك هذا الجيش، فاغزُ صباحاً على أهل أبنى (٣) ، وحرّق عليهم، وأسرع السير لتسبق الأخبار، فإن أظفرك الله عليهم فاقلل اللبث فيهم، وخذ معك الأدلاء، وقدّم العيون والطلائع معك» .

ومُني الجيش بالتمرّد وعدم الطاعة، فلم يلتحق أعلام الصحابة بوحداتهم

____________________

(١) الصواعق المحرقة / ١٢٤.

(٢) كنز العمّال ٥ / ٣١٢، طبقات ابن سعد ٤ / ٤٦، تأريخ الخميس ٢ / ٤٦.

(٣) ابنى: ناحية بالبلقاء من أرض سوريا، بين عسقلان والرملة، تقع بالقرب من مؤتة، وهي التي استشهد فيها زيد بن حارثة وجعفر الطيّار.

٧٤

العسكرية، ولمّا علم النبي (صلّى الله عليه وآله) بذلك تألّم، فخرج مع ما به من المرض، فحثّ الجند على المسير، وعقد بنفسه اللواء لاُسامة، وقال له:«اغزُ بسم الله، وفي سبيل الله، وقاتل مَنْ كفر بالله» .

فخرج اُسامة بلوائه معقوداً ودفعه إلى بريده، وعسكر بـ (الجرف)، وتثاقل جمع من الصحابة عن الالتحاق بالمعسكر، وأظهروا الطعن والاستخفاف باُسامة القائد العام للجيش.

يقول له عمر: مات رسول الله وأنت عليَّ أمير؟!

وانتهت كلماته إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وقد أخذت منه الحمّى مأخذاً عظيماً، فخرج وهو معصّب الرأس قد برح به المرض، فصعد المنبر والتأثّر بادٍ عليه، فقال:«أيّها الناس، ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري اُسامة، ولئن طعنتم في تأميري اُسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله. وأيم الله، إنّه كان خليقاً بالإمارة، وإنّ ابنه من بعده لخليقٌ بها» .

ثمّ نزل عن المنبر ودخل بيته والتأثّر بادٍ عليه(١) ، وجعل يوصي أصحابه بالالتحاق بالجيش قائلاً:«جهّزوا جيش اُسامة، نفّذوا جيش اُسامة، لعن الله مَنْ تخلّف عن جيش اُسامة» .

ولم ترهف عزائم القوم هذه الأوامر المشدّدة؛ فقد تثاقلوا عن الالتحاق بالجيش، واعتذروا للرسول بشتّى المعاذير، وهو (صلّى الله عليه وآله) لم يمنحهم العذر، وإنّما أظهر لهم السخط وعدم الرضا؛ فقد استبانت له بصورة جلية نيّاتهم وتآمرهم، كما عرفوا قصده بهذا الاهتمام البالغ من إخراجهم من يثرب.

____________________

(١) السيرة الحلبية ٣ / ٣٤.

٧٥

رزية يوم الخميس

وأحاط النبي (صلّى الله عليه وآله) علماً بالتحرّكات السياسيّة من بعض أصحابه، وأنّهم عازمون ومصرّون على صرف الخلافة عن أهل بيته، وإفساد ما أعلنه غير مرّة من أنّ عترته الأزكياء هم ولاة أمر المسلمين من بعده، فرأى (صلّى الله عليه وآله) أن يحكم الأمر ويحمي اُمّته من الفتن والزيغ، فقال لمَنْ حضر في مجلسه:«ائتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً» (١) .

حقّاً إنّها فرصة من أثمن الفرص وأندرها في تأريخ الإسلام، إنّه التزام واضح وصريح من سيّد الكائنات أنّ اُمّته لا تُصاب بنكسة وانحراف بعد هذا الكتاب.

ما أعظم هذه النعمة على المسلمين، إنّه ضمان من سيد الأنبياء أن لا تضلّ اُمّته في مسيرتها وتهتدي إلى سواء السبيل في جميع مراحل تأريخها، واستبان لبعض القوم ماذا يكتب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، إنّه سينصّ على خلافة عليّ من بعده، ويعزّز بيعة يوم الغدير، وتضيع بذلك أطماعهم ومصالحهم، فردّ عليه أحدهم قائلاً بعنف: حسبنا كتاب الله.

ولو كان هذا القائل يحتمل أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) يوصي بحماية الثغور، أو بالمحافظة على الشؤون الدينية ما ردّ عليه بهذه الجرأة، ولكنّه علم قصده أنّه سيوصي بأهل بيته وينصّ على خلافة عليّ من بعده.

وكثر الخلاف بين القوم؛ فطائفة حاولت تنفيذ ما أمر به النبي (صلّى الله عليه وآله)، وطائفة اُخرى أصرّت على معارضتها والحيلولة بين ما أراده النبي (صلّى الله عليه وآله). وانطلقت بعض السيّدات فأنكرن على القوم هذا الموقف المتّسم بالجرأة على النبي (صلّى الله عليه وآله) وهو في الساعات الأخيرة من حياته، فقلن لهم: ألا تسمعون ما يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟!

فثار عمر وصاح فيهنّ؛ خوفاً أن يفلت الأمر منه ومن حزبه، فقال للسيدات:

____________________

(١) الرواية أخرجها البخاري ومسلم، والطبراني في الأوسط، وغيرهم.

٧٦

إنكنّ صويحبات يوسف؛ إذا مرض عصرتنَّ أعينكنَّ، وإذا صح ركبتنَّ عنقه.

فنظر إليه النبي (صلّى الله عليه وآله) بغضبٍ وغيظٍ، وقال له:«دعوهنّ فإنّهنّ خير منكم» .

وبدا صراع رهيب بين القوم، وكادت أن تفوز الجهة التي أرادت تنفيذ أمر النبي (صلّى الله عليه وآله)، فانبرى أحدهم فأفشل ما أراده النبي (صلّى الله عليه وآله)، وحال بينه وبين ما أراد من إسعاد اُمّته، فقال - ويا لهول ما قال -: إنّ النبيّ ليهجر(١) .

ألم يسمع هذا القائل كلام الله تعالى الذي يُتلى في آناء الليل وأطراف النهار وهو يعلن تكامل النبي في جميع مراحل حياته؛ فقد زكّاه وعصمه من الهجر وغيره من ألوان الزيغ والانحراف، وإنّه أسمى شخصية في تكامله وسموّ ذاته، قال تعالى:( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) (٢) ، وقال تعالى:( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ) (٣) .

إنّ القوم لم يخامرهم أدنى شك في عصمة النبي وتكامل ذاته، ولكن حبّ الدنيا والتهالك على السلطة دفهم للجرأة على النبي (صلّى الله عليه وآله)، ومقابلتهم له بمرّ القول والطعن بشخصيته.

وكان ابن عباس إذا ذكر هذا الحادث الرهيب يبكي حتّى تسيل دموعه على خديه كأنّها نظام اللؤلؤ، وهو يصعد آهاته ويقول: يوم الخميس! وما يوم الخميس! قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):«ائتوني بالكتف

____________________

(١) نصّ على هذه الحادثة المؤلمة جميع الرواة والمؤرّخين في الإسلام، ذكرها: البخاري في صحيحه عدّة مرّات، إلاّ أنّه كتم اسم قائلها، وفي نهاية غريب الحديث، وشرح النهج ٣ / ١١٤ (صُرّح باسم القائل).

(٢) سورة النجم / ٢ - ٥.

(٣) سورة التكوير / ١٩ - ٢٢.

٧٧

والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً» . فقالوا: إنّ رسول الله يهجر(١) .

حقّاً إنّها رزية الإسلام الكبرى؛ فقد حيل بين المسلمين وسعادتهم ونجاتهم من الزيغ والضلال.

لقد وعت السيّدة زينب هذا الحادث الخطير، ووقفت على أهداف القوم من إبعاد أبيها عن المركز الذي نصبه جدّها فيه، فقد جرّ هذا الحادث وغيره ممّا صدر من القوى المعارضة لأهل البيت الكوارث والخطوب لهم، وما كارثة كربلاء إلاّ من نتائج هذه الأحداث.

لوعة الزهراء (سلام الله عليها)

ونخب الحزن قلب بضعة الرسول، وبرح بها الألم القاسي، وذهبت نفسها شعاعاً حينما علمت أنّ أباها مفارق لهذه الحياة؛ فقد جلست إلى جانبه وهي مذهولة كأنّها تعاني آلام الاحتضار، وسمعته يقول:«واكرباه!» .

فأسرعت وهي تجهش بالبكاء قائلة:«وا كربي لكربك يا أبتي!» .

وأشفق الرسول (صلّى الله عليه وآله) على بضعته، فقال لها مسلّياً:«لا كرب على أبيك بعد اليوم» (٢) .

وهامت زهراء الرسول في تيّارات مروعة من الأسى والحزن، فقد أيقنت أنّ أباها سيفارقها، وأراد النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يسلّيها ويخفّف لوعة مصابها، فأسرّ إليها بحديثٍ، فلم تملك نفسها أن غامت عيناها بالدموع، ثم أسرّ إليها ثانياً، فقابلته

____________________

(١) مسند أحمد ١ / ٣٥٥، وغيره.

(٢) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ١١٢.

٧٨

ببسمات فيّاضة بالبشر والسرور، فعجبت عائشة من ذلك، وراحت تقول: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن.

وأسرعت عائشة فسألت زهراء الرسول عما أسرّ إليها أبوها، فأشاحت بوجهها الكريم عنها، وأبت أن تخبرها، ولكنّها أخبرت بعض السيّدات بذلك، فقالت:«أخبرني أنّ جبرئيل كان يعارضني بالقرآن في كلّ سنة مرّة، وأنّه عارضني في هذا العام به مرّتين، ولا أراه إلاّ قد حضر أجلي» .

وكان هذا هو السبب في لوعتها وبكائها، أمّا سبب سرورها وابتهاجها، فقالت:«أخبرني أنّكِ أوّل أهل بيتي لحوقاً بي، ونِعمَ السلف أنا لك، ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء هذه الاُمّة؟» (١) .

ونظر إليها النبي (صلّى الله عليه وآله) وهي خائرة القوى، منهدّة الركن، فأخذ يخفّف عنها لوعة المصاب قائلاً:«يا بُنيّة، لا تبكي، وإذا متّ فقولي: إنّا لله وإنّا إليه راجعون؛ فإنّ فيها من كلّ ميّت معوضة» .

وأجهشت بضعة الرسول بالبكاء قائلةً:«ومنك يا رسول الله؟» .

«نعم، ومنّي» (٢) .

واشتدّ المرض برسول الله (صلّى الله عليه وآله) والزهراء إلى جانبه، وهي تبكي وتقول لأبيها:«يا أبت، أنت كما قال القائل فيك:

____________________

(١) المصدر السابق / ١١٣.

(٢) أنساب الأشراف ١ / ١٣٣، القسم الأوّل.

٧٩

وأبيضَ يُستسقى الغمامُ بوجهه = ثمال اليتامى عصمة للأراملِ))

فقال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله):«هذا قول عمّك أبي طالب» . وتلا قوله تعالى:( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) (١) .

وتقطّع قلب زهراء الرسول ألماً وحزناً على أبيها، فانكبّت عليه ومعها الحسنان، فألصقت صدرها بصدره وهي غارقة في البكاء، فأجهش النبي (صلّى الله عليه وآله) بالبكاء، وهو يقول:«اللّهمّ أهل بيتي، وأنا مستودعهم كلّ مؤمن» .

وجعل يردّد ذلك ثلاث مرّات حسبما يرويه أنس بن مالك(٢) .

أمّا حفيدة الرسول زينب فقد شاركت اُمّها في لوعتها وأحزانها، وقد ذابت نفسها حزناً وموجدة على اُمّها التي هامت في تيّارات مذهلة من الأسى والشجون على أبيها الذي هو عندها أعزّ من الحياة.

إلى الفردوس الأعلى

وبعدما أدّى النبي العظيم رسالة ربّه إلى المسلمين، وأقام صروح الإسلام، وعيّن القائد العام لاُمّته الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، فقد اختاره الله تعالى إلى جواره لينعم في الفردوس الأعلى، فقد هبط عليه ملك الموت، فاستأذن بالدخول عليه، فخرجت إليه زهراء الرسول فأخبرته أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مشغول بنفسه عنه، فانصرف ثمّ عاد بعد قليل يطلب الإذن، فأفاق النبي (صلّى الله عليه وآله) من إغمائه، والتفت إلى بضعته فقال لها:«يا بُنية، أتعرفينه؟» .

____________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ١٣٣، القسم الأوّل.

(٢) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ١ / ٢١٦.

٨٠