السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام22%

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 343

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 186302 / تحميل: 8247
الحجم الحجم الحجم
السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

وعبيد الله بن العباس ، ولمّا مثلا عندها ذكّراها بما أمرها الله أنْ تقرّ في بيتها ، وأنْ لا تسفك دماء المسلمين ، وبالغا في نصيحتها ، ولو أنّها وعت نصيحتهما لعادت على الناس بالخير العميم ، وجنّبتهم كثيراً مِن المشاكل والفتن ، إلاّ أنّها جعلت كلامهما دبر أذنيها ، وراحت تقول لهم : إنّي لا أردّ على ابن أبي طالب بالكلام ؛ لأنّي لا أبلغه في الحِجاح(1) .

وبذل الإمام (عليه السّلام) قصارى جهوده في الدعوة إلى السّلم وعدم إراقة الدماء ، إلاّ أنّ هناك بعض العناصر لمْ ترق لها هذه الدعوى ، وراحت تسعى لإشعال نار الحرب وتقويض دعائم السّلم.

الدعوة إلى القرآن :

ولمّا باءت بالفشل جميع الجهود التي بذلها الإمام (عليه السّلام) مِن أجل حقن الدماء ، ندب الإمام (عليه السّلام) أصحابه لرفع كتاب الله العظيم ودعوة القوم إلى العمل بما فيه ، وأخبرهم أنّ مَنْ يقوم بهذه المهمة فهو مقتول ، فلمْ يستجب له أحد سوى فتى نبيل مِن أهل الكوفة ، فانبرى إلى الإمام (عليه السّلام) وقال : أنا له يا أمير المؤمنين.

فأشاح الإمام (عليه السّلام) بوجهه عنه ، وطاف في أصحابه ينتدبهم لهذه المهمة فلمْ يستجب له أحد سوى ذلك الفتى ، فناوله الإمام (عليه السّلام) المصحف ، فانطلق الفتى مزهوّاً لمْ يختلج في قلبه خوف ولا رعب ، وهو يلوح بالكتاب أمام عسكر عائشة قد رفع صوته بالدعوة إلى العمل بما فيه ، ولكنّ القوم قد دفعتهم الأنانية إلى الفتك به فقطعوا يمينه ، فأخذ المصحف بيساره وهو يناديهم بالدعوة إلى العمل بما فيه ، فاعتدوا عليه وقطعوا يساره ، فأخذ المصحف

__________________

(1) الفتوح 2 / 306.

٤١

بأسنانه وقد نزف دمه ، وراح يدعوهم إلى السّلم وحقن الدماء قائلاً : الله في دمائنا ودمائكم.

وانثالوا عليه يرشقونه بنبالهم فوقع على الأرض جثة هامدة ، فانطلقت إليه اُمّه تبكيه وترثيه بذوب روحها قائلة :

يا ربِّ إنّ مسلماً أتاهُمْ

يتلو كتاب الله لا يخشاهُمْ

فخضّبوا مِن دمه لحاهُمْ

واُمّهم قائمةٌ تراهُمْ

ورأى الإمام (عليه السّلام) بعد هذا الإعذار أنْ لا وسيلة له سوى الحرب ، فقال لأصحابه : «الآن حلّ قتالهم ، وطاب لكم الضراب»(1) . ودعا الإمام (عليه السّلام) حضين بن المنذر وكان شاباً ، فقال له : «يا حضين ، دونك هذه الراية ، فو الله ما خفقت قط فيما مضى ، ولا تخفق فيما بقي راية أهدى منها إلاّ راية خفقت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)».

وفي ذلك يقول الشاعر :

لمَنْ رايةٌ سوداء يخفُقُ ظلُّها

إذا قيل قدِّمها حُضينٌ تقدّما

يُقدّمها للموت حتّى يزيرها

حِياض المنايا تَقطرُ الموتَ والدما(2)

الحربُ العامة :

ولمّا استيأس الإمام (عليه السّلام) مِن السّلم عبّأ جيشه تعبئة عامّة ، وكذلك فعل أصحاب عائشة وقد حملوها على جملها (عسكر) ، واُدخلت هودجها المصفّح بالدروع ، والتحم الجيشان التحاماً رهيباً. يقول بعض المؤرّخين : إنّ

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 246.

(2) أنساب الأشراف 1 ق 1 / 180.

٤٢

الإمام الحُسين (عليه السّلام) قد تولّى قيادة فرقة مِنْ فرق الجيش ، وإنّه كان على الميسرة ، وخاض المعركة ببسالة وصمود(1) . وكان جمل عائشة فيما يقول بعض مَنْ شهد المعركة هو راية أهل البصرة ، يلوذون به كما يلوذ المقاتلون براياتهم ، وقد حمل الإمام (عليه السّلام) عليهم وقد رفع العلم بيسراه ، وشهر في يمينه ذا الفقار الذي طالما ذبّ به عن دين الله ، وحارب به المشركين على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله). واقتتل الفريقان كأشدّ ما يكون القتال ضراوة ، يريد أصحاب عائشة أنْ يحرزوا النصر ويحموا أُمّهم ، ويريد أصحاب علي (عليه السّلام) أنْ يحموا إمامهم ويموتوا دونه.

مصرعُ الزبير :

وكان الزبير رقيق القلب ، شديد الحرص على مكانته مِن النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، إلاّ أنّ حبّ المُلْك هو الذي أغراه ودفعه إلى الخروج على الإمام (عليه السّلام) ؛ يضاف إلى ذلك ولده عبد الله فهو الذي زجّ به في هذه المهالك ، وباعد ما بينه وبين دينه ، وقد عرف الإمام (عليه السّلام) رقّة طبع الزبير ، فخرج إلى ميدان القتال ورفع صوته :

«أين الزبير؟».

فخرج الزبير وهو شاك في سلاحه ، فلمّا رآه الإمام (عليه السّلام) بادر إليه واعتنقه ، وقال له بناعم القول : «يا أبا عبد الله ، ما جاء بك ها هنا؟».

ـ جئت أطلب دم عثمّان.

فرمقه الإمام (عليه السّلام) بطرفه وقال له :

__________________

(1) سير أعلام النبلاء 3 / 193.

٤٣

«تطلب دم عثمّان!».

ـ نعم.

ـ «قتل الله مَنْ قتل عثمّان».

وأقبل عليه يحدّثه برفق ، قائلاً : «أنشدك الله يا زبير ، هل تعلم أنّك مررت بي وأنت مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو متكئ على يدك ، فسلّم عليّ رسول الله وضحك إليّ ، ثمّ التفت إليك فقال لك : يا زبير ، إنّك تقاتل عليّاً وأنت له ظالم».

وتذكّر الزبير ذلك ، وقد ذهبت نفسه أسىً وحسرات ، وندم أشدّ ما يكون النّدم على موقفه هذا ، والتفت إلى الإمام (عليه السّلام) وهو يصدّق مقالته : اللّهم نعم.

ـ «فعلامَ تقاتلني؟».

ـ نسيتها والله ، ولو ذكرتها ما خرجت إليك ولا قاتلتك(1) .

ـ «ارجع».

ـ كيف ارجع وقد التقت حلقتا البطان؟! هذا والله العار الذي لا يُغسل.

ـ «ارجع قبل أنْ تجمع العار والنار».

وألوى عنان فرسه ، وقد ملكت الحيرة والقلق أهابه ، وراح يقول :

فاخترتُ عاراً على نارٍ مؤجّجةٍ

ما إنْ يقوم لها خلقٌ من الطينِ

نادى عليٌّ بأمرٍ لستُ أجهلُهُ

عارٍ لَعمرُك في الدنيا وفي الدينِ

فقلتُ حسبُك مِن عذلٍ أبا حسنٍ

فبعض هذا الذي قد قلت يكفيني(2)

وقفل الإمام (عليه السّلام) راجعاً إلى أصحابه ، فقالوا له : تبرز إلى زبير حاسراً

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 73.

(2) مروج الذهب 2 / 247. على أنّ الأبيات وردت على غير هذا النسق ، وما أثبتناه فهو من بعض المصادر الاُخرى. (موقع معهد الإمامين الحَسنَين)

٤٤

وهو شاك السّلاح ، وأنت تعرف شجاعته! فقال (عليه السّلام) :

«إنّه ليس بقاتلي ، إنّما يقتلني رجل خامل الذكر ، ضئيل النسب ، غيلة في غير ماقط(1) حرب ولا معركة رجال. ويل أُمّه أشقى البشر! ليودّ أنّ أُمّه هبلت به. أما أنّه وأحمر ثمّود لمقرونان في قرن ...»(2) .

واستجاب الزبير لنداء الإمام (عليه السّلام) فاتّجه صوب عائشة ، فقال لها : يا أُمّ المؤمنين ، إنّي والله ما وقفت موقفاً قط إلاّ عرفت أين أضع قدمي فيه إلاّ هذا الموقف ؛ فإنّي لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر؟!

وعرفت عائشة تغيير فكرته وعزمه على الانسحاب مِنْ حومة الحرب ، فقالت له باستهزاء وسخرية مثيرة عواطفه : يا أبا عبد الله ، خفت سيوف بني عبد المطلب؟! وعاثت هذه السخرية في نفسه ، فالتفت إليه ولده عبد الله فعيّره بالجبن قائلاً : إنّك خرجت على بصيرة ، ولكنّك رأيت رايات ابن أبي طالب وعرفت أنّ تحتها الموت فجبنت.

إنّه لمْ يخرج على بصيرة ولا بيّنة مِنْ أمره ، وإنّما خرج مِنْ أجل المُلْك والسلطان.

والتاع الزبير مِنْ حديث ولده ، فقال له : ويحك! إنّي قد حلفت له أنْ لا اُقاتله. [فقال له ابنه :] كفّر عن يمينك بعتق غلامك سرجس. فأعتق غلامه وراح يجول في ميدان الحرب ليُري ولده شجاعته ، ويوضّح له أنّه إنّما فرّ بدينه لا جبناً ولا خوراً ، ومضى منصرفاً على وجهه حتّى أتى وادي السّباع. وكان الأحنف بن قيس مع قومه مقيمين هناك ،

__________________

(1) الماقط : ساحة القتال.

(2) شرح نهج البلاغة 1 / 135.

٤٥

فتبعه ابن جرموز فأجهز عليه وقتله غيلة ، وحمل مقتله إلى الإمام (عليه السّلام) فحزن عليه كأشدّ ما يكون الحزن ، ويقول الرواة : إنّه أخذ سيفه وهو يقول : «سيف طالما جلا الكروب عن وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)». وعلى أي حالٍ ، لقد كانت النهاية الأخيرة للزبير تدعو إلى الأسف والأسى ؛ فقد تمرّد على الحقّ ، وأعلن الحرب على وصي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وباب مدينة علمه.

مصرعُ طلحة :

وخاض طلحة المعركة وهو يحرّض جيشه على الحرب ، فبصر به مروان بن الحكم فرماه بسهم ؛ طلباً بثار عثمّان ، فوقع على الأرض يتخبّط بدمه. وكان مروان يقول لبعض ولد عثمّان : لقد كفيتك ثأر أبيك من طلحة. وأمر طلحة مولاه أنْ يأوي به إلى مكان ينزل فيه ، فأوى به بعد مشقّة إلى دار خربة مِنْ دور البصرة فهلك فيها بعد ساعة.

قيادةُ عائشة للجيش :

وتولّت عائشة قيادة الجيش بعد هلاك الزبير وطلحة ، وقد تفانت بنو ضبّة والأزد وبنو ناجية في حمايتها. ويقول المؤرّخون : إنّهم هاموا بحبّها ، فكانوا يأخذون بعر جملها ويشمّونه ، ويقولون : بعر جمل أُمّنا ريحه ريح المسك. وكانوا محدقين به لا يريدون فوزاً ولا انتصاراً سوى حمايتها ، وإنّ راجزهم يرتجز :

يا معشرَ الأزد عليكُمْ أُمّكمْ

فإنّها صلاتُكُم وصومكُمْ

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 97.

٤٦

والحرمةُ العظمى التي تعمّكُمْ

فأحضروها جدكُمْ وحزمكُمْ

لا يغلبنْ سمّ العدو سمّكُمْ

إنّ العدوَّ إنْ علاكُمْ زمّكُمْ

وخصّكُم بجورهِ وعمّكُمْ

لا تفضحوا اليوم فداكُم قومكُمْ(1)

وكانت تحرّض على الحرب كلّ مَنْ كان على يمينها ، ومَنْ كان على شمالها ، ومَنْ كان أمامها قائلة : إنّما يصبر الأحرار. وكان أصحاب الإمام (عليه السّلام) يلحّون على أصحاب عائشة بالتخلّي عنها ، وراجزهم يرتجز :

يا أُمَّنا أعقّ اُمٍّ نعلمُ

والأُمُّ تغذو وُلدها وترحمُ

أما ترينَ كم شُجاعٍ يُكلمُ

وتختلي منه يدٌ ومِعصمُ

وكان أصحاب عائشة يردّون عليهم ويقولون :

نحن بني ضبّة أصحابَ الجملْ

ننازلُ القرن إذا القرن نزلْ

والقتلُ أشهى عندنا مِن العسلْ

نبغي ابن عفّان بأطراف الأسلْ

ردّوا علينا شيخَنا ثمّ بجلْ

واشتدّ القتال كأشد وأعنف ما يكون القتال ، وكثرت الجرحى ، وملئت أشلاء القتلى وجه الأرض.

عقرُ الجمل :

ورأى الإمام (عليه السّلام) أنّ الحرب لا تنتهي ما دام الجمل موجوداً ، فصاح (عليه السّلام) بأصحابه : «اعقروا الجمل ؛ فإنّ في بقائه فناء العرب». وانعطف عليه الحسن (عليه السّلام) فقطع يده اليمنى ، وشدّ عليه الحُسين (عليه السّلام) فقطع يده اليسرى(2) ، فهوى إلى جنبه وله عجيج منكر لمْ يسمع مثله ، وفرّ حماة الجمل في البيداء ؛ فقد تحطّم صنمهم

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 2 / 81.

(2) وقعة الجمل ـ مُحمّد بن زكريا / 44.

٤٧

الذي قدّموا له هذه القرابين ، وأمر الإمام (عليه السّلام) بحرقه وتذرية رماده في الهواء ؛ لئلاّ تبقى منه بقية يُفتتن بها السذّج والبسطاء.

وبعد الفراغ مِنْ ذلك ، قال : «لعنه الله مِنْ دابة فما أشبهه بعجل بني إسرائيل!». ومدّ بصره نحو الرماد الذي تناهبه الهواء ، فتلا قوله تعالى :( وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ) . وبذلك فقد وضعت الحرب أوزارها ، وكتب النصر للإمام (عليه السّلام) وأصحابه ، وباءت القوى الغادرة بالخزي والخسران.

وأوفد الإمام (عليه السّلام) للقيا عائشة الحسن والحُسين (عليهما السّلام) ومُحمّد بن أبي بكر(1) ، فانطلقوا إليها ، فمدّ مُحمّد يده في هودجها فجفلت منه ، وصاحت به : مَنْ أنت؟

ـ أبغض أهلك إليك.

ـ ابن الخثعميّة؟

ـ نعم أخوك البرّ.

ـ عقوق.

ـ هل أصابك مكروه؟

ـ سهم لمْ يضرّني.

فانتزعه منها ، وأخذ بخطام هودجها وأدخلها في الهزيع الأخير مِن الليل إلى دار عبد الله بن خلف الخزاعي على صفية بنت الحارث ، فأقامت فيه أياماً.

العفو العام :

وسار علي (عليه السّلام) في أهل البصرة سيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في أهل مكة

__________________

(1) وقعة الجمل / 45.

٤٨

كما قال (عليه السّلام) ، فأمِنَ الأسود والأحمر ـ على حدّ تعبير اليعقوبي(1) ـ ولمْ ينكّل بأيّ أحد مِنْ خصومه ، وجلس للناس فبايعه الصحيح منهم والجريح ، ثمّ عمد إلى بيت المال فقسّم ما وجد فيه على الناس بالسواء.

وسار (عليه السّلام) إلى عائشة فبلغ دار عبد الله بن خلف الخزاعي الذي أقامت فيه عائشة ، فاستقبلته صفية بنت الحارث شرّ لقاء ، فقالت له : يا علي ، يا قاتل الأحبّة ، أيتم الله بنيك كما أيتمت بني عبد الله! وكانوا قد قتلوا في المعركة مع عائشة ، فلمْ يجبها الإمام (عليه السّلام) ومضى حتّى دخل على عائشة ، فأمرها أنْ تغادر البصرة وتمضي إلى يثرب لتقرّ في بيتها كما أمرها الله.

ولمّا انصرف أعادت عليه صفية القول الذي استقبلته به ، فقال لها : «لو كنت قاتل الأحبّة لقتلت مَنْ في هذا البيت». وهو يشير إلى أبواب الحجرات المقفلة ، وكان فيها كثير مِن الجرحى وغيرهم مِنْ أعضاء المؤامرة [الذين] آوتهم عائشة ، فسكتت صفية ، وأراد مَنْ كان مع الإمام (عليه السّلام) أنْ يبطشوا بهم ، فزجرهم زجراً عنيفاً ؛ وبذلك فقد منح العفو لأعدائه وخصومه.

وسرّح الإمام (عليه السّلام) عائشة تسريحاً جميلاً ، وأرسل معها جماعة مِنْ النساء بزي الرجال لتقرّ في بيتها حسب ما أمرها الله ، وقد رحلت عائشة مِن البصرة ، وأشاعت في بيوتها الثكل والحزن والحداد.

يقول عمير بن الأهلب الضبي ، وهو مِن أنصارها :

لقد أورثتنا حومةَ الموت اُمُّنا

فلمْ تنصرف إلاّ ونحن رواءُ

أطعنا بني تيمٍ لشقوةِ جدِّنا

وما تيمُ إلاّ أعبدٌ وإماءُ(2)

لقد أوردت أُمّ المؤمنين أبناءها حومة الموت ، فقد كان عدد الضحايا مِن المسلمين فيما يقول بعض المؤرخين عشرة آلاف ، نصفهم مِن أصحابها ،

__________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 159.

(2) مروج الذهب 2 / 256.

٤٩

والنصف الآخر مِنْ أصحاب الإمام (عليه السّلام)(1) . وكان مِنْ أعظم الناس حسرة الإمام (عليه السّلام) ؛ لعلمه بما تجرّ هذه الحرب مِنْ المصاعب والمشاكل.

متاركُ الحرب :

وأعقبت حرب الجمل أفدح الخسائر وأعظم الكوارث التي اُبتلي بها المسلمون ، ومِن بينها ما يلي :

1 ـ إنّها مهّدت السبيل لمعاوية لمناجزة الإمام (عليه السّلام) ، والتصميم على قتاله ، فقد تبنى شعار معركة الجمل وهو المطالبة بدم عثمان ، ولولا حرب الجمل لما استطاع معاوية أنْ يعلن العصيان والتمرّد على حكم الإمام (عليه السّلام).

2 ـ إنّها أشاعت الفرقة والاختلاف بين المسلمين ، فقد كانت روح المودّة والأُلفة سائدة فيهم قبل حرب الجمل ، وبعدها انتشرت البغضاء بين أفراد الأُسر العربية ؛ فقبائل ربيعة واليمن في البصرة أصبحت تكن أعمق البغض والكراهية لإخوانهم من ربيعة وقبائل اليمن في الكوفة ، وتطالبها بما أُريق من دماء أبنائها ، بل أصبحت الفرقة ظاهرة شائعة حتّى في البيت الواحد ؛ فبعض أبنائه كانوا شيعة لعلي والبعض الآخر كانوا شيعة لعائشة.

ويقول المؤرّخون : إنّ البصرة بقيت محتفظة بولائها لعثمان حفنة من السنين ، وإنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) إنّما لمْ ينزح إليها لما عُرِفت به من الولاء لعثمان.

3 ـ إنّها أسقطت هيبة الحكم وجرّأت على الخروج عليه ؛ فقد تشكّلت الأحزاب النفعية التي لا همّ لها إلاّ الاستيلاء على السلطة والظفر بخيرات البلاد ، حتّى كان التطاحن على الحكم من أبرز سمات ذلك العصر.

__________________

(1) تاريخ الطبري 5 / 224 ، وفي رواية أبي العلاء في أنساب الأشراف 1 ق 1 / 180 أنّ عدد الضحايا عشرون ألفاً.

٥٠

4 ـ إنّها فتحت باب الحرب بين المسلمين ، وقبلها كان المسلمون يتحرجون أشدّ ما يكون التحرّج في سفك دماء بعضهم بعضاً.

5 ـ إنّها عملت على تأخير الإسلام وشلّ حركته وإيقاف نموّه ، فقد انصرف الإمام (عليه السّلام) بعد حرب الجمل إلى مقاومة التمرّد والعصيان الذي أعلنه معاوية وغيره من الطامعين في الحكم ، ممّا أدّى إلى أفدح الخسائر التي مُنِيَ بها الإسلام.

يقول الفيلسوف (ولز) : إنّ الإسلام كاد أنْ يفتح العالم أجمع لو بقي سائراً سيرته الاُولى لو لمْ تنشب في وسطه مِنْ أوّل الأمر الحرب الداخلية ؛ فقد كان همّ عائشة أنْ تقهر علياً قبل كلّ شيء(1) .

6 ـ واستباحت هذه الحرب حرمة العترة الطاهرة التي قرنها النّبي (صلّى الله عليه وآله) بمحكم التنزيل ، وجعلها سفن النجاة وأمن العباد ، فمنذ ذلك اليوم شُهِرَت السيوف في وجه عترة النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، واستحلّ الأوغاد إراقة دمائهم وسبي ذراريهم ، فلمْ يرعَ بنو اُميّة في وقعة كربلاء أي حرمة للنّبي (صلّى الله عليه وآله) في أبنائه ، وانتهكوا معهم جميع الحرمات.

هذه بعض متارك حرب الجمل التي جرّت للمسلمين أفدح الخسائر في جميع فترات التاريخ.

القاسطون :

ولمْ يكد يفرغ الإمام (عليه السّلام) من حرب الناكثين ـ كما اسماهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ حتّى جعل يتأهّب لحرب القاسطين الذين أسماهم النّبي (صلّى الله عليه وآله) بذلك ، ورأى الإمام (عليه السّلام) أنْ يغادر البصرة إلى الكوفة ؛ ليستعدّ لحرب عدوّ عنيف هو معاوية بن أبي سفيان الذي حارب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأبلى في حربه أشدّ

__________________

(1) شيخ المضيرة / 173.

٥١

البلاء وأقواه ، ولمْ يكن معاوية بأقلّ تنكّراً للإسلام وبغضاً لأهله مِنْ أبيه ، وكان المسلمون الأوّلون ينظرون إليهما نظرة ريبة وشك في إسلامهما ، وقد استطاع بمكره ودهائه أنْ يغزو قلب الخليفة الثاني ، ويحتل المكانة المرموقة في نفسه فجعله والياً على الشام ، وظلّ يبالغ في تسديده وتأييده ، وبعد وفاته أقرّه عثمان وزاد في رقعة سلطانه.

وظلّ معاوية في الشام يعمل عمل مَنْ يريد المُلْك والسلطان ، فأحاط نفسه بالقوّة واشترى الضمائر ، وسخّر اقتصاد بلاده في تدعيم سلطانه ، وبعد الأحداث التي ارتكبها عثمان علم معاوية أنّه مقتول لا محالة ، فاستغاث به عثمان حينما حوصر فأبطأ في نصره ، وظلّ متربصاً حتّى قُتِلَ ليتّخذ مِنْ قميصه ودمه وسيلة للتشبث بالمُلْك ، وقد دفعه إلى ذلك حرب الجمل التي كان شعارها المطالبة بدم عثمان ، فاتّخذه خير وسيلة للتذرّع لنيل المُلْك.

ويقول المؤرّخون : إنّه استعظم قتل عثمان وهول أمره ، وراح يبني مُلْكه على المطالبة بدمه.

وكان الإمام (عليه السّلام) محتاطاً في دينه كأشدّ ما يكون الاحتياط فلمْ يصانع ولمْ يحاب ، وإنّما سار على الطريق الواضح ، فامتنع أنْ يستعمل معاوية على الشام لحظة واحدة ؛ لأنّ في إقراره على منصبه تدعيماً للظلم وتركيزاً للجور.

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ الإمام (عليه السّلام) بعد حرب الجمل قد غادر البصرة مع قواته المسلحة ، واتّجه إلى الكوفة ليتّخذها عاصمة ومقرّاً له. واتّجه فور قدومه إليها يعمل على تهيئة وسائل الحرب لمناهضة عدوّه العنيف الذي يتمتّع بقوى عسكرية هائلة أجمعت على حبّه ونصرته ، وكان الشنّي يحرّض الإمام (عليه السّلام) ويحفزّه على حرب أهل الشام بعد ما أحرزه مِن النصر في وقعة الجمل ، وقد قال له :

قل لهذا الإمام قد خبت الحر

بُ وتمّت بذلك النعماءُ

وفرغنا من حرب مَنْ نكث العهْـ

ـد وبالشام حيّةٌ صمّاءُ

٥٢

تنفث السمّ ما لمَنْ نهشته

فارمِها قبل أنْ تعض شفاءُ(1)

إيفادُ جرير :

وقبل أنْ يعلن الإمام (عليه السّلام) الحرب على غول الشام أوفد للقياه جرير بن عبد الله البجلي يدعوه إلى الطاعة والدخول فيما دخل فيه المسلمون من مبايعته ، وقد زوّده برسالة(2) دعاه فيها إلى الحقّ مِنْ أقصر سبيله ، وبأوضح أساليبه ، وفيها الحكمة الهادية لمَنْ أراد الهداية ، وشرح الله صدره ، وفجّر في فؤاده ينبوع النور. وانتهى جرير إلى معاوية فسلّمه رسالة الإمام (عليه السّلام) ، وألحّ عليه في الوعظ والنصيحة ، وكان معاوية يسمع منه ولا يقول له شيئاً ، وإنّما أخذ يطاوله ويسرف في مطاولته ، لا يجد لنفسه مهرباً سوى الإمهال والتسويف.

معاوية مع ابن العاص :

ورأى معاوية أنّه لن يستطيع التغلّب على الأحداث إلاّ إذا انضمّ إليه داهية العرب عمرو بن العاص فيستعين به على تدبير الحيل ، ووضع المخططات التي تؤدي إلى نجاحه في سياسته ، فراسله طالباً منه الحضور إلى دمشق. وكان ابن العاص فيما يقول المؤرّخون : قد وجد على عثمان حينما عزله عن مصر ، فكان يؤلّب الناس عليه ويحرّضهم على الوقيعة به ، وهو ممّن مهّد للفتنة والثورة عليه ، ولمّا أيقن بحدوث الانقلاب عليه خرج إلى أرض

__________________

(1) الأخبار الطوال / 145.

(2) الرسالة في وقعة صفّين / 34.

٥٣

كان يملكها بفلسطين فأقام فيها ، وجعل يتطلّع الأخبار عن قتله.

ولمّا انتهت رسالة معاوية إلى ابن العاص تحيّر في أمره ، فاستشار ولديه عبد الله ومُحمّداً ؛ أمّا عبد الله فكان رجل صدق وصلاح فأشار عليه أنْ يعتزل الناس ، ولا يجيب معاوية إلى شيء حتّى تجتمع الكلمة ويدخل فيما دخل فيه المسلمون ؛ وأمّا ابنه مُحمّد فقد طمع فيما يطمع فيه فتيان قريش مِن السعة والتقدّم وذيوع الاسم ، فقد أشار عليه بأنْ يلحق بمعاوية لينال من دنياه.

فقال عمرو لولده عبد الله : أمّا أنت فأمرتني بما هو خير لي في ديني. وقال لولده مُحمّد : أمّا أنت فأمرتني بما هو خير لي في دنياي. وأنفق ليله ساهراً يفكّر في الأمر هل يلتحق بعلي فيكون رجلاً كسائر المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم مِنْ دون أنْ ينال شيئاً مِنْ دنياه ، ولكنّه يضمن أمر آخرته ، أو يكون مع معاوية فيظفر بتحقيق ما يصبو إليه في الدنيا مِن الثراء العريض ، وهو لمْ ينسَ ولاية مصر فكان يحنّ إليها حنيناً متّصلاً ، وقد اُثر عنه تلك الليلة مِن الشعر ما يدلّ على الصراع النفسي الذي خامره تلك الليلة.

ولمْ يسفر الصبح حتّى آثر الدنيا على الآخرة ، فاستقرّ رأيه على الالتحاق بمعاوية ، فارتحل إلى دمشق ومعه ابناه ، فلمّا بلغها جعل يبكي أمام أهل الشام كما تبكي المرأة ، وهو يقول : وا عثماناه! أنعى الحياء والدين(1) .

قاتلك الله يابن العاص! أنت تبكي على عثمان وأنت الذي أوغرت عليه الصدور ، وأثرت عليه الأحقاد ، وكنت تلفي الراعي فتحرّضه عليه حتّى سُفك دمه! لقد بلغ التهالك على السلطة في ذلك العصر مبلغاً أنسى الناس دينهم ، فاقترفوا في سبيل ذلك كلّ ما حرّمه الله.

ولمّا التقى ابن العاص بمعاوية فتح معه الحديث في حربه مع الإمام (عليه السّلام) ، فقال ابن العاص :

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 129.

٥٤

ـ أمّا علي فوالله لا تساوي العرب بينك وبينه في شيء مِن الأشياء ، وإنّ له في الحرب لحظاً ما هو لأحد مِنْ قريش إلاّ أنْ تظلمه.

واندفع معاوية يبيّن دوافعه في حربه للإمام قائلاً : صدقت ، ولكنّا نقاتله على ما في أيدينا ، ونلزمه قتلة عثمان.

واندفع ابن العاص ساخراً منه قائلاً : وا سوأتاه! إنّ أحق الناس أنْ لا يذكر عثمان أنت!

ـ ولِمَ ويحك؟!

ـ أمّا أنت فخذلته ومعك أهل الشام حتّى استغاث بيزيد بن أسد البجلي فسار إليه ، وأمّا أنا فتركته عياناً وهربت إلى فلسطين(1) .

واستيقن معاوية أنّ ابن العاص لا يخلص له ، ورأى أنّ مِن الحكمة أنْ يستخلصه ويعطيه جزاءه مِن الدنيا ، فصارحه قائلاً : أتحبّني يا عمرو؟

ـ لماذا؟ للآخرة فوالله ما معك آخرة ، أم للدنيا؟ فوالله لا كان حتّى أكون شريكك فيها.

ـ أنت شريكي فيها؟

ـ اكتب لي مصر وكورها.

ـ لك ما تريد.

فسجّل له ولاية مصر ، وجعلها ثمناً لانضمامه إليه(2) في مناهضته لوصي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وقد ظفر بداهية مِنْ دواهي العرب ، وبشيخ مِنْ شيوخ قريش قد درس أحوال الناس ، وعرف كيف يتغلّب على الأحداث.

__________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 162.

(2) العقد الفريد 3 / 113.

٥٥

ردُّ جرير :

ولمّا اجتمع لمعاوية أمره وأحكم وضعه ردّ جرير ، وأرسل معه إلى الإمام (عليه السّلام) رسالة حمّله فيها المسؤولية في إراقة دم عثمان ، وعرّفه بإجماع أهل الشام على حربه إنْ لمْ يدفع له قتلة عثمان ، ويجعل الأمر شورى بين المسلمين.

وارتحل جرير إلى الكوفة فأنبأ علياً (عليه السّلام) بامتناع معاوية عليه ، وعظم له أمر أهل الشام ، ورأى الإمام أنْ يقيم عليه الحجّة مرّة أخرى ، فبعث له سفراء آخرين يدعونه إلى الطاعة والدخول فيما دخل فيه المسلمون ، إلاّ أنّ ذلك لمْ يجدِ شيئاً ، فقد أصرّ معاوية على غيّه وعناده حينما أيقن أنّ له القدرة على مناجزة الإمام (عليه السّلام) ومناهضته.

قميصُ عثمان :

وألهب معاوية بمكره وخداعه قلوب السذّج والبسطاء مِنْ أهل الشام حزناً وأسىً على عثمان ، فكان ينشر قيمصه الملطخ بدمائه على المنبر فيضجون بالبكاء والعويل ، واستخدم الوعّاظ فجعلوا يهوّلون أمره ، ويدعون الناس إلى الأخذ بثأره ، وكان كلّما فتر حزنهم عليه يقول له ابن العاص بسخرية واستهزاء : حرّك لها حوارها تحنّ.

فيخرج إليهم قميص عثمان فيعود لهم حزنهم ، وقد أقسموا أنْ لا يمسّهم الماء إلاّ مِن الاحتلام ، ولا يأتون النساء ، ولا ينامون على الفراش

٥٦

حتى يقتلوا قتلة عثمان(1) ، وكانت قلوبهم تتحرّق شوقاً إلى الحرب للأخذ بثأره. وقد شحن معاوية أذهانهم بأنّ علياً هو المسؤول عن إراقة دمه ، وأنّه قد آوى قتلته ، وكانوا يستنهضون معاوية للحرب ويستعجلونه أكثر منه.

زحفُ معاوية لصفّين :

وعلم معاوية أنّه لا بدّ من الحرب ؛ لأنّ الإمام (عليه السّلام) لا يحاب ولا يداهن في دينه ، فلا يقرّه على ولاية الشام ، ولا يسند له أي منصب من مناصب الدولة ، وإنّما يقصيه عن جميع أجهزة الحكم ؛ لما يعرفه عنه من الالتواء في دينه.

وسار معاوية في جموع أهل الشام ، وقدّم بين يديه الطلائع ، وقد أنزل أصحابه أحسن منزل وأقربه إلى شريعة الفرات ، وقد احتل الفرات ، وعُدّ هذا أوّل الفتح ؛ لأنّه حبس الماء على عدوّه ، وبقيت جيوشه رابضة هناك تصلح أمرها وتنضّم قواها استعداداً للحرب.

زحفُ الإمام (عليه السّلام) للحرب :

وتهيّأ الإمام (عليه السّلام) للحرب ، وقام الخطباء في الكوفة يحفّزون الناس للجهاد ، ويحثونهم على مناجزة معاوية بعدما أحرزوه من النصر الكبير في معركة الجمل ، وقد خطب فيهم الإمام الحسين (عليه السّلام) خطاباً رائعاً ومثيراً ، قال فيه بعد حمد الله والثناء عليه : «يا أهل الكوفة ، أنتم الأحبّة الكرماء ، والشعار دون الدثار ، جدّوا في

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 141.

٥٧

إطفاء ما دثر بينكم ، وتسهيل ما توعّر عليكم ؛ ألا إنّ الحرب شرّها ذريع ، وطعمها فظيع ، فمَنْ أخذ لها أهبتها ، واستعدّ لها عدّتها ، ولم يألم كلومها قبل حلولها فذاك صاحبها ، ومَنْ عاجلها قبل أوان فرصتها واستبصار سعيه فيها فذاك قمن ألاّ ينفع قومه ، وأن يهلك نفسه. نسأل الله بقوته أن يدعمكم بالفيئة»(1) .

وحفل هذا الخطاب بالدعوة إلى استعجال الحرب ، واستعداد الشام لها ، والإمعان في وسائلها ؛ فإنّ ذلك من موجبات النصر ، ومن وسائل التغلب على الأعداء ، وإنّ إهمال ذلك ، وعدم الاعتناء به ممّا يوجب الهزيمة والاندحار. ودلّ هذا الخطاب على خبرة الإمام (عليه السّلام) الواسعة في الشؤون العسكرية والحربية.

وتهيّأ الناس بعد خطاب سبط النّبي (صلّى الله عليه وآله) إلى الحرب ، وأخذوا يجدّون في تنظيم قواهم ، ولمّا تمّت عدّتهم زحف بهم الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) لحرب ابن أبي سفيان ، وقد قدم طلائعه ، وأمرهم أنْ لا يبدؤوا أهل الشام بقتال حتّى يدركهم.

وزحفت كتائب الجيش العراقي كأنّها السيل ، وهي على يقين أنّها إنّما تحارب القوى الباغية على الإسلام ، والمعادية لأهدافه. وقد جرت في أثناء مسيرة الإمام (عليه السّلام) أحداث كثيرة لا حاجة إلى إطالة الكلام بذكرها ، فإنّا لا نقصد بهذه البحوث أن نلمّ بها ، وإنّما نشير إليها بإيجاز.

احتلالُ الفرات :

ولمْ يجد أصحاب الإمام (عليه السّلام) شريعة على الفرات يستقون منها الماء إلاّ وهي

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 3 / 186.

٥٨

محاطة بالقوى المكثفة من جيش معاوية ؛ يمنعونهم أشدّ المنع من الاستسقاء من الماء ، ولمّا رأى الإمام (عليه السّلام) ذلك أوفد رسله إلى معاوية يطلبون منه أنْ يخلّي بينهم وبين الماء ليشربوا منه ، فلمْ تسفر مباحثهم معه أي شيء ، وإنّما وجدوا منه إصراراً على المنع يريد أنْ يحرمهم منه ، كما حرموا عثمان مِن الماء.

وأضرّ الظمأ بأصحاب الإمام (عليه السّلام) ، وانبرى الأشعث بن قيس يطلب الإذن من الإمام (عليه السّلام) أنْ يفتح باب الحرب ليقهر القوى المعادية على التخلّي عن الفرات ، فلمْ يجد الإمام (عليه السّلام) بداً من ذلك فأذن له ، فاقتتل الفريقان كأشدّ ما يكون القتال ، وكُتِبَ النصر لقوات الإمام (عليه السّلام) فاحتلّت الفرات ، وأراد أصحاب الإمام (عليه السّلام) أنْ يقابلوهم بالمثل فيحرمونهم منه ، كما صنعوا ذلك معهم ، ولكنّ الإمام (عليه السّلام) لمْ يسمح لهم بذلك ، وعمل معهم عمل المحسن الكريم فخلّى بينهم وبين الماء.

لقد كان اللؤم والخبث من عناصر الاُمويِّين وذاتياتهم ، فقد أعادوا على صعيد كربلاء ما اقترفوه من الجريمة في صفّين ، فحالوا بين الإمام الحسين (عليه السّلام) وبين الماء ، وتركوا عقائل الوحي ومخدرات الرسالة ، وصبية أهل البيت (عليهم السّلام) قد صرعهم العطش ، ومزّق الظمأ قلوبهم ، فلمْ يستجيبوا لأيّة نزعة إنسانية ، ولمْ ترقّ قلوبهم فيعطفوا عليهم بقليل من الماء.

رسلُ السلام :

وكان الإمام (عليه السّلام) متحرّجاً كأشدّ ما يكون التحرّج في سفك دماء المسلمين ، فقد جهد على نشر السلام والوئام ، فأوفد إلى معاوية عدي بن حائم ، وشبث بن ربعي ، ويزيد بن قيس ، وزياد بن حفصة يدعونه إلى حقن دماء المسلمين ، ويذكّرونه الدار الآخرة ، ويحذّرونه أنْ ينزل به ما نزل بأصحاب الجمل ، ولكنّ ابن هند لمْ يستجب لذلك ، وأصرّ على الغي والتمرد ، وقد

٥٩

حمّل الإمام (عليه السّلام) المسؤولية في قتل عثمان بن عفان ، وقد دفعه إلى العصيان ما يتمتّع به من القوى العسكرية واتفاق كلمتها ، وإصرارها على الطلب بدم عثمان.

ورجعت رسل السّلام وقد أخفقت في سفارتها ، واستبان لها أنّ معاوية مصمّم على الحرب ، ولا رغبة له في الصلح ، وأحاطوا الإمام (عليه السّلام) علماً بذلك ، فجعل يتهيّأ للحرب ، ويدعو الناس إلى القتال.

الحربُ :

وعبّأ الإمام (عليه السّلام) أصحابه على راياتهم واستعد للقتال ، وقد أمر أصحابه أنْ لا يبدؤوهم بقتال ، كما عهد لهم في حرب الجمل ، وأنْ لا يقتلوا مدبراً ، ولا يجهزوا على جريح ، ولا يمثّلوا بقتيل ، ولا يهيجوا امرأة إلى غير ذلك من الوصايا التي تمثّل شرف القيادة العسكرية في الإسلام.

وجعلت فرق من جيش الإمام (عليه السّلام) تخرج إلى فرق من جيش معاوية فيقتتل الفريقان نهاراً كاملاً أو طرفاً منه ، ثمّ يتحاجزان من دون أنْ تقع حرب عامة بينهما ، وقد رجا الإمام (عليه السّلام) بذلك أنْ يثوب معاوية إلى الصلح وحقن الدماء. ودام الأمر على هذا حفنة من الأيام من شهر ذي الحجّة ، فلمّا أطلّ شهر الحرام ، وهو من الأشهر التي يحرم فيها القتال في الجاهلية والإسلام توادعوا شهرهم كلّه ، واُتيح للفريقين أنْ يقتلوا آمنين ، وقد آمن بعضهم بعضاً ولمْ تقع بينهم أي حرب ، وقد سعت بينهم سفراء السلم إلاّ أنّها أخفقت في سعيها.

وقد احتدم الجدال بين الفريقين ؛ فأهل العراق يدعون أهل الشام إلى جمع الكلمة وحقن الدماء ، ومبايعة وصي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، والدخول فيما دخل فيه المسلمون ، وأهل الشام يدعون العراقيّين إلى الطلب بدم عثمان ورفض بيعة الإمام (عليه السّلام) ، وإعادة الأمر شورى بين المسلمين.

٦٠

العزّة والكرامة

من أبرز الصفات النفسيّة الماثلة في شخصية سيدة النساء زينب (عليها السّلام) هي العزّة والكرامة؛ فقد كانت من سيّدات نساء الدنيا في هذه الظاهرة الفذّة، فقد حُملت بعد مقتل أخيها من كربلاء إلى الكوفة سبيّة، ومعها بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد نُهب جميع ما عليهنّ من حُلي وما عندهنّ من أمتعة، وقد أضرّ الجوع بأطفال أهل البيت وعقائلهم، فترفّعت العقيلة أن تطلب من اُولئك الممسوخين - من شرطة ابن مرجانة - شيئاً من الطعام لهم.

ولمّا انتهى موكب السبايا إلى الكوفة، وعلمنَ النساء أنّ السبايا من أهل بيت النبوّة، سارعنَ إلى تقديم الطعام إلى الأطفال الذين ذوت أجسامهم من الجوع، فانبرت السيّدة زينب مخاطبة نساء أهل الكوفة قائلة: الصدقة محرّمة علينا أهل البيت.

ولمّا سمع أطفال أهل البيت (عليهم السّلام) من عمّتهم ذلك ألقوا ما في أيديهم وأفواههم من الطعام، وأخذ بعضهم يقول لبعض: إنّ عمّتنا تقول: الصدقة حرام علينا أهل البيت.

أيّ تربية فذّة تربّى عليها أطفال أهل البيت (عليهم السّلام)! إنّها تربية الأنبياء والصدّيقين التي تسمو بالإنسان فترفعه إلى مستوى رفيع يكون من أفضل خلق الله.

ولمّا سُيّرت سبايا أهل البيت (عليهم السّلام) من الكوفة إلى الشام لم تطلب السيدة زينب طيلة الطريق أيّ شيء من الإسعافات إلى الأطفال والنساء مع شدّة الحاجة إليها؛ فقد أنفت أن تطلب أيّ مساعدة من اُولئك الجفاة الأنذال الذين رافقوا الموكب.

لقد ورثت عقيلة بني هاشم من جدّها وأبيها العزّة والكرامة، والشرف والإباء، فلم تخضع لأيّ أحدٍ مهما قست الأيام وتلبّدت الظروف، إنّها لم تخضع إلاّ إلى الله تعالى.

الشجاعة

ولم يشاهد الناس في جميع مراحل التأريخ أشجع ولا أربط جأشاً ولا أقوى جناناً من

٦١

الاُسرة النبويّة الكريمة؛ فالإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه) عميد العترة الطاهرة كان من أشجع خلق الله، وهو القائل:«لو تضافرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها» .

وقد خاض أعنف المعارك وأشدّها قسوة، فجندل الأبطال وألحق بجيوش الشرك أفدح الخسائر، وقد قام الإسلام عبل الذراع مفتول الساعد بجهاده وجهوده، فهو معجزة الإسلام الكبرى، وكان ولده أبو الأحرار الإمام الحسين (عليه السّلام) مضرب المثل في بسالته وشجاعته؛ فقد حيّر الألباب وأذهل العقول بشجاعته وصلابته وقوّة بأسه.

فقد وقف يوم العاشر من المحرّم موقفاً لم يقفه أيّ أحدٍ من أبطال العالم؛ فإنّه لم ينهار أمام تلك النكبات المذهلة التي تعصف بالحلم والصبر، فكان يزداد انطلاقاً وبشراً كلّما ازداد الموقف بلاءً ومحنةً. فإنّه بعدما صُرعَ أصحابه وأهل بيته زحف عليه الجيش بأسره - وكان عدده فيما يقول الرواة ثلاثين ألفاً - فحمل عليهم وحده، وقد طارت أفئدتهم من الخوف والرعب، فانهزموا أمامه كالمعزى إذا شدّ عليها الذئب - على حدّ تعبير بعض الرواة - وبقي صامداً كالجبل يتلقى الطعنات والسهام من كلّ جانب، لم يوهن له ركن ولم تضعف له عزيمة.

يقول العلوي السيّد حيدر:

فتلقّى الجموعَ فرداً = ولكن كلُّ عضو في الروعِ منهُ جموعُ

رمحهُ من بنانهِ و كأنّ من = عزمهِ حدُّ سيفهِ مطبوعُ

زوّج السيفَ بالنفوسِ و لكن = مهرُها الموت والخضابُ النجيعُ

ولمّا سقط (سلام الله عليه) على الأرض جريحاً قد أعياه نزف الدماء تحامى الجيش الاُموي من الإجهاز عليه؛ خوفاً ورعباً منه. يقول السيد حيدر:

عفيراً متى عاينتهُ الكماة = يختطف الرعبُ ألوانَها

فما أجلت الحربُ عن مثلهِ = صريعاً يجبّنُ شجعانَها

٦٢

وتمثّلت هذه البطولة العلوية بجميع صورها وألوانها عند حفيدة الرسول وعقيلة بني هاشم السيدة زينب (سلام الله عليها)؛ فإنّها لمّا مثلت أمام الإرهابي المجرم سليل الأدعياء ابن مرجانة احتقرته واستهانت به، فاندفع الأثيم يظهر الشماتة بلسانه الألكن قائلاً: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم، وكذّب اُحدوثتكم.

فانبرت حفيدة الرسول بشجاعة وصلابة قائلة: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه، وطهّرنا من الرجس تطهيراً، إنّما يُفتضح الفاسق ويُكذب الفاجر، وهو غيرنا يابن مرجانة...(١) .

لقد قالت هذا القول الصارم الذي هو أمض من السلاح، وهي والمخدّرات من آل محمّد في قيد الأسر، وقد رفعت فوق رؤوسهنَّ رؤوس حماتهنَّ، وشهرت عليهنَّ سيوف الملحدين. لقد أنزلت العقيلة - بهذه الكلمات - الطاغية من عرشه إلى قبره، وعرّفته أمام خدمه وعبيده أنّه المفتضح والمنهزم، وأنّ أخاها هو المنتصر.

ولم يجد ابن مرجانة كلاماً يقوله سوى التشفّي بقتل عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، قائلاً: كيف رأيت صنع الله بأخيك(٢) ؟

وانطلقت عقيلة بني هاشم ببسالة وصمود، فأجابت بكلمات الظفر والنصر لها ولأخيها قائلة: ما رأيت إلاّ جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتُحاجّ وتُخاصم، فانظر لمَنْ الفلج يومئذ، ثكلتك أُمّك يابن مرجانة!

أرأيتم هذا التبكيت الموجع؟ أرأيتم هذه الشجاعة العلوية؟ فقد سجّلت

____________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٣.

(٢) زينب الكبرى / ٦١.

٦٣

حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بموقفها وكلماتها فخراً للإسلام وعزّاً للمسلمين، ومجداً خالداً للاُسرة النبويّة.

أمّا موقفها في بلاط يزيد، وموقفها مع الشامي وخطابها الثوري الخالد فقد هزّ العرش الاُموي، وكشف الواقع الجاهلي ليزيد ومن مكّنه من رقاب المسلمين، وسنعرض لخطابها وسائر مواقفها المشرّفة في البحوث الآتية.

الزهد في الدنيا

ومن عناصر سيّدة النساء زينب (عليها السّلام) الزهد في الدنيا؛ فقد بذلت جميع زينتها ومباهجها مقتدية بأبيها الذي طلّق الدنيا ثلاثاً لا رجعة له فيها، ومقتدية باُمّها سيّدة نساء العالمين، زهراء الرسول.

فقد كانت - فيما رواه المؤرّخون - لا تملك في دارها سوى حصير من سعف النخل، وجلد شاة، وكانت تلبس الكساء من صوف الإبل، وتطحن بيدها الشعير، إلى غير ذلك من صنوف الزهد والإعراض عن الدنيا. وقد تأثّرت عقيلة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بهذه الروح الكريمة فزهدت في جميع مظاهر الدنيا، وكان من زهدها أنّها ما ادّخرت شيئاً من يومها لغدها حسب ما رواه عنها الإمام زين العابدين (عليه السّلام)(١) .

وقد طلقت الدنيا وزهدت فيها وذلك بمصاحبتها لأخيها أبي الأحرار؛ فقد علمت أنّه سيستشهد في كربلاء، أخبرها بذلك أبوها، فصحبته وتركت زوجها الذي كان يرفل بيته بالنعيم ومتع الحياة، رفضت ذلك كلّه وآثرت القيام مع أخيها لنصرة الإسلام والذبّ عن مبادئه وقيمه، وهي على علم بما تشاهده من مصرع أخيها، وما يجري عليها بالذّات من الأسر والذلّ.

لقد قدّمت على ذلك خدمة لدين الله تعالى.

____________________

(١) صحيح الترمذي ٢ / ٣١٩، وقريب منه رواه الحاكم في مستدركه ٣ / ١٤٩، وابن الأثير في اُسد الغابة ٥ / ٥٢٣، والخطيب في تأريخ بغداد ٧ / ٣٦، وغيرهم.

٦٤

أحداث مروّعة(*)

وقطعت عقيلة بني هاشم شوطاً من حياة الصبا في كنف جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وفي ذرى عطفه، وهي ناعمة البال قريرة العين، يتلقّاها بمزيدٍ من الحفاوة والتكريم، وترى أبويها وقد غمرتهما المودّة والاُلفة والتعاون، فكانت حياتهما أسمى مثل للحياة الزوجية في الإسلام.

وقد نشأت في ذلك البيت الذي سادت فيه تلاوة كتاب الله العزيز، وآداب الإسلام وأحكامه وتعاليمه؛ فكان مركزاً للتقوى ومعهداً لمعارف الإسلام. كما شاهدت الانتصارات الرائعة التي أحرزها الإسلام في الميادين العسكرية، واندحار القبائل القرشية التي ناهضت الإسلام وناجزته بجميع ما تملك من قوّة؛ فقد اندحرت وأذلّها الله؛ فقد فتحت مكة وطُهّر بيتها الحرام من الأصنام والأوثان التي كانت تُعبد من دون الله تعالى.

ولعلّ من أهمّ ما شاهدته العقيلة في أدوار طفولتها هو احتفاء جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) بأبيها واُمّها وأخويها؛ فقد كانوا موضع اهتمامه وعنايته.وقد أثرت عنه كوكبة من الروايات أجمع المسلمون على صحتها، وهذه بعضها:

١ - روى زيد بن أرقم: أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال لعليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السّلام):«أنا حربٌ لمَنْ حاربتم، وسلم لمَنْ سالمتم» (١) .

____________________

(*) يبدو أنّ هذا العنوان قد وقع هنا سهواً من قِبل المؤلِّف أو الناسخ؛ إذ لا توجد بينه وبين الموضوع الذي تصدّره أيّةُ علاقة؛ اللهمَّ إلاّ إذا قلنا بشموليّته للعنوان وموضوعه الذي يأتي في أواخر الصفحة (٦٧) وإن كان هذا بعيداً عنه.(موقع معهد الإمامين الحسنَين)

(١) مسند أحمد ١ / ٧٧، صحيح الترمذي ٢ / ٣٠١، تهذيب التهذيب ١٠ / ٤٣٠، وجاء فيه أنّ نصر بن عليّ حدّث بهذا الحديث، فأمر المتوكّل بضربه ألف سوط، فكلّمه فيه جعفر بن عبد الواحد، وجعل يقول له: إنّه من أهل السنّة. فلم يزل يترجّاه حتّى تركه.

٦٥

٢ - روى أحمد بن حنبل بسنده: أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) أخذ بيد الحسن والحسين، وقال:«مَنْ أحبّني وأحبّ هذين وأباهما واُمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة» (١) .

٣ - روى أبو بكر قال: رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خيّم خيمة، وهو متكئ على قوس عربية، وفي الخيمة عليّ وفاطمة والحسن والحسين، فقال:«معاشر المسلمين، أنا سلم لمَنْ سالم أهل الخيمة، وحرب لمَنْ حاربهم، ووليّ لمَنْ والاهم، لا يحبّهم إلاّ سعيد الجدّ، ولا يبغضهم إلاّ شقي الجدّ، ردئ الولادة» (٢) .

٤ - روى ابن عباس أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال:«النجوم أمانٌ لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لاُمّتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس» (٣) .

٥ - روى زيد بن أرقم أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال:«إنّي تاركٌ فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر؛ كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما» (٤) .

٦ - روى أبو سعيد الخدري، قال: سمعت النبي (صلّى الله عليه وآله) يقول:«إنّما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح؛ مَن ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق. وإنّما مثل أهل بيتي

____________________

(١) الرياض النضرة ٢ / ٢٥٢.

(٢) مستدرك الحاكم ٣ / ١٤٩، كنز العمال ٦ / ١١٦، الصواعق المحرقة / ١١١. نصّ الحديث:((النجوم أمان لأهل الأرض، وأهل بيتي أمان لاُمّتي)) .

(٣) صحيح الترمذي ٢ / ٣٠٨، اُسد الغابة ٢ / ١٢، وما يقرب من هذا الحديث روي في كنز العمّال ١ / ٤٨، مجمع الهيثمي ٩ / ١٦٣.

(٤) مجمع الزوائد ٩ / ١٦٨، مستدرك الحاكم ٢ / ٤٣، تأريخ بغداد ٢ / ١٩، ذخائر العقبى / ٢٠.

٦٦

فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل؛ مَن دخله غفر له» (١) .

٧ - روى أبو برزة، قال: صلّيت مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سبعة أشهر، فإذا خرج من بيته، أتى باب فاطمة (عليها السّلام)، فقال:«السلام عليكم، ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) » (٢) .

رأت العقيلة هذا الاحتفاء البالغ من جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) لأبيها واُمّها وأخويها، ووعت الغاية من صنوف هذا التكريم والتعظيم، وأنّه ليس مجرّد عاطفة وولاء لهذه الاُسرة الكريمة، وإنّما هو للإشادة بما تتمتّع به من الصفات الفاضلة، والقابليات الفذّة التي ترشّحهم لقيادة الاُمّة، وتطويرها فكرياً واجتماعياً.

وأنّه لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تحتلّ اُمّته مركزاً كريماً تحت الشمس، وتكون رائدة لاُمم العالم وشعوب الأرض إلاّ بقيادة السادة من عترته الذين وعوا الإسلام، والتزموا بحرفية الرسول (صلّى الله عليه وآله).

خطوب مروّعة

ولم تدم الحالة الهانئة للاُسرة النبويّة، فقد دهمتهم كارثة مروّعة؛ فقد بدت على الرسول (صلّى الله عليه وآله) طلائع الرحيل عن هذه الدنيا تلوح أمامه، فكان القرآن الكريم قد نزل عليه مرتين، فاستشعر بدنوّ الأجل المحتوم منه(٣) ، وأخبر بضعته الزهراء (عليها السّلام)، فقال لها:

____________________

(١) ذخائر العقبى / ٢٤، روى أنس بن مالك: أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) كان يمرّ ببيت فاطمة ستّة أشهر إذا خرج إلى الفجر، ويقول:((الصلاة يا أهل البيت)) ، ويتلو الآية الكريمة. جاء ذلك في مجمع الزوائد ٩ / ١٦٩، أنساب الأشراف ١ / ١٥٧، القسم الأوّل.

(٢) الخصائص الكبرى ٢ / ٣٦٨.

(٣) تأريخ ابن كثير ٥ / ٢٢٣.

٦٧

«إنّ جبرئيل كان يعارضني بالقرآن في كلّ سنة مرّة، وأنّه عارضني بهذا العام مرّتين، وما أرى ذلك إلاّ اقتراب أجلي» (١) .

وتقطّع قلب زهراء الرسول ألماً وحزناً، وشاعت الكآبة والحزن عند أهل البيت وذوت عقيلة بني هاشم من هذا النبأ المريع، وطافت بها وهي في فجر الصبا تيارات من الأسى.

ونزلت على النبي (صلّى الله عليه وآله) سورة النصر، فكان يسكت بين التكبير والقراءة، ويقول:«سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه» .

وذهل المسلمون، وفزعوا إليه يسألونه عن هذه الحالة الراهنة، فأجابهم:«إنّ نفسي قد نُعيت إليّ» (٢) .

وكادت نفوس المسلمين أن تزهق من هذا النبأ المريع؛ فقد وقع عليهم كالصاعقة، فلا يدرون ماذا سيجري عليهم لو خلت الدنيا من منقذهم ومعلّمهم وقائدهم.

رؤيا العقيلة

ورأت العقيلة في منامها رؤياً أفزعتها وأذهلتها، فأسرعت إلى جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) تقصّها عليه، ولمّا مثلت عنده أجلسها في حجره، وجعله يوسعها تقبيلاً، فقالت له: يا جدّاه، رأيت رؤياً البارحة.

-«قصّيها عليّ» .

- رأيت ريحاً عاصفاً اسودّت الدنيا منها وأظلمت، ففزعتُ إلى شجرة عظيمة فتعلّقت بها من شدّة العاصفة، فقلعتها الرياح وألقتها على الأرض، فتعلّقت بغصنٍ

____________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب ١ / ١٦٧.

(٢) زينب الكبرى / ١٩.

٦٨

قويّ من تلك الشجرة فقطعتها الرياح، فتعلّقت بفرع آخر فكسرته الرياح أيضاً، وسارعت فتعلّقت بأحد فرعين من فروعها فكسرته العاصفة أيضاً، ثمّ استيقظت من نومي.

فأجهش النبي (صلّى الله عليه وآله) بالبكاء، وفسّر لها رؤياها قائلاً:«أمّا الشجرة فجدّك، وأمّا الفرع الأوّل فاُمّك، والثاني أبوك عليّ، والفرعان الآخران هما أخواك الحسنان، تسودّ الدنيا لفقدهم، وتلبسين لباس الحداد في رزيتهم» (١) .

وساد الحزن والأسى في البيت النبوي، وصدقت رؤيا العقيلة، فلم تمض أيام حتّى رُزئت بجدّها واُمّها، وتتابعت عليها بعد ذلك الرزايا، فقد استشهد أبوها وأخواها، ولبست عليهم لباس الحزن والحداد.

حجة الوداع

ولمّا علم النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّ لقاءه بربّه قريب، رأى أن يحجّ إلى بيت الله الحرام ليلتقي بالمسلمين ويضع لهم الخطوط السليمة لنجاتهم، ويقيم فيهم القادة والمراجع الذين يقيمون فيهم الحقّ والعدل.

وحجّ النبي (صلّى الله عليه وآله) لهذا الغرض، وهي حجّته الأخيرة الشهيرة بـ (حجّة الوداع)، وقد أشاع بين حجّاج بيت الله أنّ التقاءه بهم في هذا العام هو آخر التقاء بهم، وأنّه سيسافر إلى الفردوس الأعلى، وجعل يطوف بين الجماهير ويعرّفهم سبل النجاة، ويرشدهم إلى ولاة اُمورهم من بعده قائلاً:«أيّها الناس، إنّي تركت فيكم الثقلين؛ كتاب الله، وعترتي أهل بيتي» (٢) .

____________________

(١) صحيح الترمذي ٢ / ٣٠٨.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٩١ - ٩٢.

٦٩

ثمّ وقف النبي (صلّى الله عليه وآله) عند بئر زمزم، وخطب خطاباً رائعاً وحافلاً بما تحتاج إليه الاُمّة في مجالاتها الاجتماعية والسياسيّة، وقال فيما يخصّ القيادة الروحية والزمنية للاُمّة:«إنّي خلّفت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا؛ كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ألا هل بلّغت» .

فانبرت الجماهير بصوتٍ واحدٍ قائلين: اللهمّ نعم(١) .

لقد عيّن الرسول (صلّى الله عليه وآله) القيادة العامّة لاُمّته، وجعلها مختصة بأهل بيته؛ فهم ورثة علومه، وخزنة حكمته الذين يعنون بالإصلاح الاجتماعي، ويؤثرن مصلحة الاُمّة على كلّ شيء.

مؤتمر غدير خم

وقفل النبي (صلّى الله عليه وآله) بعد أداء مراسيم الحج إلى يثرب، وحينما انتهى موكبه إلى (غدير خم) نزل عليه الوحي برسالةٍ من السماء أن ينصب الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) خليفةً من بعده، ومرجعاً عاماً للاُمّة. لقد نزل عليه الوحي بهذه الآية:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (٢) .

ففي هذه الآية إنذار خطير إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله)؛ إذ إنّه إن لم يقم بهذه المهمة فما بلّغ رسالة ربّه، وضاعت جميع جهوده وأتعابه في سبيل هذا الدين. فانبرى (صلّى الله عليه وآله) فحطّ أعباء المسير، ووضع رحله في رمضاء الهجير، وأمر قوافل الحجّ أن تفعل مثل ذلك، وكان الوقت قاسياً في حرارته، فكان الرجل يضع طرف ردائه تحت قدميه

____________________

(١) الغدير ٢ / ٣٤.

(٢) سورة المائدة / ٦٧. نصّ على نزول هذه الآية في يوم الغدير الواحدي في أسباب النزول، والرازي في تفسيره، وغيرهما.

٧٠

ليتّقي به حرارة الأرض، وقام النبي (صلّى الله عليه وآله) فصلّى بالناس، وبعد أداء فريضة الصلاة أمر بأن يوضع له منبر من حدائج الإبل، فصُنع له ذلك فاعتلى عليه، واتّجهت الجماهير بعواطفها وقلوبها نحو النبي (صلّى الله عليه وآله)، فخطب خطاباً مهمّاً أعلن فيه ما لاقه من عناء شاق في سبيل هدايتهم، وتحرير إرادتهم، وإنقاذهم من خرافات الجاهليّة وعاداتها.

ثم ذكر طائفة من أحكام الإسلام وتعاليمه، وألزمهم بتطبيقها على واقع حياتهم، ثمّ التفت إليهم فقال:«انظروا كيف تخلفوني في الثقلين» .

فناداه منادٍ من القوم: ما الثقلان يا رسول الله؟

فأجابه:«الثقل الأكبر: كتاب الله، طرف بيد الله عزّ وجلّ وطرف بأيديكم، فتمسّكوا به لا تضلّوا، والآخر الأصغر: عترتي، وإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فسألت ذلك لهما ربّي، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا» .

ثمّ أخذ بيد وصيّه وباب مدينة علمه وناصر دعوته الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ليفرض ولايته على جميع المسلمين، فرفعها حتّى بان بياض إبطيهما، ونظر إليهما القوم، ورفع النبي (صلّى الله عليه وآله) صوته قائلاً:«أيّها الناس، مَنْ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟» . فانبرت قوافل الحجّاج رافعة عقيرتها: الله ورسوله أعلم.

ووضع النبي (صلّى الله عليه وآله) القاعدة الأصلية التي تصون المسلمين من الانحراف قائلاً:«إنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمَنْ كنت مولاه فعليّ مولاه» .

٧١

وكرّر هذا القول ثلاث مرّات أو أربع، ثمّ قال:«اللّهمّ وال مَنْ والاه، وعاد مَنْ عاداه، وأحبّ مَنْ أحبّه، وأبغض مَنْ أبغضه، وانصر مَنْ نصره، واخذل مَنْ خذله، وأدر الحقّ معه حيث دار. ألا فليبلغ الشاهد الغائب» .

لقد أدّى النبي (صلّى الله عليه وآله) رسالة ربّه؛ فنصب الإمام أمير المؤمنين خليفةً من بعده، وقلّده منصب الإمامة والمرجعية العامة، وأقبل المسلمون يهرعون صوب الإمام وهم يبايعونه بالخلافة، ويهنئونه بإمرة المسلمين وقيادتهم، وأمر النبيّ اُمّهات المؤمنين أن يهنئنَ الإمام بهذا المنصب العظيم ففعلنَ، وأقبل عمر بن الخطاب نحو الإمام فصافحه وهنّأه، وقال له: هنيئاً يابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة(١) .

وفي ذلك اليوم الخالد نزلت الآية الكريمة:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً ) (٢) .

قد تمّت نعمة الله الكبرى على المسلمين بولاية بطل الإسلام ورائد العدالة الاجتماعية في الأرض الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وقد خطا النبي (صلّى الله عليه وآله) الخطوة الأخيرة في أداء رسالته، فصان اُمّته من الزيغ والانحراف؛ فنصب لها القائد والموجّه، ولم يتركها فوضى - كما يزعمون - تتلاعب بها الفتن والأهواء، وتتقاذفها أمواج من الضلال.

إنّ وثيقة الغدير من أروع الأدلّة وأوثقها على اختصاص الخلافة والإمامة بباب مدينة علم النبي الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وهي جزء من رسالة الإسلام وبند من أهم بنوده؛ لأنّها تبنّت القضايا المصيرية للعالم الإسلامي على امتداد التأريخ.

____________________

(١) مسند أحمد ٤ / ٢٨١.

(٢) سورة المائدة / ٣. نصّ على نزول هذه الآية في يوم الغدير الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ٨ / ٢٩، السيوطي في الدر المنثور، وغيرهما من أعلام أهل السنّة.

٧٢

لقد وعت سيّدة النساء زينب (عليها السّلام) وهي في فجر الصبا هذه البيعة لأبيها، وأنّ جدّها قد قلّده بهذا المنصب الخطير لسلامة الاُمّة وتطورها، والبلوغ بها إلى أعلى المستويات من التقدّم، والقيادة العامة لشعوب العالم واُمم الأرض، ولكنّ القوم قد سلبوا أباها هذا المنصب، وجعلوه في معزل عن الحياة الاجتماعية والسياسيّة، وقد أخلدوا بذلك للاُمّة المحن والخطوب، وتجرّعت حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله) بالذّات أهوالاً من المصائب والكوارث كانت ناجمة - من دون شك - عن هذه المؤامرة التي حيكت ضدّ أبيها، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

مرض النبي (صلّى الله عليه وآله)

ولمّا قفل النبي (صلّى الله عليه وآله) بعد حجة الوداع راجعاً إلى يثرب بدأت صحّته تنهار يوماً بعد يوم، فقد ألمّ به المرض، وأصابته حمّى مبرحة حتّى كأنّ به لهباً منها، وكانت عليه قطيفة فإذا وضع أزواجه وعوّاده عليها أيديهم شعروا بحرّها(١) .

وقد وضعوا إلى جواره إناءً فيه ماء بارد، فكان يضع يده فيه ويمسح به وجهه الشريف، وكان (صلّى الله عليه وآله) يقول:«ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلته بـ (خيبر)، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم» (٢) ؛ فقد قدّمت له امرأة يهودية في خيبر ذلك الطعام الذي سمّته فأثّر فيه.

ولمّا اُشيع مرض النبي (صلّى الله عليه وآله) هرع المسلمون إلى عيادته، وقد خيّم عليهم الأسى والذهول، فنعى (صلّى الله عليه وآله) إليهم نفسه، وأوصاهم بما يسعدون ويفلحون به قائلاً:«أيّها الناس، يوشك أن اُقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي، وقدّمت إليكم القول

____________________

(١) البداية والنهاية ٥ / ٢٢٦.

(٢) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ١ / ٢٠٢.

٧٣

معذرة إليكم، ألا إنّي مخلّفٌ فيكم كتاب الله عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي» .

ثمّ أخذ بيد وصيّه وخليفته الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، فقال لهم:«هذا علي مع القرآن، والقرآن مع علي لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض» (١) .

لقد قرّر النبي (صلّى الله عليه وآله) أهم القضايا المصيرية لاُمّته، فعيّن لها القائد العظيم الذي يحقّق لها جميع أهدافها وما تصبو إليه في حياتها.

سرية اُسامة

ورأى النبي (صلّى الله عليه وآله) وهو في المرحلة الأخيرة من حياته التيارات الحزبية التي صمّمت على إقصاء عترته عن قيادة الاُمّة، فرأى أنّ خير وسيلة يتدارك بها الموقف أن يزجّ بجميع أصحابه في بعثة عسكرية، حتّى إذا وافاه الأجل المحتوم تكون عاصمته خالية من العناصر المضادّة لوليّ عهده؛ فأسند قيادة البعثة إلى اُسامة بن زيد، وهو شاب في مقتبل العمر، وكان من بين الجنود أبو بكر وعمر، وأبو عبيدة الجراح وبشير بن سعد(٢) .

وقال النبي (صلّى الله عليه وآله) لاُسامة:«سِر إلى موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل؛ فقد ولّيتك هذا الجيش، فاغزُ صباحاً على أهل أبنى (٣) ، وحرّق عليهم، وأسرع السير لتسبق الأخبار، فإن أظفرك الله عليهم فاقلل اللبث فيهم، وخذ معك الأدلاء، وقدّم العيون والطلائع معك» .

ومُني الجيش بالتمرّد وعدم الطاعة، فلم يلتحق أعلام الصحابة بوحداتهم

____________________

(١) الصواعق المحرقة / ١٢٤.

(٢) كنز العمّال ٥ / ٣١٢، طبقات ابن سعد ٤ / ٤٦، تأريخ الخميس ٢ / ٤٦.

(٣) ابنى: ناحية بالبلقاء من أرض سوريا، بين عسقلان والرملة، تقع بالقرب من مؤتة، وهي التي استشهد فيها زيد بن حارثة وجعفر الطيّار.

٧٤

العسكرية، ولمّا علم النبي (صلّى الله عليه وآله) بذلك تألّم، فخرج مع ما به من المرض، فحثّ الجند على المسير، وعقد بنفسه اللواء لاُسامة، وقال له:«اغزُ بسم الله، وفي سبيل الله، وقاتل مَنْ كفر بالله» .

فخرج اُسامة بلوائه معقوداً ودفعه إلى بريده، وعسكر بـ (الجرف)، وتثاقل جمع من الصحابة عن الالتحاق بالمعسكر، وأظهروا الطعن والاستخفاف باُسامة القائد العام للجيش.

يقول له عمر: مات رسول الله وأنت عليَّ أمير؟!

وانتهت كلماته إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وقد أخذت منه الحمّى مأخذاً عظيماً، فخرج وهو معصّب الرأس قد برح به المرض، فصعد المنبر والتأثّر بادٍ عليه، فقال:«أيّها الناس، ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري اُسامة، ولئن طعنتم في تأميري اُسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله. وأيم الله، إنّه كان خليقاً بالإمارة، وإنّ ابنه من بعده لخليقٌ بها» .

ثمّ نزل عن المنبر ودخل بيته والتأثّر بادٍ عليه(١) ، وجعل يوصي أصحابه بالالتحاق بالجيش قائلاً:«جهّزوا جيش اُسامة، نفّذوا جيش اُسامة، لعن الله مَنْ تخلّف عن جيش اُسامة» .

ولم ترهف عزائم القوم هذه الأوامر المشدّدة؛ فقد تثاقلوا عن الالتحاق بالجيش، واعتذروا للرسول بشتّى المعاذير، وهو (صلّى الله عليه وآله) لم يمنحهم العذر، وإنّما أظهر لهم السخط وعدم الرضا؛ فقد استبانت له بصورة جلية نيّاتهم وتآمرهم، كما عرفوا قصده بهذا الاهتمام البالغ من إخراجهم من يثرب.

____________________

(١) السيرة الحلبية ٣ / ٣٤.

٧٥

رزية يوم الخميس

وأحاط النبي (صلّى الله عليه وآله) علماً بالتحرّكات السياسيّة من بعض أصحابه، وأنّهم عازمون ومصرّون على صرف الخلافة عن أهل بيته، وإفساد ما أعلنه غير مرّة من أنّ عترته الأزكياء هم ولاة أمر المسلمين من بعده، فرأى (صلّى الله عليه وآله) أن يحكم الأمر ويحمي اُمّته من الفتن والزيغ، فقال لمَنْ حضر في مجلسه:«ائتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً» (١) .

حقّاً إنّها فرصة من أثمن الفرص وأندرها في تأريخ الإسلام، إنّه التزام واضح وصريح من سيّد الكائنات أنّ اُمّته لا تُصاب بنكسة وانحراف بعد هذا الكتاب.

ما أعظم هذه النعمة على المسلمين، إنّه ضمان من سيد الأنبياء أن لا تضلّ اُمّته في مسيرتها وتهتدي إلى سواء السبيل في جميع مراحل تأريخها، واستبان لبعض القوم ماذا يكتب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، إنّه سينصّ على خلافة عليّ من بعده، ويعزّز بيعة يوم الغدير، وتضيع بذلك أطماعهم ومصالحهم، فردّ عليه أحدهم قائلاً بعنف: حسبنا كتاب الله.

ولو كان هذا القائل يحتمل أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) يوصي بحماية الثغور، أو بالمحافظة على الشؤون الدينية ما ردّ عليه بهذه الجرأة، ولكنّه علم قصده أنّه سيوصي بأهل بيته وينصّ على خلافة عليّ من بعده.

وكثر الخلاف بين القوم؛ فطائفة حاولت تنفيذ ما أمر به النبي (صلّى الله عليه وآله)، وطائفة اُخرى أصرّت على معارضتها والحيلولة بين ما أراده النبي (صلّى الله عليه وآله). وانطلقت بعض السيّدات فأنكرن على القوم هذا الموقف المتّسم بالجرأة على النبي (صلّى الله عليه وآله) وهو في الساعات الأخيرة من حياته، فقلن لهم: ألا تسمعون ما يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟!

فثار عمر وصاح فيهنّ؛ خوفاً أن يفلت الأمر منه ومن حزبه، فقال للسيدات:

____________________

(١) الرواية أخرجها البخاري ومسلم، والطبراني في الأوسط، وغيرهم.

٧٦

إنكنّ صويحبات يوسف؛ إذا مرض عصرتنَّ أعينكنَّ، وإذا صح ركبتنَّ عنقه.

فنظر إليه النبي (صلّى الله عليه وآله) بغضبٍ وغيظٍ، وقال له:«دعوهنّ فإنّهنّ خير منكم» .

وبدا صراع رهيب بين القوم، وكادت أن تفوز الجهة التي أرادت تنفيذ أمر النبي (صلّى الله عليه وآله)، فانبرى أحدهم فأفشل ما أراده النبي (صلّى الله عليه وآله)، وحال بينه وبين ما أراد من إسعاد اُمّته، فقال - ويا لهول ما قال -: إنّ النبيّ ليهجر(١) .

ألم يسمع هذا القائل كلام الله تعالى الذي يُتلى في آناء الليل وأطراف النهار وهو يعلن تكامل النبي في جميع مراحل حياته؛ فقد زكّاه وعصمه من الهجر وغيره من ألوان الزيغ والانحراف، وإنّه أسمى شخصية في تكامله وسموّ ذاته، قال تعالى:( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) (٢) ، وقال تعالى:( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ) (٣) .

إنّ القوم لم يخامرهم أدنى شك في عصمة النبي وتكامل ذاته، ولكن حبّ الدنيا والتهالك على السلطة دفهم للجرأة على النبي (صلّى الله عليه وآله)، ومقابلتهم له بمرّ القول والطعن بشخصيته.

وكان ابن عباس إذا ذكر هذا الحادث الرهيب يبكي حتّى تسيل دموعه على خديه كأنّها نظام اللؤلؤ، وهو يصعد آهاته ويقول: يوم الخميس! وما يوم الخميس! قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):«ائتوني بالكتف

____________________

(١) نصّ على هذه الحادثة المؤلمة جميع الرواة والمؤرّخين في الإسلام، ذكرها: البخاري في صحيحه عدّة مرّات، إلاّ أنّه كتم اسم قائلها، وفي نهاية غريب الحديث، وشرح النهج ٣ / ١١٤ (صُرّح باسم القائل).

(٢) سورة النجم / ٢ - ٥.

(٣) سورة التكوير / ١٩ - ٢٢.

٧٧

والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً» . فقالوا: إنّ رسول الله يهجر(١) .

حقّاً إنّها رزية الإسلام الكبرى؛ فقد حيل بين المسلمين وسعادتهم ونجاتهم من الزيغ والضلال.

لقد وعت السيّدة زينب هذا الحادث الخطير، ووقفت على أهداف القوم من إبعاد أبيها عن المركز الذي نصبه جدّها فيه، فقد جرّ هذا الحادث وغيره ممّا صدر من القوى المعارضة لأهل البيت الكوارث والخطوب لهم، وما كارثة كربلاء إلاّ من نتائج هذه الأحداث.

لوعة الزهراء (سلام الله عليها)

ونخب الحزن قلب بضعة الرسول، وبرح بها الألم القاسي، وذهبت نفسها شعاعاً حينما علمت أنّ أباها مفارق لهذه الحياة؛ فقد جلست إلى جانبه وهي مذهولة كأنّها تعاني آلام الاحتضار، وسمعته يقول:«واكرباه!» .

فأسرعت وهي تجهش بالبكاء قائلة:«وا كربي لكربك يا أبتي!» .

وأشفق الرسول (صلّى الله عليه وآله) على بضعته، فقال لها مسلّياً:«لا كرب على أبيك بعد اليوم» (٢) .

وهامت زهراء الرسول في تيّارات مروعة من الأسى والحزن، فقد أيقنت أنّ أباها سيفارقها، وأراد النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يسلّيها ويخفّف لوعة مصابها، فأسرّ إليها بحديثٍ، فلم تملك نفسها أن غامت عيناها بالدموع، ثم أسرّ إليها ثانياً، فقابلته

____________________

(١) مسند أحمد ١ / ٣٥٥، وغيره.

(٢) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ١١٢.

٧٨

ببسمات فيّاضة بالبشر والسرور، فعجبت عائشة من ذلك، وراحت تقول: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن.

وأسرعت عائشة فسألت زهراء الرسول عما أسرّ إليها أبوها، فأشاحت بوجهها الكريم عنها، وأبت أن تخبرها، ولكنّها أخبرت بعض السيّدات بذلك، فقالت:«أخبرني أنّ جبرئيل كان يعارضني بالقرآن في كلّ سنة مرّة، وأنّه عارضني في هذا العام به مرّتين، ولا أراه إلاّ قد حضر أجلي» .

وكان هذا هو السبب في لوعتها وبكائها، أمّا سبب سرورها وابتهاجها، فقالت:«أخبرني أنّكِ أوّل أهل بيتي لحوقاً بي، ونِعمَ السلف أنا لك، ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء هذه الاُمّة؟» (١) .

ونظر إليها النبي (صلّى الله عليه وآله) وهي خائرة القوى، منهدّة الركن، فأخذ يخفّف عنها لوعة المصاب قائلاً:«يا بُنيّة، لا تبكي، وإذا متّ فقولي: إنّا لله وإنّا إليه راجعون؛ فإنّ فيها من كلّ ميّت معوضة» .

وأجهشت بضعة الرسول بالبكاء قائلةً:«ومنك يا رسول الله؟» .

«نعم، ومنّي» (٢) .

واشتدّ المرض برسول الله (صلّى الله عليه وآله) والزهراء إلى جانبه، وهي تبكي وتقول لأبيها:«يا أبت، أنت كما قال القائل فيك:

____________________

(١) المصدر السابق / ١١٣.

(٢) أنساب الأشراف ١ / ١٣٣، القسم الأوّل.

٧٩

وأبيضَ يُستسقى الغمامُ بوجهه = ثمال اليتامى عصمة للأراملِ))

فقال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله):«هذا قول عمّك أبي طالب» . وتلا قوله تعالى:( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) (١) .

وتقطّع قلب زهراء الرسول ألماً وحزناً على أبيها، فانكبّت عليه ومعها الحسنان، فألصقت صدرها بصدره وهي غارقة في البكاء، فأجهش النبي (صلّى الله عليه وآله) بالبكاء، وهو يقول:«اللّهمّ أهل بيتي، وأنا مستودعهم كلّ مؤمن» .

وجعل يردّد ذلك ثلاث مرّات حسبما يرويه أنس بن مالك(٢) .

أمّا حفيدة الرسول زينب فقد شاركت اُمّها في لوعتها وأحزانها، وقد ذابت نفسها حزناً وموجدة على اُمّها التي هامت في تيّارات مذهلة من الأسى والشجون على أبيها الذي هو عندها أعزّ من الحياة.

إلى الفردوس الأعلى

وبعدما أدّى النبي العظيم رسالة ربّه إلى المسلمين، وأقام صروح الإسلام، وعيّن القائد العام لاُمّته الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، فقد اختاره الله تعالى إلى جواره لينعم في الفردوس الأعلى، فقد هبط عليه ملك الموت، فاستأذن بالدخول عليه، فخرجت إليه زهراء الرسول فأخبرته أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مشغول بنفسه عنه، فانصرف ثمّ عاد بعد قليل يطلب الإذن، فأفاق النبي (صلّى الله عليه وآله) من إغمائه، والتفت إلى بضعته فقال لها:«يا بُنية، أتعرفينه؟» .

____________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ١٣٣، القسم الأوّل.

(٢) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ١ / ٢١٦.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343