السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام16%

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 343

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 186398 / تحميل: 8251
الحجم الحجم الحجم
السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

السيدة زينب رائدة الجهاد في الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

-«لا يا رسول الله» .

-«إنّه معمّر القبور، ومخرّب الدور، ومفرّق الجماعات» .

وجمدت بضعة الرسول، وأخرسها الخطب، ولم تملك نفسها أن رفعت صوتها ودموعها تتبلور على وجهها الشريف قائلةً:«وا أبتاه لخاتم الأنبياء! وا مصيبتاه لممات خير الأتقياء، ولانقطاع سيّد الأصفياء! وا حسرتاه لانقطاع الوحي من السماء! فقد حُرمت اليوم كلامك» .

وتصدّع قلب النبي (صلّى الله عليه وآله) على بضعته، وأشفق عليها، فقال لها مسلّياً:«لا تبكي؛ فإنّك أوّل أهلي لحوقاً بي» (١) .

وسكنت روعتها لمّا أخبرها أنّها لا تبقى بعده إلاّ قليلاً.. وأذن النبي (صلّى الله عليه وآله) لملك الموت، فلمّا مثلَ أمامه، قال له: يا رسول الله، إنّ الله أرسلني إليك، وأمرني أن اُطيعك في كلّ ما أمرتني؛ إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها، وإن أمرتني أتركها تركتها.

فبُهر النبي (صلّى الله عليه وآله) وقال له:«أتفعل يا ملك الموت ذلك؟!» .

- بذلك اُمرت أن اُطيعك في كلّ ما أمرتني.

وهبط جبرئيل على النبي (صلّى الله عليه وآله)، فقال له: يا أحمد، إنّ الله قد اشتاق إليك(٢) .

واختار النبي (صلّى الله عليه وآله) جوار ربّه والرحيل عن هذه الدنيا، فأذن لملك الموت بقبض روحه العظيمة، وفي هذه اللحظات ألقى الحسنان بأنفسهما على جدّهما وهما يذرفان الدموع، والنبي (صلّى الله عليه وآله) يوسعهما تقبيلاً، وأراد الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) أن ينحّيهما عنه، فأبى النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وقال له:

____________________

(١) درّة الناصحين / ٦٦.

(٢) طبقات ابن سعد ٢ / ٤٨.

٨١

«دعهما يتمتّعان منّي وأتمتّع منهما؛ فسيصيبهما بعدي أثرة» .

والتفت النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى عوّاده فأوصاهم بعترته قائلاً:«قد خلّفت فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فالمضيّع لكتاب الله كالمضيع لسنّتي، والمضيّع لسنّتي كالمضيّع لعترتي، إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» (١) .

والتفت النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى باب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، فقال له:«ضع رأسي في حجرك فقد جاء أمر الله؛ فإذا فاضت نفسي فتناولها وامسح بها وجهك، ثم وجّهني إلى القبلة وتولّ أمري، وصلّ عليّ أوّل الناس، ولا تفارقني حتّى تواريني في رِمسي، واستعن بالله عزّ وجلّ» (٢) .

وأخذ الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) رأس النبي (صلّى الله عليه وآله) فوضعه في حجره، ومدّ يده اليمنى تحت حنكه، وشرع ملك الموت بقبض روحه الطاهرة، والرسول يعاني آلام الموت وقسوته حتّى فاضت روحه العظيمة، فمسح بها الإمام وجهه(٣) .

لقد ارتفع ذلك اللطف الإلهي الذي أضاء العقول وحرّر الأفكار، وأقام مشاعل النور في جميع بقاع الأرض. لقد سمت روح النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى بارئها، وهي أقدس روح سمت إلى السماء منذ خلق الله هذه الأرض. لقد أشرقت الآخرة لقدومه، وأظلمت الدنيا لفقده، وما أصيبت الإنسانيّة بكارثة أقسى وأعظم من فقد الرسول العظيم.

____________________

(١) مقتل الحسين - الخوارزمي ١ / ١١٤.

(٢) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ١ / ٢٢٠.

(٣) المناقب ١ / ٢٩، وتضافرت الأخبار بأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) توفّي ورأسه الشريف في حجر الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، جاء ذلك في كنز العمّال ٢ / ٥٥، طبقات ابن سعد، وغيرهما.

٨٢

تجهيزه (صلوات الله عليه وعلى آله)

وانبرى الإمام أمير الؤمنين (عليه السّلام) وهو خائر القوى، منهدّ الركن إلى تجهيز جثمان سيد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله) فغسّل الجسد الطاهر، وهو يقول بذوب روحه:«بأبي أنت واُمّي! لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوّة والأنباء وأخبار السماء، خصصت حتّى صرت مسلّياً عمّن سواك، وعممت حتّى صار الناس فيك سواء. ولولا أنّك أمرت بالصبر، ونهيت عن الجزع لأنفذنا عليك ماء الشؤون، ولكان الداء مماطلاً، والكد مخالفاً» (١) .

وكان العباس واُسامة يناولانه الماء من وراء الستر(٢) .

وكان بدن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تفوح منه روائح الطيب، والإمام (عليه السّلام) يقول:«بأبي أنت واُمّي يا رسول الله! طبت حيّاً وميّتاً» (٣) . وبعد الفراغ من غسله أدرجه الإمام في أكفانه ووضعه على السرير. وأوّل مَنْ صلّى على الجثمان العظيم هو الله تعالى من فوق عرشه، ثمّ جبرئيل، ثمّ إسرافيل، ثمّ الملائكة زمراً زمراً(٤) .

وبعد ذلك صلّى عليه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، ثمّ أقبل المسلمون للصلاة عليه، فقال لهم الإمام:«لا يقوم عليه إمام منكم، هو إمامكم حيّاً وميّتاً» . فكانوا يدخلون رسلاً رسلاً فيصلون عليه صفاً واحداً، ليس لهم إمام، وأمير المؤمنين واقف إلى جانب الجثمان، وهو يقول:«السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته. اللّهمّ إنّا نشهد أنه قد بلّغ ما

____________________

(١) نهج البلاغة - محمّد عبده ٢ / ٢٥٥.

(٢) وفاء الوفاء ١ / ٢٢٧، البداية والنهاية ٥ / ٦٣.

(٣) حلية الأولياء ٤ / ٧٧.

(٤) المصدر السابق.

٨٣

اُنزل إليه، ونصح لاُمّته، وجاهد في سبيل الله حتّى أعزّ الله دينه، وتمّت كلمته... اللّهمّ فاجعلنا ممّن يتّبع ما اُنزل إليه، وثبّتنا بعده، واجمع بيننا وبينه...» .

وكانت الجماهير تقول: آمين(١) . وقد نخب الحزن قلوبهم فقد مات مَنْ دعاهم إلى الحقّ، وحرّرهم من خرافات الجاهليّة وأوثانها، وأقام لهم دولة تدعو إلى إنصاف المظلوم، وردع الظلم، وإشاعة الرفاهية والرخاء والأمن بين الناس.

مواراة الجثمان المقدّس

وبعد أن فرغ المسلمون من الصلاة على الجثمان العظيم وودّعوه الوداع الأخير، قام الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فوارى الجسد الطاهر في مثواه الأخير، ووقف على حافة القبر وهو يروي ثراه بدموع عينيه، ويقول:«إنّ الصبر لجميل إلاّ عنك، وإنّ الجزع لقبيح إلاّ عليك، وإنّ المصاب بك لجليل، وإنّه قبلك وبعدك لجلل» (٢) .

لقد مادت أركان العدل، وانطوت ألوية الحقّ؛ فقد غاب عن هذه الحياة سيّد الكائنات الذي غيّر مجرى التأريخ، وأقام صروح الوعي والفكر في دنيا العرب والإسلام.

فجيعة الزهراء (عليها السّلام)

وكان أكثر أهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) جزعاً وأشدّهم مصاباً بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وحبيبته فاطمة الزهراء (عليها السّلام)؛ فقد أشرفت على الموت وهي تبكي أمرّ البكاء وأقساه، وتقول:«وا أبتاه! وا رسول الله! وا نبيّ الرحمتاه! الآن لا يأتي الوحي، الآن ينقطع

____________________

(١) كنز العمّال ٤ / ٥٤.

(٢) نهج البلاغة - محمّد عبده ٣ / ٢٢٤.

٨٤

عنّا جبرئيل. اللّهمّ ألحق روحي بروحه، واشفعني بالنظر إلى وجهه، ولا تحرمني أجره وشفاعته يوم القيامة» (١) .

وقالت بذوب روحها:«وا أبتاه! إلى جبرئيل أنعاه، وا أبتاه! جنّة الفردوس مأواه، وا أبتاه، وا أبتاه! أجاب رباً دعاه» .

وأحاطت بالاُسرة النبويّة موجات من الأسى والحزن على هذا المصاب العظيم كما أحاطت بها تيّارات من الفزع والخوف؛ لأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد وتر الأقربين والأبعدين، فخافوا من انقضاض العرب عليهم، يقول الإمام الصادق (عليه السّلام):«لمّا مات النبي (صلّى الله عليه وآله) بات أهل بيته كأن لا سماء تظلّهم، ولا أرض تقلّهم؛ لأنّه وتر الأقرب والأبعد» .

لقد عانت حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله) زينب (عليها السّلام) وهي في سنّها المبكّر هذه المصيبة الكبرى وما تنطوي عليها من أبعاد، وما ستعانيه هي وأهلها من فوادح الرزايا بعد وفاة جدّها، كما فقدت بموته العطف والحنان الذي كان يغدقه عليها، وكان عمرها الشريف خمس سنين.

وقد غزت قلبها هذه المحنة الشاقة؛ فقد رأت جدّها يوارى في مثواه الأخير، ورأت أباها بادي الهمّ والحزن على فراق ابن عمّه، وشاهدت اُمّها الرؤوم وهي ولهى قد ذابت من الأسى، وهي تندب أباها بأشجى ما تكون الندبة، ومنذ ذلك اليوم لازمها الأسى والحزن حتّى لحقت بالرفيق الأعلى.

____________________

(١) تاريخ الخميس ٢ / ١٩٢.

٨٥

٨٦

في عهد الخلفاء

لا يستطيع أيّ كاتب مهما كان بارعاً في تصوير دقائق النفوس، وكشف أسرار المجتمع وأحداث التأريخ أن يصوّر بدقّة عمق الكوارث والأوبئة التي داهمت الاُمّة الإسلاميّة بعد وفاة نبيّها العظيم، كما صوّرها القرآن الكريم، قال تعالى:( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ... ) (١) .

إنّه تصوير هائل للأزمات المفجعة والنكبات السود التي مُني بها العالم الإسلامي، إنّه انقلاب على الأعقاب، وانسلاخ عن العقيدة الإسلاميّة، وتدمير لشريعة الله، فأيّ زلزال مدمّر كهذا الزلزال الذي عصف بالاُمّة الإسلاميّة وأخلد لها الفتن والكوارث على امتداد التأريخ.

وكان من أقسى ما فُجعت به الاُمّة إبعاد العترة الطاهرة عن المسرح السياسي وتحويل القيادة إلى غيرها، الأمر الذي نجم عنه فوز الاُمويِّين وغيرهم بالحكم، وإمعانهم بوحشية قاسية في ظلم العلويِّين ومطاردتهم، ومجزرة كربلاء كانت من النتائج المباشرة لصرف الخلافة عن أهل البيت (عليهم السّلام).

وعلى أيّ حال، فإنّا نعرض - بإيجاز - لبعض تلك الأحداث، والتي منها حكومة الخلفاء الذين عاصرتهم حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)؛ فإنّ بها ترتبط ارتباطاً موضوعياً بالكشف عن حياتها وما عانته من كوارث وأهوال، وفيما يلي ذلك:

____________________

(١) سورة آل عمران / ١٤٤.

٨٧

مؤتمر السقيفة

أمّا مؤتمر السقيفة فهو مصدر الفتنة الكبرى التي مُني بها المسلمون والتي كان من جرّائها الأحداث المروّعة التي رُزئ بها أهل البيت (عليهم السّلام). يقول الإمام محمّد حسين آل كاشف الغطاء:

تاللهِ ما كربلا لولا (سقيفتُهمْ) = ومثل هذا الفرعِ ذاك الأصل أنتجه

ويقول بولس سلامة:

وتوالت تحتَ السقيفةِ أحدا = ثٌ أثارت كوامناً وميولا

نزعات تفرّقت كغصونِ ال = -عوسج الخفيّ شائكاً مدخولا

لقد أسرع الأنصار إلى عقد مؤتمرهم في (سقيفة بني ساعدة) لترشيح أحدهم لمنصب الخلافة، وإقامة حكومة تضمن مصالحهم وترعى شؤونهم. لقد عقدوا مؤتمرهم في وقت كان جثمان الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) لم يوارَ في مثواه الأخير، وأكبر الظنّ إنّما قاموا بهذه السرعة الخاطفة بذلك؛ لأنّهم خافوا من استيلاء المهاجرين على الحكم، فقدر رأوا تحرّكهم السياسي في صرف الخلافة عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وكراهيتهم له.

وعلى أيّ حال، فقد خطب سعد بن عبادة زعيم الخزرج في الأنصار، وكان منطق خطابه الإشادة بنضال الأنصار وجهادهم في نصرة الإسلام وقهر القوى المعادية لهم، فهم الذين حملوا النبي (صلّى الله عليه وآله) ونصروه في أيام محنته، فإذاً هم أولى بمركز النبي (صلّى الله عليه وآله)، وأحقّ بمنصبه من غيرهم.

كما حفل خطابه بالتنديد بالاُسر القرشية التي ناهضت النبي (صلّى الله عليه وآله)، وناجزته الحرب حتّى اضطر للهجرة إلى يثرب، فهم خصومه وأعداؤه، ولا حقّ لهم بأيّ حالٍ في التدخّل بشؤون الدولة ومصيرها.

وقام زعيم آخر من الأنصار هو الحبّاب بن المنذر، فحذّر الأنصار من القرشيّين،

٨٨

وأهاب بهم أن يجعلوا لهم نصيباً في الحكم، قائلاً: لكنّنا نخاف أن يليها بعدكم مَنْ قتلنا أبناءهم وآباءهم وإخوانهم.

وتحقّق تنبؤ الحبّاب؛ فإنّه لم يكن ينتهي حكم الخلفاء حتّى آل الأمر إلى الاُمويِّين، فأمعنوا في إذلال الأنصار، وإشاعة البؤس والفقر فيهم، وقد انتقم منهم معاوية كأشرّ وأقسى ما يكون الانتقام.

ولمّا وليَ الأمر من بعده يزيد جهد في الوقيعة بهم، فأباح أموالهم ودماءهم وأعراضهم لجيوشه في واقعة (الحرّة) التي اُنتهكت فيها جميع ما حرّمه الله.

وعلى أيّ حال، فقد تجاهل سعد وغيره من الأنصار الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) الذي هو من النبيّ بمنزلة هارون من موسى، وأبو سبطيه، وباب مدينة علمه، وسيّد عترته.

ولا نرى أيّ مبرر لسعد في إغضائه وتجاهله حقّ الإمام (عليه السّلام)، فقد فتح باب الشرّ على الاُمّة، وأخلد لها المصاعب والفتن على امتداد التأريخ.

مباغتة الأنصار

وحينما كان الأنصار في سقيفتهم يدبّرون أمرهم ويتداولون الرأي في شؤون الخلافة، إذ خرج من مؤتمرهم عويم بن ساعدة الأوسي ومعن بن عدي حليف الأنصار، وكانا من أولياء أبي بكر، ومن أعضاء حزبه، وكانا يحقدان على سعد، فانطلقا مسرعَين إلى أبي بكر فأخبراه بالأمر.

ففزع أبو بكر وأسرع ومعه عمر وأبو عبيدة الجرّاح وسالم مولى أبي حذيفة وآخرون من المهاجرين(١) ، فكبسوا الأنصار في ندوتهم، فذُهل الأنصار وأُسقط ما بأيديهم؛ لأنّهم أحاطوا ندوتهم بسريّة وكتمان، وتغيّر لون سعد، فقد انهارت جميع مخطّطاته، وفشلت جميع تدابيره.

____________________

(١) تاريخ الطبري ٣ / ٦٢.

٨٩

خطاب أبي بكر

واستغلّ أبو بكر الموقف، وأراد صاحبه عمر أن يفتح الحديث مع الأنصار، فنهره أبو بكر؛ لعلمه بشدّته وهي لا تساعد في مثل هذا الموقف الملبّد الذي يجب أن تستعمل فيه الأساليب السياسيّة والكلمات الناعمة لكسب الموقف.

فبادر أبو بكر فخاطب الأنصار بكلمات معسولة وبسمات فيّاضة بالبشر، قائلاً: نحن المهاجرون أوّل الناس إسلاماً، وأكرمهم أحساباً، وأوسطهم داراً، وأحسنهم وجوهاً، وأمسّهم برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنتم إخواننا في الإسلام، وشركاؤنا في الدين، نصرتم الإسلام وواسيتم فجزاكم الله خيراً، فنحن الاُمراء وأنتم الوزراء.

لا تدين العرب إلاّ لهذا الحيّ من قريش، فلا تنفسوا على إخوتكم المهاجرين ما فضّلهم الله به، فقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، يعني عمر بن الخطّاب وأبا عبيدة بن الجراح(١) .

ولم يعرض هذا الخطاب إلى وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) التي هي أعظم كارثة مُني بها المسلمون، فكان الواجب أن يُعزّي المسلمين بوفاة منقذهم ونبيّهم، كما أنّ الواجب يقضي بتأخير المؤتمر إلى بعد مواراة النبي (صلّى الله عليه وآله) حتّى يجتمع جميع المسلمين وينتخبوا عن إرادتهم وحرّيتهم مَنْ شاؤوا.

وشيء آخر في هذا الخطاب أنّه لم يمعن إلاّ بطلب الإمرة والسلطان؛ فقد طلب من الأنصار أن يتنازلوا عن الخلافة إلى المهاجرين، وأنّهم سينالون عوض ذلك الوزارة، إلاّ أنّه لمّا تمّ الأمر لأبي بكر أقصاهم ولم يمنحهم أيّ منصبٍ من مناصب الدولة.

وممّا يؤخذ على هذا الخطاب أنّه تجاهل بصورة كاملة أهل البيت (عليهم السّلام) الذين هم

____________________

(١) تاريخ الطبري ٣ / ٦٢.

٩٠

وديعة النبي في اُمّته، والثقل الأكبر فيها، فلم يُشر إليهم أبو بكر بقليل ولا بكثير.

بيعة أبي بكر

وانبرى حزب أبي بكر إلى تأييده، فكان من أعظم المناصرين له عمر بن الخطاب، وسارع إلى بيعته مع بقية أعضاء حزبه خوفاً من تطوّر الأحداث، واشتدّ عمر في إرغام الناس على بيعة أبي بكر، وقد لعبت درّته شوطاً في الميدان، وقد سمع الأنصار يقولون: قتلتم سعداً! فجعل يقول بعنف: اقتلوه! قتله الله؛ فإنّه صاحب فتنة(١) .

وبعدما تمّت البيعة لأبي بكر بهذه السرعة الخاطفة أقبل به حزبه يزفّونه زفاف العروس إلى مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولم يشترك أبو بكر ولا أيّ فرد من حزبه في تشييع جثمان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومواراته؛ فقد انشلغوا بالمُلك والسلطان وتدبير اُمورهم.

لقد أُهمل في بيعة أبي بكر رأي العترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم، فلم يُعنَ بها، ولم يُؤخذ رأيها، ومنذ ذلك اليوم واجهت جميع ألوان الرزايا والنكبات، وما كارثة كربلاء وغيرها من مآسي العترة الطاهرة إلاّ وهي متفرّعة من يوم السقيفة حسبما نصّت عليه الوثائق التاريخية والدراسات العلميّة.

امتناع الإمام (عليه السّلام) عن البيعة

والتاع الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) من بيعة أبي بكر، واعتبرها تعدّياً صارخاً عليه، فقد كان محلّه من الخلافة محلّ القطب من الرحى، ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه

____________________

(١) العقد الفريد ٣ / ٦٢.

٩١

الطير على حدّ تعبيره، وقد تخلّف عن بيعة أبي بكر وأعلن معارضته لها، وقد شاع ذلك بين المسلمين. ومَنْ يقرأ نهج البلاغة يجد فيه لواحات من تذمّره وأساه على ضياع حقّه.

إرغامه على البيعة

وأجمع أبو بكر وسائر أعضاء حزبه على إرغام الإمام على البيعة لأبي بكر وحمله بالقوّة عليها، فأرسلوا إليه شرطتهم فكبسوا داره وأخرجوه منها بالقسر والقوّة، وجاءوا به إلى أبي بكر، فصاحوا به: بايع أبا بكر...

فأجابهم الإمام بمنطقه الفيّاض وحجّته الحاسمة، قائلاً:«أنا أحقّ بهذا الأمر منكم، لا اُبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي؛ أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي (صلّى الله عليه وآله)، وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً!

ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمّد (صلّى الله عليه وآله) منكم، فأعطوكم المقادة، وسلّموا إليكم الإمارة، وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار؛ نحن أولى برسول الله (صلّى الله عليه وآله) حيّاً وميّتاً، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون، وإلاّ فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون» .

وأعلن الإمام بهذا الخطاب الرائع أنّه أولى بمركز النبي (صلّى الله عليه وآله)، وأحقّ بخلافته من غيره، فهو أقرب الناس وألصق بالرسول (صلّى الله عليه وآله) من المهاجرين الذين فازوا بالحكم لقربهم من النبي، فهو ابن عمّه وأبو سبطيه، ولا يملك أحد من القرب إلى النبي غيره.

وثار ابن الخطاب بعد أن أعوزته الحجّة والبرهان، فاندفع بعنفٍ قائلاً: إنّك لست متروكاً حتّى تبايع.

٩٢

فزجره الإمام (عليه السّلام) قائلاً:«احلب حلباً لك شطره، واشدد له اليوم أمره، يردده عليك غداً» .

وكشف الإمام الوجه في اندفاع ابن الخطاب وتهالكه على نصرة أبي بكر؛ فإنّه يأمل أن ترجع إليه الخلافة والملك بعد أبي بكر.

وثار الإمام (عليه السّلام) وهتف قائلاً:«والله يا عمر، لا أقبل قولك ولا أبايعه» .

وخاف أبو بكر من تطوّر الأحداث، وخشي أن ترجع إلى المسلمين حوازب أحلامهم فيقصوه عن منصبه، فخاطب الإمام بناعم القول: إن لم تبايع فلا اُكرهك.

وانبرى أبو عبيدة بن الجراح وهو من أبرز حزب أبي بكر، فخاطب الإمام قائلاً: يابن عمّ، إنّك حدث السن، وهؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتم بالاُمور، ولا أرى إلاّ أبا بكر أقوى على هذا الأمر منك، وأشدّ احتمالاً واضطلاعاً به، فسلّم لأبي بكر هذا الأمر؛ فإنّك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق، وبه حقيق؛ في فضلك ودينك، وعلمك وفهمك، وسابقتك ونسبك وصهرك.

وليس في هذا القول إلاّ الخداع والتضليل؛ فإنّ التقدّم في السن ليس له أيّ ترجيح في منصب الخلافة التي تتطلّب الطاقات الخلاّقة بما تحتاج إليه الاُمّة في الميادين السياسيّة والاقتصادية والقضائية، ولا يملك أحد المسلمين ذلك غير الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام).

وأثارت مخادعة أبي عبيدة كوامن الألم في نفس الإمام، فانبرى يخاطب المهاجرين قائلاً:

٩٣

«الله الله يا معشر المهاجرين، لا تخرجوا سلطان محمّد في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه؛ فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ الناس به؛ لأنّا أهل البيت، ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم.

ما كان فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، الدافع عنهم الاُمور السيئة، القاسم بينهم بالسوية؟ والله إنّه لفينا، فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحقّ بُعداً» (١) .

وحفلت هذه الكلمات بالصفات الرفيعة الماثلة في أهل بيت النبوّة من الفقه بدين الله، والعلم بسنن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، والإحاطة بما تحتاج إليه الاُمّة في مجالاتها الاقتصادية والسياسيّة ولا تتوفّر بعض هذه الصفات في غيرهم، ولو أنّ القوم استجابوا لنداء الإمام لجنّبوا العالم الإسلامي الكثير من المشكلات والأزمات ولكنّهم انسابوا وراء أطماعهم وشهواتهم وتهالكهم على الإمرة والسلطان.

وعلى أيّ حال، فقد رجع الإمام (عليه السّلام) إلى داره لم يبايع أبا بكر، وقد أحاطت به موجات من الأسى على ضياع حقّه وحرمان الاُمّة من قيادته، وقد التاعت سيّدة النساء زينب وغزاها الحزن على ما حلّ بأبيها من الآلام والكوارث؛ فقد رأته جالساً في بيته يساور الهموم والأحزان، وحوله اُمّها سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام) وهي تبكي أباها، وتندبه بأشجى ما تكون الندبة، وقد شاركت زوجها في مصابه على ضياع حقّه، ونهب مركزه ومقامه.

إجراءات صارمة

وقضت سياسة أبي بكر أن يقابل الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بجميع الإجراءات الصارمة؛

____________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١١ - ١٢.

٩٤

لأنّه الممثّل الوحيد للقوى المعارضة لحكومته. ومن بين تلك الوسائل التي سلكها أبو بكر:

١ - إسقاط الخمس

أمّا الخمس فهو حقّ مفروض لآل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نصّ عليه القرآن الكريم، قال تعالى:( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) (١) ، وأجمع الرواة أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) كان يختصّ بسهم من الخمس ويخصّ أرحامه بسهم آخر منه، وكانت هذه سيرته إلى أن اختاره الله إلى جواره.

ولمّا ولي أبو بكر أسقط سهم النبي، وسهم ذي القربى، ومنع بني هاشم من الخمس(٢) ؛ وبذلك فقد قضى على أهم مورد اقتصادي لهم. وقد أرسلت سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) إلى أبي بكر تسأله أن يدفع إليها ما بقي من خمس (خيبر)، فأبى أن يدفع إليها شيئاً(٣) ؛ وبذلك فقد ترك شبح الفقر على آل النبي، وحجب عنهم ما فرضه الله لهم.

٢ - الاستيلاء على تركة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)

واستولى أبو بكر على جميع ما تركه الرسول (صلّى الله عليه وآله) من بلغة العيش وحازه إلى بيت المال، وبذلك فقد فرض حصاراً اقتصادياً على آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) حتّى لا يتمكّنون من القيام بأيّ حركة ضدّه.

٣ - تأميم فدك

وأمّم أبو بكر (فدكاً) وصادرها من أهل البيت، ومنعهم من أخذ وارداتها،

____________________

(١) سورة الأنفال / ٤١.

(٢) الكشّاف ٢ / ١٥٨ - ١٥٩ (في تفسير آية الخمس).

(٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ١ / ٢٦٠.

٩٥

وقد ضيّق عليهم بذلك غاية التضييق، ومنع عنهم جميع وسائل العيش.

الزهراء (عليها السّلام) مع أبي بكر

والتاعت بضعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من أبي بكر؛ فقد سدّ عليها جميع نوافذ الحياة الاقتصادية، فخرجت (سلام الله عليها) غضبى، فلاثت خمارها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتّى دخلت على أبي بكر وهو في جامع أبيها، وكان في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة.

فوقفت مفخرة الإسلام فأنّت أنّة أجهش لها القوم بالبكاء، وارتجّ المجلس، فأمهلتهم حتّى إذا سكن نشيجهم وهدأت فورتهم افتتحت خطابها الخالد بحمد الله والثناء عليه، وانحدرت في خطابها كالسيل، فلم يُسمع أخطب ولا أبلغ منها، وحسبها أنّها بضعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي أفاض عليها بمكرمات نفسه، وغذّاها بحكمه وآدابه.

وتحدّثت في خطابها عن معارف الإسلام، وفلسفة تشريعاته، وعلل أحكامه، وعرضت إلى الحالة الراهنة التي كانت عليها اُمم العالم وشعوب الأرض قبل أن يشرق عليها نور الإسلام؛ فقد غرقت الاُمم بالجهل والانحطاط خصوصاً (الجزيرة العربية)؛ فقد كانت في أقصى مكان من الذلّ والهوان، وكانت الأكثرية الساحقة تقتاد القِدّ، وتشرب الطَرق، وترسف في قيود الفقر والبؤس إلى أن أنقذها الله بنبيّه محمّد (صلّى الله عليه وآله)، فرفعها إلى واحات الحضارة وجعلها سادة الاُمم والشعوب، فما أعظم عائدته على العرب والمسلمين!

وعرضت سيّدة نساء العالمين في خطبتها إلى فضل ابن عمّها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وعظيم جهاده في نصرة الإسلام، وذبّه عن حياض الدين، في حين أنّ المهاجرين من قريش بالخصوص كانوا في رفاهية من العيش وادعين آمنين، لم

٩٦

يكن لهم أيّ ضلع في نصرة القضية الإسلاميّة والدفاع عنها، فلم يُؤثر عن أعلامهم أنّهم قتلوا مشركاً، أو برزوا ببسالة وصمود إلى مقارعة الأقران في الحروب، وإنّما كانوا ينكصون عند النزال، ويفرّون من القتال - على حدّ تعبيرها - وكانوا يتربّصون الدوائر بأهل بيت النبوّة، ويتوقعون بهم نزول الأحداث.

وأعربت مفخرة الإسلام في خطابها عن أسفها البالغ على ما مُني به المسلمون من الزيغ والانحراف، والاستجابة لدواعي الهوى والغرور، وذلك بإقصائهم لأهل البيت (عليهم السّلام) عن مركز القيادة العامة، وتنبّأت عمّا سيحلّ بهم من الكوارث والخطوب التي تدع فيئهم حصيداً، وجمعهم بديداً من جرّاء إبعادهم لأهل بيت النبوّة عن مقامهم الذي نصبهم فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ثمّ عرضت إلى حرمانها من إرث أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقالت:«وأنتم تزعمون أن لا إرث لي من أبي! ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) . وَيهاً أيّها المسلمون! أاُغلب على تراث أبي؟!».

ثمّ وجهت خطابها إلى أبي بكر:«يابن أبي قُحافة، أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّاً! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول: ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) ؟ وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريّا، إذ يقول: ( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ) ،وقال: ( وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) ،وقال: ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ) ،

٩٧

وقال: ( إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ) .

وزعمتم أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي، ولا رحم بيننا، أفخصّكم الله بآية أخرج منها أبي؟ أم تقولون: إنّ أهل ملّتَين لا يتوارثان، أو لست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي؟» .

وبعدما أدلت بهذه الحجج الدامغة المدعمة بآيات من القرآن الكريم التي فنّدت فيها مزاعم أبي بكر من أنّ الأنبياء لا يورثون، التفتت إليه، فوجّهت إليه هذه الكلمات اللاذعة قائلةً:«فدونكها مرحولةً مزمومةً تكون معك في قبرك، وتلقاك يوم حشرك، فنِعمَ الحَكَم الله، ونِعمَ الزعيم محمّد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، و ( لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) ،( مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ) » .

ثمّ اتّجهت نحو فتيان المسلمين تستنهض هممهم، وتوقظ عزائمهم للمطالبة بحقّها والثورة على الحكم القائم، قائلة:«يا معشر النقيبة، وأعضاد الملّة، وحضنة الإسلام، ما هذه الغَميزة في حقّي والسِنَة عن ظُلامتي؟ أما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): المرء يُحفظ في وُلده؟ لَسرعان ما أحدثتم، وعجلان ذا إهالةً!

أتقولون: مات محمّد؟ لعمري، خطب جليل استوسع وهيُه، واستنهر فتقه، وفقد راتقه، وأظلمت الأرض لغيبته، واكتأبت خيرة الله لمصيبته، وخشعت الجبال، وأكدت الآمال، واُضيع الحريم،

٩٨

وأُزيلت الحرمة، فتلك نازلة أعلن بها كتاب الله في أفنيتكم، ممساكم ومصبحكم، هتافاً هتافاً: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) » .

وأخذت سيّدة النساء تحفّز الأنصار، وتذكّرهم بجهادهم المشرق في نصرة الإسلام وحماية مبادئه وأهدافه وكفاحهم لأعدائه القرشيّين، طالبة منهم الثورة ضدّ الحكم القائم وإرجاع الحقّ إلى عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قائلة:«إيهاً بني قيلة (١) ! أأُهضَم تراث أبي وأنتم بمرأى منّي ومسمع، ومنتدى ومجمع، تلبسكم الدعوة، وتشملكم الخُبرة، وأنتم ذوو العُدّة والعدد، والأداة والقوّة، وعندكم السلاح والجُنّة (٢) ، تُوافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا تُغيثون، وأنتم موصوفون بالكِفاح، معروفون بالخير والصلاح، والنُخبة التي انتُخبت، والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت؟!

قاتلتم العرب، وتحمّلتم الكدّ والتعب، وناطحتم الأمم، وكافحتم البُهم، فلا نبرح أو تبرحون، نأمركم فتأتمرون، حتّى إذا دارت بنا رحى الإسلام، ودرّ حَلَب الأيّام، وخضعت نُعرة الشرك، وسكنت فورة الإفك، وخمدت نيران الكفر، وهدأت دعوة الهرج، واستوسق نظام الدين، فأنّى جرتم (٣) بعد البيان، وأسررتم بعد الإعلان، ونكصتم بعد الإقدام، وأشركتم بعد الإيمان؟!

____________________

(١) بنو قيلة: هم الأوس والخزرج من الأنصار.

(٢) الجنّة (بالضم): ما يستتر به من السّلاح.

(٣) جرتم: أي ملتم.

٩٩

بؤساً لقوم ( نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِين ) » .

ولمّا رأت وهن الأنصار وتخاذلهم عن إجابة الحقّ، وجّهت لهم أعنف القول، وأشدّ العتب والتقريع، قائلة لهم:«ألا وقد قلتُ ما قلتُ، هذا على معرفة منّي بالجذلة التي خامرتكم، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم، ولكنّها فيضة النفس، وبثّة الصدر، ونفثة الغيظ، وتقدمة الحجّة، فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر، نقبة الخفّ، باقية العار، موسومة بغضب الله، وشنار الأبد، موصولة بـ ( نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ) ،عين الله ما تفعلون، ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) .

وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فـ ( اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ ) )) (١) .

وهذا أروع خطاب ثوري عرفه التأريخ الإسلامي؛ فقد وضعت فيه مفخرة الإسلام النقاط على الحروف، ووضعت المسلمين أمام الأمر الواقع، وكشفت لهم عمّا سيواجهونه من الويلات والكوارث والأزمات من جراء تخاذلهم عن نصرة الإسلام أمام هذه المحنة الحازبة.

وقد وجلت القلوب وخشعت الأبصار، وأوشكت الثورة أن تحدث على أبي بكر ويُقصى عن منصبه إلاّ أنّه سيطر على الموقف بلباقة مذهلة فقد قابل بضعة الرسول بكلّ حفاوة وتكريم، وتصاغر أمامها، وأظهر لها أنّه لم يتقلّد منصب الحكم، ولم يتّخذ معها الإجراءات القاسية

____________________

(١) أعلام النساء ٣ / ٢٠٨، بلاغات النساء / ١٢ - ١٩.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

إنّ كلمة (الرحمة) التي ذكرت هنا لها مفهوم واسع ، ويدخل ضمنه كل خير وبركة وسعادة ، سواء في هذه الحياة أو في العالم الآخر ، وهذه الجملة في الواقع جاءت مقابلة لحال المنافقين الذين لعنهم الله وأبعدهم عن رحمته.

ولا شك أنّ وعد الله للمؤمنين قطعي ويقيني لأنّ الله قادر وحكيم ، ولا يمكن للحكيم أن يعد بدون سبب ، وليس الله القادر بعاجز عن الوفاء بوعده حين وعد( إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

الآية الثّانية شرحت جانبا من هذه الرحمة الإلهية الواسعة التي تعم المؤمنين في بعديها المادي والمعنوي. فهي أوّلا تقول :( وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) ، ومن خصائص هذه النعمة الكبيرة أنّها لا زوال لها ولا فناء ، بل الخلود الأبدي ، لذا فإن المؤمنين والمؤمنات سيكونون( خالِدِينَ فِيها ) .

ومن المواهب الإلهية الأخرى التي سوف ينعمون بها هي المساكن الجميلة ، والمنازل المرفهة التي أعدها الله لهم وسط الجنان( وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ) .

(عدن) في اللغة تعني الإقامة والبقاء في مكان ما ، ولهذا يطلق على المكان الذي توجد فيه مواد خاصّة اصطلاح (معدن) ، وعلى هذا المعنى فإنّ هناك شبها بين الخلود وعدن ، لكن لما أشارت الجملة السابقة إلى مسألة الخلود ، يفهم من هذه الجملة أن جنات عدن محل خاص في الجنّة يمتاز على سائر حدائق الجنّة.

لقد وردت هذه الموهبة الإلهية بأشكال وتفسيرات مختلفة في الرّوايات وكلمات المفسّرين ، فنطالع في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عدن دار الله التي لم ترها عين ، ولم يخطر على قلب بشر ، لا يسكنها غير ثلاثة : النّبيين ، والصدّيقين ، والشّهداء»(1) .

وفي كتاب الخصال نقل عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من سرّه أن يحيا حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنتي التي واعدني الله ربّي ، جنات عدن فليوال علي بن أبي

__________________

(1) مجمع البيان ، ذيل الآية.

١٢١

طالبعليه‌السلام وذريتهعليهم‌السلام من بعده».(1) ويتّضح من هذا الحديث أن جنات عدن حدائق خاصّة في الجنّة سيستقر فيها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجماعة من خلّص أصحابه وأتباعه. وهذا المضمون قد ورد في حديث آخر عن عليعليه‌السلام ، ويدل على أن جنات عدن مقر إقامة نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

بعد ذلك تشير الآية إلى الجزاء المعنوي المعد لهؤلاء ، وهو رضى الله تعالى عنهم المختص بالمؤمنين الحقيقيين ، وهو أهم وأعظم جزاء ، ويفوق كل النعم والعطايا الأخرى( وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ) .

إنّ اللذة المعنوية والإحساس الروحي الذي يحس ويلتذ به الإنسان عند شعوره برضى الله سبحانه وتعالى عنه لا يمكن أن يصفه أي بشر ، وعلى قول بعض المفسّرين فإنّ نسمة ولحظة من هذه اللذة الروحية تفوق نعم الجنّة كلها ومواهبها المختلفة والمتنوعة واللامتناهية.

من الطبيعي أنّنا لا نستطيع أن نجسم ونرسم صورة في أفكارنا عن أي نعمة من نعم الحياة الأخرى ونحن في قفص الحياة الدنيا وحياتها المحدودة ، فكيف سنصل إلى إدراك هذه النعمة المعنوية والروحية الكبرى؟!

نعم ، يمكن إيجاد تصور ضعيف عن الاختلافات المادية والمعنوية التي نعيشها في هذه الدنيا ، فمثلا يمكن إدراك الاختلاف في اللذة بين اللقاء بصديق عزيز جدا بعد فراق طويل ولذّة الإحساس الروحي الخاص الذي يعتري الإنسان عند إدراكه أو حلّه لمسألة علمية معقدة صرف في تحصيلها والوصول إلى دقائقها الشهور ، بل السنين ، أو الانشداد الروحي الذي يبعث على النشاط والجد في لحظات خلوص العبادة ، أو النشوة عند توجه القلب وحضوره في مناجاة تمتزج بهذا الحضور ، وبين اللذة التي نحس بها من تناول طعام لذيذ وأمثالها من اللذائذ ، ومن الطبيعي أن هذه اللذائذ المادية لا يمكن مقارنتها باللذائذ المعنوية ، ولا يمكن

__________________

(1) كتاب الخصال ، على ما نقل في نور الثقلين ، ج 2 ، ص 241.

١٢٢

أن تصل إلى مصافها.

من هنا يتّضح التصور الخاطئ لمن يقول بأن القرآن الكريم عند ما يتحدث عن الجزاء والعطاء الإلهي الذي سيناله المؤمنون الصالحون يؤكّد على النعم المادية ، ولا يتطرق إلى النواحي المعنوية ، لأن الجملة أعلاه ـ أي : رضوان من الله أكبر ـ ذكرت أن رضوان الله أكبر من كل النعم ، خاصّة وأنّها وردت بصيغة النكرة ، وهي تدل على أن قسما من رضوان الله أفضل من كل النعم المادية الموجودة في الجنّة ، وهذا يبيّن القيمة السامية لهذا العطاء المعنوي.

إن الدليل على أفضلية الجزاء المعنوي واضح أيضا ، لأنّ الروح في الواقع بمثابة (الجوهر) والجسم بمكان (الصدف) ، فالروح كالآمر والقائد ، والجسم كالجندي المطيع والمنفذ ، فالتكامل الروحي هو الهدف ، والجسم وسيلة ولهذا السبب فإن إشعاعات الروح وآفاقها أوسع من الجسم واللذائذ الروحية لا يمكن قياسها ومقارنتها باللذائذ المادية والجسمية ، كما أن الآلام الروحية أشدّ ألما من الآلام الجسمية.

وفي نهاية أشارت الآية إلى جميع هذه النّعم المادية والمعنوية ، وعبرت عنها بأنّ( ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

* * *

١٢٣

الآية

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) )

التّفسير

جهاد الكفار والمنافقين :

وأخيرا ، صدر القرار الإلهي للنّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وجوب جهاد الكفار والمنافقين بكل قوّة وحزم( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ) ولا تأخذك بهم رأفة ورحمة ، بل شدد( وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) . وهذا العقاب هو العقاب الدنيوي ، أمّا في الآخرة فإن محلهم( وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

إن طريقة جهاد الكفار واضحة ومعلومة ، فإنّ جهادهم يعني التوسل بكل الطرق والوسائل في سبيل القضاء عليهم ، وبالذات الجهاد المسلح والعمل العسكري ، لكن البحث في أسلوب جهاد المنافقين ، فمن المسلم أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يجاهدهم عسكريا ولم يقابلهم بحد السيف ، لأنّ المنافق هو الذي أظهر الإسلام ، فهو يتمتع بكل حقوق المسلمين وحماية القانون الإسلامي بالرغم من أنّه يسعى لهدم الإسلام في الباطن فكم من الأفراد لا حظّ لهم من الإيمان ، ولا يؤمنون حقيقة بالإسلام ، غير أنّنا لا نستطيع أن نعاملهم معاملة غير المسلمين.

اذن ، فالمستفاد من الرّوايات وأقوال المفسّرين هو أنّ المقصود من جهاد

١٢٤

المنافقين هو الاشكال والطرق الأخرى للجهاد غير الجهاد الحربي والعسكري ، كالذم والتوبيخ والتهديد والفضيحة ، وربّما تشير جملة( وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) إلى هذا المعنى.

ويحتمل في تفسير هذه الآية : أنّ المنافقين يتمتعون بأحكام الإسلام وحقوقه وحمايته ما دامت أسرارهم مجهولة ، ولم يتّضح وضعهم على حقيقته ، أمّا إذا تبيّن وضعهم وانكشفت خبيئة أسرارهم فسوف يحكمون بأنّهم كفار حربيون ، وفي هذه الحالة يمكن جهادهم حتى بالسيف.

لكن الذي يضعف هذا الاحتمال أنّ إطلاق كلمة المنافقين على هؤلاء لا يصح في مثل هذه الحالة ، بل إنّهم يعتبرون من جملة الكفار الحربيين ، لأنّ المنافق ـ كما قلنا سابقا ـ هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر.

* * *

١٢٥

الآية

( يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) )

سبب النّزول

ذكرت في سبب نزول هذه الآيات أقوال وآراء مختلفة ، وكلّها تتفق على أن بعض المنافقين قد تحدثوا بأحاديث سيئة وغير مقبولة حول الإسلام والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعد أن فشا أمرهم وانتشرت أسرارهم أقسموا كذبا بأنّهم لم يتفوهوا بشيء ، وكذلك فإنّهم قد دبروا مؤامرة ضد النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، غير أنّها قد أحبطت.

ومن جملتها : أنّ أحد المنافقين ـ واسمه جلاس ـ سمع بعضا من خطب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّام غزوة تبوك ، وأنكرها بشدّة وكذبها ، وبعد رجوع المسلمين إلى المدينة حضر رجل يقال له : عامر بن قيس ـ كان قد سمع جلاس ـ عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبلغه كلام جلاس ، فلما حضر جلاس وسأله النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك أنكر ، فأمرهما

١٢٦

النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقسما بالله ـ في المسجد عند المنبر ـ أنّهما لا يكذبان ، فاقتربا من المنبر في المسجد وأقسما ، إلّا أن عامرا دعا بعد القسم وقال : اللهم أنزل على نبيّك آية تعرّف الصادق ، فأمّن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون على دعائه. فنزل جبرئيل بهذه الآية ، فلمّا بلغ قوله تعالى :( فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ ) قال جلاس : يا رسول الله ، إنّ الله اقترح عليّ التوبة ، وإنّي قد ندمت على ما كان منّي ، وأتوب منه ، فقبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توبته.

وكما أشرنا سابقا فقد ذكر أن جماعة من المنافقين صمموا على قتل النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طريق عودته من غزوة تبوك ، فلمّا وصل إلى العقبة نفروا بعيره ليسقط في الوادي، إلّا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أطلع بنور الوحي على هذه النّية الخبيثة ، فرد كيدهم في نحورهم وأبطل مكرهم. وكان زمام الناقة بيد عمار يقودها ، وكان حذيفة يسوقها لتكون الناقة في مأمن تام ، وأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين أن يسلكوا طريقا آخر حتى لا يخفي المنافقون أنفسهم بين المسلمين وينفّذوا خطتهم.

ولما وصل إلى سمع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقع أقدام هؤلاء أو حوافر خيولهم أمر بعض أصحابه أن يدفعوهم ويبعدوهم ، وكان عدد هؤلاء المنافقين اثني عشر أو خمسة عشر رجلا ، وكان بعضهم قد أخفى وجهه ، فلمّا رأوا أن الوضع لا يساعدهم على تنفيذ ما اتفقوا تواروا عن الأنظار ، إلّا أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرفهم وذكر أسماءهم واحدا واحدا لبعض أصحابه(1) .

لكن الآية ـ كما سنرى ـ تشير إلى خطتين وبرنامجين للمنافقين : إحداهما : أقوال هؤلاء السيئة. والأخرى : المؤامرة والخطة التي أحبطت ، وعلى هذا الأساس فإنا نعتقد أن كلا سببي النزول صحيحان معا.

__________________

(1) ما ذكرناه اقتباس من تفسير مجمع البيان والمنار وروح المعاني وتفاسير أخر.

١٢٧

التّفسير

مؤامرة خطرة :

إنّ ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة واضح جدّا ، لأنّ الكلام كان يدور حول المنافقين ، غاية ما في الأمر أنّ هذه الآية تزيح الستار عن عمل آخر من أعمال المنافقين ، وهو أن هؤلاء عند ما رأوا أن أمرهم قد انكشف ، أنكروا ما نسب إليهم بل أقسموا باليمين الكاذبة على مدّعاهم.

في البداية تذكر الآية أن هؤلاء المنافقين لا يرتدعون عن اليمين الكاذبة في تأييد إنكارهم ، ولدفع التهمة فإنّهم( يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا ) في الوقت الذي يعلمون أنّهم ارتكبوا ما نسب إليهم من الكفر( وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ ) وعلى هذا فإنّهم قد اختاروا طريق الكفر بعد إعلانهم الإسلام( وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ) ومن البديهي أن هؤلاء لم يكونوا مسلمين منذ البداية ، بل إنّهم أظهروا الإسلام فقط ، وعلى هذا فإنّهم بإظهارهم الكفر قد هتكوا ومزّقوا حتى هذا الحجاب المزيف الذي كانوا يتسترون به.

وفوق كل ذلك فقد صمّموا على أمر خطير لم يوفقوا لتحقيقه( وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ) ويمكن أن يكون هذا إشارة إلى تلك المؤامرة لقتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلة العقبة ، والتي مرّ ذكرها آنفا ، أو أنّه إشارة إلى كل أعمال المنافقين التي يسعون من خلالها إلى تحطيم المجتمع الإسلامي وبثّ بذور الفرقة والفساد والنفاق بين أوساطه ، لكنّهم لن يصلوا إلى أهدافهم مطلقا.

ممّا يستحق الانتباه أن يقظة المسلمين تجاه الحوادث المختلفة كانت سببا في معرفة المنافقين وكشفهم ، فقد كان المسلمون ـ دائما ـ يرصدون هؤلاء ، فإذا سمعوا منهم كلاما منافيا فإنّهم يخبرون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به من أجل منعهم وتلقي الأوامر فيما يجب عمله تجاه هؤلاء. إنّ هذا الوعي والعمل المضاد المؤيّد بنزول الآيات أدى إلى فضح المنافقين وإحباط مؤامراتهم وخططهم الخبيثة.

١٢٨

الجملة الأخرى تبيّن واقع المنافقين القبيح ونكرانهم للجميل فتقول الآية : إنّ هؤلاء لم يروا من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي خلاف أو أذى ، ولم يتضرروا بأي شيء نتيجة للتشريع الإسلامي، بل على العكس ، فإنّهم قد تمتعوا في ظل حكم الإسلام بمختلف النعم المادية والمعنوية( وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (1) وهذه قمة اللؤم.

ولا شك أنّ إغناءهم وتأمين حاجاتهم في ظل رحمة الله وفضله وكذلك بجهود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يستحق أن ينقم من جرائه هؤلاء المنافقون ، بل إنّ حقّه الشكر والثناء ، إلّا أنّ هؤلاء اللؤماء المنكرين للجميل والمنحرفي السيرة والسلوك قابلوا الإحسان بالإساءة.

ومثل هذا التعبير الجميل يستعمل كثيرا في المحادثات والمقالات ، فمثلا نقول للذي أنعمنا عليه سنين طويلة وقابل إحساننا بالخيانة : إنّ ذنبنا وتقصيرنا الوحيد أنّنا آويناك ودافعنا عنك وقدّمنا لك منتهى المحبّة على طبق الإخلاص.

غير أنّ القرآن ـ كعادته ـ رغم هذه الأعمال لم يغلق الأبواب بوجه هؤلاء ، بل فتح باب التوبة والرجوع إلى الحق على مصراعيه إن أرادوا ذلك ، فقال :( فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ ) . وهذه علامة واقعية الإسلام واهتمامه بمسألة التربية ، ومعارضته لاستخدام الشدّة في غير محلّها وهكذا فتح باب التوبة حتى بوجه المنافقين الذين طالما كادوا للإسلام وتآمروا على نبيّه وحاكوا الدسائس والتهم ضده ، بل إنّه دعاهم إلى التوبة أيضا.

هذه في الحقيقة هي الصورة الواقعية للإسلام ، فما أظلم هؤلاء الذين يرمون

__________________

(1) ممّا يستحق الانتباه أن الجملة أعلاه بالرغم من أنّها تتحدث عن فضل الله ورسوله ، إلّا أن الضمير في( مِنْ فَضْلِهِ ) جاء مفردا لا مثنى ، والسبب في ذلك هو ما ذكرناه قبل عدة آيات من أن أمثال هذه التعبيرات لأجل إثبات حقيقة التوحيد ، وأن كل الأعمال بيد الله سبحانه ، وأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا ما عمل عملا فهو بأمر الله سبحانه ، ولا ينعزل عن إرادته سبحانه.

١٢٩

الإلام بأنّه دين القوة والإرهاب والخشونة

هل توجد في عالمنا المعاصر دولة مستعدة لمعاملة من يسعى لإسقاطها وتحطيمها كما رأينا في تعامل الإسلام السامي مع مناوئيه ، مهما ادّعت أنّها من أنصار المحبة والسلام؟! وكما مرّ علينا في سبب نزول الآية ، فإنّ أحد رؤوس النفاق والمخططين له لما سمع هذا الكلام تاب ممّا عمل ، وقبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توبته.

وفي نفس الوقت ومن أجل أن لا يتصور هؤلاء أن هذا التسامح الإسلامي صادر من منطق الضعف ، حذّرهم بأنّهم إن استمروا في غيهم وتنكّروا لتوبتهم ، فإنّ العذاب الشديد سينالهم في الدّارين( وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) وإذا كانوا يظنون أنّ أحدا يستطيع أن يمدّ لهم يد العون مقابل العذاب ا لإلهي فإنّهم في خطأ كبير ، فإنّ العذاب إذا نزل بهم فساء صباح المنذرين :( وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) .

من الواضح بديهة أنّ عذاب هؤلاء في الآخرة معلوم ، وهو نار جهنم ، أمّا عذابهم في الدنيا فهو فضيحتهم ومهانتهم وتعاستهم وأمثال ذلك.

* * *

١٣٠

الآيات

( وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) )

سبب النّزول

المعروف بين المفسّرين أنّ هذه الآيات نزلت في رجل من الأنصار يدي ثعلبة بن حاطب ، وكان رجلا فقيرا يختلف إلى المسجد دائما ، وكان يصر على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدعو له بأن يرزقه الله مالا وفيرا ، فقال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» أو ليس الأولى لك أن تتأسى بنبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتحيا حياة بسيطة وتقنع بها؟ لكن ثعلبة لم يكف ولم يصرف النظر عن أمله ، وأخيرا قال للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والّذي بعثك بالحق نبيّا ، لئن رزقني الله لأعطين كل الحقوق وأؤدي كل الواجبات ، فدعا له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فلم يمض زمان ـ وعلى رواية ـ حتى توفي ابن عم له ، وكان غنيّا جدّا ،

١٣١

فوصلت إليه ثروة عظيمة ، وعلى رواية أخرى أنّه اشترى غنما ، فلم تزل تتوالد حتى أصبح حفظها ورعايتها في المدينة أمرا غير ممكن ، فاضطر أن يخرج إلى أطراف المدينة ، فألهته أمواله عن حضور الجماعة ، بل وحتى الجمعة.

وبعد مدّة أرسل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاملا إلى ثعلبة ليأخذ الزكاة منه ، غير أن هذا الرجل البخيل الذي عاش لتوّه حياة الرفاه امتنع من أداء حقوق الله تعالى ، ولم يكتف بذلك ، بل اعترض على حكم الزّكاة وقال : إنّ حكم الزكاة كالجزية ، أي أنّنا أسلمنا حتى لا نؤدي الجزية ، فإذا وجبت علينا الزكاة فأي فرق بيننا وبين غير المسلمين؟

قال هذا في الوقت الذي لم يفهم معنى الجزية ولا معنى الزكاة ، أو أنّه فهمه ، إلّا أن حبّ الدنيا وتعلقه بها لم يسمح له ببيان الحقيقة وإظهار الحق ، فلمّا بلغ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قاله قال : «يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة» ، فنزلت هذه الآيات.

وقد ذكرت أسباب أخر لنزول هذه الآيات تشابه قصّة ثعلبة مع اختلاف يسير.

ويفهم من أسباب النزول المذكورة ومن مضمون الآيات أنّ هذا الشخص ـ أو الأشخاص المذكورين ـ لم يكونوا من المنافقين في بداية الأمر ، لكنّهم لهذه الأعمال ساروا في ركابهم.

التّفسير

المنافقون وقلّة الاستيعاب :

هذه الآيات في الحقيقة تضع إصبعها على صفة أخرى من صفات المنافقين السيّئة ، وهي أنّ هؤلاء إذا مسّهم البؤس والفقر والمسكنة عزفوا على وتر الإسلام بشكل لا يصدق معه أحد أنّ هؤلاء يمكن أن يكونوا يوما من جملة المنافقين ، بل ربّما ذمّوا ولاموا الذين يمتلكون الثروات والقدرات الواسعة على عدم استثمارها في خدمة المحرومين ومساعدة المحتاجين!

١٣٢

إلّا أنّ هؤلاء أنفسهم ، إذا تحسّن وضعهم المادي فإنّهم سينسون كل عهودهم ومواثيقهم مع الله والناس ، ويغرقون في حبّ الدنيا ، وربّما تغيّرت كل معالم شخصياتهم ، ويبدؤون بالتفكير بصورة أخرى وبمنظار مختلف تماما ، وهكذا يؤدي ضعف النفس هذا إلى حبّ الدنيا والبخل وعدم الإنفاق وبالتالي يكرّس روح النفاق فيهم بشكل يوصد أمامهم أبواب الرجوع إلى الحق.

فالآية الأولى تتحدث عن بعض المنافقين الذين عاهدون الله على البذل والعطاء لخدمة عباده إذا ما أعطاهم الله المال الوفير( وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

إلّا أنّهم يؤكّدون هذه الكلمات والوعود ما دامت أيديهم خالية من الأموال( فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) غير أن عملهم هذا ومخالفتهم للعهود التي قطعوها على أنفسهم بذرت روح النفاق في قلوبهم وسيبقى إلى يوم القيامة متمكنا منهم( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ) وإنّما استحقوا هذه العاقبة السيئة غير المحمودة( بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ ) .

وفي النهاية وبّخت الآية هؤلاء النفر ولامتهم على النوايا السيئة التي يضمرونها ، وعلى انحرافهم عن الصراط المستقيم ، واستفهمت بأنّهم( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) .

* * *

ملاحظات

وهنا يجب الانتباه إلى عدّة ملاحظات :

1 ـ يمكن أن نرى بوضوح تام من خلال جملة( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ ) أنّ النسبة والعلاقة بين الكثير من الذنوب والصفات السيئة ، بل وحتى بين الكفر

١٣٣

والنفاق ، هي نسبة وعلاقة العلة والمعلول ، لأنّ الجملة الآنفة الذكر تبيّن وتقول بصراحة : إنّ سبب النفاق الذي نبت في قلوبهم وحرفهم عن الجادة هو بخلهم ونقضهم لعهودهم ، وكذلك الذنوب والمخالفات الأخرى التي ارتكبوها ، ولهذا فإنّنا نقرأ في بعض العبارات أن الكبائر في بعض الأحيان تكون سببا في أن يموت الإنسان وهو غير مؤمن ، إذ ينسلخ منه روح الإيمان بسببها.

2 ـ إنّ المقصود من( يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ) والذي يعود ضميره إلى الله سبحانه وتعالى هو يوم القيامة ، لأن تعبير( لِقاءَ رَبِّهِ ) وأمثاله في القرآن يستعمل عادة في موضوع القيامة. صحيح أن فترة العمل ـ التي هي الحياة الدنيا ـ تنتهي بموت الإنسان ، وبموته يغلق ملف أعماله الصالحة والطالحة ، إلّا أن آثار تلك الأعمال تبقى تؤثر في روح الإنسان إلى يوم القيامة.

وقد احتمل جماعة أنّ ضمير (يلقونه) يعود إلى البخل ، فيكون المعنى : حتى يلاقوا جزاء بخلهم وعقابه. ويحتمل كذلك أن يكون المراد من لقاء الله : لحظة الموت. إلّا أن جميع هذه خلاف ظاهر الآية ، والظاهر ما قلناه.

ولنا بحث في أنّه ما هو المقصود من لقاء الله في ذيل الآية (64) من سورة البقرة.

3 ـ ويستفاد أيضا ـ من الآيات أعلاه ـ أنّ نقض العهود والكذب من صفات المنافقين ، فهؤلاء سحقوا جميع العهود المؤكدة مع ربّهم ولم يعيروها أية أهمية ، فإنّهم يكذبون حتى على ربّهم ، والحديث المعروف المنقول عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤكّد هذه الحقيقة ، حيث

يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «للمنافق ثلاث علامات : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان»(1) .

ومن الملفت للنظر وجود هذه العلامات الثلاث مجتمعة في القصّة المذكورة ـ قصّة ثعلبة ـ فإنّه كذب ، وأخلف وعده ، وخان أمانة الله ، وهي الأموال التي رزقه الله

__________________

(1) مجمع البيان ، ذيل الآية.

١٣٤

إيّاها ، وهي في الحقيقة أمانة الله عنده.

وقد ورد الحديث المذكور في الكافي بصورة أشد تأكيدا عن الإمام الصادقعليه‌السلام عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «ثلاث من كن فيه كان منافقا ، وإن صام وصلى وزعم أنّه مسلم : من إذا ائتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف»(1) .

نذكر هنا أن من الممكن أن تصدر الذنوب المذكورة من المؤمنين ، إلّا أنّها نادرة ، أمّا استمرار صدورها فهو علامة روح النفاق في ذلك الشخص.

4 ـ وهنا ملاحظة أخرى ينبغي أن ننبه عليها ، وهي أن ما قرأناه في هذه الآيات ليس بحثا تاريخيا مختصا بحقبة مضت من الزمان ، بل هو بيان واقع أخلاقي واجتماعي يوجد في كل عصر وزمان ، وفي كل مجتمع ـ بدون استثناء ـ توجد نماذج كثيرة تمثل هذا الواقع.

إذا لا حظنا واقعنا الذي نعيشه ودققنا فيه ـ وربّما إذا نظرنا إلى أنفسنا ـ فسنكتشف نماذج من أعمال ثعلبة بن حاطب ، وطريقة تفكيره في صور متعددة وأشخاص مختلفين ، فإنّ الكثيرين في الأوضاع العادية أو عند إعسارهم وفقرهم يكونون من المؤمنين المتحرقين على دينهم والثابتين على عهدهم حيث يحضرون في الحلقات الدينية ، وينضوون تحت كل لواء يدعو إلى الإصلاح وإنقاذ المجتمع ، ويضمون أصواتهم إلى كل مناد الحق والعدالة ، ولا يألون جهدا في سبيل أعمال الخير ، ويصرخون ويقفون بوجه كل فساد.

أمّا إذا فتحت أمامهم أبواب الدنيا ونالوا بعض العناوين والمراكز القيادية أو تسلطوا على رقاب الناس ، فستتغير صورهم وسلوكهم ، والأدهى من كل ذلك أن تتبدل ماهيتهم ، وعندئذ سيخمد لهيب عشقهم لله ، ويهدأ ذلك الهيجان والتحرق على دين الله ، وتفتقدهم تلك الحلقات والجلسات الدينية ، فلا يساهمون في أية خطة إصلاحية ولا يسعون من أجل ذلك الحق ، ولا تثبت لهم قدم في مواجهة

__________________

(1) سفينة البحار ، ج 2 ، ص 607.

١٣٥

الباطل.

هؤلاء وقبل أن يصلوا الى مآربهم لم يكن لهم محل من الإعراب ، أو أثر في المجتمع ، لذا سيعاهدون الله وعباده بألف عهد وميثاق بأنّهم إن تمكنوا من الأمر ، أو امتلأت أياديهم من القدرات والأموال فسيفعلون كذا وكذا ، ويتوسلون للوصول الى أهدافهم بطرح آلاف الإشكالات والانتقادات فى حق المتصدين ويتهمونهم بعدم معرفتهم بإدارة الأمور ، وعدم إحاطتهم بوظائفهم وواجباتهم ، أمّا إذا وصلوا الى ما يرومونه وتمكنوا من الأمر ، فسينسون كل تلك الوعود والعهود ويتنكرون لها ، وستتبخر كل تلك الإيرادات والانتقادات وتذوب كما يذوب الجليد في حرارة الصيف.

نعم ، إنّ ضعف النفس هذا واحدة من العلامات البارزة والواضحة للمنافقين ، وهل النفاق إلّا كون صاحبه ذا وجهين ، وبتعبير آخر : هل هو إلّا ازدواج الشخصية؟ إن سيرة هكذا أفراد وتأريخهم نموذج للشخصية المزدوجة ، لأن الإنسان الأصيل ذو الشخصية المتينة لا يكون مزدوج الشخصية.

ولا شك أنّ للنفاق درجات مختلفة ، كالإيمان ، تماما ، فالبعض قد ترسخت فيهم هذه الخصلة الخبيثة الى درجة اقتلعت كل زهور الإيمان بالله من قلوبهم ، ولم تبق لها أثرا ، بالرغم من أنّهم ألصقوا أنفسهم بالمؤمنين وادعوا أنّهم منهم.

لكن البعض الآخر مع أنّهم يملكون إيمانا ضعيفا ، وهم مسلمون بالفعل ، إلّا أنّهم يرتكبون أعمالا تتفق مع سلوك المنافقين ، وتفوح منها رائحة الازدواجية ، فهؤلاء ديدنهم الكذب ، إلّا أن ظاهرهم الصدق والصلاح ، ومثل هؤلاء يصدق عليهم أيضا أنّهم منافقون وذوو وجهين.

أليس الذي عرف بالأمانة لظاهره الصالح ، واستطاع بذلك أن يكسب ثقة واطمئنان الناس فأودعوه أماناتهم ، إلّا أنّه يخونهم في أماناتهم ، هو في واقع الحال مزدوج الشخصية؟

١٣٦

وكذلك الذين يقطعون العهود والمواثيق ، لكنّهم لا يفون بها مطلقا ، ألا يعتبر عملهم عمل المنافقين؟

إن من أكبر الأمراض الاجتماعية ، ومن أهم عوامل تخلف المجتمع وجود أمثال هؤلاء المنافقين في المجتمعات البشرية ونحن نستطيع أن نحصي الكثير منهم في مجتمعاتنا الاسلامية إذا كنّا واقعيين ولم نكذب على أنفسنا. والعجب أنّنا رغم كل هذه العيوب والمخازي والبعد عن روح التعليمات والقوانين الإسلامية ، فإننا نحمّل الإسلام تبعة تخلفنا عن الركب الحضاري الأصيل!

* * *

١٣٧

الآيتان

( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) )

سبب النّزول

وردت عدّة روايات في سبب نزول هذه الآيات في كتب التّفسير والحديث ، يستفاد من مجموعها أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد صمّم على إعداد جيش المسلمين لمقابلة العدو ـ وربّما كان ذلك في غزوة تبوك ـ وكان محتاجا لمعونة الناس في هذا الأمر ، فلما أخبرهم بذلك سارع الأغنياء إلى بذل الكثير من أموالهم ، سواء كان هذا البذل من باب الزكاة أو الإنفاق ، ووضعوا هذه الأموال تحت تصرف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أمّا الفقراء ، كأبي عقيل الأنصاري أو سالم بن عمير الأنصاري ، لما لم يجدوا ما ينفقونه لمساعدة جنود الإسلام ، فقد عمدوا إلى مضاعفة عملهم ، واستقاء الماء

١٣٨

ليلا ، فحصلوا على صاعين من التمر ، فادخروا منه صاعا لمعيشتهم ومعيشة أهليهم ، وأتوا بالآخر إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقدموه ، وشاركوا بهذا الشيء اليسير ـ الذي لا قيمة له ظاهرا ـ في هذا المشروع الإسلامي الكبير.

غير أنّ المنافقين الذين لا همّ لهم إلّا تتبع ما يمكن التشهير به بدلا من التفكير بالمساهمة الجدية فإنّهم عابوا كلا الفريقين ، أمّا الأغنياء فاتهموهم بأنّهم إنّما ينفقون رياء وسمعة، وأمّا الفقراء الذين لا يستطيعون إلّا جهدهم ، والذين قدموا اليسير وهو عند الله كثير ، فإنهم سخروا منهم بأن جيش الإسلام هل يحتاج إلى هذا المقدار اليسير؟ فنزلت هذه الآيات ، وهددتهم تهديدا شديدا وحذرتهم من عذاب الله.

التّفسير

خبث المنافقين :

في هذه الآيات إشارة إلى صفة أخرى من الصفات العامّة للمنافقين ، وهي أنّهم أشخاص لجوجون معاندون وهمهم التماس نقاط ضعف في أعمال الآخرين واحتقار كل عمل مفيد يخدم المجتمع ومحاولة إجهاضه بأساليب شيطانية خبيثة من أجل صرف الناس عن عمل الخير وبذلك يزرعون بذور النفاق وسوء ظن في أذهان المجتمع ، وبالتالي إيقاف عجلة الإبداع وتطور المجتمع وخمول الناس وموت الفكر الخلّاق.

لكن القرآن المجيد ذم هذه الطريقة غير الإنسانية التي يتبعها هؤلاء ، وعرّفها للمسلمين لكي لا يقعوا في حبائل مكر المنافقين ومن ناحية أخرى أراد أن يفهم المنافقون أن سهمهم لا يصيب الهدف في المجتمع الإسلامي.

ففي البداية يقول : إنّ هؤلاء( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ

١٣٩

أَلِيمٌ ) .

«يلمزون» مأخوذة من مادة (لمز) بمعنى تتبع العيوب والعثرات ، و «المطوّعين» مأخوذة من مادة (طوع) على وزن (موج) بمعنى الطاعة ، لكن هذه الكلمة تطلق عادة على الأفراد الذين دأبهم عمل الخيرات ، وهم يعملون بالمستحبات علاوة على الواجبات.

ويستفاد من الآية أعلاه أنّ المنافقين كانوا يعيبون جماعة ، ويسخرون من الأخرى ، ومن المعلوم أن السخرية كانت تنال الذين يقدمون الشيء القليل ، والذين لا يجدون غيره ليبذلوه في سبيل الإسلام ، وعلى هذا لا بدّ أن يكون لمزهم وطعنهم مرتبطا بأولئك الذين قدموا الأموال الطائلة في سبيل خدمة الإسلام العزيز ، فكانوا يرمون الأغنياء بالرياء ، ويسخرون من الفقراء لقلّة ما يقدمونه.

ونلاحظ في الآية التي تليها تأكيدا أشد على مجازاة هؤلاء المنافقين ، وتذكر آخر تهديد بتوجيه الكلام وتحويله من الغيبة إلى الخطاب ، والمخاطب هذه المرّة هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت :( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ) .

وإنّما لن يغفر الله لهم لأنّهم قد أنكروا الله ورسالة رسوله ، واختاروا طريق الكفر ، وهذا الإختيار هو الذي أرداهم في هاوية النفاق وعواقبه المشؤومة( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) . ومن الواضح أن هداية الله تشمل السائرون في طريق الحق وطلب الحقيقة ، أمّا الفساق والمجرمون والمنافقون فإنّ الآية تقول :( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) .

* * *

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343