لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)0%

لقد شيعني الحسين (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 411

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: إدريس الحسيني
تصنيف: الصفحات: 411
المشاهدات: 55112
تحميل: 6002

توضيحات:

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 411 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 55112 / تحميل: 6002
الحجم الحجم الحجم
لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

رحلة جديدة مع التاريخ:

اُريد هنا أن أوقف التاريخ الإسلامي على قدميه - بعد أن ظلّ في أذهاننا منقلباً على وجهه - وخطوة واحدة جديرة بإيقافه على رجليه، هي أن نفتح أعيننا مباشرة على كلّ ما وقع، ونحكّم الوجدان ليس إلاّ. وتاريخ الفتنة الكبرى أو مقتل عثمان ليس بداية، بل نتيجة لمقدمات اختصرت بفعل التزامن والاستمرارية لتنتج ما حصل. وبذور الأزمة يمكن ضبطها في عصر النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولا أنكر أنّني سوف أتوصّل بمجموعة من المعطيات العلميّة؛ الاجتماعيّة والسياسيّة والنفسيّة. فالظاهرة التاريخيّة هي من صنع الإنسان، فهو حرّ في اختياراته مريد في مسالكه، وأحياناً تجده محاصراً ضمن محددات جغرافيّة وبيئيّة، لكن هذه الأخيرة لا تلغي (تحرّره) على المستوى السّياسي والاجتماعي والنّفسي. ثمّ لا ننسى (العامل الاقتصادي) كأحد المحددات الأساسيّة لفهم الظاهرة الاجتماعيّة التاريخيّة، وذلك يمكن رصده من خلال التحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة والعقديّة في ظلّ التطوّر الاقتصادي في المجتمع الإسلامي، إنّنا نتعامل مع بشر ذوي أبعاد مختلفة يعتريهم الضعف والقوّة حسب التحوّلات التي تطرأ على تلك الأبعاد.

سوف نحفز في كلّ الاتجاهات وفي كلّ الأبعاد؛ من أجل الوقوف على حقيقة الظاهرة التاريخيّة مجرّدة عن أوهامها، وبذلك يمكن للتاريخ الإسلامي أن يتمثّل واقفاً على رجليه.

١٠١

١٠٢

سيرة الرسول: المنطلق والمسيرة

نحن إذ نتحدّث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لا نريد أن نرسم له سيرة تفصيليّة كما هي عادة (السّير)، فهذا العمل لا يتناسب مع مقاصد الكتاب، ولكنّنا سنحاول قراءتها ضمن معطياتنا المنهجية، مركّزين على المحطّاة الحسّاسة التي تعتبر مفتاحاً لفهم الظاهرات التي شهدها التاريخ الإسلامي فيما بعد. مع ذلك وحين نمسك (سفراً) عن السّيرة، عادة لا نتجاوز بعض الأبعاد التي يذكره في البداية، وهي الأوضاع؛ السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصادية والنفسية للمجتمع الذي ظهرت فيه البعثة.

لقد جاء الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مبشّراً وهادياً إلى قومه، ومعارضاً لكلّ ما رزح به المجتمع العربي من أمراض؛ اجتماعيّة وسياسيّة وأخلاقيّة. وأثناء ممارستهصلى‌الله‌عليه‌وآله للدعوة في المجتمع الجاهلي، كان يتعرّض لنمط من الأذى، تقف وراءه نفوس هي خلاصة ما أنتجه مجتمع الجزيرة العربيّة، وبكل المحددات التي تولدها البيئة الجاهلية. والإنسان العربي قبل الإسلام، كان يعاني انهياراً حضاريّاً يؤشّر بالموت النّهائي للمجتمع الجاهلي.

فسياسياً، كانت أطراف الجزيرة العربيّة خاضعة للنفوذ الاستعماري من قبل قوّتين عظيمتين، تمارسان توازنهما الحربي والسّياسي، في حين أنّ الوسط بقي منفلتاً عن هاتين السّلطتين ويعيش فراغاً سياسيّاً قاتلاً، وكانت تلكما القوّتان هما: (فارس) و (الرّوم).

١٠٣

وبينما استولى الفرس على الشّرق(1) ، كان النّفوذ الروماني في الشّمال من الجزيرة العربيّة، وضمن هذا التمزق بين إمبراطوريتين عظيمتين، كانت هنالك تشكيلة لاهوتية تتحرّك في الداخل، وتؤسّس لها كيانها الخاص في مجتمع الجزيرة، وتطمح إلى بناء مستقبلها البعيد بنفس هادئ ومخطط بعيد المدى، وكانت تلك هي المجموعة اليهوديّة التي انتشرت في ربوع الجزيرة العربيّة، وسيطرت على جزء من الاقتصاد فيها، ممّا خوّلها القدرة على السّيطرة على القرار السّياسي أحياناً. هذه الفئة بعكس النّصارى(2) ؛ لم تكن لها جهة تسندها، ولا قوّة تدعمها سوى الاعتماد على قدراتها الذاتيّة، وبالتالي استطاعت الفئة اليهوديّة كسب نفوذها في قلب الجزيرة من خلال ممارستها لسلطتين:

الأولى: سلطة لاهوتيّة، بحيث احتكر اليهود - وخصوصاً في المدينة - الخطّاب الديني المغلق.

ثانياً: سلطة اقتصادية من خلال السّيطرة اليهوديّة على الإنتاج الزراعي.

هاتان السّلطتان منحتا فرصة لليهود للسيطرة على جزء من المجتمع العربي، وأحياناً توجيهه، مستغلة بذلك وضع (التجزئة) العربيّة والتفكّك القبلي السّائد. وكان من سلوكهم المزدوج تجاه القضايا العربيّة يومها، ما تعرض له القرآن:( ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ) (3) . وملخّص الحالة، إنّ اليهود في المدينة كانوا ثلاث فرق هم؛ بنو قريضة، بنو

____________________

(1) عندما جاء الإسلام، كان المنذر بن ساوى العبدي والياً على منطقة البحرين في شرق الجزيرة - من أبناء المنطقة - من قبل الفرس، وفي فترة قبل ذلك حكم الفرس اليمن، غير أنّهم خرجوا منها بعد مجئ الأحباش المدعومين من الرومان، ثمّ ما لبثت المنطقة إن استقلّت بعد ثورة (سيف بن ذي يزن).

(2) كان ذراع النّصارى في الجزيرة العربيّة هم الرومان.

(3) سورة البقرة / 85.

١٠٤

النّضير، وبنو قينقاع. وحيث إنّ الوضع التجزيئي الغالب على المجتمع العربي يومها، اقتضى أن ينقسم إلى جبهتين متصارعتين على مدى السّنين؛ هما الأوس والخزرج.

كانت هذه الفرق اليهوديّة تتمركز تكتيكياً ضمن الجبهتين، فبنو قينقاع وبنو النّضير حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس، وعندما يقع القتال بين الفريقين، تجد كلّ فرقة من هؤلاء تقاتل إلى جنب حليفتها، وبالنّتيجة يتمّ قتل اليهودي من قبل اليهودي، وكان قتل اليهودي لليهودي مُحرّماً في ميثاقهم، ثمّ لمّا تنتهي الحرب وتهدأ حدّتها، ينظر اليهودي من كلّ الفرق إلى أخيه اليهودي الأسير في معسكره، فيلجأ إلى فديه، وذلك استجابة لنداء التوراة ولهذا عقّب القرآن:( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ) (1) .

ولقد أغرق اليهود العرب بالأساطير والخرافات، فنتج عن ذلك واقع مجتمعي مستلب يعيش على سبيل الكهانة والسّحر والخرافة؛ حيث انشلّت إمكانياته على الترقّي، فراح نحو الأقوال واقترب من الغناء. وكان اليهود يمعنون في واقع التجزئة ويكرّسون حالة التمزّق القبلي؛ لأنّهم بذلك يحقّقون فرصتهم للبقاء والسّيادة، وغالبا ما كانوا يصنعون الحروب الطوال بين القبيلة والاُخرى، فيما لو أحسّوا بخطر هذه القبيلة أو تلك.

وكان للعاملين القبلي والتجاري دورهما في توجيه المجتمع العربي، وبقي هذا هو السّبب المانع لهم من السّماع إلى دعوة الرّسول بمكّة، فمن جهة رفضوا ميزة (النّبوة) في محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا لأنّه الشّخص المحترم والأمين و... ولكن؛ لأنّه ينتسب إلى عشيرة بني هاشم العريقة بنبالتها ومقامها في أرض الجريرة العربيّة، فأبوا عليها أن تجتمع لها كلّ الامتيازات التي ترفعها درجات، حيث يتعسّر على القبائل الاُخرى أن تكون الرفادة والسّقاية ثمّ النّبوة في بني هاشم، لذلك كانوا يبرزون وجهة نظرهم القبلية مجدّدين بها (طبيعة) النّبوّة.

ويدلّنا على ذلك ما عاناه الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في دعوته، فيروي بن هشام في السّيرة، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عرض نفسه على بني عامر بن صعصعة وشرح لهم دعوته، وأجابه رجل منهم قائلاً: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثمّ أظهرك الله على من خالفك، أيكون

____________________

(1) سورة البقرة / 85.

١٠٥

لنا الأمر من بعدك؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «الأمر لله يضعه حيث يشاء». فقال له: أفنهدي نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟! لا حاجة لنا بأمرك. فأبوا عليه، وكان العامل القبلي حاجزاً ضد إسلامهم، كما كان دافعاً لهم للكيد بالإسلام.

لقد ورد عن ابن الأثير: إنّ اُبي بن شريف التقى مع أبي جهل، فقال له: أترى محمّداً يكذب؟ فقال أبو جهل: كيف يكذب على الله وقد كنّا نسمّيه الأمين؛ لأنّه ما كذب قط، ولكن إذا اجتمعت في بني عبد مناف السقاية والرفادة والمشورة ثمّ تكون فيهم النّبوة، فأي شيء يبقى لنا.

وكان أبو سفيان يقول: كنّا وبني هاشم كفرسي رهان، كلّما جاؤوا بشيء جئنا بشيء مقابل، حتّى جاء منهم من يدّعي بخبر السّماء، فأنّا نأتيهم بذلك. إنّه المنطق الذي يحكم حياة العرب قبل الإسلام، وبقي مسيطراً على أغلبيّة النّفوس بعد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولمّا عرض دعوته على بني عامر بن صعصعة، قال رجل منهم: والله، لو أنّني أخذت هذا الفتى من قريش، لأكلت به العرب(1) .

وشيئاً فشيئاً بدأ عمود الدين يقوى وباتت شوكة الكفر تضعف، وقامت الحروب الضارية بين المسلمين والمشركين. وحيث إنّ الأغلبيّة السّاحقة في النّهاية لم تدخل طوعاً في الدين ولا اعتقاداً به، وإنّما كرهاً وغلبة فإنّها انطوت على النّفاق وبيّتت الشّر لبني هاشم، لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي جاءهم بالإسلام، ولعليّعليه‌السلام الذي قتل آباءهم وأجدادهم. والفترة التي فصلت بين (الفتح) ووفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تكن كافية لنزع الطبائع القبلية من هؤلاء الوافدين على الدين.

ونلاحظ أنّ المؤامرة على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قد بدأت بعد الفتح؛ حيث حاول المنافقون الذين كانوا يشكّلون جزءاً من المجتمع الإسلامي، أن يغتالوا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في اللحظات التي توفّرت لديهم فيها الفرصة. وقد ذكر أبو بكر

____________________

(1) ابن هشام السّيرة النّبوية.

١٠٦

البيهقي في (دلائل النّبوّة) عن عدوة، قال: لمّا رجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قافلاً من تبوك إلى المدينة، حتّى إذا كان ببعض الطريق، مكر به ناسٌ من أصحابه، فتآمروا أن يطرحوه في عقبة في الطريق، وأرادوا أن يسلكوها معه، فأخبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خبرهم، فقال: «مَن شاء منكم أنْ يأخذ بطن الوادي؛ فإنّه أوسع لكم».

فأخذ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله العقبة وأخذ النّاس بطن الوادي، إلاّ النّفر أرادوا المكر به استعدّوا وتلثّموا، وأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حُذيفة بن اليمان وعمّار بن ياسر فمشيا، وأمر عمّاراً أنْ يأخذ بزمام النّاقة وأمر حُذيفة بسوقها. فبينما هُم يسيرون، إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم قد غشوه، فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمر حُذيفة أنْ يراهم، فرجع ومعه محجن، فاستقبل وجوه رواحلهم وضربها ضرباً بالمجن، وأبصر القوم وهم مُتلثّمون، فأرعبهم الله حين أبصروا حُذيفة وظنّوا أنّ مكرهم قد ظهر، فأسرعوا حتّى خالطوا النّاس، وأقبل حُذيفة حتّى أدرك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال: «اضرب الراحلة يا حُذيفة، وامشِ أنت يا عمّار». فأسرعوا وخرجوا من العقبة ينتظرون النّاس، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا حُذيفة، هل عرفتَ مِن هؤلاء الرّهط أحداً؟». فقال حُذيفة: عرفت راحلة فلان وفلان. وكانت ظلمة الليل قد غشيتهم وهم مُتلثّمون، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «هل علمتم شأنَ الرّكبِ وما أرادوا؟». قالوا: لا يا رسول الله. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «فإنّهم مكروا ليسيروا معي، حتّى إذا اظلمّت لي العقبة، طرحوني منها». قالوا: أفلا تأمر بهم يا رسول الله إذا جاءك النّاس تضرب أعناقهم؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أكره أنْ تتحدّث النّاس وتقول: إنّ محمداً قد وضع يده في أصحابه». فسمّاهم لهما، ثمّ قال: «اكتماهم».

هكذا إذاً كان واقع المجتمع الإسلامي بُعيد الفتح، حيث تبنّت طبقة المشركين خيار (النّفاق) والعمل في الظلّ، وتأسيس كيانها القوي داخل مجتمع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والتخطيط للمستقبل على المدى البعيد. وكان بنو اُميّة بزعامة (أبي سفيان)، هُم المناوئين الأوائل لحركة (النّبوّة)، وعند الفتح كانوا من الذين عفى عنهم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فسمّوا بالطلقاء، حيث ذكر اليعقوبي: (ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما تظنون وما أنتم قائلون؟». قال سهيل: نظنّ خيراً ونقول خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم وقد ظفرت. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «فإنّي أقول لكم كما قال أخي يوسف: لا تثريبَ عليكم اليوم». ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألا لبئس جيران كنتم! فاذهبوا فاذهبوا فأنتم

١٠٧

الطلقاء»(1) .

وعبارة (أنتم الطلقاء) تفيد معنى آخر يناقض مفهوم الإيمان والإسلام.

فهم دخلوا الإسلام كرهاً وخوفاً من زحف الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما زال الاُمويّون يضمرون حقدهم وانتقامهم وتربّصهم بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ولذا أذاقوا آل البيت النّبوي كؤوس المنايا. وحالة الانتقام بقيت ساكنة تتطوّر مع تطوّر الزمن، لتخرج إلى دنيا الإفصاح فتصنع أبشع جرائم التاريخ.

لقد جاء اليوم الذي تسلّم فيه (يزيد بن معاوية) مسؤولية اُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان حتّى كان رأس ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحفيده الأكرم الإمام الحسينعليه‌السلام بين يديه ينكث ثناياه بقضيب.

روى ابن أعثم والخوارزمي وابن كثير وآخرون: أنّ يزيد بن معاوية تمثّل يومها بهذه الأبيات:

لـيـت أشياخي ببدرٍ شهدوا

جزعَ الخزرجِ من وقع الأسلْ

لأهـلّـوا واسـتـهلوا فرحاً

ثـم قـالـوا يا يزيد لا تشلْ

قـد قـتلنا القرمَ من ساداتهمْ

وعـدلـنـا ميلَ بدرٍ فاعتدلْ

لـستُ من عقبة إنْ لم أنتقمْ

مـن بـني أحمدَ ما كان فعلْ

لـعـبت هـاشمُ بالمُلك فلا

خـبرٌ جـاء ولا وحيٌ نزلْ

وستبدأ تجلّيات الروح القبليّة والانتقاميّة، تظهر فور رحيل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لتتحرك النّفوس صوب المطامع والمنافسة الخسيسة؛ وبذلك تسهل على الفئة المنافقة فرصة لتقوية نفوذها، وقد وقع ذلك وبدأ من السّقيفة.

ولا بدّ ونحن ندرس (السّقيفة) كحدث، يجب أنْ ندرك الجذور التاريخيّة التي تربطها بسيرة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ لها - أي: السّقيفة - أبعادها فينا إلى الآن وستبقى، ودون أنْ ننسى استحضار تلك المحطّات التي أوجزناها سريعاً - أي:

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 60، دار صادر.

١٠٨

عن واقع الجزيرة العربيّة القبليّة واليهود والمنافقين وغيرهما ممّا أشرنا إليه من محطّات -.

وفي تلك الأثناء لم تغب قضية الوصيّة والخلافة، وهي أمر يدرك بالوجدان في مجتمع يهتمّ بالقيادة وبخلافتها المرشحة، ذلك؛ لأنّ المشروع الرّسالي في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقتضي الاهتمام ولفت الأنظار إلى لذلك الامتداد القيادي لرّسالة الإسلام؛ حتّى لا يطرأ على التصوّر المناوئ: أنّ المشروع النّبوي مشروع وقتي ينتهي بانتهاء صاحبه، ولم يكن من منطق الرّسالات السّابقة - كما هو ليس من دأب نظم الحكم والقيادة في المجتمع النّبيل، الذي يملك نظريّة أخلاقيّة حول الحاكم - أن تغيب هذه المسألة المتّصلة بواقع الرّسالة الإسلاميّة ومستقبلها المصيري.

ومن خلال (المسعودي)(1) نثبت أنّ فكرة الوصيّة من القضايا التي شهدتها كلّ رسالات السّماء، بل إنّ الرّسالة التي أتت إلى قوم مُعيّنين، وفي إطار زمني محدود، لم تغب فيها قضية الوصيّة، فكيف يمكن تصوّر (إلغائها) بخصوص رسالة عالميّة وفي إطار زمني ممتد، وساحة الإنسان أينما كان وحيث حل، فأجدر بهكذا رسالة أن تحدّد قضية الخلافة(2) ، وحيث إنّ الخلاف حول الخلافة نشأ فور وفاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهذا يعني أنّ المسألة ليست بذلك المستوى من (التفاهة)، حتّى لا يوفرّ لها الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله صيغة شرعيّة تحول دون مضاعفاتها، أو لعلّه لم يحط بذلك علماً، وبما سيحدث بعده من خلاف بسبب الصراع على أمر الخلافة، وهذا ينافي عصمته وعصمة الوحي الذي كان يوجّه الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ إنّ الأصل في القيادة هي الوصيّة، ولم تكن الشّورى سوى تبرير تاريخي لما وقع في (سقيفة) بني ساعدة، إذ إنّ التاريخ يفضح حقيقة الشّورى التي اعتمدوها في السّقيفة، بل إنّها - أي: الشّورى - أثبتت (بؤسها) في انتخاب

____________________

(1) المسعودي في إثبات الوصيّة.

(2) إذا كان البعض يرى أنّ الخلافة في أمر الدنيا هي المقصود، فنحن نتحدّث عن الخلافة في الدين،

والخلافة في الدين هي نفسها الخلافة في أمور الدنيا؛ لأنّ هذه الأخيرة مرتبطة بالتشريع الإلهي.

١٠٩

صيغة الحكم، وفي خلق الممانعة الشّرعيّة والمطامع النّفسيّة والقبليّة التي كانت سائدة يومها، وليس من السّهولة التغاضي عمّا وقع حول الخلافة من خلاف وتضارب، (وما استلّ سيف في الإسلام، مثل ما استلّ على الإمامة) كما يؤكد المؤرّخون(1) .

إنّ الأخذ بشرعية الإمامة كمسألة خاضعة لأمر الشّارع، ستسقطنا في مأزق اتهام الكثير ممّن حسبوا على الصحابة في تاريخ الإسلام، سيكون الخارج عنها يشكّل الأغلبية، ولن يبقى إلاّ آل البيت وكبار الصحابة، غير أنّنا لو سمعنا بشرعيّة الخلافة كمسألة اختياريّة خاضعة لاختيار أهل الحل والعقد، أولاً ككل يلزم التقيّد والالتزام بهذه الصيغة؛ لأنّها تشكّل في حد ذاتها (أمراً شرعيّاً) - أي: أنّ الخارج عن قرار السّقيفة، سيكون مخالفاً لتكليف شرعي - وهنا أيضاً سنسقط في نفس المأزق، هو مأزق اتهام الأغلبيّة السّاحقة التي رفضت الشّورى وقُيّدت إليها بالعنف، ولن يبقى أمامنا من الملتزمين بالشّرع إلاّ أبو بكر وعمر من الصحابة، وهذا مخالف للواقع؛ إذ إنّ التاريخ أحصى لهذين الرجلين مخالفات كثيرة لأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ممّا لا ينطبق على سيرة عليّعليه‌السلام والصحابة الذين تعسكروا في بيته كسلمان الفارسي وعمّار وأبي ذر والمقداد.

وإذا كان عليّعليه‌السلام والذين معه لم يسجّل عليهم التاريخ تلك المخالفات المفضوحة، فكيف يخالفون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد موته، وكيف لا يُخالف الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد موته اُولئك الذين كفروا بالإمامة، إذا كانوا ممّن تعوّد على مخالفة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته، بل ومجادلته بسوء الأدب. إنّنا سواء أخذنا (بالوصية) أو (الشّورى) نضطرّ إلى اتّهام قافلة ممّن سمّوا بالصحابة بمخالفة الشرع، فتأمّل.

إنّ هذه الأهمّية التي تلابس (قضية الإمامة) - كما تؤكد ذلك النّتائج والوقائع التي أسفر عنها غياب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله - تبيّن مدى أهميتها في عهد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن الذي فيه تبيان لكلّ شيء والرّسالة الإسلاميّة بشكل عام؛ حيث فيها كلّ حلول المجتمع بما فيها سفاسف الاُمور، فلا بدّ أن يكون فيها حلّ لقضية الخلافة

____________________

(1) الشّهرستاني في الملل والنّحل.

١١٠

التي هي أعظم قضية في التصوّر الإسلامي.

إنّ الأمر لو كان شورى - مع افتراض أنّها (شورى) - لما كان من المنطقي عقلاً وشرعاً أنْ يتمرّد عليها جيل من السّابقين في الإسلام، ما كانوا يريدونها لأنفسهم بقدر ما أرادوها للإمام عليّعليه‌السلام . الانقسام يدلّنا على أنّ القضية فيها إمّا (غصب) أو (ادعاء)، فإمّا أن يكون عليّعليه‌السلام ومن معه (يدّعون) أمراً ليس لهم، أو أنّ الآخرين (اغتصبوا) حقّاً ليسوا من أهله. ومن هنا سننطلق في معالجة المشكلة في نطاقها التاريخي الحقيقي.

قلت: بأنّ إثبات الوصيّة لازم حياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان يحمل همّها ضمن همّه النّبوي الأوّل، إذ فرض نفسه مع الإمام عليّعليه‌السلام بشكل ملفت للنظر، فرض نفسه كنبيّ رسول، ونصّب الإمام عليّ كوصي وخليفة، وهذا منطق لا يمجّه طبع له إدراك بفلسفة الحكم وتاريخه البشري، بل حتّى في طبيعة الحكم الديمقراطي الرّاقي، لم يكن الإنسان يستغرب إذا أعلن عن رئيس أمريكي ومعه نائبه، ومنذ ترشيح (ريغان) عرف نائبه (بوش)، وكذا (كلينتون) كان نائبه معه (غور) قبل أن يستلم الرئاسة من (بوش)، إنّها تقاليد في الحكم الديمقراطي لا ترفضها روح القوانين، وكما لا تناقض أنماط السّلطة والحكم الوضعي، فهي أيضاً لا تناقض مسار النّبوّة والرّسالة(1) إذا سلّمنا بأنّ موسىعليه‌السلام نبيّ الله وهارونعليه‌السلام خليفته عاشا معاً، وقضى كلاهما في مجتمع بني إسرائيل من دون أن يكون ذلك معرباً عن تناقض.

فرض الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه كواسطة رسالية لنقل الوحي من الله سبحانه إلى النّاس، وأقام عليّاًعليه‌السلام كمؤازر ووزير ووصي. ولست أدري هل في سنن الأوّلين والآخرين أن يعهد بالأمر إلى غير الوزير والوصي، علماً أنّ اختيارات الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّها حكيمة ومعصوم بوساطة الوحي، وليس شيء

____________________

(1) وهنا يثبت المسعودي في إثبات الوصيّة وصايا الأنبياء من آدم إلى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعدّ أوصياءهم جميعاً؛ حيث جعل لآدم شيثاً، ولإبراهيم إسماعيل، وليعقوب يوسف، ولموسى يوشع بن نون، ولعيسى شمعون، ولمحمّد عليّاً والأحد عشر من ولدهعليهم‌السلام .

١١١

يستوجب مدخليّة (الوصي) كمسألة (مصير الاُمّة).

كيف أوجد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله خلافة عليّعليه‌السلام في بداية الدّعوة؟ ثمّ كيف نستطيع رصد تميّزات الدور (الإمامي) أو (الوصائي) في زمن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والخصوصيات الرّساليّة التي انفرد بها الإمام عليّعليه‌السلام في زمن الرّسالة؟ سنحاول استنطاق التاريخ والكشف عن أعماقه؛ ليتبيّن لنا ما إذا كان الأمر كذلك.

ذكر المؤرّخون(1) إنّه لمّا نزلت الآية:( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) (2) . قام الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يدعو أقرباءه وفيهم عمّه أبو لهب، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا بني عبد المطلّب، إنّي والله، ما أعلمُ شابّاً في العرب جاء قومَهُ بأفضل ممّا جئتكم به؛ إنّي قد جئتكُمْ بخير الدُّنيا والآخرة، وقد أمرني الله عزّ وجل أنْ أدعوكم إليه، فأيّكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر، على أنْ يكونَ أخي ووصيّ وخليفتي فيكم؟».

فسكت القوم ولم يجيبوا إلاّ عليّعليه‌السلام قال: «أنا يا رسول الله، أكونُ وزيرَكَ على ما بعثك اللهُ». وبعد أن كرّر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله دعوته لقومه ثلاث مرّات، التفت إليهم وقال: «إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم - أو عليكم - فاسمعوا له وأطيعوا». فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع، وجعله عليك أميراً.

أوّلاً: وفي رؤيتنا للحديث، لا بدّ أن نعلم بأنّه بلغ قدراً من التواتر واعتبر صحيحاً لدى جميع المفسّرين(3) ، إلى درجة جعلت الطبري - وهو أحد رواته -

____________________

(1) تاريخ الطبري، مسند أحمد بن أبي الحديد في شرح النّهج، تاريخ الكامل.

(2) سورة الشّعراء / 214.

(3) إلاّ واحد أراد أن يخالف الجمهور؛ لينقص من فضائل الإمام عليّعليه‌السلام كما هي عادته القبيحة في النّصب وهو ابن تيمية.

١١٢

يتصرّف في صيغة الحديث فيروي بهذا الشّكل: «فأيّكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون كذا وكذا». وبعدها قال للإمام عليّعليه‌السلام : «إنّ هذا أخي وكذا وكذا»(1) . إنّ هذه الـ (كذا وكذا) هي قمّة التمويه والتلبيس (المبتذل)؛ لأنّها دليل في حدّ ذاتها على أهمّيّة ما تخفيه عبارة الـ (كذا وكذا).

وكيف أنّ الطبري الذي لم ينس صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها في تاريخه، كيف ينسى كلمتين فقط ظهرتا في نصوص الرّاوين الآخرين؟! هناك بلا شكّ منطق يحكم فكر المؤرّخ، هو منطق التضليل والتعتيم اللذين يقلبان التاريخ على وجهه. ومثل ذلك، اضطرب ابن كثير في تفسيره للآية الواردة في سورة (الشّعراء)، إذ أتى مرّة برواية صيغتها: «فأيّكم يبايعني على أنْ يكون أخي وصاحبي». وأورد رواية اُخرى بصيغة: «أيّكم يقضي عنّي ديني ويكون خليفتي في أهلي»(2) .

وفي الرّواية الثانية يبدو الخلط والتشويه معاً، إذ إنّ موضوع إنذار العشيرة لا ينسجم مع (من يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي) والتي في الظاهر - إن صحّت - تبقى منسجمة مع ظروف الهجرة. ولولا هذا التلبيس، لما اضطرّ (الطبري) إلى إخفائه بـ (كذا وكذا).

وقبل الشّروع في تشريح الحديث، يجب أن نقضي على هذه (الشّطحة) الرّوائية التي أحاطت بحديث (الدار)، فالطبري في تفسيره تعمّد اُسلوب التمويه والتضليل؛ والدليل على ذلك: إنّ الحديث وجدت صيغته (الواضحة) والصّريحة في أماكن اُخرى.

____________________

(1) تفسير الطبري 19 / 74.

(2) تفسير بن كثير 3 / 301 - 302، دار القلم / بيروت.

١١٣

ثانياً: لأنّه أورده في تاريخه بصيغته الحقيقية، بعبارة: حدّثنا بن حميد حدّثنا سلمة حدّثنا محمّد بن إسحاق، عن عبد الغفار بن القاسم عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب، عن عبد الله بن عبّاس عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، قال:... الحديث.

والغريب أنّه أورده في (تفسيره) بنفس الصيغة والمتن غير ذلك التحوير في كلمة: «أخي ووصي وخليفتي»(1) . حيث استبدلها بما هو أبلغ وأبين (كذا وكذا)، إذ تبيّن لنا مدى حقيقة التزوير التاريخي الذي احتكرته نخبة من رجال التحريف، والذي انقلب عليهم (سحرهم)؛ ليكون تضليلهم وثيقة ضدّهم لا لهم.

لقد أورد الطبري في تفسيره الحديث بهذا السّند والمتن(2) : حدّثنا سلمة قال: حدّثنا محمّد بن إسحاق عن عبد الغفار بن القاسم، عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن عباس، عن عليّ بن أبي طالب: «لمّا نزلت هذه الآية (إلى أن قال:) فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي وكذا وكذا؟». قال: «فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلتُ - وإنّي لأحدثهم سنّاً وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً وأخمشهم ساقاً -: أنا يا نبي الله أكون وزيرك. فأخذ برقبتي، ثمّ وقال...» الحديث.

وبنفس الطريقة رواه في تاريخه، حيث قال: حدّثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثني محمّد بن إسحاق، عن عبد الغفار بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، عن عبد الله بن عبّاس، عن عليّ بن أبي طالب: «لمّا نزلت هذه الآية:( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) (3) . (إلى أن قال):

____________________

(1) إنّ نفس الحديث رواه مشاهير السنّة أنفسهم بمتنه الواضح، ومنهم النّسائي في الخصائص، والثعلبي في تفسيره، والحلبي في سيرته.

(2) (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) أبي جعفر بن جرير الطبري 19 / 121 - 122، الأجزاء / 19 -20 - 21، دار الفكر.

(3) سورة الشّعراء / 214.

١١٤

فأيّكُمْ يوازرني على هذا الأمر على أنْ يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟». قال: «فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت: - وإنّي لأحدثهم سنّاً وأرمصهم عيناً...» الحديث. إذاً تبيّن مدى التلبيس والتدليس.

آن لنا إذ ذاك شرح الحديث، لنقف على الحقيقة التي يفيض بها متنه.

هناك أربع كلمات يمكن الوقوف عندها بتدبّر وإمعان عميق:

1 - أخي

2 - وصيي

3 - خليفتي

4 - المؤازرة.

وكلّ هذه الخصال تحقّقت في حياة عليّعليه‌السلام ، إلاّ واحدة لم تتحقّق وهي عبارة (وصيي)؛ ذلك لأنّ الوصيّة تشير إلى حالة الاستخلاف بعد الموت، وكلمة (وصية) تفيد هذا المعنى(1) ، ولو كان يريد بها خلافته في الحياة، لما قرنها بعبارة (وخليفتي)؛ لأنّنا لو سلّمنا بأنّها تفيد الخلافة في الحياة أثناء غياب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله - كما ذهب البعض -، إذاً لكانت عبارة (خليفة) لغواً، وهذا لا يجوز على مَن أوتي جوامع الكلم، ووجود عبارة (وصي) إلى جانب (خليفة) تعني أنّ المعنيين مختلفان.

ونعود إلى أغوار السّيرة لنرى أنّ كلّ الخصال تحقّقت باستثناء (الوصية) في نظر البعض، وبعدم تحقّقها كان ما كان في تاريخ ما بعد السّقيفة، وكان المنعطف الكبير في حياة الاُمّة.

1 - المؤاخاة:

كان (التآخي) في الإسلام منهجاً لرصّ صفوف المسلمين، ونظّم الرّسول بنفسه عملية (التآخي) فيما بين المهاجرين والأنصار، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله يراعي كلّ متطلبات التآخي؛ فأنّ التقريب بين شخصين لم يكن ليجري اعتباطاً بقدر ما كانت تراعي فيه شروط الانسجام النّفسي والروحي.

وفي الوقت الذي آخى

____________________

(1) ومن رأى أنّها تعني الخلافة في حياته أثناء غيبته بمعنى (الوكالة)، فإنّه يحتاج إلى عودة لقراءة اللغة العربيّة.

١١٥

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بين المسلمين، اختار له الإمام عليّاًعليه‌السلام أخاً، وفي ذلك أورد أهل السّيرة أخباراً كثيرة، كما جاء في السّيرة الحلبية: إنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله آخى بعد الهجرة بين أبي بكر وخارجة بن زيد، وبين عمر وعتبان بن مالك، وبين أبي رويم الخشعي وبلال، وبين أسيد بن خضير وزيد بن حارثة.

قال: ثمّ أخذصلى‌الله‌عليه‌وآله بيد عليّ بن أبي طالب وقال: «هذا أخي». فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ أخوين.

ولم يكن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله اعتباطيّاً في هذا الاختيار حاشاه، وإنّما هي عصمة الوحي السّديد الذي كان الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يتحرّك في خطّه لا يحيد:( وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (1) .

2 - الخلافة:

والمراد بها هنا: الاستخلاف. وهي جامعة لمعنيين: الاستخلاف في الغيبة، والاستخلاف بعد الموت. ووجودها في نفس المقام مع (الوصاية) يجعلها تأخذ (المعنى الأوّل:) وهو القيام بأعمال بالوكالة عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله . وهذا النّوع من الاستخلاف كان واضحاً في سيرة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لمّا كان يختار الإمام عليّعليه‌السلام لخلافته في اُمور جسام، ويتجسّد ذلك في:

1 - استخلاف الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إيّاه في مكّة لقضاء ديونه عند الهجرة، حيث أدّى عنه الديون ورعى آل البيتعليهم‌السلام بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

2 - وفي تبوك حيث لم يكن من عادة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يستخلف عليّاًعليه‌السلام وراءه لمّا تقوم الغزوات، وهو أنفع للإسلام في المعركة يومها منه في حراسة المدينة، وهو بهذا الجهاد أقام أركان الدين، وقد قال فيه الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لولا سيفُ عليٍّ ومالُ خديجة، لما قام للإسلام قائمة». غير أنّ غزوة (تبوك) على أثر اتساع الرقعة الإسلاميّة المجتمعية، فقد دخل في الإسلام الغثّ والسّمين، واندسّ المنافقون وكثروا، وأغلبهم كان من المؤلّفة قلوبهم الذين أسلموا مقابل جعل مالي مخصّص لتأليف قلوبهم.

وخروج الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في هكذا ظروف، حيث تحيط بالمدينة جموع من المنافقين الذين يخشى انقلابهم على أهله، استغلالاً للظروف. فكان يومها

____________________

(1) سورة النّجم / 4.

١١٦

عليّعليه‌السلام أصلح للبقاء في المدينة، والأجواء المحيطة بها تتطلب خلافة محكمة؛ فكان الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يخلّف وراءه الإمام عليّاًعليه‌السلام ؛ لأنّه الأكفأ لخلافته.

ولست أدري كيف يظنّ البعض أنّ هذا مجرّد اختيار اعتباطي؟! كيف يمكن للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أنْ يزهد في حضور الإمام عليّعليه‌السلام المعركة وهو مفتاح النّصر في كلّ معارك الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! اللهمّ [ إلاّ ] إذا كان ثمّة سرّ موضوعي يقتضي أن تكون الخلافة لعليّعليه‌السلام على أهله في المدينة أيّام تبوك، وفي ذلك يروي الطبري عن ابن إسحاق: خلّف رسول الله عليّ بن أبي طالب على أهله وأمره بالإقامة فيهم.

وذكر ابن هشام: استعملصلى‌الله‌عليه‌وآله على المدينة محمّد بن مسلمة الأنصاري، وخلّف عليّ بن أبي طالب على أهله وأمره بالإقامة فيهم، فأرجف به المنافقون وقالوا: ما خلّفه إلاّ استثقالاً له وتخففاً منه. فلمّا قالوا ذلك، أخذ عليّ سلاحه ثمّ خرج حتّى أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو نازل في الجرف، فقال: «يا نبيَّ الله، زعم المنافقون أنّك إنّما خلّفتني؛ لأنّك استثقلتني وتخفّفت منّي». فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «كذبوا، ولكن خلّفتك لما تركت ورائي، فارجع فأخلفني في أهلي وأهلك؛ أفلا ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبي بعدي؟». فرجع عليّعليه‌السلام إلى المدينة.

3 - وبخصوص (سورة براءة)، يروي النّسائي في خصائصه عن سعد، قال: بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر ببراءة، حتّى إذا كان ببعض الطريق، أرسل عليّاًعليه‌السلام فأخذها منه ثمّ سار بها، فوجد أبو بكر في نفسه، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يؤدّي عنّي إلاّ أنا أو رجل منّي»(1) .

وهذه الرواية التي أجمع على صحّتها نقلة الأخبار من كلا المذهبين، تشير إلى واقع تحقّق (الخلافة) للإمام عليّعليه‌السلام في زمن الوحي، وهذه لفتة تاريخية كافية كدليل على الخصوصيّة التي تميّز بها الإمام عليّعليه‌السلام ، وإذا كان الإمام عليّعليه‌السلام بالتبليغ الإلهي أهلاً أن يبلّغ عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكيف لا يكون أهلاً لخلافة الاُمّة من بعده؟!

وهناك أكثر من مثال في السّيرة على هذه الميزات التي

____________________

(1) روى الحديث بأسانيد مختلفة عن النّسائي في الخصائص، وكذلك روى الحديث الطبري في تفسيره والحاكم في مستدركه.

١١٧

اختصّ بها الإمام عليّعليه‌السلام دون غيره فيما يرتبط بخاصيّة الخلافة.

3 - المؤازرة:

وثبتت مؤازرته للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يأل جهداً إلاّ وأنفقه في سبيل مؤازرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ونصرته، والإمام عليّعليه‌السلام هو من وقف مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم لم يقف معه النّاس، ونصره يوم خذلوه، والأمثلة على ذلك في السّيرة لا تكاد تُحصى، ويمكن إيراد بعض منها على سبيل المثال لا الحصر.

أ- ليلة المبيت، أوّل ليلة فداء:

لولا ما تمّ ليلة المبيت، لما ترتّبت هجرة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله على تلك الشّاكلة. لقد عزم المشركون على قتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأعدّوا لذلك خطّة، وتوجّب ساعتئذ عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يهاجر علانية؛ إذ أنّ القوم وزّعوا عيونهم وهم يتربّصون به، ولكي يموّه عليهم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، رتّب أمر مبيت عليّعليه‌السلام في فراشه. وذلك المبيت يعكس خطورة الموقف، فلو كان الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في خيار، لما ضحّى بالإمام عليّعليه‌السلام ، وليس إلاّ عليّ يقدر على هذه التضحية.

نام الإمام عليّعليه‌السلام في فراش الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ينتظر الحراب كي تتوالى عليه ليستقبلها بروح استشهاديّة إيمانيّة، غير أنّ الخالق لم يرد بذلك سوى الاختيار، وتغذية التاريخ بالمُثل العليا في التضحية والفداء، فنجا الإمام عليّعليه‌السلام ، ويومها نزل قوله تعالى(1) :( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) (2) .

ب - في اُحد:

واجه الإسلام مصيراً مأساوياً يوم اُحد، وزاد من تلك الخطورة، أن تفرّق المسلمون وشردوا من سيوف الكفّار، ولم يبقى في المعركة سوى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّعليه‌السلام ، وبقية قليلة من الصحابة الذين قرّ الإيمان في صدورهم، وكان أبو بكر

____________________

(1) أجمع على ذلك المفسرون.

(2) سورة البقرة / 207.

١١٨

وعمر من اُولئك الفارّين في المعركة، وتمسّك عمر بمقتل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كورقة لتبرير فراره من الزحف، في هذه الأثناء كان سيف عليّعليه‌السلام يمخر الأعناق ببسالة أسطوريّة.

ذكر الطبري: (لمّا قتل عليّ بن أبي طالب أصحاب الألوية، أبصر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جماعة من المشركين، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّعليه‌السلام : «احمل عليهم». فحمل عليهم، ففرّق جمعهم وقتل عمر بن عبد الله الجمصي (...) فقال جبريل: يا رسول الله، إنّ هذه للمواساة. فقال رسول الله: «إنّه منّي وأنا منه». فقال جبرائيل: وأنا منكما. فسمعوا صوتاً: لا فتى إلاّ عليْ، ولا سيف إلاّ ذو الفقار(1) .

ج - في وقعة الخندق:

كانت هذه المعركة - التي لم يشترك فيها المسلمون، وجهاً لوجه مع الكفّار - إحدى المعارك الاستراتيجيّة في تاريخ الإسلام، وخفّف عن ذلك ما اقترحه سلمان الفارسي (رض) من حفر الخندق لغاية الدفاع، غير أن تجرّأ عمرو بن ود العامري واقتحامه الخندق طلباً للمبارزة، قد أوقع الإسلام كلّه أمام تهديد مصيري، وفيها كان عمرو بن ود يطلب المبارزة ويقول:

ولـقد بححتُ من النداءِ

بجمعكمْ هل منْ مُبارزْ

ووقفتُ إذ جبن الشجاعُ

مـوقفَ الـعزِّ المـُناجزْ

ولم يستجب أحد لهذا الصوت، وفي الصحابة أبو بكر وعمر...، لم يستجب إلاّ عليّ بن أبي طالب، فلقد كان يقف ويطلب من الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الخروج إليه، حتّى أذن ودعا له، وبعد أن نصر الله المسلمين في الأحزاب بعليّعليه‌السلام ، قال الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كلمته الشّهيرة: «لَمبارزة عليّ بن أبي طالب لِعمرو بن عبد ود، أفضل من عمل اُمّتي إلى يوم القيامة»(2) .

____________________

(1) ذكره الطبري 2 / 514.

(2) لقد كبر هذا الحديث على بعض النّواصب من أمثال ابن تيمية، محاولاً النّيل منه؛ لأنّ فيه فضيلة لعليّعليه‌السلام لا يشاركه فيها غيره، وابن تيمية يجهل المأزق الذي انوجد فيه الإسلام يوم الخندق، وكان على ابن تيمية أن يبحث في تبرير لأبي بكر وعمر، وعدم استجابتهما لدعوى المبارزة، ودعوى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ...، إنّه اللهو بالحقائق وسوف يلقون غيّا.

١١٩

د - يوم خيبر:

كانت هذه المعركة ضد يهود خيبر، وكانت حصونهم مانعتهم من المحاربين، وكان الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أعطى الرّاية لرجلين: الأوّل أبي بكر والثاني عمر،فالأوّل: انهزم وولّى منكسراً إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وبلا نتيجة،والثاني: انهزم أيضاً ورجع يجبّن الذين معه ويجبّنونه، وساعتئذ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لأعطينّ الرّاية رجلاً يُحبّه الله ورسوله ويُحبّ اللهَ ورسولَهُ». فاشرأبّت أعناق النّاس إليها، وفي الغد دعا عليّاًعليه‌السلام وكان به رمد، فمسح على عينيه فبرئ، وحمل الرّاية وفتح حصن خيبر، وسجّل فيها أروع نماذج البطولة وقتل بطل الأبطال (مرحب).

أن يوصي الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بمَن يخلفه في اُمّته، فذلك هو الأقرب إلى منطق العقل والشّريعة؛ إذ كيف يعقل أن يترك الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أمر الاُمّة للشورى في الوقت الذي لا يزال المجتمع فيه غارقاً في البداوة والجهل! فإذا لم يكن من الضروري - افتراضاً - أن يوصي بالخلافة في الحكم الدنيوي، فهل يعني هذا أنّه ليس من من الضروري أن يوصي بمن يخلفه في مسؤولية (الدعوة والتوجيه)، علماً أنّ شعوباً اُخرى مات الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهي لم تفتح بعد، ولها مشاكل تختلف عن تلك التي واجهها عرب الجزيرة العربيّة في تعقّدها وعمقها، وكانوا يحتاجون لفتوى من الشّريعة!

وهذا الفراغ الذي ظهر فيما بعد، كان سببه تغييب دور الأئمّةعليهم‌السلام ؛ ولذلك اضطرّ المناوئون إلى خلق نمط من التفكير لفهم الأحكام وتأصيلها، استلهموا روحه من الفكر الإغريقي، كما هو شأن (القياس) والمفهوم بالمخالفة، وما أشبه.

وفي زمن الخلفاء تبيّن هذا الفراغ، وكان الإمام عليّعليه‌السلام هو الوحيد بعد الرّسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي قال: «اسألوني قبل أنْ تفقدوني». والوحيد الذي لم يستفت الآخرين في القضايا التي تواجهه، ورجوع

١٢٠