لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)0%

لقد شيعني الحسين (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 411

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: إدريس الحسيني
تصنيف: الصفحات: 411
المشاهدات: 55118
تحميل: 6002

توضيحات:

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 411 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 55118 / تحميل: 6002
الحجم الحجم الحجم
لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

كادوا يطؤون سعداً. فقال سعد: قتلتموني. فقيل: وفي رواية اُخرى قال عمر(1) : اقتلوه قتله الله. فقال سعد: احملوني من هذا المكان. فحملوه [ إلى ] داره وتُرك أيّاماً، ثمّ بعث إليه أبو بكر: أن أقبل فبايع، فقد بايع النّاس وقومك. فقال: أما والله حتّى أرميكم بكلّ سهم في كنانتي، وأخصب منكم سناني ورمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بمن معي من أهلي وعشيرتي، ولا والله، لو أنّ الجنّ اجتمعت مع الإنس ما بايعتكم حتّى أعرض على ربّي وأعلم حسابي(2) .

وكان من المفترض أن يُقتل سعد بن عبادة لتوها، لولا أنّ عوامل كثيرة حالت دونه وعمر، والثابت في التاريخ والظاهر من الأحداث، أنّ عمر بن الخطّاب هو الذي دبّر عملية اغتيال سعد، وبتنفيذ هذه العملية، يكون عمر بن الخطّاب، أوّل مشرّع للاغتيال السياسي واُسلوب تصفية المعارضة جسديّاً في الإسلام.

لقد كان رأي عمر بن الخطّاب يرمي إلى إجبار سعد بن عبادة بالقوّة إلى مبايعة أبي بكر، غير أنّ الأمر قد يسبب له خطورة. قال عمر لأبي بكر: لا تدعه حتّى يبايعك. فقال لهم بشير بن سعد: إنّه قد أبى ولجّ وليس يبايعك حتّى يُقتل، وليس بمقتول حتّى يُقتل ولده معه وأهل بيته وعشيرته، ولن تقتلوهم حتّى تُقتل الخزرج، ولن تُقتل الخزرج حتّى تُقتل الأوس، فلا تفسدوا على أنفسكم أمراً قد استقام لكم، فاتركوه فليس تركه بضاركم، وإنّما هو رجل واحد. فتركوه وقبلوا مشورة بشير بن سعد.

وكان سعد لا يصلّي بصلاتهم ولا يجتمع بجمعتهم ولا يفيض بإفاضتهم، ولو يجد عليهم أعواناً لصال بهم، ولو يبايعه أحد على قتالهم لقاتلهم، فلم يزل كذلك حتّى توفّي أبا بكر وولي عمر، فخرج إلى الشّام، فمات بها ولم يبايع لأحد(3) .

ويذكر التاريخ: أنّ سعد بن عبادة مات مقتولاً، وأثناء ذهابه إلى حوران وبينما هو خارج ليلاً، إذا بسم يطلق على ظهره فقتله. وثبت لدى المؤرّخين، أنّ

____________________

(1) كاليعقوبي مثلاً.

(2) الإمامة والسّياسة، ابن قتيبة.

(3) الإمامة والسّياسة، ابن قتيبة.

١٤١

المغيرة بن شعبة هو الذي قتله.

ونحن نتسأل، لماذا يُقتل سعد بن عبادة، وما الفائدة أن يقتله إنسان مجهول؟ لقد جاء غسّالوا صحون البلاطات ليثبتوا حقيقة فكاهية مفادها، أنّ سعد بن عبادة قتله الجنّ(1) ، ذلك؛ لأنّه بال في الماء الرّاكد. وقد أوردوا أبياتاً كان قد قالها الجنّي الذي رماه بالسّيف:

قد قتلنا سيدَ الخزْ

رجِ سعدَ بنَ عبادهْ

ورمـيناه بسهمَيـ

ـنِ فلن تخطِ فؤادهْ

ويبدو لي أنّ الذي قتل سعداً كان من الجنّ السّياسين؛ لأنّه يفتخر بقتل سعد بن عبادة سيد الخزرج، ولأوّل مرّة تفيض عبقرة الجان السّياسي في أرض العرب، والظاهر أنّ الجنّي هو عميل عمر بن الخطّاب، وهو جنب بلا شكّ ما دام أنّه متلبّساً ومختفياً في جنح الظلام. ولست أدري، لماذا يُقتل سعد بن عبادة؛ لأنّه رفض البيعة، إذا كان أمر البيعة في منطق السّقيفة شورى؟!

ولم تكن هذه هي الثغرة الوحيدة في أحداث السّقيفة وما بعدها، فلقد عارض لعبة السّقيفة غفير من رموز الصحابة الكبار، الذين أشغلهم الخطب بوفاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلى قمّة المعارضين الإمام عليّعليه‌السلام .

لقد ذكر المؤرّخون: أنّ عليّاًعليه‌السلام وبني هاشم وجماعة من الصحابة، امتنعوا عن البيعة واعتصموا في بيت فاطمةعليها‌السلام ، وتخلّف قوم غفير عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ومالوا مع عليّ بن أبي طالب، منهم: العبّاس بن عبد المطلب والفضل بن العبّاس، والزبير بن العوام بن العاص وخالد بن سعيد، والمقداد بن عمرو وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري وعمّار بن ياسر، والبراء بن عازب واُبي بن كعب. فأرسل أبو بكر إلى عمر بن الخطّاب وأبي عبيدة والمغيرة بن شعبة

____________________

(1) إحياء علوم الدين، الغزالي أبو حامد.

١٤٢

فقال:.. الخ. وذكر ابن الأثير: قال الزهري: بقي عليّ وبنو هاشم والزبير ستة أشهر لم يبايعوا أبا بكر، حتّى ماتت فاطمة (رض) فبايعوه.

لم يكن عمر ليستريح وهو يرى عليّاًعليه‌السلام وبني هاشم وجماعة الصحابة معتصمين ببيت فاطمةعليها‌السلام ، فأنطلق عمر وجماعة معه، وحثّهم على الخروج، فأبوا أن يذعنوا. ويذكر ابن قتيبة: فجاء فناداهم وهُم في دار عليّ، فأبوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب وقال: والذي نفس عمر بيده، لتخرجن أو لأحرقنّها على من فيها؟ فقيل له: يا أبا حفص، إنّ فيها فاطمة. فقال: وإن. فخرجوا فبايعوا إلاّ عليّاً؛ فإنّه زعم أنّه قال: «حلفتُ أنْ لا أخرج ولا أضع ثوبي على عاتقي حتّى أجمع القرآن». فوقفت فاطمة (رض) على بابها، فقالت: «لا عهد لي بقومٍ حضروا أسوأ محضرٍ منكم؛ تركتم رسولَ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جنازة في أيدينا، وقطعتمْ أمركم بينكمْ لم تستأمرونا، ولم تردّوا لنا حقّاً... الخ»(1) .

وكان لهذا الموقف الذي وقفه عمر بن الخطّاب، أثر على بني هاشم وعلى أتباعهم، وخصوصاً ذلك الموقف الذي وقفه عمر بن الخطّاب يوم أراد أن يحرق على فاطمة الزهراءعليه‌السلام دارها، حيث يتمثّله شاعر النّيل حافظ إبراهيم في قصيدته الشّهيرة:

وقولـةٍ لـعـليٍّ قالها عمرُ

أكـرم بـسـامِعها أعظم بمُلقيها

حـرّقتُ دارك لا اُبقي عليك بها

إنْ لم تُبايع وبنتُ المصطفى فيها

مـا كان غيرُ أبي حفص بقائلها

أمـامَ فـارسِ عـدنانٍ وحاميها

وبقي عليّعليه‌السلام رافضاً لمبايعتهم رغم كلّ المحاولات.

في رواية للطبري: تخلّف عليّ والزبير واخترط الزبير سيفه وقال: لا أغمده حتّى يبايع عليّ. فقال عمر: خذوا سيف الزبير فاضربوا به الحجر. فانطلق عليهم عمر فجاء بهما تعباً، وقال: لتبايعان وأنتما طائعان، أو لتبايعان وأنتما كارهان؟ فبايعا.

____________________

(1) ابن قتيبة الإمامة والسياسة / 12. وحديث حرق دار فاطمة، مجمع على وقوعه، ومن رواته بن عبد ربّه في العقد الفريد، والإمامة والسّياسة.

١٤٣

وذكر ابن الأثير في تاريخه: الصحيح أنّ أمير المؤمنين لم يبايع إلاّ بعد ستة أشهر. وقيل للزهري حسب رواية الطبري: أفلم يبايع عليّ ستة أشهر؟ قال: لا، ولا أحد من بني هاشم حتّى بايعه عليّ.

إنّنا نريد أن نخرج من هذا الضباب الكثيف من المرويّات؛ لنمسك بنتيجة شافية، فمأساة الإمام عليّعليه‌السلام في المبايعة كانت من أشهر المآسي في تاريخ الإسلام، ولم يستضعف الإمام عليّعليه‌السلام في جزيرة العرب يوماً، مثلما استضعف بعد السّقيفة على يد من زعموا لأنفسهم مقامات كبيرة، وكان بإمكان الإمام أن يحوّلها إلى فتنة ضاربة؛ ولكنّه خاف على العقول الصغيرة والقلوب المشوّهة، أن يشدّها الكفر إليه مرّة اُخرى، وتستكين إلى الرّدة بعد أن أسلمت تحت وقع الحراب.

إنّه بقي صامتاً وترك التاريخ يتحدّث عنه بالوكالة، وهوعليه‌السلام لم يكن إلى هذه الدرجة حتّى يستطيع رجل مثل عمر بن الخطّاب - فرار اُحد وجبان خيبر - أن يقف أمام أبي الحسنعليه‌السلام ، أسد الحروب وعملاقها. ولكنّه اختبأ في مجموعة من ضعاف الإيمان والطلقاء، من أمثال (قنفذ) الذي اخترق الباب على حريم البيت الهاشمي؛ ليرهب بضعة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، فيفوز برضى برابرة السّقيفة.

نحن هنا نتسأل عن هذا المفهوم (الشّورى) الذي كان شعاراً لفريق الرأي.

إنّ الشّورى كما فهمها الاجتماع البشري منذ النّشوء الأوّل للاجتماع: إنّها استخلاص حرّ للآراء والقرارات من قبل المجتمع. وإنّ هذه الشّورى جاءت لتحلّ معضلة الاستبداد الذي أرهق الاجتماع البشري، إنّ مفهوم الشّورى يعني: معرفة رأي الآخر واحترامه. وليس الشّورى إلاّ تعبيراً آخر عن احترام الآخر ورأيه في إطار الحرّيّة. ليست الشّورى طريقة إرهابية لاستطلاع الرأي ثمّ الحكم على صاحبه بالإعدام - كما الحال بالنّسبة إلى سعد بن عبادة الخزرجي (رض)، فهذه صورة اُخرى للاستبداد - كما أنّ الشّورى لا تعني إرهاب الآخر وإكراهه على الاعتراف بالرّأي المقابل بالقوّة والعنف. فحتّى الديمقراطيون الذين مارسوا لفظاً من الشّورى في بعدها الوضعي، كانوا يحترمون الرّأي الآخر. وحتّى لو كان ذلك الرّأي ضدّهم، فهم يحاولون منع هذا عن تطبيق رأيه فقط.

إنّ عمر لمّا جاء إلى بيت فاطمةعليها‌السلام وشرع في التحضير لحرقها، لم ينسجم مع روح الشّورى لا

١٤٤

في مفهومها الديني ولا الوضعي، بقدر ما هي همجية قبليّة بدويّة؛ من أجل إكراه مَن في بيت فاطمة على المبايعة لأمر ما ناقشوه، ولا أتيحت لهم الفرصة لمناقشته. وقف عمر بن الخطّاب كصاحب قرار يجب على الإمام عليّعليه‌السلام الإذعان له، من دون أن يعطي دليلاً عمّن خوّله صلاحية إصدار القرارات، وأراد من الإمام عليّعليه‌السلام أن يكون منفّذاً لا مسائلاً على الأقل. فعمر بن الخطّاب فرض رأياً في السّقيفة ومارس استبداده على الآخرين، وطلب من الإمام عليّ الخضوع لهذا القرار الاستبدادي، ومَن يا ترى الإمامعليه‌السلام ؟:

أوّلاً: هو أساس قيام الاُمّة الإسلاميّة بمؤازرته وبلائه و...

ثانياً: هو الأعلم والأحكم والأقضى.

ثالثاً: هو الأتقى والأحرص على وحدة الصّف. والرّوايات المستفيضة بل المتواترة عن رسول الإنسانية الخالد، دلّت على ذلك بصريح العبارات، وتكفي قولة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : «عليّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ».

لا بدّ من الاعتراف إنّ عمر بن الخطّاب قد أخطأ، وإنّ خطأه كان أساساً لكلّ المفاسد التي قامت فيما بعد، والحلقة الأساسية في سلسلة الانحراف الذي شهدته الاُمّة، والذي يتحدّث هنا عن الخطأ هو هو عمر نفسه لمّا قال: إنّ بيعة أبا بكر يوم السّقيفة فلتة وقانا الله شرّها، فمن عاد إليها فاقتلوه(1) .

إنّ الذي يجعل عمر بن الخطّاب يرى عقوبة (القتل) لمَن سلك طريقة السّقيفة، هو نفس التعليل الذي يمكن أن ينطبق عليه، وهو حكم على نفسه إنّه أخطأ خطاً يوجب القتل، ولكنّه عاد إليه في نهاية عمره ليقتدي بأبي بكر في الوصيّة، مع أنّ أبا بكر في حدّ ذاته هو صنيعة الوضع المنفلت في السّقيفة.

كان أبو بكر وعمر بن الخطّاب مخطئين ومتجاوزين للنصّ، والملابسات

____________________

(1) الطبري عن ابن عباس.

١٤٥

التي رافقت أحداث السّقيفة، ومرض النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تدلّ على ذلك، وكان عمر بن الخطّاب أكثر صلافة وقسوة، وموقفه سيء من أهل البيت وتاريخه خير شاهد على هذا. ويعترف (مسلم) في صحيحه: إنّ عليّاًعليه‌السلام بعد وفاة فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، وبعد أن فكّر في تحصين نفسه ومَن معه من جبروت طلاب الخلافة، دعا أبا بكر إلى بيته على أن يكون منفرداً. وأشار (مسلم) إلى ذلك إشارة لعدم حضور عمر بن الخطّاب؛ للكراهيّة التي كانت تفصله عن البيت المحمّدي.

كان أبو بكر رجلاً ضعيفاً لم يغلب نفسه أمام طمع الخلافة والوجاهة، إنّها نفس الأطماع التي دفعته إلى عصيان الائتمار باُسامة بن زيد في حياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أمّا عمر بن الخطّاب وللنفسيّة الحادّة التي كان يتحلّى بها، كان ينزع إلى التطرّف والانحراف عن النّصّ، وقد بيّن ذلك المؤرّخون. وبصلافته هذه كاد يفتن المسلمين عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في صلح الحديبية. أبو بكر بهذا الضعف وعمر بتلك الحدّة، ارتكبا الخطيئة التي تسلّل من وراءها الجهاز الاُموي، إنّهما أعطيا الاُمويّين مبرر السّطو على الخلافة ومحاربة آل البيتعليهم‌السلام في شأنها، متعلّلين بمثال أبي بكر وعمر.

ومعاوية كان داهية لمّا ردّ على محمّد بن أبي بكر وهو من شيعة عليّعليه‌السلام ، حين كتب إلى (معاوية) يذكّره بفضل الإمام عليّعليه‌السلام ، فقال معاوية رادّاً عليه: قد كنّا وأبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب وحقّه لازماً لنا مبروراً علينا، ثمّ كان أبوك وعمر أوّل من ابتزّه حقّه وخالفه على أمره، فإن يك ما نحن عليه صواباً، فأبوك استبدّ به ونحن شركاؤه، ولولا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب ولسلّمنا إليه، وكنّا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا فأخذنا بمثله، فعب أباك بما بدا لك أو دع ذلك، والسّلام على من أناب(1) . كان هذا مستمسكاً لبني اُميّة كي يعبثوا بمصير اُمّة مسؤولة بين الاُمّم.

ولست هنا أقول إنّ أبا بكر وعمر بن الخطّاب كانا على علاقة بالخطّ الاُموي؛ فإنّ ذلك ما كان وما كان ينبغي أن يكون. فالمشروع الثلاثي في السّقيفة كان ذا

____________________

(1) المسعودي مروج الذهب، وبنات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لبنت الشّاطئ.

١٤٦

أهداف شخصية(1) ، لقد أرادوا فقط الخلافة، وهم استصغروا عليّاً وادّعوا خوفهم عليه من حداثة سنّه. ولا يزال مع ذلك أبو بكر يشيد بمقام عليّعليه‌السلام ، ولا يزال عمر بن الخطّاب يرى: لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن. ولكن خطأهما لم تشفع لهما فيه فاطمة الزهراءعليها‌السلام ؛ لما أغضباها وأخذ منها حقّها في فدك، فماتت وهي غاضبة عليهما.

إنّ خطأ أبي بكر وعمر كان خطأ ذا بُعد شخصي، وهو الجمع بين الخلافة، إذ عزّ عليهما أم يسلكها غيرهما، كما ثقل عليهما أن يكونا ضمن الرّعية بعد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بيد أنّ التيّار الاُموي كانت له أهداف بعيدة يطمح إليها ويجهد ليل نهار من أجل تحقيقها، فلو لم يعارض آل البيتعليهم‌السلام ولم ينقدوا خلافة أبي بكر وعمر، إذن لكان لهم عندهما شأن عظيم، ولكن الآخرين - بني اُميّة - كانوا يطمحون محو البيت الهاشمي؛ انتقاماً للماضي وكفراً صريحاً بوحي السّماء، وهو ما أكدته أشعارهم المشهورة:

لعبتْ هاشمُ بالملكِ فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزلْ

قلت: إنّ الإمامة ليست كفراً حتّى ولو لم تثبت في التاريخ والنّصوص؛ لأنّها ليست سوى الحل المنسجم مع مصلحة الرّسالة، إنّ الغريب القريب أن يغيب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يحدّثهم عن أمر الخلافة.

نعود مرّة اُخرى لنؤكّد على أنّ السّقيفة مشروع فاشل في الاُمّة وحدث وقع خارج النصّ؛ ذلك لأنّه لو أطاع المسلمون السّير في جيش اُسامة، لما حدث شيء اسمه السّقيفة في ذلك الزمان وفي ذلك المكان، والمبنى على الخطيئة (خطيئة). ثمّ إنّ عمر بن الخطّاب نفسه يعترف على أنّ تلك البيعة كانت فلتة، وأنّه من عاد إليها فاقتلوه.

____________________

(1) هذا وإن حصلت مساومات غير مباشرة بينهما والاُمويّين، كما أسفر عن تولية معاوية ويزيد بن أبي سفيان؛ لإسكات أبي سفيان.

١٤٧

١٤٨

عصر ما بعد السّقيفة:

كعادتنا وانسجاماً مع طبيعة البحث ومقاصد الكتاب، لا ننزع إلى التاريخ السردي لهذه المرحلة في ترتّبها وتطوراتها التفصيلية، فهذا متوفّر في مكتباتنا التراثية، ولكن ما نطمح إليه هنا هو التركيز على المحطّات المهمّة، ومحاولة استنطاقها بوسائل السّبر التاريخي. وبعد السّقيفة ولمّا استتبّ الأمر لأبي بكر، اعترضت أبا بكر متاعب كثيرة ومشاكل معقّدة أفرزها واقع السّقيفة:

الأولى: لمّا منع فاطمة الزهراءعليها‌السلام من ميراث أبيها بفدك، أثار غضبها وبقيت حزينة إلى أن توفّيتعليها‌السلام ، وبحرمان آل البيتعليهم‌السلام ميراثهم(1) خسر كلّ أوراقه.

ثانياً: دخوله في معركة مع المسلمين واتهامهم بأهل الرّدة، ذلك؛ لأنّهم منعوه الزكاة، والتاريخ لا يحدّثنا عن كلّ الملابسات التي أحاطت بحادث ما سمّي بالرّدة، كيف بدأ الحدث، وكيف انتهى؟

ذكر المؤرّخون: أنّ قبائل كثيرة من العرب ارتدّت بعد وفاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبعضها لم يكفر وأنّما امتنع عن الزكاة لشبهة ما، فبعث لهم أبو بكر جيشاً بإمارة

____________________

(1) كان أبو بكر وخوفاً من أن ينقلب عليه الهاشميون، حاول أن يجرّدهم من عناصر القوّة، فأخذ حقّهم في الميراث بحجج (طوباوية) لا تنسجم مع منطق القرآن كما سنبين.

١٤٩

خالد بن الوليد ليقاتلهم على الزكاة، وكانت قبائل كأسد وغطفان ممّن قد ارتدّ أهلها، فبعث لهم أبو بكر سرايا للقتال فقضوا عليهم.

ولكن التاريخ الرّسمي، لم يروِ لنا إلاّ ما يريده مؤرّخة البلاط، إذ كيف نتصوّر ذلك؟ كيف إنّ هؤلاء الذين أسلموا في عهد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يتمكّن منهم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في الهداية، ثمّ ارتدّوا جميعاً من دون أن يبقى واحد منهم على إسلامه؟!

لقد امتنع هؤلاء عن تقديم الزكاة لشبهة معيّنة ولم يمتنعوا عن الإسلام، وامتناعهم عن تقديم الزكاة لأبي بكر، نابع عن عدم الاعتراف به كخليفة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولقد اعترض عمر بن الخطّاب نفسه على قتالهم، لكنّه فشل في كسر أبي بكر عن رأيه. وتلك سياسة عرفت في حكومة أبي بكر وعمر، فهما دائماً يشكّلان سياسة مزدوجة تتفق والأهداف التي يتوخيان تحقيقها. والصورة التي رسمها العقّاد لهما في عبقرياته، لم تكن بتلك البراءة التي يريدها لهما أديب هم خلع الخيال على الشّخصيات التي يترجم لها، ذلك لمّا ذكر: أنّ أبا بكر لمّا يغضب فإنّ عمر يكون ليّناً، ولمّا يلين الأوّل يتصلّب الثاني. هذا التوازن له مقاصده السياسيّة؛ ليتركوا فجوة في سياستهما ضدّ أيّ موقف محتمل، وحتّى إذا قيل إنّ أبا بكر يقاتل المسلمين، يقال لهم: إنّ عمر بن الخطّاب ممّن عارضه، ومع ذلك لم يتخلّ عن خلافته.

وكشفت تلك الحروب عن حقائق في رجالات أبي بكر وعمر، كفضيحة خالد بن الوليد، الذي قتل مالك بن نويرة وهو مسلم واستأثر بزوجته، لقد ثبت أنّ مالك بن نويرة لم يكن عازماً على قتال جيش خالد بن الوليد. فقد ذكر ابن الأثير في الكامل: وكانت سجاح تريد غزو أبي بكر، فأرسلت إلى مالك بن نويرة تطلب الموادعة، فأجابها وردّها عن غزوها وحملها على أحياء من بني تميم، فأجبته وقالت: أنا امرأة من بني يربوع، فإن كان ملك فهو لكم. وهرب منها عطارد بن حاجب وسادة بني مالك وحنظلة إلى بني العنبر.

هناك نقطة لم يشر إليها المؤرّخون، أو بالأحرى المُحقّقون في الأخبار، فسجاح لم تكن كما يصوّرها التاريخ المقلوب إنّها خارجة أو مرتدّة، ورأيي، إنّها لم تكن كذلك إلاّ أنّ السّياسة اقتضت حبكها على تلك الصورة، لا لشيء

١٥٠

سوى لأنّها لا تملك أن تكتب التاريخ، بينما أعداؤها يملكون كتابته.

بعض المؤرّخين يريدون تزييف الحقائق وإعادة ترميمها، فيفسدونها ويوقعون أنفسهم في مآزق. لقد فشل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في أن يربّي أصحابه فقط على الإيمان والإسلام، ثمّ إنّ أبا بكر ورجالاته لم يستطيعوا إقناع سجاح بالعودة إلى الإسلام، حتّى يأتي معاوية بن أبي سفيان فيقنعها بذلك.

عندما وقعت المعاهدة بين الحسنعليه‌السلام ومعاوية بن أبي سفيان، فلم تزل سجاح في تغلب حتّى نقلهم معاوية عام الجماعة، وجاءت معهم وحسن إسلامهم وإسلامها، وانتقلت إلى البصرة وماتت بها وصلّى عليها سمرة بن جندب، وهو على البصرة لمعاوية قبل قدوم عبيد الله بن زياد من خراسان وولاية البصرة(1) .

وكان مالك بن نويرة قد أذعن وأقرّ بقبوله لتقديم الزكاة، غير أنّ خالد بن الوليد الذي انتهى من قتال؛ فزارة وغطفان وأسد وطئ، يريد البطاح، وبها مالك بن نويرة قد تردّد عليه أمره(2) ، فتمرّد الأنصار عن خالد بن الوليد وقالوا: إنّ هذا ليس بعد الخليفة إلينا. إلاّ أنّ خالداً أصرّ على المسير. ووصل خالد بن الوليد إلى البطاح وأهلها متفرّقون ليسوا عازمين على التمرّد، وكان مالك بن نويرة قد أقنعهم بذلك فأجابوا، وجاء مالك بن نويرة يناظرهم(3) ، غير أنّ خالد بن الوليد لم يأبه بالرجل ولا إسلامه.

قال اليعقوبي: فأتاه مالك بن نويرة يناظره واتبعته امرأته، فلمّا رآها خالد أعجبته، فقال: والله، لا نلت في مثابتك حتّى أقتلك، فنظر مالكاً فضرب عنقه وتزوّج امرأته، فلحق أبو قتادة بأبي بكر فأخبره الخبر، وحلف ألاّ يسير تحت لواء خالد؛ لأنّه قتل مالكاً مسلماً، فقال عمر بن الخطّاب لأبي بكر: يا خليفة رسول الله، إنّ خالداً قتل رجلاً مسلماً وتزوّج امرأته من يومها. فكتب أبو بكر إلى خالد، فاشخصه، فقال: يا خليفة رسول الله، إنّي تأوّلت وأصبت وأخطأت.

____________________

(1) ابن الأثير في الكامل 2 / 357.

(2) نفس المصدر.

(3) اليعقوبي 2 / 131.

١٥١

وفي الكامل لابن الأثير: قال عمر لأبي بكر: إنّ سيف خالد فيه رهق. وأكثر عليه في ذلك، فقال: يا عمر، تأوّل فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد؛ فإنّي لا أشيم سيف سلّه الله على الكافرين.

كان قتل مالك بن نويرة (رحمة الله عليه) بعد أن أمّنوه، ولم يسمع خالد بن الوليد لكلامه وأبى إلاّ أن يقتله؛ ليسطو على زوجه تلك التي كانت فارهة الجمال، وهي: ليلى بنت المنهال اُمّ تميم. وكانت على حدّ تعبير العقّاد: من أشهر نساء العرب بالجمال، ولا سيّما جمال العينين والسّاقين، قال: يُقال أنّه لم ير أجمل من عينيها ولا ساقيها(1) . هذا ممّا أفقد خالد بن الوليد توازنه، فقتل مالك بن نويرة صبراً وجعل رأسه أثفية لقدر، حسب وفيات الأعيان لابن خلكان، وبني بزوجته في تلك الليلة على أنّ المرأة لم تكن سبيّة، وبناءه بها - حتّى مع افتراض سبيتها - يبقى أمراً حراماً إذا لم يتم استبراؤها؛ وهذا ما جعل كثيراً من الصحابة وحتّى عمر بن الخطّاب يقدمون على اتهامه. فأين أنتم يا فقهاء! ويا مَن نادوا بالاحتياط في الدماء والفروج! ها هو خالد العبقري جمع بين الاثنين!

ومالك هذا لم يكن رجلاً عادياً، فلقد كان من المسلمين الذين ولاهم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته على صدقات أقوامهم، لقد كان مالك بن نويرة(2) ممّن أسلم طواعية في عهد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأسلم مع قومه بنو يربوع، وما كان رحمه الله يريد سوى التريّث بالزكاة الشّرعيّة حتّى ينجلّي أمر الخلافة، وذلك؛ شكّاً منه في مصداقية خلافة أبي بكر، لذلك ما كان ينوي محاربة خالد بن الوليد، ولقد قتله هذا الأخير وهو لم يرفع في وجهه سيفاً. ورثاه أخوه متمم بن نويرة، لمّا قال على مرآى ومسمع من أبي بكر بعد أن فرغ من الصلاة:

نعمَ القتيلُ إذا الرياح تناوحت

خلفَ البيوت قتلتَ يابنَ الأزورِ

____________________

(1) عبقرية خالد للعقاد.

(2) هو مالك بن نويرة بن حمزة بن عبد بن ثعلبة بن يربوع التميمي، من أشراف بني تميم.

١٥٢

أدعوته باللهِ ثم غدرتَهُ

لو هُوْ دعاكَ بذمّة لم يغدرِ(1)

إنّ قتل مالك بن نويرة غيث وصمت عار وخطيئة على خلافة أبي بكر، وإن كان الخطأ قد ارتكبه سيف الإسلام المسموم، إلاّ أنّ إمضاء أبي بكر وقوله لعمر دفاعاً عن خالد: تأوّل فأخطأ فارفع لسانك عن خالد، فإنّي لا أشيم سيف سلّه الله على الكافرين. إنّما يدلّ هذا على صحّة ما قاله عمر في خلافة أبي بكر: فلتة وقى الله منها المسلمين.

ثالثاً: إنّ أعظم رزية هي لمّا خلف وراءه عمر بن الخطّاب رغماً عن المسلمين، وتحدّياً لحرياتهم، وتسفيهاً لمقاماتهم الكبرى. لقد بقي أبو بكر سنتين وبضعة أشهر في الخلافة، فمرض بعدها مرضاً شديداً أدّى به إلى الموت. وحسب العقّاد في العبقرية: إنّه مات بمرض الملاريا(2) . وفي تلك الأثناء، دعا عثمان بن عفان وقال له: اكتب عهدي. فكتب عثمان وأملى عليه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة، آخر عهده في الدنيا نازحا عنها وأوّل عهده بالآخرة داخلاً فيها: إنّي استخلفت عليكم عمر بن الخطّاب، فإن تروه عدل فيكم، فذلك ظنّي به ورجائي فيه، وإن بدّل وغيّر فالخير أردت، ولا أعلم الغيب:( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (3)(4) .

إنّ هذه ليست سوى تتمة المشهد السّقيفي، وهي في نفس الوقت ثاني خطيئة كبرى في التعاطي مع النّصّ والإمامة، وبينما كان الحسّ الشّوري هو الغطاء المهلهل لصفة السّقيفة؛ فإنّ الإثبات والتنصيب كان هو لغة الخطّاب وسياسة المرحلة في أيّام أبي بكر، وفي الوقت الذي استهجنوا الرّأي

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي.

(2) وقيل: حس المستنقعات. وهناك شكوك في ذلك، هل هي الملاريا أم هل هي سم زعاف.

(3) سورة الشّعراء / 227.

(4) تاريخ الخلفاء، ابن قتيبة / 19 - 201، مؤسسة الوفاء / بيروت.

١٥٣

الذي يقول: إنّ الإمامة تثبت بالنّصّ لعليّعليه‌السلام . ها نحن نجدهم يقلبونها برحابة صدر على امتداد التاريخ، بنفوس صنعت على الإيمان الطيّب البسيط، تقبل بالأمر الواقع.

وحريّ بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله - وهو أعلم بمصلحة الاُمّة - أن يعيّن بعده مَن يصلح للاُمة، وهل أبو بكر - وهو يبرّر استخلاف عمر بن الخطّاب - هل كان أحرص من الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بمصلحة الاُمّة؟ وهل هذا المنطق الذي سلكه أبو بكر وسوّغه أتباع الرّأي، إلاّ ما تعتقده الشّيعة في الإمامة والتنصيب؟ وكيف يكون استخلاف الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّعليه‌السلام غلوّاً، والذي فعله أبو بكر حصافة ورأي سديد؟!

كان على أبي بكر أن يقول في وصيته: فإن بدّل وغيّر فاعزلوه. غير أنّه قال: فالخير أردت ولا أعلم الغيب. وكنت أنتظر من أبي بكر أو عمر نفسه أن يقول: لا وصية وكتاب الله معنا. أو أن يقول عمر: إنّ أبا بكر يهجر. فلا يقبل وصيته.

لقد اعترض الصحابة على خلافة عمر بن الخطّاب وخافوه على أنفسهم، وتوسّلوا لأبي بكر بأن يبعده عن إمارتهم، وفي ذلك كبار الصحابة، ولكن أبا بكر أبى إلاّ أن يكمل الصفقة مع عمر على سبيل الوفاء بالعهود المشهورة في سنن العرب.

يقول صاحب الإمامة والسياسة: فدخل عليه المهاجرون والأنصار حين بلغهم أنّه استخلف عمر، فقالوا: نراك استخلفت علينا عمر وقد عرفته وعلمت بوائقه فينا وأنت بين أظهرنا، فكيف إذا ولّيته عنّا وأنت لاق الله عز وجل فسألك، فما أنت قائل؟ فقال أبو بكر: لئن سألني الله لأقولنّ استخلفت عليهم خيرهم في نفسي.

وهكذا تغيب المشورة في رأي شخصي، هو نفسه لم يتم له الأمر إلاّ بعد أن خاضها عمياء لا تبقي ولا تذر، وهو يملك أن يحاجج الله سبحانه ولا يبالي. وكأن الله عزّ وجل يرضى لما يرضى أبو بكر؛ لأنّ هذا الأخير هو منشئ السّماوات والأرض.

١٥٤

يقول أبو بكر: لأقولنّ استخلفت عليهم خيرهم في نفسي. وإفصاحه عن الواقع بعبارة: في نفسي. هو مفتاح السرّ لإدراك اللعبة، فهو يراه خيراً في نفسه لا حسب نفوس المسلمين أصحاب السّابقية والمجد. وكيف لا يكون خيراً في نفسه وهو لولاه لما تمّت خلافة المسلمين.

لقد عرف أبو بكر أنّ وجدان المجتمع قد تشكّل على أيديولوجيا الشّورى التي لم تكن إلاّ غطاء لصرف الإمامة عن النّصّ، وعليه، فإنّ أبا بكر وهو عازم على تثبيت عمر بن الخطّاب، يحتاج إلى تعديل في التشكيلة الوجدانية للمسلمين، التعديل الذي لا يسرف فيه حتّى يحفّز النّاس إلى الخلافة الكبرى التي أرستها شريعة الإسلام لعليّعليه‌السلام ، ولا يفتر فيه حتّى يرفضوا مشروع خلافة عمر بن الخطّاب، حاول أبو بكر أن يزرع في هذا الوجدان مفهوماً جديداً للخلافة، وهو الخلافة بالتنصيب، وأعاد المنطق الذي كان مطروحاً على صعيد الحلم الإسلامي إبّان وفاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هو النّصّ على الخلافة.

قال أبو بكر(1) : وأمّا اللاتي كنت أودّ أنّي سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عنهنّ، فليتني سألته لمن هذا الأمر من بعده، فلا ينازعه فيه أحد. وليتني كنت سألته هل للأنصار فيها من حقّ. وليتني كنت سألته عن ميراث بنت الأخ والعمّة؛ فإنّ في نفسي من ذاك شيئاً. أجل لقد بقي في نفس أبي بكر شيء من كلّ ذلك، حتّى من ظلامة عليّ وأهل بيتهعليهم‌السلام ، وهو القائل: فأمّا اللاتي، فعلتهن وليتني لم أفعلهن، فليتني تركت بيت عليّ وإن أعلن عليّ الحرب(2) .

إنّه يشهد أنّ خلافته ليست مؤكّدة، أوّلاً: ليس متأكّداً من شرعيتها، ويشهد أنّه ارتكب خطيئة يوم أعلن الحرب على عليّعليه‌السلام ، ولكنّه بعد ذلك كلّه يأبى إلاّ أن يدفع ثمن الصفقة - السّقيفية -؛ استجابة للعهد المعهود.

____________________

(1) ابن قتيبة، الإمامة والسّياسة (19 - 201)، دار الوفاء / بيروت.

(2) نفس المصدر.

١٥٥

والنّاظر في سيرة عمر بن الخطّاب وشخصيته بعين المتفحّص والمقلّب والسّابر، سيجد عمر بن الخطّاب رجلاً لا يصلح لإمارة رعاع الاُمّة فضلاً عن الصحابة، وهو لا يقربهم علماً ولا شجاعة ولا سابقية. إنّهما يريدان لعليّعليه‌السلام الخلافة، فلو كانت له وحده إذن لصبرا عليها، ولكن يعلمان أنّها لن تصلهما إذا استقرّت في البيت النّبوي ما دامت هي نصّاً؛ لذلك أرادوها لأنفسهما.

إنّنا نعتقد إنّهما كانا يستهدفان الخلافة وزهدا في كلّ شيء دونها، واعترف أبو بكر باللآئي ودّ لو لم يفعلهن، ليس مجاملة كما يحاول البعض تلفيقها، وإنّما هو الواقع المرّ الذي خلّفه وراءه، والشّرخة الكبرى التي على سيرة أبي بكر، وكأنّ كلّ مَن أراد أن يركب سنام الخلافة، لا بدّ له أن يدرس مقام آل البيتعليهم‌السلام وإلحاق الضربة بهم.

وإنّ تاريخ أبي بكر وعمر حتّى لو فرض بأنّه تاريخ زهد، فأنّهما لن يزهدا في الخلافة، وفي سبيل ذلك، شرّعا للنيل من آل البيتعليهم‌السلام وقدّما أوّل نموذج لذلك، ممّا شجّع الباقين على اقتفاء آثارهم في السّطو على تركة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بحجّة التمسك بسنّة الشّيخين، التي لم تكن إلاّ تغييباً أيديولوجياً لسنّة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهكذا بايع النّاس عمر بن الخطّاب؛ خوفاً ورهبة، ولو وجدوا ما يقوّي شوكتهم إذاً لقاتلوه، ولكن هيهات؛ فالأمر ثابت مستقر، وسيف ديموقليس فوق رأس كلّ معارض، وأنّه على غرار صاحبه لم يكن متأكّداً من صلاحيته، وما زال عمر بن الخطّاب يسأل حُذيفة بن اليمان - أمين سرّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله - فيما لو كان عمر أحد الذين ورد اسمهم في صحيفة حُذيفة، وهي ما كان يعلمه من المنافقين.

ولست أدري كيف يخاف عمر بن الخطّاب على نفسه من النّفاق، واُخرى من كذّاب الآخرة؟ اللهمّ إلاّ لشيء فعله في حياته لا ينسجم مع حكم الشّريعة. وأجزم هنا إنّ من تلك الأفعال، اغتصابه الخلافة الشّرعيّة من أهلها الموكلين بها، وقد يخاف المرء من عذاب الله يوم القيامة، ولكنّه لا يشكّ فيما إذا كان منافقاً، أو ورد فيه كلام أبداً من الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

كان منهج عمر بن الخطّاب في الرّعية، منهجاً قمعيّاً وسطحيّاً، فهو يقمع

١٥٦

الغثّ والسّمين، وينال من الأخضر واليابس على حدّ سواء، ويضرب المصلّي إذا صلّى خاشعاً؛ بتهمة النّفاق، ويضرب المخطئ ضرباً مبرحاً، لا أن يحلّ مشكلة الخطأ من الأساس.

واشتهر عمر بن الخطّاب بالدرّة، وهي: آلته في ضرب النّاس، والإنزال من معنوياتهم. ولم يسلم من درّته كبار الصحابة، حتّى وصل به الأمر أن يقول: أصبحت أضرب بالدرّة كلّ النّاس ليس فوقي إلاّ الله(1) وعدّها العقّاد من عبقرياته. وتمثّل هذا القمع منذ البداية، وقد هاب أمره النّاس لحدّة طبعه وتشنّج مزاجه. ولكن أبا بكر - كما سبق ذكره - كان يريد دفع الثمن لعمر على الرّغم من أنّه تظاهر بالزّهد فيها، وودّ لو كان في أمر المسلمين خلواً، وهو صاحب: أقيلوني فلست بخيركم.

ونتسأل من خلال التاريخ: كيف يعترف أبو بكر بأنّه ليس بخير من النّاس، ينازع فيها عليّاًعليه‌السلام ويقول لطلحة بن عبيد الله: أبالله تخوفني! إذا لقيت ربّي فسألني، قلت: استخلفت عليهم خير أهلك. فقال طلحة: أعمر خير النّاس يا خليفة رسول الله؟! فاشتدّ غضبه وقال: إي والله، هو خيرهم وأنت شرّهم(2) .

لقد كان تنصيباً بالاستبداد الذي لا يسمح أن يُقال أو يُسأل: هل عمر هو خير النّاس فعلاً؟ وهذا التناقض في التظاهر بالزهد في الخلافة، والاستبداد بها في النّهاية، وتوريثها لعمر بن الخطّاب، هو ما أشار إليه الإمام عليّعليه‌السلام في خطبته الشّهيرة في النّهج: «فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ! لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا، فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا وَ يَخْشُنُ مَسُّهَا، وَ يَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا وَ الِاعْتِذَارُ مِنْهَا، فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَ إِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ، فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وَ شِمَاسٍ وَ تَلَوُّنٍ وَ اعْتِرَاضٍ، فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَ شِدَّةِ الْمِحْنَةِ».

والواقع هو ما اعترف به ابن الحديد المعتزلي في شرحه، مع شيء من التزييف:

____________________

(1) الغدير في الكتاب والسّنّة والأدب، الأميني.

(2) ابن أبي الحديد في شرح النّهج (164 - 165 - 103)، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النّجفي، قم، إيران / 1406 هـ. ق.

١٥٧

إنّما قال: أقيلوني، ليثور - أي ليبحث - ما في نفوس - قلوب - النّاس من بيعته، ويخبر ما عندهم من ولايته، فيعلم مريدهم وكارههم ومحبّهم ومبغضهم، فلمّا رأى النّفوس إليه ساكنة والقلوب لبيعته مذعنة، استمرّ على إمارته وحكم حكم الخلفاء في رعيته، ولم يكن منكراً منه أن يعهد إلى من استصلحه لخلافته(1) .

والواقع إنّ ثمّة ثغرة لم يكشف عنها بن أبي الحديد، هو أنّ سكوت النّاس لا يعني سكونهم، وربّ حكومات تحرّكت جنودها للجم الكلمة من النّاس، تمهيداً لخطبة يلقيها الحاكم، فيظهرون على حال السّكينة، بينما هُم مسلوبوا الكلام.

لقد حاول البعض أن يقيس على منهج إبليس في القياس بين موقف أبي بكر حين قال: أقيلوني فلست بخيركم. وعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام يوم قال للناس بعد أن بايعوه: دعوني والتمسوا غيري، فأنا لكم وزيراً خير منّي لكم أميراً. والإمام عليّعليه‌السلام لم يقل إنّه ليس بخير من النّاس، ولم يقل أنّه واجد في نفسه؛ لإصراره على حقّ قال إنّه حقّه، وما تلزمه كلمة حقّ من معنى الشّرعيّة، وهو رفض الخلافة بعد أن أتت إليه فاسدة، وقد وصل الخراب إلى آخر مواقع المجتمع الإسلامي، قالها بعد أن لعب بالخلافة من ليس لها أهل، ولكنّه لمّا وليها، عهد بها إلى ابنه الحسنعليه‌السلام ؛ لأنّه جدير بها، ولأنّه فعلها استجابة للنصّ لا للرأي، ولو لم تكن المسألة نصّاً لكان عليّعليه‌السلام أجدر أدباً أن يبعد عنها ابنه، ولو كانت المسألة مسألة تظاهر بالعدل والزهد، لكان عليّعليه‌السلام أحقّ بهذا الزهد.

لقد أمسك أبو بكر وعمر الخلافة ومارسها بارتياب وتعثّر؛ بسبب عدم جدارتهما، وفي ذلك يقول الإمام عليّعليه‌السلام : «ويكثر العثار فيها والاعتذار». وذلك بسبب الاعتذار التي رافقت سياسة الخليفتين، وبسبب أخطائهما القتالية وعثارهما في سياستهما. وكان عمر بن الخطّاب متحمّساً للخلافة بعد أبي بكر، فلمّا كتب العهد، أمر به أن يقرأ على النّاس، فجمعهم وأرسل الكتاب مع مولى له

____________________

(1) شرح النّهج (169 - 1 - 2).

١٥٨

ومعه عمر، فكان عمر يقول للناس: انصتوا واسمعوا لخليفة رسول الله؛ فأنّه لم يسألكم نصحاً. فسكن النّاس، فلمّا قرئ عليهم الكتاب، سمعوا وأطاعوا، وكان أبو بكر أشرف على النّاس وقال: أترضون بمن استخلفت عليكم؟ فإنّي ما استخلفت عليكم ذا قرابة، وإنّي قد استخلفت عليكم عمر، فاسمعوا وأطيعوا، فإنّي والله ما ألوت من جهد الرّأي(1) .

لقد هيّأ عمر الطريق لأبي بكر حتّى ينصّبه على النّاس، قال لهم: اسمعوا وأطيعوا لخليفتكم الذي يسألكم نصحاً. ليقول أبو بكر للناس: إنّي استخلفت عليكم عمر، فاسمعوا وأطيعوا. والرؤية التي كان يحملها عمر بن الخطّاب للخلافة وإدارتها، ليست في مستوى الإسلام وإنسانيته، لقد كانت تتأسس على موروث فطري عربي ممزوج ببعض ما فهمه عمر من الإسلام، كان يرى الخلافة بمعنى التابع والمتبوع، وإنّ الخليفة هو القائد الذي تسير خلفه قطعان من الخرفان لا حقّ لها في المشاركة.

وقف عمر بن الخطّاب بعد وفاة أبي بكر، فقال: إنّما مثل العرب مثل جمل آنف أتبع قائده، فلينتظر قائده حيث يقوده، وأمّا أنا فوربّ الكعبة، لأحملنّكم على الطريق(2) . إنّه يقسم بربّ الكعبة إنّه سيحملهم على الطريق، تلك التي كما يراها هو، وكثيراً ما رأى الحقّ فكان باطلاً، وما وسعه إلاّ أن يقول كلمات نظير: كلّ النّاس أفقه منك يا عمر. أو: لولا عليّ لهلك عمر. وما أشبه ذلك من أمثلة.

وفي تاريخ الخلفاء، ذكر ابن قتيبة: فخرج عمر بالكتاب وأعلمهم، فقالوا: سمعاً وطاعة. فقال له رجل: ما في الكتاب يا أبا جعفر؟ قال: لا أدري، ولكنّي أوّل من سمع وأطاع. قال: لكنّي والله أدري ما فيه، أمّرته عام أوّل وأمّرك العام(3) .

وهكذا كانت الوقائع التي أكّدها التاريخ تثبت بالبراهين المحرقة، إنّ عمر بن الخطّاب فرض على المسلمين بالاستبداد، ولو خيّروا يومهاً لاجتمعت

____________________

(1) ابن الأثير 2 / 426، دار صادر، بيروت.

(2) تاريخ ابن الأثير 2 / 427.

(3) تاريخ الخلفاء / 20.

١٥٩

كلمتهم على عزله، ولكن عهد أبي بكر ودرّة عمر لم يسمحا للكلمة النّاقدة والمعارضة أن تستمر، غير أنّ المسلمين رأوا أن يصبروا عليه وينافقوه؛ خوفاً من عنجهيته.

١٦٠