لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)0%

لقد شيعني الحسين (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 411

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: إدريس الحسيني
تصنيف: الصفحات: 411
المشاهدات: 55144
تحميل: 6002

توضيحات:

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 411 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 55144 / تحميل: 6002
الحجم الحجم الحجم
لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مروان بن الحكم.

كان الزُّبير رجلاً مفتوناً سرعان ما ولّى لولا أن ابنه عبد الله قد ورد عليه، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين: «لا زال الزُّبير منّا حتّى ورد ابنه عبد الله». هذا الأخير كان فتّاناً. لقد غرّت الدُّنيا الزُّبير وانتصرت عليه، فركب الفتنة وهو لمّا يفقد كلّ إيمانه؛ وذلك ما دفع الإمام إلى البكاء عليه حسرة.

أمّا عائشة فإنّها لم تذكر شيئاً من الذكر الحكيم لترجع عن هذه الغوغاء، ولم يرجعها إلاّ الهزيمة يوم انتصر جيش عليّعليه‌السلام ، وقتل جملها وسقطت من الهودج. تصدّى محمّد بن أبي بكر - أخو عائشة - هو وعمّار فاحتملا الهودج فنحّياه، وأدخل محمّد يده فيه، فقالت: مَن هذا؟ فقال: أخوك البرّ. قالت: عقق. قال: يا اُخيّة، هل أصابك شيء؟ قالت: وما أنت وذاك؟ قال: فمَن إذاً الضلاّل؟ قالت: بل الهداة. وقال لها عمّار: كيف رأيتي ضرب بنيك اليوم يا اُمّاه؟ قالت: لست لك باُمّ. فأبرزوا هودجها فوضعوها ليس قربها أحد(1) . ثمّ كان أن اختار الإمام عليّعليه‌السلام أربعين امرأة من نساء البصرة ليخرجن معها بزيّ الرجال(2) .

مات طلحة ابن عمّها، وأخوها محمّد هو من أخلص شيعة عليّعليه‌السلام ، وأنصارها الآخرون كلّهم قد مات، وما تبقّى كان من العثمانيّة، وهُم إلى معاوية أميل، فبقيت عائشة معزولة، وودّت لو تتاح لها الفرصة للخروج عليه، وعندما قُتل امتلأت أساريرها بابتسامة تخفي سنوات من الحقد والضغينة(3) .

وعلى كلّ حال فإنّ معركة الجمل لم تكن سوى حدث في الطريق، ولا يزال الدّهر يتحف أبا الحسن بصنوف الشّدائد والنّوائب.

____________________

(1) نفس المصدر.

(2) إنّ تفاصيل معركة الجمل يضيق بها المقام، وهي من التفاصيل الفاضحات.

(3) لنا مع عائشة - لا حقاً - وقفة.

٢٤١

٢٤٢

صفين مأزق المآزق:

كانت حرب الجمل حرباً تلقائية تخطّط لها عقول ارتجالية، وتقودهم امرأة ضعيفة العقل؛ ولذلك سرعان ما افترق جيش عائشة إلى قسمين بعد خطبتها، فالبرنامج البديل كانت تكسوه ضبابية، وكثيراً ما وقع التصارع بين القوم حول من يخلف، هل الزُّبير أم طلحة؟ أمّا معاوية في الشّام، فإنّه أدهى من هؤلاء جميعاً، وجمع إلى دهائه دهاء عمرو بن العاص؛ ليهندسا أخطر الخطط لتدمير الإسلام.

كان الاُمويّون منذ البداية يدركون أهدافهم، ومنذ أن قرعت عليهم طبول الفتح، كانوا يعرفون أنّه لا بدّ من مخطّط بعيد المدى يواجهون به نفوذ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله . كان موقف الإمام عليّعليه‌السلام من معاوية واضحاً، هو أن يعزله مهما كانت مضاعفات هذا الإجراء، وحاول بعض المتسيسة أن يتوسّطوا في الأمر، ويقنعوا عليّاًعليه‌السلام بأن يعدل عن رأيه هذا، وليزداد مرونة في سياسته، فأبى عليّعليه‌السلام فلسفتهم السياسيّة، وشدّ بالخمسة على قبضة الحسام، وأعلن الحرب على العصابة الاُمويّة.

ولم يكن معاوية عاملاً بسيطاً في الشّام، فهو قلبها وروحها بحكم بقائه الطويل في إمارتها. فهو صاحب قرار مسموع وجيش عرمرم، وعشيرة اكتسبت شوكة ومالاً في عصر الخلفاء.

٢٤٣

انحاز إلى معسكر معاوية كلّ من أراد الأموال والضياع، وبقي مع عليّعليه‌السلام عصبة ما زالت على دين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وملّته، واعتزل الحرب قوم تضببت الرؤية في أعينهم، واستعصى عليهم اتخاذ المواقف الحاسمة وفضّلوا الرّاحة، ومثل هذا الواقع أحدهم قائلاً: الأكل مع معاوية أدسم، والصلاة مع عليّ أتمّ، والوقوف على التلّ أسلم. هذه الفئة كانت متذبذبة خاذلة للحقّ، ولعلّ معاوية كان أوعى ديناً من هؤلاء؛ إذ لمّا جاء إلى سعد بن أبي وقّاص، فقال له: ما منعك أن تقاتل معنا؟ حاول أن يلتوي عليه، مبرّراً ذلك بأنّه يأبى الدخول في قتال بين المؤمنين، فردّ عليه معاوية، بأن ليس إلاّ فئة مؤمنة واُخرى جائرة، وبأنّ الواجب الإسلامي يقتضي الوقوف مع احداهما(1) . هذه العدمية كانت مرادفة للنفاق والخذلان في مجتمع عقائدي متمذهب بالإسلام.

باشر معاوية بإرسال الكتب إلى عمّال عليّعليه‌السلام في الأمصار؛ يروم استمالتهم، فكتب إلى قيس بن سعد والي عليّعليه‌السلام على مصر كتاباً يقول فيه: سلام عليك، أمّا بعد، فإنّكم نقمتم على عثمان ضربة بسوط أو شتيمة رجل أو تسيير آخر واستعمال فتى، وقد علمتم أنّ دمه لا يصل لكم، فقد ركبتم عظيماً وجئتم أمراً إدّاً، فتب إلى الله يا قيس؛ فإنّك من المجلبين على عثمان، فأمّا صاحبك فإنّا استيقنّا أنّه الذي أغرى النّاس وحملهم حتّى قتلوه، وأنّه لم يسلم من دمه، عظّم قومك، فإن استطعت يا قيس أن تكون ممّن يطالب بدم عثمان فافعل، وتابعنا على أمرنا ولك سلطان العراقين إذا ظهرت ما بقيت، ولمَن أحببت من أهلك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان، وسلني ما شئت فإنّي أعطيك، واكتب إليّ

____________________

(1) اُنظر خصائص الإمام النّسائي، وقول سعد: قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : في عليّ ثلاث، لو كانت لي إحداهن، خير لي من حمر النّعم.

٢٤٤

برأيك(1) .

حاول معاوية التقرّب من قيس واستدراجه إلى صفّه، غير أنّ قيس اعتصم ورفض اللعبة وفوّت الفرصة عليه، وكان قيس قد ردّ عليه في كتاب، لم يفصح فيه عن نيته في عملية تبادل الخطّاب جرى بينهما - حسب ما فصّل فيه ابن الأثير وأمثاله -، وكان معاوية يريد موقفاً صريحاً من قيس، فهو من هو في الدهاء حتّى يخضع للمخادع؟ وهو من هو في النّفوذ حتّى يستسلم للخدعة؟ وقد قال له: وليس مثلي يصانع المخادع وينخدع للمكايد ومعه عدد الرّجال وبيده أعنّة الخيل(2) . غير أنّ قيساً لم يجد مندوحة في الردّ عليه، فأعرب عن مواقفه، وأبا على معاوية مكيدته.

ومعاوية لم يكن رجل دين حتّى يقاتل بلا خدعة، فهو من أخسّ الطلقاء ودينه الدهاء، وكانت له حيل سياسيّة، فلذلك لجأ إلى زرع البلبلة في صفوف الإمام عليّعليه‌السلام ، ويصطنع أدواراً مسرحية؛ لتضليل الرّأي العام سواء في الشّام أم في المدينة، ومن ذلك أنّه على الرّغم ممّا ظهر له من قيس، كان حريصاً على كتمان ذلك، وادّعى أنّه يتواصل معه في الظل، وأنّ قيساً ممّن تاب وأنكر قتل عثمان، وأحياناً كان يفتعل كتاباً وهميّاً، يدّعي أنّه إليه من قيس، يذكر فيه فيأه إليه، أو يظهر رسولاً مفتعلاً، يزعم أنّه من قيس؛ للرفع من معنويات أهل الشّام.

وكان لأمير المؤمنينعليه‌السلام - كشأن كلّ قائد مسؤول - جواسيسه وعيونه في البلدان، ونقلوا له الخبر عمّا يجري هُنا وهُناك، فسمع أصحاب عليّعليه‌السلام الخبر، فاقترحوا على الإمامعليه‌السلام أن يعزله ويولّي مكانه محمّد بن أبي بكر، وكان هذا الأخير من شيعة عليّعليه‌السلام ورجالاته الاستراتيجيين، فعزل قيساً وثبّت مكانه محمّد بن أبي بكر(3) .

كانت خطّة عليّعليه‌السلام أن لا يهادن بني اُميّة وجنودهم، وهو يحتاج إلى مَن

____________________

(1) ابن الأثير الكامل 3 / 27.

(2) نفس المصدر.

(3) مسكويه، التجارب.

٢٤٥

يشاركه في تلك المواقف، يريد عمّالاً على قلبه في التنمّر والشّدة، لقد أدرك من أمر قيس ما أدرك، وعرف إنّه كان يداري مكاره كثار ومكايد عظام، غير أنّ عليّاًعليه‌السلام لم يكن في حاجة إلى مدارات، والظرف ظرف مواجهة وتحدّي، وهو يحتاج إلى مَن يجنّد جماهير الأمصار ويهيئهم للمواجهة، لا مَن يسلس للمكايد ويداري على الحقّ، لذلك اضطرّ عليّعليه‌السلام أن يعزله ويضع مكانه رجلاً على نهجه في الكفاح.

ولم يقف معاوية عند هذا الحدّ، بل استمرّ في الكتابة إلى أهل الأمصار الاُخرى، وحتّى إلى المدينة ومكّة نفسها، كان يريد معاوية أن ينبّه المغفّلين ويشكّك البسطاء ويحرّضهم على الميل إليه في مطلبه؛ للانتقام من قتلة عثمان، غير أنّ أهلها ردّوا عليه على لسان واحدهم(1) : أمّا بعد، فإنّك أخطأت خطأ عظيماً، وأخذت مواضع النّصرة وتناولتها من مكان بعيد، وما أنت والخلافة يا معاوية، وأنت طليق وأبوك من الأحزاب، فكفّ عنّا، فليس لك قبلنا وليّ ولا نصير.

وكاتب معاوية عليّاًعليه‌السلام وتبادلا الخطّاب، غير أنّ معاوية كان أكثر تشبّثاً برأي مستحيل. احتاج معاوية إلى عقل يضاربه في الدهاء، فكتب إلى عمرو بن العاص؛ يستميله إليه، ويطلب منه المشاركة في القتال ضدّ عليّعليه‌السلام ، ولم يكن عمرو بن العاص يعاني أزمة في الدهاء، حتّى تتمكّن منه مكيدة معاوية، فهذا الذي لا ناقة له ولا جمل إلاّ في الدُّنيا ما لها وبنينها، لم يكن ليستجيب مجّاناً لطلب معاوية، ولم يكن عمرو بن العاص يعاني جهلاً في معرفة مجريات الاُمور، وما يريده الدين وما لا يريده، حتّى ينقاد ساذجاً إلى معاوية يقاتل إلى جنبه؛ يتوخّى نصرة حقّ مزيّف.

____________________

(1) ذكر ابن الأثير إنّه هو: المسور بن مخزمة. في حين ذكر ابن أبي الحديد في الشّرح إنّه هو: عبد الله بن عمر.

٢٤٦

لقد كان عمرو بن العاص أحد دهاتها الكبار، كما كان على بيّنة من المتطلّب الديني، وحيث إنّ الدُّنيا هي من يتصدّر قائمة الأولويات في اهتمام عمرو، وحيث أنّه لم يكن له إيمان يمنعه من الوقوف في وجه الحقّ والشّرع، فإنّه حوّل المسألة منذ البداية إلى صفقة تجارية، ومعاوية يدرك - بحكم الدهاء والمكيدة - أنّ عمرو من تلك الطينة، ويدرك أنّه ما هرب بنفسه عن عثمان وخذلانه إيّاه؛ إلاّ اعتصاماً بمصلحة الذّات ورغباتها، وما أشدّ معرفة الداهية بالداهية.

وكان وردان غلاماً لعمرو لا يقلّ دهاء، قال له يوم عزم على اللحاق بمعاوية: أما وإنّك إن شئت نبّأتك بما في نفسك؟ فقال عمرو: هات يا وردان؟ فقال: اعتركت الدُّنيا والآخرة على قلبك. فقلت: مع عليّ الآخرة بلا دُنيا، ومع معاوية دُنيا بغير آخرة. فأنت واقف بينهما. فقال عمرو: ما أخطأت ما في نفسي(1) .

هناك كثير ممّا يمكن أن يستفيده عمرو من معاوية، فهو أهل دُنيا والتفاوض مع أهل الدُّنيا سهل، بل وهو أمر مؤكّد بالنّسبة لرجل مثل عمرو لا يأبه برجالاتها، بخلاف ما يمكن أن يحصل لو أنّ الأمر في يد رجل مثل عليّعليه‌السلام ، لا يرى باباً أمام أهل الأهواء إلاّ غلقه ولا باباً ينزوون خلفه إلاّ فتحه. وهناك - كذلك - الكثير ممّا يمكن أن يستفيده معاوية من عمرو؛ فالرّجل داهية إذا انضمّ إليه نفعه، وإذا صار ضدّه ضرّه، وهو ذو سابقية في محاربة الإسلام، وما حكّ دبرة إلاّ أدماها، وهو رجل لا نسب له يطمعه في الرّفعة، ولا دين يمنعه من المكيدة.

ويذكر صاحب العقد الفريد(2) : علم معاوية - والله - إن لم يبايعه

____________________

(1) ابن قتيبة، الإمامة والسّياسة / 96.

(2) ابن عبد ربه، عن سفيان بن عينة - في العقد الفريد - يقول: أخبرني أبو موسى الأشعري، قال: أخبرني الحسن، قال علم معاوية...

٢٤٧

عمرو لم يتم له أمر، فقال لعمرو: اتبعني. قال: ولماذا؟ الآخرة فوالله، ما معك آخرة، أم الدُّنيا فوالله، لا كان حتّى أكون شريكك فيها. قال: أنت شريكي فيها. قال: فاكتب لي مصر وكورها. فكتب له [ مصر ] وكورها.

وكان عمرو يقول:

معاوية لا اُعطيكَ دينِي ولمْ أنلْ

.....................................

ومـا الدينُ والدُّنيا سواءٌ وإنّني

لآخـذُ مـا تُعطي ورأسي مقنّعُ

فإنْ تُعطني مصراً فأربحْ بصفقةٍ

أخـدتَ بـها شيخاً يضرُّ وينفعُ

كانت الفئة النّفعية في هذا المجتمع، قد ركبت متن الصراع وتاجرت فيه، فكانوا تجّار حرب، ولكنّها حرب عادلة بين حقّ يقف على الإيمان، وباطل له سند في هوى الطلقاء، وأعمت الدُّنيا قلوبهم، فهم في غمراتها مستنكفون عن الاستجابة لداعي الحقّ، وافتقدوا كلّ مبرراتهم، وعجباً إذ يحاربون الإمام، وهم يعرفون أنّه على حقّ، وأنّ معاوية رجل دنيا وطمع، لكنّهم كانوا يمسكون بورقة الجبر، فهم مسيّرون لا مخيّرون، مسيّرون في كلّ شيء حتّى في طلب الإمارة.

قال أريب يوماً لعمرو - وهو عمّه من بني سهم -: ألا تخبرني يا عمرو بأيّ رأي تعيش في قريش، أعطيت دينك وتمنّيت دنيا غيرك؟ أترى أهل مصر - وهم قتلة عثمان - يدفعونها إلى معاوية، وعليّ حيّ؟! وأتراها إن صارت لمعاوية لا يأخذها بالحرف الذي قدّمه في الكتاب؟ فقال عمرو: يابن أخي، إنّ الأمر لله دون عليّ ومعاوية. فقال الفتى:

ألا يـا هندُ اُختَ بني زيادِ

دُهـي عمرٌو بداهيةِ البلادِ

رُمي عمرٌو بأعور عبشميٍّ

بـعيدِ القعرِ مخشيِّ الكيادِ

٢٤٨

لـه خُـدعٌ يحارُ العقلُ منها

مـزخرفةٌ صـوائدُ لـلفؤادِ

فشرَّطَ في الكتابِ عليه حرفاً

يُـناديهِ بخُدعته الـمُنادي(1)

لم يكن عمرو - وهو يتدرّج بالجبر - يؤمن بأنّ هذا الواقع منسوب لله فعلاً، إنّما هو الدهاء، هو الاختباء وراء أستار مهلهلة من الفكر الهزيل، حيث له من يصدّقه من رعاع العرب، وما كان لعمرو إلاّ أن يرحل من فلسطين إلى معاوية ليرتّب معه الصفقة، وكان عليّعليه‌السلام محيطاً بملابسة الاُمور، وعزّ عليه السّخاء باُمّة محمّد لصالح الطلقاء، وفضّل أن يموت وتموت معه الاُمّة الصالحة؛ ليبقى معاوية على اُمّة غير هذه، كيف يقبل أبو الحسنعليه‌السلام وهو الذي ما وقف سيفه في المعترك وبه قام الإسلام! ولقد حرص أولو النّظر المحدود وأصحاب الحلول الوسط، على إقناع عليّعليه‌السلام بإثبات معاوية في ولاية الشّام، غير أنّه أبى.

فالقضية ليست سياسيّة حتّى تخضع لهذا المفهوم، وما كان أبو الحسنعليه‌السلام غافلاً عن هكذا مفاهيم صغيرة، وهو مَن حلّ كلّ معضلة طرحت في حضرته، إنّها قضية إسلام أو جاهلية جديدة، قضية موت أو حياة بالنّسبة له، ولم يكن يهتمّ إن كان أبو بكر وعمر وعثمان قد أثبتوا معاوية على الشّام.

إنّ عليّاًعليه‌السلام أزيح عن الخلافة بعد عمر؛ لأنّه رفض السير على سيرة الشّيخين، وما كان يحتاج إلى سنّة الشّيخين، فيكفيه سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لقد أبى إلاّ أن يحكم شرع الله فيهم مجرّدا عن شوائب اللعبة والتوازنات... ولذلك قالعليه‌السلام : «والله لا أعطيه - معاوية - إلاّ السّيف». وقال:

وَما ميتَةٌ إِن مِتُّها غَيرَ عاجِزٍ

بِعارٍ إِذا ما غالَتِ النَّفس غولُها

وكيف يخاف عليّعليه‌السلام شوكتهم؟! وكيف يردّه عجرهم وبجرهم، فما أحصى التاريخ عن عليّعليه‌السلام هذه الهناة؟!

بعثعليه‌السلام إلى معاوية جريراً يطلب منه البيعة، وكان الأشتر قد اعترض

____________________

(1) ابن أبي الحديد، الشرح 2 / 68 - 69.

٢٤٩

على ذلك، ورأى أنّ هوى الرجل من هواهم، غير أنّ عليّاًعليه‌السلام لم يكن يحتاج إلى من يقنعهم أكثر، فهو يدرك ببصير الإسلام إنّ هؤلاء يدركون الحقّ والضلال معاً، غير أنّهم اختاروا الضلال، ولا بدّ فقط من إثبات الحجّة للخروج إليهم وقطع دابرهم إلى الأبد.

كان عليّعليه‌السلام يملك ورقة الحقّ، بينما غطّى معاوية وعمرو باطلهما بدهائهما، فعزفا على وترين:

1 - الرشاوى الماليّة.

2 - التضليل الإعلامي.

كانت الرشوة للذين تاجروا في هذه الحرب متجاوزين إيمانهم بالحقّ الذي مع عليّعليه‌السلام ؛ حيث قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «عليّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ يدور معه أينما دار». هؤلاء باعوا دينهم لمعاوية فلا بدّ لهم من مقابل، ومثال على ذلك عمرو بن العاص، وأبو هريرة ومن لفّ لفّهم من الخونة المندسّين، والتضليل لاُولئك القشريين الذين اكتفوا بمعرفة سطوح الدين، ولبسوا الإسلام لبس الفرو مقلوباً، فتضليلهم يمرّ بطريقين:

1ـ تحريف الحقائق وتزييف الواقع في أذهانهم، والضرب على وتر عواطفهم وأحاسيسهم البسيطة، وذلك كأن يرفع معاوية وعمرو بين الفينة والاُخرى قميص عثمان، ويستثيروا الروح العشائرية والانتقامية من جهة، ثمّ تصوير عليّعليه‌السلام وجنوده كالمجرمين، مثل ما فعل عمرو حين خطب في جمهور الشّامين: إنّ أهل العراق قد فرّقوا جمعهم، وأوهنوا شوكتهم، وقطعوا حدّهم، ثمّ إنّ أهل البصرة مخالفون لعلي، وقد قتلهم ووترهم وتفانت صناديدهم يوم الجمل، وإنّما سار عليّ في شرذمة قليلة منهم مَن قتل خليفتكم، فالله في حقّكم أن تضيّعوه وفي مدمكم أن تبطلوه(1) .

____________________

(1) مسكويه، تجارب الاُمم / 335.

٢٥٠

ومثل ذلك أعطى معاوية من بيت المال أربع مئة ألف درهم، على أن يخطب سمرة بن جندب في أهل الشّام بأنّ قوله تعالى:( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ ) (1) . إنّها نزلت في عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، بعد ذلك قال سمرة: لعن الله معاوية، والله لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذّبني أبداً(2) .

2 - تهيئة النّفوس للقبول بالأمر الواقع من خلال نشر الفكر الجبري، الذي يؤمن بالوقائع على أساس إنّها قدر مقدوراً. وهو ما سبق أن قاله عمرو بن العاص جبراً قد انحاز إلى معاوية، وما أكثر النّفوس التي آمنت بفكرة الجبر، وخاضت حرباً باطلة بوعي جبري، فقد روى عن الأسود، قُلت لعائشة: ألا تعجبين لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب محمّد الخلافة! قالت: وما يعجب، هو سلطان الله يؤتيه البرّ والفاجر، قد ملّك فرعون مصر(3) .

وكذلك سار معاوية في أنصاره يعطي عمراً مصر، ويضخّ الذهب والضياع في جيد المغيرة وسمرة، وأبي هريرة وما شابه. هيّأ معاوية نفسه ومَن معه للطوارئ، فهذا عليّعليه‌السلام لا ينثني ولم ينثنِ يوماً في طلب الحقّ، وهذا معاوية لا يرى البيعة لعليّعليه‌السلام في صالح بني اُميّة؛ لأنّ في عليّعليه‌السلام لوثة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هذه التي طالما تطيّر منها ابن العاص وبنو اُميّة وأشباههم.

كان حتماً وضرورياً أن تشتعل المعركة، وقد اُخبر الإمام عليّعليه‌السلام : إنّ معاوية لا يريد البيعة ويستنفر النّاس للخروج. فسار إليه الإمام عليّعليه‌السلام في جيش من المسلمين فيهم سبعون رجلاً من البدريين، وسبع مئة رجل بايعوا تحت شجرة الرضوان، وأربع مئة من بين سائر المهاجرين والأنصار(4) ، في حين لم

____________________

(1) سورة البقرة / 204 - 205.

(2) ماذا في التاريخ، الشيخ محمّد حسن القبيسي العادلي 4 / 456، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، لبنان.

(3) من سيرة أعلام النبلاء للذهبي، انظر / 183، من كتاب: شيخ المغيرة، أبو هريرة، محمود أبو رية.

(4) اليعقوبي.

٢٥١

يشمل جيش معاوية سوى رعاع العرب وأعرابها والطلقاء(1) .

وكان بودّ أتباع معاوية أن تردهم الحرب، وهم يرون الصحابة قد اجتمعوا جميعاً في جيش عليّعليه‌السلام ، لكن لا حياة لمن تنادي والقوم كلّهم من رعاع الشّام لا يعرفون عليّاً ولا عمّاراً، بل لا يعرفون النّاقة من الجمل، بينما نخبة الجيش الاُموي المدركون للحقيقة، قد تمكّنت الدُّنيا من أنفسهم فتجرّدوا لها.

وانتهت المناوشات، لكي يقف الفريقان بصفين، حيث يجهز جيش عليّعليه‌السلام على أهل الشّام، اجهازاً فرّق فيه شملهم واذهب به ريحهم، وكان من المفروض أن ينتهي أمرهم، غير أنّ الدهاة لا ينتهون، فقد اقترح عمرو على معاوية رفع المصاحف كخدعة، كان معاوية قد دعا بفرسه لينجو عليه، وكيف لا يهرب وهو أدرى ببلاء عليّعليه‌السلام وبأسه، وما دخل هؤلاء الطلقاء سوى خوف ورهبة من هذا الحسام المهنّد، الذي أرغم أنوف العرب، لتدخل راكعة منقادة في الإسلام، لقد نادى عليّعليه‌السلام معاوية: «يا معاوية، لِمَ تقتتل النّاس بيننا؟ هلمّ اُحاكمك إلى الله، فأينا قتل صاحبه استقامت له الاُمور». فقال عمرو: ما يجمل بك إلاّ مبارزته. قال معاوية: طمعت فيها بعدي(2) ؟!

وهذا لا يشكّ فيه أحد، فلقد وتر عليّعليه‌السلام العرب حين قتل أجدادها، ولكنّهم لم يروا في قتل عليّعليه‌السلام إيّاهم عيباً ونقيصة، حيث لا تزال النّفوس تتردّد في أصدائها: «لا فتى إلاّ عليّ، ولا سيف إلاّ ذو الفقار». وليس عيباً عند داهية عربي كعمرو بن العاص، أن يكشف أمام عليّعليه‌السلام عورته لينجو من ضربة حسام

____________________

(1) النّعمان بن بشير ومسلمة بن مخلد، هما الرّجلان الوحيدان من الأنصار اللذان كانا مع معاوية.

(2) مسكويه وغيره.

٢٥٢

انشقّت تحتها بيضات فرسان العرب، ليس هذا ولا ذاك عيباً، إنّما العيب أن يقاتلوا الحقيقة عند عليّعليه‌السلام .

كان معاوية قد دعا بفرسه، فاعترضه عمرو: إلى أين؟ قال: قد نزل ما ترى، فما عندك؟ قال: لم يبقَ إلاّ حيلة واحدة؛ أن ترفع المصاحف، فتدعوهم إلى ما فيها، فتسكّنهم وتكسر من حدّهم، وتفتّ في أعضائهم. قال معاوية: فشأنك. فرفعوا المصاحف ودعوا إلى التحكّم بما فيها، وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله(1) .

كانت تلك بحقّ أخطر مكيدة في تاريخ العرب والمسلمين، وبها سار خبر عمرو بن العاص وذاع أمره، إنّها المكيدة التي انتصرت لباطلهم، وفرّقت شمل جيش عليّعليه‌السلام ، غير أنّ عليّاًعليه‌السلام لم يكن غبيّاً - حاشاه - حتّى تجتاز عليه حيل الطلقاء ومكايدهم، لقد أدرك منذ البداية إنّها لعبة، وبأنّ رفع المصاحف هو تكتيك حربي وليس إيماناً، ولكن اللعبة تمكّنت من الذهنية البسيطة السّطحية في الاُمّة، ثمّ إنّ معاوية وعمرو بن العاص، معروفا التوجّه، ومتى دعيا إلى الدين وحكما بالقرآن؟ وهل هناك قرآن في تبلّجه وتشخّصه كالإمام عليّعليه‌السلام ومئات الصحابة الكبار من خلفه يقاتلون؟ وهل القشريون الذين كانوا في جيش عليّعليه‌السلام واستسلموا للخدعة، ألا يدركون إنّ الإمام عليّعليه‌السلام هو أكثرهم تمسّكاً وعلماً بالقرآن؟ ومتى احتاج أن يعلّموه التحاكم إلى شرع الله؟

هؤلاء في الواقع كانوا يحاربون مع الإمام وهم يجهلون قدره، فلم يترك الواقع الفاسد فرصة لفضائلهعليه‌السلام لتأخذ مكانها في عقول النّاس، وهذه هي نتيجة الاغتصاب. لقد كان هنالك في صفّ الإمامعليه‌السلام رجل اسمه الأشعث بن قيس الكندي، اعترض على مقاتلة القوم؛ لأنّهم رفعوا المصاحف، أنّه رجل هوائي لا يستقر على أمر، وتحكي عنه التواريخ: أنّه قد أسلم وارتدّ ثمّ أسلم في عهد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

(1) اليعقوبي ومسكويه وابن الأثير والطبري.

٢٥٣

ولذلك كان مؤهّلاً للانحراف في هذه المكيدة.

وانتشرت الغوغاء في جيش الإمامعليه‌السلام بما يشبه حالة انشطار، فما كان لهعليه‌السلام إلاّ أن يصبر، فلا رأي له؛ إذ لا رأي لمَن لا يُطاع. وكان لا بدّ للفريقين أن ينتدبوا ممثّلين عنهم ليديروا عملية التحكيم، كان عمرو بن العاص هو الرّجل المنتدب في جيش معاوية، وكان المختار في جيش عليّعليه‌السلام هو عبد الله بن عبّاس، فرفضوه لقرابته منه وانحيازه إليه، واختاروا مكانه أبا موسى الأشعري، ورفض الإمامعليه‌السلام هذا الاختيار؛ فأبو موسى كان قد خذّل النّاس عن عليّعليه‌السلام بالكوفة، وهو يدرك أنّه لا يوازن دهاء عمرو بن العاص.

هل إنّ ابن عبّاس منحاز إلى عليّعليه‌السلام ؟ وكيف يقبل العقل ذلك وعمرو بن العاص هو الرجل الثاني في جيش معاوية، هذه أكبر نكسة وقعت في جيش الإمام عليّعليه‌السلام من قبل اُناس بسطاء سذّج لا يفقهون في الدين، إنّهم متورّعون؛ لذلك طلبوا من الإمام عليّعليه‌السلام أن يعزل ابن عبّاس، وبهذا التورّع الزائد وبهذه الأخلاقية البائسة خسروا التحكيم، وخسروا الحقّ الذي من أجله جاؤوا إلى صفّين، وانتهوا خوارج مارقين.

ثمّ انبرى للتحكيم كلّ من عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري، بعد أن تمرّدت طائفة من القشريين في جيش عليّعليه‌السلام ، منهم مسعر بن فدكي، وزيد بن حصن، والسنبسي ومجموعة اُخرى، مطالبين عليّاًعليه‌السلام بالخضوع للتحكيم، وطلب الأشتر بالتوقّف، وما كان من الإمام عليّعليه‌السلام إلاّ أن يقول: «فاصنعوا ما بدا لكم». فراحوا يكتبون: هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين. قال عمرو: اكتبوا اسمه واسم أبيه، هو أميركم، فأمّا أميرنا فلا.

كان الأحنف قد رفض أن يمحوا اسم أمارة أمير المؤمنين، وقد تمثّل نفس الدور الذي قام به عليّعليه‌السلام وهو يكتب وثيقة صلح الحديبية، وكأنّ التاريخ يعيد

٢٥٤

نفسه، لكن الأشعث بن قيس قال: امحُ هذا الاسم، أمحاه الله. فعصي، فقال عليّعليه‌السلام : «الله أكبر! سنّة بسنّة ومثل بمثل. والله، إنّي لكاتب رسول الله يوم الحديبية، إذ قالوا: لا نشهد لك أنّك رسول الله، فامحُ هذا واكتب اسمك واسم أبيك. فكتبه». فقال عمرو بن العاص: نشبّه بالكفّار ونحن مؤمنون؟! فقال له عليّعليه‌السلام : «يابن النّابغة، ومتى لم تكن للفاسقين وليّاً وللمسلمين عدوّاً، وهل تشبه إلاّ اُمّاً دفعت بك». فقام وقال: لا يجمع بيني وبينك مجلس أبداً بعد هذا اليوم. فقال عليّعليه‌السلام : «وإنّي لأرجو أن يطهّر الله مجلسي منك ومن أشباهك»(1) .

خرج الأشعث على النّاس يقرأ عليهم الكتاب، فرآه عروة بن أذيه - أخو أبي بلال - فقال: تحكّمون في أمر الله الرّجال! لا حكم إلاّ لله. غير أنّ أصحاب قيس اتصلوا به فأقنعوه. لم يعد الإمام يدرك الطريقة التي يتعامل بها مع جيش منشطر، ومع أغلبية من الرعاع الذين عرفوا حقّه لكنّهم لم يقدّروا شخصيته، وكانت له خطبة عند ذلك قالها لأصحابه:

____________________

(1) الطبري ومسكويه.

٢٥٥

«لقد فعلتم فعلة ضعضعت قوّة وأسقطت منّة وأورثت وهناً وذلّة، ولمّا كنتم الأعلين وخاب عدوّكم ورأى الاجتياح واستحرّ بهم القتل ووجدوا ألم الجراح، رفعوا المصاحف ودعوكم إلى ما فيها ليفتؤوكم عنها، ويقطعوا الحرب في ما بينكم وبينهم، ويتربّصوا ريب المنون خديعة ومكيدة، فأعطيتموهم ما سألكموه، وأبيتم إلاّ أن توهنوا وتجوروا. وأيم الله، ما أظنّكم بعدما توافقون رشداً ولا تصيبون باب حزم»(1) .

اجتمع الحكمان ببلدة تقع خارج الشّام يقال لها أذرح - قي مدينة تبوك، ودومة الجندل قديماً -، وحضرت التحكيم جماعة من أصحاب عليّ واُخرى من أصحاب معاوية. ولمّا اجتمع عمرو وأبو موسى، قال عمرو: يا أبا موسى، أرأيت أوّل ما تقضي به من الحقّ، أن تقضي لأهل الوفاء بوفائهم، وعلى أهل الغدر بغدرهم. قال أبو موسى: وما ذاك؟ قال عمرو: ألست تعلم أنّ معاوية وفيّ، وقدّم للموعد الذي واعدناه؟ قال: نعم. قال: اكتبها. فكتبها أبو موسى.

ثمّ قال له: يا أبا موسى، ألست تعلم أنّ عثمان قُتل مظلوماً؟ قال: أشهد. قال: ألست تعلم أنّ معاوية وآل معاوية أولياؤه؟ قال: بلى. قال: فما يمنعك

____________________

(1) مسكويه وابن الأثير.

٢٥٦

منه وبيته في قريش كما قد علمت؟ فإن خفت أن يقول النّاس: ليست له سابقة. فقل: وجدته وليّ عثمان الخليفة المظلوم، والطالب بدمه الحسن السّياسة والتدبير، وهو أخو اُمّ حبيبة زوج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكاتبه، وقد صحبه وعوّض له بسلطان.

فقال أبو موسى: يا عمرو اتق الله! فأمّا ما ذكرت من شرف معاوية، فإنّ هذا ليس على الشّرف تولاّه أهله، ولو كان على الشّرف، لكان لآل أبرهة بن الصباح، إنّما هو لأهل الدين والفضل، مع أنّي لو كنت معطيه أفضل قريش شرفاً، أعطيته عليّ بن أبي طالب. وأمّا قولك: إنّ معاوية وليّ دم عثمان فولّه هذا الأمر، فلم أكن لأولّيه وأدع المهاجرين الأوّلين. وأمّا تعويضك لي بالسّلطان، فوالله لو خرج معاوية لي من سلطانه كلّه، لما وليته وما كنت لأرتشي في حكم الله.

قال عمرو: فما يمنعك من ابني، وأنت تعلم فضله وصلاحه؟ قال: إنّ ابنك رجل صدق، ولكنّك قد غمسته في هذه الفتنة. فقال عمرو: إنّ هذا الأمر لا يصلح إلاّ لرجل يأكل ويطعم، وكانت في ابن عمر غفلة، فقال له ابن الزُّبير: افطن فانتبه. فقال: والله، لا أرشوا عليها شيئاً أبداً. وقال: يابن العاص، إنّ العرب قد أسندت إليك أمرها بعدما تقارعوا بالسّيوف، فلا تردّنهم في فتنة.

ويذكر المؤرّخون: أنّ عمراً قد عوّد تقديم أبي موسى في الكلام، بقوله: أنت صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأسن منّي فتكلّم، وتعوّد ذلك أبو موسى. وكان أبو موسى يريد أيضاً خلع الاثنين واثبات ابن عمر، فأبى عليه ذلك عمرو وقال له: خبّرني ما رأيك؟ قال: أرى أن نخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شورى، فيختار المسلمون لأنفسهم مَن أحبّوا. وقال عمرو: الرّأي ما رأيت. وقال له: يا أبا موسى، أعلمهم أنّ رأينا قد اتّفق. فقال أبو موسى: إنّ رأينا قد اتّفق على أمر نرجو أن يصلح الله به أمر هذه الاُمّة.

٢٥٧

فقال عمرو: صدق وبرّ، تقدّم يا أبا موسى نتكلّم.

تقدّم أبو موسى وقال: أيّها النّاس، إنّا قد نظرنا في أمر هذه الاُمّة، فلم نر أصلح لأمرها ولا ألمّ لشعثها من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع عليّاً ومعاوية، ويولّي النّاس أمرهم مَن أحبّوا، وإنّي قد خلعت عليّاً ومعاوية، فاستقبلوا أمركم وولّوا عليكم مَن رأيتموه أهلاً. ثمّ تنحّى(1) . فقام عمرو فقال: لكنّي خلعت صاحبه عليّاً كما خلع، وأثبتّ معاوية.

يقول الطبري(2) : إنّهما لم يبرحا مجلسهما حتّى استبّا، ثمّ خرجا إلى النّاس، فقال أبو موسى: إنّي وجدت مثل عمرو مثل الذين قال الله عزّ وجل:( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ ) (3) .

فقال عمرو: أيّها النّاس، إنّي وجدت مثل أبو موسى كمثل الذين قال الله عز وجل:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) (4) .

كانت القضية من بدايتها خاطئة؛ لأنّها قائمة على مكيدة التحكيم، والإمام عليّعليه‌السلام لم يكن فقط يملك ورعاً وتقوى يحول دونه والمكيدة، بل أيضاً كان يتوفّر على قدر لا يوزن من البصيرة، أدرك من خلاله طبيعة اللعبة، فرفض التحكيم واستشرف مأزقه، غير أنّ الكثير ممّن كان معه، كان يملك إيماناً مقلوباً، ورتوشاً أخلاقويّة زائدة على المبدأ والسّلوك.

لم يكن عمرو بن العاص يجهل قدر عليّعليه‌السلام ، ولكنّه سلك اختياراً لعوامل شتّى، يقتضي تفويت الخلافة إلى معاوية، أمّا أبو موسى الأشعري، فقد كان رجلاً من اُولئك الأخلاقويين الفاقدين

____________________

(1) ابن الأثير في التاريخ 3 / 231 - 232.

(2) وكذا ورد في ابن الأثير ومسكويه و...

(3) سورة الأعراف / 175.

(4) سورة الجمعة / 5.

٢٥٨

للبصيرة، ذلك أنّه طرح عزل عليّعليه‌السلام وهو يرى في عزل الحقّ حقّاً، وليس ذلك إلاّ تنازلاً للباطل، ولذلك اقترح ابن عمر، ولم يكن هذا الأخير، بمن يستحقّ طرحه في سياق الاستخلاف، غير أنّ السّذاجة غلبت على مواقف النّاس، وما رأيت رجلاً خذل الحقّ في الإسلام مثل ابن عمر، الذي كان يدرك كلّ شيء ولا يتكلّم، ويخشى أن يقول الحقّ؛ خوفاً من الفتنة، والفتنة ليست سوى تغييب الحقّ والسّكوت عنه.

يذكر ابن الأثير: إنّ معاوية حصر الحكمين، وإنّه قام عشيّة في النّاس، فقال: أمّا بعد، مَن كان متكلّماً في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه. قال ابن عمر: فاطلعت جبوتي فأردت أن أقول: يتكلّم فيه رجال قاتلوك وأباك على الإسلام. فخشيت أن أقول كلمة تفرّق الجماعة ويسفك فيها دم، وكان ما وعد الله فيه الجنان أحبّ إليّ من ذلك، فلمّا انصرفت إلى المنزل، جاءني حبيب بن مسلم فقال: ما منعك أن تتكلّم حين سمعت هذا الرجل يتكلّم؟ قلت: أردت ذلك ثمّ خشيت. فقال حبيب: وفّقت وعصمت، وهذا أصح. ترك هؤلاء للباطل فرصة للظهور، ولم يقفوا مع الحقّ وهو في حاجة إلى مَن يسنده.

وقف الإمام عليّعليه‌السلام وحيداً، ليس معه سوى عصبة من المؤمنين الذين لا تهزّهم الأطماع ولا الحطام، الفئة التي نذرت حياتها للحقّ دون سواه، والباقون كانوا إمّا قاسطين أو مارقين أو ناكثين. خرجت من جيش عليّعليه‌السلام يومذاك فرقة من الخوارج زعموا أن الحكم لله، شعاراً ساذجاً يخفي داخله الضباب والاُميّة الإسلاميّة، ولذلك كبّر الإمام عليّعليه‌السلام قائلاً: «الله أكبر، كلمة حقّ يُراد بها باطل».

لم يشأعليه‌السلام أن يقتلهم يوم النّهروان إلاّ بعد أن اضطرّوه إلى ذلك، ولطالما حاورهم ورفع الرّاية البيضاء يستتيبهم، خرج بعضهم وبقي شرارهم معتصمين لجهلهم فحاربهم، وبقيت بعد ذلك حفنة من الخوارج تائهة في فلوات الجزيرة، تبشّر بجهلها وتبيّت لعليّعليه‌السلام ، وانتشرت في البلدان وانتشر معها الغباء.

٢٥٩

لا اُريد هُنا أن أفصّل في الخوارج كنشأة وتطوّر، فهذا ليس من وظيفة الكتاب؛ لأنّ الخوارج ليسوا سوى فرقة غبيّة، طلبت الحقّ بسذاجة فلم تجده، فرجع منها المخلصون إلى الحقّ، وبقي الأشقياء يردون موارد الفتن، ولكنّني اُريد الإشارة إلى المنعطفات، ومن تلك المنعطفات، ما تلي صفّين من أحداث.

كان الصحابي الجليل عمّار قد قُتل بصفّين؛ وبذلك قد أرسى ميزانه لتقييم الحدث، وقد فزع من جيش معاوية لمّا رأوه ميّتاً؛ لأنّهم سمعوا إنّ: «ابن سمية تقتله الفئة الباغية». غير أنّ الإعلام الأيديولوجي حرّف القضية، واستصغرها في ذهن القوم، فقال عمرو: لقد قتله الذين جاؤوا به. وكان كما أشار معاوية، يعتبر أنّ عمّار يمين الإمام عليّعليه‌السلام فيما الأشتر يسراه.

لم تكن مصر حتّى ذلك اليوم قد خلت لمعاوية، وما كان هذا الأخير غافلاً عنها، فهي سلّة جديدة تنضاف إلى إمارته الواسعة، وهي ثمن الانتصار الذي جلبه له عمرو بن العاص، وحيث أنّ في مصر مَن هُم على هوى عليّعليه‌السلام ، أراد معاوية أن يستخدم دهاءه في استمالتها قبل الإجهاز عليها. كانت مصر قد فسدت على محمّد بن أبي بكر، فبعث إلى مصر الأشتر، وبلغ الخبر إلى معاوية، فخشي على مصر من الأشتر وتشدّده، فعقد معاوية صفقة مع المقدم على أهل الخراج بالقلزم، وقال له: إنّ الأشتر قد ولي مصر، فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجاً ما بقيت وبقيت. وعندما انتهى الأشتر إلى القلزم وهو في طريقه من العراق إلى مصر، استقبله الرّجل وأتاه بطعام دسّ فيه سمّاً فسقاه إيّاه، فلمّا شربه مات(1) .

وحدث أيضاً: إنّ قتل محمّد بن أبي بكر في الدفاع عن مصر من قبل جيش معاوية بقيادة عمرو بن العاص، الحرب التي تركت وراءها أمواتاً كثيرين، وكان محمّد بن أبي بكر قد دخل حربه واشتدّ عليه العطش، فلحقوا به وقتلوه

____________________

(1) تاريخ ابن الأثير.

٢٦٠