لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)0%

لقد شيعني الحسين (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 411

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: إدريس الحسيني
تصنيف: الصفحات: 411
المشاهدات: 55135
تحميل: 6002

توضيحات:

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 411 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 55135 / تحميل: 6002
الحجم الحجم الحجم
لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

شرّ قتلة.

ويذكر صاحب اُسد الغابة: إنّه قُتل بعد أن اُحرق في جوف حمار، كان الذي تولى قتله معاوية بن حديج، طلب منه محمّد بن أبي بكر ماء، فأبى عليه، وقال له: لأقتلنّك حتّى يسقيك الله من الحميم والغساق. فقال له محمّد: يابن اليهوديّة النّسّاجة، ليس ذلك إليك إنّما ذلك إلى الله، يسقي أولياءه ويظمئ أعداءه أنت وأمثالك، أما والله لو كان سيفي بيدي ما بلغتم منّي هذا. ثمّ قال له: أتدري ما أصنع بك؟ أدخلك جوف حمار ثمّ أحرقه عليك بالنّار. قال محمّد: إن فعلت بي ذلك، فلطالما فعلتم ذلك بأولياء الله، وإنّي لأرجو أن يجعلها عليك وعلى أوليائك ومعاوية وعمرو ناراً تلظّى، كلّما خبت زادها الله سعيرا. فغضب منه وقتله، ثمّ ألقاه في جيفة حمار ثمّ أحرقه بالنّار(1) .

وكانت عائشة قد جزعت عليه بشدّة ودعت في قنوتها على معاوية وعمرو، وضمّت إليها عيال محمّد، ويقال: إنّها لم تأكل من ذلك شواء حتّى ماتت.

كان أخوه عبد الرّحمن قد اعترض على عمرو بن العاص وكان في جنده في تلك الأثناء. حزن الإمام عليّعليه‌السلام على محمّد بن أبي بكر حزناً شديداً، وتمنّى لو يفرّق الله بينه وبين قومه الذين لا يطيعونه في رأي ويسمعون له كلمة، ولم يكن أمامهعليه‌السلام سوى الكلمة التي يفجّر بها أحزانه، ويوجّه فيها عتابه لأتباعه المتهالكين، وودّ سلام الله عليه لو يجهز على معاوية بمصر، فيردّه عنها ردّاً عزيزاً، بل ولودّ أن لن يبقى في أرض الإسلام لوثة أموية على الإطلاق فيما لو أطاعه قومه، وكانت خطبته الشّهيرة يومها: «ألا إنّ مصر قد افتتحها الفجرة أولو الجور والظلمة، الذين صدّوا عن سبيل الله وبغوا الإسلام عوجاً، ألا وإنّ محمّد بن أبي بكر استشهد، فعند الله نحتسبه، أما والله، إن كان كما علمت، لممّن ينتظر القضاء ويعمل للجزاء ويبغض شكل الفاجر ويحبّ هدى المؤمن، إنّي والله ما ألوم نفسي على تقصير، وإنّي لمقاساة الحروب

____________________

(1) ابن الأثير، التاريخ.

٢٦١

لجدير خبير، وإنّي لأتقدّم على الأمر وأعرف وجه الحزم، وأقوم فيكم بالرّأي المصيب، واستصرخكم معلناً وأناديكم نداء المستغيث، فلا تسمعون لي قولاً ولا تطيعون لي أمراً، حتّى تصير بي الاُمور إلى عواقب المساءة، فأنتم القوم لا يدرك بكم الثأر ولا تنقض بكم الأوتار، دعوتكم إلى غياث إخوانكم منذ بضع وخمسين ليلة، فتجرجرتم جرجرة الجمل الأشدق، وتثاقلتم إلى الأرض تثاقل مَن ليست له نيّة في جهاد العدو ولا اكتساب الأجر، ثمّ خرج إليّ منكم جنيد متذانب، كأنّما يساقون إلى الموت وهُم ينظرون، فأفّ لكم». ثمّ نزل(1) .

هذه الخطبة تلخّص الظرف الذي عاناه أمير المؤمنينعليه‌السلام ، إنّه أسد الله الذي ابتلاه الله بأغلبية أجبن من بنات آوى، ومدينة العلم التي سكنها الجهلة الرّعاع، وذلك هو السّقوط، وتلك هي معاناة أبي الحسنعليه‌السلام . بقي الأمر كذلك، عليّ بالعراق ومعاوية بالشّام، حكومة منشطرة واُمّة تحكمها المتناقضات، معاوية منعته شدّة عليّعليه‌السلام وبأسه في الحروب، وعليّعليه‌السلام منعه من الخروج تثاقل أصحابه وعصيانهم له.

في تلك الأجواء من التهدئة النّسبية، اجتمع فريق من الخوارج؛ ينعون قتلاهم بالنّهروان، وتبادلوا وجهات النّظر فيما بينهم، وأسفر الاجتماع على مخطّط للاغتيال، بزعامة ثلاثة من الخوارج؛ عبد الرّحمن بن ملجم، والبرك بن عبد الله، وعمرو بن بكر التميمي. وقضى المخطّط أن يتولّى ابن ملجم قتل عليّعليه‌السلام ، والبرك بن عبد الله معاوية، فيما قال عمرو بن بكر: أنا أكفيكم عمرو بن العاص(2) . غير أنّ برك وعمرو بن بكر لم يتوفّقا في قتل معاوية وعمرو؛ فأمّا الأوّل فقد قعد لمعاوية، فلمّا خرج إلى الصلاة، ضربه بالسّيف فلم يصب إلاّ أليته، فأخذه معاوية فأمر فضرب عنقه.

أمّا الثاني فقد قعد لعمرو، غير

____________________

(1) نفس المصدر.

(2) تجارب الأمم.

٢٦٢

أنّ هذا الأخير كان قد اشتكى بطنه، فأمر خارجة بن أبي حبيبة ليصلّي بالنّاس، فخرج فوثب عليه ابن بكر - ظاناّ أنّه عمرو - فضربه فقتله، فأخذه النّاس إلى عمرو فأمر بقتله.

أمّا ابن ملجم فإنّه اتجه صوب الكوفة، وكان قد التقى بامرأة اسمها قطام وأحبّها، وكان عليّعليه‌السلام قتل أباها وأخاها يوم النّهروان، وافتقد بجمالها ابن ملجم توازنه فخطبها، فرفضت ذلك إلاّ بشرط قتل عليّعليه‌السلام . وقيل: اشترطت عليه ثلاثة آلاف وعبد وقينة وقتل عليّعليه‌السلام . فقال لها: هو لك، ووالله، ما وردت إلاّ لقتل عليّ.

فذهب وجلس مقابل الشّدّة التي يخرج منها عليّ للصلاة، وتمّت العملية، وقتل ابن ملجم عليّاً، وتصايح النّاس، فقبض عليه وجيئ به إلى عليّعليه‌السلام فقال له: «أي عدو الله، ألم أحسن إليك؟». قال: بلى. قال: «فما حملك على هذا؟». قال: شحذته أربعين صباحاً، فسألت الله أن يقتل به شرّ خلقه. فقال عليّعليه‌السلام : «لا أرك إلاّ مقتولاً به، ولا أراك إلاّ شر خلق الله».

ومات عليّعليه‌السلام في جوّ دراماتيكي معكسه تفاصيل المشهد، مات سلام الله عليه بشهر رمضان سنة أربعين. واُقيم الحدّ على ابن ملجم طبقاً لوصية الإمام عليّعليه‌السلام ، الذي منع أن يُقتل إلاّ إذا مات؛ خضوعاً لحكم الشّريعة في القتل. ماتعليه‌السلام فارتاحت القلوب الحاقدة، ويومها وصل الخبر إلى عائشة(1) فقالت:

____________________

(1) مسكويه، تجارب الأمم 1 / 383.

٢٦٣

فألقتْ عصاها واستقرّتْ بها النَّوى

كـما قرَّ عيناً بالإياب المسافرُ

وسألت عمّن قتله، فقيل: رجل من مراد. قالت:

فإنْ يكُ نائياً فلقد نعاه

نعاة ليس في فيها التُّرابُ

وشاء القدر أن يموت يعسوب المؤمنين وقائد الغرّ المحجّلين بتلك الطريقة النّكراء؛ لينجو منها الأنذال وتمنح لهم الحياة. شاء الله أن يبقى عليّعليه‌السلام علماً بشهادته، ويبقى مناوئوه خبراً في التاريخ غيّبته الأحداث، بقيت النّجف الأشرف تستمدّ نورها من جثمانه الطاهر على مدى الأجيال، وبقي قبر معاوية كوخاً وضيعاً أشبه بمزبلة في أحد أزقّة دمشق، والتاريخ يأبى الاحتفال بالأنذال، ولا يبخس العظماء حقّهم وإن كره المؤرّخون. وبموت عليّعليه‌السلام سوف تنسلّ تلك البنة الأساس في بناء الاُمّة، ستدفع هذه الأخيرة الثمن غالياً؛ لأنّها تهاونت في الحفاظ عليها.

كان عليٌّعليه‌السلام قد اشتاقت إليه السّماء فأهل الأرض ضاقوا به، والملأ الأعلى ينظر إلى هذه المعارك التي قدّر لعليّعليه‌السلام أن يخوضها، ولعلّ ذلك يعزّ عليهم، لكنّ الله قضى أن يضحّي عليّعليه‌السلام بنفسه ليعلم الله المؤمنين من الكافرين، وليمحّص به أمر الاُمّة:( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّه ) (1)(2) . وعليّ هو أمير هذه الآية وموضوعها، ولكن عليّاًعليه‌السلام لم يشأ أن يبرح الدُّنيا حتّى يطمئنّ على اُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأرسى بعده ابنه الحسنعليه‌السلام ، وهذا لم يكن سنّة بسنّة الخلفاء، ولا رأياً تلقائياً له مبرّراته في هوى جامح ورأي خداج، إنّه الرّأي الحصيف والنّصّ المحكم البواح.

____________________

(1) سورة البقرة / 207.

(2) ذكر المفسّرون أنّها نزلت في عليّعليه‌السلام يوم نام في فراش الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عندما عزم على الهجرة؛ تمويها على المشركين.

٢٦٤

وبويع الحسنعليه‌السلام بالخلافة في سنة أربعين، حسب الطبري وابن الأثير، وبايعه قيس بن سعد، وهو مقدمة أهل العراق في جمع مؤلّف من أربعين ألفاً، كان قد بايعوا عليّاً على الموت.

هذا هو المنعطف الآخر، الذي ينفتح فيه التاريخ على أخطر المآسي؛ ليكسب بذلك آل البيت النّبويعليه‌السلام دُنيا العذابات الدامية الشّنيعة.

٢٦٥

٢٦٦

ما حدث في خلافة الحسنعليه‌السلام :

ذكر المسعودي في إثبات الوصيّة: أنّ الإمام عليّعليه‌السلام لم يبرح حتّى قال: «أخلوني وأهل بيتي أعهد إليهم». فقام النّاس إلاّ اليسير، فجمع أهل بيته - وهُم اثنا عشر ذكراً - وبقي قوم من شيعته، حتّى قال: «واُوصي إلى ابني الحسن»(1) . وبذلك تسلّم الإمام الحسنعليه‌السلام مسؤولية الخلافة في شوطها الأخطر، لقد كان عليه أن يضطلع بأمر كان سبباً في قتل أبيه، وأيّ إنسان يتصوّر ذلك!

فهذا ابن الأنبياء وورعه يحول دونه وتلذّذ الملك، كيف يلهث وراء خلافة أبيه والخطب خطر والمصاب جلل؟! لقد انشغل بدفن جدّه وهو صغير، ورأى أنّ القوم قد تسابقوا إلى السّقيفة يتناهشون الخلافة، وشهد المؤامرة منذ نشأتها، ورأى بيت اُمّه يهدّد بالحرق، واستضعفوا حتّى كادت الجبال تندكّ لهول المأساة، ورأى اُمّه وهي تموت بالآلام التي تركتها التحرّشات، وهي تبكي أباها، وتتلقّى التهديد من ابن الخطّاب، وتحرم إرث أبيها، وتندكّ أضلاعها من خلف الباب، يوم اقتحموا عليها البيت وهي حبلى بمحسن، لقد شاهد كلّ هذا.

شاهد أباه وهو يعاني الأمرّين من عصيان أصحابه، ورأى كلّ ذلك فقبل - رغم اليأس - بخلافة أبيه؛ لأنّها المسؤولية، فالإسلام يواجه خطر الاُمويّة، وهي

____________________

(1) المسعودي، إثبات الوصيّة للإمام علي بن أبي طالب / 164 - 165، الطبعة الثانية، دار الأضواء، بيروت.

٢٦٧

ما تبقّى من تراث الشّرك.

كان من الطبيعي للإمام الحسنعليه‌السلام - فيما لو كان كباقي الرّعية - أن يستكين للراحة ويخلد لها، فمثله يحتاج للاستقرار النّفسي والسّكينة والسّكن.

فيكفي بنو هاشم ما تجرّعته من خطوب ومحن، ويكفي بنو هاشم ما نالته من الطغمة الاُمويّة على مرّ السّنين، ولكنّ الإمام الحسنعليه‌السلام هو إمام وليس رجلاً كباقي الرّجال، إنّه روح الاُمّة التي ستتولّى مسيرة التصحيح، وسواء اُزيح عن الخلافة الإدارية أم لا، فأنّ إمامته لا تنفيها المصادرة والاغتصاب؛ فالحسن والحسين إمامان بشهادة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قاما أو قعدا، مارسا الخلافة أو لم يمارساها، فهما إماما هذه الاُمّة؛ لذلك استجاب للوصية نزولا عند النّصّ(1) ، وكان من أوائل المبايعين قيس بن سعد.

كان المشكل الأوّل الذي واجهه الإمام الحسنعليه‌السلام هو الطاعة، إذ علم أن لا رأي لمن لا يطاع، وأيّ سماء كان سيرفعهم إليها الإمام عليّعليه‌السلام من قبل لو أنّهم أطاعوه، ولكن بعصيانهم عفّروا وجوههم تحت جيوش الطلقاء، فكانت بيعته واضحة ومشروطة بإشارة إلى الطاعة: «تبايعون لي على السّمع والطاعة، وتحاربون مَن حاربت وتسالمون مَن سالمت»(2) .

كان الإمامعليه‌السلام يدرك أنّ الواقع يعجّ بالمتناقضات، وأنّ جيشه ليس

____________________

(1) هناك من العامّة مَن رفض أن يكون عليّعليه‌السلام قد أوصى إلى الحسنعليه‌السلام ، وما هي إلاّ بلبلات اُمويّة، والمعروف عن عليّعليه‌السلام تاريخياً أنّه أوصى. واعتمد بعضهم حديث شعيب بن ميمون الواسطي: إنّ عليّاً قيل له: ألا تتخاوف؟ فقال: إن يرد الله بالاُمّة خيراً يجمعهم على خيرهم.

أقول: إنّ هذه الرّواية فضلاً عن أنّها من الموضوعات، فهي تحتوي على نزعة جبرية تخالف منطق الإسلام. وذكر ابن حجر في تهذيب التهذيب: إنّ من مناكير عن حصين عن الشّعبي عن أبي وائل قال: قيل لعلي ألا تستخلف... الحديث. وشعيب هذا قال عنه البخاري: فيه نظر. وذكر ابن حيان: أنّه يروي المناكير. أمّا أبو حاتم فقال عنه: مجهول.

(2) ابن قتيبة.

٢٦٨

منسجماً، ففيه من المندسين ما قد يبرز في الربع الأخير، ليمنى القوم هزيمة - كما وقع -، وأمامه تجربة أبيه وجدّه من قبله، وله ما عهد به عليّعليه‌السلام له سرّاً.

كانت وظيفة الإمام الحسنعليه‌السلام أن ينتشل الاُمّة من مواتها، ويردّها بكاريزمية إلى الطريق السّليم إلى الوجهة المباركة، لكن الأمر اليوم يحتاج إلى تحقيق القدر الضروري من مصالح الإسلام والمسلمين، وتجنّب الدمار الشامل لمكتسبات سنين من الكفاح الرّسالي، ولمّا سمع القوم منه ذلك، أحجموا عن البيعة وراحوا إلى أخيه الحسينعليه‌السلام قائلين له: ابسط يدك نبايعك على ما بايعنا عليه أباك، وعلى حرب المحلّين الضالين أهل الشّام. فردّهم الحسينعليه‌السلام قائلا: «معاذ الله أن اُبايعكم ما كان الحسن حيّاً». ولمّا أبى الحسين عادوا إلى الحسن، فبايعوه وهم مكرهون(1) .

وكانت وراء هذا الحدث أسباب جديرة باستلفات النّظر؛ فالحسينعليه‌السلام لا يقبل الخلافة ما دام أخوه الحسن إمامه؛ ذلك أنّ الوصيّة الشّرعية لأخيه من قبله، وكان من المفروض أن يستجيب الإمام الحسينعليه‌السلام للبيعة، فيما لو لم يكن حائل شرعي. ولمّا عادوا للإمام الحسنعليه‌السلام ، كان من الضروري أن يستجيب لاكتمال النّصرة. بايعهم الإمام الحسنعليه‌السلام وقلبه زاهد فيهم، لولا حرصه على مستقبل الاُمّة.

كان أصحابه مصرّين على قتال أهل الشّام، فهم يريدون إماماً يسير على هواهم، وهذا ما جعل الإمام الحسنعليه‌السلام لا يغامر بعيداً، والجيش العراقي الذي كان يتّكئ عليه الإمام الحسنعليه‌السلام ، لم يكن منسجماً

____________________

(1) نفس المصدر.

٢٦٩

كما قلنا، ولا خالصاً من المندسّين والانتهازيّين.

فهناك قسم من الخوارج لا يزال يتربّص بمعاوية، ليس له هدف غير ذلك بعد أن قُتل الإمام عليعليه‌السلام ، وهنالك الرّعاع الذين فهموا الإسلام بوعي الصحراء، وهناك القلّة القليلة من الصحابة الشّيعة، الذين عانوا مع الإمام الحسنعليه‌السلام نفس الأزمات.

وما أن شرع الإمام الحسنعليه‌السلام في ممارسة دوره كإمام حتّى بدأت تحرّشات الاُمويّين تتحرّك ضدّه من كلّ الأطراف، وقام معاوية بتطويق الخلافة الحسنية بسلوك أنماط من الأساليب الديماغوجية وكذا الدعائية؛ فبثّوا عيونهم بالبصرة والكوفة وباقي البلدان التي انقادت لإمامة الحسن، ونشروا عناصرهم وعمّالهم الجواسيس؛ لنشر البلبلة وخلط الأوراق وتجميع المعلومات، وكان الرّجلان اللذان بعثهما معاوية هُما؛ رجل من حمير بعثه إلى الكوفة، والآخر من بني القين بعثه إلى البصرة، وما أن وصلا إلى البلدين حتّى انتشر أمرهما وألقي القبض عليهما، وقُدّم الحميري إلى الإمام الحسن فقضى بقتله، وقُدّم القيني إلى عبد الله بن عبّاس - وكان عاملاً للإمام على البصرة - فقتله.

كانت هنالك إذاً تحرّشات بين الحسن ومعاوية، ومناوشات قد تسفر عن معركة حقيقة؛ ولذلك كتب الإمام الحسن إلى معاوية كتاباً، يحذّره فيه من مغبّة مغامراته وينذره من خطر المواجهة، قائلاً: «أمّا بعد، فإنّك دسست إليّ الرجال كأنّك تحبّ اللقاء، لا شكّ في ذلك فتوقّعه إن شاء الله، وبلغني إنّك شمتّ بما لم يشمت به ذوو الحجى، وإنّما مثلك في ذلك كما قال الأوّل:

فـإنّا ومَـن قـد مات منّا لكالذي

يروحُ فيمسي في المبيتِ ليغتدي

فقل للذي يبغي خلافَ الذي مضى

تـجهّز لاُخرى مثلَها فكأن قدِ»

وحاول معاوية أن يجيبه بنفس منضبطة تصنّع فيها الهدوء وسعة الصدر؛ يريد من خلالها استمالة الإمام الحسن، فهو لا يزال يضرب له حساباً؛ لأنّه بقية أبيه ووارث بصيرته وشجاعته فقال له: أمّا بعد، فقد وصل كتابك وفهمت ما ذكرت فيه، ولقد علمت بما حدث، فلم أفرح ولم أحزن، ولم أشمت ولم آسَ، وإنّ عليّاً أباك لكما قال أعشى بني

٢٧٠

قيس بن ثعلبة:

فَـأَنتَ الـجَوادُ وَأَنـتَ الَّذي

إِذا مـا الُّفوسُ مَلأنَ الصُّدورا

جَـديرٌ بِـطَعنَةِ يَـومِ الـلِقا

ءِ تَضرِبُ مِنها النِّساءُ النُّحورا

وَمـا مُـزبِدٌ مِـن خَليجِ البحا

رِ يَغشى الإِكامَ وَيَعلو الجُسورا

بِـأَجـوَدَ مِـنهُ بِـما عِـندَهُ

فَيُعطي الاُلوف وَيُعطي البُدورا

ثمّ يذكر صاحب الأغاني وشرح النّهج: إنّ ابن عباس بعث بكتاب إلى معاوية، يحذّره من الأعمال التي يقوم بها وبثّ الجواسيس في البصرة: أمّا بعد، فإنّك ودسّك أخا بني القين إلى البصرة تلتمس من غفلات قريش بمثل ما ظفرت به من يماينتك، لكما قال اُميّة بن أبي الصّلت:

لَعمرُكَ إنِّي والخزاعيُّ طارقاً

كـنـعجةِ غادتْ حتفَها تتحفَّرُ

أثـارتْ عليها شفرةٌ بكراعِها

فظلّتْ بها من آخرِ الليلِ تنحرُ

شمت بقومٍ هم صديقك أهلكوا

أصابهُمُ يومٌ من الدَّهرِ أعسرُ

غير أنّ معاوية كان يروم إلى بثّ الانكسار والتهدئة في صفوف الإمام الحسن، فراح يسبك أجوبته بشكل منسجم، قائلاً في ردّه على رسالة ابن عباس: أمّا بعد، فإنّ الحسن كتب إلينا بنحو الذي كتبت به، أنّبني بما لم يحقّق سوء ظنّ ورأي فيّ، وإنّك لم تصب مثلي ومثلكم، وإنّما مثلنا كما قال طارق الخزاعي يجيب اُميّة:

واللهِ مـا أدري وإنِّي لصادقٌ

إلـى أيِّ مَن يتظنَّني أتعذرُ

اُعنفُ إنْ كانتْ زبينة أهلكتْ

ونال بني لحيانَ شرفاً نفَّروا

أدرك ابن عباس أنّ معاوية صاحب خدعة ومكيدة، وأنّ الحرب عليه

٢٧١

ضرورة تقتضيها طبيعة المرحلة، وكان الإمام الحسنعليه‌السلام مصمّماً على منازلته، وموطّناً عزيمته على استكمال مسيرة التطهير، تطهير الاُمّة من الجرثومة الاُمويّة، غير أنّه كان يضرب حسابات الواقع، إذ ليس معه الجيش الحقيقي القادر على تنفيذ هذا الهدف إلى آخر أشواط الكفاح، فالجيش متضارب العزائم ومتباين الأهواء ومنكسر في الداخل.

فبعث له ابن عباس رسالة جاء فيها: أمّا بعد، فإنّ المسلمين ولّوك أمرهم بعد عليّعليه‌السلام ، فشمّر للحرب وجاهد عدوّك وقارب أصحابك، واشنر من الظنين دينه بما لا يثلم لك دنياه، ولا تخرجن من حقّ أنت أولى به حتّى يحول الموت دون ذلك، والسّلام(1) .

____________________

(1) ابن أبي الحديد، شرح النّهج، رسائل جمهرة العرب.

٢٧٢

الإمام الحسنعليه‌السلام والواقع الصعب:

نحن نريد فهم الأحداث في مجملها، لا القعود في سرد تفاصيلها الدقيقة بما ينافي فلسفة التاريخ. ولكي نفهم الأسباب التي فرضت الصلح على الإمام الحسن، لا بدّ من إجراء جرد وتحقيق في الشّروط التاريخيّة التي توافرت للإمام الحسنعليه‌السلام ، هذا الإمام الذي أظهره التاريخ الفولكلوري كرجل مسالم يهوى الرّاحة ويتّقي الشّدائد.

لقد رأينا كيف أنّ الإمام الحسنعليه‌السلام كان توّاقاً لردم الواقع على بني اُميّة لو توفّرت له الشروط الضرورية، غير أنّ محترفي التاريخ السّطحي يرون عكس ذلك، يقول (روايت م رونلدس): فإنّ الأخبار تدلّ على أنّ الحسن كانت تنقصه القوّة المعنوية والقابلية العقلية لقيادة شعبه بنجاح(1) . ويذكر (فيليب حتى) في تاريخ العرب: أنّ الحسن كان أميل إلى البذخ والترف منه إلى الحكم والإدارة. ولعلّ هذا التصوّر السّاذج المبني على الوعي بالقشور، ونقل الأخبار من دون الحفر فيها، هو الذي يترك كثيراً من المؤرّخين عرباً ومستشرقين يقعون في مثل هذه المآزق.

ولشدّ ما ظلم هذا الإمام، فلا أبوه امتدحوه لمّا قام بقتل رؤرس النّفاق، ولا ابنه عذروه لمّا قبل الصلح وهو له كاره.

____________________

(1) عقيدة الشّيعة.

٢٧٣

ولكي نبيّن (لروايت) وأمثاله من المستشرقين بأنّهم ليسوا سوى نقله ميكانيكين للمعلومات التاريخيّة الرّسمية، وبأنّ (فيليب حتى) هو أقلّ من (حتى) في تقدير الإمام الحسنعليه‌السلام ، لا بدّ أن نقف على خلفيات الصلح وملابساته.

كيف يتوقّع أهل الغباء التاريخي أن يقوم الإمام الحسنعليه‌السلام ويغامر بالحرب بجيش منهار، فالحرب مع معاوية هي حرب مع نفوذ أوسع من نفوذ الحسنعليه‌السلام ، وهي حرب مع الدُّنيا كلّ الدُّنيا بأيديولوجيتها القبلية والاقتصادية، لقد دخل الدين المحض مع الدُّنيا المحضة في صراع الاستحقاق.

الجيش العراقي - كما سبق ذكره - كان يعاني الأزمات الآتية:

1 - حدث اغتيال الإمام ترك آثاره السّلبية في نفوس الأغلبيّة؛ لأنّ ذلك الحدث قد تحوّل بفعل التشكيك الاُموي إلى هزيمة في جيش العراق، أي بمثابة انهيار نفسي مقابل معنويات الشّاميين، فكان الإمام الحسن حائراً بين قلّة معدودة من المتحمّسين، وهنالك مَن كان على غير يقين في اختياره، مثل عبيد الله بن عبّاس.

2 - وجود اليأس في صفوف الجيش العراقي، مضافاً إليه التكثيف المضاعف للإعلام المضلّل الاُموي، أوجد حالة التدابر والانشطار في المواقف، كما استطاع الإعلام أن يستميل بعض عناصر هذا الجيش إلى الصفّ الاُموي.

كان الإمام الحسنعليه‌السلام قد جعل عبيد الله بن عبّاس على رأس الجيش الذي جهّزه لقتال معاوية وأهل الشّام، وعندما انطلق معاوية بجيش إلى جسر منبج، انتشر الذعر في العراقيين ووصلت قلوبهم الحناجر، فكان لا بدّ للإمام الحسنعليه‌السلام أن يزرع الأمل في نفوسهم، ويعيد إليهم العزيمة في القتال، فقال: «أمّا بعد، فإنّ الله كتب الجهاد على خلقه وسمّاه كرهاً، ثمّ قال لأهل الجهاد:( اصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (1) . فلستم أيّها النّاس نائلين ما تحبّون إلاّ بالصبر على ما تكرهون، إنّه بلغني أنّ معاوية بلغه أن كنّا أزمعنا على المسير إليه فتحرّك لذلك، اخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم في النخيل حتّى ننظر وتنظرون، ونرى وترون»(2) .

ولم يجد

____________________

(1) سورة الأنفال / 46.

(2) شرح النّهج لابن أبي الحديد.

٢٧٤

الإمام الحسنعليه‌السلام بعد إتمامه خطبته استجابة جماهيرية من العراقيين، لقد ظهر منهم الفزع واليأس، الحالة التي يصوّرها عدي بن حاتم - وكان من رموز الجيش الحسني - قائلاً: أنا عدي بن حاتم، سبحان الله! ما أقبح هذا المقام! ألا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيّكم؟ أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة، فإذا جدّ الجدّ راوغوا كالثعالب، أما تخافون مقت الله، ولاعيبها وعارها. ثمّ دعا القوم: وهذا وجهي إلى معسكرنا، فمَن أحبّ أن يوافي فليواف. فركب دابّته وانطلق وحيداً وعسكر في النّخيل(1) .

ولمّا رأى ذلك قيس بن سعد بن عبادة، وزياد بن صعصعه التميمي، ومعقل بن قيس الرياحي - وكان ممّن أدرك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله -، قاموا يلومون أصحابهم على عدم استجابتهم لأمر الجهاد، وعلى تخاذلهم في نصرة الإمام الحسنعليه‌السلام ، فأثنى عليهم. فانطلق الإمام بجيشه يريد القتال، وكان قد أعطى القيادة العامة لعبيد الله بن العبّاس، ورشّح للقيادة من بعد عبيد الله كلّ من قيس بن سعد وسعيد بن قيس، وكان عدد الجيش أربعين ألفاً حسب الطبري، وذكر ابن أبي الحديد: إنّه اثنى عشر الفاً(2) . وعلى أيّة حال، فإنّ هذه الإحصائيات تدلّ على أنّ جيش الإمام جرّاراً عرمرماً، بيد أنّه ضعيف البنيان متهالك الرّوح متضارب الأهواء، ينصرك اليوم ويخذلك غداً، ليس له قرار.

وذكر ابن الأثير: إنّ أربعين ألفاً من جيش العراق كان قد بايع الإمام الحسنعليه‌السلام على الموت؛ وهذا ما دعا الإمام أن ينطلق من الكوفة لردّ العدوان الاُموي.

والملاحظ من خلال الاستعدادات التي أبداها الحسنعليه‌السلام للحرب، والتدابير التي اتخذها لسحق

____________________

(1) نفس المصدر.

(2) اختلفوا في تحديد جيش الحسنعليه‌السلام ، ذكر ابن قتيبة: مئة ألف. واليعقوبي: تسعين ألف. أمّا في البداية والنّهاية: فسبعون ألف.

٢٧٥

الجيش الاُموي، والإصرار على تجهيز الجيش، لم يكن يختلف عن سيرة أبيه.

فالقضية واحدة والرّوح العلوية واحدة، ولكنّ الظروف تغيّرت، وبتغيّرها تختلف المواقف، فقد كان الإمام الحُسينعليه‌السلام الذي فجّر أكبر ثورة في التاريخ، سامعاً مطيعاً في عهد أخيه، ولم ينبس ببنت شفة، لقد علم أنّ الظرف ليس ظرف قتال، هذا الجيش بهذه المواصفات لم يكن مؤهّلاً للقيام بالدور الرّسالي الحقيقي، ومهيَّأ للانهيار في كلّ لحظة، وأدرك معاوية نقطة الضعف هذه في جيش الإمام الحسنعليه‌السلام واستغلها لصالح نفوذه، فراح يبثّ الإشاعات في صفوف الجيش، ويبعث لهم الرّسائل الميئسة ويغري بعضهم البعض الآخر، ولم يستخدم طريقة واحدة في التعامل مع عناصر الجيش العراقي، بل سلك كلّ تلكم السبل؛ لأنّه يعرف مدى التنوّع في أهواء ذلك الجيش، فطوراً بالترهيب وطوراً بالترغيب، وبثّ داخل الجيش مجموعة دعايات، مثل: إنّ الحسن يكاتب معاوية على الصلح، فلِمَ تقتلون أنفسكم؟(1) .

وبعث إلى عبيد الله بن عبّاس رسالة استطاع استمالته بها: إنّ الحسن قد راسلني في الصلح، وهو مسلّم الأمر إليّ، فإن دخلت في طاعتي الآن، كنت متبوعاً، وإلاّ دخلت وأنت تابع، ولك إن أجبتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم، أعجّل لك في هذا الوقت نصفها، وإذا دخلت الكوفة النّصف الآخر(2) . واستطاع معاوية أن يضمّ إليه عبيد الله بن عبّاس بهذه الكلمة، وخان هذا الأخير إمامه الحسن، وكان هو المحرّض الأوّل لقتال معاوية. فهي حالة كان يدركها الإمام الحسن وأدركها معاوية، لذلك عزف له على وتر الاغراء والرّشا.

ورأينا كيف أنّ الجيش العراقي لم يعزم على الخروج إلاّ للوم هؤلاء

____________________

(1) ابن أبي الحديد.

(2) ابن أبي الحديد.

٢٧٦

القوم، فهو مستعدّ للتراجع حيثما ظهر له مبرّر ذلك، وأيّ مبرّر أعظم من انكسار القيادة العليا للجيش، فعبيد الله بن عبّاس الذي خان الإمام الحسنعليه‌السلام ، كان يملك قابلية الرّشوة والإغراء، فحرب مع الحسن قد تطول، وأفضل له من ذلك دنيا قريبة واستكانة مضمونة، فراح يدبّر عملية خيانة داخل الجيش، فاستجاب له قطيع من الرعاع فانطلقوا إلى معاوية.

ويذكر اليعقوبي: إنّ عبيد الله بن عبّاس، تسلّل في غلس الليل ومعه ثمانية آلاف من الجيش، وكانوا كلّهم من أهل الأطماع، فترك هذا الحدث أثراً سلبيّاً في باقي الجيش، وكلّ عارف بقضايا الحروب، وكلّ عالم بطبيعة الجيوش، يدرك مدى ما يمكن أن تخلّفه عملية انشقاق مثل تلك، أو خيانة قيادة عليا، خصوصاً أنّ القيادة العليا لم تكن اعتباطية، فعبيد الله وال على اليمن، وواحد من أتباع الإمام عليّعليه‌السلام وقد قتل بسر بن أرطأة ولديه، فتراجع هكذا رجال جدير أن يترك أثره على جيش منهار ومختلف الطباع والأهواء، فانتشر الاضطراب في هذا الجيش وكادت عراه أن تنكسر، لولا أن بادر إلى إحكامها واحد من خلّص شيعة الإمام الحسن، وهو قيس بن سعد، ابن واحد من أكبر رموز المعارضة في السّقيفة، فقد عرف أنّ سبب اضطراب الجيش كان بسبب ما تركته خيانة عبيد الله بن عبّاس، فقام خطيباً فيهم؛ يكشف لهم عن حقيقة الأوصاف التي يعرفونها عنه، حيث تبيّن أمره وأميط اللثام عن حقيقته، فقال:

إنّ هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خير قط، إنّ أباه عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خرج يقاتله ببدر، فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري، فآتى به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأخذ فداءه فقسّمه بين المسلمين، وإنّ أخاه ولاّه عليّ على البصرة، فسرق ماله ومال المسلمين، فاشترى به الجواري وزعم أنّ ذلك له حلال، وأنّ هذا ولاّه عليّ على اليمن، فهرب من بسر بن أبي أرطأة وترك ولده حتّى قُتلوا، وصنع الآن هذا الذي صنع(1) .

وسرعان ما أعادت هذه الكلمة التوازن إلى الجيش، وأدركوا أنّ الخيانة كان طبيعية من عبيد الله بن العبّاس، وما برحوا أن

____________________

(1) مقاتل الطالبين.

٢٧٧

قالوا: الحمد لله الذي أخرجه من بيننا(1) .

وتولّى بعد ذلك قيس مهمّة القيادة في جيش الحسنعليه‌السلام ، وبعث برسالة إليهعليه‌السلام يخبره بما وقع من أمر عبيد الله بن عبّاس، وكان ذلك بمثابة دليل ملموس على مدى اهتزاز جيشه، فازداد يقيناً وخفّ اعتماده على هذا الجيش.

أمّا معاوية فدامت عملياته الدعائية داخل الجيش؛ بحثاً عن العناصر الاُخرى ذات الأطماع الرّخيصة، فزاد في نشر العيون وإشاعة البلبلة، خصوصاً لمّا رأى مخطّطه قد نجح، وكان ممّا أذاعه في المدائن: إنّ قيس بن سعد قد صالح معاوية ودخل صفّه، كما أذاع - حسب اليعقوبي - خبر مقتل قيس بن سعد. وسار على ذلك النّهج، ينشر الرّعب والذّعر في العراقيين، ويغريهم بالمال والمناصب أحياناً، وكانت كلّ إشاعة تُنشر تجد لها من يصدّقها، فليس مستحيلاً أن يغدر قيس جيشه ويخونه، ما دام عبيد الله قد فعلها وهو مَن هو في ولائه وقربه من الإمام الحسنعليه‌السلام ، بل وقد صدّق بعضهم إشاعة: أنّ الحسن قد صالح معاوية. فكلّ شيء وارد، لقد اختلطت الأوراق، والكلّ بات متّهماً حتّى تثبت له البراءة.

وقد عانى الإمام الحسنعليه‌السلام الأمرّين من جيشه أكثر من معاوية، فماذا يفعل الإمام الحسنعليه‌السلام بجيش مريض، لقد أغدق معاوية أمواله ورشاويه، ولم يغرّهم الإمام الحسنعليه‌السلام إلاّ بالجهاد والجنّة، فكان إن هرب عبيد الله مع ثمانية آلاف إلى معاوية، وهرب الكندي إليه مع مائتي رجل بعد أن أغراه معاوية بخمسمئة ألف درهم، وكان الإمام الحسن قد وجّهه قائداً على أربعة آلاف ليعسكر بالأنبار(2) .

وعمّت السّرقة في صفوف الجيش، فراح ينهب بعضهم بعضاً لمّا سمعوا أنّ

____________________

(1) نفس المصدر السابق.

(2) البداية والنّهاية.

٢٧٨

قيساً قد قُتل، ولمّا أذاع؛ المغيرة بن شعبة وعبيد الله بن عامر وعبد الرّحمن بن الحكم: إنّ الحسنعليه‌السلام قبِل الصلح. ويذكر الطبري: أنّهم نهبوا بعضهم بعضاً، حتّى انتهبوا سرادق الحسن، واستلبوا منه رداءه(1) . وراح بعضهم يكفّره على غرار ما فعل الخوارج بأبيه. فقال بعضهم وأراه من الخوارج المندسين: أشركت يا حسن، كما أشرك أبوك من قبل.

وتعرّض الإمام الحسنعليه‌السلام إلى عمليات اغتيال من قبل عناصر جيشه، فجاءه مرّة واحد من بني أسد - الحراح بن سنان - وأخذ بلجام بغلته، وطعن الإمام في فخذه، فاعتنقه الإمام وخرّا إلى الأرض، حتّى انبرى له عبد الله بن حنظل الطائي، فأخذ منه المغول وطعنه به. وطُعن مرّة اُخرى في أثناء الصلاة(2) .

ماذا يفعل الإمام بعد كلّ هذا؟ إنّه رغم الإشاعات وما فعلته في جيش الإمام، رأى أن ينبّه جيشه إلى مضاعفات السّلام مع معاوية لعلّهم يفهمون. إنّ معاوية يواجه الإمام الحسنعليه‌السلام بنفوذ قويّ، له عناصره داخل جيشه نفسه، فلا بدّ من قبول الصلح؛ حفاظاً على الحدّ الأدنى من مصلحة الاُمّة، التي كانت يومها في حقن الدماء. وما دام إنّ الإمام الحسنعليه‌السلام يرى أنّ معاوية بلغ من العمر ما يكفيه، فإنّه فضّل الانتظار، بأن تكون الخلافة لبني هاشم من بعد معاوية.

فبدأ يهيء أصحابه للقبول بالصلح، قائلاً: «إنّي خشيت أن يُجتثّ المسلمون عن وجه الأرض، فأردت أن يكون للدين ناع». ثمّ قال: «أيّها النّاس: إنّ الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية، إنّما هو حقّ أتركه لإصلاح أمر الاُمّة، وحقن دمائها»(3) .

عرف إنّ قتال معاوية قد يؤدّي إلى سفك الدماء، ومحو الصلحاء وإذلال

____________________

(1) اليعقوبي.

(2) ينابيع المودة.

(3) الأعيان للسيد الأمين.

٢٧٩

المؤمنين: «والله، لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتّى يدفعوني إليه سلماً، والله لئن أسالمه وأنا عزيز، أحبّ إليّ من أن يقتلني وأنا أسيراً، أو يمنّ عليّ فتكون سبّة على بني هاشم إلى آخر الدهر، ولمعاوية لا يزال يمنّ بها هو وعقبه على الحيّ منّا والميت»(1) .

لقد تمثّل الإمام مشهد الحديبية، يوم قبِل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالصلح مع المشركين، فرأى أنّ ذلك أمر ضروري أيضاً مع أبنائهم اليوم؛ لأنّ ميزان القوى غير متكافيء، وما كان للإمام الحسن أن يرضخ للصلح إلاّ بعد أن نادى به معاوية ونشر في النّاس من يشيعه. وكان معاوية قد بعث إلى الحسن سرّاً ليصالحه، فأبى الحسنعليه‌السلام حتّى أجابه بعد ذلك(2) .

ألفى الإمامعليه‌السلام نفسه لدى معضلة تستلزم شجاعة في الاختيار والقرار؛ فإمّا أن ينازع معاوية في السّلطان ليكون له، أو يتركه على أن يكون له من بعده، فالإمام الحسنعليه‌السلام لم يكن يعدو خلف الملك والحطام، ولا أحد من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام كان كذلك، ولو كان الأمر كذلك، لنازع معاوية الملك وزجّ بالجيش في معركة شاملة، أو طلب اللجوء إلى معاوية، ليولّيه على أحد البلدان أو ينظر في أمره.

إنّ الأمر كان يختلف تماماً تماماً؛ فهو نظر إلى المستقبل، فليربح القدر القليل من مصلحة المسلمين، ويعود الأمر إلى أهله، فلو دخل في حرب مع معاوية، فربما سيبقى الأمر كذلك، وربما خلف معاوية مَن يسير أكثر منه في طلب الملك والفتنة في اُمّة الإسلام، فما كان لهعليه‌السلام إلاّ أن يستجيب للصلح وهو يدرك أهداف الاُمويّين مثلما

____________________

(1) الإمام الحسن بن علي، باقر شريف القرشي 2 / 133، مؤسسة الوفاء، بيروت، لبنان.

(2) تذكرة الخواصّ، سبط بن الجوزية.

٢٨٠