لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)0%

لقد شيعني الحسين (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 411

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: إدريس الحسيني
تصنيف: الصفحات: 411
المشاهدات: 55111
تحميل: 6002

توضيحات:

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 411 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 55111 / تحميل: 6002
الحجم الحجم الحجم
لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

2 - إنّ الله أعدّ للمحسنات منهن أجراً عظيماً، ولم يذكر مطلق نسائه. فالمسألة مشروطة بالإحسان - أي العمل الصالح -، وبالتالي يترتب عليه بمقتضى المفهوم بالمخالفة، إنّه ليس ثمّة أجر عظيم لغير المحسنات منهن.

3 - وإنّه أنذر من تأت منهنّ بفاحشة مبيّنة، يضاعف لها العذاب ضعفين وذلك على الله يسير. وفي هذا دلالات يجب الإفصاح عنها: فالإنذار بمضاعفة العذاب، هو مقتضى العدل، لأنّ الضعف يتسع أيضاً للإحسان، وذلك أيضاً لمكانتهن من الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ يتحدث القرآن عن الفاحشة، وهذا دليل على أنّ من بين زوجات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مَن قد تأتي بالفاحشة. غير أنّ الفاحشة هُنا لها مدلول خاص، فالفاحشة بالمعنى المسقط للسمعة كالزّنا - والعياذ بالله - غير وارد في حقّ زوجات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بإجماع المسلمين شيعة وسنّة، وتشمل كلمة فاحشة بالتالي، كلّ المعاني الاُخرى التي لا تمسّ شخصية الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

4 -( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ) . وهو أمر إلهي لنساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله للزوم البيوت وحرمة الخروج، وضرب القرآن لهن مثلاً بزوجات الرّسل والأنبياء السّابقين:( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (1) .

أمّا عائشة فماذا؟ لقد كانت مصدر قلق وإزعاج للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مزعجة مشاغبة كادت تشيبه قبل المشيب.

روى حمزة بن أبي أسيد السّاعدي، عن أبيه - وكان بدريّاً - قال:

____________________

(1) سورة التحريم / 10.

٣٤١

تزوّج رسول الله أسماء بنت النّعمان الجونية، فأرسلني فجئت بها، فقالت حفصة لعائشة: اخضبيها أنت وأنا أمشطها. ففعلتا. ثمّ قالت لها احداهما: إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يعجبه من المرأة إذا دخلت عليه أن تقول: أعوذ بالله منك. فلمّا دخلت عليه وأغلق الباب وأرخى السّتر، مدّ يده إليها، فقالت: أعوذ بالله منكَ. فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكمّه على وجهه فاستتر به، وقال: «عذت بمعاذ»، ثلاث مرّات، ثمّ خرج إلى أبي اُسيد، فقال: «يا أبا اُسيد، ألحقها بأهلها ومتّعها برازقيتين - يعني كرباسين - وطلّقها». فكانت تقول: ادعوني الشّقيّة. قال ابن عمر، قال هشام بن محمّد: فحدّثني زهير بن معاوية الجعفي إنّها ماتت كمداً(1) .

وممّا ورد عنها من إزعاج الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ما أخرجه البخاري في تفسير سورة التحريم عن عائشة، قالت: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يشرب عسلاً عند زينب بنت جحش ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيّتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير؟ قال: «لا، ولكن أشرب عسلاً عند زينب بنت جحش، فلن أعود له. لا تُخبري بذلك أحداً». وفي ذلك أنزل الله في القرآن:( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ ) (2) . فالله الذي بعث مُحمّداً نبيّاً لم يشأ له الشّقاء:( طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) (3) . كيف لا يرفع الحرج والعسر على نبيّه، وقد فرض على نفسه شيئاً ابتغاء مرضات عائشة وتجنباً لإزعاجها؟!

____________________

(1) الحاكم في ترجمة أسماء بنت النّعمان في المستدرك ج 4، وأورده ابن سعد في الطبقات ج 8، وكذا أخرجه بن جرير.

(2) سورة التحريم / 1.

(3) سورة طه / 1 - 2.

٣٤٢

وذكر صاحب الإحياء قولها للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنت الذي تزعم أنّك نبيّ الله(1) . وخاصمت النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يوماً إلى أبي بكر، فقالت: يا رسول الله أقصد - أي: اعدل - فلطم أبو بكر خدّها، وقال: تقولين لرسول الله اقصد! وجعل الدم يسيل من أنفها(2) .

وما إلى ذلك ممّا ورد فيها ويضيق عنه المقام، ككسرها الأواني في بيت الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أثناء غضبها، وما إلى ذلك ممّا ورد في آثار السّنّة، وحسبنا ما روته هي عن نفسها، قالت: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يكاد يخرج من البيت حتّى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً من الأيّام، فأدركتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلاّ عجوز، فقد أبدلك الله خيراً منها. فغضب حتّى اهتزّ مقدم شعره من الغضب، ثمّ قال: «لا والله، ما أبدلني خيراً منها؛ آمنت بي إذ كفر النّاس، وصدّقتني إذ كذّبني النّاس، وواستني في مالها إذ حرمني النّاس، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولاد النّساء»(3) .

لقد نزل القرآن موبّخاً لها في هذا السّلوك:( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ) (4) .

ولم تكن هي أفضل زوجات الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بنصّ ما سبق، فقد جاء في

____________________

(1) الغزالي، إحياء علوم الدين، كتاب آداب النّكاح.

(2) بإسناد عن عائشة، أورده صاحب الكنز، والغزالي في آداب النّكاح.

(3) الاستيعاب لابن عبد البر المالكي، ومسند أحمد بن حنبل، اُسد الغابة، الإصابة لابن حجر، وكذلك ذكر البخاري بلفظ آخر ومسلم والترمذي.

(4) سورة التحريم / 4 - 5.

٣٤٣

الحديث: أوحي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبشّرها - أي خديجة - ببيت لها في الجنّة من قصب(1) . وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد»(2) .

كان الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يتفرّس فيها الفتنة، وعلم أنّها ستحدث بعده، فقال لهنّ مرّة: «ليت شعري، أيّتكنّ تنبحها كلاب الحوأب»(3) . ولقد نبحتها تلك الكلاب - شرّف الله قدركم - يوم الجمل. ولم يكتف الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك، بل أكّد مراراً وتكراراً على خطورتها وهو لا يزال على قيد الحياة، فلقد وقفصلى‌الله‌عليه‌وآله مرّة خطيباً فأشار نحو مسكن عائشة، فقال: «ها هُنا الفتنة - ثلاثاً - من حيث يطلع قرن الشّيطان»(4) . وفي لفظ مسلم: خرج رسول الله من بيت عائشة، فقال: «رأس الكفر من ها هُنا من حيث يطلع قرن الشّيطان».

غير أنّ حجب كثيفة منعتنا من الكشف عن الحقيقة، هو أنّ عائشة راوية حديث، يكاد حديثها يسود كلّ أسفار العامّة، والواقع أنّ ذلك كلّه تضخيم للواقع، وقد عمد الاُمويّون على التكثير من أحاديث عملائهم ورموزهم وأتباعهم مثل أبي هريرة، وكانت عائشة ممّن وقف معهم ونادى من بعد ذلك مطالباً بدم عثمان، وممّن شاركهم في أذى البيت الهاشمي، ومنعت - استجابة لمروان - أن يُدفن الحسنعليه‌السلام

____________________

(1) صحيح البخاري، صحيح مسلم، صحيح الترمذي، تذكرة الخواصّ للسبط بن الجوزي.

(2) الاستيعاب لابن عبد البر، اُسد الغابة، الإصابة لابن حجر.

(3) الحديث مشهور ذكره صاحب العقد الفريد، والطبري في التاريخ، والاستيعاب لابن عبد البر، وتذكرة الخواصّ للسبط بن الجوزي.

(4) صحيح البخاري - كتاب الجهاد والسّير، باب ما جاء في بيوت أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٣٤٤

قرب جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بيتها.

التكثير من ذكر عائشة وأخبارها، ليس إلاّ صناعة اعتادها المؤرّخون.

من الطريف ما ذكره صاحب شرح الملحمة التترية لأحمد بن منير الطرابلسي، حيث فنّد كذبة كون عائشة روت كلّ هذا الكمّ الهائل من الأحاديث، فيذكر: إنّ ما اشتهر عند أهل السّير، هو: إنّ عائشة بنى عليها الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهي (9) سنوات، بينما بلغ حديثها (41) ألف حديث ويزيد، فكيف تكون العملية؟ لقد بنى عليها وهي بنت (9) سنوات، ثمّ مات عنها وهي بنت (18) سنة، فتكون حياتها مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (9) سنوات.

ومعلوم أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت تحته (8) نساء وهي تاسعتهن، وبمقتضى العدل بين النّساء يكون لها يوم كامل من كلّ (9) أيّام، و (9) سنوات من حياة عائشة مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله موزّعة على (9) من نسائه. بالإضافة إلى أنّه يقضي معظم نهاره في شؤون المسلمين بالمسجد الجامع، وجزءاً كبيراً من ليله في التهجّد والعبادة، ثمّ لا بدّ له من الرّاحة كبشر، وعليه فلا يمكن أن يتجاوز حديث الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مع عائشة أكثر من (100) ساعة.

وإذا اُفترض أنّه حدّثها خلال كلّ ساعة (10) أحاديث - وهذا غير وارد؛ إذ إنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كان طويل الصمت، وصمته أكثر من كلامه - فيكون المجموع عندئذ (10000) وفي هذا مبالغة. وإذا أضفنا (10000) حديث اُخرى، بمقتضى إنّ السّنّة هي قول وعمل وتقرير، وهي إضافة مبالغة، فسيكون المجموع (20000) في أقصى الحدود. فأين هذا العدد من (41) ألف حديث لعائشة؟

ويلخّص صاحب الملحمة عمليته كالتالي: لعائشة (9) سنوات في بيت الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولها من هذا العدد سنة واحدة فقط؛ لأنّها تعيش مع (8) ضرّات، والسّنة تساوي (365) يوماً، واليوم يساوي أربعاً وعشرين ساعة.

٣٤٥

وحاصل ضرب: 365 في 24 = 8760 ساعة، ينقص نصفها وهو النّهار لوجوده في المسجد، و (3 / 4 ثلاثة أرباع من الليل للعبادة والرّاحة). فألف ساعة نصيب وافر جدّاً قد فرضناه لحياتها معه، أي للتحدّث معها(1) . هذه هي عائشة اُمّ المؤمنين، كيف نجمع بين النّقيضين؟! كيف دخلت المعركة مع يعسوب المؤمنين؟!

لدي وجهة نظر قويّة الدلالة، فعائشة زوج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كانت مخطئة في حربها مع عليّعليه‌السلام ، هذا ما لا يشكّ فيه أحد؛ لأنّها لم تتمالك نفسها أمام فرصة تسنح لها لتصفية حسابها كامرأة غيورة مع عدوّ لها لدود، استبدّ بأوقاتها مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الزوج ودفعه المبدأ الصارم إلى حلّ مشكلة الإفك باقتراح الطلاق؛ وذلك من أجل قضية الرّسول الرّساليّة، فلم يراع في ذلك شعور عائشة المرأة الغيور، وما يمكن أن يتركه هذا التصرّف في امرأة خاصمة وكسرت الأواني في البيت، وساهمت في خداع نساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ليعرض عنهنّ، كلّ ذلك غيرة.

والمؤرّخون هُم الذين خلعوا عليها قداسة زائدة، ورأوا في نزوعها ذاك، اجتهاداً دينياً أضافوه إلى شريعة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

واستمرّ الإمام عليّعليه‌السلام في طريق نضاله العقيدي، لا تشغله سفاسف الصغار في مثل هذه الفرص. تقدّم عائشة دليلاً على غيرتها الكبرى التي ليس بعدها مبرّر أقوى، لمحاربة كتلة من المسلمين على رأسهم عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، فهذا الأخير إذا حكم وعائشة موجودة، إذاً سينفّذ النّصّ وسيكون كالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذي لم تكن عائشة تقدر على تليينه؛ لأنّه زوجها أوّلاً، وثانياً: لأنّه مدعوم بالوحي مباشرة؛ ولأنّه ثالثاً: زجرها بالوحي أكثر من مرّة أرادت أن تتظاهر عليه،

____________________

(1) رؤوف جمال الدين: شرح الملحمة التترية لأحمد بن منير الطرابلسي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان ص. ب 7120. أقول: والمرأة التي تكذّب على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حسب ما أوردنا، ونزول القرآن فيها، أليست مستعدّة للكذب على النّاس الذين هُم دونه بلا شكّ؟!

٣٤٦

بينما عليّعليه‌السلام - هذا - سوف يطبّق أحكاماً أشبه في صرامتها ب‍ـ(طلّقها يا رسول الله). وهذا يؤذي عائشة ويؤذيها أن يتألّق نجم عليّ وبنيه بشكل يخبو فيه وهجها أمام المسلمين، تريد أن تستبدّ وحدها بإرث الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في الشّرف، ويؤذيها أن يتولّى أمر النّاس أحد أعداء أبيها وفاروقه وقتّال للعرب. مع كلّ ذلك أقول: إنّ عائشة رغم خطيئتها في حرب عليّعليه‌السلام إلاّ أنّها كانت ترى نفسها منطقية مع شعارها الذي هو: إنّ عليّاً قتل عثمان.

وكلّ عاقل يدرك أنّ عليّاً لا يمكن أن يتآمر بهذه الطريقة العصبانيّة على رجل ضعيف - وإن كان قويّاً بعشيرته - ولكن المؤامرة كانت استراتيجية واعتبارية، أي أنّ عليّاًعليه‌السلام نضّج الأجواء الثورية لهذه العملية، فوجوده وسلوكه وتوجهاته تعكس ملامح الرّفض، وتحوّل عليّعليه‌السلام وأسرة بني هاشم على مدى سنوات من الاغتصاب الاستخلافي إلى محطّة لتزويد الجماهير بالرّفض، نقطة استفهام انزرعت في قلب المجتمع الإسلامي يومها، كانت تلك هي بنو هاشم.

فعائشة كانت ترى أنّها تحمل شعاراً فيه مبرّرات مقبولة عند العوام، فهي ترى أنّ رؤساء الوفود الذين جاؤوا إلى عثمان، كانوا هُم طليعة وخلّص شيعة عليّعليه‌السلام ، وأنّ الذين اقتحموا البيت على عثمان وتزعّموا قتله، أصبحوا من عمّال عليّعليه‌السلام في البلدان، كمحمّد بن أبي بكر، ومحمّد بن أبي حُذيفة، وأمثالهما.

وجدت عائشة في ذلك مبرّراً لمعارضة عليّعليه‌السلام بعد أن انعقدت له البيعة، وأشعلت فتنة في اُمّة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يطفئها إلاّ سيف عليّعليه‌السلام . أمثل هذه المرأة يستحقّ أخذ الدين عنها؟ وكيف نتقرّب إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ونحترمه من خلالها، وهي التي كانت لا تحترمه ولا توقّره على خلاف بعض أزواجه الأخريات.

يقول الإمام عليّ في نهجه: «لا تعرف الحقّ بالرجال، ولكن اعرف الحقّ تعرف أهله».

٣٤٧

٣٤٨

أيديولوجيا المنطق السلفي:

هُناك في الفكر السّلفي ما يقمع وما يوجّه الاُمّة وثقافتها، القمع الذي تعزّزه بـ: إذا ذكر صحابي فأمسكوا. والتوجّيه الذي تبرّره بـ‍: أصحابي كالنّجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم. والمفهوم النّهائي من ذلك كلّه هو أن تتّبع محددات دون معرفة.

وعندما نفهم الإسلام بعيداً عن التوجيه الأيديولوجي السّلفي، نفهم أنّ الهدف منه هو إثارة عقل الإنسان؛ لكي يمارس حياته بوعي وليقوم بدوره الديني على يقين، ولا أعتقد أنّ الإسلام الذي جاء ليعلّم النّاس الحكمة والعلم، أن يضع الأغلال على المُسلمين ويربطهم بأشخاص مجهولين، ثمّ يمنع هؤلاء النّاس من البحث عن سيرتهم الحقيقية في التاريخ، وليس في القرآن قدوة غير الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ومَن نصّ عليهم، أمّا الصحابة فقد كانوا هُم موضوع الرّسالة.

ونلاحظ أنّ في الأمر بالإمساك عن ذكر أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله - مهما أحدثوا - إيحاء بالعصمة لهم، وهذا خلاف لما جاء به الإسلام، فإذا لم يخضع هؤلاء إلى معادلة الجنّة والنّار، فمن يخضع لها إذاً؟

٣٤٩

وليس من المنطقي - أيضاً - أن يكون كلّ أصحاب الرّسول كالنّجوم، وإلاّ فإنّ من هدى معاوية أن قاتل عليّاًعليه‌السلام ونهب الاُمّة وأحدث فيها، ثمّ جعلها في النّهاية ملكاً عضوضاً. وأنّ عمرو بن العاص باع دينه ليشتري به دنياه، وأنّ أبا هريرة لم يكن يجسّد سيرة الإسلام، وهو يخالف الحقّ من أجل إشباع بطنه. ثمّ ما حدث بين هؤلاء الصحابة دليل على أنّهم ليسوا جميعاً نجوماً.

وهذا الخطّاب ليس خطاباً لنا وحدنا، بل هو بالدّرجة الأولى خطاب موجّه لهؤلاء المعاصرين له، الذين أطلق عليهم السّنّة جميعاً اسم الصحابة، وهذا دليل على أنّ الصحابة الذين يعنيهم النّصّ - مع افتراض صحّته - ليسوا إلاّ فئة معيّنة ضمن هذا القطيع الواسع من المعاصرين للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله . وكنت اُلاحظ تلك السّطحية في عقلية العامّة بخصوص تحديد مفهوم الصحابي، وكلّ ما قالوا عنه مجرّد تبريرات وهمية لا ترقى إلى سموّ الإقناع.

يقول أنور الجندي في ردّه على عبد الرّحمن الشّرقاوي، في مسرحية الحُسين شهيداً(1) : شهد الباحثون الذين راجعوا القصّة (..)، أنّ الأصابع الحمراء تشوّه حقائق التاريخ الإسلامي وتشهّر بالصحابة الأجلاء. ثمّ لم يوضّح كيف أساء إلى الصحابة واقتصر على: وتشهّر بالصحابة الأجلاء. لاستعطاف الوجدان العامّي من دون اللجوء إلى أساليب إقناع موضوعية، ثمّ قال:

تردّد في المسرحية تشهير بجماعة من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهُم قدوة لنا، وقد نوّه الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بمكانة أصحابه في أكثر من حديث شريف، ومن واجبنا أن نبرز مفاخرهم ونركّز عليها ونهتمّ بها، وألاّ نطيل الوقوف أمام ما نسب إليهم من خلاف أو أخطاء.

ولا زلنا ننتظر من مفكّر العامّة أن يفصح عن كيفية هذا التشهير، ولم يبيّن للذين يكتب لهم ماذا قال الشّرقاوي وأين أخطأ، بل اقتصر على وجوب إبراز مفاخر

____________________

(1) إعادة النّظر في كتابات المصريين في ضوء الإسلام. دار الاعتصام.

٣٥٠

الصحابة ونركّز عليها ونهتمّ بها.

كما لو نركّز على أنّ الرّسول أخطأ وأصاب عمر، ولا نطيل الوقوف أمام ما نسب إليهم من خلاف أو أخطاء، كما لو لم نطل الوقوف أمام مقتل الحُسينعليه‌السلام لسواد عين يزيد والعامّة. واستمرّ كذلك الجندي في كلماته المطاطة، التي لا تحتوي مضموناً عقلانياً يحمل مظهراً من مظاهر الإقناع. وهذه الضبابية في تحديد المفاهيم عند العامّة، ليست من مسؤولية الجندي، بل هي كانت في صميم البنية المذهبيّة للعامّة.

قصّة طريفة من القصص التي حدثت لي يوماً وعرفت من خلالها مدى تقديس الصحابة عند العامّة، تقديساً يفوق قدسية الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه من حيث لا يشعرون.

جاءني واحد من المثقفين والمتوجهين إلى دراسة الفكر السّلفي، ورتّب معي موعداً للحديث عن ملابسات السّقيفة. وعندما بدأنا حوارنا، كان يحاول أن يفتح لي في كلّ مرّة باباً في النّقاش ليبرّر به موقف عمر بن الخطّاب، غير أنّني كنت أعرف مسبقاً - وبحكم التجربة - أيّ باب يريد أن يفتح، ثمّ أصدّه في وجهه، وكان هدفه أن يبرئ عمر من أي خطأ مهما كانت النّتيجة، وكنت أحاول أن أوضّح له موقف الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من قضية الإمامة مهما كلّفت نتيجة ذلك ولو بخسران واحد من الصحابة، ولمّا رأى أن الأبواب كلّها انغلقت عليه، وألفى النّصّ لدى كلّ باب يريد فتحه.

قال بكلّ ابتذال: إذاً، لو كنتُ في ذلك الموقف لاتّبعت عمر وتركت الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّ عمر رأى المصلحة في ذلك، بدليل أنّ خلافته كانت كلّها عادلة. قلتُ له: أنا لا اُريد أن استعرض أمامك حقيقة العهد العمري في الخلافة، ونقاط الاستفهام المبهمة في فترة خلافته، غير أنّ الأساسي هُنا: هل أنت مستعدّ

٣٥١

لاتّباع عمر وترك الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ وهل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يقارن بعمر؟ وهل رأي عمر أصوب من وحي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ قال: المهم، إنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أمر في حديث له أن نتبع عمر.

هذا هو الموقف الذي يحسّه كلّ عامّي في نفسه، وكلّما صدّت في وجوههم الأبواب، كشفوا عن هذه الحقيقة؛ لأنّ الفكر الأساسي الذي يقوم عليه اعتقادهم هو فكر مضبب، ليس عند أي عامّي فكر متناسق عن كلّ القضايا التي تعرّضنا لها، سوى ركام من التبريرات الأدبية المطرّزة بالحوقلات والتهليلات.

٣٥٢

ليس كلّ الصحابة عدول:

تحرّم الشّريعة الإسلاميّة التقليد في الاعتقاد؛ ذلك لأنّ العقيدة لا تورث بل تبحث، فهي قناعة واستيعاب.

وإذا أردنا أن نبحث في قضية الاعتقاد نحتاج إلى التاريخ، أي إلى الأرضية الزمنية التي تحرّك فيها الاعتقاد الإسلامي ككل، وسنضطّر حتماً إلى بحث الموضوع الصحابي، فيكون البحث عن الصحابي جزءاً لا يتجزأ من بحث الاعتقاد؛ لأنّ لهذا وذاك علاقة تاريخية لا بدّ من فرزها.

وعندما نبحث في الصحابي كضرورة لبحث الاعتقاد، سنصطدم بمجموعة العورات والانحرافات، وهذا الانحراف لا يعني تعرّضاً للصحابي بقدر ما يعني الوصول إلى الحقيقة، والذي يبحث عن الاعتقاد الصحيح غير الملفّق، يلزمه عدم تغطية تلك الانحرافات وعدم تبريرها. ذلك مثلاً، يحاول البعض أن يغطّي عن أبي هريرة، ويعتقد بأحاديثه الداعية إلى الجبر، ولا يمكن فهم هذا الانحراف إلاّ بالكشف عن انحراف أبي هريرة. كما أنّ وضع الصحابي تحت المجهر التاريخي، لا يعني بالضرورة سبّاً للصحابي.

٣٥٣

وفي حديث: «لا تسبّوا أصحابي». لفتة يجب الوقوف عندها:

أوّلاً: «لا تسبّوا أصحابي». لا علاقة له بالبحث التاريخي الموضوعي عن الصحابي.

ثانياً: إنّ هذا الحديث - كما ورد في مرويات السّنّة - جاء كتوبيخ لخالد بن الوليد لمّا تعرّض لعمّار بن ياسر وسبّه، فقال الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لخالد: «لا تسبّوا أصحابي». فالكلام موجّه لخالد، وهو دليل على أنّ خالداً ليس صحابياً بمفهوم الحديث، وأنّ صحابة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ليسوا هُم الذين عاصروه وصلّوا وراءه، بل هُم فئة خاصة.

وإذا تبيّن أنّ الصحابة كانوا أكثر اختلافاً في عهد رسول الله، وأكثر تمرّداً عليه في بعض المواقف، سوف نفهم - تبعاً لذلك - طبيعة انحراف بعضهم بعد وفاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٣٥٤

بعض الصحابة سيرتّد بالنّصّ:

روى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند سهل بن سعد: والحديث الثامن والعشرين من المتّفق عليه، قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «أنا فرطكم على الحوض، مَن ورد شرب، ومَن شرب لم يظمأ، وليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثمّ يحال بيني وبينهم»(1) . وجاء في الصحيحين البخاري ومسلم عن عبد الله بن عبّاس، قال: «ألا إنّه سيجاء برجال من اُمّتي، فيؤخذ بهم ذات الشّمال، فأقول: يا ربّ أصحابي؟ فيُقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم، فلمّا توفيتني كنت الرّقيب عليهم وأنت على كلّ شيء شهيد، إنّ تعذّبهم فإنّهم عبادك». قال: «فيقال لي: إنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم».

وروى البغوي في المصابيح، كما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما: قال الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا فرطكم على الحوض، مَن مرّ عليّ شرب، ومَن شرب لم يظمأ أبداً، وليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثمّ يحال بيني وبينهم، فأقول:

____________________

(1) صحيح البخاري ومسند أحمد.

٣٥٥

إنّهم اُمّتي! فيُقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي».

وقد روي هذا الحديث بطرق مختلفة وأسانيد شتّى، واكتظّت به صحاح السّنّة، وهذا كلام صريح على بطلان مقولة: كلّهم عدول، ما دام الكثير منهم بشهادة النّصّ سيدخلون النّار.

أمّا القرآن الكريم - وهو المصدر الأوّل للمعرفة الإسلاميّة - يعلمنا أنّ الصحابة ليسوا كلّهم عدول بل فيهم من يستحقّ العذاب. تحدّث القرآن عن الصحابة يوم حنين وإعجابهم بكثرتهم ظانين أنّها ستغني عنهم شيئاً:( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ) (1) .

ويذكر صاحب التفسير الكبير والآلوسي وصاحب الدرّ المنثور: إنّ الكثير من الصحابة ولّوا مدبرين، تاركين الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وراءهم بين يدي العدو، وكلّ ذلك طمعاً في البقاء، وهذه الآية ليس فيها نظر حتّى يحاول العامّة تحريفها أو نفيها مع وضوحها وقطعها في انكسار الكثير من الصحابة وفرارهم في الزّحف.

وكان من الصحابة مَن يتّهم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في الصدقات، كما جاء في صحيح البخاري والدرّ المنثور: إنّ اُناساً من الأنصار قالوا يوم حنين، حيث أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، وطفق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعطي رجالاً من قريش المئة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله، يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. وقال تعالى:( وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ) (2) .

وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين، وابن ماجة في سننه، عن عائشة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال:

____________________

(1) سورة التوبة / 25.

(2) سورة التوبة / 58.

٣٥٦

إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «إذا فتحت عليكم خزائن فارس والرّوم، أيّ قوم أنتم؟». قال عبد الرّحمن بن عوف: لكن كما أمرنا الله. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أو غير ذلك، تتنافسون، ثمّ تتحاسدون، ثمّ تتدابرون، ثمّ تتباغضون».

هؤلاء هُم الصحابة كما عرفهم العامة من دون محددات تضبط مفهوميتهم؛ ولذا يجب أن نتحلّى بروح الشّجاعة الجريئة، أي بنفسية مهذّبة سليمة غير متشنّجة، تقتضي التضحية ببعض التقديسات التي هي في الأصل عين الأزمة.

غابت الأزمة وكان من المفروض أن لا تغيب عن المنقّب، ولكن السّبب الرّئيس لغيابها وتعسّرها، أنّ المؤرّخ المتشنّج يبحث عنها بعيداً عن جذورها، في الوقت الذي تكمن المشكلة في ذات الأشخاص الذين تربطه بهم رابطة غيبية مقدّسة، لها مشروعيتها في نفوسهم أكثر ممّا هي في النّصّ.

٣٥٧

٣٥٨

مفهوم الإمامة:

سأنطلق هُنا من نقطة لديّ فيها وجهة نظر تاريخية، هي: إنّ نظرية الإمامة والخلافة تبلورت بشكل أكثر دقّة عند الشّيعة منه عند السّنّة؛ والسّبب في ذلك راجع إلى أنّ مواقف الخلفاء تناقضت في ممارسة الإمامة وتعاطت بأشكال مختلفة ومتناقضة مع مسألة الخلافة.

فالمفهوم الشّوري الذي يتسع في المنظور السّنّي إلى مسألة الخلافة، لم يكن ثابتاً سواء في فكر السّنّة أو ممارساتهم، ففي النّصّ السّنّي تتوزّع مسألة الخلافة بين البُعد الشّوري والبُعد التنصيبي، بالقياس على نصّ: مروا أبا بكر فليصل بالنّاس. وكانت هذه الأخيرة هي شعار السّقيفة، بينما ظلّت المسألة ثابتة في الفكر الشّيعي منذ البداية، فهي الخلافة بواسطة النّصّ، وفي حدود بني هاشم، وكان لهذا الثبات المفهومي الفضل في انتصارات الشّيعة الكلامية على خصومهم، مستفيدين من الشّرخ الحاصل لدى العامّة في نظرية الإمامة، والتنوّع والتناقض الذي حكم قضية الخلافة في الفكر السّنّي.

لقد تبلورت المواقف بعد وفاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بشكل سريع، بحيث لم تبق فرصة للهاشميين في إبداء رأيهم.

٣٥٩

استغلّ أصحاب الرّأي غباء العامّة في السّقيفة - أي الرّعاع - وأرهبوا الخاصّة مثل سعد بن عبادة، وعمّار، و... والهاشميين، هذا يعني أنّ الأمر كان معدّاً سلفاً ومسبقاً، والهاشميون كانت لديهم منذ البداية نصوص قاطعة. والسّقيفة مؤتمر قائم أساساً على مخالفة النّصّ؛ لأنّه لو اُطيع أمر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في تجهيز جيش اُسامة، لما كانت لهم فرصة في إقامة مثل هذه المؤتمرات، وعندما يقول الرّسول: «لعن الله مَن تخلّف عن جيش اُسامة». يترتب عليه، أنّ اللعنة على ما قام على لعنة التخلّف عن جيش اُسامة، بمعنى أنّ السّقيفة قائمة على اللعنة.

وإذا أردنا أن نخضعها لاُسلوب الأحكام، فإنّ كلمة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله تثبت أنّ الأمر واجب وأنّ التخلّف عنه حرام، وما دامت السّقيفة قائمة على حرمة التخلّف عن جيش اُسامة ترتّب عليه حرمة السّقيفة؛ وذلك من باب أنّ المبني على الحرام حرام.

قُلت: إنّ الإمامة عند أهل السّنّة خاضعة للمزاج والرّأي، ولم تكن لهم فيها نظرية، وحتّى قاعدة الشّورى التي تحدّثوا عنها لم تكن مؤسسة يومها، بل كلّ ما في الأمر وضعها اللاحقون. أمّا المسألة في واقعها التاريخي، كانت تتأرجح بين أشكال من التنصيب، ونحن هُنا سنعرض وجهة نظر كلّ من الشّيعة والسّنّة في مسألة الخلافة؛ لنقف على الثغرات التي تحتوي عليها، ووجهة النّظر العامّيّة حول المسألة.

أهل السّنّة والخلافة:

مع أنّ الخلافة في واقعها التاريخي لم تكن متبلورة في شكل نظرية عند أهل السّنّة، إلاّ أنّ المتأخرين منهم استطاعوا أن يضعوا لها مبرّرات فكرية بسيطة ومحدودة. يعتقد أهل السّنّة بأنّ الخلافة شأن من شؤون الدُّنيا يتحقّق بالاتفاق، وحيثما ورد الاتفاق تجب البيعة، ولم يعتبروها من اُصول الدين، فهي إذن من فروعه، وشذّت بعض مذاهبهم، إذ جعلتها غير واجبة، وبأنّ السّقيفة كانت نموذجاً للشورى، من دون أن يركّزوا على ملابساتها، ويستندون إلى قوله تعالى:

٣٦٠