لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)0%

لقد شيعني الحسين (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 411

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: إدريس الحسيني
تصنيف: الصفحات: 411
المشاهدات: 55109
تحميل: 6002

توضيحات:

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 411 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 55109 / تحميل: 6002
الحجم الحجم الحجم
لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

لقد شيعني الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الفصل السّادس

في عقائد الإماميّة

وفيه تركيز على خصائص العقيدة الإماميّة:

1 - في الصفات.

2 - في التفويض والجبر.

3 - في الرؤية.

4 - في البداء.

٣٨١

٣٨٢

لقد ظهر علم الكلام - أو ما يسمونه بالفقه الأكبر - على أثر الأحداث التي تلت وفاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ إنّ أمواجاً من التحديات الفكرية والفلسفية التي وردت على المُسلمين من البلدان المفتوحة، كانت تفرض على المُسلمين الاهتمام بالكلام؛ لإثبات عقيدتهم إثباتاً عقليّاً يلزم حتّى الخارجين عن الإسلام. وحيث غزت المجتمع الإسلامي مذاهب فلسفية إغريقية، واُخرى دينية غنوصية وردت من المدرسة الإسكندرانية المسيحية، كلّ هذا فرض على المُسلمين التماس البرهان العقيدي في مناهج وأقيسة الإغريق.

والمتتبع لحركة الفكر الديني ومسائل علم الكلام، يتبين أنّها لم تكن جديدة في تاريخ الفكر البشري؛ ذلك أنّ قضايا الذات والصفات، والحدوث والقدم، والوحدة والفيض، كلّ هذه القضايا عولجت في فكر الإغريق منذ مئات السّنين وقبل ظهور الإسلام.

فمثلاً، كان الفيثاغوريون يفسّرون قضية التوحيد من وجهة النّظر العددية، إذا أنّ البارئ واحد كالآحاد، ولا يدخل في العدد، مثلما أنّ الواحد في العدد تصدر عنه جميع الأعداد الاُخرى دون أن يشتقّ هو منها. وقالوا بأنّ: الله لا يُدرك مباشرة، بل من آثاره وأفعاله.

وتحدث الإيليون عن الاُلوهية، فذكروا: أنّها وحدة شاملة، وهي الوجود كلّه.

٣٨٣

وكان اكسنوفانس يقول: إنّ هذا العالم كلّه وحدة تامّة هي الله.

كما أنّ أهل الديانات الاُخرى سبقوا متكلّمة الإسلام إلى استعارة الآلية الفلسفية في البرهنة على قضايا الإلهيات، ومثال على ذلك فيلون (35 ق. م - 50 ب. م)، وهو عالم يهودي كان يستدلّ على صحّة الدين بالفلسفة. وكذلك بالنّسبة لأفلوطين الذي تكلّم في الفيض والإشراق.

نريد من هذا كلّه التأكيد على الحقيقة التاريخيّة لواقع علم الكلام عند المُسلمين، وأنّه تكرار للتجربة التي قام بها علماء النّصرانية واليهوديّة في الاستدلال بالفلسفة على المسائل الإلهية(1) . وعندما نتحدث عن علم الكلام في المجتمع الإسلامي، فإنّنا نصطدم بثلاث فرق كُبرى، هي:

- الشّيعة.

- المعتزلة.

- الأشاعرة.

أمّا المرجئة، وأهل الحديث، والماتريدية، فهي من الفرق البائدة والسّطحية التلفيقية التي لا ترتقي إلى مستوى الفرق الثلاث.

والأصل هُم الشّيعة؛ لأنّ الإمام عليّعليه‌السلام كان هو الملهم الأوّل لعلم الكلام، بمعنى الاستدلال العقلي على قضايا العقيدة، كما نرى ذلك في نهج البلاغة، وكان الحسن البصري ممّن أخذ العلوم عن الإمام عليّعليه‌السلام ، ثمّ انفصل

____________________

(1) إنّني لا اُريد من ذلك تخطئت علم الكلام؛ إذ إنّ استناد بعض علماء النّصرانية واليهوديّة على المنطق الإغريقي في إثبات اعتقاداتهم لا يدلّ على خطأ هذا المنطق بالضرورة؛ لأنّ العقل واحد، ومصداقية الأفكار والمعتقدات هي في مدى قربها أو بعدها عن العقل، لكن اُريد أن اُشير إلى أنّ تعقيل العقيدة لم يكن من إبداع المُسلمين فقط، وهذا ما عرفناه من التاريخ.

٣٨٤

واصل بن عطاء عن الحسن البصري حيث كان معه، فتشكّل الاعتزال، وظهرت أشكال اُخرى للاعتزال كالجبائية والنّظامية، ومن الجماعة الاعتزالية انشق الأشعري، ليشكّل في النّهاية فرقة الأشعرية.

ولست في الواقع أروم التعمّق في هذا المبحث من كلّ زواياه؛ لأنّه أوسع من أن يحتويه فصل واحد من فصول الكتاب، غير أنّني اُريد أن أشير إلى نقطة، هي: إنّ أغلب ما قيل حول هذه الفرق لم يكن أميناً للحقيقة. ومن جهة اُخرى: إنّ كلّ الشّطحات التي وقع فيها أصحاب الفرق الكلامية، كانت بسبب الفجوة الواسعة التي تركتها الابتعاد عن توجيه الاُئمّةعليهم‌السلام .

ومن تلك الادّعاءات غير الأمينة أن يكون التشيع وليد الاعتزال، أو أنّ المعتزلة كانوا أكثر دفاعاً عن التوحيد، بينما كان الأشعرية أكثر فهماً له. وكان أيضاً للحالة السياسيّة تأثير مباشر على حركة التفكير الإسلامي ونشأة علم الكلام؛ إذ إنّ التبرير الذي جرى عليه علماء البلاط الاُموي للظلم الاُموي، ولّد ردّة فعل في نفوس أشخاص، فقالوا في الاختيار المطلق في مقابل قول الآخرين بالجبر المطلق، ومن ثمّ ظهرت أفكار واتجاهات كالقدرية والمفوضة، وتشعبت المسائل الكلامية واتخذت بُعداً سياسيّاً، أسفر عن محنة شديدة حول خلق القُرآن.

نُريد هُنا أن نستعرض - بإيجاز - وجهة نظر كلّ من الفرق الثلاثة لنضعها في الميزان، ونبرز مدى قيمة التفكير العقائدي لدى الشّيعة، من دون أن نُطيل في استعراض الترجمات والملابسات التفصيلية.

في التوحيد والصفات:

اختلف أهل الفرق الإسلاميّة في تحديد علاقة الصفات بالذات، فمنهم من رأى أنّها: معان زائدة على الذات، مرتبطة بها، وقديمة قدمها، وذلك مذهب الأشاعرة. ومنهم من قال: بأنّ الصفات هي عين الذات، ولا تختلف صفة عن اُخرى، وعلى ذلك مذهب الشّيعة ومَن سار بعدهم من المعتزلة. فيما ترى الكرامية: أنّ الصفات زائدة على الذات، محدثة ليست قديمة، وهذا رأي لم يحتفل به الحكماء ولا غيرهم.

٣٨٥

والثغرة التي توجد في قول الأشاعرة، هي في تعدّد الصفات واستقلالها عن الذات، ذلك أنّ الذات الواجبة هي بسيطة وكاملة وأزلية، لا تحتاج إلى عوارض مستقلّة لتحقيق كمالها المُطلق؛ إذ إنّ استقلال الصفات عن الذات، يناقض مقولة البساطة في الذات، ثمّ إذا كانت الصفات مستقلّة وزائدة وقديمة، ترتّب أن يوجد أكثر من ذات قديمة، فالعلم الزائد على الذات قديم قدم الذات، يترتّب على ذلك وجود قديمين، وإذا قسنا ذلك على الصفات السّبع التي وضعها الأشاعرة، يكون هناك إلى جانب الذات، سبع قديمات وواجبات.

يقول العلامة السّيد الطباطبائي(1) : وأيضاً، لازمه فقدان الواجب في ذاته صفات الكمال، وقد تقدّم أنّه صرف الوجود الذي لا يفقد شيئاً من الكمال الوجودي.

ومن هذا المنطق، غاص أهل الفرق في متاهات اُخرى، كان الأشاعرة - صراحة - فيها أكثر سطحية وتلفيقاً، فلو كانت صفة البقاء مستقلة عن الذات، للزم أن يتوقف بقاء الله على شيء مستقل عنه، هو البقاء، والله باق بذاته لا بغيره، ولذا لزم أن تكون صفة البقاء هي هو من دون أن نلغيها، ولو كان الله في حاجة إلى غيره في البقاء، إذن لكان ممكناً غير واجب، وتكون صفة البقاء هي الواجب وفق هذا القول، وعلى هذا الرّأي الشّيعة.

فيما رأى الأشاعرة: أنّ الله تعالى باق بالبقاء(2) . والغريب عندما رأوا أنّه باق ببقاء ليس هو.

ونلخص إلى القول، بأنّ الشّيعة وقفوا موقف الوسط في مسألة الصفات، فيما غلا كلّ من الأشاعرة والمعتزلة، كما صوّر ذلك الشّاعر:

الأشعريُّ (بازديادٍ) قائلٌ

وقال (بالنِّيابةِ) المعتزلُ

____________________

(1) نهاية الحكمة / 289، مؤسسة النّشر الإسلامي، قم.

(2) شرح التجريد للقوشجي.

٣٨٦

فالأشاعرة أثبتوا كلّ الصفات الزائدة، ونفى المعتزلة الصفات وقالوا بالنّيابة، فيما قال الشّيعة بثبوت الصفات العينية دون أن يلغوها.

وفي نهج البلاغة يقول الإمام عليّعليه‌السلام : «أوّل الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشاهدة كلّ صفة إنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف إنّه غير الصفة. فمَن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومَن قرنه فقد ثنّاه، ومَن ثنّاه فقد جزّأه، ومَن جزّأه فقد جهله، ومَن جهله فقد أشار إليه، ومَن أشار إليه فقد حدّه، ومَن حدّه فقد عدّه، ومَن قال فيم؟ فقد ضمنه، ومَن قال علام؟ فقد أخلى منه. كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، متوحّد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده».

ونلاحظ أنّ الإمام عليّعليه‌السلام تكلّم بنفي الصفات، وهو بالطبع لا يقول بما قالت به المعتزلة فيما بعد، وإنّما يعني نفي الصفات الزائدة التي تنافي كمال الذات.

يقول مرتضى المطهري: وصف نهج البلاغة ذات الله سبحانه بالأوصاف الكمالية، وفي نفس الوقت نفى مقارنته بالصفات الزائدة على ذاته، والمعتزلة ينفون عنه كلّ صفة، والأشاعرة يصفونه بكلّ صفة زائدة على ذاته(1) . والرّأي الوسط هو الرّأي الموضوعي؛ لأنّه لا ينفي صفات أثبتها البارئ في كتابه، ولا يجمع بين الذات والصفات الزائدة وينسب لها القدم والوجوب، فيطرق بذلك باباً للشرك.

في العدل الإلهي:

يُعتبر العدل أحد اُصول الدين عند الشّيعة، ويُعتبر أيضاً من اُصول المعتزلة؛ وعليه فإنّ الإماميّة ومَن سار بعدها من المعتزلة، يرون الحكمة وراء كلّ أفعال

____________________

(1) مرتضى المطهري، في رحاب نهج البلاغة / 63، ترجمة هادي اليوسفي، الطبعة الثانية، دار التعارف للمطبوعات، بيروت.

٣٨٧

الله ويقولون بحسنها، والله لا يفعل القبيح من قبيل الظلم؛ إذ إنّ الله ليس ظلاّماً للعبيد، وكلّ القبائح الموجودة هي من أفعال العباد، بينما يتنزّه الله عن ذلك. وخالفت الأشعرية إلى رأي آخر، فترى أنّ أفعال الله تعالى حكمة وحسنه، وأنّ القبيح هو أيضاً صادر عن الله، وذلك لا يتنافى مع عدله.

كما ترى الأشاعرة: إنّ الله يقضي بالكفر والظلم وكلّ القبائح(1) . وترى أيضاً: إنّ الله يفعل الأشياء من دون مصلحة وغرض حكيم، ويعذّب العبد من دون مصلحة، وقد يخلق خلقاً في النّار من غير معصية اقترفوها. ويرون: أنّ الله قد يضلّ العباد ويغويهم - تعالى عن ذلك -، وقد يدخل إلى الجنّة مَن عبده ويدخل النّار مَن عصاه، وأنّ الله قد أمر بكثير ممّا كرهه ونهى عمّا أراده(2) . وهم بذلك يخالفون الشّيعة ومَن سار خلفهم من المعتزلة؛ إذ يرى الشّيعة: إنّ الله لا يجوز في حقّه معاقبة العبد على فعل إنّما هو أجبره عليه، وبأنّ الله لا يفعل الأشياء عبثاً من دون مصلحة وغرض، ولا يجوز في حقّ الله - وبمقتضى العدل الإلهي - أن يعذّب المطيع ويدخل الجنّة العاصي، وبأنّ الله لم يكلّف أحداً فوق طاقته، كما ترى الأشعرية.

نحن نقول للأشاعرة: بأنّه إذا كان الله لا يتنزّه عن تعذيب المطيع وإثابة العاصي خلافاً للعدل، بمقتضى أنّ الله مريد في ملكه لا يلزمه شيء. نريد أنّ نقول: إنّ الأشاعرة بذلك أثبتوا قشريتهم، وتجزيئيتهم، فالله في وحيه وعد بعقاب الكافرين ومجازات المؤمنين، فإذا لم يف بوعده، يتناقض ذلك مع صفة الوفاء والصدق الإلهيين، وإذا كان بمجرّد أن يكون الله قادراً على كلّ شيء يفعله فيكون عدلاً، فلماذا يرد بالاستحالة أن يكون له ولد.

الواقع أنّ الأشاعرة جعلوا الأفعال هي مقياس العدل، وليس العدل هو

____________________

(1) شرح العقائد، الملل والنحل.

(2) التغير الكبير، الفصل لابن حزم.

٣٨٨

مقياس الأفعال، فضلّوا وأضلّوا.

إذا كان الله يفعل الشيء من دون غرض، وأنّه أجبر الخلائق على الفعل، وأنّ أبا نؤاس يشرب الخمر لأنّ الله أراد له ذلك، فلماذا يبعث رسله وأنبياءه لهداية النّاس وتوفير الحجّة على النّاس، وبهذا تظهر سخافة القائلين: إنّ الأشعرية كانوا أكثر فهماً للتوحيد.

ولمّا قال الأشاعرة بـ: أنّ الإنسان مسيّر وليس مخيّراً وأنّه يكتسب ولا يفعل. وخالفهم المعتزلة إلى أنّ الإنسان مخيّر غير مسيّر، وأنّه يفعل ولا يكتسب. قالت الشّيعة: إنّما الأمر بين أمرين، فقال الإمام الصادقعليه‌السلام : «لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين». وبذلك نفهم أنّ الله ليس بظلاّماً للعبيد بجبرهم على المعصية ثمّ معاقبتهم على ذلك، وأنّ الإنسان مسؤول عن أفعاله، وبالتالي يستحقّ العقاب، فيكون عقابه عدلاً.

ولعلّ الثغرة التي وقع فيها الفريقان، هو أنّ المعتزلة تتطرّف في العقل، وتتجاوز بذلك كلّ نصّ، ومنهجها العقلي لا يعدو أن يكون منهج الأقيسة المنطقية الإغريقية، فيما تكمن الثغرة عند الأشاعرة في أنّهم يلفّقون بين بعض طرق الكلام المعتزلي - الذي ورثه أبو الحسن الأشعري من فترة اعتزاله - مع بعض الآراء السّطحية والتجزيئية، والجمود على بعض آراء أهل الحديث، بينما الشّيعة كانوا لا يتجاوزون بالعقل حدود النّصّ، ولا يعارضون بالنّصّ حدود العقل، ويوازنون بين المعقول والمنقول، ولم يكتفوا بنفي القبح عن فعل الله عقلاً فحسب، وإنّما استندوا مباشرة إلى ظاهر النّصوص القرآنية:

-( وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ) (1) .

-( وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (2) .

-( وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ ) (3) .

-( وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) (4) .

-( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ) (5) .

____________________

(1) سورة الزمر / 7.

(2) سورة فصلت / 46.

(3) سورة البقرة / 205.

(4) سورة الكهف / 49.

(5) سورة هود / 117.

٣٨٩

-( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) (1) .

وانطلاقاً من روح القرآن نستلهم حقيقة العدل الإلهي، وبأنّ الوجود قائم عليه، بخلاف ما ذهب إليه الأشاعرة.

في الرؤية والتجسيم:

ذهب أهل الحديث إلى التجسيم وأوردوا روايات اكتفوا بظاهرها، واتبعهم في ذلك الأشاعرة، فرأوا أنّ الله له يد حقيقة ووجه وعينان، وكان ابن حنبل وداود يروحون إلى التجسيم، ويصفه الزمخشري في الكشّاف قائلاً: فإنّ حنبلياً قُلت، قالوا: بأنني ثقيل حلولي بغيض مجسم. وكان ابن حنبل يرى أنّ لله يداً ووجهاً وعيناً. ومثل ذلك ذكر مالك بن أنس(2) .

كما ذكروا أنّ لله جسماً، وهو يجلس على العرش، وإنّه يضع قدمه على جهنّم حتّى تقول: قط قط. وينزل إلى السّماء الدُّنيا ويقول: هل من تائب؟ هل من مستغفر؟(3) . وعلى هذا المذهب سار ابن تيمية في منهاج السنّة وأتباعه الوهابيون. وتطرّف بعضهم كثيراً، فرأى جواز المصافحة عليه تعالى والعناق(4) .

وورد عن داود أنّه قال: اعفوني عن الفرج واللحية، واسألوني عمّا وراء ذلك. وقال: إنّ معبوده جسم ذو لحم، ودم وجوارح، وإنه بكى على طوفان نوح حتّى

____________________

(1) سورة الأعراف / 28.

(2) الملل والنحل.

(3) الغريب في الأمر أنّ أهل السنّة يأخذون بهكذا حديث من دون أن يعملوا العقل في فهم أبعادها، وكيف ينزل الله إلى السّماء الدُّنيا، وهل تتسع له وهو خالقها؟ بينما الشّيعة يروون الحديث من طريق آخر أقرب إلى الوجدان، هو: أنّ الله يبعث ملكاً ينادي ليلة الجمعة: هل من تائب، وهل من مستغفر؟

(4) الملل والنحل.

٣٩٠

رمدت عيناه وعادته الملائكة(1) .

وأقرّهم الأشاعرة على ذلك، واكتفوا بظاهر الآيات التي يبدو منها التجسيم، ورفضوا حملها على المجاز، ومن ذلك أن قال تعالى:( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) (2) .( وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) (3) .( وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) (4) . وما إليها من الآيات التي يبدو في ظاهرها تجسيم الذّات الإلهية.

والذين رفضوا تأويل هذه الآيات بالمجاز، سقطوا في مطبات من الاعتقاد الفاسد. وأذكر قصّة ذلك العالم الوهابي عندما رفض التأويل بالمجاز وأبى إلاّ أن يحتفظ بالمفهوم الظاهري للآيات، قال له أحد الحاضرين: إنّ الله يقول:( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) (5) . فيلزم أن لا تبصر في الآخرة. وكان هذا العالم أعمى.

ونفس الاعتراض تجسّده النكتة الكلامية: أنّه إذا اقتصرنا على الظاهر دون التأويل، فماذا نقول في الآية:( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) (6) . فإذا كان الوجه المعني هو الوجه، للزم أن يفنى كلّ جسده إلاّ وجهه. تعالى الله عمّا يصفون. إنّ المجسّمة هُم أضعف مخلوقات الله على فهم العقائد، وأيّ إله يعبد هؤلاء فيما لو جسّدوه أمامهم. والغريب أنّ الأشاعرة راحوا وراءهم بغباء عقلي يندى له الجبين.

واتفق المعتزلة مع الشّيعة في تنزيه الله عن التجسيم، ولهم في ذلك أدلّة عقلية واُخرى نقلية؛ أمّا عقلياً فإنّ التجسيم يترتّب عليه التحديد والحصر والتركيب، وكلّها لا تجوز في حقّ الذّات الإلهية عقلاً ونصّاً؛ فالتجسيم يترتّب على التحديد، أي: إنّ الجسم

____________________

(1) الملل والنحل، الشّهرستاني.

(2) سورة القصص / 88.

(3) سورة المائدة / 64.

(4) سورة الحج / 61.

(5) سورة الإسراء / 72.

(6) سورة القصص / 88.

٣٩١

يتحدد بالطول والعرض والعمق فهو محدود، ثمّ إنّ الجسم يقتضي أن يكون له بداية ونهاية تركيبية، أي: إنّه مركّب والمركّب يتفاوت زمنياً، وهو ما ينافي الوحدة والقدم الإلهيين، هذا بالإضافة إلى أنّ المركّب لا يكتمل إلاّ بأجزائه كلّها، فهو محتاج إليها، وفي حاجته إليها، ينتفي كونه واجباً ويكون بالتالي ممكناً.

ثمّ إنّ الجسم بمحدداته الثلاث يحتاج إلى حيّز، والحاجة في هذا المقام تنفي عنه الوجوب وتجعله ممكناً أيضاً، وقد يكون واجباً كوجوب الحيّز، فيترتّب على ذلك وجود تعدد الواجب، وهو شرك صحيح، أو أن يكون الحيّز ممكناً، وكان الله أقدم منه فخلقه وحلّ فيه، فتكون النتيجة: إنّ الواجب احتاج إلى الممكن، وهو مستحيل عقلاً. وإذا كان الله تعالى - بعد ذلك - جسماً كانت له جهة، وهذا يدلّ على أنّه غير موجود في جهة اُخرى، وأنّه خاضع لحدود الحيّز وهو من مخلوقاته، فكيف يخضع الواجب الوجود إلى ممكنه؟

أمّا نقلياً فإنّ القرآن يناقض التصوّر التجسيمي. يقول تعالى:( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (1) . ولا يمكن للجسم إذا كان جسماً أن يحلّ في أكثر من حيّز، ويقول:( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (2) . فلو كان - كما تقدّم - لله جسم، لاستحال تواجده في كلّ مكان وفي كلّ جهة، ذلك أنّ الجسم الواحد لا يتجاوز جهة واحدة.

وردّاً على مَن رأى الوجه في الآية حقيقياً لا مجازاً: أنّه - فرضاً - لو كان الوجه وجهاً حقيقياً، إذاً لكان لله أكثر من وجه؛ لأنّه أينما كنتم فثمّ وجهه، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

يقول القرآن صراحة:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) (3) .

____________________

(1) سورة الحديد / 4.

(2) سورة البقرة / 115.

(3) سورة الشّورى / 11.

٣٩٢

والجسم شيء، فيكون الله ليس كذلك.

واقتصر المعتزلة على الجدل العقلي في ردّ شبهات المجسّمة وأنصارهم الأشاعرة، في حين اعتمد الشّيعة على نصوصهم الصريحة. فردّاً على الذين ظنّوا إنّ الله يسكن السّماوات، قال الإمام عليّعليه‌السلام ، بعد أن قال له السّائل: أين كان ربّنا قبل أن يخلق السّماوات والأرض؟ قال: «أين، سؤال عن مكان، وكان الله ولا مكان»(1) . وقال عليه السّلام: «الله ما وحّده مَن كيّفه، ولا حقيقته أصاب مَن مثّله، ولا إيّاه عني مَن شبّهه، ولا حمده مَن أشار إليه وتوهّمه»(2) .

وذكر البغدادي: قال أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام : «إنّ الله تعالى خلق العرش إظهاراً لقدرته، لا مكاناً لذاته».

ولا يتردد عاقل في أنّ العقيدة السّليمة التي تنزّه الخالق وتجعل حقيقته منسجمة مع الوجدان، هي عقيدة أهل البيتعليهم‌السلام في الإلهيات، وحيث إنّ الأشاعرة قالوا بالتجسيم تبعاً لأهل الحديث والظاهرية، فإنّهم أثبتوا الرّؤية، وحيث إنّ الشّيعة والمعتزلة نفوا عنه التجسيم، لزم أن ينفوا الرّؤية؛ إذ إنّ الرّؤية عقلاً تستبطن التجسيم؛ لأنّ الرّؤية تشترط وجود المرئي في وجهة ما حتّى تتحقق رؤيته، وهذا يعني أنّ الله حالّ في حيّز، وقد سبق ضعف هذا الاعتقاد.

ثمّ إنّ عين الإنسان إذا رأت الله في مداه المجسّم، يعني أنّ رؤية المخلوق استطاعت احتواء جسم الخالق كلّه، وهذا مناف للاعتقاد السّليم.

واستند الأشاعرة وأهل الحديث على النّصّ القرآني، مكتفين بظاهره على عادتهم

____________________

(1) رواه المبرد في الكامل.

(2) نهج البلاغة.

٣٩٣

وهو:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ) (1) .

وقال أصحاب الرؤية - كما ذكر القوشجي في شرح التجريد -: إنّ النّظر هُنا يعني الرؤية وليس الانتظار، كما أوّل الشّيعة والمعتزلة ذلك، أنّ النّظر إذا اُريد به الانتظار يُستعمل من دون صلة، مثل قوله: انتظرت؛ أمّا لو اُريد به الرّؤية استعمل بصلة (إلى).

وذلك قول الشّاعر:

وجوه ناظراتٌ يوم بدرٍ

إلى الرحمنِ يأتي بالفلاحِ

يقول الشّيخ جعفر السّبحاني: يعلم ذلك - عدم النّظر إلى الله - بمقارنة بعض الآيات المذكورة ببعضها، وعندئذ يرتفع الابهام عن وجهها، وإليك تنظيم الآيات حسب المقابلة:

أ -( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ) . يقابلها قوله:( َوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ) .

ب -( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) . يقابلها قوله:( تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ) .

ولا شكّ إنّ الفقرتين الأوليين واضحتان جدّاً، وإنّما الكلام في الفقرة الثالثة، فيجب رفع إبهامها عن طريق الفقرة الرّابعة التي تقابلها(2) . فإذا كانت الوجوه الباسرة تظنّ وتنتظر أن يفعل بها فاقرة، فإنّ الوجوه النّاضرة تنتظر من ربّها الرّحمات. أضيف إلى هذا: أنّ مَن قال من الشّيعة بأنّ النّظر معنى الانتظار، إنّما يعني ما كتبه الشّيخ السّبحاني.

أمّا: ناظرة، فواضح إنّها تنظر

____________________

(1) سورة القيامة / 22 - 25.

(13) الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل / 1.

٣٩٤

إلى رحمة ربّها، بتقدير حذف المضاف؛ لأنّها متعدية بالحرف (إلى)، ولو كانت نحوياً بمعنى الانتظار، لما تعدّت بحرف (إلى). ويعضد هذا الكلام قول الله تعالى:( أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) (1) .( أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ) (2) . بمعنى النّظر؛ لذا تعدّت بإلى، وقالوا:( انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ) (3) .( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ ) (4) . بمعنى الانتظار وإذا لم يتعدّ الفعلان بحرف الجر.

ثمّ على فرض أنّ بعض الشّيعة قال: إنّ المراد الانتظار. فمَن لا يسهو، وإلاّ أنّ الخلاف أضحى لفظياً ليس عقيدياً؛ لأنّ من بهذا ومن لم يقل متفقان، لا النّظر إلى الله كما يقول العامّة، ويؤيد هذا الكلام آيات كثيرة وروايات جمّة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، ممّا يعضد حمل الآية على المجاز، بتقدير حذف أصل الحمل على الحقيقة. ثمّ كان أولى أن يناقش المجسّمة وأهل الرّؤية في السّرّ من استخدام وجوه يومئذ ناضرة بدلاً عيون يومئذ ناظرة(5) فتكون أقرب إلى مفهوم الرؤية.

يقول الإمام الرّضاعليه‌السلام : «متجلّ لا باستهلال، رؤية باطن لا بمزايلة».

قال الإمام عليّعليه‌السلام : «لا تدركه الشّواهد ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النّواظر ولا تحجبه السّواتر». النّهج.

في كلام الله

هذا المبحث يُعدّ من أخطر مباحث الإلهيات نحويّاً؛ ذلك أنّه أحدث هزّة قويّة في زمنه، وتنافرت - بل تقاتلت - الفرق حوله. وخلاصة المسألة تتعلق بحدوث أو قدم الكلام.

وقد اُثيرت المسألة في القرن الثاني للهجرة، وكان أوّل مَن قال بها الجعد بن درهم، حيث قال ب: أنّ كلام الله غير مخلوق. وكان ابن حنبل قد تلقّى ضرباً شديداً على ذلك، فتمسّك برأيه. ويقف الأشاعرة إلى جنب أهل الحديث في القول بقدم القرآن، بينما وقف

____________________

(1) سورة الأعراف / 143.

(2) سورة الغاشية / 17.

(3) سورة الحديد / 13.

(4) سورة الزخرف / 66.

(5) الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل / 1.

٣٩٥

الشّيعة والمعتزلة ضدّهم، يقول ابن حنبل: والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، فمَن زعم أنّ القرآن مخلوق، فهو جهمي كافر، ومَن زعم أنّ القرآن كلام الله ووقف، ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق، فهو أخبث من الأوّل(1) .

وقال أبو الحسن الأشعري من جهته، ونقول: إنّ القرآن كلام الله غير مخلوق، وإنّ مَن قال بخلق القرآن فهو كافر(2) .

وقال المعتزلة: أنّه مَن قال بأنّ القرآن غير مخلوق أو قديم، شرك بالله، والذي يثبته العقل، أنّ الكلام محدث ليس قديماً؛ ذلك لأنّه يعني اللفظ والحروف، وعليه يكون الكلام غير خاضع لوحدة الزمن، وذاك دليل على حدوثه، وورد في القرآن:( مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ) (3) . ولو ثبت أنّ كلامه - سبحانه - كان قديماً، للزم وجوده قبل الخلق، ووجوده قبل الخلق ضرب من العبث لا يجوز على الله تعالى؛ لأنّه قبح والقبيح لا يصدر عنه.

ورأى الأشاعرة: أنّ التكلّم صفّة ذاتية لله، وقالوا ب: أنّ كلامه كلام نفسي، وهو غير العلم والإرادة والكراهية، وكان رأي الأشاعرة في التكلّم مبهماً حتّى بالنّسبة إليهم. ورأى الشّيعة: أنّ كلام الله متقوسم بما يدلّ على معنى خفي مضمر، أمّا بقية الخصوصيات؛ كالصوت الذي يحدث في صدر الإنسان، وخروج الكلام من الحنجرة، سو... و... كلّ ذلك ليس دخيلاً في حقيقة المعنى الذي يتقوّم به الكلام(4) .

وكلّ ما أظهر الله من عظمته وقدرته في ملكوته يُسمّى كلاماً، مثل قوله:( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) (5) .

____________________

(1) كتاب السنّة، ابن حنبل.

(2) الإبانة.

(3) سورة الأنبياء / 2.

(4) الميزان، الطباطبائي.

(5) سورة النّساء / 171.

٣٩٦

فالله يخلق الكلام، فهو فعل أنشأه وأوجده في الأشياء.

قال الإمام عليّعليه‌السلام : «يخبر لا بلسان ولهوات، ويسمعه لا بخروق وأدوات، يقول ولا يلفظ، ويحفظ ولا يتحفّظ، ويريد ولا يضمر، يحبّ ويرضى من غير رقّة، ويبغض ويغضب من غير مشقّة، يقول لِمَن أراد كونه كُن فيكون، لا بصوت يقرع ولا بنداء يسمع، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه، ومثله لم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً»(1) . صدق سيّد المتكلّمين وباب مدينة العلم وقائد سفينة النّجاة.

وقد حاول ابن حنبل - كما سبق - أن يجبر في خطابه كلّ النّاس على اتخاذ موقفاً بين الخلق والقدم، ورأى أنّ من اقتصر على ذكر كلام الله، ليس أقلّ خبثاً من القائلين بحدوثه. وهذا التطرّف كانت له مضاعفاته الفكرية والسياسيّة، بحيث أدخل المجتمع الإسلامي في متاهات من السّفسطة، أخرجته عن دائرة العمل لاستنهاض المُسلمين، وشلّتهم وتاهت بهم في يوتوبيات فكرية مرتكزها المزاج. غير أنّ الأئمّة من آل البيتعليهم‌السلام التزموا بموقف محايد في أزمة القول بالخلق والحدوث، وإن كان يبدو من كلامهم القول بحدوثه، تمشّياً مع منطق العقل والنّقل، إلاّ أنّهم لم يتيهوا بعيداً في لجاج اللغط الذي سيطر على الأشاعرة وأهل الحديث من جهة، والمعتزلة من جهة اُخرى معتمدة على سلطان المأمون.

وحفاظاً على استقرار الاُمّة؛ كانت إجابة الإمام الرّضاعليه‌السلام على مسألة القرآن كالتالي: «كلام الله لا تتجاوزوه، ولا تطلبوا الهُدى في غيره فتضلّوا»(2) . ثمّ قال مرّة اُخرى: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، عصمنا الله وإيّاك من الفتنة، فإن يفعل فقد أعظم بها نعمة، وإن لا يفعل فهي الهلكة، ونحن نرى أنّ الجدال في

____________________

(1) نهج البلاغة.

(2) التوحيد للصدوق.

٣٩٧

القرآن بدعة، اشترك فيها السّائل والمُجيب، فيتعاطى السّائل ما ليس له، ويتكلّف المُجيب ما ليس عليه، وليس الخالق إلاّ الله عزّ وجل، وما سواه مخلوق، والقرآن كلام الله، لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضّالين، جعلنا الله وإيّاك من الذين يخشون ربّهم بالغيب وهُم من السّاعة مشفقون»(1) . كانت تلك هي الكلمة التي كتبها الإمامعليه‌السلام إلى بعض شيعته ببغداد.

والعقل يرى أنّ كلام الله إذا كان هو علمه، فهو إذن تعبير عن علم الله الأزلي الذي هو هو، وقد يكون عبر وسائط غير الألفاظ والحروف، كما لو كان إنساناً مثل المسيح، يُسمّى كلمة الله؛ لأنّه تعبير عن عظمة الله، فيكون بالنّتيجة حدث، وإذا لم يكن علماً وكان شيئاً آخر، فلن يكون بقاطع العقل إلاّ ألفاظاً وحروفاً، وهي خاضعة للتركيب والزمن، فيترتّب على ذلك أن يكون حادثاً.

____________________

(1) نفس المصدر.

٣٩٨

البداء:

ما آخذ أعداء الشّيعة الشّيعة على شيء مثلما آخذوهم على مسألة البداء، انطلاقاً من أنّ البداء في مفهومه الظاهر ينافي علم الله المُطلق، وخلاصة القول في معنى البداء: إنّ الله يبدو له في أمر فيغيّره، وفي شيء آخر فيستبدله.

وطبيعي أن تُرفض مثل هذه العقائد، فيما لو بقينا واقفين على عتباتها الظاهرة ولا نقترب من مفهومها الحقيقي. وبما أنّ البداء يعتبر من القضايا المهمّة في الاعتقاد الإمامي، فإنّ أهل السنّة اعتبروه ضرباً من الكفر، يخرج به الشّيعة عن دائرة الإسلام.

ولست أدري كيف أنّ أهل السنّة مذهبهم في الكلام الأشعرية، ويرفضون ذلك؟ علماً أنّهم يؤمنون بأنّ الله يفعل كلّ شيء في مُلكه، وأنّ ما يصدر عنه كلّه عدل وإن كان قُبحاً، ولو كان البداء قُبحاً في رأيهم وثبت بالنّصّ صدوره عن الله، لزم أن يقبلوه من زاوية أنّه القُبح الذي جوّزوا صدوره عن الله، وإذا رفضوه، يكونوا قد ناقضوا أوّلياتهم في الكلام، وهي: إنّ ما يصدر عن الله عدل وإن كان قُبحاً، غير أنّ الحقيقة تبقى معلولة للجهل بمفهوم البداء لغةً واصطلاحاً، وإلاّ، فإنّ البداء أحد العقائد الرّاسخة في مذهب العامّة نفسها، كما سنرى.

والسّؤال: ما هو البداء؟ وما هي عقيدة الشّيعة فيه؟

٣٩٩

ليس البداء في اللغة سوى الظهور، فنقول: بدا الشيء أي ظهر. وكذلك في معاجم اللغة العربيّة والقرآن، يقول:( وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ) (1) . وحسب هذا المفهوم رفض السنّة البداء ولم يجوّزوه على الله، مع أنّهم يؤمنون عمليّاً بالبداء في مفهومه الاصطلاحي كما يؤمن به الشّيعة.

والشّيعة - أيضاً - لا تُجوّز البداء على الله حسب هذا التعريف؛ إذ إنّ علم الله مُطلق وواسع ظاهر وباطن، ولا يغيب عن الله شيء فيبدوا له:( وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ ) (2) . ويقول الإمام عليّعليه‌السلام : «كلّ سرّ عندك علانية، وكلّ غيب عندك شهادة»(3) . وكلام الشّيعة في البداء كثير وله أوجه كثيرة كلّها ترتكز على أدلّة عقلية ونقلية، ونحن في هذا المقام المحكوم بالإجمال والإيجاز، نرتئي الاقتصار على بعض من تلك الأوجه؛ توخّياً للإيجاز.

هُناك البداء في الأقدار، بمعنى: التغيّر الذي يطرأ على قدر الإنسان بالطاعة والعمل الصالح، وذلك يقوم على أساس الاعتقاد بنوعين من القدر: قدر مُطلق لا يتغيّر، كأن يقدّر الله على الإنسان الموت إذا انقطع عنه الأوكسجين، ويموت إذا هوى من الطائرة على صخرة من الأرض، وقدر آخر غير مُطلق، قيّده الله بشرط، كأن يقدّر عليك طول العمر بشرط صلة الرّحم، ويقدّر عليك الموت العاجل بشرط الزّنا.

وهذا النّوع من القدر، هو موضوع البداء، أي القدر الذي يتغيّر بأعمال العباد:( إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) (4) . وهو على هذا الضرب - أي هذا القدر - سيبقى ساري المفعول بشرط ألاّ تغيّر من أحوالك، فإذا غيّرت من أحوالك، بدا لله فيه الحكم الآخر، الذي هو القدر المشروط بذلك الفعل.

ولعلّ هذا النّوع من البداء يدلّ على مسألة العدل والاختيار، فمن عدل الله

____________________

(1) سورة الزمر / 47.

(2) سورة إبراهيم / 38.

(3) نهج البلاغة.

(4) سورة الرعد / 11.

٤٠٠