نفحات عاشوراء

نفحات عاشوراء0%

نفحات عاشوراء مؤلف:
الناشر: دار الإمام الجواد (عليه السلام)
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 224

نفحات عاشوراء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ كاظم البهادلي
الناشر: دار الإمام الجواد (عليه السلام)
تصنيف: الصفحات: 224
المشاهدات: 42455
تحميل: 7260

توضيحات:

نفحات عاشوراء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 224 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42455 / تحميل: 7260
الحجم الحجم الحجم
نفحات عاشوراء

نفحات عاشوراء

مؤلف:
الناشر: دار الإمام الجواد (عليه السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فأقطع اليوم ما بينك وبينه»(1) .

آثار قطيعة الرحم

وإنَّ من الذنوب الكبيرة، والجرائم العظيمة أن يقطع الإنسان رحمه، وينصبه العداء، ويقف في وجهه شاهراً لسانه، مُعلناً غضبه... إنَّ قطيعة الرحم من الكبائر، وهي لا تجوز في قاموس المسلمين وإن كُنّا نجد هذه الظاهرة ولو بدرجة خفيفة.

وقد يترتّب علی قطع الرحم آثار سيئة، وعُقوبة جسيمة، وعذاب من الله شديد، وهذه بعض آثار قطيعة الرحم:

1 - إنَّ أهم أثر لقطيعة الرحم أنَّها تُدخل النار، وتُغضب العزيز الجبّار؛ فإنَّ الله أوعد بعذاب أليمٍ لمَنْ قطع رحمه.

عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: «أخبرني جبرائيل أنّ ريح الجنّة توجد من مسيرة ألف عام، ما يجدها عاقٍ، ولا قاطعُ رحم، ولا شيخٌ زانٍ»(2) .

2 - من آثار قطيعة الرحم أن تتحول الأموال إلی أيدي الأشرار، فعن الإمام الباقرعليه‌السلام : «إذا قُطعت الأرحام جُعلت الأموال في أيدي الأشرار»(3) .

3 - قطيعة الرحم من الذنوب التي تُعجّل الفناء؛ ففي خطبة

____________________

(1) الكافي 2 / 151، ح8.

(2) المصدر نفسه 2 / 349، ح6.

(3) المصدر نفسه 2 / 247 - 248، ح7.

١٢١

لأمير المؤمنينعليه‌السلام يقول: «أعوذ بالله من الذنوب التي تُعجّل الفناء».

فقام إليه عبد الله بن الكوّاء اليشكري فقال: يا أمير المؤمنين، أو يكون ذنوب تُعجّل الفناء؟

فقال: «نعم، ويلك! قطيعة الرحم»(1) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام : «الذنوب التي تُعجّل الفناء قطيعة الرحم»(2) .

4 - قطيعة الرحم سببٌ لحلول النقم، فعن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال: «حلول النقم في قطيعة الرحم»(3) .

5 - قاطع الرحم لا تنزل عليه الرحمة، ولا علی الذين معه، كما ورد مرويّاً عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: «إنَّ الرحمة لا تنزل علی قومٍ فيهم قاطع رحم»(4) .

6 - قاطع الرحم لا تنزل عليه الملائكة، ولا علی القوم الذي هو فيهم، كما ورد بنفس المضمون المتقدّم: «إنّ الملائكة لا تنزل علی قومٍ فيهم قاطع رحم»(5) .

7ـ تعجيل العقوبة الدنيوية، فعن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: «ما من ذنبٍ أجدر من أن يُعجّل الله تعالی لصاحبه العقوبة في الدُنيا مع ما يدّخر له في الآخرة من قطيعة الرحم والخيانة والكذب»(6) .

____________________

(1) الكافي / 247 - 248.

(2) علل الشرائع 2 / 584، ح27.

(3) عيون الحكم والمواعظ / 234.

(4) مستدر الوسائل 9 / 107، ح2.

(5) مجمع الزوائد 8 / 151.

(6) المصدر نفسه.

١٢٢

هذا كلّه في الآثار السلبية لقطيعة الرحم، وكذا توجد آثار ايجابية كثيرة وعظيمة جدير بكُلّ إنسانٍ عاقل أن يتدبّرها ويكتبها، ويبحث عنها ويوفّرها لنفسه؛ فإنَّها في متناول يده وتحت سُلطانه، ولا يستطيع أن يأتي بالمعاذير فإنَّها غير مقبولةٍ علی الإطلاق، وهذه الآثار الإيجابية.

آثار صلة الرحم

1 - طاعة الله عزّ وجلَّ، وامتثالاً لأمره، وهذا المعنی هو غاية مطمح أنظار المؤمنين؛ فإنَّهم باستمرار يبحثون عن رضاه، ويكون ذلك من أهم عوامل إدخال السرور عليهم، والراحة لنفوسهم.

2 - صلة الرحم تزيد في العُمر، فعن أمير المؤمنينعليه‌السلام مخاطباً أحد أصحابه واسمه نوف: «يا نوف، صل رحمك يزيدُ الله عُمُرك»(1) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام [أنّه قال ]: «إنَّ الرجُل ليصل رحمه وقد بقي من عُمُره ثلاث سنين فيُصيّرها الله عزَّ وجلَّ ثلاثين سنة، ويقطعها وقد بقي من عُمُره ثلاثون سنة فيُصيّرها الله ثلاث سنين، ثمّ تلا:( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» )(2) .

3 - صلة الرحم تهوّن سكراتِ الموت، وكذا شدائده، وتقي من ميتة السوء، فعن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال: «مَنْ أحبَّ أن يخفّف الله عزَّ وجلَّ عنه سكرات الموت فليكن لقرابته وصولاً، وبوالديه بارّاً، فإذا كان كذلك هوّن الله عليه سكرات الموت، ولم يُصبه في حياته فقرٌ أبداً».

وعن إمامنا الهاديعليه‌السلام - فيما كلّم الله تعالی به موسیعليه‌السلام -: «قال موسی: [ إلهي ]، فما جزاءُ مَنْ وصل رحمه؟

قال: يا موسی، أنسأ له أجله، وأهوّن عليه سكرات

____________________

(1) أمالي الصدوق / 277، ح9.

(2) بحار الأنوار 47 / 163، ح1، والآية 39 من سورة الرعد.

١٢٣

الموت»(1) .

وعن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «صلة الرحم تهوّن الحساب، وتقي ميتة السُّوء»(2) .

4 - صلة الرحم تنفي الفقر وتجلب الخير، كما روي عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «صلة الرحم تزيد في العمر وتنفي الفقر»(3) .

5 - صلة الرحم تزيد في الرزق، فعن الإمام الحُسينعليه‌السلام أنّه قال: «مَنْ سرّه أن يبسط الله له في رزقه، ويُنسأ له في أجله فليصل رحمه»(4) .

وغيرها من الآثار المخفية علی عامة الناس.

أقلّ ما يتحقق به صلة الرحم

ثمّ إنّه لو أعوز الإنسان المال ولم يسعفه ذات يده أن يبسطها إلی أرحامه، ويمدّهم بما أعطاه الله من فضله، فلا يبخل عليهم بما تقدر عليه من زيارةٍ لهم، أو التردّد عليهم، ولا أقل من السّلام عليهم؛ فإنَّ صلتهم بهذا المقدار القليل يُطيّبُ قلوبهم، ويرقّق مشاعرهم، ويزرع الحبَّ والثقة في نفوسهم.

____________________

(1) أمالي الصدوق / 432، ح24.

(2) المصدر نفسه / 276، ح1.

(3) أمالي الطوسي / 481، ح18.

(4) قرب الإسناد / 76، ح244.

(5) الخصال / 32، ح112.

١٢٤

وهذا المقدار ينمو ويربو ويُعطي أفضل الثمار، فعن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: «صلوا أرحامكم ولو بالسّلام»(1) .

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال: «صلوا أرحامكم ولو بالتسليم، إنَّ الله يقول:( اتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً» )(2) .

أفضل صلة الرحم

وأفضل صلة الرحم وأعظمها إذا كان الرحم قاطعاً لها؛ فإنَّ صلتها حينئذٍ تكون خالصةً لوجه الله صافية من جميع شوائب الرياء والتعصّب للأهل والأقارب؛ فإنَّ في حالة الرضا والوفاق تتدخّل المصالح والمنافع والقرابة، ولكن إذا كان رحمك قاطعاً لك تستطيع أن تصله، وبعملك هذا تخرجُه عن عدائه لتضمّه إلی جانبك في حُبٍّ ورضا، بل الإسلام يفرضُ عليك عدم مقاطعة أرحامك وإن كادوك ونصبوا لك العداوة وحاولوا الإضرار بك.

فعن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّ رجُلاً أتی النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا رسولَ الله، إنَّ أهل بيتي أبوا إلاّ توثّباً عليَّ وقطيعةً لي، فأرفضهم؟

فقال: «إذاً، يرفضكم الله جميعاً».

قال: فكيف أصنع؟

____________________

(1) تحف العقول / 57.

(2) الكافي 2 / 155، ح22، والآية 1 من سورة النساء.

١٢٥

قال: «تصل مَنْ قطعك، وتُعطي مَنْ حرمك، وتعفو عمّنْ ظلمك؛ فإنَّك إذا فعلت ذلك كان لك من الله عزَّ وجلّ ظهير»(1) .

ومن هُنا كان الرحم الكاشح، وهو المعادي، هو المصداق الأفضل للصدقة وللوصل، لعله يرّق قلبه؛ ولذا تری سيد الشهداءعليه‌السلام يأمر أخاه أبا الفضل العباسعليه‌السلام أن يجيبَ الشمر وهو عدو الله، قال له: «أخي يا أبا الفضل، أجبه وإن كان فاسقاً».

ولكنّ الشمر صاح بأعلی صوته بعد ما وعظهم أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام : يابن أبي ‌تراب، لو كان وجه الأرض كلّه ماءً وهو تحت أيدينا لما أسقيناكم منه قطرة.

فرجع العباس إلی أخيه يخبره بجواب القوم، فسمع الأطفال يتصارخون ويُنادون: العطش العطش!

أوتشتكي العطشَ الفواطمُ عنده

وبصدر صعدته الفُرات المفعمُ

فركب جواده ومعه اللواء، وأخذ القربة وقصد الفُرات، فأحاط به أربعة آلاف ممّن كانوا موكّلين بالفُرات، ورموه بالنبال، فكشفهم وقتل منهم جماعة.

وثنی أبو الفضلِ الفوارسَ نكصّاً

فـرأوا أشـدَّ ثباتهم أن يُهزموا

مـا كرّ ذو بـأسٍ لـه مـتقدماً

إلاّ وفرَّ ورأسه الـمتقدمُ

حتّی وصل إلی المشرعة، ركز لواءه ونزل إلی الماء، فلّما أحس ببرد الماء - وقد كظّه العطش - اغترف غرفةً ليشرب، لكنّه تذكّر عطش الحسينعليه‌السلام ،

____________________

(1) الكافي 2 / 150، ح2.

١٢٦

فرمی الماء من يده وقال: لا والله، لا أشربُ وأخي الحُسين عطشان. ثمّ جعل يقول:

يا نفسُ من بعدِ الحُسين هوني

وبَـعدَهُ لا كـنتِ أن تكوني

هـذا حـسينٌ واردُ الـمنونِ

وتـشـربينَ بـاردَ الـمَعينِ

* * *

غـرف غرفه ابيمينه اوراد يشرب

وگلـبه امـن الـعطش نيران يلهب

ذكـر چبـدة عـضيده والدمع صب

ذبّـه أوعـليّ گال الـماي يـحرم

اشـلون اشـرب وَرد ريّـان عنك

وخـوي احـسين ورده انـمنع منك

يـنـهر الـعلگمي عگبـه عـسنّك

وردك لا هـنـه ويـصـير عـلگم

اشلون اشرب وخوي احسين عطشان

وسـكنه والـحرم واطفال رضعان

واظـن گلـب الـعليل التهب نيران

يـريت الـماي بـعده لا حـله أومر

فهذا موقف أبي الفضل العباسعليه‌السلام لأخيه أبي عبد الله الحُسينعليه‌السلام ، وأما موقف أبي عبد الله عندما رآه علی نهر العلقمي نادی: الآن انكسر ظهري.

١٢٧

(فايزي):

ظهري انكسر خويه وانته اللي كسرته

ماني اخوك اشلون اخوك اليوم عفته

إنـته التجيب الماي وانته الكافل انته

اتـخلّي العقيلة بلا ولي بين آل أُميّه

اشـلون أردّن لـلخيم والـخيم ظلمه

عـبّاس خـويه نومتك علگاع هظمه

مـا بين طـفل اليرتجيك وبين حرمه

كـلسا تگول إسا يجيب الماي ليّه(1)

* * *

عباسُ تسمعُ زينباً تدعوك مَنْ

لي ياحماي إذا العدى نهروني

* * *

إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم،

وسيعلم الذين ظلموا آل محمّد أيَّ مُنقلبٍ ينقلبون

والعاقبة للمتقين.

____________________

(1) مجمع المصائب 1 / 137 - 142.

١٢٨

المجلس التاسع

الإيثار

١٢٩

١٣٠

المجلس التاسع

الإيثار

حـامي الظعينة أينَ منهُ ربيعةٌ

أم أيـنَ مـن عـليا أبيهِ مكدّمُ

مـا راعـهم إلاّ تـقحّمُ ضيغمٍ

غـضبان يـعجمُ لـفظهُ ويُدمدمُ

صبغَ الخيولَ برمحهِ حتّى عدت

سـيّانَ أشـقرُ لـونُها والأدهَمُ

عَـرفَ المواعظَ لا تفيدُ بمعشرٍ

صمّوا عن النبأ العظيمِ كما عمُوا

فانصاع يحطِبُ بالجماجمِ والكلا

فـالسيفُ يـنثرُ والمثقّفُ ينظمُ

وهـوى بـجنبِ الـعلقميِّ فليته

لـلشاربينَ بـه يُدافُ الـعلقمُ

ومَشى لمصرعِهِ الحسينُ وطرفُه

بـين الـخيامِ وبـينهُ مـتقسِّمُ

ألـفاهُ مـحجوبَ الـجمالِ كأنّه

بـدرٌ بـمنحطِمِ الـوشيج مُلثّمُ

فـأكبَّ مُـنحنياً عـليهِ ودمعُه

صـبغَ الـبسيطَ كأنّما هو عَندَمُ

قـد رامَ يـلثمهُ فلم يرَ موضعاً

لـم يـدمه عـضُّ السلاح فيُلثمُ

نادى وقد ملأ البـواديَ صيحةً

صُـمُّ الـصخورِ لـهولها تتألمُ

أأخـيّ مَـنْ يحمي بناتَ محمّدٍ

إن صُرنَ يسترحمنَ مَنْ لا يرحمُ

هوّنت يابن أبي مصارعَ فتيتي

والـجُرحُ يـسكنهُ الذي هو أألمُ

هـذا حسامُكَ مَنْ يذبُّ بهِ العدى

ولـواك هـذا مَـنْ بـهِ يتقدّمُ

* * *

____________________

(1) القصيدة للسيد جعفر الحليرحمه‌الله ، انظر رياض المدح والرثاء / 243، وقد تقدّمت ترجمته في المجلس الثاني.

١٣١

نـاده احـسين يعباس هذا لواك

ظل يندب ومهرك بالحرب ينعاك

انـكسر ظهري ولا أگدر لفرگاك

وافراگك يبو فاضل عليّ يصعب

* * *

يـعباس حـسّ احـسين يمك

يبچي وخلط دمعه بفيض دمّك

وحـايـر يـبو فاضل إبـلمك

وسـكنه تـسلّي الطفل باسمك

تگله ساعه ويجيب الماي عمّك

* * *

يـخويه أيـست سـكنه من الماي

تـجي يـمي ذلـيله وتوگف احذاي

يخويه من العطش رادت تجي اوياي

تگلك ويـن وعـدك يـلمشكر

* * *

١٣٢

قال تعالى:( ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ) (1) .

الإيثار: هو أرفع درجات الجود والسخاء، وهو أن يجود الإنسان بما لديه من مال أو نفس أو غيرهما ممّا هو نفيس، ويُقدّم غيره عليه.

روى الثعلبي - مفسّر أهل السنة المعروف - في تفسيره أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا أراد الهجرة إلى المدينة خلّف عليَّ بنَ أبي طالبعليه‌السلام بمكة لقضاء ديونه، وأداء الودائع التي كانت عنده، وأمره ليلة خروجه من الدار - وقد أحاط المشركون بالدار - أن ينام على فراشه، وقال له: «اتّشح ببردي الحضرمي الأخضر، ونم على فراشي، وإنّه لا يصل منهم إليك مكروهٌ إن شاء الله تعالى».

ففعل ذلك عليّعليه‌السلام ، فأوحى الله تعالى إلى جبرائيل وميكائيل: «إنّي آخيتُ بينكما، وجعلت عُمرَ أحدِكما أطول من الآخر، فأيكُّما يؤثرُ صاحبه بالحياة؟». فاختار كلاهما الحياة، فأوحى الله تعالى إليهما: «أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب؛ آخيت بينه وبين محمّد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة؟ انزلا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه».

فنزلا؛ فكان جبرائيل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبرائيل يُنادي: بخ بخ، مَنْ مثلك يا علي يباهي الله تبارك وتعالى بك الملائكة؟

فأنزل الله على رسوله وهو متوجّه إلى المدينة في شأن علي هذه الآية؛ ولهذا سمّيت هذه الليلة التاريخية بليلة المبيت.

____________________

(1) سورة البقرة / 207.

١٣٣

ويقول أبو جعفر الإسكافي: إنّ حديث الفراش قد ثبت بالتواتر، فلا يجحده إلاّ مجنونٌ وغيرُ مخالط لأهلِ الملّة(1) .

هذا نوع من أنواع الإيثار الذي يُعتبر من أهم أنواع الإيثار؛ لأنّه إيثار بأعزّ شيء وهو النفس، وكان صاحب هذا الإيثار أمير المؤمنينعليه‌السلام . والجود بالنفس أقصى غاية الجود.

وهناك نوع آخر من الإيثار، وهو ما أكّد عليه النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وعمل به الأنصار مع المهاجرين، وهو نوعٌ مهمّ لا تقلّ أهميّته عن سابقه حتّى نزلت فيهم آية، بل آيات في كيفية إيثارهم.

قال عزّ من قائل:( وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَو كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) (2) .

يقول ابن عباس: إنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بيّن للأنصار يوم الانتصار على يهود بني النضير، إذا كنتم ترومون المشاركة في حصة المهاجرين من الغنائم فشاطروهم بتقسيم أموالكم وبيوتكم، وإذا أردتم أن تبقى بيوتكم وأموالكم لكم فلا شيء لكم من هذه الغنائم.

فقال الأنصار: علامَ نتقاسم بيوتنا وأموالنا معهم؟ نقدّم المهاجرين علينا

____________________

(1) تفسير الأمثل 2 / 72 - 73، عن تفسير الثعلبي.

(2) سورة الحشر / 9.

١٣٤

ولا نطمع بشيء من الغنائم. فنزلت هذه الآية تعظّم هذه الروح العالية(1) ، حتّى روي عنهم أنّ الأنصاري الذي عنده زوجتان رفع يده عن إحداهما للآخر.

نعود للآية: فهي بالرغم من أنّها تتعلّق - كما ذكرنا آنفاً - بحادثة هجرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وتضحية الإمام عليعليه‌السلام ومبيته على فراش النبي، ولكن مفهومها ومحتواها الكلي - كما في سائر الآيات القرآنية - عام وشامل، وفي الحقيقة أنّها تقع في النقطة المقابلة للآيات السابقة التي تتحدّث عن المنافقين الذين يحاولون أن يحقّقوا لهم بين المجتمع عزّة وكرامة عن طريق النفاق، ويتظاهرون بالإيمان بأقوالهم، بينما أعمالهم ليس فيها سوى الإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل.

أمّا هذه الطائفة الثانية فتعاملهم مع الله وحده، حيث يُقدّمون أرواحهم رخيصةً في سبيله، ولا يبغون سوى رضاه، ولا يطلبون عزّة ولا رفعةً إلاّ بالله. وبتضحيات هؤلاء يصلح أمر الدين والدنيا، ويستقيم شأن الحقّ والحقيقة، وتصفو حياة الإنسان، وتثمر شجرة الإسلام.

وممّا يُلفت النظر أنّ البائع هو الإنسان، والمشتري هو الله تعالى، والبضاعة هي النفس، وثمنها هو رضوان الله تعالى، في حين نرى في موارد اُخرى أنّ ثمن مثل هذه المعاملات هو الجنة الخالدة والنجاة من النار، من قبيل قوله تعالى:( إِنَّ

____________________

(1) تفسير الأمثل 18 / 191.

١٣٥

اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ) (1) .

وعلى أيّة حال، فهذه الآية - ومع الالتفات إلى سبب النزول المذكور آنفاً - تقدّم أعظم الفضائل للإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وإن كانت فضائله قد جاوزت الحصر والعدّ، ولكن هذه الفضيلة كانت في صدر الإسلام من الوضوح بمكان بين المسلمين، بحيث دعت معاوية العدو اللدود للإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أن يُرشي «سمرة بن جُندب» بأربعمئة ألف درهم؛ كي يروي حديثاً مختلقاً يثبت فيه فضيلة هذه الآية لعبد الرحمن بن ملجم، وقد اختلق هذا المنافق الجاني هذه الفرية(2) ، ولكنّ أحداً لم يقبل منه حديثه المجعول.

وهناك نوع ثالث من الإيثار، وهو الإيثار بالطعام والشراب، وهو كسابقيه أعني الإيثار بالنفس والإيثار بالأموال وما يملكون. وكان من أبرز مصاديق هذا الإيثار، بل المعلّم لهذا الإيثار هو النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيتهعليهم‌السلام .

ولذا روى الثعلبي وغيرُه من المفسرين أنّ الحسن والحسينعليهما‌السلام مرضا فعادهما جدّهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعادهما عامة العرب، فقالوا: يا أبا الحسن، لو نذرت لولديك نذراً.

فقالعليه‌السلام : «إن برأ ولديَّ ممّا بهما صمت ثلاثة أيام شكراً لله تعالى».

وقالت فاطمةعليها‌السلام مثل ذلك، وقالت جاريتها فضة: إن برأ سيِّداي ممّا بهما صمت ثلاثة أيام شكراً لله تعالى (عزّ وجلّ).

فألبسا العافية، وليس عند

____________________

(1) سورة التوبة / 111.

(2) شرح نهج البلاغة 4 / 73.

١٣٦

آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله لا قليل ولا كثير، فأجّر عليعليه‌السلام نفسه ليلة إلى الصبح يسقي نخلاً بشيء من شعير، وأتى به إلى المنزل، فقسّمته فاطمة (عليها السلام) إلى ثلاثة؛ فطحنت ثلثاً وخبزت منه خمس أقراص لكلّ واحد منهم قرص.

وصلّى أميرُ المؤمنينعليه‌السلام صلاة المغرب مع رسول الله، ثمّ أتى المنزل فوضِع الطعام بين يديه، فجاء مسكين فوقف بالباب وقال: السّلام عليكم يا أهل بيت محمّد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة.

فسمعه عليعليه‌السلام ، فقال: «أطعموه حصّتي». قالت فاطمةعليها‌السلام كذلك، والباقون كذلك، فأطعموه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا إلاّ الماء القراح.

فلمّا كان اليوم الثاني طحنت فاطمةعليها‌السلام ثلثاً آخر وخبزته، وأتى أمير المؤمنينعليه‌السلام من صلاة المغرب مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فوضِع الطعام بين يديه، فإذا بيتيم جاء ووقف على الباب، وقال: يتيم من أيتام المهاجرين، استشهد والدي يوم العقبة، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة.

فسمعه عليٌّ وفاطمةعليهما‌السلام والباقون، فأطعموه ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا إلاّ الماء القراح.

فلمّا كان اليوم الثالث قامت فاطمةعليها‌السلام إلى الثلث الباقي وطحنته وخبزته، وصلّى عليعليه‌السلام مع النبي صلاة المغرب، ثمّ أتى المنزل فوضِع الطعام بين يديه، فجاء أسير فوقف بالباب، وقال: السّلام عليكم يا أهل بيت محمّد، تأسروننا ولا تطعموننا؟ أطعمونا أطعمكم الله من موائد الجنّة؛ فإنّي أسير محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فسمعه عليعليه‌السلام فآثره وآثروه معه، فمكثوا ثلاثة أيام بلياليها لم يذوقوا إلاّ الماء القراح.

فلمّا كان اليوم الرابع وقد وفوا بنذرهم أخذ عليعليه‌السلام

١٣٧

الحسن بيده اليمنى، والحسين بيده اليسرى، وأقبل نحو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، فلمّا أبصر بهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «يا أبا الحسن، ما أشدّ ما يسوؤني ما أرى بكم! انطلق بنا إلى ابنتي فاطمة».

فانطلقوا إليها وهي في محرابها تصلّي، وقد لصقت بطنها بظهرها من شدّة الجوع، فلمّا رآها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «وا غوثاه! أهل بيت محمّد يموتون جوعاً!». فهبط جبرائيلعليه‌السلام وقال: خذ يا محمّد هنّأك الله في أهل بيتك.

قال: «وما آخذ يا جبرائيل؟».

قال:( هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ... ) إلى آخر السورة.

ومَنْ كان أكرم الناس كان أفضل الناس، فيكون هو الإمام دون غيره(1) .

وقد جمع الإيثار بأنواعه المتقدّمة بالنفس وبالمال والطعام والشراب، جمع كلّ ذلك ابن أمير المؤمنينعليه‌السلام أبو الفضل العباسعليه‌السلام الذي كان يلازم الحسينعليه‌السلام مثل الخادم الملازم لسيده، ويتمنّى أن يقوم بخدمة للحسينعليه‌السلام .

يقول الشيخ الكاشيرحمه‌الله : كان أبو الفضلعليه‌السلام جالساً في مجلس فيه أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فعطش الحسينعليه‌السلام ، فطلب من قنبر أن يأتيه بالماء، فقام العباسعليه‌السلام مسرعاً - وكان صبيّاً آنذاك - إلى أُمّه اُمّ البنينعليها‌السلام : أمّاه، إنّ أخي الحسين عطشان، وقد طلب الماء من قنبر، واُحبّ أن اُوصل إليه الماء قبل قنبر.

قامت اُمّ البنين، ملأت ركوةً ووضعتها على رأس العباسعليه‌السلام ، جاء العباس والإناء على رأسه، والماء يراق على كتفيه،

____________________

(1) كشف الغُمّة 1 / 307 - 310 (باختصار)، نسبه إلى الثعلبي في تفسيره وغيره.

١٣٨

لمّا رآه أمير المؤمنينعليه‌السلام صاح: «إيهٍ يا عباس! هذا يوم تحمل الماء إلى أخيك فيُراق الماء على كتفيك، ويوم آخر تحمل الماء إلى أخيك فيُراق مخّ رأسك على كتفيك»(1) .

نعم، تناثر مخّ رأسه على كتفيه على أثر ذلك العمود؛ لأنّ العبّاسعليه‌السلام وقف متحيّراً لا يدري ما يصنع؛ يده اليمنى مقطوعة، ويده اليسرى مقطوعة، الماء أُريق على وجه الأرض؛ ولذلك لحظات حرجة مرّت على العباسعليه‌السلام لا يدري ما يفعل؟

يستمر في سيره نحو الخيام؟ كيف يواجه سُكينة وهي واقفة بانتظاره وقد واعدها بالماء، والماء قد أُريق؟ يُقاتل؟ كيف يقاتل وقد قُطعت يداه؟! بينما هو في تلك الحال جاء لعين من القوم قال له: يا عباس، أين شجاعتك؟ أين بسالتك؟

فقال له العباسعليه‌السلام : يا هذا، جئتني الآن ويداي مقطوعتان!

فقال له اللعين: يا عباس، إن كانت يداك مقطوعتين فيداي سالمتان.

آجركم الله، ضربه بعمود من حديد على أمّ رأس ففلق هامته، ووقع من على ظهر فرسه منادياً: أخي يا أبا عبد الله! أدركني.

أيّس وكف عاف العمر من ساسه

رايـد مـماته ولا غدر نوماسه

____________________

(1) الطريق إلى منبر الحسين (عليه السلام) / 189 - 190.

١٣٩

ضـربوا ابـعامود الـضغاين راسه

طـاح ونـخه سـيد شـباب الجنّه

حـين الوصل لحسين صوت اعميده

جـاه وگف عـنده ونـده لـعضيده

عـباس عگبـك لـلعُمر مـا ريـده

شـيفيدني ومِـنّك گطـعت الـظنّه

سـمع حـسه الحسين وركب وارزم

وعدى اعله الخيل وطلعها امن المخيّم

ردّ يـمّه أويـلي وشـافه سابح ابدم

تـخوصر فـوگ راسه والدمع خر

لمّا صُرع العباسعليه‌السلام صار الحسينعليه‌السلام بين محذورين:

أولاً: نداء العباس؛ أخي يا أبا عبد الله! أدركني.

ثانياً: الجيش زحف على مخيّم الحسينعليه‌السلام ؛ لأنّه بمجرّد أن سقط العباسعليه‌السلام زحف جيش العدو إلى مخيّم الحسينعليه‌السلام ، كأنّهم استضعفوا جانب الحسين بمصرع أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام .

فصار بين محذورين؛ أيدفع الجيش عن المخيّم، أم يلبّي نداء العباس؟!

لكن أخيراً رأى دفع العدو عن الخيام أولى، فحمل على الجيش وأبعدهم، وهو يقول: «إلى أين تفرّون وقد قتلتم أخي؟!».

ولمّا أبعد الجيش عن الخيام توجّه نحو مصرع أبي الفضل العباسعليه‌السلام ، أراد الحسينعليه‌السلام حمله، ولكن العباس أبى، وهذا

١٤٠