نفحات عاشوراء

نفحات عاشوراء0%

نفحات عاشوراء مؤلف:
الناشر: دار الإمام الجواد (عليه السلام)
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 224

نفحات عاشوراء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ كاظم البهادلي
الناشر: دار الإمام الجواد (عليه السلام)
تصنيف: الصفحات: 224
المشاهدات: 42462
تحميل: 7262

توضيحات:

نفحات عاشوراء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 224 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42462 / تحميل: 7262
الحجم الحجم الحجم
نفحات عاشوراء

نفحات عاشوراء

مؤلف:
الناشر: دار الإمام الجواد (عليه السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

سعر الغلام.

قال المولى: إنّ ارتفاع سعر الغلام يرجع إلى أنّه يعرف طريقة العبودية جيداً.

قال الرجل: إذا كان كما تقول قيمته أكثر من ذلك؛ إنّي اشتري هذا الغلام بشرط أن تكون لديه هذه الصفة، وإذا لم تكن لديه هذه الصفة يحقّ لي فسخ المعاملة.

وخلاصة الأمر: دفع هذا الرجل المبلغ وهو مئة ألف دينار وأخذ الغلام للبيت، ومن أجل أن يعرف هل الغلام يعرف طريقة العبودية أم لا أمر بضربه بالسوط، ضربوه بالسياط، فكان الغلام لدى ضربه بالسوط لا يبكي ولا يتأوّه، ولا يسأل عن سبب ضربه بالسوط.

أمر الرجل بترك الغلام، ثمّ قال له: ألم تكن تشعر بالألم؟

قال: نعم.

قال: ألم تكن تعلم أنّك تُضرب بدون سبب؟

قال الغلام: نعم.

قال الرجل: إذاً لماذا لم تحتج على ذلك؟

قال الغلام: أنا عبد وأنت مولى، ولا يليق أن يسأل العبد عن سبب تصرّفات مولاه؛ فالعبد يجب أن يكون مطيعاً لمولاه مئة بالمئة، إذا أنعمت عليّ فأنا مطيع لك، وإذا ضربتني بالسوط أنا مطيع لك(1) .

هذا هو معنى العبد، والعبودية منتهى الخضوع للمعبود.

____________________

(1) الأخلاق والآداب الإسلاميّة / 523 - 524 «بتصرّف يسير في العبارة».

٨١

والمعبود الوحيد الذي له حقّ العبادة على الآخرين هو الذي بذل منتهى الأنعام والإكرام، وليس ذلك سوى الله سبحانه وتعالى.

ثمّ إنّ العبادة على أقسام؛ فمنها عبادة المحبيّن والملتذّين والعارفين إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي تختلف باختلاف درجات القرب من المولى (عزّ وجلّ)؛ ومن هنا قسّم الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام العبادة إلى أقسام ثلاثة، قالعليه‌السلام : «إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عِبادة التجّار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عِبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوه شكراً فتلك عِبادة الأحرار»(1) .

وللعبادة عدّة شروط مذكورة في محلّها، منها:

1 - النيّة الخالصة لله، فليس الهدف من العِبادة إرضاء الناس، أو بهدف الحصول على كسب دنيوي فيعبد الله قربة إلى الله.

2 - حضور القلب، فبدون حضور القلب تعتبر العِبادة ناقصة، والطريق إلى إكمالها هو الإتيان بالنوافل كما أشارت إليه بعض الروايات الشريفة(2) .

3 - العِلم، فعن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال: «لا خير في عِبادة لا فقه فيها»(3) .

4 - الصلاة على محمّد وآل محمّد، فقد ورد أنّ الدعاء محجوب حتّى

____________________

(1) نهج البلاغة 4 / 53.

(2) وسائل الشيعة 4 / 53، باب عدد الفرائض اليومية، ح22.

(3) مشكاة الأنوار / 242.

٨٢

يصلّي العبد على محمّد وآل محمّد(1) .

ومن هنا قال الشافعي:

يـا أهـلَ بيتِ رسولِ اللهِ حُبكمُ

فـرضٌ من اللهِ في القرآنِ أنزلهُ

كـفاكمُ مـن عـظيمِ الـقدرِ أنّكمُ

مَنْ لم يصلِّ عليكم لا صلاة لهُ(2)

5 - اليقين، فعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: «لا عبادة إلاّ بيقين»(3) .

فإذا جاء الإنسان بهذه الشرائط توقّع من الله (عزّ وجلّ) حينئذٍ الثمار المترتبة على العبادة، وأهم هذه الثمرات الفوز بالآخرة السعيدة المطمئنة، والحياة الأبدية إلى غير ذلك من ثمرات دنيوية واُخروية.

وأعبد عبادِ الله الأنبياء والأوصياء، ثمّ الأمثل فالأمثل.

وإذا أردنا أن نتعلّم العبادة وحقيقتها وكنهها فلا بدّ أن نراجع سيرة أهل البيتعليهم‌السلام وأولادهم، والذين نشؤوا في بيوتهم وتربوا في كنفهم. كانوا يقضون الليل والنهار بالعبادة؛ أمّا الليل فصافّون أقدامهم، تالين لآيات القرآن، وأمّا النهار فصائمون، حلماء أبرار.

ومن هذه البيوت ومن هؤلاء الذين تغذّوا من ثدي الإمامة، وعاشوا في كنفها مسلم بن عقيل بن أبي طالب. كان في بيت طوعة، وقبيل الفجر جاءت إليه بماءٍ ليتوضأ به قائلةً: يا مولاي، ما رأيتك رقدت البارحة! - لأنّه قضى تلك

____________________

(1) الكافي 2 / 491، باب الصلاة على النبيّ وآلهعليهم‌السلام ، ح1.

(2) إعانة الطالبين 1 / 200.

(3) مستدرك الوسائل 11 / 196، ح8.

٨٣

الليلة قائماً وقاعداً، راكعاً وساجداً يصلّي - فقال لها: اعلمي أنّي رقدت رقدة فرأيت في منامي عمّي أمير المؤمنينعليه‌السلام وهو يقول: «الوحى الوحى، العجل العجل». وما أظنّ إلاّ أنّه آخر أيامي من الدنيا.

فتوضأ وصلّى صلاة الفجر، وكان مشغولاً بدعائه إذ سمع وقع حوافر الخيول، وأصوات الرجال، فعرف أنّه قد أُتي إليه، فعجّل في دعائه، ثمّ لبس لامةَ حربه وقال: يا نفس، اخرجي إلى الموت الذي ليس له محيص.

فقالت المرأة: سيدي، أراك تتأهّب للموت!

قال: نعم، لا بدّ لي من الموت، وأنتِ قد أدّيتِ ما عليك من البرّ والإحسان، وأخذتِ نصيبكِ من شفاعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فاقتحموا عليه الدار، وهم ثلاثمئة، وقيل: سبعون فارساً وراجلاً، فخاف مسلم أن يحرقوا عليه الدار؛ فخرج وشدّ عليهم حتّى أخرجهم من الدار، ثمّ عادوا إليه فحمل عليهم، وهو يقاتلهم ويقول:

هو الموتُ فاصنع ويكَ ما أنتَ صانعُ

فـأنتَ بـكأسِ الموتِ لا شكّ جارعُ

فـصـبراً لأمـرِ اللهِ جـلَّ جـلالُه

فـحكمُ قـضاءِ اللهِ فـي الخلقِ واقعُ

حتّى قتل منهم واحداً وأربعين رجلاً، وكان من قوّته أنّه يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيوت، وبعدما أكثر القتل فيهم طلب قائد الجيش محمّد بن الأشعث النجدة من عبيد الله بن زياد قائلاً: أدركني بالخيل والرجال.

فأنفذ إليه ابن زياد يقول: ثكلتك اُمّك! وعدموك قومك! رجل واحد يقتل هذه المقتلة العظيمة، فكيف لو أرسلتك إلى مَنْ هو أشدّ بأساً؟! - يعني الحسينعليه‌السلام -.

٨٤

فأرسل إليه ابن الأشعث يقول: تظنّ أنّك أرسلتني إلى بقّال من بقاقلة الكوفة، أو إلى جرمقان من جرامقة الحيرة؟ وإنّما وجّهتني إلى بطل همام، وشجاع ضرغام، من آل خير الأنام!

فأرسل إليه بالعساكر وقال: أعطه الأمان؛ فإنّك لا تقدر عليه إلاّ به.

وقد اُثخن مسلم بالجراح؛ لأنّهم احتوشوه من كلّ جانبٍ ومكان؛ ففرقة ترميه من أعالي السطوح بالنار والحجارة، واُخرى بالسيوف، والثالثة بالرماح، ورابعة بالسهام، وكان قد اشتبك مسلمعليه‌السلام مع بكر بن حمران، فضربه بكر على فمّه الطاهر فقطع شفته العليا، فقال له ابن الأشعث: لك الآمان يا مُسلم، لا تقتل نفسك.

فقال: أيّ أمانٍ للغدرة الفجرة! وأقبل يقاتلهم وهو يقول:

أقـسمتُ لا اُقـتلُ إلاّ حُرّا

وإن رأيتُ الموتَ شيئاً نكرا

كـلّ امرئٍ يوماً ملاقٍ شرّا

أخـافُ أن أُخـدعَ أوغرّا

وكان قد اُثخن بالجراح حتّى عجز عن القتال، فأسند ظهره إلى جنب جدار، فضربوه بالسهام والأحجار، فقال: ما لكم ترمونني بالأحجار كما تُرمى الكفّار، وأنا من أهل بيت النبي المختار، ألا ترعونَ رسول الله في عترته؟!

قال ابن طاووس في اللهوف: وعند ذلك ضربه رجل من خلفه فخرَّ إلى الأرض،

٨٥

فأخذ أسيراً(1) ، وقيل: قد حفروا له حفيرة.

هذا وكانت طوعة واقفة وهي تخاطب القوم بلسان الحال:

(بحراني):

ظـلّت تـناديهم يـهل كـوفان ارحموه

هـذا ابـن اخو الكرار حيدر لا تسحبوه

خـلّوه يـمشي بـراحته گلـبه شعبتوه

خـافوا مـن الله مـا لكم مذهب ولا دين

صـاحت يـمسلم يا عظمها خجلتي بيك

شبيدي وانه حرمة وضعيفة مگدر أحميك

لـو يـتركونك چان أفـت گلبي وداويك

إنچان اسلمت من كيدهم سلّم على احسين

گلّـها يـطوعه اليوم ما تحصل سلامه

اُوصـيچ چان ابـهل الـبلد طـبو يتامه

گولي تـره مـسلم يـبلّغكم سـلامه

واجـرچ عـلى الله والنبي سيّد الكونين

اركبوه على بغلة وأخذوه إلى ابن زياد، فجعل يبكي، فقال له عبيد بن العباس: إنّ مَنْ يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل ما نزل بك لم يبكِ.

قال: واللهِ، ما لنفسي بكيت، ولكن أبكي لأهلي المقبلين، أبكي للحسين وآل الحسينعليهم‌السلام .

____________________

(1) اللهوف على قتلى الطفوف / 120.

٨٦

(نعي مجاريد):

وين الذي يوصل ابهل الحين

لرض المدينة ويخبر احسين

مـسلم وحـيد اُو ما له امعين

ودرات عليه الگوم صوبين

چتـفوه اُو ظـلّ يدير بالعين

(نصاري):

يـمسلم ريـت لن هاشم زلمها

تجي اويخفج على راسك علمها

لاچن حـيف مـا واحد علمها

وحيد أنت وغريب إدّير العيون

* * *

فإن كنتِ لا تدرين ما الموتُ فانظري

إلـى هانئٍ في السوق وابن عقيلِ

* * *

إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم،

وسيعلم الذين ظلموا آل محمّد أيَّ مُنقلبٍ ينقلبون

والعاقبة للمتقين.

٨٧

٨٨

المجلس السادس

التوبة

٨٩

٩٠

المجلس السادس

التوبة

يـا قـتيلاً أصـبحتْ دارُ الـعُلا

بـعدهُ قـفراً وربـعُ الجُودِ مَحْلا

مـا حـسبنا أن نـرى مِـنَ بعده

لـلـتُّقى مـغنىً ولـلجودِ مـحلاّ

لا خـطـت بـعـدكَ فـرسانٌ ولا

جـرّدَ الشجعان يومَ الروعِ نصـلا

مـا نـعتكَ الـخلقُ لـكن قد نعت

فـيكَ إحـساناً ومـعروفاً وبـذلا

بأبـي المـقتول عـطشاناً وفي

كفّـه بحـر يـروّي الخلق جملا

بـأبي الـعاري ثـلاثاً بـالعرى

ولـقد كـانَ لأهـلِ الأرضِ ظلاّ

وإذا عـاينـتَ أهـليـه تـرى

نُوبـاً فيـها رزايـا الخلقِ تُـسلى

مـن أسـيرٍ وسـدّتهُ البزلُ حلسا

وقـتـيلٍ وسّـدتهُ الـبيدُ رمـلا

وبـنفـسي مَـنْ غـدت نادبـةً

جَدّها والدمـعُ فـي الخدِّ اسـتهلاّ

جـدّ لـو تـنظـرنا إذ قـرّبـوا

نحونا للـسير أنـقـاضاً وهـزلا

لرأَت عـيناكَ خـطباً فـادحاً

جـلَّ أنْ يـلقى لهُ الناظرُ مثلا(1)

هذا لسان حال العقيلة زينبعليها‌السلام مع جدّها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أمّا لسان حال

____________________

(1) القصيدة للحاج هاشم الكعبيرحمه‌الله ، قال عنه في (أدب الطفّ 6 / 218 - 219): الحاج هاشم ابن الحاج حردان الكعبي الدورقي. ولد ونشأ في (الدورق) - مسكن عشائر كعب في الأهواز - ثمّ سكن كربلاء والنجف، توفّي سنة 1231.

والكعبي نسبة إلى قبيلة كعب العربية التي تسكن الأهواز ونواحيها. من فحول الشعراء وفي طليعتهم، ونظم في رثاء أهل البيتعليهم‌السلام فأكثر وأبدع وأجاد، واحتجّ وبرهن، وأحسن وأتقن، وكلّ شعره من الطبقة الممتازة. تحفظ الخطباء شعره وترويه في مجالس العزاء، وتشنّف به الأسماع.

له ديوان أكثره في الأئمّةعليهم‌السلام ... وشعره يُعاد ويُكرر في محافل سيد الشهداءعليه‌السلام ، ويحفظه المئات من رجال المنبر الحسيني، وهو مقبول مستملح، بل نجد الكثير يطلب تلاوته وتكراره، وكأنّ عليه مسحة قبول.

وهذا ديوانه الذي يضمّ بين دفّتيه عشرين قصيدة حسينية أو أكثر، لقد طبع وأُعيدت طبعاته، والطلب يتزايد عليه. فهذه رائعته التي عدّد فيها مواقف الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام البطولية تهتزّ لها القلوب، وتدفع بالجبناء ليكونوا شجعاناً، وتنهض بهممهم ليصبحوا فرساناً، وهي تزيد على 150 بيتاً.

٩١

الموالين مع بعضهم البعض في مثل هذه الليلة فهو هكذا:

(بحراني):

إلـبس اثـياب الـسود وأهمل دمعة العين

هـل الـهلال الـبيه راح ابكربله احسين

هـل الـهلال وبـيه مـرتسمه الـحمره

مـن دم أبـو الـسّجاد يـوم اكطعوا نحره

إگصـد الـماتم بـالبكى أوسـاعد الزهره

اُوكـثّر يـهل ترجه الشفاعة اهناك الونين

هـل يـوم يـحضر مـاتم الـمظلوم جدّه

يـسمع الـناعي لـو نعه اُويـبچي الفگده

ويـصـيح آيـبني الـبگه مـعفور خـدّه

فـوك التُراب وچبدته امن العطش نصّين

يـحسين مـا تبرد الجمره ابصب الدموع

لـيل ونهار انحب اُوگلبي اعليك موجوع

يحسين خيل الرضرضت صدرك والضلوع

رضّـت اضـلوعي ريت دونك بالميادين

* * *

٩٢

قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ) (1) .

عرّف العلماء التوبة بأنّها الرجوع من الذنب القولي والفعلي، وهي ترك المعاصي في الحال، والعزم على تركها مستقبلاً، وتدارك ما سبق من التقصير، وهي ضدّ الإصرار(2) .

وتورّط الإنسان في معصية الله تبارك وتعالى نوع من أنواع الضعف؛ لأنّ الذنب دليل الضعف والقصور. فمثلاً شخصان يعيشان في جو واحدِ، من أب واُمّ واحدٍ، وبيتٍ واحدٍ، ولكنّ أحدهما يعاني من الضعف فيتورّط في المعصية؛ لأنّ إيمانه ضعيف، والآخر عنده مناعة اتجاه المعصية وإيمانه قوّي فلا يتورّط بها.

ومَنْ يذنب فإنّ له أحد موقفين؛ موقف الإصرار وتكرار الذنب، وموقف آخر هو موقف العودة والتوبة. قد يذنب الإنسان يوماً ولكنّه يعود وينتزع نفسه من مخالب المعصية؛ ومن هنا كان على الإنسان اتخاذ الموقف الثاني، وهو موقف العودة والتوبة والندم والاستغفار، وهكذا يصنع كلّما أذنب حتّى ولو تكرّرت منه المعصية، عليه أن يعود ويستغفر ويسأل الله تبارك وتعالى العون والمساعدة لأن يجتنب المعاصي.

____________________

(1) سورة التحريم / 8.

(2) الأخلاق والآداب الإسلاميّة / 268.

٩٣

ومن هنا قال رجل للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا رسول الله، إنّي أذنبت.

فقال: «استغفر الله».

فقال: إنّي أتوب ثمّ أعود.

فقال: «كلّما أذنبت استغفر الله».

فقال: إذن تكثر ذنوبي.

فقال: «عفو الله أكثر، فلا تزال تتوب حتّى يكون الشيطان هو المدحور»(1) .

ولكن على الإنسان المؤمن أن لا يؤخّر التوبة؛ فإنّ تأخير التوبة اغترار كما روي(2) عن صادق العترة الطاهرة (صلواته الله عليهم أجمعين).

ثمّ لو تأمّلنا في الآية نجدها تأمر الذين آمنوا، حيث قالت:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً... ) . فهل هذا الأمر محمول على وجوب التوبة، أم محمول على استحباب التوبة وندبها؟

الجواب: إنّ التوبة واجبة بالإجماع بين المسلمين، وهي واجبة؛ سواء كانت من الذنوب الكبائر، أم من الصغائر بلا فرق في ذلك.

وأحد الأدلّة على وجوبها هي هذه الآية، وآيات أخر أمرت بها، كقوله تعالى:( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (3) ، وقوله تبارك وتعالى

____________________

(1) وسائل الشيعة 16 / 81، باب تجديد التوبة، ح5.

(2) كنز الفوائد / 195.

(3) سورة النور / 31.

٩٤

أيضاً:( وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ ) (1) .

هذا الدليل القرآني، وأمّا الدليل الروائي، فما ورد عن الإمام الرضاعليه‌السلام قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : اعترفوا بنِعَمِ الله، وتوبوا إلى الله من جميع ذنوبكم...»(2) .

وأمّا الدليل العقلي على وجوبها، فهو ما ذكر في عدّة كتب، منها الباب الحادي عشر، حيث قال الشارح: وهي - التوبة - واجبة لوجوب الندم إجماعاً على كلّ قبيح وإخلال بواجب...؛ لكونها دافعة للضرر، ودفع الضرر وإن كان مظنوناً واجب، فيندم على القبيح...(3) .

وعليه فالإجماع مع الأدلّة الشرعية والعقلية قائم على وجوب التوبة(4) .

ثمّ الآية قالت: (نصوحاً)، فما معنى نصوح؟

وردت هذه الكلمة في التفاسير وكانت مورد اهتمام عند المفسّرين، والذي كادوا أن يتفقوا عليه هو أنّ المراد من التوبة النصوح هو: التوبة بإخلاص.

وأمّا كيف أنّ الإنسان يحصل على التوبة النصوح؟ أي كيف يحقّق هذا الأمر، وهو التوبة النصوح؟ فهذا هو المهمّ، وهذا هو المطلوب.

____________________

(1) سورة هود / 3.

(2) بحار الأنوار 48 / 153.

(3) شرح الباب الحادي عشر / 93.

(4) في رحاب التوبة / 41 - 45.

٩٥

ولعلّ ذلك يتحقّق بما ورد عن أمير المؤمنينعليه‌السلام في نهج البلاغة أنّ قائلاً قال بحضرتهعليه‌السلام : استغفر الله. فقال له: «ثكلتك اُمّك! أتدري ما الاستغفار؟ إنّ الاستغفار درجة العليين، وهو اسم واقع على ستة معانٍ؛ أوّلها الندم على ما مضى، الثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً، والثالث: أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى الله سبحانه أملس ليس عليك تبعة، الرابع: أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّي حقّها، والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السُّحت فتذيبه بالأحزان حتّى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينها لحم جديد، والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: استغفر الله»(1) .

فيتضح من خلال هذا الحديث الشريف الوارد عن أمير المؤمنينعليه‌السلام شرائط التوبة النصوح، فإذا حقّقها الإنسان بإخلاص فقد أدّى وأمتثل الأمر بوجوب التوبة النصوح وإلاّ فلا.

فهذه هي إذن شرائط التوبة النصوح.

أوّلها: الندم على ما مضى، «إلهي إن كان الندم على الذنب توبة فإنّي وعزّتك من النادمين»(2) .

ثانيها: العزم على ترك العود إليه أبداً، بأن يتعهّد أن لا يعود إلى ما ارتكبه سابقاً.

وثالثها: أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم، بأن لا يترك حقّاً من حقوق

____________________

(1) نهج البلاغة - قصار الحكم - الرقم 412.

(2) الصحيفة السجّادية - مناجاة التائبين.

٩٦

الناس عليه؛ سواء كانت مالية أو غيرها من غيبة أو غير ذلك، بأن يأتي يوم القيامة أملس ليس عليه تبعة للآخرين.

ورابعاً: أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّي حقّها، من صلاة أو صوم أو حج إلى غير ذلك ممّا في ذمّتك.

وخامسها: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان، بأن يسهر ليله ويضما في نهاره إلى أن يذيب ذلك اللحم الذي نشأ على لقمة الحرام.

وسادسها: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، بأنّ الإنسان المذنب كما استأنس بالمعصية وحلاوتها سابقاً يأتي الآن لأن يذيق الجسم والروح آلام الطاعات، بأن يتعب نفسه في العبادات والطاعات.

فإذا تمّت هذه الشرائط الست عندئذٍ يتمكّن الإنسان من أن يقول: استغفر الله، ويكون قد حقّق التوبة التي أرادها الله تبارك وتعالى.

فإذا حقّق الإنسان هذه الشرائط سوف يترتّب عليها ثمرات ونتائج مهمّة أشارت الآية المباركة إلى بعضها، وأشارت الآيات الأُخر إلى البعض الآخر، وهكذا الأحاديث الواردة عن أهل البيتعليه‌السلام أشارت إلى تلك الثمرات.

وأمّا الثمرات المترتّبة على التوبة النصوح في هذه الآية فهي:

الأوّل: تكفير السيئات، حيث قالت الآية:( عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ

٩٧

سَيِّئَاتِكُمْ... ) .

والثاني: دخول الجنات، حيث أشارت إليه الآية:( وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ) .

وهناك ثمرات ونتائج أشارت إليها بعض الآيات والروايات، منها: تبديل السيئات بالحسنات، أشارت إليه الآية المباركة:( إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) (1) .

ومنها: حبّ الله لهم، قال تعالى:( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ) (2) .

ومنها: نزول الرحمة على التائب، أشار إليه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بقوله: «التوبة تستنزل الرحمة»(3) .

ومنها: طهارة القلب، فعن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام : «التوبة تطهّر القلوب، وتغسل الذنوب»(4) ، إلى غير ذلك من الثمرات الدنيوية والأخروية.

ولا فرق حينئذ بين أن يتوب الإنسان قبل سنة من حياته، وبين أن تظهر علامات الموت؛ لِما ورد عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: «مَنْ تاب إلى الله قبل موته بسنة تاب الله عليه»، ثمّ قال: «ألا وسنة كثير، مَنْ تاب إلى الله قبل موته بشهر تاب الله عليه»، وقال: «شهر كثير، مَنْ تاب إلى الله قبل موته بجمعة تاب الله عليه»، قال: «وجمعة كثير، مَنْ تاب إلى الله قبل موته بيوم تاب الله عليه»، قال: «ويوم كثير، مَنْ

____________________

(1) سورة الفرقان / 70.

(2) سورة البقرة / 222.

(3) عيون الحكم والمواعظ / 43، ومستدرك الوسائل 12 / 129.

(4) مستدرك الوسائل 12 / 129.

٩٨

تاب إلى الله قبل موته بساعة تاب الله عليه»، ثمّ قال: «وساعة كثير، مَنْ تاب إلى الله قبل أن يغرغر بالموت تاب الله عليه»(1) .

المهم إنّ الإنسان يخلص في توبته إلى الله تبارك وتعالى، ويخرج من الدنيا وهو نادم على ما عمله من أعمال لم ترضِ الله تبارك وتعالى.

ومصداق التائب النادم قبل أن تغرغر روحه بالموت الحرّ بن يزيد الرياحي يوم جعجع بالحسينعليه‌السلام في ألف فارسٍ ليحبسه عن الرجوع، استقبلهم الحسينعليه‌السلام فحمد الله وأثنى عليه، وقال: «إنّها معذرة إلى الله (عزّ وجلّ) وإليكم، وإنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم، وقدمِت بها عليَّ رسُلُكم أن أقدم علينا؛ فإنّه ليس لنا إمام، ولعلّ الله يجمعنا بك على الهدى. فإن كنتم على ذلك قد جئتكم فأعطوني ما أطمئن به من عهودكم ومواثيقكم».

فقال الحرّ: ما أدري ما هذه الكتب التي تذكرها!

فأمر الحسينعليه‌السلام عقبة بن سمعان فأخرج خرجين مملؤين كتباً، وهي كُتب أهل الكوفة تشكو للحسين ظلم يزيد، ويدعونه للقدوم عليهم ليكون إمامهم.

ولم يقتنع الحرّ بكلّ هذا الكلام، وصمّم على قطع المسير على أبي عبد اللهعليه‌السلام ، إلى أن وصل يوم عاشوراء، ورأى أنّ القوم صممّوا على قتال الحسينعليه‌السلام ، قال لعمر بن سعد: أمقاتل أنت هذا الرجل؟

قال: أي والله، قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس، وتطيح الأيدي.

فأخذ الحُر يقول: إنّي اُخيّر نفسي

____________________

(1) الكافي 2 / 440، ح2، وفيه قبل أن يعاين الموت.

٩٩

بين الجنّة والنار، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطّعت وحُرّقت. ثمّ ضرب فرسه فلحق بالحسينعليه‌السلام . وجاز على عسكر ابن سعد واضعاً يده على رأسه وهو يقول: اللّهمّ إليك أنبتُ فتب عليّ؛ فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيّك.

ثمّ قال للحسينعليه‌السلام : جعلت فداك! أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، وما ظننت أن القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم، وأنا تائب إلى الله ممّا صنعت، فهل ترى لي من توبة؟

فقال له الحسينعليه‌السلام : «نعم، يتوب الله عليك»(1) .

وعندما رمى ابن سعد سهماً نحو مخيّم الحسينعليه‌السلام صاح: اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل مَنْ رمى. فرمى أصحابه كلّهم، فلم يبقَ من أصحاب الحسينعليه‌السلام أحد إلاّ أصابه سهمٌ من سهامهم.

فقال الحسينعليه‌السلام لأصحابه: «قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بدّ منه؛ فإنّ هذه السهام رسل القوم إليكم».

فقال له الحرّ: يابن رسول الله، كنت أوّل خارج عليك فأذن لي لأكون أوّل قتيل بين يديك، وأوّل مَنْ يصافح جدّك غداً(2) .

فأذن له الحسينعليه‌السلام ، فتقدّم وهو يقول:

إنّـي أنا الحرّ ومأوى الضيفِ

أضـربُ فـي أعناقكم بالسيفِ

عن خيرِ مَنْ حلَّ بأرضِ الخَيفِ

____________________

(1) انظر مثير الأحزان / 44.

(2) بحار الأنوار 45 / 13.

١٠٠