نظرة في إحياء مراسم عاشوراء

نظرة في إحياء مراسم عاشوراء0%

نظرة في إحياء مراسم عاشوراء مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 52

  • البداية
  • السابق
  • 52 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 8998 / تحميل: 4932
الحجم الحجم الحجم
نظرة في إحياء مراسم عاشوراء

نظرة في إحياء مراسم عاشوراء

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لا تقع السيارة في المطبات والحفر والمزالق الخطيرة.

فلو فرضنا أنّ السيارة تتحرك في تلك الأجواء، فحتّى لو كانت ماكنتها تعمل بشكل جيد وتنتج طاقة ميكانيكيّة كافية فإنّ سائقها إذا لم يرَ الطريق فلعلّه يواجه مخاطر عظيمة، ويتعرض لحادثة قد تودي بحياته مع جميع الركّاب. وكذا الأمر في سلوك الإنسان، فهو بحاجة إلى لونين من العوامل:

أحدهما: لا بدّ من توفّره في أعماقه حتّى يبعثه ويحركه، ويوفر له الرغبة في الفعل كي يشتاق إليه يوماً ويقوم به.

والثاني: لا بدّ أن يعرف لماذا يجب القيام بهذا الفعل؟ ما الفائدة من هذا الفعل بالنسبة إليه؟ وكيف ينبغي انجازه؟

٢١

إنّ هذه الأسئلة وأمثالها هي من جملة عوامل المعرفة؛ فعلينا إذاً أن نتأمل في مثل هذه العوامل ونتعرّف عليها؛ إمّا عن طريق التجربة، وإمّا عن طريق الاستدلال.

ومن الضروري الرجوع إلى المصادر المناسبة للفعل الذي نريد القيام به لكي نظفر بالمعارف اللازمة، [أي العامل الأول]، لكن المعرفة وحدها غير كافية لتدفعنا نحو الحركة، وإنما نحن بحاجة إلى عامل نفسي آخر ليبعثنا نحو ذلك الفعل ويقودنا إلى إنجازه، ومثل هذه العوامل يطلقون عليها اسم الدوافع النفسيّة، ولها أسماء اُخرى كالأحاسيس والعواطف وغير ذلك.

فلو عرف الإنسان بصورة يقينيّة أنّ غذاءً ما مفيد لجسمه فإنّه لن يندفع لتناوله ما لم تتحرك الرغبة في نفسه لذلك الغذاء ويشتهيه، فلو فرضنا أنّ الرغبة قد انعدمت عند شخص، أو أنه ابتلي - والعياذ بالله - بمرض لا يكون معه راغباً في شيء، فمهما قيل له: إنّ هذا الغذاء نافع

٢٢

لجسمك فإنه لا يتحرك لتناوله، إذاً بالإضافة إلى المعرفة لا بدّ من وجود الرغبة والدافع في أعماق الإنسان.

والقضايا الاجتماعيّة والسياسية لها نفس هذا الحكم، فحتّى لو عرف الشخص أنّ هناك حركة اجتماعيّة حسنة ونافعة فإنه لا يتحرك نحوها ما لم يكن هناك دافع للقيام بتلك الحركة، وحتّى لو صرّح ذلك الشخص نفسه بأن القيام بهذه الحركة حسن لكنه لا بدّ له من دافع وعامل يحركه للقيام بذلك الفعل.

ثمَّ بعد أن عرفنا وسلّمنا بأنّ السلوك والحركات الإنسانيّة الواعية تحتاج إلى طائفتين من العوامل؛ إحداهما عوامل المعرفة، والثانية عوامل العواطف والأحاسيس، وبعد أن عرفنا مدى ما لحركة سيد الشهداءعليه‌السلام من دور مهم في سعادة الناس، فإنّنا سوف نلتفت إلى أن المعرفة وحدها لا تحقق فينا الحركة ومعرفة تلك الوقعة،

٢٣

وتذكّرها لا تقودنا إلى فعل مشابه لفعل الإمام الحسينعليه‌السلام ، ولا تحملنا على اقتفاء أثره إلاّ إذا تحقق في أنفسنا الدافع، ثمّ على أساسه نغدو مشتاقين للقيام بما يشبه ذلك الفعل، إذاً تحقق مثل هذا الأمر يحتاج إلى طائفتين من العوامل.

وجلسات البحث والتحقيق والخطابة توفر لنا الطائفة الأولى من تلك العوامل، أي إنها تزوّدنا بالمعارف اللازمة، لكن لا بدّ لنا من الطائفة الثانية حتّى يتم من خلالها تنمية العواطف وتقوية المشاعر. ومن الواضح أنّ للمعرفة ذاتها دوراً في تذكّر ودراسة الواقعة، لكن الدور الأساس تنهض به الاُمور التي لها تأثير مباشر على العواطف والمشاعر، ويلاحظ ذلك عندما تعاد صياغة مشهد معين، ويتأمّل المرء في ذلك المشهد عن كثب؛ فإنّ هذا يختلف كثيراً عمّا لو اكتفى بسماعه فقط.

٢٤

ونستطيع نحن تجربة هذا الأمر بأنفسنا؛ إذ نجد اختلافاً كبيراً بين شيء عرفنا أنه قد تحقّق أو سوف يتحقق، لكننا لم نشاهد وقوعه، وشيء شاهدنا بأعيننا تحققه، فمثلاً نحن نعلم جميعاً بوجود اُناس كثيرين محرومين في هذه المدينة، ولكن رؤية إنسان محروم يعيش حالة مثيرة للشفقة يمكنها أن تترك فينا أثراً لا يمكن أن تتركة المعرفة المجردة عن النظر والمشاهدة. عندما يشاهد الإنسان حالة مريض أو طفل يتيم مثيرة للرقة فإنّ هذه المشاهدة تترك أثراً في روحه لا تتركها المعرفة لوحدها.

إنّ هذا الموضوع يمكننا تجربته في حياتنا، ويمكننا أيضاً أن نلاحظه في المصادر الدينية.

وفي هذا المضمار نشير إلى قصة واردة في القرآن الكريم تصلح أن تكون مثالاً على ما ذكرناه: فنحن نعلم أن النبي موسىعليه‌السلام قد دُعيَ من قبل الله تعالى إلى جبل الطور ليعبد الله تعالى هناك، وقيل لقومه:

٢٥

إنّ موسىعليه‌السلام سوف يبقى هناك شهراً من الزمان، لكن إرادة الله سبحانه قد اقتضت أن يبقى هناك أربعين يوماً، يقول تعالى:( وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ) (1) .

ولم يكن بنو إسرائيل عالمين بهذه الليالي العشر الإضافية، وقد كان هذا اختباراً لهم؛ ليتبيّن مدى تمسكهم بإيمانهم. ولما انتهت الليالي الثلاثون جاء بنو إسرائيل إلى هارونعليه‌السلام - وهو خليفة موسىعليه‌السلام - وسألوه عن سبب عدم عودة أخيه، فأجاب بأننا منتظرون، وسوف يعود سريعاً، وفي اليوم التالي لم يعد موسىعليه‌السلام ، فكرروا السؤال عنه، وبدأ هاجس الخوف يلوح عندهم بالاُفق، فظنوا أن تأخّر موسى يعني أنه تركهم وذهب إلى حال

____________________

(1) سورة الأعراف / 142.

٢٦

سبيله، فاستغلّ السامري هذه الفرصة؛ فصنع لهم عجلاً ودعا الناس إلى عبادته قائلاً:( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى ) (1) .

لقد خدعهم مدّعياً أنّ هذا العجل الذي صنعته لكم إله موسى الذي دعاه للمناجات في جبل الطور والذي بعث موسى بالرسالة إلى الناس، فوقع كثير من بني إسرائيل ساجدين لهذا العجل، وراحوا يعبدونه. فأوحى الله تعالى إلى موسىعليه‌السلام مخبراً إياه بما جرى لقومه (بنو إسرائيل)، وأنهم قد عبدوا العجل خلال غيبته عنهم في هذه الليالي العشر، وقد سمع موسىعليه‌السلام بهذا النبأ ولكنه لم يبدِ رد فعل عليه.

انتهت الليالي الأربعون وعاد موسىعليه‌السلام إلى بني إسرائيل وهو يحمل الألواح السماوية التي أُنزلت عليه

____________________

(1) سورة طه / 88.

٢٧

لكي يدعو الناس إلى طاعة الله تعالى والعمل بالشريعة النازلة إليهم، عندما حضر موسىعليه‌السلام بينهم ونظر إليهم وهم يعبدون العجل تغيّر وضعه، واستولى عليه الغضب، قال تعالى في ذلك:( وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ) (1) ، إذ سأل أخاه هارون معترضاً عليه قائلاً: لماذا سمحت للناس أن يسلكوا سبيل الضلال،( أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) (2) .

ولا نحتاج هنا إلى إكمال بقية القصة؛ لأنّ شاهدنا هو هذا القسم، ومنها يعلم الفرق الكبير بين العلم لوحده وبين المشاهدة.

إنّ الله سبحانه كان قد أخبر موسىعليه‌السلام بما جرى على قومه من عبادة العجل، ولم يكن لدى موسىعليه‌السلام

____________________

(1) سورة الأعراف / 150.

(2) سورة طه / 93.

٢٨

أدنى شك في حدوث ذلك؛ لأنّ المخبر هو الله تعالى أصدق الصادقين، وعندما سمع بذلك الخبر لم تبدُ عليه آثار الغضب، لكن لمّا شاهد ما جرى باُمِّ عينيه أبدى تأثّره بالصورة المذكورة.

فما نبتغيه هو بيان الفرق بين المعرفة والمشاهدة.

إنّ الله سبحانه قد خلق الإنسان على هيئة بحيث يتأثّر بالشيء الذي يراه تأثّراً لا يمكن أن يحصل من خلال سماعه لذلك الشيء أو علمه به؛ فإذا قمنا نحن بإعادة صياغة بعض مشاهد يوم عاشوراء - سواء أكان ذلك في الإطار التقليدي أم باستخدام الأساليب الحديثة - وأخرجناها بصورة تمثيل أو فلم يجسّم للناس أحداث ذلك اليوم الرهيب فإنّ لهذه المشاهد آثاراً لا تدانيها آثار الأقوال والمعلومات التي تعكس نفس الموضوع.

وقد جرّب أكثرنا نماذج لهذا الموضوع مراراً في

٢٩

حياته، فسمع حوادث عاشوراء مكرّرة واستقرت في ذهنه، وعلم كيف استشهد الإمام الحسينعليه‌السلام في ذلك اليوم، ولكن هل هذه المعلومات لوحدها تجري الدموع من عينيه؟

أمّا إذا حضر أحدنا في مجلس العزاء وبدأ الخطيب يقرأ الرثاء، ولا سيما إذا كان الشعر رائعاً والصوت حزيناً، واستغرق بصورة جذابة في بيان قصة كربلاء، فسوف لن يتمالك نفسه، وسيجهش بالبكاء من دون اختيار. إنّ هذا الاُسلوب يؤثّر في تحريك المشاعر بصورة أكبر بكثير من تأثير الاطّلاع والمعرفة، فما يُرى أكثر تأثيراً مما يُسمع.

ومقصدونا من هذه التوضيحات هو أننا علاوة على كوننا لا بدّ أن نعرف لماذا نهض الإمام الحسينعليه‌السلام ؟ ولماذا استشهد مظلوماً؟ لا بدّ أيضاً أن تُعاد صياغة هذا الموضوع بشكل أفضل؛ بحيث نسمع تلك الأحداث

٣٠

ونشاهدها لتستثار عواطفنا ومشاعرنا بشكل قوي، وكلما كانت هذه المشاهد أكثر تاثيراً في إثارة مشاعرنا وعواطفنا فإنّ حادثة عاشوراء تصبح أعمق تأثيراً في حياتنا.

وبناءً على هذا فإنّ مجرد البحث والدراسة العلميّة لواقعة عاشوراء لا يمكن أن يقوم بالدور الذي تقوم به مجالس العزاء، فلا بدّ من توفير مشاهد في المجتمع تحرك مشاعر الناس. مثلاً أنّ خروج الإنسان من بيته في صباح اليوم الأول من شهر محرم الحرام ومشاهدته السواد قد عمّ شوارع المدينة، والأعلام السود قد انتشرت فيها، فنفس هذا التغيير في الوضع العام يحرّك القلوب ويهزّ المشاعر.

صحيح أن الناس يعلمون أنّ غداً هو اليوم الأول من شهر محرم، ولكنْ لمشاهدة الاعلام السود أثرٌ في قلوبهم لا يستطيع أن يوجده في أنفسهم مجرد العلم بأن

٣١

غداً هو بداية شهر محرم.

إنّ تشكيل هيئات العزاء بذلك الحماس الخاص يمكن أن تكون له آثار لا يحققها أي عمل آخر، فلا بدّ من إيجاد مثل هذا العامل في المجتمع كي يدفع الناس إلى الحركة بهذه الصورة من الحماس والرغبة، ويحقق هذا العشق المقدّس ليجعل الناس يتسابقون في طلب الشهادة.

وقد أثبتت هذه الاُمور جدارتها بشكل رائع خلال ثلاثة عشر قرناً في إثارة الروح الثورية لدى الجماهير الحسينيّة، ولعل أقرب مصداقين في زماننا الحاضر هما انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، وانتصارات حزب الله في جنوب لبنان؛ إذ كان للروح الحسينيّة المنبثقة من العزاء الحسيني الدور الرئيس في إذكاء روح الشهادة؛ ولأجل ذلك قال السيد الخميني (رحمه الله):(كلُّ ما لدينا من محرم وصفر) .

ولو قلنا: إنّ هذا العامل غير متوفّر في أي مدرسة اُخرى، وفي أي مجتمع آخر لما جانبنا الحقيقة.

٣٢

السؤال الثالث: لماذا لا بدّ من إقامة العزاء في ذكرى واقعة عاشوراء؟

إلى هنا عرفنا أنه لا بدّ من إيجاد عوامل في المجتمع لكي تحرك في الناس عواطفهم ومشاعرهم الدينيّة، ولتدفعهم ليقوموا بعمل مشابه لما فعله سيد الشهداءعليه‌السلام ، وليواصلوا سبيله وليعشقوا طريقه.

وفي هذا المضمار يطرح موضوع آخر وهو: إنّ سبيل بعث المشاعر وإثارة العواطف ليس منحصراً في إقامة العزاء والبكاء؛ فقد تُثار عواطف الإنسان بإقامة مراسم الفرح والسرور، ونحن نعلم في مناسبات الولادة لأهل البيتعليهم‌السلام ، ولا سيما ولادة سيد الشهداءعليه‌السلام عندما تُقام

٣٣

حفلات الفرح والسرور، ويجري على الألسن مدحهم فإنّ الناس تستولي عليهم حالة من الحماس والحيويّة.

ويطرح هنا السؤال الثالث وهو: لماذا لا تستغل مراسم الفرح لإثارة المشاعر؟ ولماذ هذا الإصرار على البكاء؛ إقامة مجالس العزاء؟

تعالوا لنحتفل بدل هذا، ونوزّع الحلوى ونقرأ المدح والثناء والأناشيد لنحرّك بها مشاعر الناس.

الجواب: إنّ للمشاعر والعوطف ألواناً متنوعة، ويتم تحريك كل لون من المشاعر والعواطف بواسطة الحادثة المناسبة له. فالواقعة التي نهضت بأكبر دور في التاريخ الإسلامي هي حادثة استشهاد أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، وهي التي غيّرت مسيرة التاريخ الإسلامي، وهي التي زوّدت الإنسان إلى يوم القيامة بدروس الجهاد والنهضة، والمقاومة والاستقامة، وميّزت بين الإسلام الحقيقي

٣٤

والخط المزيّف الذي أراد أن يحرّف الدين. ولتجديد تلك الواقعة لا يكفي إقامة مجالس الفرح والسرور، بل لا بدّ من القيام بعمل مناسب لتلك الحادثة، أي لا بدّ من القيام بعمل يثير حزن الناس ويجري دموعهم ويغرس العشق والحماس في قلوبهم. والشيء الذي يمكن أن يقوم بهذا الدور في هذه الحادثة هو إقامة مراسم العزاء والبكاء، وخلق الأجواء التي تُبكي الناس، بينما السرور والضحك لا يستطيع أن ينهض بهذا الدور.

إنّ الضحك لا يخلق من الإنسان إنساناً طالباً للشهادة، ولا يعبّد الطريق للإنسان المؤمن لكي يتحمل آلام ومصائب الحروب التي تفرض عليه، إنّ مثل هذه الاُمور تحتاج إلى عشق من نوع آخر نابع من البكاء والحماس والحرقة، وسبيل هذا هو إقامة مجلس العزاء.

٣٥

السؤال الرابع: لماذا لا بدّ من صب اللعن على أعداء الإمام الحسينعليه‌السلام ؟

وبعد ذلك السؤال قد يطرح سؤال آخر يثيره (دعاة تذويب الشخصيّة الإسلاميّة بالمفاهيم الغربية) غالباً في هذه الأيام؛ إذ قد يقال: سلّمنا بأنّ تاريخ الإمام الحسينعليه‌السلام مؤثر ومحرك، وعرفنا أنه لا بدّ من إحيائه بعمق، وإقامة العزاء في ذكراه، ولكنكم تقومون بشيء آخر في مراسم العزاء؛ فلا تكتفون بالذكر الحسن والثناء العطر للإمام الحسينعليه‌السلام والبكاء على ما جرى من أحداث مؤلمة في استشهاده، وإنما تصبّون اللعنات على أعداء الإمام الحسينعليه‌السلام ، فلماذا هذا الفعل؟ ولماذا هذا اللعن لأعداء الحسينعليه‌السلام ؟

إنّ هذا الفعل يُعتبر لوناً من العنف والتشاؤم، إنها مشاعر سلبية ولا تنسجم مع عقلية (الإنسان المتحضّر). فعندما تُستثار مشاعركم حاولوا أن تشبعوها

٣٦

بالبكاء والعزاء، ولكن لا تتلفظوا بألفاظ اللعن، ولا تقولوا: (أتقرب إلى الله بالبراءة من أعدائك)(1) .

لماذا ترسلون اللعن مئة مرة إلى أعداء الإمام الحسينعليه‌السلام في زيارة عاشوراء؟ استبدلوا بهذا اللعن السلام على الحسين مئة مرة.

لماذا هذه اللعنات التي تسمم الأجواء وتخلق في الناس رؤية تشاؤميّة بالنسبة للآخرين؟ إنّ هذا زمان لا بدّ فيه من التعايش مع جميع الناس بسلام وابتسام ووجه طلق مبتشر، إنّ هذا زمان لا بدّ فيه من الحديث عن الحياة، وعن الفرح والسرور، وعن السلام والوئام، أمّا عقلية اللعن والتبرؤ والإعراض عن الآخرين ومقاطعتهم فهي من ألوان العنف التي تنتسب إلى ما قبل أربعة عشر قرناً، وهو الزمان الذي قُتل فيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، فهي عقليّة

____________________

(1) زيارة عاشوراء.

٣٧

تتناسب مع ذلك الزمان، أمّا اليوم فإنّ الناس لا يحبّذون مثل هذه الأساليب؛ فلنستبدل هذه الأساليب البالية باُسلوب الوئام والسلام، ولنبتسم حتّى في وجوه أعدائنا ونعاملهم بالمحبة، أليس الإسلام هو دين المحبة ودين الرأفة والرحمة؟ هل يتناسب هذا الدين مع لهج ألسنتنا باللعن والكلام الجارح؟

الجواب:

إنّ هذا السؤال لو كان مطروحاً عن جهل فإنّ جوابه سهل يسير، لكننا نحتمل بقوة أن كثيراً ممن يتحدث بهذه الطريقة إنّما يحمل أفكاراً اُخرى، وتدور في مخيلته أغراض خاصة، ومن المحتمل جداً أنه يقتفي أثر سياسات اُخرى، أو أنه ينفّذ خططاً قد رسمها آخرون.

وعلى كل حال فنحن نفترض أن هذا السؤال كان بدافع عقلي وعلمي، وهو بحاجة إلى جواب علمي.

٣٨

وبغض النظر عن التقييم في مجال طرح مثل هذه الأسئلة، نفرض أن شاباً توجّه إلينا بالسؤال: لماذا لا بدّ من لعن قاتلي الحسينعليه‌السلام ؟ فبدل أن نلعن أعداءه مئة مرة في زيارة عاشوراء فلنسلّم على الحسين ولنحيّه مئة مرة، أليس في السلام على سيد الشهداء ثواب عظيم، فما الداعي إلى كل هذا اللعن وإظهار البراءة؟

والجواب العلمي لمثل هذا السؤال هو:

كما أنّ فطرة الإنسان لم تتشكّل من المعرفة فقط، بل من المعرفة والعواطف، فكذا الأمر في مجال العواطف والمشاعر فهي لم تتشكل من العواطف والمشاعر الإيجابيّة فقط، بل الإنسان موجود يتمتّع بالمشاعر الإيجابيّة والمشاعر السلبيّة، بالعواطف الإيجابيّة والعواطف السلبيّة؛ فكما الفرح موجود في أنفسنا فإنّ الحزن موجود فيها أيضاً.

هكذا خلق الله الإنسان، أي

٣٩

إنسان لا يستطيع أن يعيش بلا حزن وبلا فرح، فكما زوّدنا الله تعالى بالاستعداد للضحك فإنّه زوّدنا بالاستعداد للبكاء أيضاً؛ ففي المجال المناسب للضحك لا بدّ أن يضحك الإنسان، وفي المجال المناسب للبكاء لا بدّ أن يبكي؛ فتعطيل جانب من وجودنا يعني عدم الانتفاع من بعض نعم الله التي وفّرها لنا.

إنّ السبب في أنّ الله تعالى خلق فينا الاستعداد للبكاء هو أنه لا بدّ من البكاء في بعض الموارد، ويجب علينا أن نبحث ونشخّص هذه الموارد، وإلاّ أصبح الاستعداد للبكاء لغواً في وجودنا.

لماذا جعل الله هذا الإحساس في الإنسان بحيث يستولي عليه الحزن والغم، وتجري الدموع من عينيه؟ فيُعلم من هذا أنّ للبكاء في حياة الإنسان دوره ومجاله المناسب.

إنّ للبكاء من الله - مثلاً - بدافع الخوف من عذابه، أو بدافع الشوق إلى لقائه دوراً في تكامل الإنسان، فهذه هي طبيعة الإنسان، إنّها تقتضي أن يرقَّ

٤٠