تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد13%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 104014 / تحميل: 10585
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

شهاداتٌ وإفادات

لم تكن العرب لتجهل موضع الرسول (صلّى الله عليه وآله) وصدقه وإخلاصه في دعوته، كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وقد لمسوا من حقيقة القرآن أنّه الكتاب الذي لا ريب فيه، وقد بهرهم جماله وحسن أُسلوبه وعجيب بيانه، نعم، سوى حميّة جاهلية حالت دون الاستسلام للحقّ الصريح والاعتراف بصدق رسالته الكريمة، فلم تكن محاولاتهم تلك إلاّ تملّصات هزيلة، وتخلّصاً مُعوجّاً عن سحر بيانه، وانفلاتاً من روعة جلاله وهيمنة كبريائه.

كانت قضية الإعجاز القرآني بدأت تفرض ثقلها على كاهل العرب، شاءت أو لم تشأ، وقد أدركت قريش من أَوّل يومها ما لهذا الكلام السماوي من روعة وسحر وتأثير، ولم يكد يملك أيّ عربيّ صميم - إذ يجد ذوقه الأصيل سليقةً وطبعاً - إلاّ أن يرضخ لأُبّهة بيانه الخارق، معترفاً بأنّه كلام الله وليس من كلام البشر.

الوليد بن المغيرة المخزومي:

هذا هو طاغية العرب وكبيرها الأَسنّ، وعظيمها الوليد بن المغيرة المخزومي يقول:

١٠١

يا عجباً لما يقول ابن أبي كبشة، فو الله ما هو بشعرٍ ولا بسحرٍ ولا بهذي جنون، وإنّ قوله لمن كلام الله... (١) .

قاله على ملأ من قريش، وذلك بعد أن سمع القرآن لأوّل مرّة على أفواه المسلمين يُرتّلونه ترتيلاً، فأعجبه قرآنه وبهرته جذبته.

وإنّ قريشاً لهابت تلك المفاجأة الخطيرة، ومِن ثَمّ تآمرت على أن تحول دون إشاعة النبأ، فقالوا: لئن صبأ الوليد - وهو ذو حسب ومال - لتصبأنّ قريش كلّها.

قال أبو جهل: أنا أكفيكم شانه، فانطلق حتّى دخل على الوليد بيته، فقال له: ألم ترَ أنّ قومك قد جمعوا لك الصدقة! (يريد التأنيب عليه بأنّه إنّما قال كلامه الآنف طمعاً في المال) قال: ألست أكثرهم مالاً وولداً؟! فقال له أبو جهل: يتحدّثون أنّك إنّما تدخل على أصحاب محمّد لتصيب من طعامهم! قال الوليد: أقد تحدّثت به عشيرتي؟! فلا تقصر عن سائر بني قصيّ... فعزم أن لا يقرب أحداً من المسلمين بعد ذلك.

وله شهادة أُخرى نظيرتها، قالها عندما مرّ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو يتلو في صلاته بضع آيات من سورة المؤمن، فانقلب إلى مجلس قومه مندهشاً قائلاً: والله لقد سمعت من محمّد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ، والله إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وإنّه يعلو ولا، يعلى عليه (٢) .

وفي رواية أُخرى - ذكرها القاضي عياض -: لمّا سمع الوليد بن المغيرة من النبي (صلّى الله عليه وآله) يقرأ: ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (٣) أَعجَبته فقال: والله إنّ له

____________________

(١) تفسير الطبري: ج٢٩، ص٩٨.

(٢) المعجزة الخالدة للسيّد هبة الدين الشهرستاني: ص٢١، والطلاوة - مثلثة الطاء -: البهجة والنضارة وأغدقت الأرض: أخصبت وابتلّت بالغَدَق وهو المطر الغزير.

(٣) النحل: ٩٠.

١٠٢

لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أسفله لمُغدق، وإنّ أعلاه لمثمر، ما هذا بقول بشر (١) .

ورواها أبو حامد الغزالي ناسباً لها إلى خالد بن عقبة، ولعلّه أخو الوليد بن عقبة بن أبي معيط، جاء إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقال: اقرأ عليَّ القرآن! فقرأ عليه: ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى... إلخ ) ، فقال له خالد: أعد! فأعاد (صلّى الله عليه وآله)، فقال خالد: والله إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أسفله لمغدق، وإنّ أعلاه لمثمر، وما يقول هذا بشر (٢) .

وهكذا جاء في الإصابة وفي الذيل (وما هذا بقول بشر)، أمّا الاستيعاب وأُسد الغابة فمتوافقان مع نسخة الغزالي.

قال أبو عمر: لا أدري هو خالد بن عقبة بن أبي معيط أو غيره، وظنّي أنّه غيره (٣) .

وأيضاً روى الحاكم بإسناده الصحيح أنّ الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) فقرأ عليه القرآن، فكأنّه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عمّ، إنّ قومك يَرون أن يجمعوا لك مالاً! قال الوليد: لِمَ؟ قال: ليعطوكه، فإنّك أتيت محمّداً لتتعرّض لما قبلَه! قال: قد علمت قريش أنّي من أكثرهم مالاً، قال أبو جهل: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنّك منكرٌ له أو أنّك كارهٌ له، قال: وماذا أقول، فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار منّي ولا أعلم برَجَز ولا بقصيدة منّي ولا بأشعار الجنّ، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إنّ لقوله الذي يقول حلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنّه ليعلوا وما يُعلى، وإنّه ليُحطّم (أو ليحكم) ما تحته، قال أبو جهل: لا يرضى عنك قومك حتّى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكّر، فلمّا فكّر قال: هذا سحرٌ يُؤثر، يأثره عن غيره، فنزلت: ( ذَرْنِي وَمَنْ

____________________

(١) الشفاء للقاضي عياض: ص٢٢٠، وراجع الشرح للملاّ علي القارئ: ج١، ص٣١٦.

(٢) إحياء العلوم: باب تلاوة القرآن، ج١، ص٢٨١، ط ١٣٥٨.

(٣) الإصابة لابن حجر: ج١، ص٤١٠، والاستيعاب بهامش الإصابة: ج١، ص٤١٢، أُسد الغابة لابن الأثير: ج٢، ص٩٠.

١٠٣

خَلَقْتُ وَحِيداً ) (١) .

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري (٢) .

وهكذا ائتمروا فيما يصنعون عندما تَفِد العرب في مواسم الحج فيستمعوا إلى قرآنه فينجذبون إليه انجذاباً، فتوافقوا على أن يترصّدوا لقبائل العرب عند وفودها للحجّ في مداخل مكّة، ويأخذوا بسبل الناس، لا يمرّ بهم أحد إلاّ حذّروه من الإصغاء إلى ما يقوله محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله)، فيقولوا: إنّه لسحرٌ يُفرّق به بين المرء وأخيه وأبيه وبين المرء وزوجه وولده وعشيرته!

كان الوليد قد حضر الموسم، فاستغلّت قريش حضوره فاستشاروه بشأن دعوة محمّد (صلّى الله عليه وآله)، فأشار عليهم بتهمة السحر؛ لمّا لم يجدوا سبيلاً إلى رميه بجنون أو شعر أو كهانة!

قال: يا معشر قريش: إنّه قد حضر هذا الموسم، وإنّ وفود العرب ستقدّم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فاجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا، فيكذّب بعضكم بعضاً، ويردّ قولكم بعضه بعضاً!

قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول به.

قال: بل أنتم فقولوا، أَسمع.

قالوا: نقول: كاهن! قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكُهّان، فما هو بزمزمة الكاهن (٣) ولا سجعه.

قالوا: فنقول: مجنون! قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما بخنقه ولا تعالجه (٤) ولا وسوسته.

____________________

(١) المدّثر: ١١.

(٢) المستدرك على الصحيحينِ: ج٢، ص٥٠٧، وراجع الدّر المنثور: ج٦، ص ٢٨٣، وجامع البيان للطبري: ج٢٩، ص٩٨.

(٣) زَمزمة الكاهن: رنّة صوته عند قراءة الأوراد على نحو ما تفعله الفرس عند شرب الماء من صوت مصيصه.

(٤) خنق المجنون: كناية عن بحّة صوته، وتعالجه: تعاطيه أموراً غير منتظمة كناية عن هذيه.

١٠٤

قالوا: فنقول: شاعر! قال: وما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كلّه رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.

قالوا: فنقول: ساحر! قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحّار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم (١) .

قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟

قال: والله إنّ لقوله لحلاوة، وإنّ أصله لعَذق (٢) ، وإنّ فرعه لجناه، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلاّ عرف أنّه باطل. وإنّ أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر جاء بقوله هو، سحر يُفرّق بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرّقوا عنه بذلك.

فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم، لا يمرّ بهم أحد إلاّ حذّروه إيّاه، وذكروا لهم أمره (٣) .

وكانوا إذا رفع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) صوته بالقرآن جعلوا يُصفّقون ويُصفّرون ويخلطون بالكلام لئلاّ تُسمع قراءته ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) (٤) .

قال ابن عبّاس: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو بمكّة إذا قرأ القرآن يرفع صوته، فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه، قال: بالتصفير والتخليط في المنطق على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذا قرأ القرآن، قريش تفعله (٥) .

____________________

(١) إشارة إلى ما كان يفعل الساحر بأن يعقد خيطاً ثُمّ ينفث فيه، أي ينفخ ما يدمدمه من أَوراد.

(٢) قال السهيلي: العَذق بفتح العين النخلة، استعارة من النخلة التي ثبت أصلها وقوي، وطاب فرعها إذا اجني أي اقتطف ثمرها. (الروض الأنف: ج٢، ٢١).

(٣) سيرة ابن هشام: ج١، ص٢٨٨ - ٢٨٩.

(٤) فصّلت: ٢٦.

(٥) الدرّ المنثور للسيوطي: ج٥، ص٣٦٢ - ٣٦٣.

١٠٥

الطفيل بن عمرو الدوسي:

وكان الطفيل بن عمرو الدوسي شاعراً لبيباً من أشراف العرب، كان قد قَدِم مكّة و رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بها، فمشى إليه رجال من قريش وقالوا له: يا طفيل، إنّك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا (١) وقد فرّق جماعتنا وشتّت أمرنا، وإنّما قوله كالسحر يُفرّق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وزوجته، وإنّا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلّمه ولا تَسمَعن منه شيئاً.

وكانت قريش قد تخوّفت من إسلام الطفيل، الشاعر المُفلّق، وللشعر عند العرب مكانة سامية، فإذا أسلم اندفعت العرب وراءه.

قال الدوسي: فوالله ما زالوا بي حتّى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً ولا أُكلّمه، حتى حشوت في أُذُني حين غدوت إلى المسجد كرسفاً، فَرَقاً من أن يبلغني شيء من قوله.

قال: فغدوت إلى المسجد وإذا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قائم يُصلّي عند الكعبة، فقمت قريباً منه، فأبى الله إلاّ أن يسمعني بعض قوله: فسمعت كلاماً حسناً، فقلت في نفسي: واثكل أُمّي، والله إنّي لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته وإن كان قبيحاً تركته.

قال: فتبعته إلى بيته، وحدّثته الحديث، وقلت له: فأعرض عليَّ أمرك! قال: فعرض (صلّى الله عليه وآله) عليَّ الإسلام وتلا عليّ القرآن، فلا والله ما سمعت قولاً قطّ أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحقّ، فرجع إلى قومه وكان

____________________

(١) أي أوجد معضلةً فينا، والمعضلة هي المشكلة.

١٠٦

داعية الإسلام، وأسلمت معه قبيلة دوس (١) .

هذه شهادة شاعر لبيب له مكانته عند العرب، وله معرفته وذوقه وسليقته، جذبته روعة كلام الله وقلبته من كافر وثنيّ مشرك إلى داعية من دعاة الإسلام!

النضر بن الحارث:

كان أبو جهل قد أزمع على أن ينال من محمّد (صلّى الله عليه وآله)، فأخذ حجراً و جلس ينتظر قدومه، حتّى إذا جاء وقام للصلاة بين الركن اليماني والحجر الأسود جاعلاً الكعبة بينه وبين الشام، فلمّا سجد احتمل أبو جهل الحجر وأقبل نحوه، حتّى إذا دنا منه رجع منهزماً منتقعاً لونه (٢) مرعوباً، قد يسبت يداه على حجره، حتّى قذف الحجر من يده، فقامت إليه رجال من قريش وقالوا له: مالك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة - وكان قد عاهد الله ليفضخنّ (٣) رأسه بحجر ما أطاق حمله - فلمّا دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته ولا مثل قَصَرته (٤) ولا أنيابه لفحل قطّ، فهمّ بي أن يبتلعني!

فلمّا قال لهم ذلك أبو جهل قام النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف وكان من رؤساء قريش، فقال: يا معشر قريش، إنّه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمّد فيكم غلاماً حدثاً أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانةً، حتى إذا رأيتم في صدغيه (٥) الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر! لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن! لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتخالجهم (٦) وسمعنا سجعهم، وقلتم:

____________________

(١) سيرة ابن هشام: ج٢ ص ٢١ - ٢٥، أُسد الغابة: ج٣ ص٥٤.

(٢) انتقاع اللون: تغيّره.

(٣) الفضخ: الشدخ والكسر.

(٤) القَصَرة - بفتحتين - أصل العنق.

(٥) الصدغ: ما بين العين والأُذُن، وهو الشَعر المتدلي على هذا الموضع.

(٦) التخالج: هواجس نفسية مضطربة.

١٠٧

شاعر! لا والله ما هو بشاعر، قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلّها، هَزجه ورَجزه، وقلتم: مجنون! لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه، قال: يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنّه والله لقد نزل بكم أمرٌ عظيم.

قال ابن هشام: وكان النضر هذا من شياطين قريش، وكان ممّن ينصب العداء لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) (١) ، ومِن ثَمّ لم تكن شهادته تلك اعترافاً بصدقه، ولا إيماناً بكتابه، وإنّما هي إثارةً لشحناء قريش وتأليباً لعدائهم نحو دعوة الإسلام.

وسنأتي على بعض مواقفه التعنّتية مع رسول الإسلام (في فصل القرعات)، وقع أسيراً يوم بدر، فقتله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيمَن قتله صبراً (٢) .

عتبة بن ربيعة:

قال ابن إسحاق: وحدّثني يزيد بن زياد عن محمّد بن القرظي قال:

حدّثت أنّ عتبة بن ربيعة - وكان سيّداً - قال يوماً وهو جالس في نادي قريش ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمّد فاُكلّمه وأعرض عليه أُموراً لعلّه يقبل بعضها فنعطيه أيّها شاء ويكف عنها؟ وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يزيدون ويكثرون، فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلمه.

فقام إليه عتبة حتّى جلس إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: يا ابن أخي، إنّك منا حيث قد علمت من السِطة (٣) في العشيرة والمكان في النسب، وإنّك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقت به جماعتهم، وسفّهت به أحلامهم (٤) وعيّبت به آلهتهم

____________________

(١) سيرة ابن هشام: ج١ ص٣٢٠ - ٣٢١.

(٢) الدرّ المنثور: ج٣ ص ١٨٠.

(٣) سِطة كعِدة مصدر محذوف الفاء مأخوذ من الوسط بمعنى الشرف، يقال: وَسط في حسبه، أي صار شريفاً.

(٤) الحلم: العقل.

١٠٨

ودينهم، وكفّرت به مَن مضى من آبائهم، فاسمع منّي أعرض عليك أُموراً تنظر فيها، لعلّك تقبل منها بعضها!

فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله): قل يا أبا الوليد، أسمع!

قال: يا ابن أخي، إن كنت إنّما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سوّدناك علينا حتّى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به مُلكاً ملّكناك علينا... قال: وإن كان هذا الذي يأتيك رئيّاً تراه (١) لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطبّ وبذلنا فيه أموالنا حتّى نُبرئك منه، فإنّه ربّما غلب التابع (٢) على الرجل حتّى يُداوى منه!

حتّى إذا فرغ عتبة ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) يستمع منه، قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم! قال (صلّى الله عليه وآله): فاسمع منّي! قال عتبة: أفعل!

فجعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقرأ من مُفتتح سورة فصّلت:

( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً ) فمضى (صلّى الله عليه وآله) يقرأها عليه، وهو منصتٌ لها.

قال: وكان عتبة ينصت لقراءته (صلّى الله عليه وآله) وقد ألقى يديه خَلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه، ثُمّ انتهى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى السجدة منها، فسجد ثمّ قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت؟ فأنت وذاك!

فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلمّا جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟

قال: ورائي أنّي قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قطّ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة! يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكوننّ لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم،

____________________

(١) الرِئي: ما يتراءى للإنسان من الجنّ.

(٢) التابع: من يتبع الإنسان من الجنّ.

١٠٩

فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلكه مُلككم وعزّه عزّكم، وكنتم أسعد الناس به.

قالوا: سَحَرك والله يا أبا الوليد بلسانه.

قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم (١).

وهي أيضاً شهادة ضافية من كبار قريش وزعماء العرب وسادتهم.

اُنيس بن جنادة:

هو أخو أبي ذر الغفاري، كان أكبر منه، وكان شاعراً معارضاً يفوق أقرانه عند المعارضة، ينبئك عن ذلك حديث إسلام أخيه أبي ذر جندب بن جنادة، قال: والله ما سمعت بأشعر (٢) من أخي اُنيس، لقد ناقضَ (٣) اثني عشر شاعراً من معاريف شعراء الجاهلية فغلبهم، وكان قاصداً مكّة، فقلت له: فليستخبر من حال رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فراث (٤) عليَّ، ثُمّ جاء فقلت: ما صنعت؟ قال:

لقيت رجلاً بمكّة على دينك - (إذ كان أبو ذر يصلّي إلى ربه منذ ثلاث سنين) - يزعم أنّ الله أرسله.

قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون شاعر، كاهن، ساحر.

قال أبو ذر - وكان اُنيس أحد الشعراء -: قال اُنيس: لقد سمعت قول الكَهَنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر، فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنّه شعر! والله إنّه لصادق وإنّهم لكاذبون.

قوله: أقراء الشعر أي أوزانه وقوافيه (٥) .

____________________

(١) سيرة ابن هشام: ج١ ص٣١٣ - ٣١٤.

(٢) أي أكثر شِعراً وأحسن نظماً.

(٣) أي عارض.

(٤) أي أبطأ.

(٥) الشفاء للقاضي عياض: ٢٢٤، شرح الشفاء للملاّ علي القاري: ج١ ص٣٢٠ طبع =

١١٠

ثلاثة من أشراف قريش يتسلّلون بيت الرسول:

كانت قريش ربّما تتسلّل ليلاً إلى استماع القرآن من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أو أحد أصحابه؛ لترى ما في هذا الكلام من سرّ التأثير، فقد اتّفق أنّ أبا سفيان بن حرب (١) وكذا أبو جهل بن هشام والأخنس بن شريق الثقفي - وكان لمّازاً خبيثاً يتظاهر بغير ما يبطنه - خرجوا ليلاً إلى بيته (صلّى الله عليه وآله) من غير أن يعلم كلّ بصاحبه، فجلس كلّ واحد في مخبئه لا يعلم به أحد حتّى مطلع الفجر، يستمعون إلى قرآنه وهو قائم يصلّي في بيته، وعند الصباح أخذ كلّ منهم طريقه إلى بيته، حتّى إذا جَمَعهم الطريق فشلوا وتلاوموا، وقال لبعضهم لبعض: لا تعودوا لمثل ذلك، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً، وكان ذلك تأييداً لموضع محمّد، ثمّ انصرفوا، ولكن من غير أن ينقضي عَجبهم أو يرتوي ظمأُهم إلى استماع هذا الكلام السحريّ العجيب، ومِن ثَمّ عادت مسرتهم في الليلة الثانية والثالثة، وفي كلّ ليلة يُفتضحون عند الصباح، حتّى تعاهدوا فيما بينهم أن لا يعودوا أبداً.

وفي صباح اليوم الثالث جاء الأخنس إلى أبي سفيان يَسترئيه فيما سمعه من محمّد (صلّى الله عليه وآله)، فقال: والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها! فقال الأخنس: وأنا كذلك، والذي حلفت به!

ثمّ رجع إلى أبي جهل ودخل عليه وقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمّد؟ فقال: ماذا سمعتُ! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا

____________________

= اسلامبول ١٢٨٥هـ، راجع صحيح مسلم ج٧ ص١٥٣، والمستدرك للحاكم: ج٣ ص٣٣٩، والإصابة: ج١ ص٧٦ و، ج٤ ص٦٣.

(١) ويُروى مكان أبي سفيان: الوليد بن المغيرة، قال الرفاعي: وهؤلاء الثلاثة من بلغاء قريش الذين لا يعدل بهم في البلاغة أحد، (إعجاز القرآن - في الهامش -: ص٢١٣).

١١١

فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتّى إذا تجاثينا على الرُّكب وكنّا كفرسيّ رهان!

والآن قالوا: منّا نبيّ يأتيه الوحي من السماء فمتى نُدرك مثل هذه والله لا نؤمن به أبداً ولا نُصدّقه، فقام عنه الأخنس وتركه! (١) .

هكذا تحكّم الحسد والعصيبّة في نفوس قريش، فحال دون قبولهم للحقّ الصريح، فأخزاهم الله.

( قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ) (٢) ، ( كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (٣) .

فصحاء قريش تحاول معارضة القرآن:

ذكر أبو الحسن ابن رشيق القيرواني (توفي سنة ٤٥٦ هـ) بشأن ما يعين على جيّد الشعر - وأن الطعام الطيّب والشراب الطيب وسماع الغناء ممّا يرقّ الطبع ويصفّي المزاج ويعين على الشعر -: إنّ قريشاً لمّا أرادت معارضة القرآن عكف فصحاؤهم - الذين تعاطوا ذلك على لُباب البُرّ وسُلاف الخمر ولحوم الضأن والخلوة - إلى أن بلغوا مجهودهم، فلمّا سمعوا قول الله عزّ وجل ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) يئسوا ممّا طمعوا فيه، وعلموا أنّه ليس بكلام مخلوق (٤) .

وفي المجمع: فلمّا أخذوا فيما أرادوا سمعوا هذه الآية، فقال بعضهم لبعض: هذا كلام لا يشبهه شيء من الكلام ولا يشبه كلام المخلوقينَ، وتركوا ما أخذوا فيه وافترقوا (٥) .

____________________

(١) ابن هشام: ج١ ص٣٣٧ - ٣٣٨.

(٢) آل عمران: ١١٩.

(٣) المجادلة: ٢١.

(٤) العمدة لابن رشيق: ج١ ص٢١١، والآية ٤٤ من سورة هود.

(٥) مجمع البيان: ج٥ ص١٦٥.

١١٢

قال الزمخشري: ولِما اشتملت عليه الآية من المعاني والنكت استفصح علماء البيان هذه الآية ورقصوا لها رؤوسهم، لا لتجانس الكلمتين وهما قوله (ابلعي) و(أقلعي) وذلك وإن كان لا يُخلي الكلام من حسن، فهو كغير الملتفت إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللبّ وما عداها قشور (١) .

سنأتي على محاسن الآية ودقائق مزاياها - بتقرير من جهابذة الفن - عند ذكر الشواهد على النكت البلاغيّة في القرآن، في فصل قادم إن شاء الله (٢) .

* * *

____________________

(١) الكشّاف: ج٢ ص٣٩٨.

(٢) تحت عنوان (أعجب آية باهرة) ص ٧٦ ج٥.

١١٣

جذباتٌ وجذوات (١)

( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ) (٢) .

نعم، هو أحسن حديث سمعته العرب بل البشرية جمعاء، كتاباً متشابهاً، لا يختلف أُسلوبه في التعبير والأداء، في أبدع لفظ وأفخم معنى، في روعة وأناقة وإكبار، لا يختلف أوّله عن آخره ولا أطرافه عن وسطه.

مثاني، تتكرّر قراءته من غير ملل ولا كسل، بل هو المسك ما كرّرته يتضوّع.

إنّها الأنفس البشريّة تهتزّ وجداً عند استماعه، وتطرب خفّةً عند تلاوته، إنّها جذبة روحيّة تنجذب النفس انجذاباً من داخلها حيث جذوات الروح المُلتهبة، ولي وهماً أو خيالاً شعرياً في تيه الهيام.

( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) (٣) .

____________________

(١) من تلك الجذوة التي جذبت موسى (عليه السلام) نحو الشجرة ( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) القصص: ٣٠.

(٢) الزمر: ٢٣.

(٣) ق: ٣٧.

١١٤

نفوسٌ مستعدّة:

( كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) (١) .

نعم، تلك قلوب واعية تتفتّح مساربها تلقاء آيات الذكر الحكيم، لا لشيء سوى أنّها نفوس مستعدّة صنعها خالق السماء وها هي كلماته المشرقة وجدت مواضعها فهبطت إليها.

( وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ ) (٢) .

وفد نصارى نجران:

جاءت ركب النصارى عشرون رجلاً أو قريب من ذلك إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو بمكّة، حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه وكلّموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلمّا فرغوا من مسألة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عمّا أرادوا دعاهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى الله عزّ وجلّ وتلا عليهم شيئاً من القرآن، فإذا هم لمّا سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، فاستجابوا لله وآمنوا به وصدّقوه وعرفوا من أمره ما قد وصفت لهم كتبهم.

ولمّا قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيّبكم الله من ركب! بعثكم مَن ورائكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئنّ مجالسكم عنده حتّى فارقتم دينكم وصدّقتموه بما قال! ما نعلم ركباً أحمق منكم! فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه ولكم ما

____________________

(١) فصّلت: ٣.

(٢) المائدة: ٨٣ و٨٤.

١١٥

أنتم عليه، لم نألُ أنفسنا خيراً (١) .

قيل: ونزلت فيهم: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ) (٢) (٣) .

سويد بن الصامت الشاعر:

وقدم سويد بن الصامت، أخو بني عمرو بن عوف (وكان ابن خالة عبد المطّلب) مكّة حاجّاً أو معتمراً، وكان سويد يُسميّه قومه: الكامل؛ لجَلَده وشعره (٤) وشرفه ونسبه، وكان له علم بكُتب السالفين، فتصدّى له رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين سمع به، فدعاه إلى الله والى الإسلام، فقال له سويد: فلعلّ الذي معك مثل الذي معي! فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ما الذي معك؟ قال: مجلّة لقمان - يعني صُحفاً فيها حكمة لقمان - (٥) . فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أعرضها عليّ، فعرضها عليه، فقال له: إنّ هذا

____________________

(١) أي لم نقصّر لأنفسنا في مكسبة الخير والصلاح.

(٢) القصص: ٥٢ - ٥٥.

(٣) سيرة ابن هشام: ج٢ ص٣٢.

(٤) ومن شعره الرقيق قوله:

ألا ربّ مَن تدعو صديقاً ولو ترى

مقالتَه بالغيبِ ساءَكَ ما يَفري

مقالته كالشَّهد ما كان شاهداً

وبالغيب مأثورٌ على ثَغرة النحرِ

يسرّك باديه وتحت أَديمِهِ

نميمةُ غِشٍّ تبتري عَقَب الظهر

تبين لك العينانِ ما هو كاتم

من الغلِّ والبَغضاءِ بالنظر الشَّزرِ

فَرِشِني بخيرٍ طالما قد بَريتني

فخير الموالي من يَريشُ ولا يبري

قوله: مأثور، هو السيف الموشى، ويقال: راشه أي قوّاه، وبراه أي أضعفه.

(سيرة ابن هشام: ج٢ ص٦٧).

(٥) قال السهيلي: ولقمان هذا كان نوبيّاً (من أهل نوبة) من أهل أيلة، وهو لقمان بن عنقاء فيما =

١١٦

الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآنٌ أنزله الله تعالى عليّ هو هدىً ونور، فتلا عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) القرآن ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال: إنّ هذا لقولٌ حسن، ثمّ انصرف عنه وقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتلته الخزرج، وكان رجال من قومه يقولون: إنّا لنراه قد قُتل وهو مسلم (١) .

إسلام سعد واُسيد:

وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد بعث مصعب بن عمير بن هاشم مع وفد الأنصار (الذين بايعوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ليلة العقبة الأُولى على نبذ الشرك واجتناب المحارم) وأمره أن يُقرئهم القرآن ويُعلّمهم الإسلام ويُفقّههم في الدين، فنزل على أبي أُمامة أسعد بن زرارة بن عدس، فكان يصلّي بالقوم؛ لأنّ أوساً وخزرجاً كره بعضهم أن يؤمّه بعض.

واتّفق أنّ أسعد خرج بمصعب، يريد به دار بني عبد الأشهل ودار بني ظفر، فدخل به حائطاً من حوائط بني ظفر، على بئر يقال لها: بئر مرق، فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممّن أسلم.

وكان سعد بن معاذ، واُسيد بن حضير، يومئذٍ سيّدَي قومهما من بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، فلمّا سمعا به قال سعد لأُسيد: لا أباً لك، انطلق إلى هذَين الرجلينِ اللذين أَتيا دارينا ليُسفها ضعفاءنا، فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإنّه لولا أنّ أسعد منّي حيث عرفت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدماً.

فأخذ اُسيد حربته ثمّ أقبل إليهما، فلما رآه أسعد، قال لمصعب بن عمير: هذا سيّد قومه قد جاءك فأصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس اُكلّمه... فوقف اُسيد

____________________

= ذكروا، وابنه الذي يذكره القرآن هو ثاران فيما ذكر الزجّاج وغيره.

(١) سيرة ابن هشام: ج٢ ص٦٨.

١١٧

عليهما مُشتّماً، فقال: ما جاء بكما إلينا تُسفهان ضفعاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة.

فقال له مصعب: أَوَ تجلس فتسمع، فإن رضيت قبلته، وإن كرهته كفّ عنك ما تكره! قال أنصفت، ثمّ ركز حربته وجلس إليهما.

فكلّمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن.

قالا (أي أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير): فوالله لقد عرفنا الإسلام في وجهه قبل أن يتكلّم، في إشراقه وتسهّله!

ثمّ قال اُسيد: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟

قالا له: تغتسل فتَطهر وتُطهّر ثوبَيك، ثمّ تشهد شهادة الحقّ، ثم تصلّي، ففعل وركع ركعتين، ثمّ قال لهما: إنّ ورائي رجلاً إن اتّبعكما لم يتخلّف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ....

ثم أخذ اُسيد بن حضير حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلمّا نظر إليه سعد بن معاذ مقبلاً، قال: أحلف بالله لقد جاءكم اُسيد بغير الوجه الذي ذهب به.

فلمّا وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلّمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأساً، وقد نهيتهما، فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حُدّثت أنّ بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنّهم قد عرفوا أنّه ابن خالتك، ليخفروك (١) .

فقام سعد بن معاذ مغضباً مبادراً، تخوّفاً للذي ذكر له، فأخذ الحربة من يد اُسيد وقال: والله ما أراك أغنيت شيئاً! ثمّ خرج إليهما، فلمّا رآهما سعد مطمئنّين عرف أنّ اُسيد إنّما أراد منه أن يسمع بنفسه منهما، فوقف عليهما متشتّماً، وقال

____________________

(١) الإخفار: نقض العهد والغدر، وفي نسخة: ليُحقّروك - بالحاء المهملة والقاف - من التحقير.

١١٨

لأسعد بن زرارة: يا أبا أُمامة، أَما والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمتَ هذا منيّ، أتغشانا في دارنا بما نكره! فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع... إلى آخر ما ذكره لأُسيد.

فرغب سعد في الإسلام كأخيه اُسيد، وفعل مثل ما فعل، وشهد الشهادتينِ، ثمّ أقبل عائداً إلى نادي قومه ومعه اُسيد بن حضير، فلمّا وقف على القوم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيّدنا وأوصلنا وأفضلنا رأياً وأَيمننا نقيبةً، قال: فإنّ كلام رجالكم ونساءكم عليّ حرام حتّى تؤمنوا بالله ورسوله، قالا: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلاّ مسلماً ومسلمة (١) .

بكاء النجاشي:

وفي الهجرة الأُولى إلى أرض الحبشة أرسل إليهم النجاشي يستخبر أحوالهم، فتقدّم جعفر بن أبي طالب - وكان لسان القوم - وقال: أيّها الملك، كنّا قوماً أهل جاهليّة، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجار، ويأكل القويّ الضعيف، فكنّا على ذلك حتّى بعث الله إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله - إلى أن قال: - فلمّا ضيّقت علينا قريش وحالت بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.

فقال له النجاشي: هل معك شيء ممّا جاء به عن الله؟ قال جعفر: نعم.

قال: فاقَرأَه عليّ! فقرأ جعفر صدراً من سورة الشورى: ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ

____________________

(١) سيرة ابن هشام: ج٢ ص٧٧ - ٨٠.

١١٩

الْعَظِيمُ * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (١) .

فلمّا استمع النجاشي إلى هذا الترنّم المُرهف بكى بكاءً شديداً حتّى اخضلّت لحيته، وبكت الأساقفة الذين كانوا حضوراً، وكانت صحفهم بين أيديهم وقد ابتلّت بدموعهم حينما سمعوا ما تُلي عليهم من آيات الذكر الحكيم.

ثمّ قال لهم النجاشي: إنّ هذا وما جاء به المسيح ليخرجان من مشكاة واحدة، وذكر ابن هشام أنّه أَسلم ومات مسلماً وصلّى عليه النبيّ (صلّى الله عليه وآله) واستغفر له (٢) .

* * *

____________________

(١) الشورى: ١ - ٥.

(٢) سيرة ابن هشام: ج١ ص٣٥٩ - ٣٦٥.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

يقرأ في كلّ ركعة الحمد مرّة، وخمسين مرّة قل هو الله احد.

وصلاة فاطمة،عليها‌السلام ، ركعتان: يقرأ في الأولى منهما الحمد مرّة واحدة، وإنا أنزلناه مائة مرّة، وفي الثّانية الحمد مرّة وقل هو الله أحد مائة مرّة.

وصلاة جعفر أربع ركعات بثلاثمائة مرّة « سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا الله، والله أكبر »: يبتدئ الصّلاة، فيقرأ الحمد ويقرأ في الأولى منهما إذا زلزلت. فإذا فرغ منها، سبّح خمس عشرة مرة، ثمَّ ليركع، ويقول ذلك عشرا. فإذا رفع رأسه، قاله عشرا. فإذا سجد، قاله عشرا. فإذا رفع رأسه من السّجود، قاله عشرا. فإذا سجد الثّانية، قاله عشرا. فإذا رفع رأسه من السّجود ثانيا، قاله عشرا. فهذه خمس وسبعون مرّة. ثمَّ لينهض إلى الثّانية، وليصلّ أربع ركعات على هذا الوصف، ويقرأ في الثّانية و « العاديات »، وفي الثّالثة إذا جاء نصر الله، وفي الرّابعة قل هو الله أحد ويقول في آخر سجدة منه « يا من لبس العزّ والوقار » إلى آخر الدّعاء.

ويستحبّ أن يصلّي الإنسان يوم الغدير إذا بقي إلى الزّوال نصف ساعة بعد أن يغتسل ركعتين: يقرأ في كلّ واحدة منهما الحمد مرّة، وقل هو الله أحد عشر مرّات وآية الكرسيّ

١٤١

عشر مرّات، وإنا أنزلناه عشر مرّات. فإذا سلّم، دعا بعدهما بالدعاء المعروف.

ويستحبّ أن يصلّي الإنسان يوم المبعث، وهو اليوم السابع والعشرون من رجب، اثنتي عشرة ركعة: يقرأ في كل واحدة منهما « الحمد ويس ». فان لم يتمكّن، قرأ ما سهل عليه من السّور. فإذا فرغ منها، جلس في مكانه، وقرأ أربع مرّات سورة الحمد، وقُلْ هو اللهُ أَحد مثل ذلك، والمعوذّتين، كلّ واحدة منهما أربع مرّات. ثمَّ يقول: « سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا الله، والله أكبر » أربع مرّات، ويقول: « الله الله لا أشرك به شيئا » أربع مرّات.

ويستحبّ أن يصلّي ليلة النّصف من شعبان أربع ركعات: يقرأ في كلّ واحدة منهما الحمد مرّة وقل هو الله أحد مائة مرّة.

وإذا أراد الإنسان أمرا من الأمور لدينه أو دنياه، يستحبّ له أن يصلّي ركعتين: يقرأ فيهما ما شاء من السّور، ويقنت في الثّانية. فإذا سلّم: دعا بما أراد، ثمَّ ليسجد وليستخر الله في سجوده مائة مرّة، يقول: « أستخير الله في جميع أموري »، ثمَّ يمضي في حاجته.

وإذا غرض للإنسان حاجة، فليصم الأربعاء والخميس والجمعة، ثمَّ ليبرز تحت السّماء في يوم الجمعة وليصلّ

١٤٢

ركعتين، يقرأ فيهما بعد الحمد مأتي مرّة وعشر مرّات قل هو الله أحد على ترتيب صلاة التّسبيح، إلّا أنه يجعل بدل التّسبيح في صلاة جعفر، خمس عشرة مرّة قل هو الله أحد في الرّكوع والسّجود وفي جميع الأحوال. فإذا فرغ منها سأل الله حاجته.

وإذا قضيت حاجته، فليصلّ ركعتين شكرا لله تعالى: يقرأ فيهما الحمد وإِنا أَنزلناه أو سورة قُلْ هو اللهُ أَحد، ثمَّ ليشكر الله تعالى على ما أنعم في حال السّجود والرّكوع وبعد التّسليم، إن شاء الله.

باب الصلاة على الموتى

الصّلاة على الأموات فريضة. وفرضه على الكفاية، إذا قام به البعض، سقط عن الباقين. ولا يختلف الحكم في ذلك، سواء كان الميّت رجلا أو امرأة، حرّا أو عبدا، إذا كان له ستّ سنين فصاعدا، وكان على ظاهر الإسلام. فإن نقص سنّه عن ستّ سنين، لم تجب الصّلاة عليه، بل يصلّى عليه استحبابا وتقيّة.

وإذا حضر القوم للصّلاة عليه، فليتقدّم أولى النّاس به، أو من يأمره الوليّ بذلك. وإن حضر الإمام العادل، كان أولى بالصّلاة عليه. وإن حضر رجل من بني هاشم معتقد للحقّ،

١٤٣

كان أيضا أولى بالصّلاة عليه، إذا قدّمه الولي. ويستحب له تقديمه. فإن لم يفعل، فليس له أن يتقدّم للصّلاة عليه. والزّوج أحقّ بالصّلاة على المرأة من أخيها وأبيها.

وإذا كانوا جماعة، فليتقدّم الإمام ويقف الباقون خلفه صفوفا أو صفا واحدا. وإن كان فيهم نساء، فليقفن آخر الصّفوف، فلا يختلطن بالرّجال. فإن كان فيهنّ حائض، فلتقف وحدها في صفّ بارزة عنهن وعنهم. وإن كان من يصلّي على الميّت نفسين، فليتقدّم واحد ويقف الآخر خلفه سواء، ولا يقف على جنبه.

وينبغي أن يقف الإمام من الجنازة، إن كانت لرجل، عند وسطها، وان كانت لامرأة، عند صدرها. وإذا اجتمع جنازة رجل وامرأة فلتقدّم المرأة إلى القبلة، ويجعل الرّجل ممّا يليها، ويقف الإمام عند الرّجل. وان كان رجل وامرأة وصبي، فليقدّم الصّبي، ثمَّ المرأة، ثمَّ الرّجل. وإن كان معهم عبد فليقدّم أوّلا الصّبي، ثمَّ المرأة، ثمَّ العبد، ثمَّ الرّجل، ويقف الإمام عند الرّجل ويصلّي عليهم صلاة واحدة. وكذلك الحكم، إن زادوا في العدد على ما ذكرناه، ويكون على هذا ترتيبهم.

وينبغي أن يكون بين الإمام وبين الجنازة شي‌ء يسير، ولا يبعد منها. وليتحفّ عند الصّلاة عليه، ان كان عليه نعلان.

١٤٤

فإن لم يكن عليه نعل، أو كان عليه خفّ، فلا بأس أن يصلّي كذلك.

ثمَّ يرفع الإمام يده بالتّكبير، ويكبّر خمس تكبيرات، يرفع يده في أوّل تكبيرة منها حسب، ولا يرفع فيما عداها. هذا هو الأفضل. فإن رفع يده في التّكبيرات كلّها، لم يكن به بأس. وإذا كبّر الأولة، فليشهد: أن لا إله إلّا الله. وأنّ محمدا رسول الله، ثمَّ يكبّر الثّانية ويصلّي على النّبي وآله، ثمَّ يكبّر الثّالثة ويدعوا للمؤمنين، ثمَّ يكبّر الرّابعة ويدعوا للميّت إن كان مؤمنا.

فإن لم يكن كذلك، وكان ناصبا معلنا بذلك، لعنه في صلاته، وتبرّأ منه. وإن كان مستضعفا فليقل: ربنا اغفر( لِلَّذِينَ تابُوا ) إلى آخر الآية. وإن كان ممّن لا يعرف مذهبه، فليدع الله أن يحشره مع من كان يتولّاه. وإن كان طفلا فليسأل الله أن يجعله له ولأبويه فرطا. فإذا فرغ من ذلك، كبّر الخامسة.

ولا يبرح من مكانه حتّى ترفع الجنازة، فيراها على أيدي الرّجال، ومن فاته شي‌ء من التّكبيرات، فليتمّه عند فراغ الإمام من الصّلاة متتابعة. فإن رفعت الجنازة، كبّر عليها، وان كانت مرفوعة. وإن كانت قد بلغت إلى القبر، كبّر على القبر ما بقي له، وقد أجزأه. ومن كبّر تكبيرة قبل

١٤٥

الإمام، فليعدها مع الإمام.

ومن فاتته الصّلاة على الجنازة، فلا بأس أن يصلّي على القبر بعد الدّفن يوما وليلة. فإن زاد على ذلك، لم يجز الصّلاة عليه. ويكره أن يصلّي على جنازة واحدة مرّتين.

ولا بأس أن يصلّى على الجنازة أيّ وقت كان من ليل أو نهار، ما لم يكن وقت فريضة. فإن كان وقت فريضة، بدئ بالفرض ثمَّ بالصّلاة على الميّت، اللهمّ إلّا أن يكون الميّت مبطونا أو ما أشبه ذلك ممّن يخاف عليه الحوادث، فإنّه يبدأ بالصّلاة عليه، ثمَّ بصلاة الفريضة.

ولا بأس بالصّلاة على الجنائز في المساجد. وإن صلّي عليها في مواضعها المختصّة بذلك، كان أفضل. ومتى صلّي على جنازة، ثمَّ تبيّن بعد ذلك أنّها كانت مقلوبة، سوّيت، وأعيد عليها الصّلاة، ما لم يدفن. فإن دفن، فقد مضت الصّلاة.

والأفضل أن لا يصلّي الإنسان على الجنازة إلّا على طهر. فإن فاجأته جنازة، ولم يكن على طهارة، تيمّم، وصلّى عليها. فإن لم يمكنه، صلّى عليها بغير طهر. وكذلك الحكم في من كان جنبا، والمرأة إذا كانت حائضا، فإنّه لا بأس أن يصليا عليه من غير اغتسال. فإن تمكّنا من الاغتسال، اغتسلا، فإنّ ذلك أفضل.

وإذا كبّر الإمام على الجنازة تكبيرة أو تكبيرتين،

١٤٦

وأحضرت جنازة أخرى، فهو مخيّر بين أن يتمّ خمس تكبيرات على الجنازة الأولى، ثمَّ يستأنف الصّلاة على الأخرى، وبين أن يكبّر خمس تكبيرات من الموضع الذي انتهى إليه، وقد أجزأه ذلك عن الصّلاة عليهما.

فإذا حضر جماعة من النساء للصّلاة على الميّت، ليس فيهنّ رجل، فلتقف واحدة منهنّ في الوسط، والباقيات عن يمينها وشمالها ويصلّين عليها. وكذلك إذا صلّوا جماعة عراة على الجنازة، فلا يتقدّم منهم أحد، بل يقف في الوسط، ويكبّر، ويكبّر الباقون معه. فإن كان الميّت عريانا، ترك في القبر أوّلا، وغطّى سوأته، ثمَّ صلّي عليه بعد ذلك، ودفن.

١٤٧

كتاب الصيام

باب ماهية الصوم ومن يجب عليه ذلك ومن لا يجب عليه

الصوم في اللغة هو الإمساك، وهو في الشّريعة كذلك، إلا أنّه إمساك عن أشياء مخصوصة في زمان مخصوص.

والّذي يقع الإمساك عنه على ضربين: ضرب يجب الإمساك عنه، والآخر الأولى الإمساك عنه.

والذي يجب الإمساك عنه على ضربين: ضرب منهما متى لم يمسك الإنسان عنه، بطل صومه. والقسم الآخر متى لم يمسك عنه، كان مأثوما، وإن لم يبطل ذلك صومه.

فأما الذي يجب الإمساك عنه ممّا يبطل الصّوم بفعله. فهو الأكل والشّرب والجماع والارتماس في الماء والكذب على الله ورسوله وازدراد كلّ شي‌ء يفسد الصّيام والحقنة والقي‌ء على طريق العمد.

وأمّا الذي يجب الإمساك عنه، وإن لم يبطل الصّوم بفعله فهو النّظر إلى ما لا يجوز النظر اليه، والإصغاء إلى ما لا يحلّ

١٤٨

الإصغاء إليه من الغناء وقول الفحش، والكلام بما لا يسوغ التّكلّم به، ولمس ما لا يحلّ ملامسته، والمشي إلى المواضع المنهيّ عنها.

والذي الأولى الإمساك عنه، فالتّحاسد والتّنازع والمماراة وإنشاد الشعر، وما يجري مجرى ذلك ممّا نذكره من بعد في باب ما يفسد الصّيام وما لا يفسده.

والصّوم على ضربين: مفروض ومسنون.

فالمفروض على ضربين: ضرب يجب على كافّة المكلّفين مع التمكّن منه بالإطلاق. والضّرب الآخر يجب على من حصل فيه سبب وجوبه.

فالقسم الأوّل هو صوم شهر رمضان. فإنّه يلزم صيامه لسائر المكلّفين من الرّجال والنّساء والعبيد والأحرار، ويسقط فرضه عمّن ليس بكامل العقل من الصّبيان وغيرهما. ويستحبّ ان يؤخذ الصّبيان بالصّيام إذا أطافوه، وبلغوا تسع سنين وإن لم يكن ذلك واجبا عليهم. ويسقط فرض الصّيام عن العاجز عنه بمرض أو كبر أو ما يجري مجراهما ممّا سنبيّنه فيما بعد، إن شاء الله.

والذين يجب عليهم الصّيام على ضربين: منهم من إذا لم يصم متعمّدا، وجب عليه القضاء والكفّارة أو القضاء. ومنهم من لا يجب عليه ذلك. فالذين يجب عليهم ذلك، كل من

١٤٩

كان ظاهره ظاهر الإسلام. والذين لا يجب عليهم، هم الكفّار من سائر أصناف من خالف الإسلام. فإنه وإن كان الصّوم واجبا عليهم، فإنّما يجب بشرط الإسلام. فمتى يصوموه، لم يلزمهم. القضاء ولا الكفّارة.

والقسم الثّاني مثل صوم النّذور والكفّارات وما يجري مجراهما ونحن نبيّن كلّ ذلك في أبوابه، إن شاء الله.

باب علامة شهر رمضان وكيفية العزم عليه ووقت فرض الصوم ووقت الإفطار

علامة الشّهور رؤية الهلال مع زوال العوارض والموانع. فمتى رأيت الهلال في استقبال شهر رمضان، فصم بنيّة الفرض من الغد. فإن لم تره لتركك التّراءي له، ورؤي في البلد رؤية شائعة، وجب أيضا عليك الصّوم. فإن كان في السّماء علة، ولم يره جميع أهل البلد، ورآه خمسون نفسا، وجب أيضا الصّوم. ولا يجب الصّوم إذا رآه واحد أو اثنان، بل يلزم فرضه لمن رآه حسب، وليس على غيره شي‌ء.

ومتى كان في السّماء علة، ولم ير في البلد الهلال أصلا، ورآه خارج البلد شاهدان عدلان، وجب أيضا الصّوم. وإن لم

١٥٠

يكن هناك علة، وطلب فلم ير الهلال، لم يجب الصّوم إلّا أن يشهد خمسون نفسا من خارج البلد أنّهم رأوه.

ومتى لم ير الهلال في البلد، ولم يجي‌ء من الخارج من يخبر برؤيته، عددت من الشّهر الماضي ثلاثين يوما، وصمت بعد ذلك بنية الفرض. فان ثبت بعد ذلك بيّنة عادلة أنّه كان قد رئي الهلال قبله بيوم، قضيت يوما بدله.

والأفضل أن يصوم الإنسان يوم الشّكّ على أنّه من شعبان. فان قامت له البيّنة بعد ذلك أنّه كان من رمضان، فقد وفّق له، وأجزأ عنه، ولم يكن عليه قضاء. وإن لم يصمه، فليس عليه شي‌ء. ولا يجوز له أن يصوم ذلك اليوم على أنّه من شهر رمضان حسب ما قدّمناه، ولا أن يصومه وهو شاك فيه لا ينوي به صيام يوم من شعبان. فان صام على هذا الوجه، ثمَّ انكشف له أنّه كان من شهر رمضان، لم يجزئ عنه، وكان عليه القضاء.

والنيّة واجبة في الصّيام. ويكفي في نيّة صيام الشّهر كلّه أن ينوي في أوّل الشّهر، ويعزم على أن يصوم الشّهر كلّه. وإن جدّد النيّة في كلّ يوم على الاستيناف، كان أفضل. فإن لم يفعلها، لم يكن عليه شي‌ء. وإن نسي أن يعزم على الصّوم في أوّل الشّهر، وذكر في بعض النّهار، جدّد النّيّة، وقد أجزأه. فان لم يذكرها، وكان من عزمه قبل

١٥١

حضور الشّهر صيام الشّهر إذا حضر، فقد أجزأه أيضا. فإن لم يكن ذلك في عزمه، وجب عليه القضاء.

وإذا صام الإنسان يوم الشّكّ على أنّه من شعبان، ثمَّ علم بعد ذلك أنّه كان من شهر رمضان، فقد أجزأه. وكذلك إن كان في موضع لا طريق له إلى العلم بالشهر، فتوخّى شهرا فصامه، فوافق ذلك شهر رمضان، أو كان بعده، فقد أجزأه عن الفرض. وان انكشف له أنّه كان قد صام قبل شهر رمضان، وجب عليه استيناف الصّوم وقضاؤه.

وإذا نوى الإنسان الإفطار يوم الشّكّ، ثمَّ علم أنّه يوم من شهر رمضان، جدّد النّيّة ما بينه وبين الزّوال، وقد أجزأه، إذا لم يكن قد فعل ما يفسد الصّيام. وإن كان تناول ما يفسد الصّيام، أمسك بقيّة النّهار، وكان عليه القضاء. وإن لم يعلم الا بعد زوال الشمس، أمسك بقيّة النّهار عمّا يفسد الصّيام، وكان عليه قضاء ذلك اليوم.

والوقت الذي يجب فيه الإمساك عن الطّعام والشّراب، هو طلوع الفجر المعترض الذي يجب عنده الصّلاة، وقد بيّناه فيما مضى من الكتاب ومحلّل الأكل والشّرب إلى ذلك الوقت. فأما الجماع، فإنه محلّل إلى قبل ذلك بمقدار ما يتمكّن الإنسان من الاغتسال. فإن غلب على ظنّه، وخشي أن يلحقه الفجر قبل الغسل، لم يحلّ له ذلك.

١٥٢

ووقت الإفطار سقوط القرص. وعلامته ما قدّمناه من زوال الحمرة من جانب المشرق، وهو الوقت الذي يجب فيه الصّلاة. والأفضل أن لا يفطر الإنسان إلا بعد صلاة المغرب. فإن لم يستطع الصّبر على ذلك، صلّى الفرض، وأفطر، ثمَّ عاد، فصلّى نوافله. فإن لم يمكنه ذلك، أو كان عنده من يحتاج إلى الإفطار معه، قدّم الإفطار. فإذا فرغ منه، قام إلى الصّلاة، فصلّى المغرب.

باب ما على الصائم اجتنابه مما يفسد الصيام وما لا يفسده والفرق بين ما يلزم بفعله القضاء والكفارة وبين ما يلزم منه القضاء دون الكفارة

الذي على الصّائم اجتنابه على ضربين: ضرب يفسد الصّيام وضرب لا يفسده بل ينقضه. والذي يفسده على ضربين: ضرب منهما يجب منه القضاء والكفّارة، والضّرب الآخر يجب منه القضاء دون الكفّارة.

فأمّا الذي يفسد الصّيام ممّا يجب منه القضاء والكفّارة، فالأكل، والشّرب، وازدراد كلّ شي‌ء يقصد به إفساد الصّيام والجماع، والإمناء على جميع الوجوه، إذا كان عند ملاعبة أو ملامسة، وان لم يكن هناك جماع. والكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأئمّةعليهم‌السلام ، متعمّدا مع الاعتقاد لكونه

١٥٣

كذبا، وشمّ الرائحة الغليظة التي تصل إلى الحلق، والارتماس في الماء، والمقام على الجنابة والاحتلام باللّيل متعمّدا إلى طلوع الفجر. وكذلك، من أصابته جنابة، ونام من غير اغتسال، ثمَّ انتبه، ثمَّ نام، ثمَّ انتبه ثانيا، ثمَّ نام إلى طلوع الفجر. فهذه الأشياء كلّها تفسد الصّيام، ويجب منها القضاء والكفّارة.

والكفّارة عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستّين مسكينا، وقضاء ذلك اليوم. أيّ ذلك فعل، فقد أجزأه. فإن لم يتمكّن، فليتصدّق بما تمكّن منه. فإن لم يتمكّن من الصّدقة، صام ثمانية عشر يوما. فإن لم يقدر، صام ما تمكّن منه. فإن لم يستطع، قضا ذلك اليوم، وليستغفر الله تعالى، وليس عليه شي‌ء. ومتى وطئ الرّجل امرأته نهارا في شهر رمضان، كان عليها أيضا القضاء والكفّارة، إن كانت طاوعته على ذلك. وإن كان أكرهها، لم يكن عليها شي‌ء، وكان عليه كفّارتان.

وأمّا الذي يفسد الصّيام ممّا يجب منه القضاء دون الكفّارة، فمن أجنب في أوّل اللّيل، ونام، ثمَّ انتبه، ولم يغتسل، فنام ثانيا، واستمرّ به النّوم الى طلوع الفجر، كان عليه القضاء، وصيام ذلك اليوم، وليس عليه كفّارة. ومن تمضمض للتبرّد دون الطّهارة، فدخل الماء حلقه، وجب عليه

١٥٤

القضاء دون الكفّارة. وكذلك من تقيّأ متعمّدا، وجب عليه القضاء دون الكفّارة. فإن ذرعه القي‌ء، لم يكن عليه شي‌ء. وليبصق بما يحصل في فيه. فإن بلعه، كان عليه القضاء.

ومن أكل أو شرب عند طلوع الفجر من غير أن يرصده، ثمَّ تبيّن بعد ذلك أنّه كان طالعا، كان عليه القضاء. فإن رصده ولم يتبيّنه لم يكن عليه شي‌ء. فإن بدأ بالأكل، فقيل له: قد طلع الفجر، فلم يمتنع، ثمَّ تبيّن بعد ذلك أنّه كان طالعا، وجب عليه القضاء. ومن قلّد غيره في أنّ الفجر لم يطلع، ثمَّ تبيّن أنّه كان طالعا، وجب عليه القضاء.

ومن شكّ في دخول اللّيل لوجود عارض في السّماء، ولم يعلم بدخول الليل، ولا غلب على ظنّه ذلك، فأفطر، ثمَّ تبيّن بعد ذلك أنّه كان نهارا، كان عليه القضاء. فإن كان قد غلب على ظنّه دخول اللّيل، ثمَّ تبيّن أنّه كان نهارا، لم يكن عليه شي‌ء.

وجميع ما قدّمناه ممّا يفسد الصّيام، ممّا يجب منه القضاء والكفّارة، أو القضاء وحده، متى فعله الإنسان ناسيا وساهيا، لم يكن عليه شي‌ء. ومتى فعله متعمّدا، وجب عليه ما قدّمناه، وكان على الإمام أن يعزّره بحسب ما يراه. فإن تعمّد الإفطار ثلاث مرّات، يرفع فيها إلى الإمام: فإن كان عالما بتحريم ذلك عليه، قتله الإمام في الثّالثة والرّابعة. وإن لم

١٥٥

يكن عالما، لم يكن عليه شي‌ء.

ويكره للصّائم الكحل إذا كان فيه مسك. وإن لم يكن فيه ذلك، لم يكن به بأس.

ولا بأس للصّائم أن يحتجم ويفتصد، إذا احتاج إلى ذلك، ما لم يخف الضّعف. فإن خاف، كره له ذلك، إلّا عند الضّرورة اليه.

ويكره له تقطير الدّهن في أذنه إلّا عند الحاجة اليه، ويكره له أن يبلّ الثّوب على جسده. ولا بأس أن يستنقع في الماء الى عنقه، ولا يرتمس فيه حسب ما قدّمناه. ويكره ذلك للنّساء. ويكره للصّائم السّعوط. وكذلك الحقنة بالجامدات. ولا يجوز له الاحتقان بالمائعات. ويكره له دخول الحمّام إذا خاف الضّعف. فإن لم يخف، فليس به بأس.

ولا بأس بالسّواك للصّائم بالرّطب منه واليابس. فان كان يابسا، فلا بأس أن يبلّه أيضا بالماء. وليحفظ نفسه من ابتلاع ما حصل في فيه من رطوبته. ويكره له شمّ النّرجس وغيره من الرّياحين. وليس كراهية شمّ النّرجس مثل الرّياحين بل هي آكد. ولا بأس أن يدّهن بالأدهان الطيّبة وغير الطيّبة. ويكره له شمّ المسك وما يجري مجراه.

ويكره للصّائم أيضا القبلة، وكذلك مباشرة النّساء وملاعبتهنّ. فإن باشرهنّ بما دون الجماع أو لاعبهن بشهوة،

١٥٦

فأمذى، لم يكن عليه شي‌ء. فإن أمنى، كان عليه ما على المجامع. فإن أمنى من غير ملامسة لسماع كلام أو نظر، لم يكن عليه شي‌ء. ولا يعود إلى ذلك.

ولا بأس للصّائم أن يزقّ الطّائر، والطّباخ أن يذوق المرق، والمرأة أن تمضغ الطّعام للصّبي ولا تبلغ شيئا من ذلك. ولا يجوز للصائم مضغ العلك. ولا بأس ان يمص الخاتم والخرز وما أشبههما.

باب حكم المريض والعاجز عن الصيام

المريض الذي لا يقدر على الصّيام أو يضرّ به، يجب عليه الإفطار، ولا يجزي عنه إن صامه، وكان عليه القضاء إذا برأ منه. فإن أفطر في أوّل النّهار، ثمَّ صحّ فيما بقي منه، أمسك تأديبا، وكان عليه القضاء.

فإن لم يصحّ المريض، ومات من مرضه الذي أفطر فيه، يستحبّ لولده الأكبر من الذّكور أن يقضي عنه ما فاته من الصّيام. وليس ذلك بواجب عليه. فإن برأ من مرضه ذلك، ولم يقض ما فاته، ثمَّ مات، وجب على وليّه القضاء عنه. وكذلك إن كان قد فاته شي‌ء من الصّيام في السفر، ثمَّ مات قبل أن يقضي، وكان متمكّنا من القضاء، وجب على وليّه أن يصوم عنه.

١٥٧

فإن فات المريض صوم شهر رمضان، واستمرّ به المرض إلى رمضان آخر، ولم يصحّ فيما بينهما، صام الحاضر، وتصدّق عن الأول عن كلّ يوم بمدين من طعام. فإن لم يمكنه فبمد منه. فان لم يتمكّن، لم يكن عليه شي‌ء، وليس عليه قضاء. فإن صحّ فيما بين الرّمضانين، ولم يقض ما عليه، وكان في عزمه القضاء قبل الرّمضان الثّاني، ثمَّ مرض، صام الثّاني، وقضى الأوّل، وليس عليه كفّارة. فإن أخّر قضاءه بعد الصحّة توانيا، وجب عليه أن يصوم الثّاني، ويتصدّق عن الأوّل ويقضيه أيضا بعد ذلك. وحكم ما زاد على الرّمضانين حكم رمضانين على السّواء. وكذلك لا يختلف الحكم في أن يكون الذي فاته الشّهر كلّه أو بعضه، بل الحكم فيه سواء.

والمريض إذا كان قد وجب عليه صيام شهرين متتابعين، ثمَّ مات، تصدّق عنه عن شهر، ويقضي عنه وليّه شهرا آخر.

والمرأة أيضا، حكمها حكم ما ذكرناه، في أنّ ما يفوتها من الصّيام بمرض أو طمث، لا يجب على أحد القضاء عنها، إلا أن تكون قد تمكّنت من القضاء، فلم تقضه، فإنّه يجب القضاء عنها. ويجب أيضا القضاء عنها ما يفوتها بالسّفر حسب ما قدّمناه في حكم الرّجال.

وحدّ المرض الذي يجب معه الإفطار، إذا علم الإنسان من

١٥٨

نفسه: أنه إن صام، زاد ذلك في مرضه، أو أضرّ به. وسواء الحكم أن يكون المرض في الجسم، أو يكون رمدا، أو وجع الأضراس. فإن عند جميع ذلك يجب الإفطار مع الخوف من الضّرر.

والشّيخ الكبير والمرأة الكبيرة، إذا عجزا عن الصّيام، أفطرا وتصدّقا عن كل يوم بمدّين من طعام. فإن لم يقدرا عليه فبمدّ منه. وكذلك الحكم فيمن يلحقه العطاش ولا يقدر معه على الصّوم. وليس على واحد منهم القضاء. والحامل المقرب والمرضع القليلة اللّبن لا بأس أن تفطرا، إذا أضرّ بهما الصّوم وتتصدّقا عن كلّ يوم وتقضيا ذلك اليوم فيما بعد.

وكلّ هؤلاء الذين ذكرنا: أنه يجوز لهم الإفطار، فليس لهم أن يأكلوا شبعا من الطعام، ولا أن يشربوا ريّا من الشراب، ولا يجوز لهم أن يواقعوا النّساء.

باب حكم من أسلم في شهر رمضان ومن بلغ فيه والمسافر إذا قدم أهله والحائض إذا طهرت والمريض إذا برأ

من أسلم في شهر رمضان، وقد مضت منه أيّام، فليس عليه قضاء شي‌ء ممّا فاته من الصّيام، وعليه صيام ما يستأنف من الأيام. وحكم اليوم الذي يسلم فيه، إن أسلم قبل طلوع الفجر، كان عليه صيام ذلك اليوم. فإن لم يصمه. كان عليه

١٥٩

القضاء. وإذا أسلم بعد طلوع الفجر، لم يجب عليه صيام ذلك اليوم، وكان عليه أن يمسك تأديبا إلى آخر النّهار.

وحكم من بلغ في شهر رمضان أيضا ذلك الحكم في أنّه يجب عليه صيام ما بقي من الأيام بعد بلوغه، وليس عليه قضاء ما قد مضى ممّا لم يكن بالغا فيه.

والمسافر إذا قدم أهله، وكان قد أفطر، فعليه أن يمسك بقيّة النّهار تأديبا، وكان عليه القضاء. فإن لم يكن قد فعل شيئا ينقض الصّوم، وجب عليه الإمساك، ولم يكن عليه القضاء. فإن طلع الفجر، وهو بعد خارج البلد، كان مخيّرا بين الإمساك ممّا ينقض الصّوم، ويدخل بلده، فيتمّ صومه ذلك اليوم، وبين أن يفطر، فإذا دخل إلى بلده، أمسك بقيّة نهاره تأديبا، ثمَّ قضاه حسب ما قدّمناه. والأفضل، إذا علم أنّه يصل إلى بلده، أن يمسك عمّا ينقض الصّيام. فإذا دخل الى بلده، تمّم صومه، ولم يكن عليه قضاء.

والحائض، إذا طهرت في وسط النّهار، أمسكت بقيّة النّهار تأديبا، وكان عليها القضاء، سواء كانت أفطرت قبل ذلك، أو لم تفطر. ويجب عليها قضاء ما فاتها من الصّيام في أيّام حيضها.

والمريض، إذا برأ من مرضه في وسط النّهار، أو قدر على الصّوم، وكان قد تناول ما يفسد الصّوم، كان عليه الإمساك

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579