تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد0%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

تلخيص التمهيد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد هادي معرفة
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الصفحات: 579
المشاهدات: 99707
تحميل: 9926


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 99707 / تحميل: 9926
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

للأعمّ من الحقيقة الذاتية، فيكون استعماله في كلّ من المعنيين من قبيل استعمال اللفظ الموضوع لعام في آحاد مصاديقه المتنوّعة، وهو من الاشتراك المعنوي الذي لا محذور فيه أصلاً.

فلفظ (العين) لم يوضع لمعان متعدّدة في وضعه الابتدائي، وإنّما الموضوع له أَولاً هي الناظرة وكان الباقي فرعاً عليها. قال ابن فارس - في معجم مقاييس اللغة -: العين والياء والنون أصل واحد صحيح يدلّ على عضوٍ به يبصر وينظر، ثُمّ يُشتقّ منه، والأصل في جميعه ما ذكرنا.

قال: وفي المَثل (صنعتُ ذاك عمد عين) إذا تعمّدته، والأصل فيه العين الناظرة، أي أنّه صَنع ذلك بعينِ كلِ مَن رآه. ومن الباب العين الذي تبعثه يتجسّس الخبر، كأنّه شيء ترى به ما يغيب عنك، ومنه العين الجارية النابعة من عيون الماء، وإنما سمّيت عيناً؛ تشبيهاً لها بالعين الناظرة لصفائها ومائها، ويقال: عانت الصخرة، إذا كان بها صدع يخرج منه الماء، ويقال: حَفر فأعين وأعان.

قال: ومن الباب العين للسحاب الآتي من ناحية القبلة (الشمال) وهذا مشبَّه بمشبَّه؛ لأنّه شُبّه بعين الماء التي شُبّهت بعين الإنسان، وعين الشمس أيضاً مُشبَّه بعين الإنسان، ومن الباب أعيان القوم أي أشرافهم، وهم قياس ما ذكرنا، كأنّهم عيونهم التي بها ينظرون.

قال: ومن الباب العين للمال العتيد الحاضر، يقال: هو عين غير دَين أي هو مال حاضر تراه العيون، وعين الشيء نفسه، تقول: خُذ درهمك بعينه (1) ، كأنّه مُعاين مشهود تشهده العيون بلا تبدّل ولا اختلاف.

وأمّا القُرء المشترك بين الطهر والحيض - على ما هو المشتهر بين الفقهاء - فقد أنكره أهل اللغة، قال ابن الأثير: وهو من الأضداد يقع على الطهر وإليه ذهب الشافعي وأهل الحجاز، وعلى الحيض وإليه ذهب أبو حنيفة وأهل العراق.

____________________

(1) معجم المقاييس: ج 4 ص 199 - 203.

٢٠١

والأصل فيه الوقت المعلوم، فلذلك وقع على الضدّين؛ لأنّ لكل منهما وقتاً.

قال ابن فارس: القاف والراء والحرف المعتلّ أصل صحيح يدلّ على جمع واجتماع، من ذلك القرية لاجتماع الناس فيها. ويقولون: قريتُ الماء في المِقراة: جمعته، وذلك الماء المجموع قريّ، والمِقراة: الجفنة؛ لاجتماع الضيف عليها أو لِما جُمع فيها من الطعام.

قال: ومن الباب القَرو، وهو كالمعصرة. والقَرو: حوض ممدود عند الحوض الكبير ترده الإبل، ومن الباب القَرو، وهو كلّ شيء على طريقة واحدة، تقول: رأيت القوم على قرو واحد، ومن الباب القَرَى: الظهر؛ لأنّه مجتمع العظام.

قال: وإذا همز هذا الباب كان هو والأَوّل سواء، ومنه القرءان.

وأمّا أَقرأَتْ المرأة (بمعنى حاضت) فيقال: إنّها من هذا الباب أيضاً، وذكروا أنّها تكون كذا في حال طُهرها، كأنّها جمعتْ دمَها في جوفها فلم تُرخِه، قالوا: والقُرء وقت، يكون للطهر مرّة وللحيض أخرى، قال: وجملة هذه الكلمة مشكلة (1) .

قلت: لعلّه من القَرو بمعنى الاستواء على طريقة واحدة، كما جاء في كلامه، وهو المُعبّر عنه بالعادة المعروفة عند النساء، يَعتورهنّ الطمث كلّ شهر عادة مستقرة، نظير أقراء الشعر بمعنى أوزانه وأطواره، كما جاء في حديث إسلام أبي ذر: لقد وضُعت قوله على أقراء الشِعر فلا يلتئم على لسان أحد (2) .

ومنه قول الشاعر:

إذا ما السماءُ لم تُغِم ثم أَخلفت

قروءُ الثريّا أنْ يكون لَها قَطرُ

أي مواقع طلوعها وهو وقت رتيب.

وقوله (صلّى الله عليه وآله): (تَدع الصلاةَ أيّام أقرائها) أيضاً شاهد على هذا المعنى.

نعم قالت عائشة: أو تدرون ما الأقراء؟ الأقراء الأطهار (3) ، وهي أَول من

____________________

(1) معجم المقاييس: ج 5 ص 79.

(2) نهاية ابن الأثير: ج 4 ص 31.

(3) موطّأ مالك بشرح التنوير: ج 2 ص 96.

٢٠٢

أبدت هذا الرأي وأغربت، وسار من خلفها لفيف من فقهاء الحجاز، وقد صدرت روايات من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في هذا الجوّ السائد، غير أنّ هناك روايات أخرى صدرت بعيدة عن الضغط الحاكم، وفَسّرت الأقراء بثلاث حيض. روى الشيخ بإسناده الصحيح عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال (عدّة التي تحيضُ ويستقيمُ حيضُها ثلاثة قروء وهي ثلاث حيض) (1) .

وعليه فلم يثبت اشتراك هذه اللفظة بين الطهر والحيض، كما زعمه أناس!

هذا، وقال حاول الراغب الأصفهاني الجمع بين الأقوال، فزعم أنّ القُرء اسم للدخول في الحيض، قال: والقرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر، ولمّا كان اسماً جامعاً للأمرين - الطهر والحيض - المتعقّب له أُطلق على كلّ واحد منهما... وليس القرء اسماً للطهر مجرّداً ولا للحيض مجرّداً، بدلالة أنّ الطاهر التي لم ترَ أثر الدم لا يقال لها ذات قرء، وكذا الحائض التي استمرّ بها الدم... وقول أهل اللغة: إنّ القرء من قرأ أي جمع، فإنهم اعتبروا الجمع بين زمن الطهر وزمن الحيض حسبما ذكرت لاجتماع الدم في الرحم (2) .

ولم يأتِ بشاهد من اللغة على اختياره الغريب، فهو اجتهاد مجرّد، كما هي عادته في غير موضع، والصحيح الذي تدعمه شواهد اللغة هو ما ذكرنا.

لا ترادف مع ملاحظة الفوارق:

قد عرفت الخمسين اسماً للماء كانت تُطلق عليه باعتبار تناوب حالاته، والتي كانت في الحقيقة أوصافاً له باعتبار تلك الحالات عارضة عروض الصفة للموصوف، وهكذا سائر المترادفات، فإنّ غالبيتها أوصاف ونعوت وليست في الحقيقة أسماء.

____________________

(1) الوسائل: ج 15 ص 425 رقم 7.

(2) المفردات: ص 402.

٢٠٣

فإنّ الأسد - وهو الاسم الحقيقي له - إنّما يقال له: الضيغم؛ باعتبار أنّه يملأ فمه عند العضّ على فريسته، مأخوذ من ضغم إذا عضّ من غير نهش وملأ فمه ممّا أهوى إليه، قال ابن منظور: الضغم العضّ الشديد، ومنه سُمّي الأسد ضيغماً.

والضرغام هو البطل الفحل المقدام في معركة القتال، وفي حديث قسّ: والأسد الضرغام، هو الضاري الشديد المقدام من الأسود.

والغضنفر: الجافي الغليظ المتغضّن، وأُذن غضنفرة: غليظة كثيرة الشعر، قال أبو عبيدة: أُذن غضنفرة وهي التي غلُظت وكثر لحمها، ومنه سمّي الأسد غضنفراً؛ لغلظة خلقه وتغضّنه، والتغضّن هو تثنّي وجنات الوجه وتشنّجه، ومنه تغضّن الشعر وهو تجعّده، ورجل ذو غضون إذا كان في جبهته تكسّر وتشنّج.

والهزبر: الصلب الشديد، يقال: ناقة هزبرة أي صلبة، ورجل هزبر أي حديد وثّاب، ومن ذلك سُمّي الأسد هزبراً.

والعبوس: الذين قطّب ما بين عينيه، ويوم عبوس: شديد، والعنبسي من أسماء الأسد أُخذ من العبوس وهو قُطوب الوجه.

والليث: الشدة والقوة، ورجل مليث: شديد العارضة وقيل شديد قويّ، وفي الحديث: هو أليث أصحابه أي أشدّهم وأجلدهم. وبه سُمّي الأسد ليثاً.

شواهد من القرآن

دقائق ونكات رائعة:

تلك كانت نبذة من فوارق اللغة، وقبضة يسيرة من مزايا جمّة غفيرة، حَظي بها لسان العرب في القريض والخطاب، وكانت بها بلاغة البلغاء فائقة، وفصاحة الفصحاء رائعة، وامتاز كلام على كلام، وقصيدة على أختها، دلالة على سعة الاطّلاع بمزايا اللغة، ومبلغ الإحاطة بفوارق الأوضاع.

٢٠٤

وقد امتاز القرآن في هذا الجانب بما فاق سائر الكلام، وأعجز العرب أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، وإليك رشفة من ذلك البحر الخِضَمّ، ورَشَحة من ذلك الوابل الغزير.

تقديم السمع على البصر:

ومن دقيق تعبيره، أنّك تجد القرآن يذكر السمع مُقدّماً على البصر في عديد من الآيات (1) ( وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (2) ، وهي مسألة يعرف سرّها الآن علماء التشريح (الفسيولوجيا) ويُدركون أنّ جهاز السمع أرقى وأعقد وأدقّ وأرهف من جهاز الأبصار، ويمتاز عيه بإدراك المجرّدات كالموسيقى، وإدراك التداخل مثل حلول عدة نغمات داخل بعضها بعضاً، مع القدرة على تمييز كلّ نغمة على انفراد، كما تُميّز الأمّ صوتَ بكاء ابنها من بين زحام هائل من أصوات متداخلة، يتمّ هذا في لحظة زمن... أمّا العين فهي تتوه في زحام التفاصيل ولا تعثر على ضالّتها، يتوه الابن عن عين أُمّه في الزحام ولا يتوه عن سمعها.

والعلم يمدّنا الآن بألف دليل على تفوّق معجزة السمع على معجزة البصر، ولم يكن هذا العلم موجوداً أيام نزول القرآن ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) (3) ، وهذا تحدّ بمستقبل الأيّام سوف يُصادف على آيات ما زالت تُقرأ وهي غيوب محجّبة.

إنّه الانضباط والإحكام في كلّ لفظة وفي كلّ حرف، لا تتقدّم كلمة على كلمة إلاّ بسبب، ولا تتأخّر كلمة عن كلمة إلاّ بسبب، فما هذا الإصرار على تقدّم السمع

____________________

(1) في أكثر من خمسة وعشرين موضعاً: البقرة: 7 و 20، النساء: 58 و 138، الأنعام: 46، يونس: 31، هود: 20، النحل: 78 و 108، الإسراء: 1 و 36، طه: 46، الحجّ: 61 و 75، المؤمنون: 23، لقمان: 28، السجدة: 9، غافر: 20 و 56، فصّلت: 20 و 22، الشورى: 11، الأحقاف: 26، المجادلة: 58، الملك: 23، الإنسان: 2.

(2) النحل: 78.

(3) فصّلت: 53.

٢٠٥

على البصر في تعبير القرآن؟ إنه تكرار متعمّد برغم أنّ النظرة العامّية إلى الأمور تنظر إلى البصر بإجلال أكثر (1) .

آيتا السرقة والزنا:

وهو حينما يذكر السرقة نراه يُورد السارق مقدّماً على السارقة ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) (2) ، أما في الزنا فنراه يذكر الزانية مقدّمة على الزاني ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ) (3) ، والحكمة واضحة، فالمرأة في الزنا هي البادئة وهي التي تدعو الرجل، بزينتها وتبرّجها، أمّا في السرقة فهي أقلّ جرأة من الرجل.

إننا إذاً أمام كلمات مصفوفة بإحكام ودقة وانضباط ( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) (4) .

ليس كمثله شيء:

ومن دقيق تعبيره: قوله تعالى: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (5) .

زعموا زيادة الكاف هنا، فراراً من المحال العقلي؛ إذ لو كانت باقيةً على أصلها للزم التسليم بثبوت المثل!

وحاول بعضهم توجيه عدم الزيادة، بأنّه من الدلالة على المطلوب بلازم الكلام، حيث نُفي مِثل المِثل يستلزم نفي المِثل؛ إذ لو كان له مِثل لكان لمثله أيضاً مثل، وهو الله تعالى، تحقيقاً لقضية التماثل.

فهو نَفي للمِثل بهذه الطريق الملتوية، نظير قولهم: أنت وابن أخت خالتك، يُعدّ

____________________

(1) محاولة لفهم عصري: ص 251.

(2) المائدة: 38.

(3) النور: 2.

(4) هود: 1.

(5) الشورى: 11.

٢٠٦

نوعاً من التعمية في الكلام شبيهاً بالألغاز.. الأمر الذي تأباه طبيعة الجدّ في تعابير القرآن.

ولكن لتوجيه هذا الكلام تأويل مشهور:

لو قيل: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) كان المنفي هو المماثل له تماماً وفي جميع أوصافه ونعوته وخصوصياته الكلّية والجزئية، أي ليس على شاكلته التامّة شيء، وهذا يُوهم أن عسى قد يوجد مَن يكون على بعض أوصافه، وفي رتبة تالية من المماثلة التامّة؛ لأنّ هذا المعنى لم يقع تحت النفي.

وعليه فكان موضع الكاف هنا، نفياً للمماثلة وما يشبه المماثلة أو يدنو منها بعض الشيء، فليس هناك شيء يشبه أن يكون مماثلاً له تعالى، فضلاً عن أن يكون مِثلاً له على الحقيقة، وهذا من باب التنبيه بالأدنى دليلاً على الأعلى، على حدّ قوله تعالى: ( فَلا تَقُلْ لَهُمَا ) (1) .

وتأويل آخر أدق: وهو أنّ الآية لا ترمي نفي الشبيه له تعالى فحسب، إذ كان يكفي لذلك أن يقول: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ، أو ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) بل ترمي وراء ذلك دعم النفي بما يصلح دليلاً على الدعوى والإلفات إلى وجه حجة هذا الكلام وطريق برهانه العقلي.

أَلا ترى أنّك إذا أردت أن تنفي نقيصة عن إنسان، فقلت: (فلان لا يكذب) أو (لا يبخل) كان كلامك هذا مجرّد دعوى لا دليل عليها، أمّا إذا زدت كلمة المِثل وقلت: (مثل فلان لا يكذب) أو (لا يبخل) فكأنّك دعمت كلامك بحجّة وبرهان، إذ من كان على صفاته وشيمه الكريمة لا يكون كذلك؛ لأنّ وجود هذه الصفات والنعوت ممّا تمنع عن الاستسفال إلى رذائل الأخلاق.

وهذا منهج حكيم وضع عليه أُسلوب كلامه تعالى، وأنّ مثله تعالى - ذا الكبرياء والعظمة - لا يمكن أن يكون له شبيه، وأنّ الوجود لا يتسع لاثنين من جنيه (2) .

____________________

(1) الإسراء: 23.

(3) النبأ العظيم: ص 128.

٢٠٧

فجيء بأحد لفظي التشبيه ركناً في الدعوى، وبالآخر دعامةً لها وبرهاناً عليها، وهذا من جميل الكلام، وبديع البيان، ومن الوجيز الوافي.

قال الزمخشري: قالوا: مثلك لا يبخل، فنفوا البخل عن مثله، وهم يريدون نفيه عن ذاته، قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية؛ لأنّهم إذا نفوه عمّن يسدّ مسدّه وعمّن هو على أخصّ أوصافه فقد نفوه عنه، وهذا أبلغ من قولك: أنت لا تبخل.

ومنه قولهم: (قد أيفعت لدِّاته) (1) و (بلغت أترابه) (2) ، وفي الحديث: (أَلا وفيهم الطيّب الطاهر لدِّاته)، وهذا ما تعطيه الكناية من الفائدة (3) .

وقال ابن الأثير: ومن لطيف هذا الموضع وحسنه ما يأتي بلفظة (مِثل)، كقول الرجل إذا نفى عن نفسه القبيح: (مثلي لا يفعل هذا) أي أنا لا أفعله؛ لأنّه إذا نفاه عمّن يماثله فقد نفاه عن نفسه لا محالة، إذ هو بنفي ذلك عنه أجدر، وسبب ورود هذه اللفظة في هذا الموضع أنّه يُجعل من جماعة هذه أوصافهم وتثبيتاً للأمر وتوكيداً، ولو كان وحده لقلق منه موضعه ولم يرسُ فيه قدمه (4) .

قال الأُستاذ درّاز: واعلم أنّ البرهان الذي تُرشد إليه الآية - على هذا الوجه - (5) برهان طريف في إثبات الصانع لا نعلم أحداً من علماء الكلام حام حوله، فكلّ براهينهم في الوحدانية قائمة على إبطال التعدّد بإبطال لوازمه وآثاره العملية، حسبما أرشد إليه قوله تعالى: ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ) (6) .

أمّا آية الشورى المذكورة فإنّها ناظرة إلى معنى وراء ذلك، ينقض فرض التعدّد من أساسه ويُقرّر استحالته الذاتية في نفسه بقطع النظر عن تلك الآثار،

____________________

(1) أيفع الغلام: ترعرع وناهز البلوغ، فهو يافع، واللدّ: القرن والخَصم.

(2) الأتراب: جمع تِرب بمعنى المتوافق في السنّ.

(3) تفسير الكشّاف: ج4 ص213.

(4) المَثل السائر: ج3 ص61 ذكره في باب الإرداف في الكناية.

(5) أي إرداف اللفظ بحجّته في أوجز كلام.

(6) الأنبياء: 22.

٢٠٨

فكأنّنا بها تقول لنا:

إنّ حقيقة الإله ليست من تلك الحقائق التي تقبل التعدّد والاشتراك والتماثيل في مفهومها، كلاّ، فإنّ الذي يقبل ذلك فإنّما هو الكمال الإضافي الناقص، أمّا الكمال التامّ المطلق - الذي هو معنى الإلهية - فإنّ حقيقته تأبى على العقل أن يقبل فيها المشابهة والاثنينيّة؛ لأنّك مهما حقّقت معنى الإلهية حقّقت تقدّماً على كلّ شيء وإنشاءً لكل شيء: ( فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (1) ، وحقّقت سلطاناً على كل شيء وعلواً فوق كلّ شيء: ( لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (2) ، فلو ذهبت تفترض اثنين يشتركان في هذه الصفات لتناقضت إذ تجعل كلّ واحد منهما سابقاً ومسبوقاً، ومُنشِئاً، ومنشَئاً، ومستعلياً ومستعلى عليه، أو لأَحلت الكمال المطلق إلى كمال مقيّد فيهما، إذ تجعل كل واحد منها بالإضافة إلى صاحبه ليس سابقاً ولا مستعلياً، فأنّى يكون كلّ منهما إلهاً، وللإله المَثل الأعلى!

فكم أفادتنا هذه الكاف من وجوه المعاني كلّها كافٍ شافٍ، وهذا من دقة الميزان الذي وُضع عليه النظم الحكيم في القرآن الكريم (3) .

آية القصاص:

كانت العرب تعرف ما لهذه اللفظة (القصاص) من مفهوم خاص: (قَتْلُ من عَدَ على غيره فقَتَله بغير حق)، وكانت تعرف ما لهذه العقوبة (مقابلة المعتدي بمثل ما اعتدى) من أثر بالغ في ضمان الحياة العامّة.

لكنّها عندما عَمَدت إلى وضع قانون يحدّ من جريمة القتل، ويضمن للناس حياتهم، وليكون رادعاً لمَن أراد الإجرام فأزمعت بكلّيتها على وضع عبارة موجزة وافية بهذا المقصود الجلل وأجمعت آراؤهم على عقد الجملة التالية:

____________________

(1) الأنعام: 14، يوسف: 101، إبراهيم: 10، فاطر: 1، الزمر: 46، الشورى: 11.

(2) الزمر: 63.

(3) النبأ العظيم: ص130.

٢٠٩

(القتل أنفى للقتل)، غفلت عن لفظة (القصاص) واستُعملت كلمة (القتل) مكانها، ذهولاً عن أنّها لا تفي بتمام المقصود، وهم بصدد الإيفاء والإيجاز.

ذلك أنّ الذي يحدّ من الإجرام على النفوس ويحقن دماء الأبرياء هو فرض عقوبة القصاص، وهو قتل خاص، وليس مطلق القتل بالذي يؤثّر في منعه، بل ربّما أوجب قتلات إذا لم يكن قصاصاً.

ومع الإحاطة بهذه المزايا في لفظ (القصاص) جاء قوله تعالى: ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) (1) تعبيراً تامّاً وافياً بالمقصود تمام الوفاء، بل وفيها زيادة مزايا شَرَحها أرباب الأدب والتفسير.

قال سيّدنا الطباطبائي - طاب ثراه -: إنّ هذه الآية - على اختصارها وإيجازها، وقلّة حروفها، وسلاسة لفظها، وصفاء تركيبها - لهي من أبلغ التعابير وأرقى الكلمات، فهي جامعة بين قوّة الاستدلال وجمال المعنى ولطفه، ورقّة الدلالة وظهور المدلول.

وقد كان للبلغاء قبلها كلمات وتعابير في وضع قانون القصاص، كانت تعجبهم بلاغتها وجزالة أُسلوبها، كقولهم: (قُتل البعض إحياء للجميع)، وقولهم: (أَكثروا القتل ليقلّ القَتل) وأَعجب من الجميع عندهم قولهم: (القتل أنفى للقتل).

غير أنّ الآية أَنست الجميع، ونفت الكل، ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) فهي أقلّ حروفاً وأسهل تلفّظاً، وفيها تعريف القصاص وتنكير الحياة، دلالة على أنّ الهدف الأقصى أوسع من أمر القصاص وأعظم شأناً، وهي الحياة، حياة الإنسان الكريمة.

واشتمالها على بيان النتيجة وعلى بيان الحقيقة، وأنّ القصاص هو المؤدّي إلى الحياة، دون مطلق القتل، وغير ذلك ممّا تشتمل عليه من فوائد ولطائف... (2) .

هذا بالإضافة إلى ما لتعبير القرآن من محسّنات بديعية باهرة، ليست في ذلك التعبير العربي.

____________________

(1) البقرة: 179.

(2) تفسير الميزان: ج1، ص442.

٢١٠

قال ابن الأثير: من الإيجاز ما يُسمّى الإيجاز بالقصر، وهو الذي لا يُمكن التعبير عن ألفاظه بألفاظ أُخرى مثلها، وفي عدّتها، بل يستحيل ذلك، وهو أعلى طبقات الإيجاز مكاناً، وإذا وُجد في كلام بعض البلغاء فإنما يوجد شاذّاً نادراً، والقرآن الكريم مَلآن منه (1) .

فمن ذلك ما ورد من قوله تعالى: ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) .

فإنّ قوله تعالى: ( الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) لا يُمكن التعبير عنه إلاّ بألفاظ كثيرة؛ لأنّ معناه أنّه إذا قُتل القاتل امتنع غيره عن القتل، وكذلك إذا أيقن القاتل أن سوف يدفع حياته ثمناً لحياة مَن يقتل، تردّد في ارتكاب القتل وربّما أمسك عنه، فكان في ذلك حياة للناس.

ولا يُلتفت إلى ما ورد عن العرب من قولهم: (القتل أنفى للقتل)، فإنّ مَن لا يعلم يظنّ أنّ هذا على وزن الآية، وليس كذلك، بل بينهما فرق من ثلاثة أوجه:

الأَوّل: أنّ (القصاص حياة) لفظتان، و(القتل أنفى للقتل) ثلاثة ألفاظ.

الثاني: أنّ في قولهم (القتل أنفى للقتل) تكريراً ليس في الآية.

الثالث: أنّه ليس قتل نافياً للقتل، إلاّ إذا كان على حكم القصاص.

قال: وقد صاغ أبو تمام هذا المعنى الوارد عن العرب في بيت من شعره، فقال:

وأَخافَكُم كي تُغمدوا أسيافَكم

إنّ الدمَ المُعترَّ يحرسُهُ الدمُ (2)

فقوله: (إنّ الدم المعترّ يحرسه الدم) أجمل أُسلوباً وأحسن أداءً من قولة العرب.

وقال أبو هلال العسكري: والإيجاز، القصر والحذف، فالقصر تقليل الألفاظ وتكثير المعاني وهو قول الله عزّ وجلّ: ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) ، ويتبّين فضل هذا الكلام إذا قَرنته بما جاء عن العرب في معناه، وهو قولهم: (القتل أنفى للقتل) فصار لفظ القرآن فوق هذا القول، لزيادته عليه في الفائدة، وهو إبانة العدل لذكر

____________________

(1) المَثل السائر: ج2 ص348 وص 352 - 353.

(2) ديوان أبي تمّام: ص274. والمعترّ: المضطرب لخوف الخطر.

٢١١

القصاص، وذِكر العوض المرغوب فيه لذكر الحياة واستدعاء الرغبة والرهبة لحكم الله به، ولإيجازه في العبارة، فإنّ الذي هو نظير قولهم (القتل أنفى للقتل) إنّما هو (القصاص حياة) وهذا أقلّ حروفاً من ذلك، ولبعده من الكلفة بالتكرير، ولفظ القرآن بَرِئ من ذلك، وبحسن التأليف، وشدة التلاؤم المُدرك بالحسّ؛ لأنّ الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة (1) .

وقال جلال الدين السيوطي: وقد فُضلّت الآية على قولة العرب بعشرين وجهاً أو أكثر، وإن كان لا تشبيه بين كلام الخالق وكلام المخلوق، وإنّما العلماء يقدحون أفهامهم فيما يظهر لهم من ذلك، كما قال ابن الأثير، نذكر منها:

1 - في الآية إيجاز قصر، من غير حاجة إلى تقدير ، أمّا قولتهم فبحاجة إلى تقدير (من) لمكان أفعل التفضيل، وبذلك جاء الإبهام في قولتهم؛ لأنّه يسأل: من أيّ شيء؟ فإن قُدّر العموم فلعلّه غير مطّرد بالنسبة إلى جميع الموارد وجميع أفراد الناس.

2 - ثُمّ الذي ينفي القتل ويوجب الحياة هي شريعة القصاص ، وهو قتل بإزاء قتل خاصّ دون مطلق القتل، إذ ربَّ قتلة أوجبت قتلات كما في حرب البَسوس طالت أربعين سنة.

3 - في الآية طباق، جمعاً بين ضدّين: القصاص - وفيه إشعار بقتل - والحياة، وأيضاً فيها بَداعة، الضدّ أوجب ضدّه. ولا سيّما في تعريف القصاص وتنكير الحياة، وفيه غرابة فائقة.

4 - قال الزمخشري: ومن إصابة محزّ البلاغة، بتعريف القصاص وتنكير الحياة؛ لأنّ المعنى: ولكم في هذا الجنس من الحكم - الذي هو شريعة القصاص - حياة عظيمة، وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب، حتّى كاد يُفني بكر بن وائل، ولقد كانوا يقتلون بالمقتول غير قاتله، وهذه

____________________

(1) انظر الصناعتين: ص175، وهامش المَثل السائر: ج2 ص352 - 353.

٢١٢

العادة جارية بين العرب حتّى الآن (1) ، فتثور الفتنة ويقع بينهم التناحر، ففي شرع القصاص - وهو قتل القاتل المعتدي - حياة أيّة حياة (2) .

5 - وأمّا قولة العرب، ففيها تناقض ظاهر؛ إذ الشيء لا ينفي نفسه، فكيف القتل ينفي القتل؟ وأيضاً فيها تكرار، وتقدير، وتهويل بسبب تكرار لفظ القتل المؤذن بالوحشة.

أمّا الآية فاستُبدلت من لفظ (القتل) الموحش بلفظ (القصاص) الموجب للتشفّي والانشراح، ثُمّ عقّبها بلفظ (الحياة) التي تبتهل إليها النفوس وتحتفل بها.

6 - وأيضاً ففي لفظ القصاص إيذان بالعدل، حيث مساواة نفس المقتول بالقاتل، الأمر الذي لا يدلّ عليه لفظ القتل المطلق.

7 - والآية بُنيت على الإثبات، وقولتهم على النفي، والكلام المُثبت أوفى من النافي مهما كان المعنى واحداً.

8 - ثُمّ إشكال في ظاهر قولتهم ، ببناء أفعل التفضيل من فعل عدمي الذي لا تفاضل فيه ظاهراً، والآية سالمة منه.

9 - وأيضاً فإنّ التفاضل يقتضي المشاركة في القَدر الجامع ، بخلاف الآية التي حصرت نفي القتل في القصاص لا في غيره على الإطلاق، فكانت أبلغ في الوفاء بالمقصود.

10 - الآية مشتملة على حروف متلائمة متناسقة ، تتحلّق صُعُداً، ثُمّ تهوي نُزلاً، ثُمّ تعود فتتصاعد إلى ما لا نهاية (في القصاص حياة).

قالوا: لتلاؤم القاف مع الصاد، كلاهما من حروف الاستعلاء، أمّا القاف مع التاء فلا تلاؤم بينهما؛ لأنّ التاء من المنخفض، وكذا الخروج من الصاد إلى حاء الحياة أمكن من الخروج من اللام إلى الهمز، لبُعد طرف اللسان عن أقصى الحلق.

____________________

(1) ونحن في مطلع القرن الخامس عشر للهجرة.

(2) راجع الكشّاف: ج1 ص222 - 223.

٢١٣

وأيضاً ففي النطق والحاء والتاء متتالية ظرافة وحسن، ولا كذلك في تكرار النطق بالقاف والتاء.

11 - هذا فضلاً عن توالي حركات متناسبة في الآية ، بما يَسَّر النطق بها في سهولة، وربّما في جرس صوتيّ بديع.

أمّا قولتهم فيتعقّب فيها كل حركة بسكون، وذلك مستكره، ويوجب عسر النطق بها، إذا الحركات - وهي انطلاقات اللسان - تنقطع بالسكنات المتتالية، الموجبة للضجر ووعورة الكلام، نظير ما إذا تحرّكت الدابة أدنى حركة فجثت، ثمّ تحرّكت فجثت، وهكذا لا يبين انطلاقها ولا تتمكن من حركتها على إرادتها؛ لأنّها كالمقيّدة.

12 - إنّ في افتتاح الآية بـ (لكم) مزيد عناية بحياة الإنسان ، وإنّ في شريعة القصاص حكمة بالغة ترجع فائدتها إلى النفع العام، فهي عامّة رُوعيت في شرع القصاص، وليست مصلحة خاصّة ترجع إلى شرح صدور أولياء المقتول المفجوعين فحسب.

وغير ذلك ممّا ذكره نَقدة الكلام، لا زالت مساعيهم مشكورة (1) .

أرض هامدة وأرض خاشعة:

تعبيران وردا على الأرض الميتة فقدت حياتها؛ لأنّ السماء ضنّت بمائها فلم تَمطر عليها... فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزّت وربت وأنبتت من كلّ زوج بهيج!

فقد جاء التعبير الأَوّل في سورة الحج: ( يَا أَيّهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْنَاكُم مِن تُرَابٍ ثُمّ مِن نّطْفَةٍ ثُمّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمّ مِن مّضْغَةٍ مّخَلَقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلّقَةٍ لّنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى‏ أَجَلٍ مّسَمّىً ثُمّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمّ لِتَبْلُغُوا أَشُدّكُمْ وَمِنكُم مّن يُتَوَفّى‏ وَمِنكُم مّن يُرَدّ إِلَى‏ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن

____________________

(1) راجع معترك الأقران لجلال الدين السيوطي: ج1 ص300 - 303.

٢١٤

بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) (1) .

وجاء التعبير الثاني في سورة فصّلت: ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللّيْلُ وَالنّهَارُ وَالشّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا للّهِ‏ِ الّذِي خَلَقَهُنّ إِن كُنتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ * فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالّذِينَ عِندَ رَبّكَ يُسَبّحُونَ لَهُ بِاللّيْلِ وَالنّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزّتْ وَرَبَتْ إِنّ الّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى‏ إِنّهُ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) (2) .

أمّا لماذا هذا الاختلاف في التعبير في المقامينِ؟

الجوّ في السياق الأَوّل جوّ بعث ونشور وحشر أموات، فيتناسب معه تصوير الأرض (هامدة) لا حياة فيها ولا حركة ولا انتفاضة.

يقال: همدت النار أي خمدت وأُطفئت وهدأت حرارتها وسَكَن لهيبها، وهمد الثوب: إذا بَلي وتقطّع من طول البِلى.

لكن الجوّ في السياق الثاني جوّ عبادة وضراعة وخشوع وابتهال إلى الله تعالى، فناسبه تصوير الأرض (خاشعة) خشوع الذلّ والاستكانة. يقال: خشعت الأرض إذا يبست ولم تُمطَر.

ونكتة أُخرى: لم تجئ ( اهْتَزّتْ وَرَبَتْ ) هنا للغرض الذي جاءتا من أجله هناك، إنّهما هنا تُخيّلان حركةً حاصلةً عن خشوع، حركة تضاهي حركة العُبّاد في عباداتهم؛ ومِن ثَمّ لم تكن الأرض لتبقى وحدها خاشعة ساكنة، فاهتزّت لتشارك العابدينَ في حركاتهم التعبّدية وِفق إرادة الله في الخلق.

الحلف بالتاء:

قوله تعالى: ( تَاللّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى‏ تَكُونَ حَرَضاً ) (3) .

____________________

(1) الحجّ: 5.

(2) فصّلت: 37 - 39.

(3) يوسف: 85.

٢١٥

جملة ألفاظها غريبة، بعيدة عن الاستعمال العام، وقع الاختيار عليها لحكمة هي مقتضى الحال والمقام، فضلاً عن جرس اللفظة في هذا التناسب والوئام.

قال جلال الدين السيوطي: أتى بأغرب ألفاظ القَسَم، وهي التاء، فإنّها أقلّ استعمالاً وأبعد من أفهام العامّة بالنسبة إلى الباء والواو، وبأغرب صيغ الأفعال الناقصة، فإنّ (تزال) أقرب إلى الأفهام، وأكثر استعمالاً من (تفتأ)، وبأغرب الألفاظ الدالّة على الإشراف على الهلاك (حَرَضاً)، فاقتضى حسن الوضع في النظم، أنّ تجاور كل لفظة بلفظة من جنسها في الغرابة؛ توخّياً لحسن الجوار، ورغبة في ائتلاف المعاني مع الألفاظ، ولتتعادل الألفاظ في الوضع، وتتناسب في النظم، فضلاً عن تناسب الغريب في التعبير مع الغريب من حالة نبيّ الله يعقوب (عليه السلام) (1) .

دقائق ونكات:

ذكر جلال الدين السيوطي عن البارزيّ أنّه قال - في أَوّل كتابه (أنوار التحصيل في أسرار التنزيل) -: اعلم أنّ المعنى الواحد قد يُخبَر عنه بألفاظ بعضها أحسن من بعض، وكذلك كلّ واحد من جزءي الجملة قد يُعبّر عنه بأفصح ما يلاءم الجزء الآخر... ولابدّ من استحضار معاني الجمل، أو استحضار جميع ما يلائمها من الألفاظ، ثُمّ استعمال أنسبها وأفصحها....

واستحضار هذا متعذّر على البشر في أكثر الأحوال... وذلك عتيد حاصل في علم الله تعالى؛ فلذلك كان القرآن أحسن الحديث وأفصحه. وإن كان مشتملاً على الفصيح والأفصح، والمليح والأملح....

ولذلك أمثلة:

منها: قوله تعالى: ( وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ) (2) ، لو قال مكانه: (وثمر الجنّتين قريب) لم يقم مقامه من جهة الجناس بين (الجنى) و(الجنّتين)، ومن جهة أنّ

____________________

(1) معترك الأقران: ج1 ص389.

(2) الرحمن: 54.

٢١٦

الثمر لا يُشعر بمصيره إلى حال يُجنى فيها، ومن جهة مؤاخاة الفواصل (1) .

وتتلخّص ميزات الآية في وجوه أربعة:

أولاً: أنّ الثمر لفظ عام، لا يدل على بلوغه أوان الاقتطاف، على خلاف لفظ (الجنى) الذي هو الثمر الناضج الغضّ الطريّ اليانع، فكان هذا الأخير أنسب.

ثانياً: المشاكلة والتجانس اللفظي بين (جنى) والشطر الأَوّل من (الجنّتين) بالجيم والنون.

ثالثاً: كذلك التجانس بين (دان) والشطر الأخير من (الجنّتين) بالمدّ والنون، مع مقاربة مخرج الدال والتاء.

رابعاً: مراعاة الفاصلة.

الأمر الذي حصلت به تلك السلاسة والعذوبة في التعبير والأداء، ولا توجد في العبارة الأُخرى المرادفة لها في المعنى، كما لا يخفى.

* * *

قال: ومنها قوله تعالى: ( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ ) (2) ، أحسن من التعبير بـ (تقرأ)؛ لثقله بالهمزة.

ومنها: ( لاَ رَيْبَ فِيهِ ) (3) ، أحسن من (لا شكّ فيه)؛ لثقل الإدغام، ولهذا كثُر ذِكر الريب (4) .

ومنها: ( وَلا تَهِنُوا ) (5) ، أحسن من (ولا تضعفوا)، لخفّته، و ( وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) (6) ، أحسن من (ضعف)؛ لأنّ الفتحة أخفّ من الضمّة.

____________________

(1) الإتقان: ج4 ص22.

(2) العنكبوت: 48.

(3) البقرة: 2.

(4) على أنّ الريب إنّما يكون فيما تكون دواعي الشبهة فيه متوفّرة، أمّا الشكّ فيكفي فيه عدم الاعتقاد، الأمر الذي صحّ معه نفي الريب عن الكتاب دون الشكّ.

(5) آل عمران: 139.

(6) مريم: 4.

٢١٧

ومنها: ( آمن ) (1) أخفّ من (صدّق)؛ ولذا كان ذكره أكثر من ذكر التصديق، و ( آثَرَكَ اللَّهُ ) (2) أخفّ من (فضّلك)، و ( آتي ) (3) أخفّ من (أعطى)، و ( أَنذَر ) (4) أخفّ من (خوّف)، و ( خيرٌ لكم ) (5) أخفّ من (أفضل لكم).

والمصدر في نحو ( هذا خَلْقُ اللهِ ) (6) و ( يُؤمنون بالغيبِ ) (7) أخفّ من (مخلوق) و(الغائب)، و ( تنكح ) (8) أخفّ من (تَتَزوج)؛ لأنّ (تفعل) - مُخفّفاً - أخفّ من (تفعل) - مشدّداً - ولهذا كان ذِكر النكاح فيه أكثر.

قال: ولأجل التخفيف والاختصار استعمل لفظ (الرحمة) و(الغضب) و(الرضا) و(الحبّ) و(المقت) في أوصاف الله تعالى، مع أنّه لا يوصف بها حقيقة؛ لأنّه لو غيّر عن ذلك بألفاظ الحقيقة لطال الكلام.

كأن يقال: يعامله معاملة المحبّ، والماقت... فالمجاز في مثل هذا أفضل من الحقيقة؛ لخفّته واختصاره، وابتنائه على التشبيه البليغ.

فإنّ قوله تعالى: ( فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ) (9) أحسن من (فلمّا عاملونا معاملة المغضب) أو (فلمّا أتوا إلينا بما يأتيه المغضب) (10) .

سورة الكوثر:

وللزمخشري بيان لطيف عن دقائق هذه السورة المباركة وبدائع نكتها على قصرها ووجازتها (11) ، وقد لخّصها وجمع ظرائفها وطرائفها العلاّمة الطبرسي في تفسيره (جوامع الجامع) كما يلي:

____________________

(1) البقرة: 62.

(2) يوسف: 91.

(3) البقرة: 177.

(4) الأحقاف: 21.

(5) البقرة: 184.

(6) لقمان: 11.

(7) البقرة: 3.

(8) البقرة: 230.

(9) الزخرف: 55.

(10) الإتقان: ج4 ص23.

(11) راجع التمهيد: ج5 ص605 - 634.

٢١٨

انظر في نظم هذه السورة الأنيق وترتيبه الرشيق، مع قصرها ووجازتها، وتَبصّر كيف ضمّنها الله النكت البديعة:

1 - حيث بنى الفعل في أوّلها على المبتدأ، ليدّل على الخصوصية.

2 - وجمع ضمير المتكلم؛ ليأذن بكبريائه وعظمته.

3 - وصَدّر الجملة بحرف التأكيد، الجاري مجرى القسم.

4 - وأتى بالكوثر، المحذوف الموصوف؛ ليكون أدلّ على الشياع، والتناول على طريق الاتّساع.

5 - وعقّب ذلك بفاء التعقيب؛ ليكون القيام بالشكر الأوفر مسبّباً عن الإنعام بالعطاء الأكثر.

6 - وقوله: ( لربّك ) تعريض بدين من تعرّض له بالقول المؤذي، من ابن وائل وأشباهه، ممّن كان عبادته ونحره لغير الله.

7 - وأشار بهاتين العبادتين إلى نوعي العبادات البدنية، التي كانت الصلاة إمامها، والمالية التي كان نَحر البُدن سنامها.

8 - وحذف اللام الأُخرى (1) ، إذ دلّت عليها الأُولى، ولمراعاة حقّ التسجيع الذي هو من جملة نظمه البديع.

9 - وأتى بكاف الخطاب على طريقة الالتفات؛ إظهاراً لعلوّ شأنه، وليُعلم بذلك أنّ من حقّ العبادة أن يقصد بها وجه الله خالصاً.

10 - ثم قال: ( إنّ شانئك ) فعلّل ما أمره، بالإقبال على شانئه وقلّة الاحتفال بشانئه، على سبيل الاستيناف، الذي هو جنس من التعليل رائع.

11 - وإنّما ذكره بصفته لا باسمه؛ ليتناول كلّ من أتى بمثل حاله.

12 - وعرّف الخبر؛ ليتمّ له البتر.

____________________

(1) أي لم يقل: وانحر لربّك.

٢١٩

13 - وأفحم الفصل؛ لبيان أنّه المعيّن لهذا النقص والعيب.

14 - وذلك كلّه، مع علوّ مطلعها وتمام مقطعها، وكونها مشحونةً بالنكت الجليلة، مكتنزةً بالمحاسن غير القليلة، ممّا يدلّ على أنّه كلام ربّ العالمين، الباهر الكلام المتكلّمين.

فسبحان مَن لو لم يُنزل إلاّ هذه السورة الواحدة الموجزة لكفى بها آية معجزة، ولو همّ الثقلان أن يأتوا بمثلها لشاب الغراب، وساب الماء كالسراب، قبل أن يأتوا به.

15 - وفيها أيضاً دلالة على أنّها معجزة وآية بيّنة من وجه آخر، وهو: أنه إخبار بالغيب، من حيث إنّه أخبر عمّا جرى على ألسنة أعدائه، فكان كما أخبر، ووافق الخبرُ المُخبر في إعطائه الكوثر؛ إذ علت كلمتُه، وانتشرت في العالم ذرّيته، وانبتر أمر شانئه الأبتر، وانقطع ذنبُه وعقبه كما ذكر (1) .

دعوة زكريا ربّه:

هناك وقع نداء زكريا ربّه - فيما حكى الله سبحانه -: ( قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) (2) موقع إعجاب وإكبار علماء المعاني والبيان، بهرتهم لطافة صنعه وأناقة رصفه، مشتملاً على مزايا ومحاسن جمّة لا يحويها سائر الكلام، وقد تعرّض لها صاحب (الطراز) وعدّد محاسنها درجة درجة حتى بلغ العشرة عدد الكمال، وقدّم لذلك مقدّمة قال فيها:

اعلم أنّ القرآن إنّما صار معجزاً؛ لكونه دالاً على تلك المحاسن والمزايا التي لم يختصّ بها غيره من سائر الكلام، ولا يجوز أن تكون راجعة إلى الدلالات الوضعية، سواء كانت باعتبار دلالتها على معانيها الوضعية، أو مجردة عنها، وقد ذهب إلى ذلك أقوامٌ، وهو فاسد لأمرين، أمّا (أوّلاً) ؛ فلأنّ الكلمة الواحدة قد تكون

____________________

(1) تفسير جوامع الجامع: ص 554.

(2) مريم: 4.

٢٢٠