تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد10%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 105059 / تحميل: 10689
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

حليف النسيان، أمّا بلوغ الأقصى والكمال الأوفى الذي حدّ الإعجاز فهو خاصّ بذي الجلال المحيط بكلّ الأحوال.

وفي ذلك يقول السكّاكي: البلاغة تتزايد إلى أن تبلغ حدّ الإعجاز، وهو الطرف الأعلى وما يقرب منه (١) ، ومنه أخذ الخطيب القزويني: وللبلاغة في الكلام طرفان، أعلى وهو حدّ الإعجاز وما يقرب منه، وأسفل وهو ما إذا غيّر الكلام إلى ما دونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات (٢) .

إذاً فالطرف الأعلى وما يقرب منه، كلاهما حدّ الإعجاز، على ما حدّده السكّاكي، وبذلك يكون اختلاف مراتب آيات القرآن في الفصاحة والبيان كلّه داخلاً في حدّ الإعجاز الذي لا يبلغه البشر، وهذا هو الصحيح على ما سنبيّن.

وبعد، فالمتلخصّ من هذا البيان: أنّ التفاضل بين كلامينِ أو التماثل بينهما إنّما يتحقّق بهذه الاعتبارات - التي هي مقاييس لدرجة فضيلة الكلام - وهي من قبيل المعنى أكثر مِمّن كونها من قبيل اللفظ، فليس المقصود بالتحدّي المعارضة في التشاكل اللفظي والتماثل في صورة الكلام فحسب، كما حسبه مسيلمة الكذّاب ومَن حذا حذوه من أغبياء القوم.

* * *

____________________

(١) مفتاح العلوم: ص١٩٦ - ١٩٩.

(٢) المطوّل للتفتازاني: ص٣١ طبعة استنبول.

٢١

سرّ الإعجاز

وجوه الإعجاز في مختلف الآراء والنظرات:

اختلفت أنظار العلماء في وجه إعجاز القرآن بين مَن أنهاه إلى عدّة وجوه ومَن اقتصر على وجه واحد، ولا يزال البحث مستمرّاً على هذا السر الذي هو دليل الإسلام.

١ - ذهب أرباب الأدب والبيان إلى أنّها الفصاحة البالغة والبلاغة الفائقة، إنْ في بديع نَظمه أو في عجيب رصفه، الذي لم يسبق له نظير ولن يَخلفه بديل.

قد نُضّدت عباراته نضداً مؤتلفاً، ونُظّمت فرائده نظماً متلائماً، وُضعت كلّ لفظة من في موضعها اللائق بها، ورُصّفت كلّ كلمة منه إلى كلمات تناسبها وتوائمها، وضعاً دقيقاً ورصفاً تامّاً، يجمع بين أناقة التعبير وسلاسة البيان، وجزالة اللفظ وفخامة الكلام، حلواً رشيقاً وعذباً سائغاً، ويستلذّه الذوق ويستطيبه الطبع، ممّا يستشفّ عن إحاطة واسعة ومعرفة كاملة بأوضاع اللغة ومزايا الألفاظ والكلمات والتعابير، ويقصر دونه طوق البشر المحدود!

قالوا في دقّة هذا الرصف والنَضد: لو انتُزعت منه لفظة ثُمّ أُدير بها لغة العرب كلّها على أن يوجد لها نظير في موضعها الخاصّ لم توجد البتة.

٢٢

٢ - وزادوا جانب أُسلوبه وسبكه الجديد على العرب، لا هو شعر كشعرهم ولا هو نثر كنثرهم، ولا فيه تكلّف أهل الكهانة والسجع، قد جمع مزايا أنواع الكلام، فيه أناقة الشعر، وطلاقة النثر، وجزالة السجع الرصين، في حلاوة وطلاوة وزهوٍ وجمال: (إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة، وإنّه يعلو ولا يُعلى) كلام قاله عظيم العرب وفريدها الوليد.

أو كما قال الراغب: القرآن حاوٍ لمحاسن أنواع الكلام بنظمٍ ليس هو نظم شيء منها.

٣ - وتوسّع المحدثون في البحث وراء نظامه الصوتي العجيب:

أنغام وألحان تبهر العقول وتذهل النفوس، نُظّمت كلماته على أنظمة صوتية دقيقة، ورُصّفت ألفاظه وعباراته على ترصيفات موسيقية رقيقة، متناسبات الأجراس، متناسقات التواقيع، في تقاسيم وتراكيب سهلة سلسلة، عذبة سائغة، ذات رنّة وجذبة شعرية عجيبة، واستهواءٍ سحريّ غريب!

٤ - وأضاف المحقّقون جانب اشتماله على معارف سامية وتعاليم راقية تُنبئك عن لطيف سرّ الخليقة، وبديع فلسفة الوجود، في جلال وجمال وعظمة وكبرياء، بما يترفّع كثيراً عمّا راجت في تعاليم مصطنعة ذلك العهد، سواءٌ في أوساط أهل الكتاب أم الوثنيّين.

٥ - وهكذا تشريعاته جاءت حكيمة ومتينة، متوافقة مع الفطرة ومتوائمة مع العقل السليم، في طهارة وقداسة وسعة وشمول، كانت جامعةً كاملةً كافلةً؛ لإسعاد الحياة في النشأتَينِ.

٦ - وكانت براهينه ساطعة، ودلائله ناصعة، واضحة ولائحة، قامت على صدق الدعوة وإثبات الرسالة، في بيانٍ رصين، ومنطقٍ رزين وفصل خطاب.

٧ - واشتمالُه على على أنباء غيبية، إمّا سالفة كانت محرّفةً سقيمةً فجاءت محرّرة سليمة في القرآن الكريم، أو إخبار عمّا يأتي تحقّق صدقها بعد فترة قصيرة أو

٢٣

طويلة، كانت شاهدة صدق على الرسالة.

٨ - إلى جنب إشارات علمية عابرة إلى أسرار من هذا الكون الفسيح، وإلماعات خاطفة إلى حقائق من خفايا الوجود، ممّا لا تكاد تبلغه معرفة الإنسان العائش يومذاك.

٩ - وأخيراً استقامته في البيان، وسلامته من أيّ تناقض أو اختلاف، في طول نزوله، وكثره تكراره لسرد حوادث الماضين، كلٌّ مشتمل على مزية ذات حكمة لا توجد في أختها، وكذا خلوّه عن الأباطيل وعمّا لا طائل تحتها.

تلك روائع آراء نتجتها أنظار الأُدباء، وبدائع أسرار وصلت إليها أفكار العلماء، كانت مِن وجوه إعجاز القرآن ومزاياه الوسيمة، سوف نسرد عليك تفاصيلها في مجالها الآتي إن شاء الله.

١٠ - لكن هناك وجه آخر يجعل من الإعجاز أمراً خارجيّاً عن جوهر القرآن بعيداً عن ذاته، وإنّما هو لعجزٍ أَحدثه الله في أَنفس العرب والناس جميعاً، ومنعهم دون القيام بمعارضته قهراً عليهم، وهو القول بالصرفة، الذي عليه بعض المتكلّمين الأوائل ومَن لفّ لفّهم من الكُتّاب الأُدباء.

وسنتعرّض لتفنيده وتزييفه على منصّة البحث والاختبار، بعونه تعالى.

وبعد، فإليك تفصيل آراء ونظرات حول إعجاز القرآن، مِن القدماء والمحدثين لها قيمتها في عالم الاعتبار.

* * *

٢٤

آراءٌ ونظراتٌ عن إعجاز القرآن

(أَوّلاً) في دراسات السابقين:

هناك للعلماء - سلفاً وخلفاً - بحوث ودراسات وافية حول مسألة إعجاز القرآن، مُنذ مطالع القرون الأُولى فإلى هذا الدور، ولهم كلمات ومقالات ضافية عن وجه هذا الإعجاز المُتحدّي به من أَوّل يومه، ولا يزال مُستمرّاً عِبر الخلود ولهذه الأبحاث والدراسات قيمتها ووزنها العلمي النظري في كلّ عصر وفي كلّ دور، وأنّ الفضل يرجع إلى الأسبق ممّن فتح هذا الباب وأَسّس أساس هذا البنيان، فكان مَن يأتي مِن بعد، إنّما يجري على منواله ويضرب على ذات وتره، مهما تغيّر اللون أو تنوّع الأُسلوب. ونحن نقدّم من آراء مَن سلف الأهمّ منها فالأهمّ، ثُمّ نعقبها بطرف من آراء المتأخّرين ممّن قاربنا عصره، وعلى أيّ تقدير، فإنّ مساعيهم جميعاً مشكورة، ومواقفهم في استنباط حقائق من الكتاب العزيز مقدّرة، فلله درّهم وعليه أجرهم، وإليك:

* * *

٢٥

١ - رأي أبي سليمان البُستي:

يرى أبو سليمان حمد بن محمّد بن إبراهيم الخطّابي البُستي (١) (توفّي سنة ٣٨٨هـ) في رسالته الوجيزة التي وضعها في بيان إعجاز القرآن - ولعلّه أَسبق مِن توسّع في هذا البحث أفاد وأجاد -: أنّ الإعجاز قائم بنظمه، ذلك المتّسق البديع ورصفه، ذلك المؤتلف العجيب، قد وُضعت كلّ كلمة في موضعها اللائق بدقّة فائقة، ممّا يستدعي إحاطة شاملة تعوزها البشرية على الإطلاق، الأمر الذي أبهر وأعجب.

قال: قد أكثر الناس الكلام في هذا الباب قديماً وحديثاً، وذهبوا فيه كلّ مذهب من القول وما وجدناهم بعدُ، صَدَروا عن ريٍّ؛ وذلك لتعذر معرفة وجه الإعجاز في القرآن، ومعرفة الأمر في الوقوف على كيفيّته، فأمّا أن يكون قد نقبت في النفوس نقبة (٢) بكونه معجزاً للخلق ممتنعاً عليهم الإتيان بمِثله على حال، فلا موضع لها، والأمر في ذلك أَبين مِن أن نحتاج إلى أن نُدِلّ عليه بأكثر من الوجود القائم المستمرّ على وجه الدهر، من لدن عصر نزوله إلى الزمان الراهن الذي نحن فيه، وذلك أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قد تحدّى العرب قاطبةً بأن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا

____________________

(١) نسبة إلى بُست مدينة من بلاد كابل كانت محلّ إقامته، وينتهي نسبه إلى زيد بن الخطّاب أخي عمر بن الخطّاب، أديب لغوي ومحدّث كبير، قيل: هو أوّل من كتب في الإعجاز وطرق هذا الباب.

لكن ذَكَر ابن النديم لمحمّد بن زيد الواسطي - الذي هو من أجلّة المتكلّمين وكبارهم وصاحب كتاب (الإمامة) المُتوفّى سنة ٣٠٧هـ - كتاباً أسماه (إعجاز القرآن في نظمه وتأليفه)، (راجع الفهرست: ص٦٣ و٢٥٩، والذريعة: ج٢، ص٢٣٢، رقم ٩١٧).

وقبله أبو عبيدة معمّر بن المثنّى (توفيّ سنة ٢٠٩هـ) له كتاب (إعجاز القرآن) في جزءَين، وهو مِن أَوّل الدراسات القرآنية التي ظهر فيها الاتجاه إلى الكشف عن أسرار أُسلوب القرآن، وقد نشره الخانجي بمصر سنة ١٩٥٥م (راجع مقدّمة الطبعة الثانية لكتاب (ثلاث رسائل في إعجاز القرآن): ص٥، والتمهيد: ج١، ص٨).

(٢) أَي أُلقيت في النفوس إلقاءً، وهو قول قريب من القول بالصرفة، ومِن ثَمّ رفضه.

٢٦

عنه وانقطعوا دونه، وقد بقيَ (صلّى الله عليه وآله) يُطالبهم به مدّة عشرين سنة، مُظهِراً لهم النكير، زارياً على أديانهم، مُسفِّهاً آراءهم وأحلامهم، حتى نابذوه وناصبوه الحرب فهلكت فيه النفوس، وأُريقت المُهج، وقُطعت الأرحام، وذهبت الأموال.

ولو كان ذلك في وسعهم وتحت أقدارهم لم يتكلّفوا هذه الأُمور الخطيرة، ولم يركبوا تلك الفواقر المبيرة (١) ، ولم يكونوا تركوا السَهل الدَمِث من القول، إلى الحَزِن الوعر من الفعل (٢) .

هذا مالا يفعله عاقل ولا يختاره ذو لبّ، وقد كان قومه قريش خاصّة موصوفين برزانة الأحلام ووفارة العقول والألباب، وقد كان فيهم الخطباء المصاقع والشعراء المفلّقون (٣) ، وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بالجدل واللَّدَد، فقال سبحانه: ( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) (٤) ، وقال سبحانه: ( وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً ) (٥) ، فكيف كان جوز - على قول العرب ومجرى العادة مع وقوع الحاجة ولزوم الضرورة - أن يغفلوه ولا يهتبلوا الفرصة فيه (٦) وأن يضربوا عنه صَفحاً، ولا يجوزوا الفلح والظفر فيه، لولا عدم القدرة عليه والعجز المانع منه.

قال: وهذا - من وجوه ما قيل فيه - أبينُها دلالةً وأَيسرها مؤونةً، وهو مُقنع لمَن تُنازعه نفسه مطالعة كيفية وجه الإعجاز فيه (٧) .

٢ - اختيار ابن عطيّة:

ولأبي محمّد عبد الحقّ بن غالب المحاربي الغرناطي - الفقيه المفسّر (توفّي

____________________

(١) الفاقرة: الداهية، والإبارة: الإهلاك.

(٢) الدماثة: السهولة، يقال: أرض دمث أي ذَلول، ضد الحزونة والوعورة.

(٣) المصقع: البليغ، وشاعر مفلّق - بزنة اسم الفاعل - مُبدع.

(٤) الزخرف: ٥٨.

(٥) مريم: ٩٧.

(٦) اهتبال الفرصة: اغتنامها.

(٧) أي وهذا أيسر الوجوه لمَن أراد الاقتناع النفسي ولو تقليداً وليس تحقيقاً.

٢٧

سنة ٥٤٢هـ) - اختيار يشبه اختيار أبي سليمان البُستي، ولعلّه اختزال منه، ذَكره في مقدّمة تفسيره (المحرّر) ونقله الإمام بدر الدين الزركشي، مع تصرّف واختصار.

قال ابن عطيّة: إنّ الذي عليه الجمهور والحذّاق - وهو الصحيح في نفسه - أنّ التحدّي إنّما وقع بنظمه، وصحّة معانيه، وتوالي فصاحة ألفاظه، ووجه إعجازه أنّ الله قد أحاط بكلّ شيء علماً، وأحاط بالكلام كلّه علماً، فإذا ترتّبت اللفظة من القرآن علم - بإحاطته - أيّ لفظة تصلح أن تلي الأُولى، ويتبيّن المعنى دون المعنى، ثُمّ كذلك من أَوّل القرآن إلى آخره.

والبشر معهم الجهل والنسيان والذهول، ومعلومٌ ضرورةً أنّ بشراً لم يكن قطّ مُحيطاً، فبهذا جاء نظم القرآن، في الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا النظر يَبطل قول مَن قال: إنّ العرب كان في قدرتها الإتيان بمِثله، فلمّا جاءهم محمّد (صلّى الله عليه وآله) صُرفوا عن ذلك وعَجزوا عنه! والصحيح أنّ الإتيان بمِثل القرآن لم يكن قطّ في قدرة أحد مِن المخلوقين، ويظهر لك قصور البشر، في أنّ الفصيح منهم يضع خطبةً أو قصيدةً يستفرغ فيها جهده، ثُمّ لا يزال يُنقِّها حولاً كاملاً، ثُمّ تُعطى لأحد نظيره فيأخذها بقريحة خاصّة فيُبدّل فيها ويُنقّح، ثُمّ لا تزال كذلك فيها مواضع للنظر والبدل.

وكتاب الله سبحانه لو نُزعت منه لفظة، ثمّ أُدير لسان العرب على لفظة في أن يوجد أحسن منها لم توجد، ونحن تتبيّن لنا البراعة في أكثره، ويخفى علينا وجهها في مواضع؛ لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذٍ في سلامة الذوق، وجودة القريحة، وميز الكلام.

قال: وقامت الحجّة على العالم بالعرب؛ إذ كانوا أرباب الفصاحة وفطنة المعارضة كما قامت الحجّة في معجزة عيسى بالأطبّاء، وفي معجزة موسى بالسَحَرة، فإنّ الله تعالى إنّما جعل معجزات الأنبياء بالوجه الشهير أَبرع ما يكون في زمن النبيّ الذي أراد إظهاره، فكان السحر في مدّة موسى قد انتهى إلى غايته،

٢٨

وكذلك الطبّ في زمن عيسى، والفصاحة في مدّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) (١) .

٣ - رأي عبد القاهر الجرجاني:

يرى الشيخ الإمام عبد القاهر الجرجاني (تُوفّي سنة ٤٧٢هـ) - وهو الواضع الأَوّل لأُسس عِلمَي المعاني والبيان -: أنّ إعجاز القرآن الذي تحدّى به العرب قائم بجانب فصاحته البالغة وبلاغته الخارقة، وبأُسلوب بيانه ذلك البديع، ممّا هو شأن نظم الكلام وتأليفه في ذلك التنافس والتلاؤم العجيب، الأمر الذي لا يمسّ شيئاً من معاني القرآن وحِكَمِه وتشريعاته، وهي كانت موجودةً من ذي قبل في كتب السالفين، وقد أطلق لهم المعاني من أيّ نمط كانت.

وقد وضع كتابَيه (أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز) تمهيداً لبيان وجوه إعجاز القرآن لمن مارس أسرار هذا العلم. وثَلّثهما برسالته (الشافية) التي خصّصها بالكلام حول إعجاز القرآن والإجابة على أسئلة دارت حول الموضوع.

قال - في مقدّمة كتابه (دلائل الإعجاز) بعد أن أشاد بشأن النَظم في الكلام وتأليفه وتنسيقه -: وإذا كان ذلك كذلك فما جوابنا لخصم يقول لنا: إذا كانت هذه الأُمور الوجوه من التعلّق التي هي محصول النظم موجودة على حقائقها وعلى الصحّة وكما ينبغي في منثور كلام العرب ومنظومه، ورأيناهم قد استعملوها وتصرّفوا فيها وكملوا بمعرفتها، وكانت حقائق لا تتبدّل ولا يختلف بها الحال، إذ لا يكون للاسم بكونه خبراً لمبتدأ أو صفة لموصوف أو حالاً لذي حال أو فاعلاً أو مفعولاً لفعل في كلام حقيقة هي خلاف حقيقته في كلام آخر.

فما هذا الإعجاز الذي تجدّد بالقرآن من عظيم مزيّة، وباهر الفضل، والعجيب من الوصف، حتّى أعجز الخلق قاطبةً، وحتّى قهر من البلغاء والفصحاء القُوَى

____________________

(١) المحرّر الوجيز: المقدّمة ج١، ص٧١ - ٧٢، وراجع الزركشي في البرهان: ج٢، ص٩٧.

٢٩

والقُدَر، وقيّد الخواطر والفكر، حتّى خرست الشقاشق (١) وعدم نطق الناطق، وحتّى لم يجرِ لسان، ولم يبنِ بيان، ولم يساعد إمكان، ولم ينقدح لأحد منهم زند، ولم يمضِ له حدّ، وحتّى أَسال الوادي عليهم عجزاً، وأخذ منافذ القول عليهم أخذاً؟!

أَيلزمنا أن نجيب هذا الخصم عن سؤاله، ونردّه عن ضلاله، وأن نطبّ لدائه، ونزيل الفساد عن رائه (٢) ؟ فإن كان ذلك يلزمنا فينبغي لكلّ ذي دين وعقل أن ينظر في الكتاب الذي وضعناه (يريد نفس كتاب دلائل الإعجاز) ويستقصي التأمّل لما أودعناه (٣) .

وكرّ في الكتاب قائلاً: وإنّه كما يَفضل النظمُ النظمَ، والتأليفُ التأليفَ، والنسجُ النسجَ، والصياغةُ الصياغةَ، ثُمّ يعظُم الفضل، وتكثر المزيّة، حتّى يفوق الشيء نظيره، والمجانس له درجات كثيرة، وحتّى تتفاوت القيم التفاوت الشديد، كذلك يفضل بعضُ الكلام بعضاً، ويتقدّم منه الشيء الشيء، ثُمّ يزداد من فضله ذلك، ويترقّى منزلةً فوق منزلة، ويعلو مرقباً بعد مَرْقب، ويستأنف له غاية بعد غاية، حتّى ينتهي إلى حيث تنقطع الأطماع، وتنحسر الظنون، وتسقط القُوى، وتستوي الأقدام في العجز (٤) .

ثم قال: واعلم أنّه لا سبيل إلى أن تعرف صحّة هذه الجملة حتّى يبلغ القول غايته، وينتهي إلى آخر ما أردت جمعه لك، وتصويره في نفسك، وتقريره عندك، إلاّ أنّ هاهنا نكتة، إن أنت تأمّلتها تأمّل المُتثبّت، ونظرت فيها نظر المُتأنّي، رجوت أن يحسن ظنّك، وأن تنشط للإصغاء إلى ما أورده عليك، وهي: إنّا إذا سقنا دليل

____________________

(١) الشقاشق: جمع شقشقة - بكسر الشين - وهي لهاة البعير أو شيء كالرئة يُخرجه البعير من فيه إذا هاج، ويُقال للفصيح: هدرتْ شقاشقه، يُريدون الانطلاق في القول وقوّة البيان، ويُقال في مقابل ذلك: خرست شقاشقه.

(٢) الراء: الرأي.

(٣) في مقدمة دلائل الإعجاز: ص (ف - ص).

(٤) دلائل الإعجاز: ص٢٥ - ٢٦.

٣٠

الإعجاز فقلنا: لولا أنّهم حين سمعوا القرآن، وحين تحدّوا إلى معارضته، سمعوا كلاماً لم يسمعوا قطّ مِثله، وأنّهم قد رازوا أنفسهم (١) فأحسّوا بالعجز على أن يأتوا بما يوازيه أو يدانيه، أو يقع قريباً منه، لكان محالاً أن يدّعوا معارضته وقد تحدّوا إليه، وقرعوا فيه، وطولبوا به، وأن يتعرّضوا لشبا الأسنّة (٢) ويقتحموا موارد الموت.

فقيل لنا: قد سمعنا ما قلتم، فخبّرونا عنهم، عمّاذا عجزوا، أَعَن معانٍ من دقة معانيه وحسنها وصحّتها في العقول؟ أم عن ألفاظ مِثل ألفاظه؟ فإن قلتم: عن الألفاظ، فماذا أَعجزهم من اللفظ، أم بهرهم منه؟

فقلنا: أَعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نَظمه، وخصائص صادفوها في سياق لفظه، وبدائع راعتهم من مبادئ آيه ومقاطعها، ومجاري ألفاظها ومواقعها، وفي مضرب كلّ مثل، ومساق كلّ خبر، وصورة كلّ عظة وتنبيه وإعلام وتذكير وترغيب وترهيب، ومع كلّ حجّة وبرهان، وصفة وتبيان، وبهرهم أنّهم تأمّلوه سورة سورة، وعشراً عشراً، وآية آية، فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها ولفظة ينكر شأنها، أو يَرى أنّ غيرها أصلح هناك أو أشبه، أو أحرى وأخلق، بل وجدوا اتّساقاً بَهر العقول، وأَعجز الجمهور، ونظاماً والتئاماً، وإتقاناً وإحكاماً، لم يدع في نفس بليغ منهم لو حكّ بيافوخه السماء (٣) موضع طمع حتّى خرست الألسن عن أن تدّعي وتقول، وخلدت القُروم (٤) فلم تملك أن تصول (٥) .

ويُعقّب ذلك بأنّ هذه كانت دلائل إعجاز القرآن، ومزايا ظهرت في نَظمه وسياقه، بَهرت العرب الأوائل، فهل ينبغي للفتى الذكي العاقل أن يكون مُقلّداً في

____________________

(١) يقال: رَاز الحجر أي وَزنه ليَعرف ثقله، ورَاز الرجل: جرّب ما عنده ليختبره.

(٢) الشبا: جمع شَبوة، وهي إبرة العقرب، وحدّ كلّ شيء.

(٣) اليافوخ: مقدّمة الدماغ في الرأس وهو مَثل يُضرب لمَن يستعلي ويتكبّر.

(٤) القَرم - بالفتح -: الفحل إذا تُرك عن الركوب والعمل.

(٥) دلائل الإعجاز: ص ٢٧ - ٢٨.

٣١

ذلك؟ أم يكون باحثاً ومتتبّعاً كي يعلم ذلك بيقين؟ ومِن ثَمّ وَضع كتابه الحاضر (دلائل الإعجاز) ليَدلّ الناشدينَ على ضالّتهم، ويضع يدهم على مواقع الإعجاز من القرآن، ويدعم مُدّعاه في ذلك بالحجّة والبرهان، والرائد لا يُكذِّب أهله، قال: وبذلك قد قطعتُ عذرَ المتهاون، ودللت على ما أضاع من حظّه، وهدايته لرشده (١) .

وقال - في رسالته (الشافية): كيف يجوز أن يظهر في صميم العرب وفي مِثل قريش ذوي الأَنفس الأبيّة والهِمم العليّة والأَنفة والحميّة مَن يدّعي النبوّة ويقول: وحجّتي أنّ الله قد أنزل عليّ كتاباً تعرفون ألفاظه وتفهمون معانيه، إلاّ أنّكم لا تقدرون على أن تأتوا بمثله ولا بعشر سورٍ منه ولا بسورة واحدة، ولو جَهدتم جهدَكم واجتمع معكم الجنّ والإنس، ثُمّ لا تدعوهم نفوسهم إلى أن يعارضوه ويبيّنوا سَرَفه في دعواه، لو كان ممكناً لهم، وقد بلغ بهم الغيظ من مقالته حدّاً تركوا معه أحلامهم وخرجوا عن طاعة عقولهم، حتّى واجهوه بكلّ قبيح وَلَقوه بكلّ أذىً ومكروه ووقفوا له بكلّ طريق.

وهل سُمع قطّ بذي عقل استطاع أن يخرس خصمه بكلمة يجيبه بها، فيترك ذلك إلى أُمور ينسب معها إلى ضيق الذَرع، وأنّه مغلوب قد أَعوزته الحيلة وعزّ عليه المَخلص؟ وهل مِثل هذا إلاّ مِثل رجل عَرض له خصم فادّعى عليه دعوى خطيرة وأقام على دعواه بيّنةً، وكان عند المدّعى عليه ما يُبطل تلك البيّنة أو يُعارضها، فيترك إظهار ذلك ويضرب عنه الصفح جملةً، ليصير الحال بينهما إلى جِدال عنيف وإخطار بالمُهج والنفوس؟ قال: هذه شهادة الأحوال، وأمّا شهادة الأقوال فكثيرة (٢) .

ثمّ قال: في وجه التحدّي -: لم يكن التحدّي إلى أن يُعبّروا عن معاني القرآن أنفسها وبأعيانها بلفظ يُشبه لفظه ونَظم يوازي نظمه، هذا تقدير باطل، فإنّ التحدّي

____________________

(١) دلائل الإعجاز: ص٢٩.

(٢) الشافية (المطبوعة ضمن ثلاث رسائل): ص١٢٠ - ١٢٢.

٣٢

كان إلى أن يجيئوا، في أيّ معنى شاءوا من المعاني، بنَظم يبلغ نظم القرآن، في الشرف أو يقرُب منه، يدلّ على ذلك قوله تعالى: ( قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ) (١) أي مِثله في النظم، وليكن المعنى مُفترى لِما قلتم، فلا إلى المعنى دعيتم، ولكن إلى النظم... (٢) .

قال: ويجزم القول بأنّهم تحدّوا إلى أن يجيئوا في أيّ معنى أرادوا مطلقاً غير مقيّد، وموسّعاً عليهم غير مضيّق، بما يشبه نظم القرآن أن يقرب من ذلك (٣) .

٤ - رأي السكّاكي:

يرى أبو يعقوب يوسف بن محمّد بن علي السكّاكي - صاحب (مفتاح العلوم) (توفّي سنة ٥٦٧ هـ) - أنّ الإعجاز في القرآن أمرٌ يُمكن دركه ولا يمكن وصفه، والمَدرك هو الذوق، الحاصل من ممارسة عِلمَي الفصاحة والبلاغة وطول خدمتهما لا غير، فقد جعل للبلاغة طرفينِ، أعلى وأسفل وبينهما مراتب لا تُحصى، والدرجة السُفلى هي التي إذا هبط الكلام عنها شيئاً التَحق بأصوات الحيوانات، ثُمّ تتزايد درجةً درجةً متصاعدة، حتّى تبلغ قمّتها وهو حدّ الإعجاز، وهو الطرف الأعلى وما يقرب منه، فقد جعل من الدرجة القصوى وما يقرب منها كليهما مِن حدّ الإعجاز.

ثُمّ قال بشأن الإعجاز: واعلم أنّ شأن الإعجاز عجيب، يُدرك ولا يُمكن وصفه، كاستقامة الوزن تُدرك ولا يُمكن وصفها، وكالمَلاحة، ومَدرك الإعجاز عندي هو الذوق ليس إلاّ، وطريق اكتساب الذوق طول خدمة هذينِ العِلمَينِ (المعاني والبيان).

ثمّ أخذ في تحديد البلاغة وإماطة اللثام عن وجوهها المُحتجبة، وكذا

____________________

(١) هود: ١٣.

(٢) الشافية: ص١٤١ و١٤٤.

(٣) الشافية: ١٤١ و١٤٤.

٣٣

الفصاحة بقسميها اللفظيّ والمعنويّ، وضرب لذلك مثلاً بآية ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ... ) (١) وبيان جهاتها الأربع من جهتي المعاني والبيان، وهما مَرجعا البلاغة، ومِن جهتي الفصاحة المعنوية واللفظية، وأسهب في الكلام عن ذلك، وقال أخيراً: ولله دَرّ التنزيل، لا يتأمّل العالم آية من آياته إلاّ أدرك لطائف لا تسع الحصر (٢) .

وغرضه من ذلك: أنّ لحدّ الإعجاز ذروةً لا يبلغها الوصف، ولكن يُمكن فهمها ودرك سَنامها؛ بسبب الإحاطة بأسرار هذين العِلمَينِ، فهي حقيقة تُدرك ولا توصف.

٥ - رأي الراغب الأصفهاني:

لأبي القاسم الحسين بن محمّد المعروف بالراغب الأصفهاني (توفّي سنة ٥٠٢ هـ) - صاحب كتاب (المفردات) - رأي في إعجاز القرآن يخصّه، إنّه يرى من الإعجاز قائماً بسبكه الخاصّ الذي لم يألفه العرب لحدّ ذاك، فلا هو نثر كنثرهم المعهود؛ لأنّ فيه الوزن والقافية وأجراس النغم، ولا هو شعر؛ لأنّه لم يجرِ مجرى سائر أشعار العرب ولا على أوزانها المعروفة وإن كانت له خاصّية الشعر من التأثير في النفس بلحنه الشعريّ النغميّ الغريب.

قال - بعد كلام له في وصف إعجاز القرآن قدّمناه آنفاً (٣) -:

وهذه الجملة المذكورة، وإن كانت دالّةً على كون القرآن مُعجزاً، فليس بمقنع إلاّ بتبيين فصلَينِ:

أحدهما: أن يُبيّن ما الذي هو مُعجز: اللفظ أم المعنى أم النظم؟ أم ثلاثتها؟ فإنّ كلّ كلام منظوم مشتمل على هذه الثلاثة.

والثاني: أنّ المُعجز هو ما كان نوعه غير داخل تحت الإمكان، كإحياء الموتى

____________________

(١) هود: ٤٤.

(٢) مفتاح العلوم: ص١٩٦ - ١٩٩.

(٣) في ص ١٢ - ١٤.

٣٤

وإبداع الأجسام.

فأمّا ما كان نوعه مقدوراً، فمحلّه محلّ الأفضل، وما كان من باب الأفضل في النوع فإنّه لا يحسم نسبة ما دونه إليه، وإن تباعدت النسبية حتّى صارت جزءً مِن ألف، فإن النجّار الحاذق وإن لم يُبلغ شَأوُه لا يكون مُعجزاً إذا استطاع غيره جنسَ فِعْلِه، فنقول وبالله التوفيق:

إنّ الإعجاز في القرآن على وجهين: أحدهما إعجاز متعلّق بفصاحته، والثاني بصرف الناس عن معارضته.

فأمّا الإعجاز المتعلّق بالفصاحة: فليس يتعلّق ذلك بعنصريه الذي هو اللفظ والمعنى؛ وذاك أنّ ألفاظه ألفاظهم، ولذلك قال تعالى: ( قُرْآناً عَرَبِيّاً ) (١) وقال: ( ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ) (٢) تنبيهاً أن هذا الكتاب مُركّب من هذه الحروف التي هي مادّة الكلام.

ولا يتعلّق أيضاً بمعانيه، فإن كثيراً منها موجود في (الكتب المتقدّمة) ولذلك قال تعالى: ( وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ ) (٣) وقال: ( أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى ) (٤) ، وما هو مُعجز فيه من جهة المعنى كالإخبار بالغيب فإعجازه ليس يرجع إلى القرآن بما هو قرآن، بل هو لكونه خبراً بالغيب، وذلك سواء كونه بهذا النظم أو بغيره، وسواء كان مورداً بالفارسيّة أو بالعربيّة أو بلغة أُخرى، أو بإشارة أو بعبارة.

فإذا بالنَظم المخصوص صار القرآن قرآناً، كما أنّه بالنَظم المخصوص صار الشعر شعراً، والخطبة خطبةً.

فالنظم صورة القرآن، واللفظ والمعنى عنصراه، وباختلاف الصور يختلف حكم الشيء واسمه لا بعنصره، كالخاتم والقُرط والخَلخال اختلفت أحكامها وأسماؤها باختلاف صورها لا بعنصرها الذي هو الذهب والفضّة، فإذا ثَبت هذا

____________________

(١) يوسف: ٢.

(٢) البقرة: ١ و٢.

(٣) الشعراء: ١٩٦.

(٤) طه: ١٣٣.

٣٥

ثبت أنّ الإعجاز المختصّ بالقرآن متعلّق بالنظم المخصوص.

وبيان كونه مُعجزاً هو أن نُبيّن نظم الكلام، ثُمّ نُبيّن أنّ هذا النظم مخالف لنظم سائره، فنقول: لتأليف الكلام خمس مراتب:

الأُولى: النظم: وهو ضمّ حروف التهجّي بعضها إلى بعض، حتّى تتركّب منها الكلمات الثلاث: الاسم والفعل والحرف.

والثانية: أن يُؤلِّف بعض ذلك مع بعض حتّى تتركب منها الجمل المفيدة وهي النوع الذي يتداوله الناس جميعاً في مخاطباتهم، وقضاء حوائجهم، ويُقال له: المنثور من الكلام.

والثالثة: أن يضمّ بعض ذلك إلى بعض ضمّاً له مبادٍ ومقاطع ومداخل ومخارج، ويُقال له: المنظوم.

والرابعة: أن يُجعل له في أواخر الكلام مع ذلك تسجيع، ويقال له: المُسجّع.

والخامسة: أن يُجعل له مع ذلك وزن مخصوص، ويُقال له: الشعر، وقد انتهى.

وبالحقّ صار كذلك، فإنّ الكلام إمّا منثور فقط، أو مع النثر نظم، أو مع النظم سجع، أو مع السجع وزن.

والمنظوم: إمّا محاورة ويُقال له: الخطابة، أو مكاتبة ويقال لها: الرسالة، وأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الجملة، ولكلّ من ذلك نظم مخصوص.

والقرآن حاوٍ لمحاسن جميعه بنَظم ليس هو نظم شيء منها، بدلالة أنّه لا يصح أن يُقال: (القرآن رسالة، أو خطابة، أو شعر، كما يَصحّ أن يُقال: هو كلام، ومَن قرع سمعه فصل بينه وبين سائر النَظم، ولهذا قال تعالى: ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ) (١) تنبيهاً أنّ تأليفه ليس على هيئة نظم يتعاطاه البشر، فيمكن أن يزاد فيه كحال الكتب الأخر.

فإن قيل: ولِمَ لمْ يُبلغ بنظم القرآن الوزن الذي هو الشعر، وقد عُلم أنّ للموزون

____________________

(١) فصّلت: ٤١ و ٤٢.

٣٦

من الكلام مرتبةً أعلى مِن مرتبة المنظوم غير الموزون؛ إذ كلّ موزون منظوم وليس كلّ منظوم موزوناً؟

قيل: إنما جُنّب القرآن نظم الشعر ووزنه لخاصّية في الشعر منافية للحِكمة الإلهية، فإنّ القرآن هو مقرّ الصدق، ومعدن الحقّ، وقصوى الشاعر: تصوير الباطل في صورة الحقّ، وتجاوز الحدّ في المدح والذمّ دون استعمال الحقّ في تحرّي الصدق، حتّى أنّ الشاعر لا يقول الصدق ولا يتحرّى الحقّ إلاّ بالعَرض، ولهذا يُقال: مَن كان قوّته الخياليّة فيه أكثر كان على قَرض الشعر أقدر، ومَن كانت قوّته العاقلة فيه أكثر كان في قرضه أقصر.

ولأجل كون الشعر مقرّ الكذب، نزّه الله نبيّه (صلّى الله عليه وآله) عنه؛ لِما كان مُرشّحاً لصدق المَقال، وواسطة بين الله وبين العباد، فقال تعالى: ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ) (١) فنفى ابتغاءه له، وقال: ( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ) (٢) أي: ليس بقول كاذب، ولم يعنِ أن ذلك ليس بشعر، فإنّ وزن الشعر أَظهر مِن أن يشتبه عليهم حتّى يحتاج إلى أن ينفي عنه. ولأجل شهرة الشعر بالكذب سُميّ أصحاب البراهين الأقيسة المؤدّية في أكثر الأمر إلى البطلان والكذب شعريّة، وما وقع في القرآن من ألفاظ مُتّزنة فذلك بحسب ما يقع في الكلام على سبيل العَرض بالاتّفاق، وقد تكلّم الناس فيه.

وأمّا الإعجاز المتعلّق بصرف الناس عن معارضته فظاهر أيضاً إذا اعتُبر؛ وذلك أنّه ما مِن صناعة ولا فِعلة من الأفعال محمودةً كانت أو مذمومةً إلاّ وبينها وبين قوم مناسبات خفية واتّفاقات إلهية، بدلالة أنّ الواحد يُؤثر حِرفة من الحِرف فينشرح صدره بملابستها وتطيعه قُواه في مزاولتها، فيقبلها باتّساع قلب، ويتعاطاها بانشراح صدر، وقد تَضمّن ذلك قوله تعالى ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ) (٣) وقول النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (اعملوا فكلٌّ مُيسّر لِما خُلق له) (٤) .

____________________

(١) يس: ٦٩.

(٢) الحاقّة: ٤١.

(٣) المائدة: ٤٨.

(٤) مسند أحمد: ج ٤ ص ٦٧.

٣٧

فلما رُئي أهل البلاغة والخطابة الذين يهيمون في كلّ وادٍ من المعاني بسلاطة ألسنتهم، وقد دعا الله جماعتهم إلى معارضة القرآن، وعجزهم عن الإتيان بمِثله، وليس تهتزّ غرائزهم البتة للتصدّي لمعارضته، لم يخفَ على ذي لبّ أنّ صارفاً إلهياً يَصرفهم عن ذلك، وأيّ إعجاز أعظم مِن أن تكون كافّة البلغاء مُخيّرة في الظاهر أن يُعارضوه، ومُجبرة في الباطن عن ذلك، وما أليقهم بإنشاد ما قال أبو تمام:

فإنْ نكُ أُهمِلنا فَأَضعِف بِسَعينا

وإنْ نَكُ أُجبِرنا فَفيمَ نُتَعتِعُ

والله وليّ التوفيق والعصمة (١) .

٦ - رأي الإمام الرازي:

ولأبي عبد الله محمّد بن عمر بن حسين فخر الدين الرازي (توفّي سنة ٦٠٦هـ) - المفسّر المتكلّم الأُصولي الكبير - رأي في إعجاز القرآن طريف، وهو جَمْعه بين أُمور شتّى، كانت تستدعي هبوطاً في فصاحة الكلام، لو كان أحد مِن البشر حاول القيام بها أجمع، لولا أنّ القرآن كلام الله الخارق لَمألوف الناس، فقد جمع بين أفنان الكلام، ومع ذلك فقد بلغ الغاية في الفصاحة، وتسنّم الذروة من البلاغة، وهذا أمرٌ عجيب!

قال: اعلم أنّ كونه (القرآن) معجزاً يُمكن بيانه من طريقينِ:

(الأوَّل) أن يقال: إنّ هذا القرآن لا يخلو حاله من أحد وجوه ثلاثة: إمّا أن يكون مساوياً لسائر كلام الفصحاء، أو زائداً على سائر كلام الفصحاء بقدرٍ لا ينقض العادة، أو زائداً عليه بقدرٍ ينقض، والقسمان الأوّلان باطلان فتعيّن الثالث.

وإنّما قلنا: إنّهما باطلان؛ لأنّه لو كان كذلك لكان من الواجب أن يأتوا بمِثل

____________________

(١) عن مقدّمته على التفسير: ١٠٤ - ١٠٩.

٣٨

سورة منه إمّا مجتمعينَ أو منفردينَ، فإن وقع التنازع وحصل الخوف من عدم القبول فالشهود والحُكّام يُزيلون الشبهة، وذلك نهاية في الاحتجاج؛ لأنّهم كانوا في معرفة اللغة والاطّلاع على قوانين الفصاحة في الغاية، وكانوا في مَحبّة إبطال أمره في الغاية، حتّى بذلوا النفوس والأموال، وارتكبوا ضروب المَهالك والمِحن، وكانوا في الحميّة والأَنَفة على حدّ لا يقبلون الحقّ فكيف الباطل!، وكلّ ذلك يُوجب الإتيان بما يقدح في قوله، والمعارضة أقوى القوادح، فلمّا لم يأتوا بها عِلمنا عَجزهم عنها، فثبت أنّ القرآن لا يُماثل قولهم، وأنّ التفاوت بينه وبين كلامهم ليس تفاوتاً معتاداً، فهو إذاً تفاوت ناقض للعادة، فوجب أن يكون معجزاً.

واعلم أنّه قد اجتمع في القرآن وجوه كثيرة تقتضي نُقصان فصاحته، ومع ذلك فإنّه في الفصاحة بلغ النهاية التي لا غاية لها وراءها، فدلّ ذلك على كونه معجزاً.

أحدها: أنّ فصاحة العرب أكثرها في وصف مشاهدات، مثل وصف بعير أو فرس أو جارية أو مَلِك أو ضربة أو طعنة أو وصف حرب أو وصف غارة، وليس في القرآن من هذه الأشياء شيء، فكان يجب أن لا تحصل فيه الألفاظ الفصيحة التي اتّفقت العرب عليها في كلامهم.

وثانيها: أنّه تعالى راعى فيه طريقةَ الصدق وتنزّه عن الكذب في جميعه، وكلّ شاعر ترك الكذب والتزم الصدق نَزَل شعره ولم يكن جيّداً، أَلا ترى أنّ لبيد بن ربيعة وحسّان بن ثابت لمّا أَسلما نَزَل شعرهما ولم يكن شعرهما الإسلامي في الجودة كشعرهما الجاهلي، وأنّ الله تعالى مع ما تنزّه عن الكذب والمجازفة جاء بالقرآن فصيحاً كما ترى.

وثالثها: أنّ الكلام الفصيح والشعر الفصيح إنّما يتّفق في القصيدة في البيت والبيتينِ والباقي لا يكون كذلك، وليس كذلك القرآن؛ لأنّه كلّه فصيح بحيث يعجز الخَلق عنه كما عجزوا عن جملته.

ورابعها: أنّ كلّ مَن قال شعراً فصيحاً في وصف شيء فإنّه إذا كرّره لم يكن

٣٩

كلامه الثاني في وصف ذلك الشيء بمنزلة كلامه الأَوّل، وفي القرآن التَّكرار الكثير، ومع ذلك كلّ واحد منها في نهاية الفصاحة ولم يظهر التفاوت أصلاً.

وخامسها: أنّه اقتصر على إيجاب العبادات وتحريم القبائح والحثّ على مكارم الأخلاق وترك الدنيا واختيار الآخرة، وأمثالُ هذه الكلمات تُوجب تقليل الفصاحة.

وسادسها: أنّهم قالوا في شعر امرئ القيس: يَحسن عند الطرب وذِكر النساء وصِفة الخَيل، وشِعر النابغة عند الخوف، وشعر الأعشى عند الطلب ووصف الخَمر، وشعر زهير عند الرغبة والرجاء، وبالجملة فكلّ شاعر يحسن كلامه في فنّ، فإنّه يَضعف كلامه في غير ذلك الفنّ، أمّا القرآن فإنّه جاء فصيحاً في كلّ الفنون على غاية الفصاحة.

أَلا ترى أنّه سبحانه وتعالى قال في الترغيب: ( فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) (١) وقال تعالى: ( وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ ) (٢) .

وقال في الترهيب: ( أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ ) (٣) ، وقال: ( أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ ) (٤) ، وقال: ( خَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ - إلى قوله - وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ) (٥) .

وقال في الزجر مالا يبلغه وَهْم البشر، وهو قوله: ( فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ - إلى قوله - وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا ) (٦) .

وقال في الوعظ ما لا مَزيد عليه: ( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ) (٧) .

وقال في الإلهيّات: ( اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا

____________________

(١) السجدة: ١٧.

(٢) الزخرف: ٧١.

(٣) الإسراء: ٦٨.

(٤) الملك: ١٦ و١٧.

(٥) إبراهيم: ١٥ - ١٧.

(٦) العنكبوت: ٤٠.

(٧) الشعراء: ٢٠٥.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220



أوّلاً : حجة الوداع « حجة الإسلام »

وإلى القارئ ما ورد عنه في تلك الحجة بدءاً من تسميتها ، ومروراً بالمشاعر
وأحكامها ، وانتهاءاً برجوع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة بعد انقضائها ، ويصح منا
تسمية ذلك بمنسك ابن عباس كما رواه عنه أصحاب المصادر التالية :

1ـأخرج ابن سعد بسنده عن طاووس عن ابن عباس أنّه كره أن يقول
حجة الوداع ، قال : فقلت : حجة الإسلام؟ قال : نعم حجة الإسلام (1) .

2ـاخرج ابن كثير في السيرة النبوية نقلاً عن أحمد بسنده عن سعيد بن
جبير قال : « قلت لعبد الله بن عباس : يا أبا العباس عجباً لاختلاف أصحاب رسول
الله صلّى الله عليه(وآله)وسلّم في إهلال رسول الله صلّى الله عليه(وآله)وسلّم
حين أوجب؟! فقال : إنّي لأعلم الناس بذلك ، إنّما كانت من رسول الله صلّى الله
عليه(وآله)وسلّم حجة واحدة ، فمن هناك اختلفوا.

خرج رسول الله صلّى الله عليه(وآله)وسلّم حاجاً ، فلمّا صلّى في مسجده
بذي الحليفة ركعتيه ، أوجب في مجلسه ، فأهلّ بالحجّ حين فرغ من ركعتيه ،
فسمع ذلك منه قوم ، فحفظوا عنه ، ثمّ ركب ، فلمّا أستقلت به ناقته أهلّ ، وأدرك
ذلك منه أقوام ، وذلك إن الناس إنّما كانوا يأتون إرسالاً ، فسمعوه حين أستقلت به
ناقته يُهلّ ، فقالوا : إنّما أهلّ رسول الله صلّى الله عليه(وآله)وسلّم حين أستقلّت
_______________________

(1)طبقات ابن سعد 2ق1 / 135.

٢٢١

ناقته. ثمّ مضى رسول الله صلّى الله عليه(وآله)وسلّم ، فلمّا علا شرَف البيداء(1)
أهلّ ، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا : إنّما أهلّ رسول الله صلّى الله عليه(وآله)
وسلّم حين علا شرّف البيداء. وأيم الله لقد أوجب في مصلّاه ، وأهلّ حين علا
شرف البيداء » (2) .

3ـأخرج ابن سعد بسنده عن ابن عباس قال : « انّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (لبيك
اللّهم لبّيك ، لبّيك لا شريك لك لبّيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك
لك) » (3) .

4ـأخرج البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عباس قال : « انطلق النبيّ
صلّى الله عليه(وآله)وسلّم من المدينة بعد ما ترجّل وادهن ولبس إزاره ورداءه ،
هو وأصحابه ولم ينه عن شيء من الأردية والأزر تُلبس ، إلّا المزعفرة الّتي تردع
على الجلد ، فأصبح بذي الحليفة ، ركب راحلته حتى أستوى على البيداء أهلّ هو
وأصحابه ، وقلّد بدنَه ، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة. فقدم مكة لأربع خلون
من ذي الحجة ، فطاف بالبيت ، وسعى بين الصفا والمروة ، ولم يحلّ من أجل بُدنه
لأنّه قلّدها ، ثمّ نزل بأعلى مكة عند الحجون ، وهو مهلٌ بالحجّ ، ولم يقرب الكعبة
بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة ، وأمر أصحابه أن يطوفوا بالبيت ، وبين الصفا
والمروة ، ثمّ يقصّروا من رؤوسهم ثمّ يَحلّوا ، وذلك لمن لم يكن معه بدَنَة قلّدها ،
ومَن كانت معه أمرأته فهي له حلال ، والطيب والثياب » (4) .

_______________________

(1)البيداء : موضع امام ذي الحليفة ، سمي بذلك لأنّه ليس فيه بناء ولا أثر.

(2)السيرة النبوية 4 / 230 ـ 231.

(3)طبقات ابن سعد 2ق2 / 127.

(4)صحيح البخاري 1 / 197 ط بولاق ، باب ما لا يلبس المحرم من الثياب والأردية والأزر.

٢٢٢

5ـأخرج الطبراني في معجمه الكبير بسنده عن جابر وابن عباس قالا :
« قدمنا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا نريد إلّا الحجّ ، فأهللنا بالحجّ ، وطاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على
راحلته يستلم الركن بمحجن كان معه ، ثمّ عدل إلى السقاية ، فقال : (اسقوني
منها) ، فقال العباس : يا رسول الله ألا نسقيك من شراب قد مسّته الأيدي ، قال : (لا
اسقوني منها) ، ثمّ شرب ، ثمّ عدل إلى زمزم فقال : (انزعوا لي منها) ، فنزعوا له
دلواً ، فأخذ حسوة فمضمض ثمّ مجّه في الدلو ، ثمّ قال : (أعيدوه فيها) ، فقال : (يا
بني هاشم إنكم على عمل صالح ، لولا أن تُغلبوا أو تُتخذ سنّة لأخذت معكم) ،
ثمّ أتى منزله فخطب أصحابه وقال : (انّ العمرة دخلت في حجكم فحلّوا ، إلّا من
كان معه هدي) ، وقال : (لولا أنّ معي هدياً لكثرتكم) ، فقام سراقة بن مالك فقال :
يا رسول الله ألعامنا أم للأبد؟ قال : (لا بل للأبد) ، وكان يعجبهم ما وافق صنيعهُم
صنيعَ أهل الجاهلية. وكان أهل الجاهلية يقولون : إذا انسلخ صفر ، وعفا الوَبر ،
وبرأ الدَبر ، فقد حلت العمرة لمن أعتمر » (1) .

6ـأخرج ابن كثير في السيرة النبوية نقلاً عن البخاري والترمذي عن ابن
عباس قال : « طاف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالبيت على بعير ، فلمّا أتى الركن أشار إليهـوفي
حديث آخر ـ أستلمه بمحجن ، فلمّا فرغ من طوافه أناخ فصلّى ركعتين » (2) .

7ـأخرج ابن كثير نقلاً عن مسلم وأبي داود ، والطبراني في معجمه(3) ،
وغيرهم عن أبي الطفيل قال : « قلت لابن عباس : يزعم قومك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
قد رَمَل بالبيت وان ذلك من سنّته؟ قال : صدقوا وكذبوا ، فقلت : ما صدقوا وما
_______________________

(1)المعجم الكبير 11 / 33 ط الموصل.

(2)السيرة النبوية 4 / 316 ـ 317.

(3)المعجم الكبير 10 / 268 ط الموصل.

٢٢٣

كذبوا؟ قال : صدَقوا رَمَل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذبوا ليس بسنّة ، إنّ قريشاً قالت زمن
الحديبية ، دعوا محمداً وأصحابه حتى يموتوا موت النغف (1) فلمّا صالحوه على
أن يحجوا من العام المقبل فيقيموا بمكة ثلاثة أيام ، فقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
والمشركون من قبل قيقعان (2) فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه : أرملوا بالبيت ثلاثاً.
وليس بسنّة.

قلت : يزعم قومك انّ رسول الله طاف بين الصفا والمروة على بعير ، وأن
ذلك سنّة؟

قال : صدقوا وكذبوا. قلت : ما صدقوا وما كذبوا؟

قال : صدقوا قد طاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين الصفا والمروة على بعير ، وكذبوا
ليس بسنّة ، كان الناس لا يُدفعون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يُصرفون عنه ، فطاف
على بعير ليسمعوا كلامه وليروا مكانه ، ولا تناله أيديهم.

قلت : أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكباً أسنّة هو؟ فإن قومك
يزعمون أنّه سنة.

قال : انّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثر عليه الناس يقولون هذا محمّد هذا محمّد ، حتى
خرج العواتق من البيوت وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يُضرب الناس بين يديه ، فلمّا
كثر عليه الناس ركب.

قال ابن عباس : والمشي والسعي أفضل »(3) .

_______________________

(1)النغف : الدود ، وهو مثل يضرب للمستحقَر.

(2)قيقعان : جبل مشرف على مكة من جهة الثنية السفلى الّتي بني عليها باب مكة
المعروف بباب الشبيكة وهو ممتد من حارة الباب إلى الشامية (شفاء الغرام للفاسي
/ 277 متناً وهامشاً) ط سنة 1956 بمصر.

(3)السيرة النبوية 4 / 324 ـ 325.

٢٢٤

8ـأخرج ابن كثير نقلاً عن البخاري بسنده عن عطاء عن جابر وعن
طاووس عن ابن عباس قالا : « قدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه صُبح رابعة من ذي الحجة
يهلّون بالحجّ لا يخلطه بشيء ، فلمّا قدمنا أمرنا فجعلناها عمرة ، وأن نحلّ إلى
نسائنا ، ففشت في ذلك المقالة » (1) .

9ـأخرج ابن كثير نقلاً عن الترمذي بسنده عن ابن عباس قال : « صلّى بنا
رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنى الظهر العصر والمغرب والعشاء والفجر ثمّ غدا إلى
عرفات » (2) .

10ـأخرج ابن كثير نقلاً عن الصحيحين عن ابن عباس قال : « سمعت
رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخطب بعرفات : (من لم يجد نعلين فليلبس الخفّين ، ومن لم يجد
إزاراً فليلبس السراويل للمحرم) » (3) .

11ـأخرج ابن كثير نقلاً عن أحمد بسنده عن عطاء قال : « دعا عبد الله بن
عباس الفضل بن عباس إلى الطعام يوم عرفة ، فقال : إني صائم ، فقال عبد الله : لا
تُصم فإنّ رسول الله قُرّب إليه حِلّاب (4) فيه لبن يوم عرفة فشرب منه ، فلا تُصم
فإنّ الناس يستنّون بكم » (5) .

12ـأخرج الطبراني بسنده عن ابن عباس : « انّ أم الفضل أرسلت إلى
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلبن فشرب وهو يخطب بعرفة »(6) .

_______________________

(1)نفس المصدر 4 / 332.

(2)نفس المصدر 4 / 339.

(3)نفس المصدر 4 / 342.

(4)الحلّاب : القعب الّذي يحلب فيه اللبن.

(5)السيرة النبوية 4 / 345.

(6)المعجم الكبير 10 / 326 ط الموصل.

٢٢٥

13ـأخرج ابن كثير نقلاً عن البخاري بسنده عن ابن عباس قال : « بينما
رجل واقف مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصنه(1) فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :
(اغسلوه بماء وسدر ، وكفّنوه في ثوبين ، ولا تُمِسّوه طيبا ، ولا تخمّروا رأسه ، ولا
تحنّطوه ، فإنّ الله يبعثه يوم القيامة ملبّيا) » (2) .

14ـأخرج ابن كثير نقلاً عن الطبراني في مناسكه بسنده عن ابن عباس
قال : « كان فيما دعا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع : (اللّهم إنّك تسمع كلامي ،
وترى مكاني ، وتعلم سرّي وعلانيتي ، ولا يخفى عليك شيء من أمري ، أنا البائس
الفقير ، المستغيث المستجير ، الوجل المشفق ، المقرّ المعترف بذنبه ، أسألك مسألة
المسكين ، وأبتهل إليك ابتهال الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضرير ، من
خضعت لك رقبتُه ، وفاضت لك عبرَتُه ، وذلّ لك جَسَدُه ، ورغم لك أنفُه ، اللّهم لا
تجعلني بدعائك ربّ شقياً ، وكن بي رؤفاً رحيماً يا خير المسؤولين ، ويا خير
المعطين) » (3) .

15ـأخرج ابن كثير نقلاً عن البيهقي بسنده عن ابن عباس قال : « رأيت
رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو بعرفة ، يداه إلى صدره كاستطعام المسكين »(4) .

16ـأخرج ابن كثير نقلاً عن أحمد بسنده عن ابن عباس قال : « لما أفاض
رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عرفات أوضَعَ الناس(5) فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منادياً ينادي : (أيها
_______________________

(1)الوقص : وقصت الناقة براكبها ركمت به فدَقّت عنقه (المصباح المنير).

(2)السيرة النبوية 4 / 346.

(3)السيرة النبوية 4 / 351 ، وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 3 / 252 نقلاً عن الطبراني في
الكبير والصغير.

(4)السيرة النبوية 4 / 350.

(5)الإيضاع : أوضع البعير أسرع في سيره (المنجد).

٢٢٦

الناس ليس البرّ بإيضاع الخيل ولا الركاب) ، قال : فما رأيت من رافعة يديها
غادية حتى نزل جَمعاً. وقال : لم ينزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عرفات وجَمع إلّا أريق
الماء » (1) .

17ـأخرج ابن كثير في السيرة النبوية ، والبلاذري نقلاً عن البخاري بسنده
عن ابن عباس قال : « أنا ممّن قدّم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة المزدلفة في ضَعفَة أهله »(2) .

18ـأخرج ابن كثير نقلاً عن أحمد بسنده عن ابن عباس قال : « قدّمنا
رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على حُمراتنا فجعل يلطخـيضرب ببطن
كفهـأفخاذنا بيده ويقول : اَبَنيَّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس ، قال ابن
عباس ما أخال أحداً يرمي الجمرة حتى تطلع الشمس » (3) .

19ـأخرج ابن سعد بسنده عن ابن عباس قال : « قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
غداة العقبة (إلقط لي) (4) فلقطت له حصى الحذف ، فلمّا وضعتهنّ في يده
قال : (نعم بأمثال هؤلاء ، وإياكم والغلوّ إنّما هلك مَن كان قبلكم بالغلوّ في
الدين) » (5) .

_______________________

(1)السيرة النبوية 4 / 358.

(2)السيرة النبوية 4 / 362 ، وانساب الاشراف (ترجمة ابن عباس).

(3)السيرة النبوية 4 / 362.

(4)لقد مرّ ان ابن عباس (حبر الأمة) ممّن قدّمه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة العقبة مع أغيلمة بني عبد
المطلب وضعفة أهله إلى منى وأوصاهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس ، فكيف
يصح ما رواه ابن سعد عنه ان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له غداة العقبة القط ليـيعني حصى
الحذفـوالالتقاط انما يستحب أن يكون من المزدلفة؟ فربّما كان المراد بابن عباس
في هذا الحديث هو الفضل بن العباس الّذي سيأتي ما يدل على أنّه بقي مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
وروى عنه ما قاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للناس حين دفعوا من المزدلفة وروى ذلك عنه أخوه حبر الأمة. أو
أن الألتقاط كان بمنى ، والأول هو الأقرب.

(5)طبقات ابن سعد 2ق1 / 130.

٢٢٧

20ـأخرج ابن سعد بسنده عن ابن عباس « انّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبّى حتى
رمى الجمرة يوم النحر » (1) .

21ـأخرج ابن كثير نقلاً عن أحمد بسنده عن ابن عباس قال : « أهدى
رسول الله في حجة الوداع مائة بدنة ، نحر منها ثلاثين بدنة بيده ، ثمّ أمر عليّاً فنحر
ما بقي منها ، وقال : أقسم لحومها وجلودها وجلالها بين الناس ، ولا تعطينّ جزّاراً
منها شيئاً ، وخذ لنا من كلّ بعير حذيةـأي قطعةـمن لحم ، واجعلها في قدر
واحدة حتى نأكل من لحمها ونحسوا من مرقها. ففعل » (2) .

22ـأخرج ابن كثير نقلاً عن أحمد بسنده عن ابن عباس قال : « رمى
رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمرة العقبة ثمّ ذبح ثمّ حلق »(3) .

23ـأخرج ابن كثير نقلاً عن سفيان الثوري بسنده عن ابن عباس قال : « إذا
رميتم الجمرة فقد حللتم من كلّ شيء كان عليكم حراماً إلّا النساء ، حتى تطوفوا
بالبيت ، فقال رجل : والطيب يا أبا العباس؟ فقال له : إنّي رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
يضمّخ رأسه بالمسك ، أفطيبٌ هو أم لا؟ » (4) .

24ـأخرج ابن كثير نقلاً عن البخاري في صحيحه في باب الخطبة أيام
منى بسنده عن ابن عباس : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطبَ الناس يوم النحر فقال : (يا
أيها الناس أيّ يوم هذا؟) قالوا : يوم حرام ، قال : (فأيّ بلد هذا؟) قالوا : بلد حرام ،
قال : (فأيّ شهر هذا؟) قالوا : شهر حرام قال : (فإنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم
_______________________

(1)نفس المصدر 2ق 1 / 135.

(2)السيرة النبوية 4 / 376.

(3)نفس المصدر 4 / 377.

(4)نفس المصدر 4 / 379.

٢٢٨

عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا) قال : فأعادها
مراراً ، ثمّ رفع رأسه ، فقال : (اللّهم هل بلّغت؟ اللّهم قد بلّغت؟)ـقال ابن عباس :
فوالذي نفسي بيده إنّها لوصيته إلى أمتهـفليبلّغ الشاهدُ الغائب ، لا ترجعوا بعدي
كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض » (1) .

25ـأخرج ابن كثير نقلاً عن أحمد وأبي داود بسنديهما عن ابن عباس :
« انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طاف بالبيت وهو على بعير واستلم الحجر بمحجن كان معه ،
قال : وأتى السقاية فقال : (اسقوني) ، فقالوا : إنّ هذا يخوضه الناس ولكنّا نأتيك به
من البيت ، فقال : (لا حاجة لي فيه ، اسقوني ممّا يشرب الناس) » (2) .

26ـأخرج ابن كثير نقلاً عن أحمد بسنده عن ابن عباس أنّه قال : « جاء
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى زمزم فنزعنا له دلواً فشرب ثمّ مجّ فيها ، ثمّ أفرغناها في زمزم ، ثمّ
قال : (لولا أن تغلبوا عليها لنزعتُ بيدي) » (3) .

27ـأخرج المحدث الثقة عليّ بن إبراهيم القمي عن عبد الله بن عباس
قال : « حججنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجة الوداع فأخذ بحلقة باب الكعبة ثمّ أقبل
علينا بوجهه فقال : (ألا أخبركم بأشراط الساعة؟) وكان أدنى الناس منه يومئذ
سلمان رحمه‌الله فقال : بلى يا رسول الله فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (انّ أشراط القيامة اضاعة الصلاة
واتباع الشهوات ، والميل إلى الأهواء ، وتعظيم أصحاب المال ، وبيع الدين بالدنيا ،
فعندها يذوب قلب المؤمن في جوفه كما يذاب الملح في الماء ممّا يرى من
المنكر فلا يستطيع أن يغيّره).

_______________________

(1)نفس المصدر 4 / 388.

(2)نفس المصدر 4 / 385.

(3)نفس المصدر 4 / 386.

٢٢٩

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان عندها تليهم أمراء جورة ، ووزراء فسقة ، وعرفاء ظلمة ، وأمناء خونة).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان إنّ عندها يكون المنكر معروفاً والمعروف منكراً ، ويؤتمن الخائن
ويخون الأمين ، ويصدّق الكاذب ويكذّب الصادق).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان فعندها تكون إمارة النساء ، ومشاورة الإماء ، وقعود الصبيان على المنابر ،
ويكون الكذب طُرفاً ، والزكاة مغرما ، والفيء مغنما ، ويجفو الرجل والديه ، ويبرّ
صديقه ، ويطلع الكوكب المذنّب).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان وعندها تشارك المرأة زوجها في التجارة ، ويكون المطر قيظاً ، ويغيظ
الكرام غيظاً ، ويحتقر الرجل المعسر فعندها تقارب الأسواق ، إذا قال هذا لم أبع
شيئاً وقال هذا لم أربح شيئاً فلا ترى إلّا ذاماً لله).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان فعندها يليهم أقوام إن تكلموا قتلوهم ، وإن سكتوا أستباحوهم ،
ليستأثرونَ بفيئهم ، وليطؤنّ حرمتهم ، وليسفكنَّ دماءهم ، ولتملأنَّ قلوبهم دغلاً
ورعباً ، فلا تراهم إلّا وجلين خائفين مرعوبين مرهوبين).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان إنّ عندها يؤتى بشيء من المشرق وشيء من المغرب يلون أمتي ،

٢٣٠

فالويل لضعفاء أمتي منهم والويل لهم من الله ، لا يرحمون صغيراً ، ولا يوقّرون
كبيراً ، ولا يتجاوزون عن مسيء ، جثثهم جثث الآدميين وقلوبهم قلوب الشياطين).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان وعندها تكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء ، ويغار على الغلمان كما
يغار على الجارية في بيت أهلها ، وتشبه الرجال بالنساء ، والنساء بالرجال ، ويركبن
ذوات الفروج السروج فعليهنّ من أمتي لعنة الله).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان إنّ عندها تزخرف المساجد كما تزخرف البيع والكنائس ، وتحلّى
المصاحف ، وتطول المنارات ، وتكثر الصفوف بقلوب متباغضة وألسن مختلفة).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان وعندها تحلّى ذكور أمتي بالذهب ، ويلبسون الحرير والديباج ،
ويتخذون جلود النمور صفاقاً).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان وعندها يظهر الزنا ، ويتعاملون بالغيبة (بالعينة خ ل) والرُشا ، ويوضع
الدين وترتفع الدنيا).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان وعندها تظهر القينات والمعازف ويليهم شرار أمتي).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان وعندها تحج أغنياء أمتي للنزهة ، وتحج أوساطها للتجارة ، وتحج
فقراؤهم للرياء والسمعة ، فعندها يكون أقوام يتعلمون القرآن لغير الله ويتخذونه

٢٣١

مزامير ، ويكون أقوام يتفقهون لغير الله ، ويكثر أولاد الزنا ، ويتغنّون بالقرآن
ويتهافتون بالدنيا).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده
يا سلمان ، ذاك إذا انتهكت المحارم ، وأكتسبت المآثم ، وسلّط الأشرار على
الأخيار ، ويفشوا الكذب ، وتظهر اللجاجة وتفشوا الحاجة ، ويتباهون في اللباس ،
ويمطرون في غير أوان المطر ، ويستحسنون الكذبة والمعازف ، وينكرون الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ، حتى يكون المؤمن في ذلك الزمان أذل من الأمة ،
ويظهر قراؤهم وعبّادهم فيما بينهم التلاوم ، فأولئك يدعون في ملكوت
السماوات الأرجاس الأنجاس).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان عندها لا يخشى الغني إلّا الفقر ، حتى أنّ السائل ليسأل فيما بين
الجمعتين لا يصيب أحداً يضع في كفه شيئاً).

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إي والّذي نفسي بيده ،
يا سلمان عندها يتكلم الرويبضة).

فقال سلمان : وما الرويبضة يا رسول الله فداك أبي وأمي؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (يتكلم
في أمر العامة من لم يكن يتكلم ، فلم يلبثوا إلّا قليلاً حتى تخور الأرض خورة
فلا يظن كلّ قوم إلّا انها خارت في ناحيتهم ، فيمكثون ما شاء الله ثمّ يمكثون في
مكثهم ، فتلقي لهم الأرض أفلاذ كبدها ، قال ذهب وفضةـثمّ أومى بيده إلى
الأساطين ـ فقال : مثل هذا ، فيومئذٍ لا ينفع ذهب ولا فضة) ».

٢٣٢

قال عليّ بن إبراهيم : « فهذا معنى قوله تعالى :( فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ) »(1) .

وإلى هنا نوقف متابعة أحاديث ابن عباس عن رحلة العودة من حجة
الوداع (حجة الإسلام) (2) ، حيث سنقرأ شيئاً منها في حديثه عن بيعة الغدير.
والّذي ذكرناه منها يصلح أن نسميه منسكاً يكاد أن يكون متكاملاً لأهمّ أعمال
الحجّ من فروض وسنن ، ولا يعني ذلك أنا نلتزم بصحة جميع معانيه ، بل عهدة ما
ورد فيه على راويه ، على أنا نشك في سلامة بعض ممّا وصل إلينا من الأحاديث
المروية عن ابن عباس في هذا المقام وفي غيره ، وسيأتي مزيد بيان عن ذلك في
حياته العلمية ، حيث سنذكر ما طالت عليه الأيدي الأثيمة وتناولته بالحذف
والإضمار.

ومن اللافت للنظر حقاً فيما ذكرناه في هذا المقام ، خلّوه عن ذكر خطبتي
الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عرفة وفي ثاني أيام التشريق. إذ لا يعقل إهمال ابن عباس
لهما ، وهو الحريص على متابعة جميع ما كان يصدر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجته تلك
من أقوال وأفعال ، حتى ورد عنه روايته عن أخيه الفضل بن العباس ما قاله
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للناس حين دفعوا من المزدلفة ، إذ لم يكن هو حاضراً ، بل لأنّه قدّمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
مع أغيلمة بني عبد المطلب وضعفة أهله فدفعوا بليل وأوصاهم أن لا يرموا
الجمرة حتى تطلع الشمس. فروى عن أخيه الفضل أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للناس :
عليكم بالسكينة ، وهو كافّ ناقتَه حتى دخل محسّراـوهو من منىـقال :
عليكم بحصى الحذف الّذي يُرمى به الجمرة ، قال : ولم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلبّي
حتى رمى الجمرة.

_______________________

(1)تفسير علي بن إبراهيم القمي (تفسير سورة محمّد)ـحديث خطبة النبيّ صلّى الله عليه
وآله وسلّم.

(2)السيرة النبوية 4 / 376.

٢٣٣

فمن كان بهذه المثابة من الحرص على أن لا يفوته شيء من أقوال
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأفعاله ، كيف يفوته سماع الخطبتين وروايتهما بتمامهما ولو عن غيره.
أليس هو القائل لسعيد بن جبير وقد سأله عن اختلاف قومهـقريشـفي
مناسك حجته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال ابن عباس : إني لأعلم الناس بذلك. ولا مماراة في ذلك
حتى شهدت له بذلك بعض أمهات المؤمنين فقالت أم سلمة : هو أعلم بالمناسك ،
وقالت عائشة : هو أعلم بالسنّة ، هو أعلم بالمناسك (1) .

ثمّ إنّ ما روي عنه من خطبة يوم النحر هو الآخر لم يسلم من مسّ اليد
الأثيمة ، فلم يصل إلينا بتمامه ، والفجوات فيه بيّنة ولا نحتاج في إثباتها إلى بيّنة.
ألا يكفينا مؤشّراً واضحاً قوله المعترض في وسط الخطبة : « فوالّذي نفسي بيده
إنّها لوصيته إلى أمته ».

ومن أراد أن يعرف مقدار ما لعبت به رواة السوء من تغيير أو حذف أو
إضمار ، فليقارن بين ما روي عنه وبين ما رواه غيره من الصحابة الّذين شهدوا
الخطبة فرووها ، ليدرك مدى التفاوت ، وإلى القارئ إشارة عابرة إلى جانب
من ذلك.

خذ مثلاً حديث الثقلين المستفيض أستفاضة تكاد تبلغ حد التواتر ، فإن من
موارد ذكره كان في خطبة يوم النحر. وقد روى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام خطبة
النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك اليوم وفيها قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (يا أيها الناس إنّي تركت فيكم الثقلين لن
تضلوا ما تمسكتم بهما : الأكبر منهما كتاب الله ، والأصغر عترتي أهل بيتي ، وإن
اللطيف الخبير عهد إليّ أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض كهاتينـأشار
_______________________

(1)البداية والنهاية 8 / 301.

٢٣٤

بالسبّابتينـولا أنّ أحدهما أقدم من الآخر ، فتمسكوا بهما ، لن تضلوا ، ولا تقدّموا
منهم ، ولا تخلّفوا عنهم ، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم) (1) .

وابن عباس من رواة الحديث المذكور في موارده الأخرى ، كيف يعقل
أن يروي الخطبة وهو من شهودها ، ثمّ يغفل رواية الحديث المذكور. وهكذا
نبقى في دوامة الشك والريبة ، من مدوّني السيرة والحديث ، وفي قنواتهم المتصلة
بابن عباس ، وغفلوا عن انّ حبل الكذب قصير ، والناقد بصير ، وفاتهم انّ قول ابن
عباس : « فوالّذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته » إنّما يناسب حديث الثقلين
شكلاً ومضموناً دون باقي فقرات الخطبة النبوية ، لكن رواة السوء كتموا ما لم
يرق لهم ولأوليائهم روايته ، ودوّنوا لهم ما شاؤا ، وبذلك ضيّعوا الأمانة ،
فأستحقّوا الإدانة.

ويزيدنا بصيرةً بمراد ابن عباسرضي‌الله‌عنه في قوله : « فوالّذي نفسي بيده إنّها
لوصيته إلى أمته » ما رواه رضي‌الله‌عنه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال قال : (من سره أن يحيى حياتي ،
ويموت مماتي ، ويسكن جنة عدن غرسها ربي فليوال عليّاً من بعدي ، وليوال
وليه ، وليقتد بالأئمّة من بعدي ، فإنهم عترتي ، خلقوا من طينتي ، ورزقوا فهماً
وعلماً ، ويل للمكذبّين بفضلهم من أمتي ، القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم الله
شفاعتي) (2) .




_______________________

(1)أنظر ينابيع المودة / 34 ط أستانبول.

(2)حلية الأولياء 1 / 86 ، فرائد السمطين 1 / 53.

٢٣٥
٢٣٦



ثانياً : بيعة الغدير

قال ابن عباس : « لمّا اُمر النبيّ صلّى الله عليه(وآله)وسلّم أن يقوم بعليّ بن
أبي طالب المقام الّذي قام به ، فانطلق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مكة فقال : رأيت الناس
حديثي عهدٍ بكفر بجاهلية ، ومتى أفعل هذا به ، يقولوا صَنع هذا بابن عمه ، ثمّ
مضى حتى قضى حجة الوداع ، ثمّ رجع حتى إذا كان بغدير خم أنزل الله عزوجل( يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ
) (1) الآية.

فقام منادِ فنادى الصلاة جامعة ، ثمّ قام وأخذ بيد عليّرضي‌الله‌عنه فقال : (من كنت
مولاه فعلي مولاه ، اللّهم وال من والاه وعادِ من عاداه) » (2) .

وقال في حديث آخر : « لمّا خرج النبيّ صلّى الله عليه(وآله)وسلّم إلى
حجة الوداع ، نزل بالجحفة فأتاه جبرئيل عليه‌السلام فأمره أن يقوم بعليّ فقال : (أيها
الناس ألستم تزعمون أني أولى بالمؤمنين أنفسهم؟) قالوا : بلى يا رسول الله قال :
(من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وأحب من
أحبّه ، وأبغض من أبغضه ، وأنصر من نصره ، وأعز من أعزّه ، وأعن من أعانه) ، قال
ابن عباس : وجبت والله في أعناق القوم » (3) .

_______________________

(1)المائدة / 67.

(2)أمالي الحافظ المحاملي وعنه الوصّابي الشافعي في كتابه الاكتفاء بفضائل الخلفاء.
كما في الغدير 1 / 52.

(3)كتاب الولاية للحافظ السجستاني كما في الغدير 1 / 52.

٢٣٧

وعنه قال : « لمّا كان يوم غدير خم ، قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطيباً ، ثمّ دعا عليّ
بن أبي طالب عليه‌السلام فأخذ بضبعيه ثمّ رفع يديه حتى رأى بياض إبطيهما وقال
للناس : (ألم أبلّغكم الرسالة؟ ألم أنصح لكم؟) قالوا : اللّهم نعم ، قال : (فمن كنت
مولاه فعلي مولاه ، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه) ، قال : ففشت هذه في
الناس ، فبلغ ذلك الحرث بن النعمان الفهري فرحّل راحلته ، ثمّ أستوى عليها ،
ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ ذاك بالأبطح فأناخ راحلته ثمّ عقلها ثمّ أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ قال :
يا عبد الله إنّك دعوتنا إلى أن نقول لا إله إلّا الله ففعلنا والقلب فيه ما فيه ، ثمّ
دعوتنا إلى أن نقول إنّك رسول الله ففعلنا ، ثمّ قلت لنا صلوا فصلينا ، ثمّ قلت
صوموا فصمنا ، ثمّ قلت حجوا فحججنا ، ثمّ قلت لنا من كنت مولاه فعلي مولاه
اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه ، فهذا عنك أم عن الله؟

فقال له : (بل عن الله) ، فقالها ثلاثاً ، فنهض وإنه لغضِب وانه ليقول : اللّهم إن
كان ما يقول محمّد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء تكون نعمة في أولنا وآية
في آخرنا ، وان كان ما يقوله محمّد كذباً فأنزل به نقمتك ، ثمّ أثار ناقته واستوى
عليها ، فرماهـاللهـبحجر على رأسه فسقط ميتاً ، فأنزل الله تبارك وتعالى : ( سَأَلَ
سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ
* لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ) (1) »(2) .

وبنحو ما مرّ وردت عنه أحاديث أخر تلتقي مع ما مرّ مضموناً ، فلا نطيل
بذكرها ، ويكفينا ممّا ذكرناه تعقيبه على بعض ما رواه وحدّث به بقوله : « وجبت
والله في أعناق القوم » (3) يعني بيعة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام .

_______________________

(1)المعارج / 1 ـ 3.

(2)تفسير محمّد بن العباس بن ماهيار كما في غاية المرام / 92 ط الحجرية ، وفي تفسير
الشربيني 4 / 364 قال أختلف في هذا الداعي فقال ابن عباس هو النضر بن الحرث وقيل
هو الحرث بن النعمان.

(3)كتاب الولاية للحافظ السجستاني كما في الغدير 1 / 52.

٢٣٨

ولا يقل عن ذلك أهمية في روايته ما حدّث به عن مشهد آخر شهده مع
النبيّ الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد رجوعه من حجة الوداع فقال : « لمّا رجعنا من حجة الوداع
جلسنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسجده ، قال : (أتدرون ما اقول لكم؟) قالوا
المسلمون : الله ورسوله أعلم ، قال : (أعلموا أنّ الله عزوجل منّ على أهل الدين إذ
هداهم بي ، وأنا أمنّ على أهل الدين إذ أهديهم بعليّ بن أبي طالب ابن عمي
وأبي ذريتي ، ألا ومن أهتدى بهم نجا ، ومن تخلّف عنهم ضلّ وغوى.

أيّها الناس الله الله في عترتي وأهل بيتي ، فان فاطمة بضعة مني ، وولداها
عضداي ، وأنا وبعلها كالضوء ، اللّهم ارحم من رحمهم ، ولا تغفر لمن ظلمهم) ،
ثمّ دمعت عيناه وقال : (كأنّي أنظر إلى الحال) » (1) .

وأهم مشهده شهده ابن عباس بعد ذلك من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مشهد يوم
الخميس ، وما أدراك ما يوم الخميس ، فكان إذا ذكره قال : « الرزية كلّ الرزية ».

ولنقرأ حديث الرزية ففيه كلّ الرزية ، فهو حديث ذو شجون ، ملؤه
أسى ومرارة ، يبعث التحدث عنه في النفس الشجن ، ويترك العين ترمض
بالقذى.






_______________________

(1)بحار الأنوار 7 / 43 ط حجر بتبريز نقلاً عن روضة الكافي وفضائل ابن شاذان.

٢٣٩
٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579