تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد10%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 103664 / تحميل: 10533
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

« مَنْ باع عبداً وله مالٌ فمالُه للبائع إلّا أن يشترطه المبتاع »(١) .

وقد رواه الخاصّة - في الصحيح - عن محمّد بن مسلم عن الباقر أو الصادقعليهما‌السلام قال : سألته عن رجل باع مملوكاً فوجد له مالاً ، فقال : « المال للبائع إنّما باع نفسه إلّا أن يكون شرط عليه أنّ ما كان من مال أو متاع فهو له »(٦) ولو ملكه العبد لم يكن للبائع ، فلمّا جَعَله للبائع دلّ على أنّ العبد لم‌ يملك ، وثبت بذلك أنّ الإضافة مجاز.

ويفارق الحُرّ ؛ لأنّه غير مملوك.

وملك النكاح ؛ لأنّه موضع حاجة وضرورة ؛ لأنّه لا يستباح في غير ملك. ولأنّه لمـّا ملكه لم يملك السيّد إزالة يده عنه ، بخلاف المال.

والفائدة في القولين تظهر في الزكاة ، فإن قلنا : يملك ، فلا زكاة ؛ لضعف ملكه ، إذ لمولاه انتزاعه منه متى شاء. وإن قلنا : لا يملك ، وجبت الزكاة على المولى.

وإذا ملّكه جاريةً وقلنا : يملك ، استباح وطأها ، وإلّا فلا.

ويكفّر بالمال إن قلنا : يملك ، وإلّا بالصوم.

البحث الثاني : في المأذون له في الاستدانة.

مسألة ٥٨ : يجوز للسيّد أن يأذن لعبده في الاستدانة والتجارة وسائر التصرّفات إجماعاً. ولأنّه صحيح العبارة ، وإنّما مُنع من التصرّف لحقّ السيّد ، فإذا أمره ، زال المانع.

إذا ثبت هذا ، فإذا أذن له في الاستدانة ، فإن استدان للمولى بإذنه ، كان الضمان على المولى؛ لأنّه المستدين في الحقيقة ، والمملوك نائبه.

____________________

(١) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٦٨ / ٣٤٣٣ و ٣٤٣٥ ، سنن النسائي ٧ : ٢٩٧ ، مسند أحمد ٢ : ٧٣ / ٤٥٣٨.

(٢) الكافي ٥ : ٢١٣ ( باب المملوك يباع ) ح ٢ ، التهذيب ٧ : ٧١ / ٣٠٦.

٦١

وإن استدان لنفسه بإذن المولى ، فإن استبقاه مملوكاً أو باعه ، فالضمان على المولى أيضاً ؛ لأنّه بإذنه دفع المالك ماله إليه.

ولما رواه أبو بصير عن الباقرعليه‌السلام ، قال : قلت له : الرجل يأذن لمملوكه في التجارة فيصير عليه دَيْن ، قال : « إن كان أذن له أن يستدين فالدَّيْن على مولاه ، وإن لم يكن أذن له أن يستدين فلا شي‌ء على المولى ، ويستسعى العبد في الدَّيْن »(١) .

مسألة ٥٩ : لو أعتقه مولاه وقد أذن له في الاستدانة فاستدان ، فالأقرب إلزام العبد بما استدانه ؛ لأنّه أخرجه في مصلحته ، فكان عليه أداؤه ، بخلاف ما لو باعه مولاه أو استبقاه ؛ لأنّ التفريط من المولى بإذنه ، وعدم تمكن صاحب المال من أخذه.

ولما رواه عثمان بن عيسى عن ظريف الأكفاني قال : كان أذن لغلامٍ له في الشراء والبيع فأفلس ولزمه دَيْنٌ فأُخذ بذلك الدَّيْن الذي عليه ، وليس يساوي ثمنه ما عليه من الدَّيْن ، قال : فقال الصادقعليه‌السلام : « إن بعته لزمك ، وإن أعتقته لم يلزمك » فعتقه ولم يلزمه شي‌ء(٢) .

ويحتمل إلزام المولى ؛ لأنّه أذن له في الاستدانة ، فكأنّه قد أذن له في إتلاف مال الغير ، ولا شي‌ء للعبد حالة الإذن ، فتضمّن ذلك الالتزام بما يسدينه ، وهذا هو المشهور.

مسألة ٦٠ : لو استدان العبد بإذن المولى ثمّ مات المولى وعليه ديون وقصرت التركة عن الديون ، قُسّمت التركة على دَيْن المولى ودَيْن العبد بالنسبة ؛ لأنّهما معاً يستحقّان في ذمّة المولى.

ولما رواه زرارة ، قالت : سألتُ الباقرَعليه‌السلام : عن رجل مات وترك عليه

____________________

(١) الكافي ٥ : ٣٠٣ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٢٠٠ / ٤٤٥ ، الاستبصار ٣ : ١١ - ١٢ / ٣١.

(٢) الكافي ٥ : ٣٠٣ / ١ ، التهذيب ٦ : ١٩٩ / ٤٤٣ ، الاستبصار ٣ : ١١ / ٢٩.

٦٢

دَيْناً وترك عبداً له مال في التجارة وولداً وفي يد العبد مال ومتاع وعليه دَيْنٌ استدانه العبد في حياة سيّده في تجارة ، فإنّ الورثة وغرماء الميّت اختصموا فيما في يد العبد من المال والمتاع وفي رقبة العبد ، فقال‌ « أرى أن ليس للورثة سبيل على رقبة العبد ، ولا على ما في يده من المتاع والمال إلّا أن يضمنوا(١) دَيْن الغرماء جميعاً ، فيكون العبد وما في يديه للورثة ، فإن أبوا كان العبد وما في يديه للغرماء ، يقوّم العبد وما في يديه من المال ثمّ يقسّم ذلك بينهم بالحصص ، فإن عجز قيمة العبد وما في يديه عن أموال الغرماء رجعوا على الورثة فيما بقي لهم إن كان الميّت ترك شيئاً » قال : « فإن فضل من قيمة العبد وما كان في يديه عن دَيْن الغرماء ردّه على الورثة »(٢) .

مسألة ٦١ : لو أذن المولى لعبده في الشراء للعبد ، صحّ.

والأقرب أنّه لا يملكه العبد ، فحينئذٍ يملكه المولى ؛ لاستحالة ملكٍ لا مالك له ، ولكن للعبد استباحة التصرّف والوطي لو كان أمةً لا من حيث الملك ، بل لاستلزامه الإذن.

إذا عرفت هذا ، فليس الإذن في الاستدانة للمملوك إذناً لمملوك المأذون ؛ لاختصاصه بالمأذون، فلا يتعدّى إلى غيره بالأصل.

ولا بدّ في إذن الاستدانة من التصريح ، فلا يكفي السكوت لو رآه يستدين ، ولا ترك الإنكار.

أمّا أمر صاحبَ المال بالإدانة لعبده ، فالأقرب أنّه إذن للعبد ، فيستبيح العبد التصرّفَ ، ويتعلّق الضمان بالمولى ، بل هو أبلغ من الإذن للعبد فيه.

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة بدل « يضمنوا » : « يظهر » والصحيح ما أثبتناه من المصدر.

(٢) الكافي ٥ : ٣٠٣ / ٢ ، التهذيب ٦ : ١٩٩ - ٢٠٠ / ٤٤٤ ، الاستبصار ٣ : ١١ / ٣٠.

٦٣

البحث الثالث : في المأذون له في التجارة.

والنظر فيه يتعلّق بأُمور ثلاثة :

الأوّل: فيما يجوز له من التصرّفات.

مسألة ٦٢ : إذا أذن السيّد لعبده في التجارة ، اقتصر على ما حدّه له ، ولا يجوز له التعدّي إلى غيره ، سواء كان في جنس ما يشتريه ويبيعه أو في القدر أو في السفر إلى موضعٍ. وإن عمّم له ، جاز ، ولم يختصّ الإذن بشي‌ء من الأنواع دون شي‌ء.

ويستفيد المأذون له في التجارة بالإذن كلّ ما يندرج تحت اسم التجارة أو كان من لوازمها وتوابعها ، كنشر الثوب وطيّه ، وحمل المتاع إلى المنزل والسوق ، والردّ بالعيب ، والمخاصمة في العهدة ونحوها ، فلا يستفيد به غير ذلك ، فليس له النكاح ؛ لأنّ الإذن تعلّق بالتجارة ، وهي لا تتناول النكاح ، فيبقى على أصالة المنع ، وكما أنّ المأذون له في النكاح ليس له أن يتّجر ، كذا بالعكس ؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما لا يندرج تحت اسم الآخَر.

مسألة ٦٣ : ليس للمأذون في التجارة أن يؤاجر نفسه ؛ لأنّه لا يملك التصرّف في رقبة فكذا في منفعة ، وهو قول أكثر الشافعيّة(١) .

وقال بعضهم : إنّه يملك ذلك(٢) . وبه قال أبو حنيفة(٣) .

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٥ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥٩ ، الوسيط ٣ : ١٩٦ ، الوجيز ١ : ١٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٣ ، منهاج الطالبين : ١٠٩ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٤ ، المغني ٥ : ٢٠٠.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٣.

(٣) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٨٨ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٩٥ ، المبسوط - للسرخسي - ٢٥ : =

٦٤

وهل له إجارة أموال التجارة ، كالعبيد والدوابّ؟ الأقرب : اتّباع العادة في ذلك.

وللشافعيّة وجهان :

أحدهما : المنع ، كما أنّه لا يؤاجر نفسه.

والثاني : الجواز ؛ لاعتياد التّجار ذلك. ولأنّ المنفعة من فوائد المال ، فيملك العقد عليها كالصوف واللبن. ولأنّ ذلك أنفع للمالك ، فيكون محسناً به ، فلا سبيل عليه ؛ لقوله تعالى :( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (١) (٢) .

مسألة ٦٤ : لو أذن له السيّد في التجارة في نوع من المال ، لم يصر مأذوناً في سائر الأنواع وكذا لو أذن له في التجارة شهراً أو سنةً ، لم يكن مأذوناً بعد تلك المدّة ، عند علمائنا وبه قال الشافعي -(٣) اقتصاراً بالإذن على مورده ؛ لعدم تناوله غير ذلك النوع.

وقال أبو حنيفة : إنّ الإذن في نوع يقتضي الإذن في غيره ، وكذا الإذن في التجارة مدّةً يقتضي تعميم الأقارب ؛ لأنّ في الإذن في نوعٍ أو مدّة غروراً للناس ؛ لأنّهم يحسبونه مأذوناً له في كلّ نوع ، والغرور من المغرور صدر حيث بنى الأمر على التخمين ولم يفحص في البحث عن حاله ، كما‌

____________________

= ٦ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٤ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٥٩ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٥ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥٩ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦ ، المغني ٥ : ٢٠٠.

(١) التوبة : ٩١.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٩٧ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٥ ، الوسيط ٣ : ١٩٦ ١٩٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٣ ٢٢٤.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٤.

٦٥

أنّه لو لم يأذن لعبده في التجارة فعامل العبد فتوهّم الغير الإذنَ ، لم يلزم المولى حكمٌ ، كذا هنا(١) .

واعلم أنّ أبا حنيفة سلّم أنّه لو دفع المولى إليه ألفاً ليشتري به شيئاً ، لا يصير مأذوناً له في التجارة(٢) .

ولو دفع إلى ألفاً وقال : اتّجر فيه فله أن يشتري بعين ما دفع إليه وبقدره في الذّمة لا يزيد عليه.

ولو قال : اجعله رأس مالك وتصرّفْ واتّجر فيه ، فله أن يشتري بأكثر من القدر المدفوع إليه.

مسألة ٦٥ : لو أذن لعبده في التجارة وكان للمأذون عبد ، لم يكن لعبد المأذون التجارة ، ولا للمأذون أن يأذن له إلّا بإذن مولاه ؛ لأنّ المولى إنّما اعتمد على نظر المأذون ، فلم يكن له أن يتجاوزه بالاستنابة ، كالتوكيل ، وبه قال الشافعي(٣) .

وقال أبو حنيفة : إنّ للمأذون أن يأذن لعبده في التجارة(٤) .

وليس بمعتمد.

ولو أذن له السيّد في ذلك ففَعَل ، جاز ، ثمّ ينعزل مأذون المأذون بعزل السيّد له أو للمأذون ، سواء انتزعه من يد المأذون أو لا ، وبه قال الشافعي(٥) .

____________________

(١) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٨٦ ، المبسوط - للسرخسي - ٢٥ : ٥ و ٩ و ١٧ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦.

(٢) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٨٥ - ٢٨٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦.

(٣) الوسيط ٣ : ١٩٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٤.

٦٦

وقال أبو حنيفة : إذا لم ينتزعه ، لم ينعزل(١) .

وهل للمأذون أن يوكّل غيره في آحاد التصرّفات؟ الأولى المنع ؛ لأنّ السيّد لم يرض بتصرّف غيره.

وللشافعيّة وجهان ، هذا أحدهما. والثاني : أنّ له ذلك ؛ لأنّها تصدر عن نظره ، وإنّما الممتنع أن يقيم غيره مقام نفسه(٢) .

والمعتمد : الأوّل.

مسألة ٦٦ : ليس للمأذون التصدّق ، إلّا مع علم انتفاء كراهيّة المولى ، ولا ينفق على نفسه من مال التجارة ؛ لأنّه ملك لسيّده.

وعند أبي حنيفة له ذلك(٣) .

والشافعي(٤) وافقنا على ما قلناه.

ولا يتّخذ الدعوة للمجهزين(٥) .

ولا يعامل سيّده بيعاً وشراءً ؛ لأنّ تصرّفه لسيّده ، بخلاف المكاتب يتصرّف لا لسيّده ، وبه قال الشافعي(٦) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز : ٤ : ٣٦٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٦ - ٣٦٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٤.

(٣) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٨٨ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٩٧ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٦٠ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٥ ، الوجيز ١ : ١٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٦.

(٤) الوسيط ٣ : ١٩٦ ، الوجيز ١ : ١٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٤.

(٥) قال المطرزي في المغرب ١ : ١٠١ : والمجاز عند العامّة : الغليّ من التّجار. وكأنّه اُريد المجهز ، وهو الذي يبعث التّجار بالجهاز ، وهو فاخر المتاع ، أو يسافر به ، فحُرّف إلى المجاهز.

(٦) الوجيز ١ : ١٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧ ، التهذيب للبغوي ٣ : ٥٥٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٤.

٦٧

وقال أبو حنيفة : له أن يعامل سيّده(١) .

وربما قيّد بعض الشافعيّة ذلك بما إذا ركبته الديون(٢) .

مسألة ٦٧ : لو احتطب المأذون له في التجارة أو اصطاد أو قَبِل الوصيّة أو أخذ من معدن أو مباح ، لم ينضمّ إلى مال التجارة ، فليس له التصرّف فيه إلّا بإذن مولاه ؛ لأنّه مال اكتسبه بغير التجارة ، فيكون للسيّد ، والسيّد لم يأذن له في التصرّف فيه ولا سلّمه إليه ليكون رأس المال ، وبه قال بعض الشافعيّة(٣) .

وقال بعضهم : له ذلك ؛ لأنّه من جملة أكسابه(٤) (٥) .

وهو غير دالّ على الغرض ؛ إذ الكسب لا ينافي المنع.

مسألة ٦٨ : وفي انعزال المأذون بالإباق نظر ، أقربه ذلك ، قضاءً للعادة ، فإنّ خروجه عن طاعة مولاه يؤذن بكراهة المولى لتصرّفه حيث خروج عن الأمانة ، وبه قال أبو حنيفة(٦) .

ويحتمل أن لا ينعزل بالإباق ، بل له التصرّف في البلد الذي خرج إليه ، إلّا إذا خصّ السيّد الإذن بهذا البلد ؛ لأنّ الإباق عصيان ، فلا يوجب‌

____________________

(١) الوجيز ١ : ١٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧.

(٣) الوسيط ٣ : ١٩٦ ، الوجيز ١ : ١٥١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٤.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « اكتسابه ». وما أثبتناه من المصادر.

(٥) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٤.

(٦) الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٦٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٧ ، الوجيز ١ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦١ - ٣٦٢ ، التهذيب للبغوي ٣ : ٥٥٦ ، المغني ٥ : ٢٠٠.

٦٨

الحجر ، كما لو عصى السيّد من وجهٍ آخَر.

والفرق ظاهر ؛ فإنّ قهر المولى على نفسه بالإباق يقتضي قهره على ما بيده ، فلا يناسب الإذن له في التصرّف فيه.

ولو أذن لجاريته في التجارة ثمّ استولدها ، ففيه هذا الخلاف. ولا خلاف في أنّ له أن يأذن لمستولدته في التجارة(١) .

وعندنا لو أذن لجاريته في التجارة ثمّ استولدها ، لم يبطل الإذن.

مسألة ٦٩ : لو شاهد عبده يبيع ويشتري فسكت عنه ولم ينكر عليه ولم يظهر منه أثر الاختيار ، لم يصر مأذوناً له في التجارة - وبه قال الشافعي(٢) - كما لو رآه ينكح فسكت ، لم يكن مأذوناً له في النكاح ، كذا هنا.

وقال أبو حنيفة : إنّه يكون مأذوناً له في التجارة بمجرّد السكوت(٣) .

مسألة ٧٠ : لو ركبت المأذونَ الديونُ ، لم يزل ملك سيّده عمّا في يده ، فلو تصرّف فيه المولى ببيعٍ أو هبةٍ أو إعتاقٍ بإذن المأذون والغرماء ، جاز ، فيكون الدَّيْن في ذمّة العبد.

فإن أذن العبد دون الغرماء ، لم يجز عند الشافعي(٤) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٥.

(٢) الوجيز ١ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥٧ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٥٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٥ ، تحفة الفقهاء ٣ : ٢٨٦ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٩٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٣ ، المبسوط - للسرخسي - ٢٥ : ١١ ، المغني ٥ : ٢٠٠.

(٣) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٨٦ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٩٢ ، المبسوط - للسرخسي - ٢٥ : ١١ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٣ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٥٨ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥٨ ، التهذيب للبغوي ٣ : ٥٥٦ ، الوجيز ١ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٧.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٥.

٦٩

وإن أذن الغرماء دون العبد ، فللشافعيّة وجهان(١) .

وقال أبو حنيفة : إذا ركبته الديون ، يزول ملك السيّد عمّا في يده ، ولا يدخل في ملك الغرماء(٢) .

وهو يستلزم المحال ، وهو وجود ملكٍ لا مالك له.

والأقرب : أنّ ما في يده لمولاه ، ويصحّ تصرّفه فيه بجميع أنواع التصرّفات ، ولا اعتراض للمولى ولا الغرماء.

مسألة ٧١ : لو أقرّ العبد المأذون بديون المعاملة ، ففي قبوله إشكال ينشأ من أنّه يملك ذلك فيملك الإقرار به ، ومن أنّه إقرار في حقّ المولى.

والمعتمد : الثاني.

وقالت الشافعيّة : إنّه يُقبل ، ولا فرق بين أن يُقرّ بها لأجنبيّ أو لولده أو لأبيه(٣) .

وقال أبو حنيفة : لا يُقبل إقراره لهما(٤) .

أمّا لو أقرّ بغير دَيْن المعاملة فإنّه غير نافذ ، وكذا لو أقرّ المأذون ؛ لأنّه إقرار في حقّ المولى.

مسألة ٧٢ : إذا أقرّ العبد بجناية توجب القصاص أو الدية ، أو أقرّ بحدٍّ أو تعزير ، لم يُقبل إقراره في حقّ مولاه بمعنى أنّه لا يقتصّ منه ما دام مملوكاً ، ولا يطالب بالمال ولا بالحدّ ولا بالتعزير ، سواء كان مأذوناً له في‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٥.

(٢) الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٨ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٦٣ ، الوجيز ١ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨.

(٣) الوجيز ١ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٥.

(٤) المبسوط - للسرخسي - ٢٥ : ٨٠ ، الوجيز ١ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨.

٧٠

التجارة والاستدانة أو لا - وبه قال زفر والمزني وداوُد الظاهري وابن جرير الطبري(١) لأنّه إقرار في حقّ المولى. ولأنّه يسقط حقّ السيّد به ، فأشبه إقراره بالخطأ.

وقال أبو حنيفة والشافعي ومالك : يُقبل إقراره بما يوجب القصاص ، ويكون للمقرّ له استيفاؤه؛ لأنّ ما لا يُقبل فيه إقرار السيّد على العبد يُقبل إقرار العبد فيه كالطلاق ، بخلاف جناية الخطأ ؛ لأنّ العبد تلحقه التهمة في ذلك ، ولهذا يُقبل إقرار السيّد بها ، وفي مسألتنا لا تلحقه التهمة ؛ لأنّه يتلف بذلك نفسه ، ولهذا يُقبل إقرار المرأة بالقتل وإن تضمّن إبطال حقّ الزوج ، ولا يُقبل بما يحرمها عليه مع سلامتها(٢) .

ونمنع عموميّة أنّ ما لا يُقبل فيه إقرار السيّد يُقبل فيه إقرار العبد. والتمسّك بالإطلاق تمسّكٌ بأمرٍ جزئيّ لا يدلّ على الحكم الكلّي.

وقال أحمد : يُقبل إقراره فيما دون النفس ، ولا يُقبل في النفس ؛ لما روي عن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام أنّه قطع عبداً بإقراره(٣) .

____________________

(١) المغني ٤ : ٣٢٣ ، و ٥ : ٢٧٣ ٢٧٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٨٠ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٤ : ٢٩٩ ، الهداية للمرغيناني ٤ : ١٦٩ ، الحاوي الكبير ٥ : ٣٧٢ ، التهذيب للبغوي ٣ : ٥٦٠ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٦.

(٢) المغني ٥ : ٢٧٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٨٠ ، الهداية للمرغيناني ٤ : ١٦٩ ، المبسوط للسرخسي ٩ : ١٠٠ ، الام ٦ : ٢١٧ ، المهذّب للشيرازي ٢ : ٣٤٤ ، الحاوي الكبير ٥ : ٣٧٢ ، التهذيب للبغوي ٣ : ٥٦٠ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦١ ، و ٨ : ٣٢٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٦ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ٥٨٢ ، التفريع ٢ : ٢٣١.

(٣) المغني ٤ : ٣٢٣ ، و ٥ : ٢٧٣ ٢٧٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٧٩ ٢٨٠ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٤ : ٢٩٩ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٧.

٧١

ونحن نمنع ذلك ، وإنّما قطعه بالبيّنة.

إذا ثبت هذا ، فإن اُعتق نفذ إقراره ، وطُولب بمقتضاه.

وإن أقرّ بجناية الخطأ ، فعندنا لا يُقبل إقراره في حقّ مولاه على ما تقدّم.

وقال الشافعي(١) هنا بقولنا.

ويتعلّق الإقرار بذمّته يتبع به إذا اُعتق وأيسر ، بخلاف المحجور عليه للسفه إذا أقرّ بالجناية ، فإنّه لا يلزم لا حال الحجر ولا بعد فكّه ؛ لأنّا أبطلنا إقراره لسفهه فلا نلزمه إيّاه ؛ لأنّ ذلك تضييع لماله الذي حفظناه بالحجر ، والعبد رشيد ، وإنّما رددنا إقراره لحقّ سيّده ، فإذا زال حقّه وملك المال ، ألزمناه حقّ إقراره.

مسألة ٧٣ : لو أقرّ العبد بسرقة سواء كان مأذوناً أو لا ، لم ينفذ إقراره في حقّ مولاه ؛ لأنّه إقرار على الغير ، فإن اُعتق ، اُلزم بمقتضاه ، سواء كانت السرقة ممّا توجب القطع أو لا ، كالسرقة من غير حرز أو لما دون النصاب ويكون المقرّ به في ذمّته تالفاً أو باقياً ؛ لأنّه متّهم في إقراره.

وقال الشافعي : إن كانت السرقة لا توجب القطع ، لم يُقبل في حقّ المولى ، ويتبع العبد بها بعد العتق. وإن أوجبت القطع ، صحّ إقراره في وجوب القطع عليه ، كما يصّح فيما يوجب القصاص(٢) .

وأمّا المسروق فإن كان تالفاً ، فهل يصّح إقراره ويتعلّق برقبته ، أو‌ يكون في ذمّته؟ للشافعيّة قولان(٣) :

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٤٥.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٤٥ ، التهذيب للبغوي ٣ : ٥٦٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٦.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٤٥ ، التهذيب للبغوي ٣ : ٥٦٠ ، حلية العلماء ٨ : =

٧٢

أحدهما : أنّه يصحّ ، ويتعلّق برقبته ؛ لأنّ إقراره متضمّن للعقوبة ، فلا تهمة فيه ، كما لو أقرّ بجناية العمد ، فإنّه يصحّ ، وإن كان الوليّ إذا عفا وجب المال في رقبته.

والثاني : لا يجب في رقبته ، وإنّما يتعلّق بذمّته ؛ لأنّه إقرار بالمال ، فأشبه ما لا يجب به القطع. ويفارق الإقرار بالقصاص ؛ لإقراره بالعقوبة ، وإنّما يصير مالاً بعفو الولي واختياره ، وهنا يُقر(١) بالمال. ألا ترى أنّه إذا أقام المسروق منه شاهداً وامرأتين ، ثبت المال دون القطع ، ولو شهد بقتل العمد شاهد وامرأتان ، لم تثبت العقوبة ولا الدية ، فإن رجع عن إقراره ، سقط القطع ، ويتعلّق المسروق بذمّته قولاً واحداً ؛ لأنّ التهمة تلحقه الآن.

وإن كانت العين المسروقة قائمةً ، فإن كانت في يد السيّد وأنكر السيّد ، قُدّم قوله مع اليمين ، وأوجب إقرار العبد القطع ، ولا يجب به ردّ العين ، وإنّما يثبت بدلها في ذمّته ، كالحُرّ إذا أقرّ بسرقة عين في يد مَنْ يدّعيها لنفسه ، فإنّه يُقطع ولا يردّ ويغرمها.

وإن كانت في يد العبد ، اختلفوا في ذلك على طريقين :

قال ابن سريج في ردّ ذلك قولين ، كما لو كانت العين تالفةً(٢) .

وقال غيره : لا تردّ العين قولاً واحداً ؛ لأنّ يده كيد سيّده ، ولو كانت في يد سيّده لم تردّ. ولأنّ هذا يؤدّي إلى أن يُقبل إقراره في أكثر من قيمته ، وهو أن تكون العين أكثر منه قيمةً(٣) .

وهذا كلّه عندنا بالطل ، وإنّ إقراره لا ينفذ لا في المال ولا في القطع.

____________________

= ٣٢٦ ٣٢٧ ، الوجيز ١ : ١٩٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٧ - ٢٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٦.

(١) في « س ، ي » : « أقرّ ».

(٢) الحاوي الكبير ٥ : ٣٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٨.

(٣) الحاوي الكبير ٥ : ٣٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٦.

٧٣

إذا ثبت هذا ، فإنّ الشافعيّة قالوا : إنّه يُقطع ، ولا تردّ العين ، وبه قال مالك وأحمد(١) .

وقال أبو حنيفة : لا يُقطع ولا تردّ العين - وهو مذهبنا - لأنّ العين يُحكم بأنّها للسيّد ، ولا يجوز أن يُقطع في ملك سيّده(٢) .

وقال محمّد : يُقطع وتردّ العين ؛ لأنّه إنّما أقرّ بسرقة العين ، فإذا أوجبنا القطع فيها وجب ردّها(٣) .

واحتجّ الشافعي بأنّه أقرّ بسرقة عينٍ هي ملكٌ لغيره في الظاهر ، فوجب أن يُقبل إقراره في القطع دون العين ، كما لو أقرّ الحُرّ بسرقة مال في يد غيره(٤) .

ونمنع أنّها ملك الغير ، بل هي ملك السيّد.

تذنيب : لو صدّق المولى العبد في إقراره بما يوجب القصاص أو الحدّ ، قُبِل ، واستوفي من العبد ما يقتضيه إقراره.

مسألة ٧٤ : مَنْ عامَل المأذونَ وهو لا يعرف رقّه ، صحّ تصرّفه ، ولا يشترط علمه بحاله.

ولو عرف رقّه ، لم يجز له معاملته ، إلّا أن يعرف إذن السيّد.

ولا يكفي قول العبد : أنا مأذون ؛ لأنّ الأصل عدم الإذن ، فأشبه ما إذا‌ زعم الراهن إذن المرتهن في بيع المرهون. ولأنّه مدّعٍ لنفسه ، فلا تُقبل دعواه إلّا ببيّنة ، وبه قال الشافعي(٥) .

____________________

(١) الحاوي الكبير ٥ : ٣٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٨ ، المغني ٤ : ٣٢٤ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ٥٨٢.

(٢) المغني ٤ : ٣٢٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٨.

(٣) اُنظر : الحاوي الكبير ٥ : ٣٧٤.

(٤) المغني ٤ : ٣٢٤.

(٥) الوسيط ٣ : ١٩٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٦.

٧٤

وقال أبو حنيفة : يكفي قول العبد ، كما يكفي قول الوكيل(١) .

قالت الشافعيّة : بينهما فرق ؛ لأنّ في الوكيل لا حاجة إلى دعوى الوكالة ، بل تجوز معاملته بناءً على ظاهر الحال وإن لم يدّع شيئاً ، وهنا بخلافه(٢) .

وإنّما يُعرف كونه مأذوناً إمّا بسماع الإذن من السيّد أو ببيّنة تقوم عليه.

ولو شاع في الناس كونه مأذوناً ، فوجهان ، أصحّهما عندهم : يكتفى به(٣) أيضاً ؛ لأنّ إقامة البيّنة لكلّ معاملٍ ممّا يعسر(٤) .

والوجه عندي : عدم الاكتفاء ، والعسر يندفع بإثبات ذلك عند الحاكم.

ولو عرف كونه مأذوناً ثمّ قال العبد : حجر عليَّ السيّد ، لم يعامل.

فإن قال السيّد : لم أحجر عليه ، فوجهان للشافعيّة:

أصحّهما عندهم : أنّه لا يعامل أيضاً ؛ لأنّه العاقد ، والعقد باطل بزعمه.

والثاني : أنّه يجوز معاملته - وهو مذهبنا ، وبه قال أبو حنيفة - اعتماداً‌ على قول السيّد(٥) .

مسألة ٧٥ : لو عامل المأذونَ مَنْ عرف رقَّه ولم يعرف إذنه ثمّ بانَ كونه مأذوناً ، صحّت المعاملة ؛ لظهور الإذن المقتضي لصحّتها ، وليس العلم

____________________

(١) الوسيط ٣ : ١٩٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فيه » بدل « به ». والصحيح ما أثبتناه.

(٤) الوسيط ٣ : ١٩٧ ، الوجيز ١ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٦ ، منهاج الطالبين ٣ : ١٠٩.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٦.

٧٥

به شرطاً في الصحّة ، بل في العلم بها.

وقالت الشافعيّة : إنّه يلحق بما إذا باع مال أبيه على ظنّ أنّه حيّ فبانَ ميّتاً(١) .

ويقرب منه قولان للشافعيّة فيما إذا كذب مدّعي الوكالة ثمّ عاملة ثمّ ظهر صدق دعوى الوكيل في الوكالة(٢) .

وكلّ هذا عندنا يقع صحيحاً ؛ لما قلناه من أنّ العلم شرط في العلم.

ولو عرف كونه مأذوناً فعامَلَه ثمّ امتنع من التسليم إلى أن يقع الإشهاد على الإذن ، فله ذلك ، خوفاً من خطر إنكار السيّد ، كما لو صدق مدّعي الوكالة بقبض الحقّ ثمّ امتنع من التسليم حتى يشهد الموكّل على الوكالة.

وهل يجوز معاملة مَنْ لا يعرف رقّه وحُرّيّته؟ الأقرب ذلك ؛ لأنّ الأصل الحُرّيّة وعدم الحجر ، وهو أحد قولي الشافعيّة. والثاني : المنع ؛ لأنّ الأصل بقاء الحجر الثابت عليه بالصغر(٣) .

مسألة ٧٦ : إذا أطلق له الإذن في الشراء ، انصرف إلى النقد ، فإن أذن له في النسيئة ، جاز ، فيثبت الثمن في ذمّة المولى ، وليس له الاستدانة إلّا مع ضرورة التجارة المأذون له فيها ، فيلزم الدَّيْن المولى ؛ لأنّ الإذن في الشي‌ء يستلزم الإذن فيما لا يتمّ ذلك الشي‌ء إلّا به.

أمّا لو استدان لغير مصلحة التجارة ، فإنّه لا يلزم المولى ، بل يتبع به بعد العتق ، فإن اُعتق اُخذ منه ، وإلّا ضاع.

ولا يستسعى على رأي ؛ لأنّ في ذلك إضراراً بالمولى ، فكان المؤدّي المولى.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٦.

(٢ و٣ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٦.

٧٦

النظر الثاني : في العهدة.

مسألة ٧٧ : إذا باع المأذون سلعةً وقبض الثمن فظهرت السلعة مستحقّةً وقد تلف الثمن في يد العبد ، فللمشتري الرجوع ببدله على السيّد ؛ لأنّ العقد له والعبد نائب عنه وعبارته مستعارة ، فكأنّه البائع والقابض للثمن ، وهو أحد قولي الشافعيّة. وفي الثاني : يرجع المشتري على العبد ببدله ؛ لأنّه المباشر للعقد(١) .

ولم قولان آخَران :

أحدهما : أنّه لا يرجع على العبد ولا السيّد ؛ لأنّ السيّد بالإذن قد أعطاه استقلالاً ، فشرط من معاملة قصر الطمع عن يده وذمّته(٢) .

والثاني : أنّه إن كان في يد العبد وفاء ، فلا يطالَب السيّد ؛ لحصول غرض المشتري ، وإلّا طُولب السيّد(٣) .

وقال ابن سريج : إن كان السيّد قد دفع إليه عين ماله وقال : بِعْها وخُذْ ثمنها واتّجر فيه ، أو قال : اشتر هذه السلعة وبِعْها واتّجر في ثمنها ، ففَعَل ثمّ‌ ظهر الاستحقاق وطالَبه المشتري بالثمن ، فله أن يطالب السيّد بقضاء الدَّيْن عنه ؛ لأنّه أوقعه في هذه الغرامة. وإن اشترى باختياره سلعةً وباعها ثمّ ظهر الاستحقاق ، فلا(٤) .

مسألة ٧٨ : المأذون له في التجارة إذا اشترى شيئاً للتجارة ، طُولب

____________________

(١) الوسيط ٣ : ١٩٩ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٦ - ٢٢٧.

(٢) كذا ، في العزيز شرح الوجيز : « فشرط من يعامله قصر الطمع على يده وذمّته ».

(٣) الوسيط ٣ : ١٩٩ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٧.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٧.

٧٧

السيّد بالثمن ؛ لأنّه نائب عنه ووكيل له.

وللشافعيّة الأوجُه الثلاثة(١) السابقة في المسألة السابقة.

والوجه الأوّل والثاني جاريان في عامل القراض مع ربّ المال ؛ لتنزيل ربّ المال العهدة على المال المعيّن(٢) .

ولو دفع شخص إلى وكيله مالاً وقال : اشتر لي عبداً وأدِّ هذا في ثمنه ، فاشترى الوكيل ، ففي مطالبة الموكّل بالثمن عند الشافعيّة طريقان :

أحدهما : أنّه يطالَب ، ولا حكم لهذا التعيين مع الوكيل ؛ لأنّ الوكيل سفير محض ، والمأذون مملوكه يلزمه الامتثال والتزام(٣) ما يلزمه السيّد ذمّته.

وأحسنهما عندهم : طرد القولين فيه(٤) .

والوجه : أن نقول : إن كان الموكّل قد عيّن المدفوع في الثمنيّة في العقد فاشترى الوكيل به ، لم يطالَب الموكّل. وإن لم يدفعه ، بطل الشراء إن سمّى الموكّل ؛ لمخالفته أمره ، وإن لم يسمّه ، وقع الشراء له ، وكان عليه الثمن ، فلا يطالَب الموكّل. وإن لم يكن قد عيّن المدفوع في الثمنيّة في‌ العقد ، كان للبائع مطالبة الموكّل.

مسألة ٧٩ : إذا توجّهت المطالبة على العبد ، لم تسقط ، ولا تندفع عنه بعتقه ، لكن في رجوعه بالمغروم بعد العتق للشافعيّة وجهان :

أحدهما : يرجع ؛ لانقطاع استحقاق السيّد بالعتق.

____________________

(١ و ٢ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٦٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٧.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « إلزام ». والصحيح ما أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٧٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٧.

٧٨

وأظهرهما عندهم : لا يرجع ؛ لأنّ المؤدّي بعد العتق كالمستحقّ بالتصرّف السابق على الرقّ ، وهذا كالخلاف في السيّد إذا أعتق العبد - الذي آجره - في أثناء مدّة الإجارة هل يرجع بأجرة مثله للمدّة الواقعة بعد العتق؟(١)

مسألة ٨٠ : لو سلّم إلى عبده ألفاً للتجارة فاشترى بالعين شيئاً ثمّ تلف الألف في يده ، انفسخ العقد ، كما لو تلف المبيع قبل القبض.

وإن اشترى في الذمّة على عزم صرف الألف في الثمن ، فالأقرب : أنّه لا يجب على السيّد دفع البدل ؛ لأنّه أذن بالمعاملة بما دفعه ، وهو ينصرف إلى الشراء بالعين ، لكنّ السيّد إن دفع ألفاً آخَر ، أمضى العقد ، وإلّا فللبائع فسخ العقد ، وهو أحد أقوال الشافعيّة.

والثاني : أنّه ينفسخ بالعقد ، كما لو اشترى بالعين ؛ لأنّ المولى حصر إذنه في التصرّف في ذلك الألف وقد فات محلّ الإذن ، فبطل البيع.

والثالث : أنّه يجب على السيّد ألفٌ آخَر ؛ لأنّ العقد وقع له ، والثمن غير متعيّن ، فعليه الوفاء بإتمامه(٢) .

ولا بأس به إن كان السيّد قد أطلق له ذلك ، بل هو المتعيّن حينئذٍ ، وإلّا فالوجه ما قلناه.

وللشافعيّة وجهٌ رابع ، وهو : أن يكون الثمن في كسب العبد(٣) .

وكذا لو دفع إلى عامل القراض ألفاً للقراض ، فاشترى العامل بمالٍ في الذمّة وتلف الألف عنده ، هل يجب على ربّ المال ألفٌ آخَر ، أو

____________________

(١) الوسيط ٣ : ٢٠٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٧٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٧.

(٢ و ٣ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٧٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٧.

٧٩

ينقلب العقد إلى العامل؟ إن قلنا بالأوّل ، فعلى السيّد ألفٌ آخَر. وإن قلنا بالثاني ، انفسخ العقد.

وإذا قلنا على السيّد ألفٌ آخَر ، فهل للعبد أن يتصرّف فيه بالإذن السابق ، أم لا بدّ من إذنٍ جديد؟ فيه وجهان كالوجهين في أنّه إذا أخرج ألفاً آخَر في صورة القراض ، فرأس المال ألفٌ أو ألفان؟ إن قلنا : ألفٌ ، فلا بدّ من إذنٍ جديد. وإن قلنا : ألفان ، كفى الإذن السابق.

والألف الجديد إنّما يطالب به البائع دون العبد ، ولا شكّ أنّ العبد لا يمدّ يده إلى ألف من مال السيّد وأنّه لا يتصرّف فيما قبضه البائع ، وإنّما تظهر فائدة الخلاف فيما إذا ارتفع العقد بسببٍ من الأسباب ورجع الألف.

مسألة ٨١ : إذا اتّجر المأذون وحصل عليه ديون وفي يده مال وكان الذي استدانه في مصلحة التجارة ، قُضيت ديونه ممّا في يده ، وإن شاء المولى دفع من عنده. وإن لم يكن بقي في يده شي‌ء ، فإنّ الديون تكون(١) في ذمّته يُتبع بها إذا أُعتق وأيسر إن صرفها في غير مصلحة التجارة.

والشافعيّة أطلقوا وقالوا : لا يتعلّق برقبته وبه قال مالك لأنّه دَيْنٌ ثبت على العبد برضا مَنْ له الدَّيْن ، فوجب أن لا يتعلّق برقبته ، كما لو استقرض بغير إذن سيّده(٢) .

وقال أبو حنيفة : يُباع العبد فيه إذا طالَبه الغرماء ببيعه ؛ لأنّه دَيْنٌ تعلّق بالعبد بإذن سيّده ، فوجب أن يباع فيه ، كما لو رهنه(٣) .

____________________

(١) في « ي » : « تبقي » بدل « تكون ».

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٩٧ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦٢ ، الوسيط ٣ : ٢٠٢ ، الوجيز ١ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٧١ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٢٧ - ٢٢٨ ، المدوّنة الكبرى ٥ : ٢٤٥ - ٢٥٦ ، المغني ٤ : ٣٢٢.

(٣) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٩٠ ، المغني ٤ : ٣٢٢ ، حلية العلماء ٥ : ٣٦٢ ، الوجيز ١ : ١٥٢ ، الوسيط ٣ : ٢٠٢.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

فصيحة إذا وقعت في محلّ، وغير فصيحة إذا وقعت في محلّ آخر، فلو كان الأمر في الفصاحة والبلاغة راجعاً إلى مجرّد الألفاظ الوضعية لما اختلف ذلك بحسب اختلاف المواضع، وأمّا (ثانياً)؛ فلأنّ الاستعارة والتشبيه والتمثيل والكناية من أعظم قواعد الفصاحة وأبلغها، وإنّما كانت كذلك باعتبار دلالتها على المعاني لا باعتبار ألفاظها، فصارت الدلالة على وجهين:

الوجه الأوّل: دلالة وضعية، وهذه لا تعلّق لها بالبلاغة والفصاحة كما مهّدنا طريقه.

وثانيهما: الدلالة المعنوية، ودلالتها إمّا بالتضمّن أو بالالتزام، وهما عقليّان من جهة أنّ حاصلهما هو انتقال الذهن من مفهوم اللفظ إلى ما يلازمه، ثمّ تلك الملازمة إمّا أن تكون دلالة على جزء المفهوم، أو تكون دلالة على معنى يصاحب المفهوم، فالأَوّل هو الدلالة التضمنية، والثاني هو الدلالة الخارجية، وهما جميعاً من اللوازم، ثمّ إنّ تلك اللوازم تارة تكون قريبة، وتارة تكون بعيدة، فمِن أجل ذلك صحّ تأدية المعاني بطرق كثيرة، بعضها أكمل من بعض، وتارةً تزيد، ومرّةً تنقص؛ فلأجل هذا اتّسع نطاق البلاغة وعظم شأنه، وارتفع قدره وعلا أمره.

فربّما علا قدر الكلام في بلاغته حتى صار معجزاً لا رتبة فوقه، وربّما نزل الكلام حتى صار ليس بينه وبين نعيق البهائم إلاّ مزيّة التأليف والتركيب، وربّما كان متوسّطاً بين الرتبتين، وقد يوصف اللفظ بالجودة؛ لكونه متمكناً في أسَلاَت الألسنة غير ناب عن مدارجها، ولا قَلِق على سطح اللسان، جيّداً سبكه صحيحاً طابعه، وأنّه في حقّ معناه من غير زيادة عليه ولا نقصان عنه، وقد يذمّونه بنقائض هذه الصفات بأنّه مُعقّد جُرزٌ، وأنّه لتعقيده استهلك المعنى، يمشي اللسان إذا نطق به كأنّه مقيّد، وحَشيٌّ، نافرٌ، نازل القدر، طويل الذيول من غير فائدة، ولا معنى تحته، وقد يصفون المعنى بالجودة بأنّه قريب جزل، يسبق إلى الأذهان قبل أن يسبق إلى الآذان، ولا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك، حتى كأنّه

٢٢١

يدخل إلى الأُذن بلا إذن، وقد يذمّونه بكونه ركيكاً نازل القدر، بعيداً عن العقول، وهلمّ جرّ إلى سائر ما ذكرناه من جهة المعنى على جهة المناقضة والقرآن كلّه من أوله إلى آخره حاصل على هذه المزايا، موجودة فيه على أكمل شيء وأتمّه، فلله درّه من كتاب اشتمل على علوم الحكمة وضمّ جوامع الخطاب، وأودع ما لم يودع غيره من الكتب المنزلة من حقائق الإجمال ودقائق الأسرار المفصّلة.

وبعد ذلك خاض محاسن الآية مستخرجاً لآليها قائلاً:

وإذا أردت أن تكحل بصرك بمرود التخييل، والاطّلاع على لطائف الإجمال والتفصيل، فاتلُ قصّة زكريّا (عليه السلام) وقف عندها وقفة باحث وهي قوله تعالى ( قَالَ رَبّ إِنّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّي وَاشْتَعَلَ الرّأْسُ شَيْباً ) فإنّك تجد كلّ جملة منها بل كلّ كلمة من كلماتها تحتوي على لطائف، وليس في آي القرآن المجيد حرف إلاّ وتحته سرّ ومصلحة فضلاً عمّا وراء ذلك، والكلام في تقرير تلك اللطائف الإجمالية وما يتلوها من الأسرار التفصيلية مقرّر في معرفة حدّ الكلام وأصله، وأنّ كلّ مرتبة من مراتب الإجمال متروكة في الآية بمرتبة أخرى مفصّلة، حتّى تتّصل بما عليه نظم الآية وسياقها، وجملة ما نورده من ذلك درجات عشر، كلّ واحدة منها على حظّ من الإجمال، بعدها درجة أخرى على حظّ من التفصيل، حتى تكون الخاتمة هو ما اشتمل عليه سياقها المنظوم على أحسن نظام، وصار واقعاً في تتميم بلاغتها أحسن تمام.

(الدرجة الأُولى) نداء الخفية؛ فإنّه دالّ على ضعف الحال وخطاب المسكنة والذلّ حتى لا يستطيع حراكاً، وهو من لوازم الشيخوخة والهزال، ولِما فيه من التصاغر للجلال، والعظمة بخفض المصوب في مقام الكبرياء وعظم القدرة، فهذه الجملة مذكورة كما قرَّرناه، وهي مناسبة لحاله، ولهذا صدّرها في أول قصّته لِما فيها من ملائمة الحال وهضم النفس واستصغارها. وافتتاحها بذكر العبودية يؤكّد ما ذكرناه ويؤيّده.

٢٢٢

(الدرجة الثانية) كأنّه قال: يا رب إنّه قد دنا عمري، وانقضت أيّام شبابي، فإنّ انقضاء العمر دالّ على الضعف والشيخوخة لا محالة؛ لأنّ انقضاء الأيّام والليالي هو الموصل إلى الفناء والضعف وشيب الرأس، ثم إنّ هذه الجملة صارت متروكة لتوخّي مزيد التقرير إلى ما هو أكثر تفصيلاً منها ممّا يكون بعدها.

(الدرجة الثالثة) كأنّه قال: قد شخت فإنّ الشيخوخة دالّة على ضعف البدن وشيب الرأس؛ لأنّها هي السبب في ذلك لا محالة.

(الدرجة الرابعة) كأنّه قال: وهنت عظام بدني، جعله كناية عن ضعف حاله، ورقّة جسمه، ثم تُركت هذه الجملة إلى جملة أخرى أكثر تفصيلاً منها.

(الدرجة الخامسة) كأنّه قال: أنا وهنت عظام بدني، فأُعطيت مبالغة، لمّا قدّم المبتدأ ببناء الكلام عليه، كما ترى.

(الدرجة السادسة) كأنّه قال: إنّي وهنت العظام من بدني، فأضاف إلى نفسه تقريراً مؤكّداً (بإنّ) للأمر، واختصاصها بحاله، ثمّ تُركت هذه الجملة بجملة غيرها.

(الدرجة السابعة) كأنّه قال: إنّي وهنت العظام منّي، فترك ذكر البدن وجمع العظام؛ إرادة لقصد شمول الوهن للعظام ودخوله فيها.

(الدرجة الثامنة) ترك جمع العظام إلى إفراد العظم، واكتفى بإفراده فقال، ( إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) .

(الدرجة التاسعة) ترك الحقيقة، وهي قوله: أشيب، أو شاب رأسي، لِما علم أنّ المجاز أحسن من الحقيقة، وأكثر دخولاً في البلاغة منها، ثم تُركت هذه الجملة بجملة أخرى غيرها.

(الدرجة العاشرة) أنّه عدل عن المجاز إلى الاستعارة في قوله ( وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) وهي من محاسن المجاز، ومن مثمرات البلاغة، وبلاغتها قد ظهرت من جهات ثلاث:

الجهة الأولى: إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادة شمول الاشتعال بجميع

٢٢٣

الرأس، بخلاف ما لو قال: اشتعل شيب رأسي، فإنّه لا يؤدّي هذا المعنى بحال، فـ (اشتعل رأسي) وزان اشتعلت النار في بيتي، و ( وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) وزان: اشتعل بيتي ناراً.

الجهة الثانية: الإجمال والتفصيل في نصب التمييز، فإنّك إذا نصبت (شيباً) كان المعنى مخالفاً لما إذا رفعته، فقلت: اشتعل شيب رأسي، لما في النصب من المبالغة دون غيره.

الجهة الثالثة: تنكير قوله (شيباً) لإفادة المبالغة، ثم إنّه ترك لفظ (منّي) في قوله ( وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) اتّكالاً على قوله ( وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) ثم إنّه أتى به في الأَوّل؛ بياناً للحال وإرادةً للاختصاص بحاله في إضافته إلى نفسه، ثُمّ عطف الجملة الثانية على الجملة الأُولى بلفظ الماضي؛ لِما بينهما من التقارب والملاءمة.

فانظر إلى هذا السياق المثمر المورق، وجودة هذا الرصف المعجب المونق، كيف ترك جملة إلى جملة؛ إرادةً للإجمال بعده التفصيل، من أجل إيثار البلاغة حتى انتهى إلى خلاصها، ودهن لبّها ومصاصها، وهو جوهر الآية ونظامها بأوجز عبارة وأخصرها، وأظهر بلاغة وأبهرها.

واعلم أنّ الذي فتق أكمام هذه اللطائف حتى تفتّحت أزرار أزهارها، وتعانقت أغصانها، وتأنقت أفنانها، وتناسبت محاسن آثارها، هو مقدّمة الآية وديباجتها، فإنّه لمّا افتتح الكلام في هذه القصّة البديعة بالاختصار العجيب، بأن طرح حرف النداء من قوله (ربّ) وياء النفس من المضاف، أشعر أوّلها بالغرض؛ فلأجل تأسيس الكلام على الاختصار عقّبه بالاختصار والإجمال، واكتفى بذكر هاتين الجملتين عمّا وراءهما من تلك المراتب العشر التي نبّهنا عليها والحمد لله (١) .

____________________

(١) الطراز: ج ٣ ص ٤١٦ - ٤٢٠.

٢٢٤

أعجب آية باهرة:

قوله تعالى: ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِي الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلى الْجُودِيّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ ) (١) .

قد مرّت عليك قصّة النفر من فصحاء قريش أزمعوا ليعارضوا القرآن، فعكفوا على لطيف الغذاء من لباب البُرّ وسُلاف الخمر ولحوم الضأن والخلوة، حتى بلغوا مجهودهم، فإذا فوجئوا بنزول هذه الآية، فطووا ما أزمعوا ويئسوا ممّا طمعوا فيه، وعلموا أنّه لا يشبه كلام مخلوق (٢) .

الأمر الذي دعا بعلماء الأدب والبيان أن يجعلوا هذه الآية بالذات موضع دراستهم والبحث عن مزاياها الخارقة، فخاضوا عبابها واستخرجوا لبابها في عرض عريض.

وممّن أجاد في هذا الباب هو الإمام أبو يعقوب السكّاكي في كتابه (مفتاح العلوم)، فبعد أن تكلّم عن شأن البلاغة وعجيب أمره، وأنّه ممّا يُدرك ولا يوصف كاستقامة الوزن تُدرك ولا يمكن وصفها، والملاحة يبهر حسن منظرها ولا يستطاع نعتها... وأضاف أنّ مدرك (الإعجاز) هو الذوق ليس إلاّ، وطول خدمة عِلمَي المعاني والبيان... ذكر شاهداً على ذلك متمثلاً بالآية الكريمة، ومعرّجاً على تعداد مزاياها ومفارقاتها عن سائر الكلام، قال:

وإذ قد وقفت على البلاغة وعثرت على الفصاحة المعنوية واللفظية، فأنا أذكر - على سبيل الأنموذج - آية أكشف لك فيها عن وجوه البلاغة والفصاحتين، ما عسى يسترها عنك، ثُمّ إن ساعدك الذوق أدركت منها ما قد أدرك مَن تُحدّوا بها، وهي قوله - علت كلمته -: ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ

____________________

(١) هود: ٤٤.

(٢) العمدة لابن رشيق: ج ١ ص ٢١١، وراجع الجزء الرابع من التمهيد: ص ٢٠٢.

٢٢٥

الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

قال: والنظر في هذه الآية من أربع جهات: من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني - وهما مرجعا البلاغة - ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية:

١ - أمّا النظر فيها من جهة (علم البيان) وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها فنقول:

إنه - عزّ سلطانه - لمّا أراد أن يُبيّن معنى (أردنا أن نردّ ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتدّ، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح - وهو انجاز ما كنّا وعدنا من إغراق قومه - فقضي، وأن نُسوّي السفينة على الجوديّ فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى).

بنى الكلام على تشبيه المراد بالمأمور الذي لا يتأتّى منه - لكمال هيبته - العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكوّن المقصود، تصويراً لاقتداره العظيم، وأنّ السماوات والأرض وهذه الأجرام العظام تابعة لإرادته، إيجاداً وإعداماً، ولمشيئته فيها تغيراً وتبديلاً، كأنّهما عقلاء مميّزون قد عرفوه حقّ معرفته، وأحاطوا علماً بوجوب الانقياد لأمره والإذعان لحكمه، وتحتّم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوّروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضُربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته كان المشار إليه مقدّماً، وكما يرد عليهم أمره كان المأمور به متمّماً، لا تلقى لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.

ثمّ بنى على تشبيه هذا نظم الكلام، فقال - جلّ وعلا -: (قيل) على سبيل المجاز عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد، وهو (يا أرض) و (يا سماء) ، ثم قال - كما ترى - (يا أرض... و يا سماء) مخاطباً لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور.

٢٢٦

ثمّ استعار لغور الماء في الأرض (البلع) الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم، للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقرّ خفي.

ثمّ استعار (الماء) للغذاء استعارة بالكناية، تشبيهاً له بالغذاء؛ لتقوّي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار، تقوّي الآكل للطعام، وجُعل قرينة الاستعارة لفظة (ابلعي)؛ لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.

ثمّ أمر - على سبيل الاستعارة للشبه المقدّم ذكره - وخاطب في الأمر ترشيحاً لاستعارة النداء، ثمّ قال: (ماءك) بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز، تشبيهاً لاتّصال الماء بالأرض باتّصال المُلك بالمالك، واختار ضمير الخطاب؛ لأجل الترشيح.

ثمّ اختار لاحتباس المطر (الإقلاع) الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان، ثمّ أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر قائلاً (أقلعي) لمثل ما تقدّم في (ابلعي) .

ثم قال: ( وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً... ) فلم يُصرّح بمَن غاض الماء، ولا بمَن قضى الأمر، وسوّى السفينة، وقال بُعداً، كما لم يُصرّح بقائل (يا أرض) و (يا سماء) في صدر الآية؛ سلوكاً في كلّ واحد من ذلك لسبيل الكناية.

إنّ تلك الأمور العظام لا تتأتى إلاّ من ذي قدرة يكتنه قهّار لا يغالب، فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره - جلّت عظمته - قائل (يا أرض ويا سماء) ولا غائض مثل ما غاض، ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل، أو أن تكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره وإقراره.

ثمّ ختم الكلام بالتعريض؛ تنبيهاً لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل، ظلماً لأنفسهم لا غير، خَتم إظهارٍ لمكان السخط، ولجهة استحقاقهم إيّاه وأنّ قيمة

٢٢٧

الطوفان (١) وتلك الصورة الهائلة ما كانت إلاّ لظلمهم.

* * *

٢ - وأمّا النظر فيها من حيث (علم المعاني) - وهو النظر في فائدة كلّ كلمة منها، وجهة كلّ تقديم وتأخير فيما بين جملها - فذلك أنّه اختير (يا) دون سائر أخواتها؛ لكونها أكثر في الاستعمال وأنّها دالّة على بُعد المنادى، الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة وإبداء شأن العزّة والجبروت، وهو تبعيد المنادى، المؤذن بالتهاون به، ولم يقل (يا أرض) بالكسر؛ لإمداد التهاون، ولم يقل (يا أيّتها الأرض)؛ لقصد الاختصار، مع الاحتراز عمّا في (أيّتها) من تكلّف التنبيه غير المناسب بالمقام.

واختير لفظ (الأرض) دون سائر أسمائها؛ لكونه أخفّ وأدور.

واختير لفظ (السماء) لمثل ما تقدّم في الأرض، مع قصد المطابقة.

واختير لفظ (ابلعي) على (ابتلعي)؛ لكونه أخصر، ولمجيء حظّ التجانس بينه وبين (أقلعي) أوفر.

وقيل (ماءك) بالإفراد دون الجمع؛ لِما كان في الجمع من صورة الاستكثار المُتأتى عنها مقام إظهار الكبرياء والجبروت، وهو الوجه في إفراد (الأرض والسماء).

وإنما لم يقل (ابلعي) بدون المفعول؛ أن لا يستلزم تركه ما ليس بمراد، من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهنّ، نظراً إلى مقام ورود الأمر، الذي هو مقام عظمة وكبرياء.

ثم إذ بين المراد، اختصر الكلام مع (أقلعي)؛ احترازاً عن الحشو المستغنى عنه، وهو الوجه في أن لم يقل (قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت، ويا سماء أقلعي فأقلعت).

____________________

(١) القيمة - بالكسر - النوع من قام، أي بذلك النوع الهائل من قيام الطوفان.

٢٢٨

واختير (غيض) على (غيّض) المشدّد؛ لكونه أخصر.

وقيل (الماء) دون أن يقال (ماء طوفان السماء)، وكذا (الأمر) دون أن يقال (أمر نوح) وهو إنجاز ما كان الله وعد نوحاً من إهلاك قومه؛ لقصد الاختصار والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك.

ولم يقل (سوّيت على الجودي) بمعنى أقرّت على نحو (قيل) و(غيض) و(قضي) في البناء للمفعول؛ اعتباراً لبناء الفعل للفاعل مع السفينة في قوله (وهي تجري بهم في موج) مع قصد الاختصار في اللفظ.

ثم قيل (بُعداً للقوم) دون أن يقال (ليبعد القوم)؛ طلباً للتأكيد مع الاختصار، وهو نزول (بُعداً) منزلة (ليبعدوا بعداً) مع فائدة أخرى، وهي استعمال اللام مع (بعداً) الدالّ على معنى أنّ البعد حقّ لهم.

ثمّ أُطلق الظلم ليتناول كل نوع حتى يدخل فيه ظلمهم أنفسهم، لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل.

هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم.

وأمّا من حيث النظر إلى ترتيب الجمل فذاك أنّه قد قدّم النداء على الأمر، فقيل (يا أرض ابلعي) و(يا سماء أقلعي) دون أن يقال (ابلعي يا أرض) و(أقلعي يا سماء) جرياً على مقتضى اللازم فيمَن كان مأموراً حقيقة، من تقديم التنبيه، ليتمكّن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى؛ قصداً بذلك لمعنى الترشيح.

ثمّ قدّم أمر الأرض على أمر السماء وابتدأ به لابتداء الطوفان منها ونزولها لذلك في القصّة منزلة الأصل، والأصل بالتقديم أَولى.

ثم أتبعهما قوله (وغيض الماء) لاتّصاله بقصّة الماء وأخذه بحجزتها، أَلا ترى أصل الكلام (قيل يا أرض ابلعي ماءك - فبلعت ماءها - ويا سماء أقلعي - عن إرسال الماء فأقلعت عن إرساله - وغيض الماء - النازل من السماء فغاض -).

ثمّ أتبعه ما هو المقصود من القصّة، وهو قوله (وقضي الأمر) أي أُنجز

٢٢٩

الموعود من إهلاك الكفرة، وإنجاء نوح ومَن معه في السفينة، ثمّ أتبعه حديث السفينة، وهو قوله (واستوت على الجودي)، ثمّ ختمت القصّة بما ختمت.

هذا كلّه نظر في الآية من جانبَي البلاغة.

* * *

٣ - وأمّا النظر فيها من جانب (الفصاحة المعنوية) فهي - كما ترى - نظم للمعاني لطيف، وتأدية لها ملخّصة مبيّنة، لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد، ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد، بل إذا جرّبت نفسك عن استماعها وجدت ألفاظها تسابق معانيها، ومعانيها تسابق ألفاظها، فما من لفظة في تركيب الآية ونظمها تسبق إلى إذنك إلاّ ومعناه أسبق إلى قلبك.

* * *

٤ - وأمّا النظر فيها من جانب (الفصاحة اللفظية) فألفاظها - على ما ترى - عربية مستعملة، جارية على قوانين اللغة، سليمة عن التنافر، بعيدة عن البشاعة، عذبة على العذبات، سَلسلة على السَّلِسات، كل منها كالماء في السلاسة، وكالعسل في الحلاوة، وكالنسيم في الرقّة.

* * *

قال: ولله درّ شأن التنزيل، لا يتأمل العالم آية من آياته إلاّ أدرك لطائف لا تسع الحصر، ولا تظنّن الآية مقصورة على ما ذكرتْ، فلعلّ ما تركتْ أكثر ممّا ذكرتْ؛ لأنّ المقصود لم يكن إلاّ مجرّد الإرشاد لكيفية اجتناء ثمرات علمَي (المعاني والبيان) وأن لا علم في باب التفسير - بعد علم الأصول - أقرأ منهما على المرء لمراد الله تعالى من كلامه، ولا أعون على تعاطي تأويل مشتبهاته، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه، هو الذي يوفي كلام ربّ العزّة من البلاغة حقّه، ويصون له في مظانّ التأويل ماءه ورونقه (١) .

____________________

(١) مفتاح العلوم: ص ١٩٦ - ١٩٩.

٢٣٠

نكت وظرف فيما تكرّر من آيات الذكر الحكيم

غير خفيّ أنّ ما يذكره تعالى حكاية عن أُمم سالفين إنما هو نقل بالمعنى، ولا سيّما فيما يحكيه من أقوالهم ومحاججاتهم، حيث كانت بلغة غير عربية وناقل المعنى في سعة من اللفظ حيث يشاء وحيث يتناسب مع مقصوده من الكلام، ينقله تارةً طوراً وأخرى طوراً آخر، وقد ينقل بعضه ويترك البعض، حسب ما يراه من مناسبة المقام، ومِن ثَمّ فهو في فسحة من النقل والحكاية.

قال الاسكافي: إنّ ما أخبر الله به من قصّة موسى وبني إسرائيل وسائر الأنبياء لم يقصد به حكاية الألفاظ بأعيانها، وإنّما قصد اقتصاص معانيها، وكيف لا يكون كذلك واللغة التي خوطبوا بها غير العربية، فحكاية اللفظ إذاً زائلة، وتبقى حكاية المعنى، ومَن قصد حكاية المعنى كان مخيّراً بأيّ لفظ أراد، وكيف شاء مِن تقديم وتأخير بحرف لا يدلّ على الترتيب كالواو. وعلى هذا يقاس نظائره في القرآن (١) .

* * *

وللكرماني (٢) تصنيف لطيف في بيان ما لكل موضع من الآيات المكرّرة نكتة ظريفة، استقصى فيها جميع ما في القرآن من التكرار، قال - في مقدّمته -: هذا كتاب أذكر فيه الآيات المتشابهات (المتماثلات) التي تكرّرت في القرآن وألفاظها متّفقة، ولكن وقع في بعضها زيادة أو نقصان أو تقدم أو تأخير أو إبدال حرف مكان حرف أو غير ذلك ممّا يوجب اختلافاً بينها... وأُبيّن السبب في تكرارها والفائدة في إعادتها، والحكمة في تخصيص آية بشيء دون أُخرى....

____________________

(١) درة التنزيل: ص١٧، هامش أسرار التكرار: ص٢٨.

(٢) هو العلاّمة الأديب محمود بن حمزة بن نصر الكرماني. قال ياقوت: كان حدود سنة خمسمِئة وتوفي بعدها.

٢٣١

نقتطف من أزهاره ما يلي:

١ - قوله تعالى في سورة البقرة: ( يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً ) (١) بالواو، وفي سورة الأعراف: ( فكلا ) (٢) بالفاء.

لأنّ (اسكن) في سورة البقرة يراد به الإقامة بالمكان، وذلك يستدعي زماناً ممتداً، فلم يصلح إلاّ بالواو؛ لأنّ المعنى: اجمع بين الإقامة فيها والأكل من ثمارها، ولو كانت بالفاء لوجب تأخير الأكل إلى الفراغ من الإقامة؛ لأنّ الفاء للترتيب والتعقيب.

والذي في سورة الأعراف بمعنى اتخاذ السكنى؛ لأنّه يقابل خطاب إبليس بالأمر بالخروج ( قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا ) (٣) ، فكان خطاب آدم ( اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ) بمعنى اتخاذها مسكناً، واتخاذ السكنى الآنيّ لا يستدعي زماناً ممتداً، فكان الفاء أَولى، أي كلا منها عقيب اتخاذها مسكناً، ولا يمكن الجمع بين الاتخاذ والأكل، بل يقع الأكل عقيب الاتخاذ (٤) .

٢ - ونظير ذلك أيضاً قوله في سورة البقرة ( وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ ) (٥) بالفاء، وفي سورة الأعراف: ( وَإِذْ قِيلَ لَهُمْ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ ) (٦) بالواو؛ لأنّ الأكل لا يكون إلاّ بعد الدخول، ولكنه يجتمع مع السكون بمعنى الإقامة في المسكن (٧) .

٣ - وزيد (رغداً) في البقرة (٣٥ و٥٨)، ولم يرد في الأعراف (١٩و١٦١)؛ لأنّ الآيتين في البقرة بدئتا بقوله: (قلنا) فناسب التعظيم زيادة تشريف وتكريم؛ ومِن ثَمّ كان زيادة (رغداً).

____________________

(١) البقرة: ٣٥.

(٢) الأعراف: ١٩.

(٣) الأعراف: ١٨.

(٤) أسرار التكرار: ص٢٥ - ٢٦ رقم ١١.

(٥) البقرة: ٥٨.

(٦) الأعراف: ١٦١.

(٧) أسرار التكرار: ص٢٨ رقم ١٧.

٢٣٢

أمّا في الأعراف فبُدئت الآية (١٩) بقوله: (قال) مفرداً، والآية (١٦١) بقوله: (وإذ قيل) من غير تشريف.

٤ - وجاء في سورة الأنعام ( نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) (١) ، وفي سورة الإسراء ( نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ) (٢) ؛ لأنّ في الأنعام: (من إملاق) بكم، وفي الإسراء: (خشية إملاق) يقع بهم (٣) .

أي كان قتل الأولاد في سورة الأنعام مستنداً إلى فقر ومسكنة كان قد أقدع بهم فعلاً، أمّا في سورة الإسراء فكان مستنداً إلى خوف المجاعة والفقر قد يعرضهم بسبب الأولاد.

٥ - وجاء في سورة التوبة - خطاباً مع المنافقين -: ( وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ ) (٤) ، ثمّ في آية أُخرى - خطاباً مع المؤمنين ممّن خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً -: ( فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ... ) (٥) .

لأنّ المنافقين لا يطّلع على ضمائرهم إلاّ الله وما أخبر به رسوله، كما في قوله: ( قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ) (٦) .

أمّا المؤمنون فطاعاتهم وأعمالهم ظاهرة مكشوفة يراها سائر المؤمنين أيضاً.

وجاء بشأن المنافقين ( ثُمَّ تُرَدُّونَ ) ، وبشأن المؤمنين ( وَسَتُرَدُّونَ ) ؛ لأنّ الأُولى وعيد، فهو عطف على الأًوّل، وأمّا الثانية فهو وعد، فبناه على ( فَسَيَرَى اللَّهُ ) (٧) .

٦ - قوله تعالى في سورة الكهف: ( سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاّ مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ

____________________

(١) الأنعام: ١٥١.

(٢) الإسراء: ٣١.

(٣) أسرار التكرار: ص٧٥ رقم ١١٥.

(٤) التوبة: ٩٤.

(٥) التوبة: ١٠٥.

(٦) التوبة: ٩٤.

(٧) أسرار التكرار: ص١٠٠ رقم ١٧٨.

٢٣٣

أَحَداً ) (١) .

قالوا: لِمَ زيدت الواو في (وثامنهم)؟

قال بعض النحويّين: السبعة نهاية العدد، ولهذا كثُر ذِكرها في القرآن والأخبار، والثمانية تجري مجرى استئناف كلام، ومِن هنا لقّبه جماعة من المفسّرين بواو الثمانية.

واستدلّوا بقوله تعالى: ( التّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (٢) ، فقد جيء بالواو عندما زيدت الأوصاف على السبعة.

وبقوله تعالى: ( مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحاتٍ ثَيّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ) (٣) ، فلمّا بلغ الثامن جيء بالواو.

وبقوله تعالى: ( وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ) (٤) ؛ لأنّ أبواب الجنة ثمانية (٥) .

وهذا الوجه لم يرتضِه المصنّف؛ ومِن ثَمّ ردّ عليه بقوله: ولكل واحد من هذه الآيات وجوه ذكرتها في موضعها.

أمّا الآية في سورة التوبة فلم يذكر لها شيئاً.

والآية في سورة التحريم قال فيها: ثُمّ ختم بالواو، فقال ( وَأَبْكَاراً ) ؛ لأنّه استحال العطف على ثيّبات فعطفها على أَول الكلام، ويحسن الوقف على ( ثَيّبَاتٍ ) ؛ لمّا استحال عطف ( َأَبْكَاراً ) عليها، وقول مَن قال: إنّها واو الثمانية بعيد (٦) .

وذكر في آية الزمر أنّها واو الحال (٧) ، أي وقد فُتحت بتقديره (قد).

وفي قوله تعالى من سورة القلم ( وَلاَ تُطِعْ كُلّ حَلاّفٍ مَهِينٍ * هَمّازٍ مَشّاءٍ

____________________

(١) الكهف: ٢٢.

(٢) التوبة: ١١٢.

(٣) التحريم: ٥.

(٤) الزمر: ٧٣.

(٥) أسرار التكرار: ص١٣٢ رقم ٢٨٣.

(٦) أسرار التكرار: ص٢٠٦ رقم ٥٢٦.

(٧) المصدر: ص١٨٦ رقم ٤٤٥.

٢٣٤

بِنَمِيمٍ * مَنّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ ) (١) قال: أوصاف تسعة، ولم يُدخل بينها واو العطف ولا بعد السابع، فدلّ على ضعف القول بواو الثمانية (٢) .

قلت: هذا على تقدير أن يكون (حلاّف) وصفاً أَوّلاً، في حين أنّه الموصوف، والأوصاف إنما تَبتدئ من (مهين).

وعليه فالأوصاف ثمانية وقد فُصل بين الثامن وما قبله بقوله (بعد ذلك) الذي هو بمنزلة الواو هنا.

٧ - قوله في سورة الكهف: ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ) (٣) ، وفي آية أُخرى ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً ) (٤) .

لأنّ الإمر هو الأمر العَجَب، والعجب كل أمر خالف المألوف سواء أكان خيراً أم شراً.

وأمّا النُكر فهو الأمر المُنكر الذي يستقبحه العقل.

والآية الأُولى جاءت بشأن خرق السفينة، بما لا يستلزم غرقها وإهلاك أهلها... فلعلّ في ذلك سرّاً وحكمة، لكنه خلاف المألوف، فأثار العجب.

والآية الثانية جاءت بشأن قتل الغلام، وهو طفل لا يعقل شيئاً ولم يرتكب إثماً، فهو بظاهره قتل نفس محترمة، وهو الأمر المنكر الذي يستقبحه العقل (٥) .

٨ - قوله: ( أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ ) (٦) ، لكنه بعد ذلك قال: ( أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ ) (٧) زيادةً في الإنكار عليه بزيادة توجيه الخطاب والعتاب إليه.

٩ - قوله: ( فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ) (٨) - أَولاً -

وقوله: ( فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ ) (٩) - ثانياً -

____________________

(١) القلم: ١٠ - ١٣.

(٢) أسرار التكرار: ص٢٠٧ رقم ٥٣٠.

(٣) الكهف: ٧١.

(٤) الكهف: ٧٤.

(٥) أسرار التكرار: ص١٣٤ رقم ٢٨٧.

(٦) الكهف: ٧٢.

(٧) الكهف: ٧٥.

(٨) الكهف: ٧٩.

(٩) الكهف: ٨١.

٢٣٥

وقوله: ( فَأَرَادَ رَبّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا ) (١) - ثالثاً -

ففي الأَول نسب ما ظاهره الإفساد إلى نفسه؛ تنزيهاً لمقام قدسه تعالى عن نسبة الإفساد إليه.

وفي الثاني خليط من الإفساد والإنعام؛ ومِن ثَمّ نسبه إلى نفسه مع غيره وهو الله تعالى.

لكن الثالث كان محص إنعام؛ ومِن ثَمّ نسبه إلى الله خالصاً.

كل ذلك من أدب الكلام، فتفهّم (٢) .

١٠ - قوله تعالى في سورة الرحمن: (٣) .

كُرّر لفظ الميزان ثلاث مرات مع قرب الفاصلة، وكان حقه حسب الظاهر الإضمار بعد ذكره أَوّلاً.

قيل: لأنّه في كل موضع بمعنى غير معناه الآخر، فوجب الإظهار؛ ليكون كل واحد مستقلاً بالإفادة، وإلاّ لاحتاج إلى الاستخدام.

فالميزان الأَوّل هو النظام الكوني الحاكم على كل موجودات العام، والثاني هو نظام الشريعة الحاكم على أفعال العباد وتصرّفاتهم، والثالث هي آلة الوزن المعروفة (٤) .

١١ - قوله تعالى: ( فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) كُرّرت إحدى وثلاثين مرّة:

ثمانية منها ذُكرت عقيب آيات فيها تعداد عجائب الخلق وبدائع الصنع، والمبدأ والمعاد.

وسبعة منها عقيب آيات العقاب والنار وشدائد نقمته تعالى.

ثُمّ ثمانية منها عقيب وصف الجنّات ونعيمها.

____________________

(١) الكهف: ٨٢.

(٢) أسرار التكرار: ص١٣٤ رقم ٢٨٩.

(٣) الرحمن: ٧ - ٩.

(٤) أسرار التكرار: ص١٩٨.

٢٣٦

وثمانية أخرى بعدها للجنتين وما حوتا عليه من نِعَم كبار (١) ، رزقنا الله التنعّم بنعمها الجسام العظام.

أما التذكير بالآلاء عقيب ذكر العقاب والنار فلأنّه أيضاً من النعم التي أنعم الله بها على الإنسان؛ لأنّ تكوين الشخصية المعتدلة ذو عاملين أساسيين، عامل الخوف وعامل الرجاء، فكما أنّ الوعد يُؤثّر في تربية النفس ترغيباً في الثواب، كذلك الوعيد مؤثّر في التربية ترهيباً عن العقاب، فكلاهما من الآلاء والنعم الإلهية لهذا الإنسان في سيبل تربيته.

قال الطبرسي: فأمّا الوجه لتكرار هذه الآية في هذه السورة فإنّما هو التقرير بالنعم المعدودة والتأكيد في التذكير بها كلّها. فكلّما ذَكر سبحانه نعمةً أنعم بها قرّر عليها ووبّخ على التكذيب بها، كما يقول الرجل لغيره: أَما أحسنت إليك حين أطلقت لك مالاً؟ أَما أحسنت إليك حين ملّكتك عقاراً؟ أَما أحسنت إليك حين بنيت لك داراً؟... فيحسن فيه التكرار؛ لاختلاف ما يقرّره.

قال: ومثله كثير في كلام العرب وأشعارهم، ثُمّ جعل ينشد أبياتاً قالها مهلهل بن ربيعة (٢) يرثي أخاه كليباً، وقصيدة ليلى الأخيليّة ترثي توبة بن الحمير، وأبياتاً للحارث بن عبّاد، قال: وفي أمثال هذا كثرة.

قال: وهذا هو الجواب بعينه بشأن التكرار في سورة المرسلات، قوله تعالى: ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) ... عشر مرّات (٣) .

١٢ - قوله: ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) مكرّر عشر مرّات في سورة المرسلات.

إذ من عادة العرب التكرار والإطناب، كما في عادتهم الاقتصار والإيجاز؛ ولأنّ بسط الكلام في الترغيب والترهيب أدعى إلى إدراك البغية من الإيجاز (٤) .

____________________

(١) أسرار التكرار: ص١٩٨.

(٢) هو خال امرؤ القيس، قيل: هو أَول من قصّد القصائد.

(٣) راجع مجمع البيان: ج٩ ص١٩٩.

(٤) أسرار التكرار: ص٢١٣.

٢٣٧

١٣ - التكرار في سورة (الكافرون) (١) .

قيل: هذا التكرار اختصار في الكلام وهو إعجاز؛ لأنّ الله نفى عن نبيّه عبادة الأصنام فيما مضى والحال وفيما يأتي. ونفى عن الكفّار - وهم رهط من قريش مخصوصون؛ لأنّ اللام للعهد الخارجي - عبادة الله في الأزمنة الثلاثة أيضاً، فكان من حقّ الكلام أن يأتي بست فقرات تدلّ على هذه الأُمور الستة، لكنّه اختصر في العبارة المذكورة الموجزة.

قوله تعالى: ( لا أَعبدُ ما تعبدونَ ) نُفي في الحال وما يأتي، أي لا أعبد اليوم ولا بعد اليوم ما تعبدون اليوم.

( ولا أَنتُم عابدونَ ما أعبدُ ) كذلك... أي لا تعبدون اليوم ولا بعد اليوم ما أعبد اليوم.

( ولا أَنا عابدٌ ما عبدتُم ) نُفي في الماضي وتعليل لِما تقدّمه؛ لأنّ اسم الفاعل يصلح للأزمنة الثلاثة، أي لم أعبد ما عبدتم قبل اليوم، فكيف ترجون عبادتي اليوم لما عبدتم وتعبدونه؟!

( ولا أَنتم عابدونَ ما أَعبدُ ) أي ولا أنتم عبدتم ما أعبد اليوم.

وبذلك افترق المعنى في الآية، تلك للنفي في الحال والآتي، وهذه للنفي في الماضي (٢) .

* * *

وقال الفرّاء - في وجه التكرار -: إنّ القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب كلامهم ومحاوراتهم، ومن عادتهم تكرير الكلام؛ للتأكيد والإفهام، فيقول المجيب: بلى، بلى. ويقول الممتنع: لا، لا.

قال: ومثله قوله تعالى: ( كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) (٣) .

____________________

(١) أسرار التكرار: ص٢٢٦.

(٢) راجع الكشّاف للزمخشري.

(٣) التكاثر: ٣ و٤.

٢٣٨

وأنشد:

وكائنٌ وكم عندي لهُم مِن صنيعةٍ

أيادي ثنّوها عليَّ وأَوجبوا

وأيضاً:

كَم نعمْ كانتْ لكم

كَمْ كَمْ وكَمْ

وقال آخر:

نَعَق الغرابُ ببين ليلى غدوةً

كمْ كمْ وكم بفراقِ ليلٍ يَنعقُ

وأيضاً:

هلاّ سألتَ جُموعَ كِندَةَ

يومَ وَلّوا أَينَ أَينا

وقوله:

أردتُ لنفسي بعضَ الأُمورِ

فأَولى لنفسي أَولى لها

قال: وهذا أَولى المواضع بالتأكيد؛ لأنّ الكافرين أَبدأوا في ذلك وأعادوا.

فكرّر سبحانه؛ ليؤكّد إياسهم وحسم أطماعهم بالتكرير (١) .

هل في القرآن لفظة غريبة؟

قال قوم: إنّا إذا تَلونا القرآن وتأمّلناه وجدنا معظم كلامه مبنيّاً ومؤلّفاً من ألفاظ قريبة ودارجة في مخاطبات العرب ومستعملة في محاوراتهم، وحظّ الغريب المشكل منه بالإضافة إلى الكثير من واضحه قليل، وعدد الفِقَر والغُرَر من ألفاظه بالقياس إلى مباذله ومراسيله عدد يسير، الأمر الذي لا يشبه شيئاً من كلام البلغاء الأقحاح من خطباء مصاقع وشعراء مفلّقينَ، كان ملء كلامهم الدرر والغرر والغريب والشارد.

لكن الغرابة على وجهين - كما ذكره أبو سليمان حمد بن محمّد الخطابي في كتابه (معالم السنن) قال: الغريب من الكلام إنّما هو الغامض البعيد من الفهم، كما

____________________

(١) مجمع البيان: ج١٠ ص٥٥٢.

٢٣٩

أنّ الغريب من الناس إنّما هو البعيد عن الوطن المنقطع عن الأهل، والغريب من الكلام يقال به على وجهين:

أحدهما: أن يراد به أنّه بعيد المعنى غامضه لا يتناوله الفهم إلاّ عن بُعد ومعاناة فكر.

والوجه الآخر: أن يراد به كلام مَن بعدت به الدار مِن شواذّ قبائل العرب، فإذا وقعت إلينا الكلمة من لغاتهم استغربنا (١) .

والغريب في القرآن إنّما هو من النوع الثاني؛ ومِن ثَمّ لم يخلّ بفصاحته، والقرآن لم يستعمل إلاّ ما تعارف استعماله عند العرب وتداولوه فيما بينهم، ولكن في طبقة أعلى وأرفع من حدّ الابتذال العامي، فلا استعمل الوحشي الغريب ولا العامي السخيف المرتذل (٢) ، على حدّ تعبير عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة (٣) .

قال التفتازاني: والغرابة كون الكلمة وحشية، غير ظاهرة المعنى، ولا مأنوسة الاستعمال، فمنه ما يحتاج في معرفته إلى أن ينقر ويبحث عنه في كتب اللغة المبسوطة، كتَكَأكَأتم وافرنقعوا في قول عيسى بن عمر النحوي، هاجت به مِرّةٌ وسقط من حماره فوثب إليه قوم يعصرون إبهامه ويؤذّنون في أُذنه، فأفلت من أيديهم وقال:

____________________

(١) هامش غريب القرآن للطريحي، المقدمة: هـ.

(٢) كقول العامة: ايش، بمعنى أي شيء. وانفسد بمعنى فسد.

(٣) قال الجرجاني: وربما استُسخف اللفظ بأمر يرجع إلى المعنى دون مجرد اللفظ، كما يُحكى من قول عبيد الله بن زياد لمّا دُهش: (افتحوا لي سيفي)! وذلك أنّ الفتح خلاف الإغلاق، فحقّه أن يتناول شيئاً هو في حكم المغلق المسدود، وليس السيف بمسدود، وأقصى أحواله أن يكون في الغمد بمنزلة الثوب في العِكم (كالعِدل: نمط تجعل المرأة فيه ذخيرتها، وبمعنى الجُوالِق) والدرهم في الكيس والمتاع في الصندوق، والفتح في هذا الجنس يتعدى أبداً إلى الوعاء المسدود على الشيء الحاوي له، لا إلى ما فيه، فلا يقال: افتح الثوب (أسرار البلاغة: ص ٣ - ٤).

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579