تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد0%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

تلخيص التمهيد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد هادي معرفة
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الصفحات: 579
المشاهدات: 99684
تحميل: 9926


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 99684 / تحميل: 9926
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فصيحة إذا وقعت في محلّ، وغير فصيحة إذا وقعت في محلّ آخر، فلو كان الأمر في الفصاحة والبلاغة راجعاً إلى مجرّد الألفاظ الوضعية لما اختلف ذلك بحسب اختلاف المواضع، وأمّا (ثانياً)؛ فلأنّ الاستعارة والتشبيه والتمثيل والكناية من أعظم قواعد الفصاحة وأبلغها، وإنّما كانت كذلك باعتبار دلالتها على المعاني لا باعتبار ألفاظها، فصارت الدلالة على وجهين:

الوجه الأوّل: دلالة وضعية، وهذه لا تعلّق لها بالبلاغة والفصاحة كما مهّدنا طريقه.

وثانيهما: الدلالة المعنوية، ودلالتها إمّا بالتضمّن أو بالالتزام، وهما عقليّان من جهة أنّ حاصلهما هو انتقال الذهن من مفهوم اللفظ إلى ما يلازمه، ثمّ تلك الملازمة إمّا أن تكون دلالة على جزء المفهوم، أو تكون دلالة على معنى يصاحب المفهوم، فالأَوّل هو الدلالة التضمنية، والثاني هو الدلالة الخارجية، وهما جميعاً من اللوازم، ثمّ إنّ تلك اللوازم تارة تكون قريبة، وتارة تكون بعيدة، فمِن أجل ذلك صحّ تأدية المعاني بطرق كثيرة، بعضها أكمل من بعض، وتارةً تزيد، ومرّةً تنقص؛ فلأجل هذا اتّسع نطاق البلاغة وعظم شأنه، وارتفع قدره وعلا أمره.

فربّما علا قدر الكلام في بلاغته حتى صار معجزاً لا رتبة فوقه، وربّما نزل الكلام حتى صار ليس بينه وبين نعيق البهائم إلاّ مزيّة التأليف والتركيب، وربّما كان متوسّطاً بين الرتبتين، وقد يوصف اللفظ بالجودة؛ لكونه متمكناً في أسَلاَت الألسنة غير ناب عن مدارجها، ولا قَلِق على سطح اللسان، جيّداً سبكه صحيحاً طابعه، وأنّه في حقّ معناه من غير زيادة عليه ولا نقصان عنه، وقد يذمّونه بنقائض هذه الصفات بأنّه مُعقّد جُرزٌ، وأنّه لتعقيده استهلك المعنى، يمشي اللسان إذا نطق به كأنّه مقيّد، وحَشيٌّ، نافرٌ، نازل القدر، طويل الذيول من غير فائدة، ولا معنى تحته، وقد يصفون المعنى بالجودة بأنّه قريب جزل، يسبق إلى الأذهان قبل أن يسبق إلى الآذان، ولا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك، حتى كأنّه

٢٢١

يدخل إلى الأُذن بلا إذن، وقد يذمّونه بكونه ركيكاً نازل القدر، بعيداً عن العقول، وهلمّ جرّ إلى سائر ما ذكرناه من جهة المعنى على جهة المناقضة والقرآن كلّه من أوله إلى آخره حاصل على هذه المزايا، موجودة فيه على أكمل شيء وأتمّه، فلله درّه من كتاب اشتمل على علوم الحكمة وضمّ جوامع الخطاب، وأودع ما لم يودع غيره من الكتب المنزلة من حقائق الإجمال ودقائق الأسرار المفصّلة.

وبعد ذلك خاض محاسن الآية مستخرجاً لآليها قائلاً:

وإذا أردت أن تكحل بصرك بمرود التخييل، والاطّلاع على لطائف الإجمال والتفصيل، فاتلُ قصّة زكريّا (عليه السلام) وقف عندها وقفة باحث وهي قوله تعالى ( قَالَ رَبّ إِنّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّي وَاشْتَعَلَ الرّأْسُ شَيْباً ) فإنّك تجد كلّ جملة منها بل كلّ كلمة من كلماتها تحتوي على لطائف، وليس في آي القرآن المجيد حرف إلاّ وتحته سرّ ومصلحة فضلاً عمّا وراء ذلك، والكلام في تقرير تلك اللطائف الإجمالية وما يتلوها من الأسرار التفصيلية مقرّر في معرفة حدّ الكلام وأصله، وأنّ كلّ مرتبة من مراتب الإجمال متروكة في الآية بمرتبة أخرى مفصّلة، حتّى تتّصل بما عليه نظم الآية وسياقها، وجملة ما نورده من ذلك درجات عشر، كلّ واحدة منها على حظّ من الإجمال، بعدها درجة أخرى على حظّ من التفصيل، حتى تكون الخاتمة هو ما اشتمل عليه سياقها المنظوم على أحسن نظام، وصار واقعاً في تتميم بلاغتها أحسن تمام.

(الدرجة الأُولى) نداء الخفية؛ فإنّه دالّ على ضعف الحال وخطاب المسكنة والذلّ حتى لا يستطيع حراكاً، وهو من لوازم الشيخوخة والهزال، ولِما فيه من التصاغر للجلال، والعظمة بخفض المصوب في مقام الكبرياء وعظم القدرة، فهذه الجملة مذكورة كما قرَّرناه، وهي مناسبة لحاله، ولهذا صدّرها في أول قصّته لِما فيها من ملائمة الحال وهضم النفس واستصغارها. وافتتاحها بذكر العبودية يؤكّد ما ذكرناه ويؤيّده.

٢٢٢

(الدرجة الثانية) كأنّه قال: يا رب إنّه قد دنا عمري، وانقضت أيّام شبابي، فإنّ انقضاء العمر دالّ على الضعف والشيخوخة لا محالة؛ لأنّ انقضاء الأيّام والليالي هو الموصل إلى الفناء والضعف وشيب الرأس، ثم إنّ هذه الجملة صارت متروكة لتوخّي مزيد التقرير إلى ما هو أكثر تفصيلاً منها ممّا يكون بعدها.

(الدرجة الثالثة) كأنّه قال: قد شخت فإنّ الشيخوخة دالّة على ضعف البدن وشيب الرأس؛ لأنّها هي السبب في ذلك لا محالة.

(الدرجة الرابعة) كأنّه قال: وهنت عظام بدني، جعله كناية عن ضعف حاله، ورقّة جسمه، ثم تُركت هذه الجملة إلى جملة أخرى أكثر تفصيلاً منها.

(الدرجة الخامسة) كأنّه قال: أنا وهنت عظام بدني، فأُعطيت مبالغة، لمّا قدّم المبتدأ ببناء الكلام عليه، كما ترى.

(الدرجة السادسة) كأنّه قال: إنّي وهنت العظام من بدني، فأضاف إلى نفسه تقريراً مؤكّداً (بإنّ) للأمر، واختصاصها بحاله، ثمّ تُركت هذه الجملة بجملة غيرها.

(الدرجة السابعة) كأنّه قال: إنّي وهنت العظام منّي، فترك ذكر البدن وجمع العظام؛ إرادة لقصد شمول الوهن للعظام ودخوله فيها.

(الدرجة الثامنة) ترك جمع العظام إلى إفراد العظم، واكتفى بإفراده فقال، ( إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) .

(الدرجة التاسعة) ترك الحقيقة، وهي قوله: أشيب، أو شاب رأسي، لِما علم أنّ المجاز أحسن من الحقيقة، وأكثر دخولاً في البلاغة منها، ثم تُركت هذه الجملة بجملة أخرى غيرها.

(الدرجة العاشرة) أنّه عدل عن المجاز إلى الاستعارة في قوله ( وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) وهي من محاسن المجاز، ومن مثمرات البلاغة، وبلاغتها قد ظهرت من جهات ثلاث:

الجهة الأولى: إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادة شمول الاشتعال بجميع

٢٢٣

الرأس، بخلاف ما لو قال: اشتعل شيب رأسي، فإنّه لا يؤدّي هذا المعنى بحال، فـ (اشتعل رأسي) وزان اشتعلت النار في بيتي، و ( وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) وزان: اشتعل بيتي ناراً.

الجهة الثانية: الإجمال والتفصيل في نصب التمييز، فإنّك إذا نصبت (شيباً) كان المعنى مخالفاً لما إذا رفعته، فقلت: اشتعل شيب رأسي، لما في النصب من المبالغة دون غيره.

الجهة الثالثة: تنكير قوله (شيباً) لإفادة المبالغة، ثم إنّه ترك لفظ (منّي) في قوله ( وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) اتّكالاً على قوله ( وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) ثم إنّه أتى به في الأَوّل؛ بياناً للحال وإرادةً للاختصاص بحاله في إضافته إلى نفسه، ثُمّ عطف الجملة الثانية على الجملة الأُولى بلفظ الماضي؛ لِما بينهما من التقارب والملاءمة.

فانظر إلى هذا السياق المثمر المورق، وجودة هذا الرصف المعجب المونق، كيف ترك جملة إلى جملة؛ إرادةً للإجمال بعده التفصيل، من أجل إيثار البلاغة حتى انتهى إلى خلاصها، ودهن لبّها ومصاصها، وهو جوهر الآية ونظامها بأوجز عبارة وأخصرها، وأظهر بلاغة وأبهرها.

واعلم أنّ الذي فتق أكمام هذه اللطائف حتى تفتّحت أزرار أزهارها، وتعانقت أغصانها، وتأنقت أفنانها، وتناسبت محاسن آثارها، هو مقدّمة الآية وديباجتها، فإنّه لمّا افتتح الكلام في هذه القصّة البديعة بالاختصار العجيب، بأن طرح حرف النداء من قوله (ربّ) وياء النفس من المضاف، أشعر أوّلها بالغرض؛ فلأجل تأسيس الكلام على الاختصار عقّبه بالاختصار والإجمال، واكتفى بذكر هاتين الجملتين عمّا وراءهما من تلك المراتب العشر التي نبّهنا عليها والحمد لله (1) .

____________________

(1) الطراز: ج 3 ص 416 - 420.

٢٢٤

أعجب آية باهرة:

قوله تعالى: ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِي الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلى الْجُودِيّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ ) (1) .

قد مرّت عليك قصّة النفر من فصحاء قريش أزمعوا ليعارضوا القرآن، فعكفوا على لطيف الغذاء من لباب البُرّ وسُلاف الخمر ولحوم الضأن والخلوة، حتى بلغوا مجهودهم، فإذا فوجئوا بنزول هذه الآية، فطووا ما أزمعوا ويئسوا ممّا طمعوا فيه، وعلموا أنّه لا يشبه كلام مخلوق (2) .

الأمر الذي دعا بعلماء الأدب والبيان أن يجعلوا هذه الآية بالذات موضع دراستهم والبحث عن مزاياها الخارقة، فخاضوا عبابها واستخرجوا لبابها في عرض عريض.

وممّن أجاد في هذا الباب هو الإمام أبو يعقوب السكّاكي في كتابه (مفتاح العلوم)، فبعد أن تكلّم عن شأن البلاغة وعجيب أمره، وأنّه ممّا يُدرك ولا يوصف كاستقامة الوزن تُدرك ولا يمكن وصفها، والملاحة يبهر حسن منظرها ولا يستطاع نعتها... وأضاف أنّ مدرك (الإعجاز) هو الذوق ليس إلاّ، وطول خدمة عِلمَي المعاني والبيان... ذكر شاهداً على ذلك متمثلاً بالآية الكريمة، ومعرّجاً على تعداد مزاياها ومفارقاتها عن سائر الكلام، قال:

وإذ قد وقفت على البلاغة وعثرت على الفصاحة المعنوية واللفظية، فأنا أذكر - على سبيل الأنموذج - آية أكشف لك فيها عن وجوه البلاغة والفصاحتين، ما عسى يسترها عنك، ثُمّ إن ساعدك الذوق أدركت منها ما قد أدرك مَن تُحدّوا بها، وهي قوله - علت كلمته -: ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ

____________________

(1) هود: 44.

(2) العمدة لابن رشيق: ج 1 ص 211، وراجع الجزء الرابع من التمهيد: ص 202.

٢٢٥

الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

قال: والنظر في هذه الآية من أربع جهات: من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني - وهما مرجعا البلاغة - ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية:

1 - أمّا النظر فيها من جهة (علم البيان) وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها فنقول:

إنه - عزّ سلطانه - لمّا أراد أن يُبيّن معنى (أردنا أن نردّ ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتدّ، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح - وهو انجاز ما كنّا وعدنا من إغراق قومه - فقضي، وأن نُسوّي السفينة على الجوديّ فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى).

بنى الكلام على تشبيه المراد بالمأمور الذي لا يتأتّى منه - لكمال هيبته - العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكوّن المقصود، تصويراً لاقتداره العظيم، وأنّ السماوات والأرض وهذه الأجرام العظام تابعة لإرادته، إيجاداً وإعداماً، ولمشيئته فيها تغيراً وتبديلاً، كأنّهما عقلاء مميّزون قد عرفوه حقّ معرفته، وأحاطوا علماً بوجوب الانقياد لأمره والإذعان لحكمه، وتحتّم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوّروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضُربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته كان المشار إليه مقدّماً، وكما يرد عليهم أمره كان المأمور به متمّماً، لا تلقى لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.

ثمّ بنى على تشبيه هذا نظم الكلام، فقال - جلّ وعلا -: (قيل) على سبيل المجاز عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد، وهو (يا أرض) و (يا سماء) ، ثم قال - كما ترى - (يا أرض... و يا سماء) مخاطباً لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور.

٢٢٦

ثمّ استعار لغور الماء في الأرض (البلع) الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم، للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقرّ خفي.

ثمّ استعار (الماء) للغذاء استعارة بالكناية، تشبيهاً له بالغذاء؛ لتقوّي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار، تقوّي الآكل للطعام، وجُعل قرينة الاستعارة لفظة (ابلعي)؛ لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.

ثمّ أمر - على سبيل الاستعارة للشبه المقدّم ذكره - وخاطب في الأمر ترشيحاً لاستعارة النداء، ثمّ قال: (ماءك) بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز، تشبيهاً لاتّصال الماء بالأرض باتّصال المُلك بالمالك، واختار ضمير الخطاب؛ لأجل الترشيح.

ثمّ اختار لاحتباس المطر (الإقلاع) الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان، ثمّ أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر قائلاً (أقلعي) لمثل ما تقدّم في (ابلعي) .

ثم قال: ( وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً... ) فلم يُصرّح بمَن غاض الماء، ولا بمَن قضى الأمر، وسوّى السفينة، وقال بُعداً، كما لم يُصرّح بقائل (يا أرض) و (يا سماء) في صدر الآية؛ سلوكاً في كلّ واحد من ذلك لسبيل الكناية.

إنّ تلك الأمور العظام لا تتأتى إلاّ من ذي قدرة يكتنه قهّار لا يغالب، فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره - جلّت عظمته - قائل (يا أرض ويا سماء) ولا غائض مثل ما غاض، ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل، أو أن تكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره وإقراره.

ثمّ ختم الكلام بالتعريض؛ تنبيهاً لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل، ظلماً لأنفسهم لا غير، خَتم إظهارٍ لمكان السخط، ولجهة استحقاقهم إيّاه وأنّ قيمة

٢٢٧

الطوفان (1) وتلك الصورة الهائلة ما كانت إلاّ لظلمهم.

* * *

2 - وأمّا النظر فيها من حيث (علم المعاني) - وهو النظر في فائدة كلّ كلمة منها، وجهة كلّ تقديم وتأخير فيما بين جملها - فذلك أنّه اختير (يا) دون سائر أخواتها؛ لكونها أكثر في الاستعمال وأنّها دالّة على بُعد المنادى، الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة وإبداء شأن العزّة والجبروت، وهو تبعيد المنادى، المؤذن بالتهاون به، ولم يقل (يا أرض) بالكسر؛ لإمداد التهاون، ولم يقل (يا أيّتها الأرض)؛ لقصد الاختصار، مع الاحتراز عمّا في (أيّتها) من تكلّف التنبيه غير المناسب بالمقام.

واختير لفظ (الأرض) دون سائر أسمائها؛ لكونه أخفّ وأدور.

واختير لفظ (السماء) لمثل ما تقدّم في الأرض، مع قصد المطابقة.

واختير لفظ (ابلعي) على (ابتلعي)؛ لكونه أخصر، ولمجيء حظّ التجانس بينه وبين (أقلعي) أوفر.

وقيل (ماءك) بالإفراد دون الجمع؛ لِما كان في الجمع من صورة الاستكثار المُتأتى عنها مقام إظهار الكبرياء والجبروت، وهو الوجه في إفراد (الأرض والسماء).

وإنما لم يقل (ابلعي) بدون المفعول؛ أن لا يستلزم تركه ما ليس بمراد، من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهنّ، نظراً إلى مقام ورود الأمر، الذي هو مقام عظمة وكبرياء.

ثم إذ بين المراد، اختصر الكلام مع (أقلعي)؛ احترازاً عن الحشو المستغنى عنه، وهو الوجه في أن لم يقل (قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت، ويا سماء أقلعي فأقلعت).

____________________

(1) القيمة - بالكسر - النوع من قام، أي بذلك النوع الهائل من قيام الطوفان.

٢٢٨

واختير (غيض) على (غيّض) المشدّد؛ لكونه أخصر.

وقيل (الماء) دون أن يقال (ماء طوفان السماء)، وكذا (الأمر) دون أن يقال (أمر نوح) وهو إنجاز ما كان الله وعد نوحاً من إهلاك قومه؛ لقصد الاختصار والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك.

ولم يقل (سوّيت على الجودي) بمعنى أقرّت على نحو (قيل) و(غيض) و(قضي) في البناء للمفعول؛ اعتباراً لبناء الفعل للفاعل مع السفينة في قوله (وهي تجري بهم في موج) مع قصد الاختصار في اللفظ.

ثم قيل (بُعداً للقوم) دون أن يقال (ليبعد القوم)؛ طلباً للتأكيد مع الاختصار، وهو نزول (بُعداً) منزلة (ليبعدوا بعداً) مع فائدة أخرى، وهي استعمال اللام مع (بعداً) الدالّ على معنى أنّ البعد حقّ لهم.

ثمّ أُطلق الظلم ليتناول كل نوع حتى يدخل فيه ظلمهم أنفسهم، لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل.

هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم.

وأمّا من حيث النظر إلى ترتيب الجمل فذاك أنّه قد قدّم النداء على الأمر، فقيل (يا أرض ابلعي) و(يا سماء أقلعي) دون أن يقال (ابلعي يا أرض) و(أقلعي يا سماء) جرياً على مقتضى اللازم فيمَن كان مأموراً حقيقة، من تقديم التنبيه، ليتمكّن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى؛ قصداً بذلك لمعنى الترشيح.

ثمّ قدّم أمر الأرض على أمر السماء وابتدأ به لابتداء الطوفان منها ونزولها لذلك في القصّة منزلة الأصل، والأصل بالتقديم أَولى.

ثم أتبعهما قوله (وغيض الماء) لاتّصاله بقصّة الماء وأخذه بحجزتها، أَلا ترى أصل الكلام (قيل يا أرض ابلعي ماءك - فبلعت ماءها - ويا سماء أقلعي - عن إرسال الماء فأقلعت عن إرساله - وغيض الماء - النازل من السماء فغاض -).

ثمّ أتبعه ما هو المقصود من القصّة، وهو قوله (وقضي الأمر) أي أُنجز

٢٢٩

الموعود من إهلاك الكفرة، وإنجاء نوح ومَن معه في السفينة، ثمّ أتبعه حديث السفينة، وهو قوله (واستوت على الجودي)، ثمّ ختمت القصّة بما ختمت.

هذا كلّه نظر في الآية من جانبَي البلاغة.

* * *

3 - وأمّا النظر فيها من جانب (الفصاحة المعنوية) فهي - كما ترى - نظم للمعاني لطيف، وتأدية لها ملخّصة مبيّنة، لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد، ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد، بل إذا جرّبت نفسك عن استماعها وجدت ألفاظها تسابق معانيها، ومعانيها تسابق ألفاظها، فما من لفظة في تركيب الآية ونظمها تسبق إلى إذنك إلاّ ومعناه أسبق إلى قلبك.

* * *

4 - وأمّا النظر فيها من جانب (الفصاحة اللفظية) فألفاظها - على ما ترى - عربية مستعملة، جارية على قوانين اللغة، سليمة عن التنافر، بعيدة عن البشاعة، عذبة على العذبات، سَلسلة على السَّلِسات، كل منها كالماء في السلاسة، وكالعسل في الحلاوة، وكالنسيم في الرقّة.

* * *

قال: ولله درّ شأن التنزيل، لا يتأمل العالم آية من آياته إلاّ أدرك لطائف لا تسع الحصر، ولا تظنّن الآية مقصورة على ما ذكرتْ، فلعلّ ما تركتْ أكثر ممّا ذكرتْ؛ لأنّ المقصود لم يكن إلاّ مجرّد الإرشاد لكيفية اجتناء ثمرات علمَي (المعاني والبيان) وأن لا علم في باب التفسير - بعد علم الأصول - أقرأ منهما على المرء لمراد الله تعالى من كلامه، ولا أعون على تعاطي تأويل مشتبهاته، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه، هو الذي يوفي كلام ربّ العزّة من البلاغة حقّه، ويصون له في مظانّ التأويل ماءه ورونقه (1) .

____________________

(1) مفتاح العلوم: ص 196 - 199.

٢٣٠

نكت وظرف فيما تكرّر من آيات الذكر الحكيم

غير خفيّ أنّ ما يذكره تعالى حكاية عن أُمم سالفين إنما هو نقل بالمعنى، ولا سيّما فيما يحكيه من أقوالهم ومحاججاتهم، حيث كانت بلغة غير عربية وناقل المعنى في سعة من اللفظ حيث يشاء وحيث يتناسب مع مقصوده من الكلام، ينقله تارةً طوراً وأخرى طوراً آخر، وقد ينقل بعضه ويترك البعض، حسب ما يراه من مناسبة المقام، ومِن ثَمّ فهو في فسحة من النقل والحكاية.

قال الاسكافي: إنّ ما أخبر الله به من قصّة موسى وبني إسرائيل وسائر الأنبياء لم يقصد به حكاية الألفاظ بأعيانها، وإنّما قصد اقتصاص معانيها، وكيف لا يكون كذلك واللغة التي خوطبوا بها غير العربية، فحكاية اللفظ إذاً زائلة، وتبقى حكاية المعنى، ومَن قصد حكاية المعنى كان مخيّراً بأيّ لفظ أراد، وكيف شاء مِن تقديم وتأخير بحرف لا يدلّ على الترتيب كالواو. وعلى هذا يقاس نظائره في القرآن (1) .

* * *

وللكرماني (2) تصنيف لطيف في بيان ما لكل موضع من الآيات المكرّرة نكتة ظريفة، استقصى فيها جميع ما في القرآن من التكرار، قال - في مقدّمته -: هذا كتاب أذكر فيه الآيات المتشابهات (المتماثلات) التي تكرّرت في القرآن وألفاظها متّفقة، ولكن وقع في بعضها زيادة أو نقصان أو تقدم أو تأخير أو إبدال حرف مكان حرف أو غير ذلك ممّا يوجب اختلافاً بينها... وأُبيّن السبب في تكرارها والفائدة في إعادتها، والحكمة في تخصيص آية بشيء دون أُخرى....

____________________

(1) درة التنزيل: ص17، هامش أسرار التكرار: ص28.

(2) هو العلاّمة الأديب محمود بن حمزة بن نصر الكرماني. قال ياقوت: كان حدود سنة خمسمِئة وتوفي بعدها.

٢٣١

نقتطف من أزهاره ما يلي:

1 - قوله تعالى في سورة البقرة: ( يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً ) (1) بالواو، وفي سورة الأعراف: ( فكلا ) (2) بالفاء.

لأنّ (اسكن) في سورة البقرة يراد به الإقامة بالمكان، وذلك يستدعي زماناً ممتداً، فلم يصلح إلاّ بالواو؛ لأنّ المعنى: اجمع بين الإقامة فيها والأكل من ثمارها، ولو كانت بالفاء لوجب تأخير الأكل إلى الفراغ من الإقامة؛ لأنّ الفاء للترتيب والتعقيب.

والذي في سورة الأعراف بمعنى اتخاذ السكنى؛ لأنّه يقابل خطاب إبليس بالأمر بالخروج ( قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا ) (3) ، فكان خطاب آدم ( اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ) بمعنى اتخاذها مسكناً، واتخاذ السكنى الآنيّ لا يستدعي زماناً ممتداً، فكان الفاء أَولى، أي كلا منها عقيب اتخاذها مسكناً، ولا يمكن الجمع بين الاتخاذ والأكل، بل يقع الأكل عقيب الاتخاذ (4) .

2 - ونظير ذلك أيضاً قوله في سورة البقرة ( وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ ) (5) بالفاء، وفي سورة الأعراف: ( وَإِذْ قِيلَ لَهُمْ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ ) (6) بالواو؛ لأنّ الأكل لا يكون إلاّ بعد الدخول، ولكنه يجتمع مع السكون بمعنى الإقامة في المسكن (7) .

3 - وزيد (رغداً) في البقرة (35 و58)، ولم يرد في الأعراف (19و161)؛ لأنّ الآيتين في البقرة بدئتا بقوله: (قلنا) فناسب التعظيم زيادة تشريف وتكريم؛ ومِن ثَمّ كان زيادة (رغداً).

____________________

(1) البقرة: 35.

(2) الأعراف: 19.

(3) الأعراف: 18.

(4) أسرار التكرار: ص25 - 26 رقم 11.

(5) البقرة: 58.

(6) الأعراف: 161.

(7) أسرار التكرار: ص28 رقم 17.

٢٣٢

أمّا في الأعراف فبُدئت الآية (19) بقوله: (قال) مفرداً، والآية (161) بقوله: (وإذ قيل) من غير تشريف.

4 - وجاء في سورة الأنعام ( نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) (1) ، وفي سورة الإسراء ( نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ) (2) ؛ لأنّ في الأنعام: (من إملاق) بكم، وفي الإسراء: (خشية إملاق) يقع بهم (3) .

أي كان قتل الأولاد في سورة الأنعام مستنداً إلى فقر ومسكنة كان قد أقدع بهم فعلاً، أمّا في سورة الإسراء فكان مستنداً إلى خوف المجاعة والفقر قد يعرضهم بسبب الأولاد.

5 - وجاء في سورة التوبة - خطاباً مع المنافقين -: ( وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ ) (4) ، ثمّ في آية أُخرى - خطاباً مع المؤمنين ممّن خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً -: ( فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ... ) (5) .

لأنّ المنافقين لا يطّلع على ضمائرهم إلاّ الله وما أخبر به رسوله، كما في قوله: ( قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ) (6) .

أمّا المؤمنون فطاعاتهم وأعمالهم ظاهرة مكشوفة يراها سائر المؤمنين أيضاً.

وجاء بشأن المنافقين ( ثُمَّ تُرَدُّونَ ) ، وبشأن المؤمنين ( وَسَتُرَدُّونَ ) ؛ لأنّ الأُولى وعيد، فهو عطف على الأًوّل، وأمّا الثانية فهو وعد، فبناه على ( فَسَيَرَى اللَّهُ ) (7) .

6 - قوله تعالى في سورة الكهف: ( سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاّ مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ

____________________

(1) الأنعام: 151.

(2) الإسراء: 31.

(3) أسرار التكرار: ص75 رقم 115.

(4) التوبة: 94.

(5) التوبة: 105.

(6) التوبة: 94.

(7) أسرار التكرار: ص100 رقم 178.

٢٣٣

أَحَداً ) (1) .

قالوا: لِمَ زيدت الواو في (وثامنهم)؟

قال بعض النحويّين: السبعة نهاية العدد، ولهذا كثُر ذِكرها في القرآن والأخبار، والثمانية تجري مجرى استئناف كلام، ومِن هنا لقّبه جماعة من المفسّرين بواو الثمانية.

واستدلّوا بقوله تعالى: ( التّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (2) ، فقد جيء بالواو عندما زيدت الأوصاف على السبعة.

وبقوله تعالى: ( مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحاتٍ ثَيّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ) (3) ، فلمّا بلغ الثامن جيء بالواو.

وبقوله تعالى: ( وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ) (4) ؛ لأنّ أبواب الجنة ثمانية (5) .

وهذا الوجه لم يرتضِه المصنّف؛ ومِن ثَمّ ردّ عليه بقوله: ولكل واحد من هذه الآيات وجوه ذكرتها في موضعها.

أمّا الآية في سورة التوبة فلم يذكر لها شيئاً.

والآية في سورة التحريم قال فيها: ثُمّ ختم بالواو، فقال ( وَأَبْكَاراً ) ؛ لأنّه استحال العطف على ثيّبات فعطفها على أَول الكلام، ويحسن الوقف على ( ثَيّبَاتٍ ) ؛ لمّا استحال عطف ( َأَبْكَاراً ) عليها، وقول مَن قال: إنّها واو الثمانية بعيد (6) .

وذكر في آية الزمر أنّها واو الحال (7) ، أي وقد فُتحت بتقديره (قد).

وفي قوله تعالى من سورة القلم ( وَلاَ تُطِعْ كُلّ حَلاّفٍ مَهِينٍ * هَمّازٍ مَشّاءٍ

____________________

(1) الكهف: 22.

(2) التوبة: 112.

(3) التحريم: 5.

(4) الزمر: 73.

(5) أسرار التكرار: ص132 رقم 283.

(6) أسرار التكرار: ص206 رقم 526.

(7) المصدر: ص186 رقم 445.

٢٣٤

بِنَمِيمٍ * مَنّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ ) (1) قال: أوصاف تسعة، ولم يُدخل بينها واو العطف ولا بعد السابع، فدلّ على ضعف القول بواو الثمانية (2) .

قلت: هذا على تقدير أن يكون (حلاّف) وصفاً أَوّلاً، في حين أنّه الموصوف، والأوصاف إنما تَبتدئ من (مهين).

وعليه فالأوصاف ثمانية وقد فُصل بين الثامن وما قبله بقوله (بعد ذلك) الذي هو بمنزلة الواو هنا.

7 - قوله في سورة الكهف: ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ) (3) ، وفي آية أُخرى ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً ) (4) .

لأنّ الإمر هو الأمر العَجَب، والعجب كل أمر خالف المألوف سواء أكان خيراً أم شراً.

وأمّا النُكر فهو الأمر المُنكر الذي يستقبحه العقل.

والآية الأُولى جاءت بشأن خرق السفينة، بما لا يستلزم غرقها وإهلاك أهلها... فلعلّ في ذلك سرّاً وحكمة، لكنه خلاف المألوف، فأثار العجب.

والآية الثانية جاءت بشأن قتل الغلام، وهو طفل لا يعقل شيئاً ولم يرتكب إثماً، فهو بظاهره قتل نفس محترمة، وهو الأمر المنكر الذي يستقبحه العقل (5) .

8 - قوله: ( أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ ) (6) ، لكنه بعد ذلك قال: ( أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ ) (7) زيادةً في الإنكار عليه بزيادة توجيه الخطاب والعتاب إليه.

9 - قوله: ( فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ) (8) - أَولاً -

وقوله: ( فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ ) (9) - ثانياً -

____________________

(1) القلم: 10 - 13.

(2) أسرار التكرار: ص207 رقم 530.

(3) الكهف: 71.

(4) الكهف: 74.

(5) أسرار التكرار: ص134 رقم 287.

(6) الكهف: 72.

(7) الكهف: 75.

(8) الكهف: 79.

(9) الكهف: 81.

٢٣٥

وقوله: ( فَأَرَادَ رَبّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا ) (1) - ثالثاً -

ففي الأَول نسب ما ظاهره الإفساد إلى نفسه؛ تنزيهاً لمقام قدسه تعالى عن نسبة الإفساد إليه.

وفي الثاني خليط من الإفساد والإنعام؛ ومِن ثَمّ نسبه إلى نفسه مع غيره وهو الله تعالى.

لكن الثالث كان محص إنعام؛ ومِن ثَمّ نسبه إلى الله خالصاً.

كل ذلك من أدب الكلام، فتفهّم (2) .

10 - قوله تعالى في سورة الرحمن: (3) .

كُرّر لفظ الميزان ثلاث مرات مع قرب الفاصلة، وكان حقه حسب الظاهر الإضمار بعد ذكره أَوّلاً.

قيل: لأنّه في كل موضع بمعنى غير معناه الآخر، فوجب الإظهار؛ ليكون كل واحد مستقلاً بالإفادة، وإلاّ لاحتاج إلى الاستخدام.

فالميزان الأَوّل هو النظام الكوني الحاكم على كل موجودات العام، والثاني هو نظام الشريعة الحاكم على أفعال العباد وتصرّفاتهم، والثالث هي آلة الوزن المعروفة (4) .

11 - قوله تعالى: ( فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) كُرّرت إحدى وثلاثين مرّة:

ثمانية منها ذُكرت عقيب آيات فيها تعداد عجائب الخلق وبدائع الصنع، والمبدأ والمعاد.

وسبعة منها عقيب آيات العقاب والنار وشدائد نقمته تعالى.

ثُمّ ثمانية منها عقيب وصف الجنّات ونعيمها.

____________________

(1) الكهف: 82.

(2) أسرار التكرار: ص134 رقم 289.

(3) الرحمن: 7 - 9.

(4) أسرار التكرار: ص198.

٢٣٦

وثمانية أخرى بعدها للجنتين وما حوتا عليه من نِعَم كبار (1) ، رزقنا الله التنعّم بنعمها الجسام العظام.

أما التذكير بالآلاء عقيب ذكر العقاب والنار فلأنّه أيضاً من النعم التي أنعم الله بها على الإنسان؛ لأنّ تكوين الشخصية المعتدلة ذو عاملين أساسيين، عامل الخوف وعامل الرجاء، فكما أنّ الوعد يُؤثّر في تربية النفس ترغيباً في الثواب، كذلك الوعيد مؤثّر في التربية ترهيباً عن العقاب، فكلاهما من الآلاء والنعم الإلهية لهذا الإنسان في سيبل تربيته.

قال الطبرسي: فأمّا الوجه لتكرار هذه الآية في هذه السورة فإنّما هو التقرير بالنعم المعدودة والتأكيد في التذكير بها كلّها. فكلّما ذَكر سبحانه نعمةً أنعم بها قرّر عليها ووبّخ على التكذيب بها، كما يقول الرجل لغيره: أَما أحسنت إليك حين أطلقت لك مالاً؟ أَما أحسنت إليك حين ملّكتك عقاراً؟ أَما أحسنت إليك حين بنيت لك داراً؟... فيحسن فيه التكرار؛ لاختلاف ما يقرّره.

قال: ومثله كثير في كلام العرب وأشعارهم، ثُمّ جعل ينشد أبياتاً قالها مهلهل بن ربيعة (2) يرثي أخاه كليباً، وقصيدة ليلى الأخيليّة ترثي توبة بن الحمير، وأبياتاً للحارث بن عبّاد، قال: وفي أمثال هذا كثرة.

قال: وهذا هو الجواب بعينه بشأن التكرار في سورة المرسلات، قوله تعالى: ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) ... عشر مرّات (3) .

12 - قوله: ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) مكرّر عشر مرّات في سورة المرسلات.

إذ من عادة العرب التكرار والإطناب، كما في عادتهم الاقتصار والإيجاز؛ ولأنّ بسط الكلام في الترغيب والترهيب أدعى إلى إدراك البغية من الإيجاز (4) .

____________________

(1) أسرار التكرار: ص198.

(2) هو خال امرؤ القيس، قيل: هو أَول من قصّد القصائد.

(3) راجع مجمع البيان: ج9 ص199.

(4) أسرار التكرار: ص213.

٢٣٧

13 - التكرار في سورة (الكافرون) (1) .

قيل: هذا التكرار اختصار في الكلام وهو إعجاز؛ لأنّ الله نفى عن نبيّه عبادة الأصنام فيما مضى والحال وفيما يأتي. ونفى عن الكفّار - وهم رهط من قريش مخصوصون؛ لأنّ اللام للعهد الخارجي - عبادة الله في الأزمنة الثلاثة أيضاً، فكان من حقّ الكلام أن يأتي بست فقرات تدلّ على هذه الأُمور الستة، لكنّه اختصر في العبارة المذكورة الموجزة.

قوله تعالى: ( لا أَعبدُ ما تعبدونَ ) نُفي في الحال وما يأتي، أي لا أعبد اليوم ولا بعد اليوم ما تعبدون اليوم.

( ولا أَنتُم عابدونَ ما أعبدُ ) كذلك... أي لا تعبدون اليوم ولا بعد اليوم ما أعبد اليوم.

( ولا أَنا عابدٌ ما عبدتُم ) نُفي في الماضي وتعليل لِما تقدّمه؛ لأنّ اسم الفاعل يصلح للأزمنة الثلاثة، أي لم أعبد ما عبدتم قبل اليوم، فكيف ترجون عبادتي اليوم لما عبدتم وتعبدونه؟!

( ولا أَنتم عابدونَ ما أَعبدُ ) أي ولا أنتم عبدتم ما أعبد اليوم.

وبذلك افترق المعنى في الآية، تلك للنفي في الحال والآتي، وهذه للنفي في الماضي (2) .

* * *

وقال الفرّاء - في وجه التكرار -: إنّ القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب كلامهم ومحاوراتهم، ومن عادتهم تكرير الكلام؛ للتأكيد والإفهام، فيقول المجيب: بلى، بلى. ويقول الممتنع: لا، لا.

قال: ومثله قوله تعالى: ( كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) (3) .

____________________

(1) أسرار التكرار: ص226.

(2) راجع الكشّاف للزمخشري.

(3) التكاثر: 3 و4.

٢٣٨

وأنشد:

وكائنٌ وكم عندي لهُم مِن صنيعةٍ

أيادي ثنّوها عليَّ وأَوجبوا

وأيضاً:

كَم نعمْ كانتْ لكم

كَمْ كَمْ وكَمْ

وقال آخر:

نَعَق الغرابُ ببين ليلى غدوةً

كمْ كمْ وكم بفراقِ ليلٍ يَنعقُ

وأيضاً:

هلاّ سألتَ جُموعَ كِندَةَ

يومَ وَلّوا أَينَ أَينا

وقوله:

أردتُ لنفسي بعضَ الأُمورِ

فأَولى لنفسي أَولى لها

قال: وهذا أَولى المواضع بالتأكيد؛ لأنّ الكافرين أَبدأوا في ذلك وأعادوا.

فكرّر سبحانه؛ ليؤكّد إياسهم وحسم أطماعهم بالتكرير (1) .

هل في القرآن لفظة غريبة؟

قال قوم: إنّا إذا تَلونا القرآن وتأمّلناه وجدنا معظم كلامه مبنيّاً ومؤلّفاً من ألفاظ قريبة ودارجة في مخاطبات العرب ومستعملة في محاوراتهم، وحظّ الغريب المشكل منه بالإضافة إلى الكثير من واضحه قليل، وعدد الفِقَر والغُرَر من ألفاظه بالقياس إلى مباذله ومراسيله عدد يسير، الأمر الذي لا يشبه شيئاً من كلام البلغاء الأقحاح من خطباء مصاقع وشعراء مفلّقينَ، كان ملء كلامهم الدرر والغرر والغريب والشارد.

لكن الغرابة على وجهين - كما ذكره أبو سليمان حمد بن محمّد الخطابي في كتابه (معالم السنن) قال: الغريب من الكلام إنّما هو الغامض البعيد من الفهم، كما

____________________

(1) مجمع البيان: ج10 ص552.

٢٣٩

أنّ الغريب من الناس إنّما هو البعيد عن الوطن المنقطع عن الأهل، والغريب من الكلام يقال به على وجهين:

أحدهما: أن يراد به أنّه بعيد المعنى غامضه لا يتناوله الفهم إلاّ عن بُعد ومعاناة فكر.

والوجه الآخر: أن يراد به كلام مَن بعدت به الدار مِن شواذّ قبائل العرب، فإذا وقعت إلينا الكلمة من لغاتهم استغربنا (1) .

والغريب في القرآن إنّما هو من النوع الثاني؛ ومِن ثَمّ لم يخلّ بفصاحته، والقرآن لم يستعمل إلاّ ما تعارف استعماله عند العرب وتداولوه فيما بينهم، ولكن في طبقة أعلى وأرفع من حدّ الابتذال العامي، فلا استعمل الوحشي الغريب ولا العامي السخيف المرتذل (2) ، على حدّ تعبير عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة (3) .

قال التفتازاني: والغرابة كون الكلمة وحشية، غير ظاهرة المعنى، ولا مأنوسة الاستعمال، فمنه ما يحتاج في معرفته إلى أن ينقر ويبحث عنه في كتب اللغة المبسوطة، كتَكَأكَأتم وافرنقعوا في قول عيسى بن عمر النحوي، هاجت به مِرّةٌ وسقط من حماره فوثب إليه قوم يعصرون إبهامه ويؤذّنون في أُذنه، فأفلت من أيديهم وقال:

____________________

(1) هامش غريب القرآن للطريحي، المقدمة: هـ.

(2) كقول العامة: ايش، بمعنى أي شيء. وانفسد بمعنى فسد.

(3) قال الجرجاني: وربما استُسخف اللفظ بأمر يرجع إلى المعنى دون مجرد اللفظ، كما يُحكى من قول عبيد الله بن زياد لمّا دُهش: (افتحوا لي سيفي)! وذلك أنّ الفتح خلاف الإغلاق، فحقّه أن يتناول شيئاً هو في حكم المغلق المسدود، وليس السيف بمسدود، وأقصى أحواله أن يكون في الغمد بمنزلة الثوب في العِكم (كالعِدل: نمط تجعل المرأة فيه ذخيرتها، وبمعنى الجُوالِق) والدرهم في الكيس والمتاع في الصندوق، والفتح في هذا الجنس يتعدى أبداً إلى الوعاء المسدود على الشيء الحاوي له، لا إلى ما فيه، فلا يقال: افتح الثوب (أسرار البلاغة: ص 3 - 4).

٢٤٠